البناية شرح الهداية

باب شروط الصلاة التي تتقدمها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب شروط الصلاة التي تتقدمها]
م: (باب شروط الصلاة التي تتقدمها) ش: أي هذا باب في بيان الشروط التي تتقدم الصلاة، والشروط جمع شرط وهو العلامة، وفي الاصطلاح: الشرط ما يتوقف عليه وجود الشيء ولم يكن داخلا فيه، وقيل: يلزم من انتفائه انتفاء المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط، وقال السرخسي في " أصوله ": الحكم يضاف إلى الشرط وجودا عنده لا به ويضاف إلى العلة وهو ما بها والشرط والركن لا بد بهما ويفترقان كافتراق العام والخاص، فعلى هذا كل ركن شرط يعني يلزم من وجود الركن وجود الشرط ولا يلزم من انتفاء الركن وجود الشرط، ولا يلزم من انتفاء الركن انتفاء الشرط.
وكذا يلزم من وجود العام وجود الخاص، ولا يلزم من عدم العام عدم الخاص والأعم والأخص على العكس يلزم من عدم الأعم عدم الأخص، فإنه يلزم من عدم الحيوان عدم الإنسان، ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص فإنه لا يلزم من وجود الحيوان وجود الإنسان ثم الشرط على ثلاثة أنواع، عقلي كالقدوم للنجار، وشرعي: كالطهارة للصلاة، وجعلي كالدخول المعلق به الطلاق.
وفي " الحواشي ": شرط الصلاة مسموعة ثلاثة أنواع: شرط الانعقاد كالنية والتحريمة والوقت، والخطبة في الجمعة والجماعة للجمعة عندهما، وشرط الدوام كالطهارة، واستقبال القبلة، والوقت في الجمعة، والثالث: ما شرط وجوده في حالة البقاء، ولا يشترط فيه عدم ولا المقارنة لابتداء الصلاة وهو القراءة فإنها ركن في نفسها ويشترط في سائر الأركان، لأن القراءة موجودة في جميع الصلاة تقديرا.
قلت: ولهذا لو استخلف الإمام القارئ في الأخيرين أميا لا يجوز وبقي هنا ما هو شرط التمام كالقعدة الأخيرة فإنها شرط لتمام الأركان عند البعض. وقال السروجي: يقتضي ما ذكره أن يكون الوقت والتحريمة من شروط الصلاة التي تقدمها فينبغي أن يكونا مذكورين في هذا الباب ولم يذكرا فيه.
قلت: عقد للوقت بابا مستقلا لكثرة أحكامه فلا يحتاج إلى ذكره هنا. وأما التحريمة ففيها خلاف هل هي من الشروط أو من الأركان فافهم.
قوله: التي تتقدمها من الصفات المذكورة لا من الصفات المميزة إذ ليس من الشروط ما لا يكون متقدما حتى يكون احترازا عنه، وهو قريب من أسلوب قَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] (المائدة: الآية 44) . وقال صاحب " الدراية ": احترز بقوله تتقدمها عن القعدة الأخيرة فإنه اختلف في ركنيتها. كذا ذكره شيخ الإسلام. وعن ترتيب أفعال الصلاة فيما لم يشرع مكررا كترتيب الركوع على القراءة والسجود على الركوع فإنه شرط الجميع فلو ترك

(2/117)


يجب على المصلي أن يقدم الطهارة من الأحداث والأنجاس على ما قدمنا، قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الترتيب لا تجوز صلاته. وعن مراعاة المقتدي مقام الإمام وعن عدم تذكر فائتته قبلها وهو صاحب ترتيب؛ وعن عدم محاذاة المرأة، فإن هذه الأشياء شروط ولا تتقدمها، وفي " الهداية ": هذا قيد قصدي لا اتفاقي لأن في هذا الباب ذكر الشروط المتقدمة لا المتوسطة.
فإن قلت: ما وجه المناسبة بين هذا الباب وبين ما قبله؟
قلت: لما ذكر الطهارة وهي شرط الصلاة وذكر الأوقات عقيبها لكونها أسبابا وشروطا وذكر الأذان لكونه إعلاما على الأوقات شرع في بيان بقيته.

[الطهارة من الأحداث والأنجاس]
م: (يجب على المصلي أن يقدم الطهارة من الأحداث والأنجاس على ما قدمنا) ش: الأحداث جمع حدث، والأنجاس جمع نجس.
فإن قلت: ما لنا إلا حدثان الأصغر والأكبر والجمع من أين جاء؟
قلت ذكر مع الأنجاس لمناسبة إياها، ويجوز أن يذكر الجمع ويراد به الاثنان وهو كثير لا ينكر، وإنما جمعه باعتبار تعدد أسبابه.
وقال الأترازي: قيل: إنما ذكر الأحداث لأنها أقوى، لأن قليلها ليس بعفو بخلاف القليل من الأنجاس، وفيه نظر عندي لأن القطرة من الخمر أو الدم أو البول إذا وقعت في البئر نجس، والجنب أو المحدث إذا أدخل يده في الإناء لا ينجس، والأولى أن يقال ليس فيه تقديم لأن الواو لمطلق الجمع.
قلت: نظره فيه نظر لأن مراد القائل من كون الأحداث لا يعفى قليلها هو ما إذا بقيت لمعة، ولو كانت يسيرة في بدن الجنب أو في أعضاء المحدث لا يعفى بخلاف القليل من الأنجاس وأن ما دون الدرهم منه عفو كما عرف في موضعه فتكون الأحداث أقوى من الأنجاس، من هذه الحيثية.
وقوله: والأولى أن يقال ليس فيه تقديم ليس بجيد لأنه يقدم في الذكر، وفائدة التقديم لا تتطلب ما ذكره فيما مضى من بيان الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، وما ذكره في بيان الطهارة من النجاسة المغلظة والمخففة على الثوب والمكان.
فإن قلت: لما كان علم مما تقدم كونها شرط للصلاة فلم أعادها؟
قلت: ليكون الباب مشتملا على جملة الشروط. (قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] ش: (المدثر: الآية 4) إنما ذكر هذه الآية الكريمة لأنها تدل بعبارتها على تقديم الطهارة من الأنجاس وبدلالتها على تقديمها على الأحداث.

(2/118)


وقال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]
ويستر عورته لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . أي ما يواري عوراتكم عند كل صلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " تفسيره ": وأمر الله أن تكون ثيابه طاهرة لأن طهارة الثياب شرط في الصلاة لا تصح إلا بها، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة. ويقبح للمؤمن الطيب أن يحمل نجسا. وقيل: أمر بتقصيرها ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك مما لا يؤمن معه إصابة النجاسة. وقال إبراهيم وقتادة والضحاك والشعبي والزهري: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] من الرجس والإثم والمعصية. وقيل أراد طهر نفسك من الذنوب فكنى عن الجسم بالثياب لأنها تشتمل عليه. وقال ابن سيرين وابن زيد: نق ثيابك واغسلها بالماء وطهرها من النجاسة، وذلك المشركين كانوا لا يتطهرون فأمر بتطهير ثيابه، وذكر فيها وجوها كثيرة.
م: (وقال الله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ش: (المائدة: الآية 6) ذكر هذه الدلالة بعبارته على تقديم الطهارة على الأحداث. وقال الأترازي: لو لم يورد صاحب الهداية قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر: الآية 4) وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] لكان أحسن للاختصار يفهم ذلك من قوله على ما قدمناه وكان من حقه حيث أورد أن يورد الدليل على مجموع مدعاه لئلا يكون البيان متنافيا وهو ليس كذلك لأن قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] دليل تقديم الطهارة من الأنجاس وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] دليل تقديم الطهارة من الحدث الأكبر، وبقي تقديم الطهارة من الحدث الأصغر ولم يذكره وهو أنه الوضوء.
قلت: الدليل على جميع مدعاه قائم وبيانه شاف، وذلك فهم من قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] لأنا قلنا إن بعباراته تدل على تقديم الطهارة من الأنجاس، وبدلالته على تقديمها على الأحداث، وهي تتناول الحدث الأصغر والأكبر، وقوله: ولم يذكره ليس كذلك بل ذكره على طريقة ما ذكرنا ولكنه لم يتذكره.

[ستر العورة]
م: (ويستر عورته) ش: بنصب الراء، لأنه عطف على قوله أن يقدم وتقديره وأن يستر.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أي ما يواري عوراتكم عند كل صلاة) ش: (الأعراف: 31) أراد بالزينة ما يواري العورة وبالمسجد والصلاة. ففي الأول: إطلاق اسم الحال على المحل. وفي الثاني: إطلاق اسم المحل على الحال لوجود الاتصال الذي بين الحال والمحل، وهذا لأن أخذ الزينة نفسها وهي عرض بحال فأريد محلها وهو الثوب مجازا. وكانوا يطوفون عراة يقولون لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها فنزلت. لا يقال: نزول الآية في الطواف فكيف يثبت الحكم في الصلاة لأنا نقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهنا اللفظ عام لأنه قال: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ولم يقل عند مسجد الحرام فدل بعمومه، ويقال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] من قبيل إطلاق المسبب على السبب لأن الثوب سبب الزينة ومحل الزينة الشخص.

(2/119)


وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا صلاة لحائض إلا بخمار» أي لبالغة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: الزينة ما يتزين به من ثوب وغيره كما في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] (النور: آية 31) فعلى هذا يصح ما ذكروه من التأويل. وقال الزمخشري: الزينة ما زينت به المرأة من حلي أو كحل وإنما نهى عن ابتداء الزينة نفسها ليعلم أن النظر لم يحل إليها.
وقيل: أراد موضع الزينة لأن النظر إلى الزينة حلال بالإجماع والستر لا يجب لغير المسجد بدليل جواز الطواف عريانا هنا فعلم من هذا أن ستره للصلاة لا لأجل الناس، حتى لو صلى وحده ولم يستر عورته لا تجوز صلاته وإن لم يكن عنده أحد.

م: (وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا صلاة لحائض إلا بخمار» أي لبالغة) ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن حماد بن سلمة عن قتادة عن محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» . وقال الترمذي: حديث حسن.
ورواه ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما " ولفظهما: «لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار» . رواه الحاكم في " المستدرك "، وقال حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وأظنه بخلاف فيه على قتادة ثم أخرجه عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «لا صلاة لحائض إلا بخمار» . قلت: هذا مثل لفظ المصنف وهذا قد دل على افتراض ستر العورة في الصلاة وستر العورة شرط لصحة الصلاة فرضها ونفلها عندنا، وبه قال الشافعي وأحمد وعامة الفقهاء وأهل الحديث. وقال بعض المالكية: هو واجب وليس بشرط لصحة الصلاة. وقال ابن رشيد في " القواعد ": ظاهر مذهب مالك أن ستر العورة من سنن الصلاة. وقال بعضهم: هو شرط عند الذكر دون النسيان. وعن أشهب: من صلى عريانا أعاد في الوقت. وحكى أبو الفرج المالكي: أنه يجب ستر جميع الجسد، قالوا: وجوابه لا يخص الصلاة.
قلت: ستر العورة عن العيوب واجب بلا خلاف.

