البناية شرح الهداية

باب المواقيت
أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب المواقيت]
م: (باب المواقيت) ش: أي: هذا باب في بيان مواقيت الصلاة؛ فإعرابه مثل إعراب كتاب الصلاة، والمواقيت جمع ميقات والميقات ما وقت به أي حدد من زمان، كمواقيت الصلاة، أو مكان كمواقيت الإحرام، ويقال: المواقيت جمع وقت على غير القياس، يقال: وقت الشيء بوقته ووقته: إذا بين حده.
والتوقيت والتأقيت: أن يجعل للشيء وقت يختص به وهو بيان مقدار المدة، وأصل ميقات موقاة، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. قال الجوهري: الميقات الوقت المضروب للمصلي والموضع أيضا، يقال هذا ميقات أهل الشام. للموضع الذي يحرمون منه.
ولما كانت الصلوات قسمين، الأول: لازمة كالخمس والجمعة والعيدين، والثاني عارضة كصلاة الجنازة والكسوف والاستسقاء ونحوها، واللازمة يلزم بأوقاتها، ووقت بعضها يتكرر في السنة مرة، وبعضها في الجمعة مرة وبعضها في كل يوم خمسا، كان معرفة الأوقات أهم معالم الصلوات. ولأن التوقيت سبب، والسبب يقدم على المسبب؛ فلذلك بدأ المصنف بباب المواقيت، وله جهتان: جهة أنه وجه الشرط لأنه سبب للوجوب، وشرط للأداء فلذلك استحق التقديم.

[وقت صلاة الفجر]
[أول وقت الفجر]
م: (أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني) ش: قدم بيان وقت الفجر وكان الواجب أن يبتدئ وقت الظهر، لأنها أول صلاة أمه فيها جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولكن وقت الفجر وقت متفق في أوله وآخره، ولأنه صلاة وجبت بعد النوم، والنوم أخو الموت فكان إيراده بأول وقت يخاطب المرء بأدائها إذ الخطاب على اليقظان لا على النائم، ولأن صلاة الفجر أول من صلاها آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين أهبط من الجنة كما ذكرنا عن قريب.
فإن قلت: كيف قلت وقت الفجر وقت اختلف في أوله وآخره، وقد قال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية: إذا أسفر يخرج الوقت وتكون الصلاة بعد طلوع الشمس قضاء؟.
قلت: هذا القول خارق للإجماع فلا يلتفت إليه. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على من يصلي الصبح قبل طلوع الشمس أنه يصليها في وقتها، ولأن صلاة الفجر أول الخمس في الوجوب، إذ لم يختلفوا في أن الصلوات الخمس فرضت في ليلة الإسراء، فالفجر صبيحة ليلة وجوبها، وذلك لما روى أنس بن مالك قال: « [فرضت] على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلوات ليلة الإسراء، خمسين صلاة ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نودي يا محمد إنه لا يبدل القول لدي وإن لك بهذه الخمس خمسين» . رواه النسائي وأحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

(2/8)


وهو البياض المعترض في الأفق وآخر وقتها ما لم تطلع الشمس؛ لحديث إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإنه أم رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيها في اليوم الأول حين طلع الفجر وفي اليوم الثاني حين أسفر جدا وكادت الشمس تطلع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[آخر وقت صلاة الفجر]
وقال السروجي: والشافعية بدءوا بصلاة الظهر لإمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثم قال: ولنا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بدأ بالفجر للسائل بالمدينة، وهو متأخر عن الأول الذي هو فعل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وناسخ لبعضه فلهذا استحسنوا ترتيبه.
قلت: بدأ محمد في أصل " الجامع الصغير " بصلاة الظهر. وقال الأترازي: لأن أول صلاة الفجر فالمضاف محذوف.
قوله: إذا طلع الفجر الثاني أي الصادق. وفي " الجمهرة ": اختلف المشايخ في أن العبرة لأول طلوعه أو لاستطارته وانتشاره.
م: (وهو) ش: أي الفجر الثاني م: (البياض المعترض في الأفق) ش: أي في أفق السماء وهو طرفه وناحيته. قال الجوهري: الآفاق النواحي. الواحد أفق وأفق مثل عشر وعشر، قال الأكمل: احترز به عن الفجر الكاذب، وفسره أيضا على ما يأتي عن قريب، ومقصوده هاهنا بيان الفجر الثاني، وهو الفجر الصادق الذي يدخل به وقت صلاة الصبح، وهو الفجر المعترض أي المنتشر في الأفق عرضا لا يزال يزداد، وسمي الصادق به لأنه صدق عن الصبح.
م: (وآخر وقتها) ش: أي آخر وقت صلاة الفجر م: (ما لم تطلع الشمس) ش: المراد به جزء قبل طلوع الشمس. وفي " البداية " في قوله ما لم تطلع الشمس إطلاق اسم الكل على البعض لأن قوله ما لم تطلع للشمس يتناول من أول الوقت إلى ما قبل طلوع الشمس، والمراد به الجزء كما ذكرنا.
م: (لحديث إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإنه أم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها في اليوم الأول حين طلع الفجر، وفي اليوم الثاني حين أسفر جدا، وكادت الشمس تطلع) ش: حديث إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - منهم ابن عباس، [وأبو] مسعود، وأبو هريرة، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وابن عمر، وبريدة، وأبو موسى الأشعري، والبراء بن عازب.
أما حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه أبو داود، والترمذي عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند البيت مرتين فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية

(2/9)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إلى جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين» . قال الترمذيِ: حديث حسن. ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وأبو بكر بن خزيمة في " صحيحه ".
فإن قلت: في إسناده عبد الرحمن بن الحارث تكلم فيه أحمد وقال: متروك الحديث، ولينه النسائي، وابن معين، وأبو حاتم الرازي.
قلت: هذا الحديث هو العمدة في هذا الباب، ومثل هؤلاء الأئمة صححوه، وعبد الرحمن بن الحارث وثقه ابن سعد وابن حبان. وقال ابن عبد البر في " التمهيد ": وقد تكلم بعض الناس في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم مشهورون بالعلم، وأخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث بإسناده عن العمري عن عمر بن نافع بن حبيب بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه.
وأما حديث جابر فرواه الترمذي والنسائي عنه واللفظ له: «جاء جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين مالت الشمس فقال: " قم يا محمد فصل الظهر حين مالت الشمس، ثم مكث حتى إذا كان فيء الرجل مثله جاءه للعصر فقال: قم يا محمد فصل العصر، ثم مكث حتى إذا غابت الشفق جاءه فقال: قم فصل المغرب فقام فصلاها، حين غابت الشمس، ثم مكث حتى إذا غاب الشفق جاءه فقال: قم فصل العشاء فقام فصلاها ثم جاءه حين سطع الفجر بالصبح فقال: قم يا محمد فصل فقام فصلى الصبح، ثم جاءه من الغد حين كان فيء الرجل مثله، فقال: قم يا محمد فصل الظهر، ثم جاءه حين كان فيء الرجل مثليه فقال: قم يا محمد فصل العصر، ثم جاءه المغرب حين غابت الشمس وقتا واحدا لم يزل عنه فقال: قم يا محمد فصل المغرب، ثم جاءه للعشاء حين ذهب ثلث الليل الأول، فقال: قم يا محمد فصل العشاء، ثم جاءه الصبح حين أسفر جدا فقال: قم يا محمد فصل فصلى الصبح، ثم قال ما بين هذين وقت كله» .
قال الترمذي: قال محمد يعني البخاري: حديث جابر أصح شيء في المواقيت، ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه لعله حديث الحسين الأصغر، وهو من جملة رواته، وثقه النسائي وابن حبان. رواه أحمد وإسحاق بن راهويه.
فإن قلت: قال ابن القطان في " كتابه ": هذا الحديث يجب أن يكون مرسلا، لأن جابرا لم يذكر من حدثه بذلك، وجابر لم يشاهد ذلك، صحة الأمر لما علم أنه أنصاري، وإنما صحت

(2/10)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالمدينة، ولا يلزم بذلك من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي هريرة، فإنهما رويا إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: هذا إرسال غير ضار، فمن ثم يبعد أن يكون جابر سمعه من تابعي غير صحابي. وقد اشتهر أن مراسيل الصحابة مقبولة والجهالة غير ضارة.
وأما حديث أبي مسعود فرواه ابن راهويه مطولا في " مسنده "، ورواه [البيهقي] في " سننه "، ثم قال: إنه منقطع، لم يسمع أبو بكر من أبي مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإنما هو بلاغ.
قلت: أبو بكر هو ابن عمرو بن حزم، وأبو مسعود اسمه عقبة بن عمرو الأنصاري. وحديث أبي مسعود هذا في " الصحيحين " إلا أنه غير مفسر، ولفظهما عن أبي مسعود الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «نزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأمني فصليت معه، ثم جاء مرة أخرى فأمني فصليت معه ويحسب بأصابعه خمس صلوات ثم قال: بهذا أمرت» . وليس في " الصحيحين " غير ذلك.
وأما حديث أبي هريرة فعند البزار والنسائي والحاكم في " مستدركه "
وأما حديث عمرو بن حزم فعند عبد الرزاق في " مصنفه "، وعنه رواه إسحاق بن راهويه في " مسنده ".
وأما حديث أبي سعيد الخدري فعند أحمد في " مسنده " والطحاوي في " شرح الآثار ".
وأما حديث أنس فعند الدارقطني في " سننه "، وقال ابن القطان: في إسناده محمد بن سعيد وهو مجهول، والراوي عنه أبو حمزة إدريس بن يونس بن يناق الفراء ولا يعرف حاله.
وأما حديث ابن عمر فعند الدارقطني أيضا، ورواه ابن حبان في كتاب " الضعفاء "، وأعله بمحبوب بن الجهم أحد رواته.
وأما حديث بريدة فعند مسلم أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن وقت الصلاة أخرجه مطولا.
وأما حديث أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعند مسلم، إلا أن فيه أنه أخر المغرب في اليوم الثاني وأن ذلك كان في صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة، ثم الكلام في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقوله: «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند البيت» أراد به الكعبة شرفها الله تعالى. واعترض النووي على الغزالي في قوله هذا الخبر عند باب البيت، وقال: المعروف عند البيت وليس له وجه، لأن الشافعي هكذا رواه فقال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة بن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن الحارث، وفيه: «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند باب البيت» . وهكذا رواه البيهقي والطحاوي أيضا في " شرح الآثار ": «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مرتين عند باب البيت» .
1 -

(2/11)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: حين زالت الشمس، ورد أن انحطاطها عن كبد السماء يسير. قوله: قدر الشراك، هو أحد سواري النعل التي تكون على وجهها، وقدره هاهنا ليس على معنى التحديد، ولكن زوال الشمس لا يتبين إلا بأقل ما يرى من الظل، وكان حينئذ يمكن تحديد هذا القدر، والظل يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، وإنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلاد التي ينتقل فيها الظل، فإذا كان أطول النهار، واستوت الشمس فوق الكعبة لم ير شيء من جوانبها، وظل كل بلد يكون أقرب إلى خط الاستواء، وعدل النهار يكون الظل فيه أقصر، وكل ما بعد عنها إلى جهة الشمال يكون الظل فيه أطول.
قوله: حين كان ظله مثله، وفي بعض الرواية حين صار كل شيء مثله. قوله: حين غاب الشفق، وهو البياض عند أبي حنيفة على ما يأتي. قوله: حين حرم الطعام والشراب على الصائم، وهو أول طلوع الفجر الثاني الصادق.
قوله: حين كان ظله مثليه، وهو آخر وقت الظهر عند أبي حنيفة على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، يعني حين غابت الشمس، والإجماع على أن وقت المغرب غروب الشمس.
واختلفوا في آخر وقتها فقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والأوزاعي والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لا وقت للمغرب إلا وقت واحد. وعن الشافعي: ووقت المغرب بقدر وقوع فعلها فيه مع شروطها حتى لو بقي ما يسع فيه ذلك فقد انقضى الوقت. وعند أبي حنيفة وأصحابه: وقت المغرب من غروب الشمس إلى غروب الشفق، وبه قال أحمد والثوري وإسحاق بن راهويه وهو قول الشافعي في القديم، وقال الثوري: هو الصحيح واختاره النووي والخطابي والبيهقي والغزالي. وعن مالك ثلاث روايات أحدها: كقولنا. والثانية: كقول الشافعي في الجديد. والثالثة: تبقى إلى طلوع الفجر، وهو قول عطاء وطاوس.
وقوله: وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، يجوز أن يكون إلى هاهنا بمعنى في، أي صلى في ثلث الليل ومنه قَوْله تَعَالَى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87] (النساء: الآية 87) أي في يوم القيامة، وهذا وقت الاستحباب، أما وقت الجواز ما لم يطلع الفجر. وقال الشافعي ومالك وأحمد: هو وقت الفجر.

وأما آخره عند أصحابنا ما لم يطلع الفجر. وقال الشافعي: إلى الإنقاء لأصحاب الرفاهية ولمن لا عذر له. وقال: ومن صلى ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس لم يفته الصبح، وهذا في أصحاب الأعذار والضرورات. وقال مالك وأحمد وإسحاق: من صلى ركعة من الصبح

(2/12)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وطلعت الشمس أضاف إليها أخرى وقد أدرك الصبح.
قوله: هذا وقت الأنبياء قبلك، هذا يدل على أن الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كانوا يصلون في هذه الأوقات، ولكن لا يلزم أن يكون قد صلى كل منهم في جميع هذه الأوقات. والمعنى أن صلاتهم كانت في هذه الأوقات [....
.....] ، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذه المواقيت إلا لهذه الأمة خاصة، وإن كان غيرهم قدره لهم في بعضها. ألا ترى أن ما روى أبو داود في القسمة وفيه: «اغتنموا بهذه الصلاة فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم» .
قوله: والوقت مبتدأ.
وقوله: ما بين هذين الوقتين إشارة إلى وقت اليوم الأول والثاني الذي أم فيها جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فإن قلت: هذا يقتضي أن لا يكون الأول والآخر وقتا لها.
قلت: لما صلى في أول الوقت وآخره وجد البيان منه فعلا وبقي الاحتياج إلى ما بين الأول والآخر فتبين ما يقول. وجواب آخر أن هذا بيان للوقت المستحب إذ الأداء في أول الوقت ما يتعين على الناس، ويؤدي أيضا إلى تقليل الجماعة، وفي التأخير إلى آخر الوقت خشية الفوات، فكان المستحب ما بينهما مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خير الأمور أوساطها» ، ثم إن الشافعية استدلوا بإمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على صحة إمامة المفترض بالمنتفل، وقالوا: إن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان متنفلا معلما والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفترض.
قلنا: هذه دعوى فمن أين لهم أنه كان متنفلا أو مفترضا؟ أما كونه معلما فبين: قالوا: لا تكليف على ملك في هذه الشريعة، وإنما هو على الجن والإنس.
قلنا: هذا لا يعلم عقلا وإنما علم بالشرع، وجبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مأمور بالإمامة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يؤمر غيره من الملائكة ملك، فلما خص بالإمامة جاز أن يخص بالفرضية، وروي في حديث أبي مسعود في " الصحيحين " الذي مضى ذكره، بهذا أمرت بضم التاء وفتحها، أما الفتح فظاهر، وأما الضم فيدل على أن جبريل كان مأمورا ولكن لم يعلم كيفية أمر الله تعالى له، هل قال له بلغ قولا أو فعلا أو كيف شئت، ولا يقال أمره أن يبلغه قولا ويبلغ فعلا لأنه يكون مخالفا غير ممتثل.
فإن قلت: لا شك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مقتديا بجبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والناس صلوا سواء.
قلت: في حديث عمرو بن حزم قال: جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فصلى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى النبي

(2/13)


ثم قال في آخر الحديث: «ما بين هذين الوقتين وقت لك ولأمتك» .
ولا معتبر بالفجر الكاذب، وهو البياض الذي يبدو طولا ثم يعقبه الظلام؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يغرنكم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، وإنما الفجر المستطير في الأفق» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناس الحديث.
م: (ثم قال في آخر الحديث) ش: أي قال جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أخر حديث إمامته.
م: (" ما بين هذين الوقتين وقت لك ولأمتك ") ش: أشار بهذين إلى الوقتين اللذين صلى فيهما جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الأول واليوم الثاني، وقد مر أن هذا الحديث أخرجه جماعة من الصاحبة، وليس في حديث واحد منهم هذا اللفظ بهذه العبارة، فعبارة حديث ابن عباس: «والوقت فيما بين هذين الوقتين» وعبارة حديث جابر: «ما بين هذين وقت كله» ، وعبارة حديث أبي مسعود الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما بين هذين وقت صلاة» .
وعبارة حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما بين هذين وقت، بدون لفظة كله مما في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي طريق آخر لأبي هريرة أخرجه النسائي ثم قال: " الصلاة ما بين صلاتك أمس وصلاتك اليوم ". وفي حديث أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن سائلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحديث، وفي آخره ثم قال أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أين السائل عن وقت الصلاة؟ الوقت: فيما بين هذين» . وفي حديث أبي بريدة: «وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم»
قوله: وقت مرفوع على الابتداء وخيره مقدم هو قوله: ما بين هذين، محل لك من الإعراب رفع لأنه صفة لقوله -: وقت - ومتعلق اللام محذوف تقديره وقت كائن لك.

م: (ولا معتبر بالفجر الكاذب) ش: يعني الاعتبار بدخول وقت الصبح، ولا في خروج وقت العشاء.
م: (وهو البياض الذي يبدو طولا ثم يعقبه الظلام) ش: هذا تفسير الفجر الكاذب وهو الذي يبدأ يظهر ضوؤه مستطيلا ذاهبا في السماء كذنب السرحان وهو الذي يعقبه ظلمة.
يعني: يمضي أثره ويصير الجو أظلم ما كان، ويسمى كاذبا لأنه يضيء ثم يسود ويذهب النور فيختلف ويعقبه ظلمة فكان كاذبا، والعرب تشبهه بذنب السرحان لمعنيين: أحدهما طوله.
والثاني: أن ضوءه يكون في الأعلى دون الأسفل، كما أن الذنب يكثر شعره في أعلاه لا في أسفله، والأحكام متعلقة بالفجر الثاني دون الأول، به يدخل وقت صلاة الصبح، ويخرج وقت العشاء، ويحرم الأكل والشرب والجماع على الصائم، وينقضي الليل ويدخل النهار، ولا يتعلق [بالأول] شيء من الأحكام بإجماع المسلمين.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يغرنكم أذان بلال، ولا الفجر المستطير، إنما الفجر المستطير في الأفق» هذا

(2/14)


أي المنتشر فيها.
وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس؛ لإمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الأول حين زالت الشمس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كلهم - في الصوم، واللفظ للترمذي من حديث سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق» .
ولفظ مسلم: «لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هذا حتى يستطير هكذا» . وحكى حماد قال: يعني مفترضا، وبلفظ الترمذي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن راهويه وأبو يعلى الموصلي في مسانيدهم، والطبراني في " معجمه "، وابن أبي شيبة في " مصنفه ".
قوله - الفجر المستطيل هو الفجر الكاذب، والفجر المستطير هو الفجر الصادق، وقد فسره المصنف بقوله م: (أي المنتشر فيها) ش: أي في الأفق، وإنما أنث الضمير فيها إلى معنى الناحية وعليه قوله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يمدح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق
قوله: ضاءت، لغة في أضاءت. ويجوز أن يكون الأفق واحدا وجمعا كالفلك، والمستطير المنتشر المتفرق في نواحيها، والاستطارة والتطاير: التفرق والذهاب. والسين فيه للطلب كأنه يطلب الطيران في نواحي الأفق.

[وقت صلاة الظهر]
[أول وقت الظهر]
م: (وأول وقت الظهر) ش: أي أول وقت صلاة الظهر م: (إذا زالت الشمس) ش: وزوال الشمس عبارة عن ميلانها من جانب الشمال إلى اليمين لمستقبل القبلة، وفي " المبسوط ": لا خلاف في أول وقت الظهر أنه يدخل بزوال الشمس إلا شيء نقل عن بعض الناس أنه يدخل إذا صار الفيء بقدر الشراك. وقال النووي عن أبي الطيب: هو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء.
م: (لإمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الأول حين زالت الشمس) ش: قد تقدم في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس» .
وقد تقدم أيضا حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «جاء جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين زالت الشمس» . أخرجه الترمذي وغيره.
وفي حديث عمرو بن حزم قال: «جاء جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فصلى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى النبي بالناس من حين زالت الشمس الظهر» .
وفي حديث بريدة: «ثم أمره بالظهر حين زالت الشمس عن بطن السماء» . رواه عبد الرزاق -

(2/15)


وآخر وقتها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا صار ظل كل شيء مثليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: «وقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس ما لم يحضر وقت العصر» . وروى الترمذي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا: «أن للصلاة أولا وآخرًا وأول وقت صلاة الظهر حين زوال الشمس» . وأخرجه مسلم أيضا من حديث أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ثم أمر فأقام بالظهر حين زالت الشمس» .
فإن قلت: جاء عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند البيت مرتين فصلى الظهر في المرة الأولى حين كان الفيء مثل الشراك» .
قلت: هذا محمول على الفراغ منها، والأحاديث المذكورة محمولة على الشروع فيها، توفيقا بين الأحاديث، ويدل عليه قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] (الإسراء: الآية 78) أي لزوالها، وهو قول ابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة والحسن البصري.
وقال النووي: المراد به أنه حين زالت الشمس كان الفيء حينئذ مثل الشراك من ورائه، لا أنه أخر إلى أن صار مثل الشراك، وهو أحد سيور النعل، وهو يكون على وجهها، والمعنى أن الظل قد رجع حين وقع النعل، والظل من أول النهار إلخ. والفيء لا يكون إلا بعد الزوال لأنه ظل فاء أي رجع، والفيء مهموز معناه الرجوع، والمراد هاهنا رجوع الظل من جانب المغرب إلى جانب المشرق.

[آخر وقت الظهر]
م: (وآخر وقتها) ش: أي آخر وقت الظهر م: (عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا صار ظل كل شيء مثليه) ش: قال الأكمل: قوله آخر الوقت إذا صار ظل كل شيء مثليه فيه تسامح لأن آخر الشيء منه، فماذا صار ظل كل شيء مثليه خروج وقت الظهر عنده، وكذا إذا صار مثله عندهما قال: وتأويله آخر الوقت الذي يتحقق عنده خروج الظهر بدليل قوله فيما بعد - وآخر وقت المغرب حين يغيب الشفق يتحقق الخروج.
قلت: هذا كلام السغناقي فإنه أخذ منه، وملخص كلامه: أن آخر الشيء من أجزاء ذلك الشيء فيكون وقت الظهر باقيا عنده عند المثلين، وعندهما المثل. ورواية " المنظومة " يقتضي أن لا يبقى وقت الظهر على القولين على هذا التقدير، والذي في المنظومة هو قوله:
والعصر حين المرء يلقى ظله ... قد صار مثليه وقالا مثله
فيحتاج إلى التوفيق بينهما. فأجاب عنه بجوابين: أحدهما ما ذكرناه، والآخر أن المراد بآخر الوقت هو القرب منه الذي يتحقق الخروج عنده وهو نظير قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] (البقرة: الآية 234) أي قارب بلوغ أجلهن، فكان لفظة آخر بمنزلة لفظ الأجل لأن كل منهما اسم لتمام الشيء، ثم يذكر الأجل ويراد به القرب، ويذكر ويراد به الانقضاء.

(2/16)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم اعلم أن قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا رواية محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه وهي المشهورة.
وفي تأويل رواية الحسن وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: حتى يصير ظل كل شيء مثله وبه قال أبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - واختاره الطحاوي.
وفي رواية أسد ين عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء سوى فيء الزوال.
وروى المعلى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه إذا صار الظل أقل من قامتين يخرج وقت الظهر ولا يدخل وقت العصر حتى يصير قامتين، وصححه الشيخ أبو الحسن الكرخي.
وفي " المبسوط " جعل رواية الحسن رواية محمد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وجعل المثلين رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قال: وروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الحسن إذا صار ظل كل شيء قامته خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين وبينهما وقت مهمل وهو الذي سمته الناس بين الصلاتين.
وقال مالك: إذا صار ظل كل شيء مثله دخل وقت العصر، ولم يخرج وقت الظهر، يبقى بعد ذلك قدر أربع ركعات صالحا للظهر والعصر أداء. وحكي في " المغني " عن ربيعة: أن وقت الظهر والعصر إذا زالت الشمس.
وعن عطاء وطاوس: إذا صار ظل كل شيء مثله دخل وقت العصر، وما بعده وقت لهما على سبيل الاشتراك حتى تغرب الشمس. وقال إسحاق بن راهويه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبو ثور والمزني وابن جرير الطبري: إذا صار ظل كل شيء مثله دخل وقت العصر وبقي وقت الظهر قدر ما يصلي أربع ركعات، ثم يتمحض الوقت للعصر وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن المبارك، حتى لو صلى رجل الظهر حين صار الظل مثل الشخص وآخر [صلى] فيه العصر كانا مؤديين.
وروى أبو نصير عن مالك: وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله وقت المختار، وأما وقت الأداء يؤخر إلى أن يبقى إلى غروب الشمس قدر أربع ركعات في " المبسوط ".
وقال مالك: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر، فإذا مضى مقدار ما يصلى فيه أربع ركعات، دخل وقت العصر ولم يخرج وقت الظهر وكان الوقت مشتركا بينهما إلى أن يصير الظل قامتين، وهو فاسد لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يدخل وقت صلاة حتى تخرج وقت صلاة أخرى» .
وفي " الوجيز " ويروى هذا عن المزني أيضا، [و] عن ابن جرير وعطاء أنه لا يكون تأخير الظهر إلى صفرة الشمس مفرطا. وعن طاوس: لا تفوت حتى الليل.

(2/17)


سوى فيء الزوال، وقالا: إذا صار الظل مثله، وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وفيء الزوال هو الفيء الذي يكون للأشياء وقت الزوال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (سوى فيء الزوال) ش: وهو الظل الذي يكون للأشياء وقت الزوال. وفي " المجتبى ": زوال الشمس بفيء الزوال، وقد مر أن الفيء مهموز، وهو في اللغة الرجوع، فلا يكون إلا بعد الزوال.
م: (وقالا) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (إذا صار الظل مثله) ش: أي إذا صار ظل كل شيء مثله.
م: (وهو) ش: أي قولهما م: (رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواه الحسن عنه.

م: (وفيء الزوال هو الفيء الذي يكون للأشياء وقت الزوال) ش: أي وقت زوال الشمس عن كبد السماء. وقال المرغيناني: قال أبو حنيفة: ما دام القرص في كبد السماء فإنه لم يزل وإن انحط يسيرا فقد زال.
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقوم الرجل مستقبل القبلة، فإذا زالت الشمس عن يساره فهو الزوال. وأصح ما قيل في معرفة الزوال: قول محمد بن شجاع: أنه يغرز خشبة في أرض مستوية وتخط على رأس الظل خطا، فيجعل ما بلغ الظل علامة، [و] ما دام الظل ينقص عن الخط والعلامة فإنها لم تزل فإذا وقف ولم يزدد ولم ينقص فهو وقت الزوال والاستواء، فإذا أخذ في الزيادة فقد زالت الشمس. وقال السرخسي والمرغيناني: هذا هو الصحيح.
وفي " المبسوط ": الزوال يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، وقد قيل: لا بد أن يبقى لكل شيء فيء الزوال في كل موضع إلا مكة وصنعاء والمدينة في أطول أيام السنة، فلا يبقى بمكة وصنعاء ظل على الأرض، وبالمدينة يأخذ الشمس الحيطان الأربعة، وحكي عن أبي جعفر: أن عند أطول النهار في الصيف لا يكون بمكة ظل من الأشخاص عند الزوال بستة وعشرين يوما قبل انتهاء الطول، وستة وعشرين يوما بعد انتهاء الطول، وفي هذه الأيام إذا لم ير للشخص ظل فإن الشمس لم تزل، فإذا رأى الظل بعد ذلك فإن الشمس قد زالت.
وعن أبي حامد: إنما يكون الظل في يوم واحد في السنة، وأما الزوال في نفس الأمر الذي لا يظهر فإنه يتقدم على ما يظهر لنا فلا اعتبار له ولا يتعلق به الحكم، ولو لم يجد ما تقرر لمعرفة الوقت والفيء والأمثال فيعتبر بقامته وقامة كل إنسان ستة أقدام ونصف بقدمه. وقال الطحاوي: عامة المشايخ سبعة أقدام من طرف سمت الساق، وستة ونصف من طرف الإبهام، وإليه أشار البقالي في " الأربعين ".
وحكى ابن قدامة في " المغني " عن أبي العباس السبخي على وجه التقريب: أن الشمس

(2/18)


لهما إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الأول في هذا الوقت، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» ، وأشد الحر في ديارهم في هذا الوقت، وإذا تعارضت الآثار لا ينقضي الوقت بالشك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تزول في نصف حزيران وهو بئونة على قدم وثلث، وهو أقل ما تزول عليه الشمس، وفي نصف تموز وهو أبيب ونصف آذار وهو بشنس على قدم ونصف وثلث، وفي نصف آب وهو مسري ونيسان وهو برمودة على ثلاثة أقدام، وفي نصف آذار وأيلول وهما برمهات وتوت على أربعة أقدام ونصف، وفي نصف تشرين الأول وشباط وهما بابة وأمشير على ستة أقدام، وفي نصف تشرين ثاني وكانون ثاني وهما هاتور وطوبة على تسع أقدام، وفي نصف كانون الأول وهو كهيك على عشرة أقدام وسدس.
وهذا انتهى ما تزول عليه الشمس في إقليم العراق والشام وما بينهما من البلدان، فإذا أردت معرفة ذلك فقف على أرض مستوية وعلم الموضع الذي انتهى إليه ذلك، ثم ضع قدمك اليمنى بين يدي قدمك اليسرى وألصق عقبك بإبهامك فإذا بلغت ساعة هذا القدر بعد انتهاء النقص فهو الوقت الذي زالت عليه الشمس ووجبت صلاة الظهر قبل طول الآبار من ستة أقدام ونصف بقدم نفسه.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الأول في العصر في هذا الوقت) ش: أي الوقت الذي جعل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقت الظهر، وهو ما إذا صار ظل كل شيء مثله. واختلفت نسخ " الهداية " في هذا الموضع ففي بعضها في اليوم الأول في هذا الوقت، وفي بعضها في اليوم الثاني أي إمامته للظهر وفي بعضها إمامته للعصر في اليوم الثاني.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة.
م: (قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» ش: هذا الحديث أخرجه جماعة عن خلق كثير من الصحابة وسنبين جميع ذلك في فصل بيان الأوقات المستحبة. وبلفظ المصنف رواه البخاري في " صحيحه " من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» .
قوله: أبردوا، أمر من الإبراد والفيح بالفاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء وهو سطوع الحر وزفراته. ويقال بالواو فاحت القدر تفوح إذا غلت. وقد أخرجه مخرج التنبيه والتمثيل أي كأنه نار جهنم في حرها.
م: (وأشد الحر في ديارهم في هذا الوقت) ش: يعني وقت صيرورة ظل كل شيء مثله. وأراد

(2/19)


وأول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر على القولين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بديارهم ديار الحجاز.
1 -
م: (وإذا تعارضت الآثار لا ينقضي الوقت بالشك) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال يعارض حديث الإبراد حديث إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لأن إمامته في صلاة العصر في اليوم الأول فيما إذا صار ظل كل شيء مثله، فدل ذلك على خروج وقت الظهر.
وحديث الإبراد دل على خروج وقت الظهر؛ لأن اشتداد الحر في ديارهم في ذلك الوقت، وتقرير الجواب أن الآثار أي الأحاديث إذا تعارضت لا ينقضي الوقت الثابت بيقين بالشك، ما لم يكن ثابتا بيقين أنه وقت العصر، ولا يثبت بالشك.
فإذا قلت: هل في الإبراد تحديد.
قلت: روى أبو داود والنسائي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كان قدر صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للظهر في الصيف ثلاثة أقدام» . هذا يدل على التحديد.
اعلم أن هذا الأثر يختلف في الأقاليم والبلدان، ولا يستوي فيه جميع المدن والأمصار، وذلك لأن العلة في طول الظل وقصره هو زيادة ارتفاع الشمس في السماء وانحطاطها، فكلما كانت إلى محاذاة الرءوس في مجراها أقرب كان الظل أقصر، وكلما كانت أخفض ومحاذاتها الرءوس في مجراها أقرب كان الظل أطول، كذلك ظلال الشيء في الشتاء أبدا أطول من ظلال الصيف في كل مكان، وكانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة والمدينة ثلاثة أقدام وهما من الإقليم الثاني، ويذكرون أن الظل فيهما في أول الصيف في شهر آذار ثلاثة أقدام وشيء، ويثبت أن تكون صلاته إذا اشتد الحر متأخرة عن الوقت المعهود قبله، فيكون الظل عند ذلك خمسة أقدام.
وأما الظل في الشتاء فإنهم يذكرون أنه في تشرين الأول خمسة أقدام أو خمسة وشيء، وفي كانون سبعة أقدام أو سبعة وشيء، فبقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ينزل على هذا التقدير في ذلك الإقليم دون سائر الأقاليم والبلدان التي هي خارجة عن الإقليم الثاني.

[وقت صلاة العصر]
[أول وقت العصر]
م: (وأول وقت العصر) ش: أي أول وقت صلاة] العصر (إذا خرج وقت الظهر على القولين) ش: أي قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرواية المشهورة عنه، وقول صاحبيه، فعنده إذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال ودخل وقت العصر، وعندهما إذا صار ظل كل شيء مثله، وإنما قيدنا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالرواية المشهورة عنه احترازا عن رواية أسد عنه حيث يخرج الظهر ولا يدخل العصر، فلا يكون أول العصر إذا خرج الظهر على تلك الرواية. وفي " المحيط ": الخلاف في وقت الظهر خلاف في أول وقت العصر.
قلت: هذا على المشهور من القولين.

(2/20)


وآخر وقتها ما لم تغرب الشمس، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذا زاد على المثل أنى يدخل أول وقت العصر. واختلف الشافعية في هذه الزيادة على ثلاثة أوجه:
أحدها: الظل إلى المثل وإلا فالوقت قد دخل قبل حصول الزيادة بمجرد المثل، فتكون الزيادة من وقت العصر.
والثاني: أنها من وقت الظهر وإنما يدخل وقت العصر بعدها وهذا مخالف لقول جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الوقت فيما بين هذين» .
الثالث: أنها ليست من وقت الظهر، ولا من وقت العصر بل هي وقت مهمل فاصل بين الوقتين.

[آخر وقت العصر]
م: (وآخر وقتها ما لم تغرب الشمس) ش: أي آخر وقت العصر غروب الشمس، وهو قول أكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي في الصحيح الذي نص عليه. وقال الحسن بن زياد: بتغير الشمس إلى الصفرة، حكاه عنه قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال السرخسي: العبرة بتغير القرص عندنا، وهو قول الشعبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال النخعي: تغير الضوء. وقال الإصطخري: إذا صار ظل كل شيء مثليه خرج وقت العصر ويأثم بالتأخير بعدها ويكون قضاء.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة. فالبخاري عن عبد الله بن مسلم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وبشر بن سعيد وعبد الرحمن بن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» .
ومسلم عن يحيى قال: قرأت على مالك إلى آخره بنحوه. والترمذي عن إسحاق بن موسى الأنصاري عن معن عن مالك إلى آخره.
وابن ماجه عن محمد بن صالح عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن بشر بن سعيد وعن الأعرج يحدثون عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اهـ.
وأبو داود من حديث ابن عباس عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، ومن أدرك من الفجر ركعة قبل أن

(2/21)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تطلع الشمس فقد أدركها» .
والنسائي من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
وأخرجه ابن ماجه أيضا من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ومسلم أيضا، وابن حبان بعدة ألفاظ فمنها: «من صلى الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس لم تفته الصلاة، ومن صلى من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس لم تفته الصلاة» ، وفي لفظ: «فقد أدرك الصلاة كلها» ، وفي لفظ: " وليتم ما بقي "، وفي لفظ: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها» .
وأخرج النسائي عن معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن عزرة بن تميم عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صلى أحدكم ركعة من صلاة الصبح ثم طلعت الشمس فليصل إليها أخرى» .
وأخرج أيضا عن همام قال: سئل قتادة عن رجل صلى ركعة من صلاة الصبح، ثم طلعت الشمس فقال: حدثني جلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يتم صلاته ".
وجه الاستدلال بهذا الحديث على وجوه:
الأول: أنه يدل على أن آخر وقت العصر هو غروب الشمس، وأن الذي يؤخر صلاة العصر عن صيرورة ظل كل شيء مثليه غير مفرط، وبه قال زفر ومالك في رواية ابن وهب عنه، وذلك أن معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فقط أدركها» أي أدرك وجوبها حتى إذا أدرك الصبي قبل غروب الشمس، أو أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو طهرت الحائض يجب عليه صلاة العصر ولو كان الوقت الذي أدركه جزءا يسيرا لا يسع فيه الأداء، وكذلك الحكم قبل طلوع الشمس.
فإن قلت: قيل في الحديث: " ركعة " فينبغي أن لا يعتبر أقل منها.
قلت: قيد الركعة فيه خرج مخرج الغالب، فإن غالب ما يمكن معرفة الإدراك به ركعة ونحوها، حتى قال بعض الشافعية: إنما أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذكر الركعة البعض من الصلاة لأنه قد روي عنه أنه من أدرك ركعة من العصر، ومن أدرك ركعتين من العصر، ومن أدرك سجدة من العصر، وأشار إلى بعض الصلاة مرة بركعة ومرة بركعتين ومرة بسجدة، والتكبيرة في حكم الركعة لأنها بعض الصلاة، فمن أدركها فكأنه أدرك الركعة.
فإن قلت: المراد من السجدة الركعة على ما روى مسلم: حدثني أبو طاهر وحرملة كلاهما عن ابن وهب والسياق كله لحرملة قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس، أو من الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها» ، والسجدة إنما هي الركعة.