(2/120)


عورة الرجل ما تحت السرة إلى الركبة، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: الحديث خبر الواحد فلا يفيد الفرض.
قلت: هو قطعي الدلالة لأداة الحصر ظني الثبوت لكونه خبر الواحد، فبالمجموع تحصل الدلالة على الافتراض، وأما الآية فهي قطعية الثبوت دون الدلالة، ولهذا يرد ما قيل أن الآية تفيد الوجوب في حق الطواف فلو أفادت الفريضة في حق الصلاة لكان لفظ خذوا مستعملا في الوجوب والافتراض، وهذا لا يجوز.
قوله: بخمار بكسر الخاء المعجمة هو ما تغطي به المرأة رأسها.
قوله: أي - البالغة - تفسير الحائض، وليس من متن الحديث، وهو مجاز عن البالغة لأن الحديث يستلزم البلوغ فيكون هذا إطلاق اسم الملزوم على اللازم. ويقال إن حقيقة الحائض مهجورة حيث لا يجوز للحائض الصلاة أصلا، فيصير إلى المجاز بطريق إطلاق اسم السبب وهو الحيض على المسبب وهو البلوغ.

[عورة الرجل]
م: (وعورة الرجل ما تحت السرة إلى الركبة) ش: سميت العورة عورة لقبح ظهورها، ومنه الكلمة العوراء وهي القبيحة. وعور العين نقص وعيب فيها.
قوله: عورة الرجل كلام إضافي مبتدأ. وقوله: ما تحت السرة خبره. وكلمة إلى بمعنى مع على ما يذكر وجهه عن قريب.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته» ش: في هذا الباب أحاديث كثيرة منها ما أخرجه الدارقطني في " سننه " عن سوار بن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروا صبيانكم» . الحديث، وفيه: «فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة من العورة» وهذا المعنى يقرب لفظ نقل المصنف.
ورواه أحمد في " مسنده " ولفظه: «فإن ما أسفل من سرته إلى ركبته من العورة» . وسوار بن داود كنية العقيلي، ورفعه ابن معين وابن حبان. وقال أحمد: شيخ بصري لا بأس به. ومنها ما أخرجه الحاكم في " المستدرك " من حديث عبد الله بن جعفر قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما بين السرة إلى الركبة عورة» وسكت عنه. وقال: الذهبي في " مختصره ": أظنه مرفوعا فإن إسحاق بن واصل متروك، وأصرم بن حوشب متهم بالكذب، وهما من رواته. ومنها ما أخرجه

(2/121)


ويروى: «ما دون سرته حتى تجاوز ركبته» وبهذا يتبين أن السرة ليست من العورة خلافا لما يقوله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والركبة من العورة، خلافا له أيضا، وكلمة " إلى " نحملها على كلمة مع، عملا بكلمة حتى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدارقطني في " سننه " من حديث أبي أيوب قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل السرة من العورة» .
م: (ويروى ما دون سرته حتى تجاوز ركبته) ش: هذا غريب بهذا اللفظ ولكن معناه لا يخرج من الأحاديث المذكورة.
م: (وبهذا) ش: أي وبالحديث المذكور م: (يتبين أن السرة ليست من العورة) ش: لأنه قال: ما بين سرته إلى ركبتيه ما دون سرته والمقصود من ذلك أن لا تكون السرة عورة م: (خلافا لما يقوله الشافعي في أن السرة من العورة) ش: قال النووي: في عورة الرجل خمسة أوجه: صحيحها المنصوص أنها ما بين السرة والركبة وليست من العورة.
ثانيها: أنها عورة أيضا كالرواية عن أبي حنيفة.
ثالثها: السرة دون الركبة.
رابعها: عكسه الظاهر قول الثلاثة من أصحابنا.
خامسها: القبل والدبر فقط، حكاه الرافعي عن الإصطخري. قال النووي: هو شاذ منكر، وهو رواية عن أحمد حكاه عنه في " المغني " وقال: وهو قول ابن أبي ذئب، وداود، ومحمد بن جرير. قال ابن حزم: الذكر وخلفه الدبر.

م: (والركبة من العورة خلافا له أيضا) ش: أي خلافا للشافعي، فإن الركبة ليست من العورة عنده في قوله كما ذكرنا.
م: (وكلمة إلى نحملها على كلمة مع عملا بكلمة حتى) ش: وكلمة إلى كلام إضافي مبتدأ وقوله نحملها جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل الرفع على الجزئية. قوله: على كلمة مع التي هي للمصاحبة.
قوله: عملا منصوب على المصدرية، وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره: أن يقال إن كلمة إلى في قوله - إلى ركبته - في الحديث للغاية وهي في هذا الموضع لمد الحكم إليها فلا يدخل، وتقرير الجواب أن إلى هاهنا تحمل على معنى مع، كما في قَوْله تَعَالَى: {أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]

(2/122)


أو عملا بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الركبة من العورة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(النساء: آية 2) أي مع أموالكم، دفعا للتعارض عن كلام صاحب الشرع، والتعارض ظاهر بين قوله ما بين سرته إلى ركبتيه، وبين قوله ما دون سرته حتى يجاوز ركبته.
وقال بعض المشايخ: قوله إلى ركبتيه غاية للإسقاط لأن قوله ما بين سرته، يتناول ما تحت السرة فأخرجه ما تحتها فبقيت الركبة تحت العورة. وفي " شرح المجمع " و " الغاية " قد تدخل وقد لا تدخل والوضع موضع الاحتياط. فقلنا بأنها عورة تخرج بتغطيتها عن العهدة بيقين. وفي " الدراية " " وجامع الكردي " الركبة مركبة من عظم الساق والفخذ فيكون المحرم مختلطا مع المبيع والمباح فرجح المحرم.
وقال المصنف في " التجنيس ": الركبة إلى آخر القدم عضو واحد، والأول أصح، لأنها في الحقيقة لنفي عظم الفخذ والساق، وإنما حرم النظر إليها من الرجال لتعذر التمييز أو عملا بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الركبة من العورة» .
م: (أو عملا) ش: عطف على قوله عملا بكلمة حتى، وهذا جواب ثان، وتقديره أن قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما بين سرته إلى ركبته» يدل على أن الركبة ليست من العورة لقضية إلى وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حتى يجاوز ركبته» يدل على أن الركبة من العورة وبينهما تعارض ظاهر، فإذا أبقينا إلى على حالها تساقطا ويعمل حينئذ في كون الركبة من العورة بحديث آخر وهو م: (بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الركبة من العورة» ش: وقال الأكمل: وفيه نظر لأن حتى إذا دخلت على الفعل كانت بمعنى إلى في مثل هذا الموضع، فلا فرق بينهما، وكان ينبغي أن يقول وعملا بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالواو؛ لأن المعارضة قائمة بكل منهما.
والجواب عن الأول: أنه بمعنى إلى لكن مع دخول الغاية.
وعن الثاني: بأن كلمة أو لمنع الخلو، لا لمنع الجمع فلا يكون منافيا.
قلت: لحتى الداخلة على المضارع المنصوب ثلاثة معان مرادفة إلى نحو {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91] (طه: آية 91) ، ومرادفة في التعليلية نحو أسلم حتى تدخل الجنة، ومرادفة إلا في الاستثناء.
وقوله: مع دخول الغاية لا طائل تحته لأنه إذا كان بمعنى إلى يكون للغاية، ثم عند كونها للغاية لا بد من قرينة على دخول ما بعدها وعلى عدم الدخول أيضا، وإن لم تكن قرينة، الأصح أن لا يدخل كما عرف في موضعه. ثم الفرق بينهما بجواز وقوع المنصوب بعدها كما في الحديث وعدمه في إلى، والنصب بأن مضمرة لا بنفس حتى لا ينتصب إذا كان مستقبلا. ثم إن كان استقباله بالنظر إلى زمان المتكلم فالنصب واجب وإلا فيجوز الرفع أيضا. وفي الحديث النصب

(2/123)


وبدن الحرة كلها عورة، إلا وجهها وكفيها، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المرأة عورة مستورة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متعين لأن الرفع إنما يجوز بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون حالا أو مأولا بالحال. والثاني: أن يكون سببا عما قبلها. والثالث: أن يكون فضلة فإن أردت التحقيق فليرجع إلى مكانه.
ثم الحديث وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الركبة من العورة» . أخرجه الدارقطني في سننه عن النضر بن منصور الفزاري عن عقبة بن علقمة سمعت عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الركبة من العورة» . وقال الذهبي: النضر بن منصور: واه وقال ابن حبان: لا يحتج به. وعقبة بن علقمة ضعفه أبو حاتم الرازي. وأخرج البيهقي في " الخلافيات " من جهة إبراهيم بن إسحاق القاضي عن بقية عن سفيان عن ابن جريج عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «السرة من العورة» قال: هذا مفصل مرسل.

[عورة الحرة]
م: (وبدن الحرة كلها عورة) ش: وفي بعض النسخ كله عورة، والأول بالنظر إلى الحرة والثاني بالنظر إلى البدن، ويذكر ضمير الأول لأن التأكيد للبدن والتأنيث باعتبار تأنيث المضاف إليه كما في قولهم خنصرة أصابعه.
م: (إلا وجهها وكفيها لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المرأة عورة مستورة» ش: أخرجه الترمذي في آخر الرضاع عن همام عن قتادة عن مورق عن أبي الأحوص عوف بن مالك عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان» . وقال: حديث حسن صحيح غريب.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي الأحوص به وزاد أنها لا تكون إلى الله أقرب منها في تعزيتها. وأخرجه البزار أيضا في مسنده وليس لفظ مستورة عند أحد منهم. وقال الأكمل: وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المرأة عورة مستورة» خبر بمعنى الأمر، ومثله يفيد التأكيد. وقيل معناه من حقها أن تستر.
قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أخبر أن المرأة عورة فمن ضرورة ذلك أن يكون النظر إليها حراما.
قال صاحب " الدراية ": قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عورة مستورة إخبار ونحن نشاهدها غير مستورة

(2/124)


واستثناء العضوين للابتلاء بإبدائهما، قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا تنصيص على أن القدم عورة، ويروى أنها ليست بعورة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد عصم عن الكذب والخلف فيحمل بإخباره على معنى آخر للاحتراز عنهما فحملناه على إيجاب الستر أي يجب عليها الستر. وفي " الجنازية " " والكافي " معناه من حقها أن تستر كما يقال الله معبود أي من حقه أن يعبد لا لأجل الجنة.
وإن قلت: الخبر آكد لأنه يدل على المبالغة ومعناه قد ذكرناه. والتأويل الذي ذكروه إنما هو بعد صحة قوله مستورة ولم يصح ذلك. وقوله: وكفيها يشير إلى أن ظهر الكف عورة وهو ظاهر الرواية لأن الكف عرفا لا يتناول ظهره، قاله الأكمل.
قلت: الكف اسم لظاهر اليد وباطنها إلى الرسغ وكونه لا يتناول ظهر اليد عرفا لا يبنى عليه شيء من حيث العرف والاعتبار لما قاله الشارع.
وقد روى أبو داود في المراسيل عن قتادة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الجارية إذا حاضت لم تصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها» أي العضد. ولفظ اليد يتناول ظاهر الكف وباطنه.