(2/22)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: فسر السجدة حرملة، وكذا فسر الإمام لأنه يعبر بكل واحد منهما عن الآخر، وأيا ما كان فالمراد بعض الصلاة، وأدرك بشيء منها، وهو يطلق على الركعة والسجدة وما دونهما مثل تكبيرة الإحرام.
وحديث: «من أدرك سجدة» رواه أحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الوجه الثاني: أن الوقت الذي يدرك فيه قبل غروب الشمس، ولو كان جزءا يسيرا لا يسع فيه الأداء وقت وجوب الصلاة عليه، لأن معنى قوله: " فقد أدرك وجوبها " كما ذكرنا. وقال زفر: ما لم يجد وقتا يسع فيه الأداء حقيقة. وعن الشافعي قولان فيما إذا أدرك دون ركعة كتكبيرة مثلا أحدهما لا يلزمه، والآخر يلزمه وهو أصحهما.
الوجه الثالث: فيه دليل صريح في أن من صلى ركعة من العصر ثم خرج الوقت قبل سلامه لا تبطل صلاته وهذا بالإجماع، وأما في الصحيح فكذلك عند الشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس فيها، وقالت الشافعية: الحديث حجة على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث عمل به في العصر ولم يعمل به في الصبح.
قلت: من وقف على ما مر عليه أبو حنيفة عرف أن الحديث ليس بحجة عليه بل الحديث حجة عليهم، فنقول: لا شك أن الوقت سبب للصلاة وظرف لها ولكن لا يمكن أن يكون كل الوقت سببا؛ لأنه لو كان كذلك يلزم تأخير الأداء عن الوقت، فتعين أن يحصل بعض الوقت سببا وهو الجزء الأول لسلامته عن الزحام، فإن اتصل به الأداء تقرر السبب، ولا ينتقل إلى الجزء الثاني والثالث والرابع وما بعده إلى ما يمكن منه من عقد التحريمة إلى آخر جزء من أجزاء الوقت، ثم هذا الجزء إن كان صحيحا بحيث لا ينسب إلى الشيطان ولم يوصف بالكراهة كما في الفجر وجب عليه كاملا، حتى لو اعترض الفساد في الوقت بطلوع الشمس في خلال الفجر فسد خلافا لهم، لأن ما وجب كاملا لا يتأدى بالناقص كالصوم المنذور المطلق، أو صوم القضاء لا يتأدى في أيام النحر والتشريق، وإن كان هذا الجزء ناقصا بأن صار منسوبا إلى الشيطان، كالعصر في وقت الاحمرار وجب ناقصا لأن نقصان السبب مؤثر في نقصان المسبب، فساوى نصف النقصان؛ لأنه ما لزم كما إذا نذر من صوم يوم النحر وأداءه فيه، فإذا غربت الشمس في أثناء الصلاة لم يفسد العصر؛ لأنه ما بعد الغروب كامل كما دل فيه لأن ما وجب ناقصا يتادى كاملا بطريق الأولى.
فإن قلت: يلزم أن يفسد العصر إذا شرع فيه في الجزء الصحيح ومدتها إلى أن غربت.
قلت: لما كان الوقت تبعا جاز له قبله كل الوقت فينتفي الفساد الذي يصل فيه بالبناء، لأن

(2/23)


وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاحتراز عنه مع الإقبال على الصلاة متعذر.
وأما الحديث الذي هو حجة عليه فهو ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت صلاة الصبح من صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني الشيطان» وقال الطحاوي: ورد هذا الحديث أي حديث من أدرك كان قبل نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في الأوقات المكروهة.

[وقت صلاة المغرب]
[أول وقت المغرب وآخره]
م: (وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس) ش: أي أول وقت صلاة المغرب وقت غروب الشمس، قال بعض الشراح: وهذا إجماع، وعند الشيعة: لا يدخل وقتها حتى تشتبك النجوم.
قلت: وعند طاوس وعطاء بن رباح ووهب بن منبه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أول وقت المغرب حين طلوع النجم، وإنما احتجت الشيعة بما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى المغرب عند اشتباك النجوم، واحتج طاوس ومن معه بما رواه مسلم من حديث أبي بصرة الغفاري قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر بالمحمض فقال: " إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له من الأجر مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد» والشاهد النجم، وأخرجه النسائي والطحاوي أيضا، وأبو بصرة بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة، واسمه حميل بضم الحاء والمهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف، وقيل: جميل بالجيم والأول أصح.
قوله: بالمَحْمَض، بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وفي آخره ضاد معجمة، وهو الموضع الذي ترى فيه الإبل الحمض وهو ما ملح وأمر من النبات.
والجواب: عن حديث الشيعة ما قال النووي: باطل لا يعرف، ولو عرف يحمل على الجواز، وعن حديث مسلم ما قاله الطحاوي، وكان قوله عندنا والله أعلم: ولا صلاة بعدها حتى يرى الشاهد، يحتمل أن يكون هذا هو آخر الحديث من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكره الليث، وهو من روايته، ويكون الشاهد هو الليل، ولكن الذي رواه عن الليث فأول أن الشاهد هو النجم، فقال ذلك من رأيه لا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد تواترت الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يصلي المغرب إذا تواترت الشمس بالحجاب.
فإن قلت: إذا كانت الزيادة عن ثقة يعمل بها حينئذ إذا لم تخالفها الآثار الصحيحة، وقد تكاثرت الآثار الصحيحة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي المغرب عقيب غروب الشمس، وحث أمته على تعجيله حيث قال ": «لا تزال أمتي بخير أو قال: على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم» رواه أبو داود والحاكم في " مستدركه " وقال: صحيح على شرط مسلم، وآخر وقتها ما

(2/24)


وآخر وقتها ما لم يغب الشفق. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مقدار ما يصلي فيه ثلاث ركعات، لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أم في اليومين في وقت واحد، ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وآخر وقتها حين يغيب الشفق» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يغب الشفق. [وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مقدار ما يصلي فيه ثلاث ركعات] .
وبه قال الثوري وأحمد وأبو ثور وإسحاق وداود وابن المنذر، وهو قول الشافعي في القديم، واختاره من نسب إلى الحديث من أصحابه كابن خزيمة والخطابي والبيهقي والبغوي في " التهذيب " والغزالي في " الأخبار " وصححه العجلي وابن الصلاح، وقال النووي: وهو الصحيح.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مقدار ما يصلي فيه ثلاث ركعات) ش: أي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقت صلاة المغرب قدر ما يصلي فيه ثلاث ركعات وهو قوله الجديد. وقال الغزالي: في وقت المغرب قولان:
أحدهما: أنه يمتد إلى غروب الشفق، وإليه ذهب أحمد.
والثاني: إذا مضى بعد الغروب وقت وضوئه وأذان وإقامة وقدر خمس ركعات فقد انقضى الوقت كذا في " الوسيط "، ويقال: وينبغي أن يكون سبع ركعات؛ لأنه يصلي ركعتين عندهم قبل فرض المغرب، ومقدار ما يكسر سورة الجوع من الأكل في حق الصائم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وضع العشاء وأحدكم صائم فابدءوا به قبل أن تصلوا» وهو قول الأوزاعي، وقال الأكمل: ما ذكره المصنف من جهة الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس بكاف.
قلت: ما التزم المصنف أن يذكر مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره من المخالفين على وجه الكفاية على أن الذي ذكره هو الذي ذكره في " الحلية "، وعن الإمام مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثلاث روايات أحدها: كقولنا، والثانية: كقول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الجديد، والثالثة: تبقى إلى طلوع الفجر وهي قول عطاء وطاووس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. م: (لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أم في اليومين في وقت واحد) ش: " ولو كان الوقت يمتد لم يؤم جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليومين في وقت واحد؛ لأنه كان يعلم أول الوقت وآخره.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وآخر وقتها حين يغيب الشفق» ش: هذا الحديث بهذه العبارة لم يذكره أحد، ولكن بمعناه رواه مسلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن وقت الصلاة. الحديث، وفيه: «ووقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق» ، وفي رواية: «ما لم يغب الشفق» .

(2/25)


وما رواه كان للتحرز عن الكراهة.
ثم الشفق هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: وهو الحمرة، وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولمسلم أيضا من حديث أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن سائلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن مواقيت الصلاة الحديث، فأقام المغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، وله أيضا من حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس» الحديث، وفيه «ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق» .
م: (وما رواه) ش: أي والذي رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليومين في وقت واحد. م: (كان للتحرز عن الكراهة) ش: لأن تأخير المغرب إلى آخر الوقت مكروه فسقط التعلق به. وجواب آخر أن معناه بدأها في اليوم الثاني حتى غربت الشمس، ولم يذكر وقت الفراغ فيحتمل أن يكون الفراغ عند مغيب الشفق، ويكون بين هذين إشارة إلى ابتداء الفعل في اليومين وإلى آخر الفعل في اليوم الثاني، وفي " المبسوط " و " الأسرار ": وحجتنا ما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق» - بالثاء المثلثة - أي ثورانه وانتشاره، وفي رواية أبي داود: " فور الشفق " - بالفاء - وهو بمعناه، وهو صريح في امتداد وقت المغرب حتى يغيب الشفق.
قال النووي: وهو الصواب الذي لا يجوز غيره إلا أن التأخير عن أول الغروب مكروه، فلذلك لم يؤخره جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإنه أتاه ليعلمه المباح من الأوقات، ألا ترى أنه لم يؤخر العصر إلى الغروب والوقت باق، ولا العشاء إلى الثلث فكان بعد وقت العشاء بالإجماع على أن المصير على ما روينا أولى لأنه كان بالمدينة، وما رواه كان بمكة، وآخر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواها حتى يرى نجما طالعا أعتق رقبة، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى نجمتين أعتق رقبتين.

م: (ثم الشفق هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو قول أبي بكر الصديق وأنس ومعاذ بن جبل وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين - ورواية ابن عباس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وبه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي وزفر والمزني وابن المنذر والخطابي واختاره المبرد وثعلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. م: (وقالا) ش: أي أبي يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (وهو) أي الشفق هو (الحمرة) وبه قال مالك وأحمد وداود وعن أحمد أنه في البياض والحمرة في الصحراء.
م: (وهو) ش: أي قولهما هو كون الشفق حمرة م: (رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواه عنه أسد بن عمرو.
م: (وهو) ش: أي قولهما هو م: (قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وعن الصحابة قول عمر

(2/26)


لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الشفق الحمرة» . ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«وآخر وقت المغرب إذا اسود الأفق»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وابنه عبد الله وشداد بن أوس وعبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، والصفرة التي بين البياض والحمرة، المذهب عندهم أنها تلحقه بالبياض، وقيل الشفق اسم للحمرة والبياض لكن يطلق على أحمر غير قاني، وبياض غير واضح كالفراء، ونقل الحربي عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا غاب الشفق وهو الحمرة في السفر والبياض في الحضر، ونقلوا عن الخليل: والفراء أنه الحمرة، وقال الأزهري: الشفق عند العرب الحمرة، وقال الفراء: يقول العرب على فلان ثوب مصبوغ كأنه الشفق.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفق الحمرة» ش: هذا الحديث رواه الدارقطني في " سننه " من حديث عتيق بن يعقوب حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفق الحمرة» وذكره كذلك في كتابه " غرائب مالك " غير موصول بالإسناد، فقال: قرأت في أصل أبي بكر أحمد بن عمرو بن جابر المكي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بخط يده نبأ علي بن عبد الله الطالبي ثنا هارون بن سفيان السلمي حدثني عتيق به. وقال: حديث غريب، ورواته كلهم ثقات.
وأخرجه في " سننه " موقوفا على ابن عمر وعلى أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال البيهقي في " المعرفة ": روي هذا الحديث عن عمر وعلي [وابن] ابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولا يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شيء.
ورواه ابن عساكر من حديث ابن [عمر] خلافه وجعله مثالا لما رفعه المخرجون من الموقوفات.
وقال النووي: وروي هذا الحديث مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس بثابت.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وآخر وقت المغرب إذا اسود الأفق» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، لم يرد هكذا، وإنما روى أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأخبرني بوقت الصلاة» الحديث، وفيه يصلي العشاء حين اسود الأفق.
ورواه ابن حبان في " صحيحه "، وقد استدل غيره لأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بحديث النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة - صلاة العشاء - كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها حين يسقط القمر لثالثه» .
رواه أبو داود والنسائي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ويروى بسقوط القمر لثالثه. اللام في الموضعين للتوقيت أي: لوقت سقوط القمر ليلة ثالثة كما في قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]

(2/27)


وما رواه موقوف على ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(الإسراء: الآية 78) أي: لوقت دلوكها. وسقوط القمر: وقوعه للغروب ويغرب القمر في الليلة الثالثة من الشهر على مضي ستة وعشرين درجة من غروب الشمس.
وقال السروجي: وقد جاء في الحديث وقت العشاء إذا ملأ الظلام الضراب، قيل هي الجبال الصغار. وقال صاحب " الدراية ": وفي رواية إذا داراهم الليل يستوي الأفق في الظلام، وإنما يكون ذلك إذا ذهب البياض كله.
قلت: لم يبين كل منهما حال الحديث الذي رواه ولا من رواه، وقال: الشفق بالبياض أليق لأنه مشتق من الرقة، ومنه شفقة القلب، وهي رقة القلب، ويقال ثوب شفيق إذا كان رقيقا، ولأن الفجر يكون قبله حمرة يتلوها بياض الفجر فكانت الحمرة والبياض في ذلك وقتا لصلاة واحدة وهي الفجر فإذا خرجا خرج وقتها، فالنظر على ذلك أن تكون الحمرة والبياض في ذلك المغرب وقتا واحدا، وقالوا: البياض يبقى إلى نصف الليل، وقيل لا يذهب البياض في ليالي الصيف بل يتفرق في الأفق ثم يجتمع عند الصبح.
وقال الخليل بن أحمد: رأيت البياض بمكة ليلا فما ذهب إلا بعد نصف الليل: قلنا إن صح هذا فهو محمول على بياض الجو وذلك يغيب آخر الليل.
وأما البياض الذي هو رقيق الحمرة فذلك يتأخر بعدها ثم يغيب، وفي " المبسوط " قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الحمرة أثر الشمس، والبياض أثر النهار، فما لم يذهب قبل ذلك لا يصير ليلا مطلقا، وقولهما أوسع للناس، وقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحوط.
وقيل: يؤخذ بقولهما في الصيف لقصر الليل، ويقال البياض إلى ثلث الليل أو نصفه وفي الشتاء لقوله بطولها وعدم بقاء البياض البتة كذا في " المجتبى ".
م: (وما رواه موقوف على ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: أي وما رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوف على عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - غير مرفوع على ما ذكرناه.
قال الأترازي: وإنما قال المصنف، وما رواه ولم يقل وما رووه بضمير الجمع، وإن كان أبو يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أيضا يرويان هذا الحديث إلزاما للحجة على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأن المرسل عنده ليس بحجة فكيف يحتج بما ليس بحجة على الخصم، بخلاف أبي يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنهما يقولان بحجة المرسل والمسند جميعا فإن كونه موقوفا على الصحابي لا يكون قادحا عندهما.
وأيضا قول الصحابي محمول على السماع عندنا وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يقلد أحدا منهم أصلا فافهمه فقد غفل عنه الشارحون.

(2/28)


ذكره مالك في الموطأ. وفيه اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق وآخر وقتها ما لم يطلع الفجر الثاني؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أبو يوسف ومحمد والشافعي - رحمة الله عليهم أجمعين - متفقون معه في هذه المسألة، والثلاثة احتجوا بهذا الحديث بناء على أنه مرفوع، والإلزام فيه للحجة ليس على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحده بل الإلزام على الكل من جهة أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ثم إن الحديث لما ظهر أنه موقوف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خصه بذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه ليس بحجة عنده، فلذلك أفرد الضمير الذي في - روى - وأما عند أبي يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فهو حجة وليس في هذا الموضع أمر مشكل حتى يقول قد غفل عنه الشارحون.
وقال الأكمل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشفق هو الحمرة. موقوف على ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والموقوف لا يصلح حجة.
قلت: هذا الكلام منه بعيد جدا لأن مذهبه حجية الموقوف وهو أيضا في حكم المرفوع لأنا لا نظن في الصحابة إلا صدقا وخيرا.
م: (ذكره مالك في " الموطأ ") ش: أي ذكر هذا الموقف الإمام مالك بن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " موطئه ". وقال الأترازي: ولم يصح في هذا النقل عن " الموطأ " نظر، لأن مالكا لم يذكر فيه هذا الحديث بل قال: قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الشفق هو الحمرة التي في المغرب، فإذا ذهبت الحمرة خرج وقت المغرب.
قلت: هذا الذي ذكره في " موطأ مالك " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من رواية يحيى، ولو نظر في غيره لما أنكر لأن له كذا وكذا موطأ، منها " الموطأ " من رواية محمد بن الحسن الشيباني - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وفيه اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي وفي الشفق اختلاف الصحابة، وقد ذكرناه عن قريب.

[وقت صلاة العشاء]
[أول وقت العشاء]
م: (وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق) ش: وأي وأول وقت الآخرة عند غيبوبة الشفق، هذا إجماع على الخلاف في الشفق.
م: (وآخر وقتها ما لم يطلع الفجر) ش: أي وآخر وقت صلاة العشاء عند طلوع الفجر الصادق وهو أيضا إجماع لم يخالف فيه غير الأترازي فإنه قال: بذهاب الثلث أو النصف يخرج الوقت، وتكون الصلاة بعدها قضاء.

(2/29)


لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر» .
وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في تقديره بذهاب ثلث الليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر» ش: هذا الحديث الذي بهذه العبارة لم يرد وهو غريب.
وفي " المبسوط " روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «آخر وقت العشاء حين طلوع الفجر الثاني» ، والعجب من أكثر الشراح أنهم يستدلون بهذا الحديث ينسبون روايته إلى أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم يصح هذا الإسناد.
وتكلم الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الآثار " هاهنا كلاما حسنا ملخصه أنه قال: يظهر من مجموع الأحاديث أن آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر، وذلك أن ابن عباس، وأبا موسى الأشعري وأبا سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رووا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرها إلى ثلث الليل.
وروي أبو هريرة وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أخرها حين أنصف الليل.
وروي ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أخرها حين ذهب ثلثا الليل.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه أعتم بها حتى ذهب عامة الليل، وكل هذه الروايات في " الصحيح ".
قال: فثبت بذلك أن الليل كله وقت له، ولكنه على أوقات ثلاثة، فأما من حين يدخل وقتها إلى أن يمضي ثلث فاضر وقت صليت فيه.
وأما بعد ذلك إلى أن يتم نصف الليل ففي الفضل دون ذلك.
وأما بعد نصف الليل فدونه، ثم ساق سنده عن نافع بن جبير قال: كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصل العشاء إلى الليل ولا يفصلها.
ولمسلم في قصة التعريس عن أبي قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في النوم تفريط» أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى فدل بقاء الأولى إلي أن يدخل وقت الأخرى وهو طلوع الفجر الثاني.

[آخر وقت العشاء]
م: (وهو) ش: أي قوله وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر م: (حجة الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في التقدير بذهاب ثلث الليل) ش: أي في تقدير آخر وقت العشاء بذهاب ثلث الليل.
قال الأكمل: ووجه ذلك أنه يدل على قيام الوقت إلى الفجر، وحديث إمامة جبريل عليه

(2/30)


وأول وقت الوتر بعد العشاء، وآخره ما لم يطلع الفجر؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام يدل على آخر الوقت هو ثلث الليل فتعارضا، فإذا تعارضت الآثار لا ينفي الوقت الثابت يقينا بالشك أو يقول إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لنفي ما وراء وقت الإمامة عن وقت الصلاة بل لإثبات ما كان فيه، ألا ترى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم في اليوم الثاني حين أسفر، والوقت يبقى بعده إلى طلوع الشمس، وإذا لم يكن للنفي بقى ما روينا سالما عن المعارض فيكون حجة.
قلت: الذي قاله كله غير محرر ولا مطابق لنفس الأمر من وجوه:
الأول: أن يمنع المعارضة لأن الحديث الذي ذكره المصنف غريب، والذي استدل به الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، من إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الثاني من ثلث الليل صحيح فكيف يتأتى فيه المعارضة.
الثاني: أن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يقل أن وقت العشاء مقدر بذهاب ثلث الليل في الجواز. وتحرير مذهبه ما ذكر في " الحلية " أن آخر وقت العشاء المختار إلى نصف الليل في القديم، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وفي الجديد " إلى ثلث الليل " وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - في رواية - وقت الجواز إلى طلوع الفجر ما لم يكن بيننا وبينه خلاف في الجواز، فكيف يكون ذلك الحديث الغريب حجة عليه.
وذكر في " شرح الوجيز " أن وقت العشاء ممتد إلى طلوع فجر.
وقال السروجي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وآخر وقت العشاء إلى طلوع الفجر الثاني إجماع لم يخالف فيه غير الاصطخري فلا يعتبر خلافه.
فإن قلت: قالوا قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في باب استقبال القبلة إذا مضى ثلث الليل فلا أراها إلا فائتة، وهو يؤيد قول الاصطخري.
قلت: في خلوه على فوات وقت الاختياري وما مراد الأكمل إلا قول المصنف وهو حجة على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم يتأمل فيه ورجع فيه إلى كتب مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما قاله من غير تحقيق.
الثالث: أن قوله وإذا لم يكن للنفي بقي ما روينا سالما عن المعارض، وما بقي بالمعارض من المعارضة التي هي مقابلة الشيء بالشيء بالرد والمنع، وإنما بقي معنى الرد والمنع فافهم، والأترازي أيضا حكم هاهنا قريبا من كلام الأكمل، وما قلنا فيه نفي ذلك كذلك.

[وقت صلاة الوتر]
م: (وأول وقت الوتر بعد العشاء وآخره ما لم يطلع الفجر) ش: قال في " الينابيع " و " المنافع " و " المنتقى ": قوله - أول وقت الوتر بعد العشاء - على قولهما أما عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأول وقتها إذا غاب الشفق ووقتها واحد، فالفرض فرض على حدة عملا عنده، وأما عندهما

(2/31)


لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الوتر: «فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» ، قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذا عندهما، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وقته وقت العشاء إلا أنه لا يقدم عليه عند التذكير؛ للترتيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سنة على ما يجيء البحث فيه محررا في باب الوتر. (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الوتر: «فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» ش: الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من حديث خارجة بن حذافة قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إن الله أمركم بصلاة خير لكم من حمر النعم وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر» وبقريب من لفظ المصنف، أخرجه الحاكم في " المستدرك " في كتاب الفضائل من طريق ابن لهيعة حدثني عبد الله بن هبيرة أن أبا تميم أتى إلى عبد الله بن مالك رحمهما الله أخبره أنه سمع عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول سمعت أبا بصرة الغفاري يقول سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله تعالى زادكم صلاة وهي الوتر فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح» وسيجيء مزيد الكلام في باب الوتر إن شاء الله تعالى.
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (هذا عندهما وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقته وقت العشاء) ش: أي وقت الوتر وقت العشاء، والوقت إذا جمع صلاتين واجبتين كان وقتا لهما إلا أنه يرد عليه سؤال وهو أن وقت الوتر لو كان وقت العشاء لجاز تقديمه على العشاء، فأجاب عن ذلك بقوله م: (إلا أنه) ش: أي إلا أن الوتر م: (لا يقدم عليه) ش: أي على العشاء م: (عند التذكير للترتيب) ش: يعني إذا لم يكن ناسيا للترتيب، وعلى هذا إذا أوتر قبل العشاء متعمدا أعاد الوتر بلا خلاف، وإن أوتر ناسيا للعشاء ثم تذكر لا يعيد عنده؛ لأن بالنسيان يسقط الترتيب ويعيده عندهما، لأنه سنة العشاء، ولو قدم الركعتين على العشاء لم يجز عامدا كان أو ناسيا فكذلك الوتر.
وقال السغناقي: عدم جواز تقديم الوتر على صلاة العشاء لأجل وجوب الترتيب عنده لا لأن وقت الوتر لم يدخل، وهذا الاختلاف يبقى على اختلاف آخر بينهما وهو أن الوتر فرض عملا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والترتيب بين الفرائض واجب عند التذكير عندنا، وعندهم الوتر سنة فكان تبعا للعشاء.

(2/32)


فصل ويستحب الإسفار بالفجر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل ويستحب الإسفار بالفجر]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان الأوقات التي تستحب فيها الصلوات، وقد قلنا: إن الفصل مهما قصر لا ينون، ومهما وصل ينون لأن الإعراب بعد العقد والتركيب.
ولما فرغ من بيان مطلق الأوقات وأصلها شرع في بيان الأوقات التي بها الكامل وبها الناقص، وجعل لكل منهما فصلا على حدة، وقدم الأوقات المستحبة على الأوقات المكروهة وهذه هي المناسبة، أو القول أن الاستحباب والكراهة صفتان للصلاة والموصوف ينبغي تقديمه على الصفة، والصفة المستحبة مقدمة على الصفة المكروهة، وهذا هو الوجه في تقديم مطلق الوقت، ثم ذكر الوقت المستحب بعده، ثم ذكر الوقت المكروه بعده.
م: (ويستحب الإسفار بالفجر) ش: الإسفار بكسر الهمزة من أسفر الصبح إذا أضاء، وأسفر بالصلاة: إذا صلاها في الإسفار، وفي المعارضة الإسفار: قوة السفر من سفر أي يكشف وتبين وسفرت المرأة وجهها أي: كشفت، ويقال: الإسفار قوة الضوء مأخوذ من الإسفار، يقال أسفر مقدم رأسه من الشعر: إذا بقي أصلع، والسفر: بياض النهار، وأسفر وجه حسنا: أي أشرق.
قلت: أسفر يجيء متعديا إلى ما يصله، ويجيء لازما فأسفر الصبح لازم، وأسفر بالصلاة متعد لأن الباء للتعدية ثم إن المصنف أطلق الإسفار بالفجر بناء على ما ذكره في " المبسوط " فإنه قال فيه وفي " المفيد " أيضا و " التحفة " و " القنية ": الإسفار بالفجر أفضل من التغليس في الأوقات كلها.
وفي " المحيط " و " البدائع " إذا كانت السماء مصحية الإسفار أفضل إلا للحاج بمزدلفة فإن التغليس هناك أفضل ولا يؤخرها بحيث يقع الشك في طلوع الشمس بل صفرتها حتى لو ظهر فساد صلاة أمكنه أداؤها في وقتها، وفي " فتاوى قاضي خان " قراءته مسنونة ما بين أربعين آية إلى ستين مع ترتيل القراءة، وقيل تؤخر جدا لأن الفساد موهوم فلا يترك المستحب لأجله.
وروى الطحاوي بإسناده عن السائب بن يزيد قال: صليت خلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصبح فقرأ بالبقرة فلما انصرفوا استشرفوا الشمس فقالوا: طلعت، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، ثم أطلق المصنف بقوله أيضا يدل على أن الدور الأحمر بالإسفار، ويجمع بينهما تطويل القراءة.
وفي " المبسوط " و " البدائع " قال الطحاوي: إن كان من عزمه التطويل بالقراءة شرع بالتغليس، ويخرج منها بالإسفار، وإلا يشرع بالإسفار، وزعم أنه قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -

(2/33)


لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رحمهما الله -، وظاهر الرواية هو الأول وفي " الأسرار " لا يسع التأخير على أن ينام في بيته بعد الفجر بل يحضر المسجد أول الوقت ثم ينتظر الصلاة فيكون له ثواب المصلي بالانتظار، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما إنكم في صلاة ما انتظرتم [الصلاة] » .
وفي " الصحيحين " ويكف عن الكلام باللغو، والكلام فيه إثم عليه ويشتغل بالذكر والتسبيح بالخضوع ما دام متصفا بالنومة في المسجد، ثم يصلي آخر الوقت فسلمت الدعاء قليلا عادة فتطلع الشمس.
م: (لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة وبلفظ المصنف رواه البزار في " مسنده " من حديث بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» . وأخرجه الطبراني ولفظه: «يا بلال أصبحوا بالصبح فإنه خير لكم» في رواية أيوب بن سيار قال يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك الحديث.
فإن قلت: كيف أخرج الطحاوي هذا واحتج به في مذهبه؟
قلت: كان مرضيا عنده. وقال ابن عدي: أظنه مزنيا.
قلت: ليست أحاديثه بمنكرة جدا، ونقول هذه زيادة وتأكيد لأن الأحاديث الصحيحة كثيرة، ومن الصحابة الذين رووا حديث هذا الباب أبو برزة الأسلمي أخرجه الطحاوي والنسائي والطبراني - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ولفظه قال كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ينصرف من الصبح فينظر الرجل إلى الجليس الذي يعرفه فيعرفه» .
وأبو برزة بالزاي المعجمة اسمه نضلة بن عبيد بن برزة.
ومنهم محمود بن لبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه أبو نعيم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كتاب الصلاة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أصبحوا بالصبح فكلما أصبحتم بالصبح كان أعظم لأجوركم أو لأجرها» . وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: محمود بن لبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - له صحبة،

(2/34)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال [......] لا تعرف صحبته، وقال أبو عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وقول البخاري أولى.
ومنهم قتادة بن النعمان أخرج حديثه البزار والطبراني في الكبير من حديث فليح بن سليمان ثنا عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم لأجركم أو للأجور» . ورجاله ثقات.
ومنهم أبو الدرداء أخرجه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبيد ثنا أبو زرعة ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي عن محمد بن شعيب سمعت سعيد بن يسار يحدث عن أبي الزاهرية عن [جبير بن نفير عن] أبي الدرداء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أسفروا بالفجر تغنموا» .
ومنهم رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطحاوي والطبراني في الكبير والترمذي عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أسفروا بصلاة الفجر فإنه أعظم للأجر» ولفظ الطحاوي: «أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر أو لأجركم» ، وفي لفظ له: «نوروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» ، وأخرجه أبو داود ولفظه: «أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم أو أعظم للأجر» ، وأخرجه ابن ماجه مثل أبي داود.
وقال الترمذي: حديث رافع حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
ومنهم رجال من الأنصار من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرج حديثهم الطحاوي والنسائي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كلاهما عن زيد بن أسلم عن عاصم بن عمر وعن رجال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من قومه من الأنصار أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أصبحتم بالصبح فهو أعظم للأجر» .

(2/35)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنهم ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني مرفوعا: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم لأجركم أو لأجوركم» .
ومنهم حواء الأنصارية أخرج حديثها الطبراني في الكبير قالت سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» وحواء هي بنت زيد بن السكن أخت أسماء بنت زيد بن السكن.
ومنهم مرة بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفروا بصلاة الصبح فإنه أعظم للأجر» .
قوله: - أسفروا - أمر من الإسفار وقد فسرناه عن قريب، والأمر يفيد الوجوب فلا يترك عن الاستحباب.
قوله - أعظم - أفعل التفضيل فيقتضي أجرين أحدهما أكمل من الآخر، فإن صيغة أفعل تقتضي المشاركة في الأصل مع رجحان أحد الطرفين، ولفظ الإسفار يحمل على التبيين والظهور.
قلت: قد يخرج أول الوقت من أيديهم إلا اشتقاق الفجر وطلوعه يكون خفيا جدا لا يدركه الأطراف ممن يعلم علم المواقيت ثم يدركه الأمثل فالأمثل ثم يظهر لعموم الناس.
وقال أبو بكر بن العربي: من صلاها بالمنازل قبل تبينه وظهوره للإبصار فهو مبتدع فإن أوقات الصلاة علقت بالأوقات المتبينة للعامة والخاصة، والعالم والجاهل والحر والعبد، وإنما جعلت المنازل ليعلم أقرب الصباح فيكف الصائم ويتأهب المصلي، ولأنه لم يوجد من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالتغليس قط، وأما الموجود منه فعل والفعل يتطرق إليه احتمالات كثيرة ووجد الأمر بالإسفار والأمر أولى بالعمل به.
فإن قلت: الأمر بالإسفار محمول على ليالي الفجر فإنه لا يتأتى الفجر إلا بالانتظار في الإسفار.
قلت: التقييد على خلاف الدليل ولا يجوز التخصيص بدون المخصص، ويبطل هذا أيضا ما رواه ابن أبي شيبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن إبراهيم النخعي ما أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على

(2/36)


وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يستحب التعجيل في كل صلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر.
فإن قلت: قال الخطابي: يحتمل أنهم لما أمروا بالتعجيل صلوا بين الفجر الأول والثاني طلبا للصواب، وقيل إنهم صلوا بعد الفجر الثاني وأصبحوا بها فإنه أعظم لأجوركم.
قلت: هذا باطل لا أصل له إذ لم يقل أنهم أمروا بالتعجيل ولم يقل أنهم صلوا صلاة الصبح قبل طلوع الفجر الثاني بعد الفجر الكاذب، ولو صلوا قبل الفجر لا يعتد بها فكيف يكون له أجر؟
فإن قلت: قال النووي: يؤجر على نيته ولا تصح صلاته.
قلت: رتب الأجر على الصلاة دون النية، والصلاة إذا لم تصح فلا أجر له فيها وعليه الوزر لبقاء الفرض، ولأن في الإسفار تكثير الجماعة وتوسع الحلال على النائم والضعيف في إدراك فضل الجماعة فكان أفضل وأولى.
م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يستحب التعجيل في كل صلاة) ش: يعني إقامتها في أول وقتها وهو إذا تحقق طلوع الفجر وبه قال أحمد: وفي " الحلية " الأفضل تقديم الفجر في أول الوقت وبه قال مالك وداود وأبو ثور ومحمد والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. في رواية. وفي " شرح الوجيز ": الأفضل عندنا تعجيل الصلوات ويستحب تعجيل العشاء على أحد القولين.
احتج الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] (آل عمران: الآية 133) وفيما قلنا إظهار المسارعة، وبحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي العشاء فتنصرف النساء متلففات بمروطهن ثم يظهرن لا يعرفن من الغلس» . رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين -، ويروى متلفعات بالعين المهملة بعد الفاء، والمعنى متقاربات إلا أن التلفع مستعمل مع تغطية الرأس، والمروط جمع مرط بكسر الميم وسكون الراء وهي ألبسة من صوف أو خز مربعة.
وقيل سداها شعر، قوله - إن كان - كلمة إن مخففة من الثقيلة عند البصريين، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وقال الكوفيون: إن نافية، واللام بمعنى إلا كقوله: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] (الأعراف: الآية 102) .
والغلس: بفتحتين بقايا ظلمة الليل يخالطها بياض الفجر، والغليس مثله إلا أن الغلس لا يكون إلا في آخر الليل والغلس يكون في أوله وآخره، وهذا الحديث معتمد مذهبهم.
واحتج أيضاً بحديث أسامة بن زيد عن الزهري يسنده إلى أبي مسعود الأنصاري - رضي

(2/37)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عنه - سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «نزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأخبرني بوقت الصلاة - الحديث - وفيه صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح مرة بغلس ثم صلى أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر» ، رواه أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال الخطابي: هذا حديث صحيح الإسناد.
وبحديث هشام عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين - قال: «تسحرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان قدر ما بينهما قال: خمسون آية» رواه مسلم.
وبحديث القاسم بن غنام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أم فروة وكانت ممن بايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لأول وقتها» .
وبحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤا» .
وبحديث نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الوقت الأول رضوان الله ووسطه رحمة الله وآخر الوقت عفو الله» .
والجواب: عن الآية أن المسارعة لهذا أسباب العبادة لا لتعجيل فيها في غير وقتها الحسن، وأيضا المسارعة إلى المغفرة تكون في المسارعة إلى الشيء الذي هو أفضل عند الله. وذلك في تكثير الجماعة لا في تقليلها وذلك لا يكون إلا في التنوير لا في التغليس.
وعن مشايخنا أن للمرأة أن تصلي الفجر بغلس لأنه أقرب إلى الستر، وفي سائر الصلوات

(2/38)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينتظرون حتى يفرغ الرجال من الجماعة، وقيل الأفضل لها في الصلوات كلها أن تنتظر فراغ جماعة الرجال، كذا في " القنية "، وعن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أجوبة:
الأول: أنه لا حجة لهم فيه لأنهم كانوا يصلون صلاة الصبح بمسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن له مصابيح يعرف بها الرجل جليسه في نصف الليل، والغلس حينئذ يتم إلى وقت الإسفار في الأبنية.
ويقال هذا بيت غلس في النهار إذا كانت فيه غلسة وظلمة يسيرة، والمرأة إذا تلفعت بمرطها وغطت رأسها لا تعرف فلذلك إذا كان مع قليل ظلمة الليل وهو الغلس المذكور.
الثاني: أن العلة لعدم معرفتهن التستر بالمرط لا الغلس دل عليه ما رواه البخاري من هذا الحديث فيه «يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد» .
الثالث: أن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اختلف في النقل في الإسفار كما ذكرنا من الأحاديث للطرفين فرجعت إلى الأمر بالإسفار في الصبح، والأمر يفيد الوجوب فلا يترك للاستحباب.
الرابع: أن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - كان في الابتداء حين يحضر النساء الجماعة ثم انتسخ ذلك حين أمرن بالقرار في البيوت، وقول إبراهيم النخعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما اجتمع أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شيء مما اجتمعوا على التنوير يدل على النسخ لأن اجتماعهم على خلاف ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله لم يكن إلا بعد نسخ ذلك وثبوته بخلافه.
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: ليس بالقوي.
وعن الثاني أن يحيى بن سعيد حدث عن أسامة بن زيد ثم تركه بآخره فلم يبق حجة.
فإن قلت: قال الحازمي في كتاب " الناسخ والمنسوخ ": حديث الغلس ثابت وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوم [عليه] إلى أن فارق الدنيا ولم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يداوم إلا على ما هو الأفضل، ثم روى حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي رواه أسامة بن زيد المذكور.
قلت: يرد هذا ما أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن زيد عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين - قال: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة لغير وقتها إلا جمع فإنه يجمع بين المغرب والعشاء بجمع وصلى صلاة الصبح من الغد» . قيل: قالت العلماء ففي وقتها المعتاد كل يوم إلا أنه صلى الصبح قبل الفجر دائما غلس بها جدا ويوضحه رواية البخاري والفجر حتى

(2/39)


والحجة عليه ما رويناه وما نرويه،
قال: والإبراد بالظهر في الصيف، وتقديمه في الشتاء لما روينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شرع، وهذا دليل على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسفر بالفجر دائما صلاها بغلس على أن أسامة قدر فيه ما ذكرنا.
والجواب: عن حديث زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حكاه فعل واحد فيه تغليس، ونحن لا ننكر ذلك، وقد كان يفعله أحيانا تعليما للجواز وغير ذلك من الأسباب، ولأنه يجوز أن يكون قد أخروا السحور إلى آخر الوقت وهو المستحب، ثم يكثر قدر قراءته خمسين آية مرتلة بعد الوضوء ودخول الخلاء ونحو ذلك فيدخل حينئذ وقت الإسفار.
والجواب: عن حديث أم فروة أنه ضعيف مضطرب لأنه يرويه القاسم بن غنام والقاسم لم يدرك أم فروة وهي بنت أبي قحافة أخت أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأبيه، وقيل: فيه نظر لأنها أنصارية، وقيل في كونها أنصارية نظر.
والجواب: عن حديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يرويه عبد الله بن معبد الجهني. قال أبو حاتم: هو مجهول غريب.
والجواب: عن حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن في رواته يعقوب بن الوليد وهو ضعيف. وقال أحمد: كان يعقوب بن الوليد من الكذابين الكبار يضع الحديث، وقال: متروك الحديث.
والجواب: عن حديث أبي محذورة أن في رواته إبراهيم بن زكريا، قال أبو حاتم: هو مجهول، وحديثه هو منكر.
وقال ابن عدي: يحدث عن الثقات بالأباطيل. وقال أحمد: هذا لا يثبت.
م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ما رويناه) ش: يعني قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» .
وقال الأكمل: قال المصنف: والحجة عليه ما رويناه، بل الجواب يعني من حديث رافع بن خديج.
قلت: ليس لرافع بن خديج ذكر هاهنا فمن أين تعتد به؟، والحديث رواه جماعة غير رافع بن خديج بل الجواب الذي فسرناه وكونه حجة عليه أنه أمر، وأقله الندب وقد ذكرناه.
م: (وما نرويه) ش: أي والذي نرويه أيضا حجة عليه وهو حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي نذكره الآن في الإبراد بالظهر.