م: (واستثناء العضوين) ش: أي استثنى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العضوين وهما الوجه والكفين. وقوله المرأة عورة وعود الضمير إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما يصح إذا ثبت في الحديث إلا وجهها وكفيها.
م: (للابتلاء بإبدائهما) ش: هذا تعليل الاستثناء أي لوجود الابتلاء بإظهار الوجه والكفين عندنا. وله الابتلاء في يدها وفي كشف وجهها خصوصا عند الشهادة والمحاكمة والنكاح. وفي " المحيط " إلا الوجه واليدين إلى الرسغين والقدمين إلى الكعبين. وفي " الوتري ": جميع بدن الحرة عورة إلا ثلاثة أعضاء الوجه واليدان إلى الرسغين والقدمين. وفي " جامع البرامكة " عن أبي يوسف يباح النظر إلى ذراعيها، وكذا يباح النظر إلى ثيابها لأنها يرونها. وفي الحديث مع الرجل، وقال أبو بكر بن عبد الرحمن الشافعي: الحرة كلها عورة حتى ظفرها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المرأة عورة» . وعن أحمد في الكفين روايتان.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (وهذا) ش: أي لفظ القدوري في قوله وبدن المرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها م: (تنصيص) ش: أي نص م: (على أن القدم عورة) ش: لأنها ليست بمستثناة.
م: (ويروى) ش: الراوي هو الحسن عن أبي حنيفة م: (أنها) ش: أي أن القدم م: (ليست بعورة) ش: لأنها تبتلى بإبداء القدم إذا مشت حافية أو منتعلة فربما لا تجد الخف على أن الاشتهاء لا يحصل بالنظر إلى القدم كما يحصل بالنظر إلى الوجه فإن لم يكن الوجه عورة مع كثرة

(2/125)


وهو الأصح.
فإن صلت وثلث ساقها أو ربعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاشتهاء فالقدم أولى م: (وهو الأصح) ش: أي كون القدم ليست بعورة هو الأصح. وفي " شرح الأقطع ": والصحيح أنها عورة بظاهر الخبر. وقال المرغيناني والأسبيجابي في " شرح مختصر الطحاوي ": وقدماها فيها عورة. قال الأسبيجابي: في حق النظر. والطحاوي لم يجعلها عورة في حق الصلاة.
وقال الكرخي: ليست بعورة في حق النظر. وقيل لا تكون عورة في حق الصلاة أيضا.
وفي " المفيد " في القدمين اختلاف المشايخ. وقال الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - والمزني: القدمان ليستا من العورة. وقال الثوري في قول عند الخراسانيين: وقيل وجهه أن باطن قدميها ليست بعورة.

م: (فإن صلت) ش: ذكر بالفاء لترتيب هذه المسألة التي هي من مسائل الجامع الصغير على ما قاله المصنف من قوله ويروى أن القدم ليس بعورة وهو الأصح، لأن مسألة " الجامع الصغير " تدل على جواز الصلاة مع كشف ما دون ربع الساق، فكانت القدم مكشوفة لا محالة م: (وثلث ساقها) ش: أي والحال أن ثلث ساقها م: (أو ربعه) ش: أي أو ربع ساقها قيل إذا كان الربع مانعا فإنه يغني عن ذكر الثلث فما فائدة ذكره، وأجيب بأجوبة: الأول قاله الأترازي المانع هو الكثير لا القليل والثلث كثير استدلالا بحديث الوصية وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «والثلث كثير» أما الربع ففي كثرته شك لثبوته بالرأي ولهذا ذكره بكلمة أو وهي للشك.
قلت: هذا ليس بسديد لأن الربع سواء شك بكثرته أو لم يشك فإنه أقل من الثلث، لأن الشيء لا يوصف بالكثرة إلا إذا كان مقابله صحيحه.
الثاني: قاله صاحب " الهداية " أنه أورد على هذا الوجه لبيان قول أبي يوسف لما أن عنده الربع الثلث غير مانع. قلت: هذا ليس بشيء لأن عنده إذا لم يمنع الثلث فالربع بالطريق الأولى.
الثالث: قاله هو أيضا أن محمدا تردد في الكثير، لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الربع كثير "، وروي أيضا عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «الثلث كثير» كما في الوصية فتردد بينهما فذكرهما.
قلت: هذا أيضا فيه نظر لأنه مبنى على صحة رواية كثرة الربع قاله في " الفوائد الظهيرية " فإن أبا حنيفة سئل عن هذه المسألة على هذا الوجه فأورده كذلك في الكتاب. قلت: هذا ليس بشيء لأنه كان ينبغي أن يكون إيراده على ما أجاب أبو حنيفة فإن فخر الإسلام والفقيه أبو الليث لم يذكرا لفظ الثلث في " الجامع الصغير "، وقال: ينقل عن يعقوب عن أبي حنيفة في المرأة تصلي وربع ساقها مكشوف أنها تعيد.

(2/126)


مكشوف تعيد الصلاة عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وإن كان أقل من الربع لا تعيد، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان أقل من النصف لا تعيد الصلاة؛ لأن الشيء إنما يوصف بالكثير إذا كان ما يقابله أقل منه، إذ هما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخامس: ما قاله في " الجنازية " قيل هذا غلط من الكاتب، وكذا ذكر صدر الأكمل جوابا من الأجوبة بأن قال: إنه سهو من الكاتب، ولهذا لم يكتب فخر الإسلام وعامة المشايخ لعدم الفائدة.
قلت: لا يلزم من عدم كتابة فخر الإسلام وعامة المشايخ عدم الفائدة عند غيرهم.
السادس: قاله الأكمل بأنه شك وقع من الراوي عن محمد. قلت: وقوع الشك من الراوي عن محمد لا يستلزم وقوعه عن المصنف حتى يذكره على هذا الوجه.
السابع: نقل صاحب " الدراية " من أن الربع مانع فإذا كان كذلك كانت مانعية الثلث بطريق الدلالة، وما ثبت بالدلالة بالتنصيص عليه لا يكون قبيحا قال الله تعالى: {يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر: 9] {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 10] (سورة: المدثر: الآية 9: 10) ونقله الأكمل منه أيضا.
قلت: هذا القياس غير صحيح لأن قوله غير يسير ليس بالمعنى الذي ذكروه، وإنما معناه غير يسير على الكافرين كما هو يسير على المؤمنين فلأجل هذه النكتة ذكر وإن كان مستغنى عنه عند ذكر عسير في الحقيقة، أو هو عسير لا يرجى أن يكون يسيرا لما يرجى بتيسير العسير من أمور الدين وإليهما لمح الزمخشري في تفسيره.
الثامن: قاله صاحب " الدراية " وأخذ عنه الأكمل بأن الربع مانع قياسا والثلث استحسانا فأورده عن القياس والاستحسان.
التاسع: أورده أيضا بأن الربع مانع مع القدم والثلث مانع لا مع القدم. قلت: هذان الوجهان لا بأس بهما.
م: (مكشوف) ش: خبر لقوله وثلث ساقها م: (تعيد الصلاة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإن كان أقل من الربع لا تعيد) ش: وإن كان الذي انكشف من ساقيها أقل من ربعها لا تعيد الصلاة. والأصل أن الكثير من انكشاف العورة مانع، والقليل غير مانع، والربع ما فوقه كثير وما دونه قليل عندهما.
وقال الشافعي: لو انكشف شيء من العورة في الصلاة بطلت صلاتها ولا يعفى عن شيء منها ولو شعرة من رأس الحرة أو ظفرة منها. وعند أحمد: يعفى عن القليل ولم يحده بشيء بل جعل الكثير فاحشا في النظر والقليل لا يفحش ويرجع فيه إلى العادة.
م: (وقال أبو يوسف: إذا كان) ش: أي الانكشاف م: (أقل من النصف لا تعيد الصلاة؛ لأن الشيء إنما يوصف بالكثير إذا كان ما يقابله أقل منه إذ هما) ش: كلمة إذ للتعليل وهما أي القلة

(2/127)


من أسماء المقابلة، وفي النصف عنه روايتان، فاعتبر الخروج عن حد القلة أو عدم الدخول في ضده، ولهما أن الربع يحكي حكاية الكمال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والكثرة م: (من أسماء المقابلة) ش: قال الأكمل: يريد به التقابل لا التضايف فسره هكذا لأنه احترز به عن تقابل التضاد، ولهذا قال في " الشروح " أن التقابل بينهما تقابل الضدين ليس بشيء لاجتماعهما في محل واحد، فإن الشيء الواحد يجوز أن يكون قليلا بالنسبة إلى شيء، وكثيرا بالنسبة إلى غيره. قلت: التقابل بالذات في أقسام أربعة تقابل العدم والملكة، وتقابل السلب والإيجاب، وتقابل التضاد وتقابل التضايف، هكذا ذكر في معنى التقابل بالغرض وهو التقابل بين الوحدة والكثرة فإن تقابلهما ليس بالذات بل بالعرض وما ذكرناه من الأربعة تقابل بالذات على ما عرف في موضعه.
وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط ": القلة والكثرة من الأسماء المشتركة فإن الشيء إذا قوبل بما هو أكثر منه يكون قليلا، وإذا قوبل بما هو أقل منه يكون كثيرا فكلتا العبارتين صحيح لأن الكثير إنما استحق القليل باعتبار المقابل، وإلا ليس له هذا الاسم، فكذا الكثير فكانت القلة والكثرة من أسماء المقابلة، وكذلك الشيء الواحد لما أطلق على معنيين مختلفين باعتبارين مقابلين كان مشتركا بينهما. قلت: أما إطلاق المقابلة بينهما فنعم ولكن الكلام في أن المراد فيها ما هو وأما الصحيحة في كون القلة والكثرة من الأسماء المشتركة فلا وجه له أصلا لا لغة ولا اصطلاحا؛ لأن قوله لأن الشيء الواحد.. الخ. رد ما قاله لأن مراده من الشيء الواحد إن كان قليلا فهو ليس بمشترك في تفسيره. وكذا إذا كان مراده هو الكثير فكذلك، وهذا ظاهر لا يخفى.
م: (وفي النصف عنه) ش: أي عن أبي يوسف، م (روايتان) ش: في رواية " الجامع الصغير " جعل النصف في حكم القليل، وفي رواية الأصل جعله في حكم الكثير.
م: (فاعتبر الخروج عن حد القلة) ش: هذا بيان جهة الروايتين فلذلك ذكره بالفاء أي اعتبر أبو يوسف الخروج أي خروج النصف عن حد القلة في كونه مانعا، وهذا ليس بخارج عنه، لأن القليل اسم لما يقابله الكثير وما يقابله هاهنا ليس بكثير، لأنه نصف والنصف اسم لأحد الجزءين المتساوين فلا يكون قليلا والقليل عفو، فإذا لم يكن قليلا يكون خارجا عن حد القلة فيكون مانعا.
م: (أو عدم الدخول في ضده) ش: أن أبا يوسف اعتبر عدم دخول النصف في ضده أي في ضد القليل وهو الكثير فيكون غير كثير لأن الكثير اسم مباين. وقول المصنف في ضده هو حد الشارحين على نفس المقابلة بالضد، وليس كذلك كما ذكر بل تقابل التضايف.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أن الربع يحكي حكاية الكمال) ش: وفي بعض النسخ حكاية الكل أي يقوم مقام الكل في مواضع كثيرة من الأحكام واستعمال

(2/128)


كما في مسح الرأس والحلق في الإحرام، ومن رأى وجه غيره يخبر عن رؤيته، وإن لم ير إلا أحد جوانبه الأربعة،
والشعر والبطن والفخذ كذلك؛ يعني على هذا الاختلاف؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكلام.
م: (كما في مسح الرأس) ش: فإن مسح ربع الرأس يقوم مقام مسح كل الرأس في الفرض م: (والحلق في الإحرام) ش: فإن المحرم إذا حلق ربع رأسه تجب الفدية كاملا، كما إذا حلق كله، وكما في الثوب الذي ربعه طاهر لا تجوز صلاته عريانا، كما لو كان كله طاهرا، وإذا كان أقل من الربع، كما لو كان كله نجسا. ومحمد مع أبي يوسف في الأضحية في اعتبار ما زاد عليه نصف العضو في المبالغة، وفي فوات النصف بينهما روايتان.
وقال الأكمل: واعترض بأن اعتبار هذا بمسح الرأس غير مستقيم؛ لأن مسح كل الرأس لم يكن واجبا حتى يقوم الربع مقامه، بل الواجب منه بعض الرأس.
أجيب: بأن الأصل في الرأس غسل كله كما في غسل الوجه؛ لأن الطهر المقصود بالوضوء يحصل به لأن الشارع اكتفى بالمسح عن الغسل ثم اكتفى بالبعض عن الكل دفعا للضرورة، فكان الربع قائما مقام الكل.
قلت: هذا أخذه من كلام صاحب " الدراية " وفيه نظر، فلذلك لما أورد صاحب " الدراية " هذا السؤال والجواب قال: كذا قيل، فهذا يشير إلى أن هذا ما أعجبه كما ينبغي وجه النظر بأنا لا نسلم أن الأصل في الرأس غسل كله، بل الأصل مسح كله؛ لأن الله تعالى شرع في الوضوء وظيفة الرأس بالمسح، ووظيفة بقية الأعضاء بالغسل، كما نطق به النص، ولكنه لما ذكر المسح بالماء وقع الاختلاف في المقدار لا في أصل المسح كما هو مقرر في موضعه.
وقال الأكمل أيضا: وقيل: هذا تشبيه القدر بالقدر لا تشبيه الواجب بالواجب، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنكم سترون ربكم» . الحديث، فإن فيه تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي.
قلت: هذا أخذه من كلام صاحب " الدراية " وفيه أيضا نظر لأنه ليس المراد منه مجرد تشبيه القدر بالقدر، بل المراد تشبيه الحكم بالحكم، وإلا فلا يصح التشبيه.
م: (ومن رأى وجه غيره يخبر عن رؤيته وإن لم ير إلا أحد جوانبه الأربعة) ش: ذكر هذا تمثيلا في المحسوسات وهو أزين الأربع، وهذا من قبيل ذكر الكل وإرادة الجزء الذي هو الربع.

م: (والشعر والبطن والفخذ كذلك) ش: أي حكم شعر المرأة وبطنها وفخذها كذلك، وقد فسره بقوله: م: (يعني على هذا الخلاف) ش: يعني إذا انكشف ربع شعر المرأة يكون مانعا للصلاة عندهما. وعند أبي يوسف: إذا زاد على النصف يكون مانعا، وفي النصف روايتان، وكذا الخلاف في البطن والفخذ على هذا الوجه. وإذا انكشف سدس شعرها وسدس بطنها وسدس

(2/129)


لأن كل واحد منها عضو على حدة، والمراد به النازل من الرأس، هو الصحيح، وإنما وضع غسله في الجنابة لمكان الحرج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فخذها يجمع، فإن كان يبلغ الربع من هذه الأعضاء يكون مانعا عندهما، وإلا فلا. وذكر في " شرح الزيادات " لو كان سدس عورتها مكشوفا وسدس ساقها وسدس فخذها، وذلك يبلغ ربع الساق فلا تجزئها صلاتها، وكذا الحكم لو كان ينكشف من كل ساق أقل من الربع، ولو جمع بلغ الربع، وفي " الذخيرة ": امرأة صلت وشعرها من تحت أذنها مكشوف قدر ربعه تعيد صلاتها.
م: (لأن كل واحد منها) ش: أي من الشعر والبطن والفخذ م: (عضو على حدة) ش: أي كل واحد منها عضو وحده، فإن قلت: الشعر ليس بعضو، قلت: هذا إما من باب التغليب لأنه جزء من الآدمي حتى لا يجوز بيعه، فأطلق عليه العضو.
فإن قلت: ما الدليل على أن حكم الشعر حكم العضو؟ .
قلت: إذا حلق شعرها ولم ينبت تجب كل الدية.
م: (والمراد به النازل من الرأس) ش: أي المراد بالشعر هو الشعر النازل من الرأس لا المسترسل إلى أسفل الأذنين. وفي " الذخيرة " امرأة صلت وشعرها من تحت أذنها مكشوف قدر ربعه فسدت صلاتها. والدليل على كون الشعر النازل عورة أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - جمع في الأصل بين الرأس والشعر، لأن المراد من الرأس ما عليه من الشعر، فثبت أن الشعر النازل منه عورة.
م: (هو الصحيح) ش: وهو اختيار الشيخ الإمام محمد بن الفضل البخاري. وقال فخر الإسلام: وهو الأصح عندنا، واحترز بقوله هو الصحيح عن قول صدر الشهيد، فإن عنده الشعر النازل ليس بعورة، وهو رواية المتقي، ذكره المحبوبي. وأما الشعر المسترسل إلى أسفل من الأذنين ففي كونها عورة روايتان، واختيار أبي الليث أنه عورة احتياطا. وعند أبي عبد الله البلخي ليس بعورة، والاحتياط فيما ذهب إليه أبو الليث وما ذهب إليه البلخي يقتضي جواز النظر إلى صدغ الأجنبية وطرف ناصيتها، وهو أمر يؤدي إلى الفتنة. وثدي المرأة الحرة إن كانت ناهدة فهي تبع لصدرها، وإن تدلت فهي عورة على حدة فيعتبر ربعها.
م: (وإنما وضع غسله في الجنابة لمكان الحرج) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لو كان الشعر النازل عورة باعتبار أنه من بدنها لوجوب غسلها في حالة الجنابة، وتقريره الجواب: أن سقوط غسله ليس باعتبار أنه ليس من بدنها، بل هو من بدنها لاتصاله بها، ولكن غسله في الجنابة إنما سقط لأجل الخروج في بعضها إياها، بخلاف الرجل فإن الخروج فيها يسيرا، إما لقلته وإما ليسر الغسل على الرجل فوق يسره على النساء، لا لغسله الحياض والأنهار جهارا ودخوله الحمام بلا خشية في الخروج من البيوت.

(2/130)


والعورة الغليظة على هذا الاختلاف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ما ذكر الساعد وهو عورة.
قلت: لأنها لم تدخل في الاستثناء لأن العادة لم تجر بإبرازها.

م: (والعورة الغليظة على هذا الاختلاف) ش: العورة الغليظة هي القبل والدبر، وأراد بهذا الاختلاف المذكور فيما تقدم من انكشاف النصف والربع، يعني إذا لم يكن المكشوف منها زائدا على النصف لا يكون مانعا عند أبي يوسف، وعندهما إذا لم يكن ربعها مكشوفا لا يكون مانعا. واعلم أن عند عامة العلماء العورة الغليظة حكمها حكم الخفيفة، والخلاف في الكل واحد.
والعورة الخفيفة: ما عدا القبل والدبر، وبعض المشايخ قدروا في الغليظة بما زاد على قدر الدرهم؛ احتياطا، كما في النجاسة الغليظة، وكذا في الخفيفة بالربع، والأصح الأول. ولو نظر إلى داخل فرج امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وبنتها، ويصير مراجعا ولا تفسد صلاته. وفي " الأجناس ": تفسد صلاته أيضا. وذكر ابن شجاع أن من نظر من ربقه إلى فرجه لم تجز صلاته. وفي نوادر هشام: إذا كان قميصه محلول الجيب فانفتح حتى رأى عورة نفسه، تبطل صلاته وأعاد، وإن لم يلتزق الثوب ببردة حتى لا يراها لو نظر، لا تفسد، فعلى هذه الرواية جعل سترها من نفسه شرطا، ومن الأصحاب من قال: إن كان كثيف اللحية تجوز صلاته لأنها تسترها. وقال بعضهم: لا تجوز ولا تنفعه لحيته.
وفي " الذخيرة ": وعامة الأصحاب جعلوا الستر شرطا عن غيره لا عن نفسه؛ لأنها ليست بعورة في حق نفسه لأنه يحل له مسها والنظر إليها، وبالأول قال الشافعي وأحمد. وروى ابن شجاع نصا عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لو كان محلول الجيب فنظر إلى عورة نفسه لا تفسد صلاته، ولو نظر المصلي إلى عورة غيره لا تفسد صلاته عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال المرغيناني: هو قولهما، ولو صلى في قميص واحد لا يرى أحد عورته، لكن لو نظر إنسان من تحته فرأى عورته، فهذا ليس بشيء. والثوب الرقيق الذي يصف ما تحته لا تجوز فيه، وهو قول الشافعي وأحمد لأنه مكشوف العورة معنى.
مراهقة صلت بغير قناع جازت استحبابا لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا صلاة لحائض إلا بقناع» ، مفهومه أن غير الحائض صلاتها صحيحة بغير قناع، ولو كانت عريانة تؤمر بإعادتها، والصغيرة جدا لا بأس بالنظر إليها ومنها. وقال الشافعي: يستوي في العورة الحر والعبد والصبي، حكاه النووي. ولنا ما رواه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرج بين فخذي الحسن وقبل زبيرته» ذكره الطبراني في معجمه الكبير.
لا يجب ستر المنكب في الصلاة ولا في غيرها، وبه قال مالك والشافعي وعامة أهل العلم.
وقال أحمد: لا تصح صلاته بدونه ستر بعض المنكبين ولو بثوب رقيق يصف ما تحته، في ظاهر

(2/131)


والذكر يعتبر بانفراده، وكذا الأنثيان، وهذا هو الصحيح دون الضم. قال: وما كان عورة من الرجل فهو عورة من الأمة، وظهرها وبطنها عورة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مذهبه، وعنه ابن قدامة في " المغني ". وقال ابن المنذر: يجب ستر العاتق في الصلاة مع القدرة عليه بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» أخرجاه. قلنا: قد عارضه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا كان الثوب واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به» رواه البخاري. «وسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في ثوب واحد فقال: "ولكل منكم ثوبان» رواه مسلم.