[الإبراد بالظهر وأخير العصر في الصيف]
م: (والإبراد بالظهر في الصيف وتقديمه) ش: في أيام.
م: (في الشتاء لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» وقد

(2/40)


ولرواية أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان في الشتاء بكر بالظهر، وإذا كان في الصيف أبرد بها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مر ذكره في الباب الذي قبل هذا الفصل، وحديث الإبراد بالظهر رواه جماعة من الصحابة أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أخرج حديثه الأئمة الستة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم» .
وأبو سعيد الخدري: روى حديثه البخاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» .
وعمرو بن عقبة: روى حديثه الطبراني، والمغيرة بن شعبة: روى حديثه أحمد وابن ماجه، وابن حبان وتفرد به ابن إسحاق الأزرق وشريك بن طارق عن قيس عنه، وفي رواية للخلال وكان آخر الأمرين عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإبراد، وسئل البخاري عنه فعده محفوظا، وذكر الميموني عن أحمد أنه رجح صحته.
وقال أبو حاتم الرازي: وهو عندي صحيح، وأعله ابن معين بما رواه أبو عوانة عن طارق عن قيس عن المغيرة موقفا قال: ولو كان عند قيس عن المغيرة مرفوعا لم يفتقر إلى أن يحدث به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوفا، وقوى ذلك عنده أن أبا عوانة أثبت من شريك.
وصفوان: روى حديثه ابن أبي شيبة والحاكم والبغوي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - من طريق القاسم بن صفوان عن أبيه بلفظ: «أبرودوا بصلاة الظهر» .
والحديث عن ابن عباس: روى حديثه البزار بلفظ «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك يؤخر الظهر حتى تبرد، ثم يصلي الظهر والعصر» . الحديث، وفيه عمرو بن صهبان. وعبد الله بن عمر: روى حديثه البخاري وابن ماجه ولفظه «أبردوا بالظهر» ، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين -: روى حديثها ابن خزيمة بلفظ: «أبردوا بالظهر في الحر» .
م: (ولرواية أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان في الشتاء بكر بالظهر وإذا كان في الصيف أبرد بها» ش: أخرجه البخاري من حديث خالد بن دينار قال: «صلى بنا أميرنا الجمعة ثم قلت لأنس: كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الفرض؟ قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اشتد البرد عجل بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالظهر» .
فإن قلت: يعارض هذه حديث أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خباب بن الأرت قال:

(2/41)


وتأخير العصر ما لم تتغير الشمس في الصيف والشتاء؛ لما فيه من تكثير النوافل لكراهتها بعده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشكونا إليه حر الرمضاء فلم يشكنا أي لم يزل شكوانا» . والهمزة فيه للسلب.
قلت: هذا منسوخ بين نسخه البيهقي.
وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يدل على النسخ حديث المغيرة كنا نصلي بالهاجرة فقال لنا أبردوا فتبين أن الإبراد كان بعد التهجير.

م: (وتأخير العصر ما لم تتغير الشمس في الشتاء والصيف) ش: أي ويستحب تأخير صلاة العصر وهو قول ابن مسعود، وأبي هريرة وأبي قلابة عبد الملك بن محمد، وإبراهيم النخعي، والثوري، وابن شبرمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين -، ورواية عن أحمد وقال الليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق: الأفضل تعجيلها وهو ظاهر قول أحمد، احتجوا بما رواه أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس مرتفعة حينئذ؛ فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة» أخرجوه، والعوالي: أربعة أميال من المدينة، وقيل ستة أميال وعند مالك: يستحب تأخيرها قليلا.
م: (لما فيه من تكثير النوافل لكراهتها بعده) ش: أي لما في تأخير العصر من التمكن على تكثير النوافل وبعده يكره التنفل، وتكثير النوافل أفضل من المبادرة إلى الأداء في أول الوقت، واكتفى المصنف بالدليل العقلي: ما رواه أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حديث يزيد بن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه عن جده قال: «قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية» وروى رافع بن خديج «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بتأخير هذه الصلاة يعني العصر» . أخرجه الدارقطني وغيره.
وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أشد تعجيلا للظهر منكم] ،

(2/42)


والمعتبر فيه تغير القرص، وهو أن يصير بحال لا تحار فيه الأعين، هو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأنتم أشد تعجيلا للعصر منه» أخرجه الترمذي من حديث إسماعيل بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورواه أيضا عن ابن جريج عن أبي مليكة عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين - نحوه، فدل على أنه كان يعجل الظهر ويؤخر العصر عكس ما يفعل أولئك.
وروى الطحاوي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتي» . قال الطحاوي الشمس لا ينقطع منها إلا عند قرب الغروب.
وعن أنس: " كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس بيضاء ". رواه الطحاوي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وقال: تواترت الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن الصحابة من بعده التأخير ما لم تتغير الشمس.
والجواب: عن حديثهم أن الطحاوي وغيره قال: أدنى العوالي ميلان أو ثلاثة فيمكن أن يصلي العصر في وسط الوقت، ويأتي العوالي والشمس مرتفعة.
وفي " المبسوط " وحديث أنس قد كان في الصيف ويأتي مثله للتعجيل، أو كان ذلك في وقت مخصوص لعذر.

م: (والمعتبر فيه تغير القرص) ش: أي العبرة في تغير الشمس هو تغير قرصها، واختلفوا فيه فذهب المصنف إلى أن تغير القرص بأن لا تحار فيه الأبصار، وهو معنى قوله.
م: (وهو) ش: أي القرص.
م: (أن يصير بحال لا تحار فيه الأعين) ش: يعني لا تحار الأعين في النظر إليه لذهاب ضوئه، وعن النخعي تغير الضوء. قلنا: تغير الضوء يتحقق بعد الزوال، وقيل: أن يتغير الشعاع على الحيطان، وقيل: توضع طشت ماء الأرض المستوية فإن ارتفعت الشمس على جوانبه فقد يتغير الشمس وإن وقعت في الشمس فلم يتغير.
وفي " المحيط " تغيرها بصفرة أو حمرة، وفي " المرغيناني ": إذا كانت الشمس، مقدار رمح لم يتغير ودونه قد تغيرت، وقيل: إن كان يمكن النظر إلى القرص من غير كلفة ومشقة فقد تغيرت.
م: (وهو الصحيح) ش " أي تغير القرص وهو الذي فسره، وهو قول الشعبي هو الصحيح واحترز به عن بقية الأقوال التي ذكرناها.

(2/43)


والتأخير إليه مكروه. ويستحب تعجيل المغرب لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل: هو الصريح واحترز عن قول سفيان وإبراهيم النخعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أن المعتبر تغير الضوء الذي يقع على الجدار، فإن قلت: أخذ هذا من صاحب " الدراية " فإنه قال: وبه أخذ الحاكم الشهيد.
والصواب: أن المصنف احترز به عن بقية الأقوال كما ذكرنا، ولا يقيد تعيين أحد الأقوال المذكورة في الاحتراز.

م: (والتأخير إليه مكروه) ش: أي إلى تغير القرص مكروه، وفي " القنية " هذه الكراهة هي كراهة تحريم، قالوا: أما الفعل فغير مكروه لأنه مأمور بالفعل ولا تستقيم إثبات الكراهة للشيء مع الأمر به.
م: (ويستحب تعجيل المغرب) ش: أعاد الفعل لما بعد المعطوف عليه ويستثنى منه ليلة النحر إذا قصد للمزدلفة فإنه لا يستحب تعجيلها وفي الآخر اختلاف، ويقال إلا أن يكون التأخير قليلا، وفي السنة لا يكره في البقرة والمائدة، أو كان يوم غيم ولو أخره لتطويل القراءة فيه خلاف.
وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يكره التأخير ما لم يغب الشفق.
وفي " المبسوط " كان عيسى بن أبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول الأولى تعجيلها للآثار ولكن لا يكره تأخيره مطلقا، ألا ترى أن تعذر السفر والمرض يؤخر المغرب ليجمع بينها وبين العشاء فعلا، فلو كان المذهب التأخير مطلقا لما أبيح ذلك بعد السفر والمرض كما لا يباح تأخير العصر إلى تغير الشمس.
واستدل فيه بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب ليلة.
والجواب: عن هذا أن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا كان من باب المد، والمد من أول الوقت إلى آخره معفو.
م: (لأن تأخيرها مكروه) ش: أي لأن تأخير المغرب مكروه للحديث الذي يأتي.
م: (لما فيه من التشبه باليهود) ش: أي لما في تأخير المغرب من التشبه باليهود والرافضة يؤخرون المغرب حتى تشتبك النجوم.
وقد أورد على قوله ويستحب تأخير المغرب لأن تأخيرها مكروه، بأن كل ما كان يكون تأخيرها مكروها لا يستلزم أن يكون تعجيلها مستحبا لجواز أن يكون مباحا، ألا ترى أن تأخير العشاء إلى النصف الأخير مكروه، ويلزم من تركه الاستحباب لأن التأخير إلى نصف الليل مباح، ولما فطن المصنف ذلك أراد أن يبرهن فقال: لما فيه من التشبه باليهود لأن ما فيه التشبه باليهود فتركه مستحب؛ لأن الإباحة فيه قد تنصرف إلى المسامحة. وذكر الأترازي: الإيراد المذكور بقوله لا نسلم ثبوت الاستحباب من نفي الكراهية، ثم أجاب بقوله: لا شك أن انتفاء أحد

(2/44)


وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النقيضين مستلزم لوجود الآخر، وهنا بالتعجيل إذا انتفت الكراهة ثبت الاستحباب ضرورة.
وأجاب السغناقي: بأن الاستدلال على ثبوت المدعي بحكم الضد مستقيم فيما لا واسطة بينهما ولا يستقيم فيما فيه الواسطة وعن هذا افتراق الاستدلال في حق المغرب والعشاء، ألا ترى أنك لو قلت: هذا متحرك لأنه ليس بساكن يصح، ولو قلتك: هذا أبيض لأنه ليس بأسود لا يصح لجواز أن يكون أصفر أو غيره.
وقال الأكمل: وما ذكره في " النهاية " وغيره في جواب هذا السؤال مبنيا على أمر الضدين والنقيضين لا يتمشى.
قلت: من يقول الضدين على جواب السغناقي رد بقوله، أو النقيضين على كلام الأترازي.

[تعجيل المغرب]
م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء» ش: هذا الحديث له أصل ولكن بغير هذه العبارة، روى أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " سننه " من حديث محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله عن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال أمتي بخير أو قال على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم» . مختصرا وتمامه عن مرثد بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدم علينا أبو أيوب غازيا، وعقبة بن عامر يومئذ على مصر، فأخر المغرب فقام إليه أبو أيوب فقالوا له ما هذه الصلاة يا عقبة؟ قال: شغلنا، قال: أما سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «لا تزال أمتي بخير» اهـ.
ورواه الحاكم في " المستدرك " وقال صحيح على شرط مسلم، وأخرجه ابن ماجه عن العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم» . والمراد من الفطرة السنة كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عشرة من الفطرة» .
وقوله: «إلى أن تشتبك النجوم» ، فكلمة " أن " مصدرية والتقدير إلى أن اشتباك النجوم يقال اشتبك النجوم إذا ظهرت جميعها واختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها، وجه التمسك أن التأخير لما كان سببا لزوال الخير كان التعجيل سببا لاستجلائه وكلمة ما في المتن توقيت الفعل بمعنى المصدر إلى زمان تعجيلهم للمغرب.
وقال الأكمل: واعترض على المصنف في تأخير الحديث عن الدليل العقلي وأجيب بأنه فعل ذلك لأن الحديث فيه دلالة على تأخير العشاء، فكره الفصل بينه وبين المدلول بدليل عقلي ثم

(2/45)


قال: وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: وليس بطائل.
قلت: هذا الاعتراض وجوابه للأترازي فإنه قال:
فإن قلت: قدم صاحب " الهداية " الدليل العقلي على النقلي وكان حقه أن يعكس.
قلت: وقع في خاطري الإلهام الرباني أن صاحب " الهداية " إنما أخر الحديث عن الدليل العقلي وذكره متصلا بما له تأخير العشاء، لأن الحديث فيه استحباب تأخير العشاء أيضا فكره أن يفصل بين الحديث وبين مسألة تأخير العشاء.
قلت: وقع في خاطري بالإلهام الرباني أن هذا الجواب غير طائل كما أشار إليه الأكمل، والجواب الطائل هو أنه إنما أخر الدليل العقلي لأنه دليل استحباب تعجيل المغرب ودليل أيضا للدليل اللفظي، لأنه علل كراهة التأخير لأجل التشبه باليهود؛ فإنهم يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم، كما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عجلوا بالمغرب ولا تشبهوا باليهود» ، فأخروا عنه حتى يشمل المدلول ودليله العقلي أيضا، وكان ذكره على الطريقة المعهودة من تقديم المدلول وتأخير الدليل فافهم.

[تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل]
م: (قال) ش " أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل) ش " أي يستحب تأخير صلاة العشاء إلى ما قبل ثلث الليل، وفي بعض نسخ القدوري إلى نصف الليل، وعن الطحاوي: التأخير إلى ثلث الليل مستحب وبه قال مالك، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأكثر أصحابه والتابعين ومن بعدهم قاله الأترازي، وإلى النصف مباح وما بعده مكروه.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: تقديمها أفضل، وهو لا يصح كسائر الصلوات، وفي الجديد: تأخيرها أفضل ما لم يجاز وقت الاختيار.
وحكى ابن المنذر: أن المنقول عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما إلى ما قبل ثلث الليل وهو مذهب إسحاق والليث أيضا، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كتبه الجديدة. وفي الإملاء القيم تقديمها، وقال النووي: وهو الأصح، وقطع الأترازي في " الكافي " بتفصيل التأخير، قال: وهو أقوى دليلا.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل» ش: روي هذا عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني وعلي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين -، وروي أيضا في هذا الباب: عن ابن عباس وابن عمر وأنس وأبي هريرة وجابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.

(2/46)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فحديث أبي هريرة: رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبيد الله بن عمر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» ، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وحديث زيد بن خالد رواه الترمذي في " الطهارة " والنسائي في " الصوم " قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، وأخرت العشاء إلى ثلث الليل» الحديث، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وذكره الشيخ علاء الدين التركماني فعزى هذا الحديث بتمامه لأبي داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم يخرج منه إلا فضل السواك ولم يذكر فيه تأخير العشاء، والعجب من أصحاب الأطراف كابن عساكر والحافظ المزني حيث لم يتنبها إلى ذلك وما قصر الحافظ المنذري حيث بين ذلك، وقال: حديث الترمذي مشتمل فيه على الفضلين فضل السواك وفضل الصلاة.
وأعجب من ذلك ما ذكره النووي في " الخلاصة " مقتصرا على فضل تأخير العشاء وعزاه لأبي داود والتزمذي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وحديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رواه البزار بسنده عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل»
قال: ولا نعلمه يروى عن علي إلا بهذا الإسناد.
وحديث أبي سعيد: قال ابن أبي حاتم سمعت أبي وذكر حديث مروان الفزاري عن محمد بن عبد الرحمن بن مهران عن سعيد المقبري عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل» قال أبي: إنما هو عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروى ابن ماجه هذا الحديث من رواية داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلى المغرب ثم لم يخرج حتى ذهب شطر الليل ثم خرج فصلى بهم، وقال: لولا الضعيف والسقيم لأحببت أن أؤخر هذه الصلاة

(2/47)


ولأن فيه قطع السمر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى شطر الليل»
وحديث ابن عباس: رواه البخاري ومسلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أخر العشاء حتى ذهب من الليل ما شاء فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا رسول الله نام النساء والصبيان والولدان، فقال حين خرج لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوا هذه الساعة» .
وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رواه مسلم قال: «مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعضه، فلا يدري أي شيء شغله في أهله أو غير ذلك، فقال حين خرج: إنكم تنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن أشق على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى» .
وحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رواه البخاري ومسلم قال: «أخر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال: صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها» .
وحديث أبي بردة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رواه البخاري ومسلم قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستحب أن يؤخر العشاء التي يدعونها العتمة» .
وحديث جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رواه مسلم قال: «كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤخر العتمة» .
فإن قلت: كيف ثبت الاستحباب هاهنا والسنة في السواك مع أن " لولا " فيهما على شق واحد.
قلت: انتفى الأمر في السواك لمانع المشقة، ولو أمر لكان واجبا، فلما انتفى الأمر لمانع المشقة، يلزم فوات ما دون نقص الأمر وهو السنة، والمنتفى لمانع هو التأخير، ومفسر التأخير لم يدل على الوجوب بل يدل على الندب والاستحباب.
وقال الأترازي وصاحب " الدراية ": وأيضا وجدت المواظبة في السواك ولم توجد في التأخير.
قلت: فعلى هذا كان ينبغي أن يكون السواك واجبا على مذهب بعضهم.
م: (ولأن فيه) ش: إي في تأخير العشاء م: (قطع السمر) ش: بفتح الميم وهو المحادثة لأجل المؤانسة. وقال ابن الأثير: السمر من المسامرة وهي الحديث بالليل، وأصل السمر ضوء القمر وسموه بضوء القمر لأنهم كانوا يتحدثون فيه، وجاء بسكون الميم فيكون مصدرا.

(2/48)


المنهي عنه
بعده، وقيل: في الصيف تعجل كيلا تتقلل الجماعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (المنهي عنه) ش: أي السمر هو الذي نهى عنه.
(بعده) ش: أي بعد العشاء، والحديث الذي فيه النهي عن السمر رواه الأئمة الستة في كتبهم من حديث أبي برزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستحب أن يؤخر العشاء التي يدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها» .
وقال الطحاوي: إنما يكره النوم بعدها لمن حشي فوت وقتها أو فوت الجماعة منها، وأما من دخل [ ... ] من يوقظه لوقتها يباح له النوم.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جدب لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السمر بعد العشاء» ، رواه ابن ماجه وقال: يعني زجرنا عنه، ونهانا عنه، وجدب بالجيم والدال المهملة وفي آخرها باء موحدة. قال ابن الأثير: وفي حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جدب السمر ذمه وعابه، وكل غائب جادب.
1 -
وقد أجاز العلماء السمر بعد العشاء في الخير، واستدلوا على ذلك بما أخرجه البخاري ومسلم عن سالم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قال: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض [أحد] ".»
وروى الترمذي في الصلاة والنسائي في المناقب عن إبراهيم عن علقمة عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمر عند أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة في الأمر من أمر المسلمين وأنا معهما» .