م: (والذكر يعتبر بانفراده) ش: من غير أن يضم إلى الأنثيين، احتياطا، كما في الدية. م: (وكذا الأنثيان) ش: أي وكذا حكم الخصيتين مثل حكم الذكر، حيث لا يضم كل منهما إلى الآخر حتى يمنع انكشاف الربع من كل واحد من الذكر والأنثيين.
م: (وهذا هو الصحيح) ش: يعني اعتبار كل واحد منهما بانفراده من غير ضم إلى آخر هو الصحيح من المذهب، واحترز به عما ذكر بعض المشايخ أن الأنثيين مع الذكر عضو واحد فجعلوهما تبعا للذكر.
وأذن المرأة عضو على حدة، والركبة تبع للفخذ على ما هو المختار في الفتاوى، حتى إن ربع الركبة لو كان مكشوفا لا يمنع الصلاة. وكعب المرأة حكمها حكم الركبة. وما بين سرة الرجل وعانته حول جميع البدن عضو على حدة.
م: (دون الضم) ش: أي دون ضم الذكر إلى أنثيين على ما ذكرناه

[عورة الأمة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وما كان عورة من الرجل فهو عورة من الأمة) ش: عورة منصوب لأنه خبر كان، قاله بعض الشراح.
قلت: يجوز الرفع أيضا على أن تكون (كان) تامة وإن كانت عورة الأمة، ما هو عورة الرجل؟ لأن حكم العورة في الإناث أغلظ، فإذا كان الشيء من الرجال عورة كان من الإناث عورة بالطريق الأولى م: (وظهرها وبطنها عورة) ش: يعني: هذان العضوان أيضا عورة من الأمة لأنهما محل من الشهوة. وقال المرغيناني: العورة من الأمة أربع: الظهر والبطن والفخذ والركبة.
قلت: ويضاف إليها المدبرة وأم الولد والمكاتبة والمستسعاة، ومن كان في رقبتها شيء من الرق فهي في معنى الأمة، والمستسعاة عندهما حرة، والمستسعاة المرهونة إذا أعتقها الراهن وهو معسر حرة بالاتفاق، ذكره في " الجامع "، وقال الشافعي في أصح أقواله: الأمة كالرجل، والتي بعضها حر فيها وجهان في " الحاوي " أحدهما: كالحرة، وعند أحمد فيما حكاه عن أبي حامد: عورة الأمة كعورة الرجل، وهو الأظهر عندهم، حتى لو انكشف فيها ما بين سرتها وركبتها فصلاتها باطلة، وإن انكشف ما عدا ذلك صحت.

(2/132)


وما سوى ذلك من بدنها ليس بعورة؛ لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ألق عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الجامع ": عورة الأمة ما عدا الرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين. وعن ابن سيرين: أم الولد يلزمها ستر رأسها في الصلاة، وإذا زوج الأمة سيدها أو سواها قال الحسن البصري: يلزمها ستر رأسها، ولم يوافقه أحد من العلماء. وفي " المبسوط ": عتقت الأمة أو المدبرة أو المكاتبة أو أم الولد في صلاتها، فأخذت قناعها بعمل يسير قبل أن تؤدي ركنا، لا تفسد صلاتها وإلا فسدت، وكذا لو سقط قناع الحرة في صلاتها وإزار الرجل.
وقال زفر: تفسد في الكل، ولو صلت شهرا بغير قناع ثم علمت بالعتق منذ شهر تعيدها. وفي فتاوى العتابي السغناقي: ولو كان عليها ثوب أو مقنعة تصف ما تحته فهي عريانة، وبه قال الشافعي. وفي " الحلية ": عورة الأمة كعورة الرجل، على ظاهر المذهب. وبعض أصحابنا قال: جميع بدنها عورة إلا موضع التقليب منها في الشراء كالرأس والساعد والساق.
وقال بعضهم: عورتها كعورة الحرة، إلا أنها يجوز لها كشف رأسها ولو كان نصفها حرا ونصفها رقيقا فهي كالحرة على ظاهر المذهب. وعن ابن سيرين: أم الولد تصلي بخمار وهي عورة، رواية عن أحمد، ويحكى عن مالك أيضا: ولو أعتقت الأمة في الصلاة ورأسها مكشوف وهنا سترة بعيدة، بطلت صلاتها، وفي " الحاوي ": فيه اختلاف، والصحيح أنها تبطل لقدرتها على أخذ الثوب في الحال. والثاني يبطل بالمضي وبطول العمل، وإذا انتظرت من يناولها الستر فناولها من غير أن تحدث عملا ففيه وجهان، أحدهما: لا تبطل صلاتها، والثاني: تبطل. ولو علمت بالعتق بعد الصلاة ففي وجوب الإعادة قولان، وقيل: يجب الإعادة قولا واحدا، والأول أصح.
م: (وما سوى ذلك من بدنها) ش: أي وما سوى ذلك من عورتها مثل عورة الرجل وبطنها وظهرها م: (ليس بعورة لقول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ألق عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر) ش: هذا الأثر غريب، قال السروجي: وفي الكتاب وغيره من كتب الفقه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه قال لأمة: ألقي عنك الخمار.. إلخ. لم أجده في كتب الحديث والأثر.
قلت: معناه رواه عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب أمة لآل أنس رأسها متقنعة فقال: اكشفي رأسك لا تتشبهي بالحرائر. وعن ابن جريج عن عطاء عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان نهى الإماء عن الجلابيب أن يتشبهن بالحرائر. قال ابن جريج: وجد أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب عقيلة أمة أبي موسى الأشعري في الجلباب أن تتجلبب. وعن ابن جريج عن نافع أن صفية بنت عبيد حدثته قالت: خرجت امرأة مخمرة سجلة فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من هذه المرأة؟ فقيل له: جارية لفلان، رجل من بنيه

(2/133)


ولأنها تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها عادة، فاعتبر حالها بذوات المحارم في حق جميع الرجال دفعا للحرج.
قال: ومن لم يجد ما يزيل به النجاسة صلى معها ولم يعد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأرسل إلى حفصة فقال: ما حملك على أن تخرجي هذه الأمة وتجليها حتى هممت أن أقع لها [....
] لا تشبه الإماء من المحصنات.
وروى محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن سليمان عن إبراهيم النخغي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يضرب الإماء أن يتقنعن ويقول: لا يتشبهن بالحرائر.
وقال البيهقي: الآثار بذلك صحيحة. قوله يا دفار، بفتح الدال المهملة، وفي آخره راء مكسورة، ومعناه: يا منتنة، وهي معدولة عن دفرة أي منتنة وهي مبنية من الكسر، ويقال للدنيا: أم دفر.
قوله: ألقي، مجزوم عند الكوفيين وعلامة جزمه حذف النون، وعند البصريين مبني على الجزم.
م: (ولأنها) ش: أي ولأن الأمة م: (تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها) ش: بفتح الميم وكسرها، قاله صاحب " الدراية ". قال في " المغربين ": المهنة: الخدمة، بنصب الميم، وخفضه خطأ، قاله شمس الأئمة عن مشايخه. قال الأصمعي: المهنة بفتح الميم هي الخدمة، ولا يقال: مهنة بكسر، نقله الزمخشري عنه وهو من: مهن القوم خدمهم م: (عادة) ش: أي في عادة أصحاب الإمام.
م: (فاعتبر حالها بذوات المحارم في حق جميع الرجال) ش: يعني يجوز أن ينظر الرجل من ذوات محارمه إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين، فكذا يجوز أن ينظر الأجنبي من الأمة إلى هذه المواضع م: (دفعا للحرج) ش: لأن البعض من غير استئذان واحتشام
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن لم يجد ما يزيل به النجاسة صلى معها) ش: أي مع النجاسة.
وكلمة ما بالقصر ليتناول المائعات، كذا ذكره الشراح، ويجوز أن يكون بالمد، ولكن الأول أولى للعموم م: (ولم يعد) ش: أي الصلاة. وقال الشافعي: يعيد، وفي قول: يصلي عريانا، وهو ظاهر مذهبه.
وقال مالك: يصلي في الثياب النجسة ولا يعيد، ثم المذهب عندنا أن إزالة النجاسة عن الثوب والبدن والمكان شرط لصحة الصلاة عند القدرة، ولا فرق بين العلم والجهل والنسيان في الفرض والنفل وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة والشكر. وبه قال الشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء من السلف والخلف.
وقال النووي: عن مالك فيها ثلاث روايات، أشهرها أنه لا تصح مع النسيان والجهل، وهو

(2/134)


وهذا على وجهين: إن كان ربع الثوب أو أكثر منه طاهرا يصلي فيه، ولو صلى عريانا لا يجزئه؛ لأن ربع الشيء يقوم مقام كله؛ وإن كان الطاهر أقل من الربع فكذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن في الصلاة فيه ترك فرض واحد، وفي الصلاة عريانا ترك للفروض، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: يتخير بين أن يصلي عريانا وبين أن يصلي فيه، وهو الأفضل؛ لأن كل واحد منهما مانع جواز الصلاة حالة الاختيار، ويستويان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول الشافعي في القديم وفي الثانية معنا، وفي الثالثة إزالتها سنة عنده، ونقل عن ابن عباس وابن جبير وعطاء مثله.
م: (وهذا) ش: أي الحكم المذكور أو الجواب المذكور م: (على وجهين) ش: أحدهما هو قوله: م: (إن كان ربع الثوب أو أكثر منه) ش: أي أكثر من الربع م: (طاهرا يصلي فيه) ش: أي في هذا الثوب م: (ولو صلى عريانا لا يجزئه) ش: ولو قال فلو صلى، بالفاء، لكان أولى على ما لا يخفى م: (لأن ربع الشيء يقوم مقام كله) ش: فحينئذ عاره، وهو ظاهر، والوجه الثاني هو قوله: م: (وإن كان الطاهر أقل من الربع فكذلك) ش: أي فالحكم فيه كالحكم في الأول م: (عند محمد وهو أحد قولي الشافعي) ش: وقول مالك وأحمد.
وقال النووي: فإن وجد ما يستر به القبل أو الدبر ففيه وجهان، أصحهما يستر به القبل لأن الدبر يستر بالأليتين. والثاني: يستر به الدبر لأنه أفحش في حالة الركوع والسجود، ومثله في " المغني " عن الحنابلة حكما وتعليلا، وأصول أصحابنا يقتضي التخيير في ذلك لأن كل واحد منهما عورة غليظة.
م: (لأن في الصلاة فيه) ش: أي في الثوب الذي الطاهر منه أقل من الربع م: (ترك فرض واحد) ش: وهو إزالة النجاسة م: (وفي الصلاة عريانا) ش: أي حال كونه عريانا م: (ترك للفروض) ش: وهو ستر العورة والقيام والركوع والسجود، ولأن الستر أقوى لوجوبه في الصلاة وغيرها بخلاف النجاسة حيث لا يلزم إزالتها إلا للصلاة، ولهذا إذا طاف عرايا يلزمه دم، ولا يلزمه إذا طاف بثوب نجس.
م: (وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: يتخير بين أن يصلي عريانا وبين أن يصلي فيه) ش: أي في الثوب الذي أقل من ربعه طاهر م: (وهو الأفضل) ش: أي فعله هذا هو الأفضل، وهو الصلاة بعد م: (لأن كل واحد منهما) ش: أي من ترك ستر العورة وإزالة النجاسة م: (مانع جواز الصلاة حالة الاختيار) ش: أي في حالة القدرة عليهما م: (ويستويان) ش: جملة في محل الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وهما يستويان، وإنما قدرنا هكذا ليكون عطف جملة اسمية على جملة اسمية؛ أي تساوي العورة والنجاسة.