م: (وقيل في الصيف تعجل) ش: أي العشاء، وفي " المحيط " و " البدائع " ويؤخر العشاء إلى ثلث الليل أفضل وتعجل في الصيف.
م: (كيلا تتقلل الجماعة) ش: قال شيخ الإسلام: وتأخير العشاء إلى ثلث الليل أفضل عند علمائنا في الشتاء من التعجيل في الوقت، وفي الصيف التعجيل من التأخير. وكذلك ذكر التفضيل بين الشتاء والصيف في " فتاوي قاضي خان " م: (كيلا تتقلل الجماعة) ش: لأن الليل قصير والنوم غالب.
وقال الأترازي: قال بعض الشارحين كان من حق هذا القول أن يؤخر عن التقاسم أجمع من قوله وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل، وقوله والتأخير إلى نصف الليل وقوله وإلى نصف الأخير مكروه، أو يقوم على القاسم أجمع.
أقول: ليس كما قال الشارح، بل كلام المصنف وقع موقعه، وأجاب نحوه لأنه لو أخر عن

(2/49)


والتأخير إلى نصف الليل مباح؛ لأن دليل الكراهة - وهو تقليل الجماعة - عارضه دليل الندب وهو قطع السمر بواحدة، فتثبت الإباحة إلى النصف، وإلى النصف الأخير مكروه؛ لما فيه من تقليل الجماعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جميع التقاسم يظن ظان أن المراد من هذا التعجيل هو التأخير إلى ما قبل ثلث الليل، لأنه تعجيل أيضا بالسنة إلى نصف الليل وإلى نصف الأخير، فلما ذكر هذا القول بعد ذكر ثلث الليل لأنه تعجيل لم يفهم منه إلا التعجيل في أول الوقت، أما التقديم فلا معنى له، لأن المصنف إنما قال بلفظ قيل في المصنف، وإنما يستعمل لفظ قيل إذا سبق قبله قوله آخر، يعني أن تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل مستحب في الصيف والشتاء، وقيل في الصيف يعجل ولا يؤخر انتهى.
قلت: أراد ببعض الشارحين السغناقي فإنه قال: نقل ما نقله عنه لكنه قال في آخر كلامه: لما أن هذه التقاسم في حق الشتاء لا في حق الصيف، وترك بقية كلام السنغاقي وبقي كلامه، وليس كذلك على ما لا يخفى.
م: (لأن دليل الكراهة وهو تقليل الجماعة عارضه دليل الندب وهو قطع السمر بواحدة) ش: بتاء التأنيث أي سمرة واحدها بالخلاف للموصوف، وفسره تاج الشريعة بقوله: أي بالكلية ومعناه بالفارسية - يكبار - وأخذ عنه هذا التفسير الأكمل وصاحب " الدراية ". وفي بعض النسخ بواحد بغير تاء التأنيث. وقال صاحب " الدراية ": أي بواحد من الناس وهذا عبارة عن المبالغة في قطع السمر، لأنه لما انقطع بواحد كان منقطعا باثنين وما فوقه أيضا. وقال الأترازي: بواحد أراد به نفي السمر عن شخص واحد، مبالغة في نفي السمر على وجه العموم، لأن السمر إذا كان منفيا عن واحد كان منفيا عن الجميع لأن النكرة إذا وقعت في موضع النفي عمت.
قلت: هذه التفاسير كلها ليست بظاهرة، أما تفسير " تاج الشريعة " فإنه ليس مما يقتضيه معنى الكلمة إلا إذا قدرنا الموصوف كما ذكرنا. وأما تفسير صاحب " الدراية " لفظ بواحد بغير التاء بقوله بغير واحد من الناس فهو أيضا خلاف الظاهر، وأما تفسير الأترازي فأبعد من الكل لأنه أين النكرة التي وقعت في موضع النفي حتى تعم.
م: (فتثبت الإباحة إلى النصف) ش: هذه نتيجة الكلام الذي قبله، أي إباحة التأخير إلى نصف الليل.
م: (وإلى النصف الأخير مكروه) ش: أي تأخيره إلى النصف الأخير من الليل مكروه.
م: (لما فيه) ش: أي في التأخير إلى نصف الليل الأخير م: (من تقليل الجماعة) ش: وفي

(2/50)


وقد انقطع السمر قبله،
ويستحب في الوتر لمن يألف صلاة الليل أن يؤخره إلى آخر الليل، فإن لم يثق بالانتباه أوتر قبل النوم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فيوتر آخره» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" القنية ": كراهة التأخير إلى النصف الأخير للتحريم م: (وقد انقطع السمر قبله) ش: الواو فيه للحال، والغالب أن السمر لا يكون في النصف الأخير يثبت الكراهة لبقاء دليلها سالما عن المعارض.
وقال الأكمل: واعترض بتعجيل النحر في أول الوقت فإنه مباح ودليل الكراهة وهو تقليل الجماعة سالم عن معارضة دليل النجم.
وأجيب: بأن المعارض هناك أيضا موجود وهو قَوْله تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] (آل عمران: الآية 133) فإن المسارعة إلى العبادة بعد وجوب السبب مندوب إليها لو لم يكن فيها التأخير يعني تكثير الجماعة، فكان فيه تعارض دليل الندب وهو المسارعة إلى العبادة مع دليل الكراهة وهو تقليل الجماعة؛ فثبتت الإباحة لذلك بخلاف تأخير العشاء إلى النصف الأخير، فإن دليل الكراهة فيه سالم عن معارضة دليل الندب أصلا؛ لأنه ليس فيه المنازعة لأداء العبادة ولا تكثير الجماعة ولا قطع السمر لانقطاعه قبله.
قلت: أخذ الأكمل هذا من السغناقي. وقال صاحب " الدراية ": فيه تأمل.

م: (ويستحب في الوتر لمن يألف صلاة الليل) ش: أي لمن له إلفة وعادة بالصلاة في الليل أن يؤخر الوتر إلى: م: (آخر الليل) ش: في غالب النسخ، ويستحب في الوتر لمن يألف الصلاة آخر الليل فعلى هذا يجوز في لفظ آخر النصب على الظرفية، والتقدير، يوتر في آخر الليل وهذا روي، ويجوز الرفع أيضا بأن يكون مفعولا أقيم مقام فاعل يستحب، وهذا روي أيضا. وقال الأترازي وغيره: عندي الأول هو الأولى لأن في الثاني يحتاج إلى التأويل والأصل عدم التأويل.
قلت: أراد بالأول: الرفع، وبالثاني: النصب ونحوه من كلامه بأن الإسناد في الأول على وجه المجاز، فلا يخرج عن التأويل.
م: (وإن لم يثق بالانتباه أوتر قبل النوم) ش: لأن من ليس له إلفة بصلاة الليل آناء آخر الوقت لا بأس من الفوات لغلبة النوم.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخره» ش: الحديث رواه مسلم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: " متى توتر؟ قال: أول الليل بعد العتمة قال

(2/51)


فإذا كان يوم غيم، فالمستحب في الفجر والظهر والمغرب تأخيرها،
وفي العصر والعشاء تعجيلهما؛ لأن في تأخير العشاء تقليل الجماعة على اعتبار المطر، وفي تأخير العصر توهم الوقوع في الوقت المكروه، ولا توهم في الفجر؛ لأن تلك المدة مديدة وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - التأخير في الكل للاحتياط،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أخذت بالوثقى، ثم قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - متى توتر؟ قال آخر الليل. قال: أخذت بالقوة» .
م: (فإذا كان يوم غيم) ش: يوم: مرفوع لأنه اسم كان، والغيم: السحاب، وفيه إشارة إلى أن الذي ذكره قبله من استحباب فيما إذا كانت السماء مضحية، أما إذا كان يوم غيم م: (فالمستحب في الفجر والظهر والمغرب تأخيرها) ش: قوله فالمستحب خبر كان ودخول الفاء عليه لتوهم معنى الشرط في كلمة. أما قوله تأخير الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة.
وفي " الينابيع " " والمحيط " " والتحفة " " والقنية " وغيرها: إن كانت السماء مغيبة فكل صلاة أولها حين عجلت، يقال: غابت السماء وأغامت بالإعلال، وأغمته بالتصحيح على الأصل إذا كان بها غيم.
وفي " المبسوط ": المستحب تعجيل المغرب في كل وقت ولم يذكر التأخير في يوم الغيم، وقال القاضي: نص العمل في رواية الجماعة على استحباب تأخير الظهر والمغرب في الغيم وتعجيل العصر والعشاء. قال ابن المنذر: عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا كان يوم غيم فأخروا الظهر وعجلوا العصر. وقال المهلب: لا يصح التبكير في الغيم إلا بصلاة العصر والعشاء.

م: (وفي العصر والعشاء تعجيلهما) ش: أي يستحب في صلاة العصر والعشاء تعجيلها، وتوحيد الضمير باعتبار لفظ الصلاة المقدرة وفي العصر والعشاء كما قدرنا.
(لأن في تأخير العشاء تقليل الجماعة على اعتبار المطر) ش: أي على اعتبار وقوع المطر، وحصول الطين والغيم الرطب سبب المطر وتكاسل الناس في الخروج إلى المسجد مترخصين بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا بلت النعال فالصلاة في الرحال» .
م: (وفي تأخير العصر توهم الوقوع في الوقت المكروه) ش: وهو وقت اصفرار الشمس.
" ولا توهم في الفجر لأن تلك المدة مديدة " يعني ما بين التنوير وطلوع الشمس مدة مديدة يؤمن أن يقع الأداء وقت طلوع الشمس.
م: (وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التأخير في الكل) ش: أي في الصلاة، روى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا كان يوم غيم فالمستحب في جميع الصلوات التأخير كذا في " المبسوط "، وفي " البدائع " وهو اختيار الفقيه الجليل أبي أحمد العياضي لأن في التردد ترددا بين الأداء والقضاء، وفي التعجيل بين الصحة والفساد وأشار إلى ذلك بقوله (للاحتياط) ش: في

(2/52)


ألا ترى أنه يجوز الأداء بعد الوقت لا قبله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصحة والفساد.
م: (ألا ترى أنه يجوز الأداء بعد الوقت لا قبله) ش: وصح بذلك وجه الاحتياط وذلك لأنه إذا أخر في يوم الغيم صلاة من الصلوات بوقت بعد خروج الوقت، فصلاته جائزة تسقط عنه الفرض، بخلاف ما إذا عجل ووقعت قبل دخول الوقت فإنها فاسدة فيجب عليه الإعادة.

(2/53)


فصل في الأوقات التي تكره فيها الصلاة لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس، ولا عند قيامها في الظهيرة، ولا عند غروبها؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الأوقات التي تكره فيها الصلاة]
م: (فصل في الأوقات التي تكره فيها الصلاة) ش: أي هذا فصل في بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة، ولقب الفصل بما يكره مع أن فيه ما لا تجوز الصلاة فيه باعتبار الغالب، ولأن علة الجواز مستلزم الكراهة والإفراغ من بيان أحد قسمي الوقت، شرع في بيان القسم الأول.
م: (لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند قيامها في الظهيرة ولا عند غروبها) ش: الظهيرة شدة الحر نصف النهار، ولا يقال في الشتاء ظهيرة، ويجمع على الظهائر. وقال الجوهري: الظهيرة: الهاجرة، يقال أتيته حر الظهيرة وحين قام قائم الظهيرة، وقال الهاجرة والهجر نصف النهار عند اشتداد الحر.
م: (قوله: لا تجوز الصلاة) ش: قال تاج الشريعة: إذا أريد منها الفرض بها نفي الجواز مطلقا وإن يراد غيره فمعناه الكراهة، والكراهة مطلق على الجائز وعلى غيره، ويجوز إطلاقها على الفرائض والواجبات التي لا تجوز في الأوقات، وعلى الفعل الذي يجوز. وقال السروجي: والمراد من قوله لا يجوز لا نبغي أن يفعل ولو فعل يجوز.
وقال صاحب " الدراية ": ففي قوله - (لا تجوز الصلاة) أي لا تجوز فعله ولو شرع يلزم كما في البيع الفاسد، لأن النهي عن الأفعال الشرعية بعض المشروعية. وفي " الزاد " أراد به ما سوى الفعل.
قلت: فعلى هذا المراد من قوله لا تجوز الصلاة نوع مخصوص، وهو الفرض وليس المراد جنس الصلاة حتى لو صلى النوافل في الأوقات المكروهة يجوز، لأنه أدى كما وجبت لأن النافلة تجب بالشروع، وشروعه حصل في الأوقات المكروهة ولهذا قال الإمام الإسبيجابي في " شرح الطحاوي ": ولو صلى التطوع في هذا الأوقات الثلاث فإنه يجوز ويكره. وقال الكرخي: ويجوز واجب البناء إذا تقدم. قال الإسبيجابي: فالأفضل له أن يقطع ويقضيها في الوقت المباح، وإنما لا تجوز الفرائض في هذه الأوقات لأنها وجبت كاملة فلا يتأدى بالناقص.
فإن قلت: قوله لا يجوز إذا استعمل في عدم الجواز بالنسبة إلى الفرائض وفي الكراهة بالنسبة إلى النوافل وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز.
قلت: على غير هذه الرواية لا يلزم ذلك، لأن في غير ظاهر الرواية لا يجوز النفل أيضا وأما

(2/54)


لحديث عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ثلاثة أوقات نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا: عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند زوالها حتى تزول، وحين تضيف للغروب حتى تغرب» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على ظاهر الرواية من أن النفل يجوز مع الكراهة، فلا يستقيم إلا إذا كان رأوه عدم الجواز مطلقا كما ذهب إليه البعض.
وفي " المبسوط " " والمحيط " الأوقات التي تكره فيها الصلاة خمسة. ثلاثة منها لا يصلي فيها أحد الصلاة: عند طلوع الشمس إلى أن تبيض، وعند زوالها، وعند غروبها إلا عصر يومه، ولا تتطوع بعد طلوع الفجر إلا بركعتيه إلى أن ترتفع الشمس، ولا يتطوع بعد صلاة العصر.

وذكر في " التحفة " " والقنية " " والمفيد " أن الأوقات التي تكره فيها الصلاة اثني عشر وقتا ثلاثة منها تكره لمعنى في الوقت وهي المذكورة آنفا، ففي هذا الثلاثة يكره التطوع التي ليس فيها سبب في جميع الأيام والأمكنة ولو شرع فيها صح شروعه وجاز أداؤها فيه. وفي " المحيط ": في الرواية المشهورة لكن الأولى قطعها وأداؤها في وقت غير مكروه، وقال في " المحيط " ولو قضاها في غير وقت مكروه جاز، وقد أساء خلافا لزفر.
وكذا ما له سبب كركعتي الطواف وتحية المسجد وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة والمنذورة في هذه الأوقات، والأولى أن لا يؤخر صلاة الجنازة لأن تأخيرها مكروه. وفي " المفيد " إن حضرت في وقت مستحب لا يجوز فيها بخلاف ما ذكره، ونص الكرخي على أنه لا يجوز فيها صلاة الجنازة ولا سجدة التلاوة، ولا يقضي فرضا ولا يصلي تطوعا، وكذا يكره أداء فرض العصر عند تغير الشمس. ولا يصح الفرض عند الطلوع والزوال، وأما قضاء الفرائض والمنذورة وقضاء الواجبات الفائتة وسجدة التلاوة في وقت غير مكروه والوتر من ذلك لا يجوز في هذه الأوقات، وفي البواقي من اثني عشر بمعنى في غير الوقت وهي تسعة: بعد طلوع الفجر، وبعد فرض الفجر قبل الطلوع وقبل صلاة العصر، وبعد الغروب، قبل المغرب وعند الخطبة، وعند الإقامة، وعند خطبة العيدين، وعند خطبة الكسوف، وخطبة الاستسقاء كذا في " التحفة " ولكن بلفظ الكراهة. وفي " المجتبى " ولا تنفل بعد صلاة الجمع بعرفات والمزدلفة وذكروا أنها الصلاة قبل العيد.
م: (لحديث عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ثلاثة أوقات نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند زوالها حتى تزول، وحين تضيف للغروب حتى تغرب» ش: هذا الحديث رواه مسلم والأربعة من حديث موسى ابن علية بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب» وأن نقبر فيها: المراد منه الصلاة على الميت

(2/55)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على ما يذكره المصنف عن قريب.
قوله: تضيف، أي تميل للغروب وقد وقعت هذه اللفظة هاهنا بتاءين وأن [......] وقعت بتاء واحدة وأصله بتاءين لأنه من تضيف، ويجوز فيه أيضا التاءين على الأصل ويجوز فيه حذف إحداهما كما في قوله: {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] (سورة الليل: الآية 14) أصله: تتلظى فحذفت إحدى التاءين، وثلاثية ضاف يضيف أي مال، يقال: ضافت الشمس وضيفت وتضيفت أي مالت للغروب.
قوله م: (حتى ترتفع) ش: أي الشمس، وحد الارتفاع الذي يباح فيه الصلاة اختلفوا فيه في الأصل إذا ارتفعت الشمس، قدر رمح أو رمحين تباح الصلاة. وقال الفضل: ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرصها فالشمس في الطلوع، ولا تباح الصلاة فيه فإذا عجز عن النظر يباح. وقال أبو حفص السفكردري: يؤتى بطست ويوضع في أرض مستوية ما دامت الشمس تقع على حيطانها فهي في الطلوع، وإذا وقعت في وسطه فقد طلعت وحلت الصلاة كذا في " المحيط ".
فإن قلت: التخصيص بالثلاث في العدد يفيد الانحصار عليه، وقد ذكرت تسعة أوقات لا يجوز فيها النفل، وتلك التسعة غير هذه الثلاثة فيلزم منه إبطال العدد.
قلت: إنما يلزم هذا أن لو كان المزيد مثل حكم المزيد عليه، فالثلاثة المنصوصة حكمها أن لا يجوز الفرائض والنوافل أيضا في بعض الروايات، وأما غيرها فليس في معناها لأنه يجوز قضاء الفوائت وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة فيها بخلاف الثلاثة المذكورة فإن ذلك لا يجوز فيها، وإذا كان المعنى يختلف لا يلزم الإبطال بل يكون كل واحد منهما ثابتا بدليل على حدة.
فأما الثلاثة المذكورة فبحديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأما غيرها فبأحاديث أخرى مثل «لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس» .
فإن قلت: إذا لم تجز الفرائض في هذه الأوقات فلو شرع فيها ثم قهقه هل ينقض وضوءه؟
قلت: لا ينتقض لأن شروعه لم يصح فلا تصادق قهقهته صلاة شروعه، وقال في نوادر الصلاة ": من الصلاة لو طلعت الشمس وهو في خلال صلاة الفجر ثم قهقه قبل أن يسلم فليس عليه وضوء لصلاة أخرى.
أما على قول محمد فلأنه صار خارجا عن الصلاة بطلوع الشمس، وهي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي الرواية الأخرى وإن لم يصر خارجا من حد التحريمة فقد فسدت صلاته بطلوع الشمس لأنه لا يجوز أداء الفعل في هذا الوقت كما لا يجوز أداء الفرض، فالضحك في هذه الحال دون الضحك في صلاة الجنازة فلا يجعل حدثا، وعلى قياس قول أبي

(2/56)


والمراد بقوله: " وأن نقبر ": صلاة الجنازة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويلزمه الوضوء خصوصا على الرواية التي رويت عنه أنه يصير حتى تطلع الشمس ثم يتم الفريضة فعلى هذه الرواية أن ضحكه صادف حرمة صلاة مطلقة فكان حديثا.

م: (والمراد بقوله - وأن نقبر - صلاة الجنازة) ش: المراد مبتدأ وخبره صلاة الجنازة، أي المراد من قول عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأن نقبر فيها - الصلاة على الجنازة يقال قبر يقبر من باب نصر ينصر ومصدره مقبر يعني مدفن الميت أيضا قبر يقال قبره إذا دفنه وأقبره إذا جعل له قبرا يوارى فيه.
وقال ابن السكيت: قبرته أي جعلت له قبرا يدفن فيه وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] (سورة عبس: الآية 21) أي جعله ممن يقبر ولم يجعله يلقى للكلاب فأكرم الإنسان بالقبر. وقال ابن الأعرابي: أقبر إذا أمر إنسانا بحفر قبر.
فإن قيل: قلت ذكر القبر وإرادة الصلاة من أي قبيل من المجاز أو الكناية؟
قلت: قال في " المبسوط ": وهو من باب الكناية اللازمة بينهما. وقال الأترازي: هو كناية لأنه ذكر الرديف وأراد المردوف، قلت: المراد من الملازمة المذكورة ما يكون بين اللازم والملزوم على سبيل التبعية، لأن الكناية أن يذكر في اللازمين ما هو تابع ورديف ويراد به ما هو متبوع ومردوف.
فإن قلت: ما هذا الداعي إلى هذه الدعوى فلم لا يؤخذ بظاهره فيكون دفن الميت في هذه الأوقات الثلاثة مكروها؟
قلت: اختلف العلماء في هذا الباب فأخذت طائفة بظاهره وقالوا: يكره دفن الميت في هذه الأوقات الثلاثة. وقال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ونهيه عن القبر في هذه الساعات لا يتناول الصلاة على الجنازة وهو عند كثير من أهل العلم محمول على كراهة الدفن في تلك الساعات، وكذلك حمله أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على الدفن فإنه بوب عليه في كتاب الجنازة فقال: باب ما جاء من الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها، ثم روى حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور.
وذهب أكثر أهل العلم إلى كراهة الصلاة على الجنازة في هذه الأوقات، وروي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو قول عطاء والنخعي، والأوزاعي والثوري وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه وأحمد، وإسحاق، وكذلك حمله الترمذي على الصلاة وبوب عليه " باب ما جاء في كراهة صلاة الجنازة عند طلوع الشمس وغروبها " ونقل عن ابن المبارك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يعني أن نقبر فيها موتانا يعني صلاة الجنازة انتهى. وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كان يرى الصلاة على الجنائز أي ساعة شاء من ليل أو نهار وكذلك الدفن أي وقت كان من ليل أو نهار. في أحكام ابن بريدة.

(2/57)


لأن الدفن غير مكروه،
والحديث بإطلاقه حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تخصيص الفرائض، وبمكة في حق النوافل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال بعض العلماء: لا يصلى عليها في الأوقات الثلاثة المذكورة في حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا أن يخاف عليها النتن، وقيل: لا يصلى عليها عند الغروب والطلوع فقط ويصلى بعد العصر ما لم تصفر الشمس، وبعد الصبح ما لم تسفر. وقال ابن عبد الحكم: يصلى عليها في كل وقت كالفرائض.
وقال الليث: يكره الصلاة عليها في الأوقات التي يكره فيها الصلاة. وقال عطاء والنخعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا يصلى عليها في الأوقات الخمسة المنهي عنها.
فإن قلت: هل جاء ما يدل على هذا الحمل؟.
قلت: نعم روى الإمام أبو حفص عمر بن شاهين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كتاب الجنائز من حديث خارجة بن مصعب عن ليث بن سعد عن موسى بن علي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قال: «نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نصلي على موتانا عند ثلاث: طلوع الشمس..» إلى آخره.
م: (لأن الدفن غير مكروه) ش: أي لأن دفن الميت في هذه الأوقات المذكورة غير مكروهة.

م: (والحديث بإطلاقه حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تخصيص الفرائض وبمكة في حق النوافل) ش: واختلفت نسخ " الهداية " في هذا الموضع فلذلك تردد الشراح فيه، ولم يحرروا كما ينبغي خصوصا تحرير مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما هو المسطور في كتب أصحابه المعتمد عليها. فقال السغناقي في شرحه: قوله والحديث بإطلاقه حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تخصيص الفرائض والنوافل بمكة.
وفي بعض نسخ " الهداية " لم يذكر الفرائض وذكر بمكة بالباء، وفي بعضها لم يذكر النوافل والصحيح من الرواية أن يذكر الفرائض ويذكر مكة بدون الباء.
ويقال في تخصيص الفرائض وبمكة ليكون أداء الفرائض في جميع الأمكنة، وتعميم جواز الفرائض والنوافل بمكة وذلك إنما يعاد فهذا الذي ذكرت وهكذا كان بخط شيخي، فإن عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجوز الفرائض والنوافل فإن شمس الأئمة السرخسي ذكر في " المبسوط ": حديث عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره من الأحاديث، ثم قال: والأمكنة في هذا النهي سواء عندنا لعموم الآثار. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس بالصلاة في هذه الأوقات بمكة لحديث روي في النهي إلا بمكة انتهى كلامه.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: وتخصيص الفرائض أي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يقول بعدم كراهية الفرائض في هذه الأوقات، قوله ومكة أي تخصيص مكة فإن عنده

(2/58)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينصرف هذا النهي إلى مكة حتى لا تكره النوافل فيها انتهى. وقال صاحب " الدراية ": قوله حجة على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتخصيص الفرائض ومكة.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز في هذه الأوقات الفرائض ومن النوافل ما له سبب كتحية المسجد، وركعتي الطواف، وكذا في الجمعة بعد الزوال انتهى.
وقال الأترازي: قوله والحديث بإطلاقه حجة على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في تخصيص الفرائض ومكة. - وفي بعض النسخ وبمكة بالباء - والصحيح أن يذكر ومكة بلا باء، بيانه أن الشافعي يخص الفرائض من جميع الصلاة ويقول: إن النهي ورد في حق النفل لا في حق الفرائض بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» فإن ذلك وقتها. نعلم أن الفرض ليس بمنهي عنه حتى تجوز الفرائض في الأوقات المكروهة بلا كراهة في جميع البلدان.
أما النوافل فإنها تكره في هذه الأوقات إلا بمكة، فإن مكة مخصوصة من سائر البلدان لما روى أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النهي عن الصلاة في هذه الأوقات مقرونا بقوله: " إلا بمكة، فإذن تجوز الفرائض في جميع البلدان في مكة وغيرها لأن الفرائض خصت من جميع الصلاة، وتجوز النوافل بمكة خاصة لأن مكة خصت من جميع البلدان، وعلى هذا التقدير لا يفهم إلا على رواية مكة بدون الباء فافهم، انتهى.
1 -
قال الأكمل: ما يخصه إن أراد بقوله لا يجوز الفرض وحده وإن النفل جائز مكروه، ولم يستقم جعل الحديث حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تجويز النوافل وإن كان مراده عدم الجواز في الفرض والنفل جميعا لزم عليه ما نقل عن الكرخي والإسبيجابي وهو أن النوافل تجوز وتكره، وإن كان الجواز مع الكراهة فما لم يكن الحديث حجة لنا على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا إذا أثبته أن أصحابنا يقولون بالجواز مع الكراهة، وهو يقول بالجواز بلا كراهة.
قال: ولم أطلع على ذلك فيما وجدته من النسخ وإن كان عدم الجواز في الفرض والجواز في النفل مع الكراهة فإن في بعض الروايات لزم اختلاف معنى اللفظ للواحد مراد نزلا على سبيل الكناية وهو غير جائز. وأرى أن المراد عدم الجواز في الفرض والنفل على بعض الروايات ولا يلزمه ما نقل عن الكرخي والإسبيجابي لأنه اختار خلافه وإذا ظهر لك ما قررناه تبين لك أن النسخة الصحيحة هو أن يقال حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تخصيص الفرائض بمكة، لأنه هو الذي يقيد ما ذكرنا من مذهبه، وإن كان فيه إعلام دون ما عداه وهو ما وقع في بعضها من

(2/59)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله في تخصيص الفرائض والنوافل بمكة، وفي بعضها في التخصيص بمكة، وفي بعضها ولم يذكر النوافل.
قلت: هذه الترديدات والتصرفات البحثية كلها من عدم الوقوف على نص مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعدم الرجوع إلى أمهات كتب أصحابه فنقول مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز الفرائض في هذه الأوقات، ومن النوافل ما له سبب كتحية المسجد وركعتي الطواف دون النوافل المطلقة، وفي مكة يجوز النوافل المطلقة أيضا.
وقال النووي في " الروضة ": يجوز في هذه الأوقات قضاء الفرائض والسنن والنوافل التي أخذها الإنسان وردا له وتجوز صلاة الجنازة وسجود التلاوة وسجود الشكر وركعتا الطواف وصلاة الكسوف، ولا يكره فيها صلاة الاستسقاء على الأصح.
وعلى الثاني يكره كصلاة الاستخارة ويكره ركعتا الإحرام على الصحيح. فأما تحية المسجد فإن اتفق دخوله الفرض كدرس علم أو اعتكاف أو انتظار صلاة ويجوز ذلك ثم يكره، وإن دخل لا لحاجة بل ليصلي التحية فوجهان أقيسهما الكراهة انتهى.
فإذا عرفت هذا عرفت أن نقل السنغاقي عن مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: فإن عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تجوز الفرائض في هذه الأوقات في جميع الأمكنة دون النوافل، وفي مكة تجوز الفرائض في عنده والنوافل ليس كما ينبغي، وكذلك ما قاله الأترازي، فإذا قابلت كلامهما بالذي قلنا آنفا عرفت أن نقلهما عن مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس على ذلك، وكذلك ما قاله الأكمل بقوله تبين أن النسخة الصحيحة إلى آخره والأقرب إلى المطالعة ما قاله صاحب " الدراية " ثم فسر النسخة التي هي قوله: (والحديث بإطلاقه) يعني بكونه متنا ولا للفرض والنفل حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتخصيص الفرائض بالجواز في هذه الأوقات أي فرض كان وفي أي مكان كان.

قوله م: (والنوافل) ش: أي وفي تخصيص النوافل بالجواز فيها حال كونها فيها بمكة أي نفل كان ولا تدل هذه العبارة على جواز النفل الذي له سبب في غير مكة، فقلت إن النسخ كلها قاصرة على الدلالة على ما ينبغي؛ ثم حجة الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مما ذهب إليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» ، جعلت وقت التذكير وقتا للفائتة مطلقا وله في جواز النفل بمكة شرفها الله تعالى الوارد في حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا بمكة. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة

(2/60)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شاء» .
وله في الجمعة حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة في نصف النهار إلا يوم الجمعة» .
وروى أبو الخليل عن أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة» . وقال ابن الجهم متحسر إلا يوم الجمعة.
والجواب عن ذلك: أما حديث: «من نام عن صلاة» إلى آخره فهو مخصوص بحديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والدليل عليه ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قفل من غزة خيبر فسار بليلة ... » الحديث، وفيه: «فناموا فما أيقظهم إلا حر الشمس» -. وفي رواية «انتبهوا - وقد بدا جانب الشمس فأداروا رحالهم شيئا ثم نزلوا للصلاة» . وإنما نقل ذلك لترتفع الشمس فلو جاز قضاء المكتوبة في حال طلوع الشمس لما أخرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الانتباه.
وعن الثاني: أن الاستثناء الوارد في حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا بمكة غريب لم يرد في المشاهير فلا يزاد به عليها أو يحتمل أنه كان قبل النهي.
وعن الثالث: أن أبا داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في إباحة الدعاء قرأ معنى صلى دعا قال أبو بكر ابن العربي: هذا الحديث لم يصح.
وعن الرابع: أن إلا في قوله - إلا يوم الجمعة بمعنى: ولا يوم الجمعة كما في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] (النساء: الآية 92) . أي لا خطأ عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحديث أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، منقطع لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة قاله أبو داود، وقال أبو الفرج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف مرة.
وفي " المغني " عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كنا ننهى عن ذلك يوم الجمعة.
وعن سعيد المقبري: أدركت الناس وهم ينهون عن ذلك وأباحه فيها عطاء في الشتاء دون الصيف، وفي بقية الأوقات يوم الجمعة وجهان عند الشافعية أحدهما يجوز لكل واحد، وفي بقية الأوقات يوم الجمعة والآخر لا يجوز إلا في وقت الاستواء يوم الجمعة، دون بقية الأوقات يوم الجمعة روي عن بعضهم تخصيص الإنشاء من بقاء الشعائر وبترجيحه قال صاحب " المهذب " وغيره.

(2/61)


وحجة على أبي يوسف في إباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال. قال: ولا صلاة جنازة لما روينا، ولا سجدة تلاوة؛ لأنها في معنى الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: يعارض حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر» . بيانه أن هذا يقتضي أنه لو شرع في صلاة الفجر وطلعت الشمس في خلالها لا تفسد الصلاة كما ذهب إليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: إنه لبيان الوجوب بإدراك جزء من الوقت قل أو كثر. ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا الباب أنه يقضي الفرائض في هذه الأوقات الثلاثة ولا يصلي النوافل سواء كان لها سبب أو لا، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أنه أجاز ركعتي الطواف وصلاة الجماعة مع إمام الحي لخوف الفوت. واختلفت الرواية عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه في صلاة الكسوف وسجود القرآن في وقت النهي.
م: (وحجة على أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إباحة النفل يوم الجمعة) ش: وحجة عطف على قوله حجة على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا بأس بالصلاة م: (وقت الزوال) ش: واستدل على ذلك بحديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد ذكرناه عن قريب مع الجواب عنه.
م: (قال) ش: أي القدروي معطوف على أول الكلام.
(ولا صلاة جنازة) ش: أي ولا تجوز صلاة الجنازة في الأوقات الثلاثة المذكورة، هذا محمول على جنازة حضرت قبل العصر لأن الصلاة تجب بحضورها كاملة ولا تؤدى بالناقص، حتى لو حضرت جنازة في هذا الوقت جازت الصلاة مع الكراهة؛ لأنها ناقصة كما وجبت.
(لما روينا) ش: وهو قوله: «وأن نقبر فيها موتانا» .
م: (ولا سجدة تلاوة) ش: عطف على ما قبله، أي ولا تجوز سجدة التلاوة، وهذا إذا كان تلا أو سمع قبل هذا الزمان فسجد في هذا الزمان بعدم إجزاء الناقص عن الكامل، أما لو تلا في هذا الزمان فسجد جازت لأنها أديت ناقصة كما وجبت.
م: (لأنها في معنى الصلاة) أي لأن سجدة التلاوة في معنى الصلاة من حيث إنه يشترط لها ما شرط للصلاة من الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، ويقال باعتبار حصول التشبه لعبدة الشمس إزالة يحصل بعد الشمس بالحول، أيضا كذا في " المبسوط ". وقال الأكمل: فإن قيل ما بالها لم تلحق بها في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ضحك منهم فقهقه فليعد الوضوء والصلاة جميعا» ، فينتقض وضوء الضاحك في سجدة التلاوة كما في الصلاة.
وأجيب بأن اللام في قوله: «فليعد الوضوء والصلاة» للعهد لأنه إنما يعيد الصلاة التي وجدت

(2/62)


إلا عصر يومه عند الغروب؛ لأن السبب هو الجزء القائم من الوقت؛ لأنه لو تعلق بالكل لوجب الأداء بعده، ولو تعلق بالجزء الماضي فالمؤدي في آخر الوقت قاض، وإذا كان كذلك فقد أداها كما وجبت، بخلاف غيرها من الصلوات؛ لأنها وجبت كاملة فلا تتأدى بالناقص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها القهقهة لا للجنس، والمعهود صلاة ذات تحريمة وركوع وسجود، والسجود المجرد ليس في معناه من كل وجه فلا يلحق به.
قلت: هذا السؤال والجواب للسنغناقي.
م: (إلا عصر يومه عند الغروب) ش: هذا استثناء من قوله - ولا عند غروبها - يعني لو صلى عصر يومه عند غروب الشمس جازت صلاته.
م: (لأن السبب) ش: أي سبب وجوب الصلاة.
م: (هو الجزء القائم من الوقت) ش: الذي يتصل به الأداء (لأنه لو تعلق بالكل) ش: أي لأن السبب لو تعلق بكل الوقت جملة م: (لوجب الأداء بعده) ش: أي لوجب أداء الصلاة بعد ذلك الوقت لوجوب تقدم السبب بجميع أجزائه على السبب فلا يكون أداء.
م: (ولو تعلق بالجزء الماضي) ش: أي ولو تعلق بسبب الوجوب بالجزء الماضي من الوقت م: (فالمؤدي) ش: بكسر الدال.
(في آخر الوقت قاض) ش: لأنه أدى بعد خروج الوقت فيكون قضاء.
م: (وإذا كان كذلك) ش: أي وإذا كان الأمر كما ذكرنا من أن السبب هو الجزء القائم إلى آخره.
(فقد أداها) ش: أي أدى الصلاة التي هي العصر.
(كما وجبت) ش: أي باتصال الأداء بها فإن كان وقتها صحيحا بأن لا يكون موصوفا بالكراهة ولا منسوبا إلى الشيطان كالظهر مثلا وجب المسبب كاملا فلا يتأدى ناقصا، وإن كان فاسدا أي ناقصا بأن يكون منسوبا إلى الشيطان كالعصر يستأنف وقت الاصفرار وجب الفرض به ناقصا فيجوز أن يتأدى ناقصا، لأنه أداه كما وجب.
م: (بخلاف غيرها من الصلوات) ش: يعني غير العصر.
(لأنها وجبت كاملة فلا تتأدى بالناقص) ش: لأن ما وجب كاملا لا تتأدى بالناقص.
وقال الأكمل: قوله - لأن السبب هو الجزء القائم من الوقت - فيه تسامح لأن السبب إما أول جزء والذي يلي الأداء الجزء والمضيق أو كل الوقت عند خروجه.
قلت: المراد بالجزء القائم من الوقت الجزء الباقي من آخر الوقت لأن السببية تنتقل من جزء

(2/63)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى جزء والسبب هو الجزء القائم. وقال صاحب " الكافي ": ما قاله فالمؤدي في آخر الوقت قاضي أشكاله لأنه مؤدي باعتبار بقاء الوقت، وأيضا يلزمه على تقدير جواز قضاء العصر في هذا الوقت لأن الجزء القائم من الوقت ناقص فيجب به العصر ناقصا فينبغي أن يجوز كعصر يومه، وأجاب عنه الشيخ عبد العزيز عن الأول بأن كلامه فيمن أخر العصر إلى الغروب، ولا شك أن السبب في حقه هو الجزء القائم من الوقت هو المعبر عنه بالجزء المضيق.
وعن الثاني بأن الجزء إذا تعين السببية بحيث لا ينتقل إلى غيره كان التأخير عنه تفويتا للواجب كالجزء الأخير من الوقت في الصلاة، والجزء الأول من اليوم في الصوم. قال الأكمل: ورد عليه بأن الفوات والتفويت عن الجزء الأخير من الوقت إنما هو باعتبار خروج الوقت لا باعتبار تعينه للسببية، وكذلك الجزء الأول من اليوم لأن وقت الصوم كل النهار فإذا فات البعض فات الكل.
قلت: لا نسلم أن التفويت بمجرد اعتبار خروج الوقت بل به، وباعتبار الجزء الأخير للسبب ألا ترى أنه إذا شرع في صلاة الظهر أو المغرب أو العشاء في الجزء الأخير ثم خرج الوقت كان ذلك أداء لا قضاء، فلو أسلم الكافر عند غروب الشمس يلزمه أداء العصر، فإن لم يتمكن حتى غربت الشمس هل تلزمه أم لا؟ فهو مبني على خلاف في ذلك.
1 -
ثم اعلم أنه لا بد من جعل جزء من الوقت سببا للوجوب فقال شمس الأئمة السرخسي: سبب الوجوب الجزء الأول من الوقت فصار السبب حكم الوجوب، وصحة أداء الواجب ولكنه وجوب موسع وهو الأصح وهكذا نقله علاء الدين الحاكم السمرقندي فيش " الميزان والتقويم " لأبي زيد، ومن الناس من ظن أن الأداء لما لم يلزم في أول الوقت لم يكن وجوب الصلاة متعلقا بأوله وأنه غلط ويتعاين وقته بالفعل كالكفارة.
وفي " مختصر البزدوي ": الوجوب بأول الجزئية من أول الوقت خلافا لبعض مشايخنا، والقاضي عبد الجبار أنكر أن قوله: من قال الصلاة في أول الوقت تقع نفلا، قال: وهذا لا يصح. وقال شمس الأئمة: ومن مشايخ العراق من يقول الوجوب لا يثبت في أول الوقت وإنما تعلق الوجوب بآخره ومستدلون عليها بما لو حاضت في آخر الوقت فصلى ركعتين، فلو كان الوجوب بأول الوقت لما سقطت الصلاة بذلك، وكذا لو مات قبل خروج الوقت لا تكون الصلاة دينا في ذمته ولا شيء عليه.
ثم عند مشايخ العراق اختلاف في صفة المروي في أول الوقت فمنهم من يقول: هو نفل يمنع لزوم الفرض في آخر الوقت إذا بقي على حال يلزمه الأداء بأن لا يعارضه جنون أو حيض وغير

(2/64)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك فيه لأنه يمكن، ثم نزل الأداء في أول الوقت لا إلى القضاء. ومنهم من قال: المؤدي في أول الوقت وقوف على ما يظهر من حاله في آخر الوقت فاعتبروه بتعجيل الزكاة قبل الحول.
وفي " المرغيناني " قال: أكثر أصحابنا الوجوب يتعلق بمقدار التحريمة.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - بمقدار ما يؤدي الصلاة وهذا القول مختار القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والأول اختيار القاضي أبي زيد الدبوسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وذكر عن الكرخي ثلاث روايات عن أصحابنا فروى الشيخ أبو بكر الجصاص - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الوقت كله وقت العرض وعليه أداؤه في وقت مطلق من جميع الوقت وهو مخير في الأداء فيتعين الواجب بالأداء ويضيق الوقت، فإن أدى في أول الوقت يكون واجبا، وإن أخر لا يأثم وهو الرواية على المعتمد عليها.
ويروى أيضا أن الأداء في أوله موقوف إن بقي إلى آخر الوقت بصفة التكليف يقع واجبا فإن فات شيء من شرائط التكليف يكون نفلا، وفي رواية أخرى عنه يقع نفلا في أول الوقت فإذا بقي إلى آخر الوقت وصفة المكلفين يكون ذلك سقطا للغير من قال، وهذا الرواية مهجورة.
وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما يفرد الوجوب في أول الوقت لزمه الأداء على وجه لا تتغير بتغير حال فيعد ذلك تعارض الحيض والقرء. وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب الصلاة بأول الوقت وجوبا موسعا ويستقر الوجوب بإمكانه فعلها قاله. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية كمذهبنا وهي غريبة.
قلت: إن أراد به تعلق الوجوب بأول الوقت وجوبا موسعا فهو المذهب الصحيح عندنا وليست هذه الرواية بغريبة، وإن أراد استقرار الوجوب بإمكان فعلها فليس هذا رواية عن أصحابنا لا غريبة ولا مشهورة.