(2/135)


في حق المقدار، فيستويان في حكم الصلاة، وترك الشيء إلى خلف لا يكون تركا، والأفضلية لعدم اختصاص الستر بالصلاة
واختصاص الطهارة بها. ومن لم يجد ثوبا صلى عريانا قاعدا يومئ بالركوع والسجود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (في حق المقدار) ش: هذا الكلام له وجهان، أحدهما أن يكون معناه أن القليل من كل واحد غير مانع والكثير مانع، فلما كان كذلك ثبت المساواة بينهما في الماهية من غير رجحان أحدهما على الآخر، فيختار أيها شاء.
والوجه الثاني: أن يكون معناه: في مقدار الربع، فإن المانع في النجاسة الخفيفة مقدر بالربع، وكذا المانع في العورة الربع، فلما استويا في المانع وفي المقدار استوى اختيار المصلي أيضا في أن يصلي فيه أو يصلي عريانا، وأشار إليه بقوله:
م: (فيستويان في حكم الصلاة) ش: فيكون مخيرا بين الصلاة في ذلك الثوب وبين الصلاة عريانا م: (وترك الشيء إلى خلف لا يكون تركا) ش: هذا جواب عما قاله محمد أن في ترك الصلاة عاريا ترك الفروض، يعني لا نسلم أن فيها تركا لوجود الخلف وهو الإيماء.
م: (والأفضلية) ش: هذا جواب عن قول السائل سلمنا أنه أتى بفرض وترك فرضا ولكن لا نسلم المساواة بينهما، فإن فرضية الستر أقوى من فرضية ترك استعمال النجاسة، ومن أين الأفضلية، فأجاب عن ذلك وأقام دليلا على قوله، وهو الأفضل، بقوله: والأفضلية؛ أي كون الصلاة في ذلك الثوب أفضل.
م: (لعدم اختصاص الستر بالصلاة) ش: يعني ستر العورة لا يختص بالصلاة حيث يجب سترها في غير الصلاة، وكانت رعاية ما كان واجبا دائما أولى مما كان واجبا في حال دون حال

[صلاة العريان]
م: (ومن لم يجد ثوبا) ش: أي لم يجد ثوبا أصلا لا طاهرا ولا نجسا م: (صلى عريانا) ش: أي صلى حال كونه عريانا.
م: (قاعدا يومئ بالركوع والسجود) ش: قاعدا أيضا حال، وكذا قوله: يومئ. فهذه ثلاثة أحوال، إما متداخلة أو مترادفة، وتغير القعود عن ركن الإسلام على الصفة بأن يمد رجليه نحو القبلة ليكون أقرب إلى الستر، وما ذكره المصنف هو مروي عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وعكرمة وقتادة والأوزاعي وأحمد. وقال المزني: يصلي قاعدا حتما، وقال مجاهد وزفر وبشير ومالك والشافعي وابن المنذر: يصلي قائما يركع ويسجد. وقال النووي: حكى الخراسانيون فيه ثلاثة أوجه، أحدها وجوب القيام، كما ذكرنا عن الشافعي.
الثاني: وجوب القعود كقول المزني.
الثالث: التخيير.

(2/136)


هكذا فعله أصحاب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإن صلى قائما أجزأه، لأن في القعود ستر العورة الغليظة وفي القيام أداء هذه الأركان، فيميل إلى أيهما شاء، إلا أن الأول أفضل؛ لأن الستر واجب لحق الصلاة وحق الناس، ولأنه لا خلف له، والإيماء خلف له عن الأركان.
قال: وينوي الصلاة التي يدخل فيها بنية لا يفصل بينها وبين التحريمة بعمل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمذهب الصحيح عندهم الأول.
م: (هكذا فعله أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: قال الزيلعي: غريب.
قلت: روى الخلال بإسناده عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن قوما انكسرت بهم السفينة فخرجوا عراة وكانوا يصلون جلوسا يومئون بالركوع والسجود دائما برؤوسهم، ولم ينقل خلافه، وروى عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا إبراهيم ابن محمد عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: الذي يصلي في السفينة والذي يصلي عريانا يصلي جالسا. أخبرنا إبراهيم عنه عن صلاة العريان فقال: إن كان حيث يراه الناس صلى جالسا، وإن كان حيث لا يراه الناس صلى قائما.
م: (فإن صلى قائما أجزأه لأن في القعود ستر العورة الغليظة، وفي القيام أداء هذه الأركان، فيميل إلى أيهما شاء) ش: أي إلى أي الوجهين، أحدهما الصلاة قاعدا مومئا بالركوع، والآخر قائما م: (إلا أن الأول) ش: أي الصلاة قاعدا مومئا بالركوع والسجود م: (أفضل) ش: من الصلاة قائما م: (لأن الستر واجب لحق الصلاة وحق الناس) ش: لأن ستر العورة فرض، سواء كان في الصلاة أو خارجها.
م: (ولأنه) ش: دليل بأن في أفضلية الصلاة قاعدا بالإيماء، ولأن فعله قائما م: (لا خلف له) ش: لأنه عريان والستر لا خلف له م: (والإيماء خلف له عن الأركان) ش: فالترك إلى خلف كلا ترك، كما عرف، ولا إعادة عليه. قال أبو حامد: لا أعلم خلافا بين المسلمين، ذكره النووي. وذكر الحسام وقاضي خان في الزيادات وأبو نصر في شرح " القدوري " أنه يصلي قائما، ولم يذكروا جوازها قائما، وعللوا أن ترك القيام جائز في حالة الاختيار كصلاة القاعد وعلى الدابة بالإيماء في النفل.
وكشف العورة لا يجوز في حال الاختيار حتى إنها لو صلت قائمة تنكشف قائمة ربع ساقها، وقاعدة لا تنكشف، تصلي قاعدة، وذكر جوازه قائما بالركوع والسجود في " المبسوط " " والمحيط " وغيرهما.

[النية من شروط الصلاة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وينوي الصلاة التي يدخل فيها بنية لا يفصل بينها وبين التحريمة بعمل) ش: اجتمعت الأمة على أن الصلاة لا تصح بدون النية، وقطع الجمهور أن نية القلب كافية دون اللفظ، وفي قول أبي عبد الله الترمذي من الشافعية أنه لا يجوز حتى يجمع بين نية القلب

(2/137)


والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الأعمال بالنيات» . ولأن ابتداء الصلاة بالقيام إليها، وهو متردد بين العبادة والعادة، ولا يقع التمييز إلا بالنية، والمتقدم من النية على التكبير كالقائم عنده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفعل اللسان، وليس بشيء. وفي " المفيد ": كره بعض مشايخنا النطق باللسان، ورواه الآخرون به.
وفي " المحيط ": النية شرط لصحة الصلاة، وهي إرادتها بالقلب فرض والذكر باللسان سنة، فينبغي أن يقول: اللهم إني أريد صلاة كذا فيسرها وتقبلها مني؛، فعلها مني، كما يقول في الحج من معرفة أي صلاة يؤديها، كذا في " المبسوط " قوله: بنية، إلى آخره، إشارة إلى أن الأصل في النية المقارنة بالشروع، والمراد بقوله: بعمل، أي عمل ينافي الصلاة حتى لم يكن المشي إليها فاصلا لعدم منافاته، وإذا فصل بينهما فعل مناف لا تكون النية موجودة عند التحريمة، فبقي بلا نية فلا يصح. وفي " الينابيع ": يشترط اتصال النية بالصلاة؛ تحقيقا لمعنى الإخلاص، وشرطت في ابتدائها لتقع كلها مستويا، ولم يشترط في حالته البقاء للحرج. والشرط أن يعلم بقلبه أية صلاة يصليها. وقيل: أدناها أنه لو سئل عنها لأمكنه أن يجيب بديهة من غير فكر.
م: (والأصل فيه) ش: أي في اشتراط النية م: (قوله عليه الصلاة والسلام: «الأعمال بالنيات» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولفظ مسلم: «الأعمال بالنيات» ، مثل لفظ الكتاب، وفي رواية: «الأعمال بالنية» ومعنى الأعمال بالنيات: حكم الأعمال وثوابها يلصق بها، ومن جملة الأعمال عمل الصلاة، ولا يمتاز إلا بالنية، لأن ابتداء الصلاة بالقيام وهو يوجد كثيرا ولا عبادة، فاحتاج إلى النية المميزة للعبادة عن العادة، فاشترطت النية.
فإن قلت: كيف يصح الاستدلال على شرطية النية أو على عدم الفصل بينها وبين التحريمة بهذا الحديث؛ فإن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الأعمال، من قبيل الاقتضاء، على مذهب أبي يزيد، ومن قبيل المحذوف على مذهب الشيخين. وعلى التقديرين لا عموم له، وحكم الآخرة وهو الثواب مراد بالإجماع، فلا يكون حكم الدنيا وهو الجواز والفساد مرادا لأنه لا عموم له ولا للمقتضي ولا للمنزل.
قلت: الجواز في حكم الآخرة أيضا؛ إذ الثواب يتعلق بالجواز، إذ لا ثواب بدونه. وقيل بعد كون العمل معتبرا بالنية: الحكم نوعان، فقلنا: يحتاج إلى النية بوقوعه معتبرا شرعا.
م: (ولأن ابتداء الصلاة بالقيام إليها، وهو متردد بين العبادة والعادة، ولا يقع التمييز إلا بالنية، والمتقدم من النية على التكبير كالقائم عنده) ش: أي كالموجود عند التكبير.

(2/138)


إذ لم يوجد ما يقطعه، وهو عمل لا يليق بالصلاة، فلا يعتبر بالمتأخرة منها عنه؛ لأن ما مضى لا يقع عبادة لعدم النية، وفي الصوم جوزت للضرورة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إذ لم يوجد ما يقطعه) ش: أي ما يقطع المتقدم من النية م: (وهو) ش: أي الذي يقطعه م: (عمل لا يليق بالصلاة) ش: مثل أن ينوي فيشتري شيئا مثلا م: (فلا يعتبر بالمتأخرة) ش: أي بالنية المتأخرة م: (منها) ش: أي من التحريمة م: (عنه) ش: أي عن التكبير، وفي بعض النسخ لم يذكر لفظة عنه، ومعناه على هذه النسخة: لا معتبر بالنية المتأخرة من التحريمة، وعلى النسخة الأولى جعل المتأخرة صفة مطلقة، ثم بينها بقوله: منها، كذا قاله الأترازي.
قلت: الأوجه ما ذكرته فلا يحتاج إلى التكلف.
فإن قلت: لفظة (عنه) تنافي ما ذكرته.
قلت: لا، لأن لفظة (عنه) على تقدير كونها من النسخة تكون بدلا عن الضمير الذي في (منها) الذي هو كناية عن التحريمة، فافهم.
م: (لأن ما مضى) ش: يعني من الأجزاء م: (لا يقع عبادة لعدم النية) ش: والأجزاء الباقية مبنية عليه فلم يجز، وبه قال الشافعي. وعن الكرخي: يجوز بالمتأخرة ما دام في الثناء. وقيل: إلى التعوذ. وقيل: إلى ما بعد الفاتحة. وقيل: إلى الركوع، وهو مروي عن محمد. وفي " القنية " عن الحلوائي: كبر ثم غفل عن النية ثم نواها يجوز.
وفي " المحيط ": لو نوى بعد قوله: الله، قبل قوله: أكبر، لا يجزئه عند أبي حنيفة، وفيه أيضا عن محمد: لو خرج من منزله يريد الفرض في الجماعة، فلما انتهى إلى الإمام كبر ولم تحضره النية وقت الشروع، يجوز. ومثله عن أبي حنيفة وأبي يوسف. وذكر الطحاوي أن النية تكون مخالطة للتكبير باللسان، قال: وهو الأحوط، ولا يجوز بعد التكبير ويكون متطوعا.
وقال الشافعي: يجب أن تكون النية مقارنة للتكبير لا قبله ولا بعده. وقال النووي: وفي كيفية المقارنة وجهان، أحدهما بحيث يبتدئ النية بالقلب مع ابتداء التكبير باللسان، ويفرغ منها مع فراغه منه. قال: وأصحهما لا يجب هذا، بل لا يجو لئلا يخلو أول التكبير عن إتمام النية. واختيار إمام الحرمين والغزالي أنه لا يجب التدقيق وتحقيق المقارنة، وأنه تكفي المقارنة العرفية العامية، حيث يعد مستحضر الصلاة غير غافل عنها.
م: (وفي الصوم جوزت للضرورة) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: كان القياس على ما ذكرت في الصلاة أن لا تجوز النية المتأخرة في الصوم أيضا؛ لاشتراط النية منهما، وتقرير الجواب أن ما ذكرت في الصوم جوزت النية المتأخرة لأجل الضرورة لأن قران النية بوقت انفجار الصبح فيه حرج عظيم لكونه وقت نوم وغفلة بخلاف الصلاة، فإن الشروع فيها حال اليقظة

(2/139)


والنية هي الإرادة، والشرط: أن يعلم بقلبه أي صلاة هي، أما الذكر باللسان فلا يعتبر به، ويحسن ذلك لاجتماع عزيمته ثم إن كانت الصلاة نفلا يكفيه مطلق النية، وكذا إن كانت سنة في الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فبقي الحكم على القياس، وهو أن تكون النية مقارنة بالشروع.

[تعريف النية]
م: (والنية هي الإرادة) ش: هذا تفسير النية؛ أي الإرادة الجازمة القاطعة م: (والشرط: أن يعلم بقلبه أي صلاة هي) ش: لأن النية الإرادة كما ذكره، والإرادة لا بد أن تكون بشيء مخصوص ليقع التميز بينه وبين غيره، والتمييز لا يكون إلا بعلمه، وعلامة علمه أنه إذا سئل عن ذلك أمكنه أن يجيب على الفور، فإن توقف في الجواب لم يكن عالما به، فعلم من ذلك أن العلم غير النية، ولكن شرطها، وقال شيخ الإسلام: الأصح أن العلم لا يكون نية لأنه غيرها، ألا ترى أن من علم الكفر لا يكفر ولو نواه يكفر، فتناول قول المصنف والشرط قصد بعد العلم. قلت: ما في كلام المصنف ما يشير إلى هذا، والأحسن ما ذكرته أولا.
م: (أما الذكر باللسان فلا يعتبر به) ش: يعني في الجواز لأنه كلام وليس بنية ومن عمل القلب، واللسان يوجه عن ذلك م: (ويحسن ذلك) ش: أي الذكر باللسان م: (لاجتماع عزيمته) ش: أي لاجتماع نيته به. وذكر في بعض الكتب أن الذكر باللسان يستحب، وعبارة " المبسوط " أنه حتم، وعند بعضهم أنه سنة مؤكدة ومكملة. وذكر في " جامع الكردري " أنه يكره الذكر باللسان عند البعض لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنكر على من يسمع ذلك منه، ولأن النية عمل القلب والله مطلع على الضمائر، فالإيضاح في حقه غير مفيد، فيكره.
م: (ثم إن كانت الصلاة نفلا يكفيه مطلق النية) ش: وهذا بيان لكيفية النية، لأن النية لها أصل ووقت وكيفية، وقد بين المصنف أصلها بقوله: والأصل فيه بين وقتها بقوله: والمتقدم على التكبير، إلى آخر، وشرع هذا في بيان كيفيتها لأن الصلاة التي يدخل فيها إما فرض أو غيره، فإن كان غير الفرض بأن كان نفلا يكفيه مطلق النية لأنها للتمييز عن العادة، وهو يحصل بمطلق النية بأن يقول: نويت أن أصلي، ولأن العمل لعموم أفرادها متعذر إذ الجمع بين الفرائض والنوافل في تحريمة واحدة لا يجوز، فيكون المراد أحدهما، فكان صرف اسم الصلاة إلى النفل أولى لأنه أدنى لأن النفل مشروع في كل الأوقات، فكان بمنزلة الحقيقة وغيره بمنزلة المجاز، والكلام على الحقيقة، كذا ذكره شيخ الإسلام. م: (وكذا إن كانت سنة) ش: أي وكذا يكفيه مطلق النية إن كانت الصلاة سنة لأن السنة نفل أيضا لكونها زيادة عبادة شرعت لتكميل الفرائض. وقوله: سنة، يشتمل سائر السنن وكذا التراويح.
م: (في الصحيح) ش: احترز به عما ذكره بعض المشايخ لأنه لا بد من أن ينوي سنة الرسول، إذ فيها صفة زائدة على النفل المطلق كما في الفرض. وفي " التجنيس " والاحتياط أن ينوي

(2/140)


وإن كانت فرضا فلا بد من تعيين الفرض كالظهر مثلا لاختلاف الفروض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متابعة الرسول، وبه قال الشافعي، فإنه ذكر في شرح " الوجيز " و " الحلية ": النوافل ضربان: ما يتعلق بسبب أو وقت، فيشترط فيه نية فعل الصلاة والتعيين فينوي، كسنة الاستسقاء والخسوف والعيد والتراويح والضحى وغيرها. وفي الرواية يتعين بالإضافة فيقول: سنة الفجر أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء، وفيما عداها يكفي مطلق النية.
م: (وإن كانت فرضا) ش: أي وإن كانت الصلاة فرضا من الفرائض م: (فلا بد من تعيين الفرض كالظهر مثلا) ش: فيقول: نويت ظهر اليوم وعصر اليوم أو فرض الوقت أو ظهر الوقت، فإن نوى الظهر لا غير لا يجوز م: (لاختلاف الفروض) ش: لأنها متنوعة فلا يحصل له التمييز.
وفي " المحيط ": لو نوى الظهر بدون ذكر اليوم والوقت لا يجزئه لأنه ربما كانت عليه صلاة فائتة فلا يتعين، أما لو نوى فرض الوقت يجزئه وخارج الوقت لا، والأولى أن يقول: ظهر اليوم، سواء كان الوقت خارجا أو لا.
وفي " المجتبى " لا بد من نية الصلاة ونية الفرض ونية التعيين، حتى لو نوى الفرض لا تجزئه، ولو نوى فرض الوقت أو فرض الظهر يجزئه، وإن ظهر أنه خرج الوقت.
والصحيح أنه لا يجزئه ولو نوى الظهر لا غير.
قيل: لا يجزئه، والأصح أنه يجزئه، وإن ظهر أنه خرج الوقت، فالصحيح أنه لا يجزئه. ولو نوى الظهر لا غير قيل: لا يجزئه، والأصح أنه يجزئه، ذكره في فتاوى السغناقي. وعند الشافعي ينوي الظهر المفروضة. وقال ابن أبي هريرة من أصحابه: يجزئه نية الظهر أو العصر كما هو مذهبنا.
وفي " المجتبى ": وفي اشتراط نية فرض الصلاة ونية استقبال القبلة اختلاف المشايخ، ولم يذكره في ظاهر الرواية فعند الفضلي شرط وعند الحامدي إن أتى به فحسن، وإن تركه لا يضر، في " الخزانة ": وهو الصحيح.
وبعض المشايخ قالوا: إن كان يصلي في المحراب فكما قال الحامدي، وإن كان يصلي في الصحراء فكما قال الفضلي، كذا في " شرح الطحاوي ". ولو نوى فرض الوقت بعدما خرج الوقت لا يجوز، وإن شك في خروجه فنوى فرض الوقت جاز. وعند الشافعي لا يجوز في أصح الوجهين.
وفي " جامع الكردري " ينوي الجمعة ولا ينوي فرض الوقت لأنه مختلف فيه، وينوي الوتر لا الوتر الواجب لأنه مختلف فيه، وفي صلاة الجنازة ينوي الصلاة لله تعالى والدعاء للميت.

(2/141)


وإن كان مقتديا بغيره ينوي الصلاة ومتابعته؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن كان) ش: المصلي م: (مقتديا بغيره ينوي الصلاة) ش: التي شرع فيها م: (ومتابعته) ش: أي نوى أيضا متابعة الإمام، فإذا نوى صلاة الإمام هل تجزئه؟ قال في " الخلاصة ": لا تجزئه، وقال في " شرح الطحاوي ": أجزأه، وقام مقام نيتين.
وقيل: يحتاج المقتدي إلى أربعة أشياء: نية الصلاة، وتعيينها، ونية الاقتداء، ونية القبلة، والصحيح ما ذكر أولا. وفي " المرغيناني ": يحتاج المنفرد إلى ثلاث نيات، أولها: ينوي أي هي، ثانيها ينوي لله تعالى، ثالثها ينوي استقبال عرصة القبلة، والمقتدي يحتاج إلى أربع نيات، الثلاثة منها تقدمت، والرابعة ينوي أنه اقتدى بفلان، والأفضل أن يقول من هو إمامي أو بهذا الإمام، جاز، ولا يجوز تركه نية الاقتداء، ونية الإمامة للإمام ليست بشرط عند عامة الفقهاء. وقال أبو حفص الكبير والكرخي: لا بد منه، وبه قال أحمد.
وأما نية إمامة النساء ففيها خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإمامة.
وفي " المفيد ": ويقول المقتدي: اللهم إني أريد أن أصلي فرض الوقت مستقبل القبلة مقتديا بهذا الإمام، أو بالإمام. ولو نوى الاقتداء بهذا الإمام ولم يعين الظهر أو نوى الشروع في صلاة الإمام، اختلف فيه المشايخ، قيل: لا يجزئه، والأصح أنه يجزئه. وفي " المحيط ": لو نوى الظهر ولم ينو ظهر الوقت قيل: لا يجزئه التطوع، وقيل: يجزئه إذ الفائتة عارضة.
ونية عدد الركعات والسجدات ليست بشرط عندنا، وهو المذهب عند الشافعي، وكذا نية استقبال القبلة عندهم. ولو نوى الظهر ثلاثا أو خمسا لا تنعقد صلاته عنده، وعندنا تصح صلاته ويلغو نية التفسير، ولو افتتح المكتوبة فظن أنها تطوع فأتمها على نية التطوع، فالصلاة هي المكتوبة لأن الشرط قران العزيمة بأول العبادة إذ قرانها بجميعها متعذر، ولو شرع فيها على أنها مثنية فإذا هي أحدية لا تصح، ولو ظن أنها أحدية فإذا هي مثنية يصح.
وفي " المبسوط " " والذخيرة ": ولو اقتدى بالإمام ينوي صلاته ولم يدر أنها ظهر أو جمعة تجزئه، ولو لم ينو صلاته ولكن نوى الظهر والاقتداء به فإذا هو في الجمعة، لا يصح لأنه نوى غير صلاة الإمام. وفي غير رواية أبي سليمان: إذا نوى الإمام الجمعة فإذا هي ظهر جازت، قال شمس الأئمة: وهو الصحيح. ولو نوى الإمام ولم يخطر بباله أنه زيد أو عمرو جاز الاقتداء، ولو نوى الاقتداء به ويظن أنه زيد فإذا هو عمرو صح. ولو مقال: اقتديت بزيد، أو نوى الاقتداء بزيد فإذا هو عمرو، لا يصح اقتداؤه.
وفي " الذخيرة ": قال مشايخنا: الأفضل أن ينوي الاقتداء بعد تكبيرة الإمام حتى يكون مقتديا بالمصلي، ولو نواه حتى وقف الإمام موقف الإمامة جاز عند عامة علمائنا، وبه كان يفتي الشيخ أبو إسماعيل الزاهد، والحاكم عبد الرحمن، وقال أبو سهل الكبير، والفقيه عبد الواحد،