وقال ابن بطال: حكى ابن القضاء عن الكرخي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الصلاة في أول الوقت تقع نفلا، قال: والفقهاء بأسرهم على خلاف قوله.
قلت: هذا قول ضعيف نقل عن بعض الأصحاب كما ذكرنا وليس منقولا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ثم اعلم أيضا أن الواجب الموسع الذي هو الفاضل عن الواجب لا يتعين بعض أجزائه بتعين العذر، رضا بأن يقول عينت هذا للسببية ولا قصدا بأن ينوي ذلك، وذلك لأن تعيين الأسباب والشرائط من وضع الشارع، وليس للعبد ذلك، وإنما للعبد اختيار فعل فيه رفيق وليس ذلك بتعيين جزء لأنه ربما لا يتيسر فيه الأداء بل له الاختيار في تعينه فعلا بأن يؤدي الصلاة في أي جزء يريد فيتعين بذلك الفعل ذلك الجزء وقتا لفعله كما في خصال الكفارة فإن الواجب أحد الأمور من الإعتاق والكسوة والإطعام لا يتعين شيء منها بتعيين المكلف قصدا ولا قضاء بل يختار أيها شاء.

(2/65)


قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والمراد بالنفي المذكور في صلاة الجنازة، وسجدة التلاوة الكراهة، حتى لو صلاها فيه أو تلا آية السجدة. فسجدها جاز لأنها أديت ناقصة كما وجبت، إذ الوجوب بحضور الجنازة والتلاوة.
ويكره أن يتنفل بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس؛ لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيفعله هو الواجب بالنسبة إليه.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والمراد بالنفي المذكور في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة) ش: أي في قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا صلاة جنازة ولا سجدة تلاوة - م: (الكراهة) ش: مرفوع لأنه خبر المبتدأ وهو قوله والمراد.
م: (حتى لو صلاها فيه) ش: نتيجة الكراهة، أي لو صلى الجنازة في وقت من الأوقات الثلاثة، م: (أو تلا سجدة فيه) ش: أي أو قرأ آية في وقت من هذه الأوقات م: (فسجدها جاز) ش: أي فسجد لتلاوته وفيه جازت.
م: (لأنها أديت ناقصة) ش: أي لأن كل واحدة من صلاة الجنازة وسجدة التلاوة أديت حال كونها ناقصة.
م: (كما وجبت) ش: أي كما وجبت ناقصة.
م: (إذ الوجوب بحضور الجنازة والتلاوة) ش: كلمة إذ للتعليل أي لأن الوجوب حصل بحضور الجنازة وبوقوع التلاوة في الوقت الناقص وقد مر الكلام فيه مستوفى عند قوله - ولا صلاة جنازة ولا سجدة تلاوة.

م: (ويكره أن يتنفل بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس) ش: أراد أنه إذا طلع الجر وصلى صلاة الفجر يكره، لا أن يصلي إلى أن تطلع وبعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس.
م: (لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك) ش: لما روى مسلم من حديث أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وفيه: «فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرني عن الصلاة، قال: صل الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها، ثم صلى فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل كالرمح، ثم اقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي العصر، ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان» . الحديث بطوله وروى إسحاق بن راهويه - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في " مسنده " ثم البيهقي من جهة حدثنا وكيع ثنا سفيان الثوري أخبرني أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي

(2/66)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عنه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ركعتين دبر كل صلاة مكتوبة إلا الفجر والعصر» .
وأخرج البخاري عن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «إنكم لتصلون صلاة لقد صحبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما رأيناه يصليها ولقد نهى عنها» يعني الركعتين بعد العصر.
وروى مسلم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين» "، روى أبو داود عن يسار مولى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال رآني ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أصلي بعد طلوع الفجر فقال: يا يسار إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة فقال: «ليبلغ شاهدكم غائبكم لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين» .
وأخرج الطبراني عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا طلع الفجر فلا تصلوا إلا ركعتين الفجر» .
وأخرج أيضا عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة إذا طلع الفجر إلا ركعتين» ومثله عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال ابن بطال - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح البخاري ": تواترت الأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يضرب على الركعتين بعد العصر بمحضر من الصحابة من غير نكير فدل أن صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصوصة به دون أمته، وكره ذلك علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة وسمرة بن جندب وزيد بن ثابت وسلمة بن عمرو وكعب بن مرة وأبو أمامة وعمرو بن عيينة وعائشة والصالحي واسمه عبد الرحمن بن عقيلة وعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والحسن البصري وسعيد بن المسيب والعلاء بن زياد وحميد بن عبد الرحمن - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى أجمعين. وقال النخعي: كانوا يكرهون ذلك.
1 -

(2/67)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: أخرج البخاري ومسلم عن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «لم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعهما سرا ولا علانية ركعتان قبل صلاة الصبح وركعتان بعد العصر» .
وفي لفظ لهما: «ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يأتي في يوم بعد العصر إلا [صلى] ركعتين» . وروى أبو داود من حديث قيس بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الصبح ركعتان فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» هكذا رواه أبو داود وقال قيس بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية قيس بن قهر بالقاف.
قلت: استوت القاعدة أن المبيح والحاظر إذا تعارضا جعل الحاظر متأخرا، وقد ورد نهي كثير في الأحاديث التي ذكرناها آنفا بالعمل عليها.
وأما حديث الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فإن صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه مخصوصة به والدليل عليه ما ذكرنا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يضرب على الركعتين بعد العصر بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من غير نكير.
وذكر الماوردي من الشافعية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره أيضا أن ذلك من خصوصيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال الخطابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصوصا بهذا دون الخلق. قال ابن عقيل: لا وجه له إلا هذا الوجه.
وقال الطبري: فعل ذلك تنبيها لأمته أن نهيه كان على وجه الكراهة لا التحريم. وقال الطحاوي: الذي يدل على الخصوصية أن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - هي التي روت صلاته إياها قيل لها أفنقضيهما إذا فاتتا بعد العصر. قالت: لا. وأما حديث قيس بن عمر قال [في] " الإمام ": إسناده غير متصل ومحمد بن إبراهيم لم يسمع من قيس. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج [به] .
ثم نفسر بعض ألفاظ الأحاديث المذكورة.
قوله - «تطلع بين قرني شيطان» - اختلفوا فيه على وجوه فقيل: معناه مقارنة الشيطان عند رؤيتها للطلوع والغروب. وقيل: قرنه قوته من قولك أنا مقرن لهذا الأمر أي بطوله يرى عليه، وذلك لأن الشيطان إنما يتولى أمره في هذه الأوقات لأنه يسول لعبدة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأوقات.
وقيل: قرنه حزبه وأصحابه الذين يعبدون الشمس يقال هؤلاء قوم قرن، أي قوم بعد قرن

(2/68)


ولا بأس بأن يصلي في هذين الوقتين من الفوائت، ويسجد للتلاوة، ويصلي على الجنازة؛ لأن الكراهة كانت لحق الفرض ليصير الوقت كالمشغول به، لا لمعنى في الوقت، فلم تظهر في حق الفرائض، وفيما وجب لعينه كسجدة التلاوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
آخر. وقيل: إن هذا تمثيل وتشبيه، وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من تسويل الشيطان وتزيينه ذلك في قلوبهم، وذوات القرون إنما تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها، وكأنهم لما دفعوها وأخروها عن أوقاتها بتسويل الشيطان لهم حتى اصفرت الشمس صار ذلك لهم بمنزلة ما يعالجه، وذوات القرون بقرونها وتدفعه بأرواقها.
قلت: يمكن حمل الكلام على حقيقته ويكون المراد أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها وكذا عند طلوعها، لأن الكفار يسجدون لها حينئذ فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له، ويخيل لنفسه ولأعوانه إنما يسجدون له فيكون له ولنفسه تسلط.
قوله - مشهودة - أي تشهدها الملائكة وتحضرها.

م: (ولا بأس بأن يصلي في هذين الوقتين) ش: أراد بالوقتين ما بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، وما بعد صلاة العصر قبل غروب الشمس. م: (الفوائت) ش: بالنصب مفعول يصلي.
م: (ويسجد للتلاوة ويصلي على الجنازة لأن الكراهة) ش: الحاصلة في هذين الوقتين.
م: (كانت لحق الفرض ليصير الوقت) ش: من بعده، م: (كالمشغول به) ش: أي بالفرض فلم يجز النفل فيهما لأن الثقل التقديري بالفرض أولى من الثقل الحقيقي بالنفل م: (لا لمعنى في الوقت) ش: يعني ليست الكراهة في هذين الوقتين بالنفل لا لمعنى في الوقت، يعني ليست الكراهة في هذين الوقتين لمعنى في نفس الوقت، بل لثقل الوقت بالفرض، ولهذا لو ابتدأ العصر في أول الوقت ومده إلى المغرب لا يكره بالاتفاق، فلو كانت الكراهة لمعنى في الوقت لكان هذا مكروها.
وقوله - لا بمعنى في الوقت - تأكيد لقوله - لحق الفرض - وفيه إشارة إلى أن يفرق بين النهي الوارد في هذين، والوارد في الأوقات الثلاثة المذكورة بأن ذلك لمعنى في الوقت، وهو كونه منسوبا إلى الشيطان فيظهر في حق الفرائض والنوافل وغيرها، وهذا المعنى لثقل الوقت بالفرض كما ذكرنا.
م: (فلم يظهر في حق الفرائض) ش: هذه نتيجة ما قبله فلذلك ذكره بالفاء، أي فلم تظهر الكراهة في حق الفرائض فجازت الفوائت فيها. م: (وفيما وجب لعينه كسجدة التلاوة) ش: لكون وجوبها غير موقوف على فعل العبد بدليل وجوبها بالسماع فصارت كسائر الفرائض.
فإن قلت: قد ذكر في الأصول أن سجدة التلاوة وجبت بقربة مقصودة حتى جاز إقامة

(2/69)


فظهرت في حق المنذور؛ لأنه تعلق وجوبه بسبب من جهته وفي حق ركعتي الطواف، وفي الذي شرع فيه ثم أفسده؛ لأن الوجوب لغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الركوع مقامها بخلاف سجود الصلاة، وهذا يوهم أنها واجبة لغيرها.
قلت: أراد بما وجب بعينه هاهنا ما شرع واجبا ابتداء لأنه شرع نفلا في الأصل ثم صار واجبا بعارض كالنذر، ثم هذا الواجب قد يكون قربة مقصودة بذاتها وقد لا يكون: كالصلاة، والصوم، وسجدة التلاوة من حيث إنها وجبت ابتداء كانت واجبة بعينها، ومن حيث إنها وجبت موافقة للأبرار ومخالفة للكفار، ولم تكن مقصودة بنفسها فكانت واجبة مقصودة لنفسها لعدم التنافي، ألا ترى أن صلاة الجنازة عرفت من هذا أن الفعل مع أنها وجبت بغيرها وهو لصاحب الميت، ولكنها لما شرعت ابتداء صح جعلها واجبة بعينها من هذا الوجه.

م: (فظهرت في حق المنذور) ش: أي ظهرت الكراهة في حق المنذور من الصلاة في هذين الوقتين م: (لأنه تعلق وجوبه بسبب من جهته) ش: أي من جهة الناذر لا من جهة الشرع فصار كالصلاة التي شرعت فيها متطوعا، فإذا كان كذلك يكره أداء المنذور في هذين الوقتين، لا يقال الضمير في جهته إضمار قبل الذكر، لأنا نقول قوله المنذور يدل على الناذر، لأن النذر قائم به.
وعن أبي يوسف: لا يكره المنذور في هذين الوقتين لأنه واجب بالنذر.
م: (وفي حق ركعتي الطواف) ش: أي فظهرت الكراهة أيضا في حق ركعتي الطواف حتى كره أداؤها في هذين الوقتين لأن وجوبهما بغيرهما وهو ختم الطواف الحاصل بفعله.
وقال الشافعي: يجوز في هذين الوقتين ركعتا الطواف، وتحية المسجد، وكل فعل له سبب: كركعتي الوضوء، وسنن الرواتب، والمنذور.
قلت: في " المبسوط " أن كراهة الطواف بالأثر، وهو ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طاف بالبيت أسبوعا بعد صلاة الفجر ثم خرج من مكة حتى كان بذي طوى فطلعت الشمس فصلى ركعتين، ثم ذهب فقال: ركعتين مقام ركعتين، فقال أخر ركعتي الطواف إلى ما بعد طلوع [الشمس] . وذي طوى: ينصرف ولا ينصرف وهو بضم الطاء اسم موضع مكة.
ولو أفسدته الفجر، ثم قضاها بعد صلاة الفجر لم يجز كذا في " المحيط ". وقيل يجوز ولو في شرع في النفل قبل طلوع الفجر ثم طلع قيل يقطعه، والأصح: أنه يتمه ولا ينوب عن سنة الفجر في الأصح.
م: (وفي الذي شرع فيه ثم أفسده) ش: أي وكذا ظهرت الكراهة في النفل الذي شرع فيه حتى كره قضاؤه في هذين الوقتين.
م: (لأن الوجوب لغيره) ش: تعليل للمسألتين جميعا، ومعنى الوجوب لغيرها أنه يجب في

(2/70)


وهو ختم الطواف وصيانة المؤدي
عن البطلان، ويكره أن يتنفل بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتي الفجر؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم يزد عليهما مع حرصه على الصلاة. ولا يتنفل بعد الغروب قبل الفرض لما فيه من تأخير المغرب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصل، فقوله م: (وهو ختم الطواف) ش: يرجع إلى قوله - وفي حق ركعتي الطواف م: (وصيانة المؤدي) ش: - يرجع إلى قوله - وفي الذي شرع فيه ثم أفسده - والمؤدى بفتح الدال.
فإن قلت: ركعتا الطواف واجبتان عندنا فوجوبه من جهة الشرع بعد الطواف كوجوب سجدة التلاوة بعد التلاوة فينبغي أن يؤتى بهما كسجدة التلاوة في هذين الوقتين. وقول المصنف بأن الوجوب لختم الطواف ينتقض بسجدة التلاوة فإن وجوبها للتلاوة وهي فعله أيضا.
قلت: قد تجب السجدة بتلاوة غيره إذا سمعه من غير قصد ولا كذلك ركعتا الطواف.

م: (ويكره أن يتنفل بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتي الفجر لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يزد عليهما) ش: أي على ركعتي الفجر اللتين هما السنة المذكورة.
م: (مع حرصه على الصلاة) ش: أي مع حرص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النافلة. قال الأترازي: ولو لم تكره تفعل، قلت: هذا يبنى على معرفة الحديث الذي فيه عدم زيادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ركعتي الفجر وكذا قال الأكمل: أن الترك مع حرصه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على إحراز فضيلة النفل دليل الكراهة، وقد ذكرنا فيما مضى من حديث مسلم الذي رواه عن ابن عمر عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا طلع الفجر لا يصلى إلا ركعتين خفيفتين» وهذا يدل على أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما كان يزيد على ركعتي الفجر مع حرصه على إحراز فضيلة النوافل.
وفي " المجتبى " ويخفف القراءة في ركعتي الفجر لقول ابن عمر: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فيهما ب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] .
وفي " المبسوط " لشيخ الإسلام: والنهي عما سوى ركعتي الفجر فيه لحق ركعتي الفجر لخلل في الوقت. وفي " التجنيس " للمصنف يتطوع آخر الليل فلما صلى ركعة طلع المفجر كان الإتمام أفضل، لأنه وقع في التطوع بعد الفجر لا عن قصد.
م: (ولا يتنفل بعد الغروب قبل الفرض) ش: أي قبل صلاة المغرب. م: (لما فيه من تأخير المغرب) ش: وتأخير المغرب مكروه فيكره ما يكون سببا للتأخير.
فإن قلت: روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان المؤذن إذا أذن قام الناس من أصحاب رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتدرون السواك حتى يخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا خرج رآهم لذلك يصلون ركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء» .
قلت: حمل ذلك على أن أول الأمر قبل النهي، أو قبل أن يعلم ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(2/71)


ولا إذا خرج الإمام للخطبة يوم الجمعة إلى أن يفرغ من خطبته؛ لما فيه من الاشتغال عن استماع الخطبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منهم. وقال أبو بكر بن العربي: اختلف الصحابة فيها ولم يفعله بعدهم أحد. وقال النخعي: إنها بدعة. وقال عميرة: كان ذلك في أول الإسلام ليعرف خروج الوقت المنهي عنه ثم أمروا بتعجيل المغرب. وروى أبو داود عن طاووس قال سئل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الركعتين قبل المغرب فقال: ما رأيت أحدا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليهما، وروي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بين كل أذانين صلاة إن شاء إلا المغرب» . قال الخطابي: يعني الأذان والإقامة، وعند بعض أصحاب الشافعي يستحب أن يصلي ركعتين قبل المغرب.

م: (ولا إذا خرج الإمام للخطبة يوم الجمعة) ش: أي ولا يتنفل أيضا إذا خرج الإمام من بيت الخطابة يوم الجمعة لأجل الخطبة.
م: (إلى أن يفرغ) ش: من الخطبة.
م: (لما فيه) ش: أي لما في التنفل، دل عليه قوله ولا يتنفل م: (لما فيه من الاشتغال عن استماع الخطبة) ش: وهو مكروه كراهة تحريم. وقال أبو بكر بن العربي: والجمهور على أنه لا يفعل وهو الصحيح، لأن الصلاة حرام إذا شرع الإمام في الخطبة بوجوه ثلاثة من الدليل.
الأول: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] (الأعراف: الآية 204) فكيف يترك الفرض الذي شرع الإمام فيه إذا دخل عليه بغير فرض.
الثاني: صح عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من كل طريق أنه قال: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت، فقد لغوت» ، فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأصل أن الفرضان في المسألة يحرمان في حال الخطبة فالنفل أولى بأن يحرم.
الثالث: أنه لو دخل والإمام في الصلاة لم يركع والخطبة صلاة من وجه يحرم فيها من الكلام والعمل ما يحرم في الصلاة.
وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى جواز تحية المسجد بركعتين لحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «بينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة إذا جاء رجل فيه بذة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أصليت؟ " قال: لا. قال: " قم فاركع.» وهو حديث اتفق البخاري، ومسلم عليه. وهذا الرجل هو: " سليك الغطفاني " بين ذلك مسلم وغيره.
قلت: هذا الحديث لا يعارض الأصول من أوجه أحدها أنه خبر واحد يعارض أخبار أقوى منه فوجب تركه.

(2/72)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: يحتمل أن يكون في الوقت الذي كان الكلام مباحا في الصلاة لأنه لا يعلم تاريخه.
الثالث: أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كلم سليكا وقال له: قم وأمره سقط عنه فرض الاستماع فإنه أقوى في هذا الباب.
الرابع: الحظر مقدم على الإباحة.
الخامس: أن سليكا [كان به] بذاذة فأراد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يشهره فيرى حاله فيعتبر به أو يتصدق عليه لضعف حاله، والبذاذة على التواضع في اللبس وعدم الريبة، وروي «البذاذة من الإيمان» وأصله من بذ فلان الناس إذا سفههم الناس في فضل.

(2/73)