(2/142)


لأنه يلزم فساد الصلاة من جهة الإمام، فلا بد من التزامه.
قال: ويستقبل القبلة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] (البقرة: الآية 144، 150) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والقاضي أبو حزم وكثير من أئمة بخارى أنه لا يجوز.
وقال الفقيه الزاهد الجواليقي: ينوي الاقتداء بعد قوله: الله، قبل التكبير، وإن كان الإمام قال: الله أكبر، قبل أن يكبروا، ثم كبروا بعد قوله: الله، أجزأهم، وإن فرغوا قبله، عن أبي يوسف في رواية خلف بن أيوب عنه أنه قال: إن مد الإمام التكبير وجذبه رجل خلفه ففرغ منه قبل الإمام قال: يعيد بعده، ولا تجزئه تلك التحريمة، وهذا يقتضي أنه لو مد وفرغ معه يجوز.
م: (لأنه يلزم فساد الصلاة من جهة الإمام فلا بد من التزامه) ش: أي يلزم فساد صلاة المقتدي من جهة الإمام لأنه ضامن، فلا بد من التزام الضروري وضرر الفساد لا يجوز أن يلحقه بدون التزامه فيشترط نية المتابعة.

[استقبال القبلة من شروط الصلاة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويستقبل القبلة) ش: استقبال القبلة شرط لصحة الفرض والواجبة إلا في حال الخوف. م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] (البقرة: الآية 144، 150) ش: أي شطر المسجد الحرام. وشطره: نحوه وجهته، وقرئ: إلى تلقاه. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شطره: قبله، قال الله تعالى {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] (البقرة: الآية 144) . ثم أمر بالتوجه شطر المسجد الحرام، فدل على أن استقبال القبلة فرض. ويقال: حيثما كنتم في بر أو بحر وأردتم الصلاة فولوا وجوهكم تلقاءه، أي ثمة وجهته. وعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما قدم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبلة البيت، وأنه أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، وقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت.» أخرجاه في الصحيحين. وقال أبو البقاء: وقيل ثلاثة عشر شهرا، وقيل: عشرة أشهر، وقيل: تسعة أشهر، وفي رواية أخرجاه في صلاة الصبح، ويتعلق بها مسائل أصولية وفروعية.
أما الأصولية فقبلوا خبر الواحد وجواز نسخ الكتاب والسنة المتواترة عند الظاهرية، وجواز نسخ السنة بالكتاب عند الشافعي وليس بظاهر، وحكم النسخ لا يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب، وجواز مطلق النسخ، وجواز الاجتهاد في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالضرب منه.
وأما الفروعية: فالوكيل إذا لم يعلم بعزله فهو باق على وكالته، والأمة إذا صلت مكشوفة الرأس وعلمت بالعتق في أثناء صلاتها إذا سترت رأسها من غير تراخ لأنه لم يبطل ما مضى من صلاتها قبل علمها بالعتق، وجواز الاجتهاد في أمر القبلة، ومن لم يعلم بفرض الله تعالى ولم يبلغه الدعوة ولا أمكنه الاستعلام من غيره، لا يلزمه الفرض، قاله الطحاوي، ونزلت على هذا أن

(2/143)


ثم من كان بمكة، ففرضه إصابة عينها، ومن كان غائبا ففرضه إصابة جهتها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من أسلم في دار الحرب أو أطراف بلاد الإسلام، بحيث لا يجد من غيره شرائع الإسلام، لا يجب عليه أن يقضي الصلاة والصيام، وفيه خلاف الشافعي ومالك.
م: (ثم من كان بمكة ففرضه إصابة عينها) ش: أي ثم المصلي الذي كان حاضرا في مكة ففرضه في استقبال [القبلة] إصابة عين الكعبة، سواء كان بين المصلي وبينها حائل، كجدار ونحوه، أم لم يكن، حتى لو اجتهد وصلى وبان خطؤه، قال: قال الرازي: يعيد. وذكر ابن رستم عن محمد فيمن بان خطؤه بمكة وبالمدينة أنه لا إعادة عليه، وهو الأقيس. ويجب أن يكون بالمدينة والمواضع التي عرفت صلاته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قطعا فيها كذلك؛ لأن قبلتها معلومة بيقين لإخباره - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بذلك أو نقله. وقال أبو البقاء: قبلة المدينة حين وضع جبرائيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - محراب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرفه أنه مناسب الكعبة.
وقيل: كان ذلك بالمعاينة بأن كشفت الجبال وأزيلت الحوائل، فرأى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الكعبة فوضع القبلة عليها. وقال أبو عبد الله الجرجاني وهو شيخ القدوري: الفرض إصابة عينها في حق الحاضر والغائب، ذكره في " الذخيرة " وغيرها.
م: (ومن كان غائبا عنها) ش: أي عن الكعبة م: (ففرضه إصابة جهتها) ش: أي جهة الكعبة، لأن الطاعة بحسب الطاقة، وبه قال جمهور أهل العلم، منهم الثوري، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبو داود، والمزني، والشافعي في قول، أخرجه الترمذي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وفي " الحلية ": من كان غائبا ولم يجد من يخبره بالقبلة اجتهد في طلبها.
وفي فرضه قولان: قال في " الإمام ": فرضه إصابة العين بالاجتهاد. والثاني ما نقله المزني: إصابة الجهة، وهو قول الباقين من أصحابه. وفي " الدراية ": ومن كان بمكة وبينه وبين الكعبة حائل يمنع المشاهدة كالأبنية، فالأصح أن حكمه حكم الغائب، ولو كان الحائل أصليا كالجبل، فله أن يجتهد، والأولى أن يصعد على الجبل حتى تكون صلاته إلى الكعبة يقينا. وفي " النظم ": الكعبة قبلة من في المسجد الحرام، والمسجد قبلة من بمكة، ومكة قبلة الحرم، والحرم قبلة العالم، وبه قال مالك. قيل: هذا على التقريب، فأما على التحقيق فالكعبة قبلة العالم. وروى الحسن عن أبي حنيفة وجوب نية استقبال القبلة. والصحيح أن استقبالها يغني عن النية، ذكره في " المبسوط " وغيره.
وفي " الذخيرة ": كان الشيخ أبو بكر بن محمد بن الفضل يشترط نية الكعبة مع استقبال القبلة، وكان الشيخ أبو بكر بن حامد لا يشترطها، وبعضهم اختار ما قاله ابن حامد فيما إذا صلى إلى المحراب، وما قاله الفضلي في الصحراء.

(2/144)


هو الصحيح؛ لأن التكليف بحسب الوسع ومن كان خائفا يصلي إلى أي جهة قدر؛ لتحقق العجز والعذر، فلا يكلف إلى التوجه، فأشبه حالة الاشتباه،
وإن اشتبهت عليه القبلة وليس بحضرته من يسأله عنها اجتهد وصلى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمختار أنه لا يشترط، وفي " البدائع ": هو الصحيح. ولا تجزئه نية بناء الكعبة ولا نية الحجر الأسود لأن القبلة العرصة إلى عنان السماء لا البناء، لأن البناء لو وضع في مكان آخر فصلى إليه لا يجزئه وإلى العرصة يجزئه. وكذا لو صلى على أبي قبيس يجوز وإن لم يقابل البناء، ولو نوى مقام إبراهيم أو الحجر وقد أتى مكة لا يجزئه، وإن كان لم يأتها وعنده المقام والحجر والبيت واحد، أجزأه، قاله أبو أحمد العياضي. وقال أبو نصر: لا يجزئه.
وفي " الجامع الأصغر ": لو نوى أن يصلي إلى المقام أو البيت لا يجزئه، وكذا لو نوى أن قبلته محراب مسجده لم يجزئه لأنه علامة القبلة. قال خواهر زادة: لو نوى بالمقام الجهة دون عينه لا يجزئه.
قلت: يشترط مسامتة القبلة.
م: (هو الصحيح) ش: يعني كون فرض الغائب إصابة جهة القبلة هو الصحيح، واحترز به عن قول الشيخ أبي عبد الله الجرجاني أن فرضه إصابة عينها، ويريد بذلك اشتراط عين الكعبة، وقد تقدم.
م: (لأن التكليف بحسب الوسع) ش: وليس في وسع الغائب إصابة عينها م: (ومن كان خائفا) ش: من عدو أو سبع، أو الغرق بأن بقي على لوح م: (يصلي إلى أي جهة قدر لتحقق العجز والعذر، فلا يكلف إلى التوجه، فأشبه حالة الاشتباه) ش: أي فأشبه حكم هذا الخائف حكم من اشتبهت عليه القبلة في تحقيق العذر، فيتوجه إلى أي جهة قدر، لأن الكعبة تعتبر بعينها ليتحقق المقصود بالتوجه إلى أي جهة قدر.

[حكم من اشتبهت عليه القبلة]
م: (وإن اشتبهت عليه القبلة وليس بحضرته من يسأله عنها، اجتهد وصلى) ش: الواو في وليس للحال، وقوله: من، في محل الرفع لأنها اسم ليس، والضمير المنصوب في يسأله يرجع إلى من، وفي عنها إلى القبلة. وقوله: اجتهد، جواب إنما قيد بالاشتباه لأنه لو لم يشتبه لا تجوز صلاته إلى جهة التحري بل يجب التوجه إلى جهة الكعبة، وقد يعدم من يسأله لأنه إذا كان عنده من يسأله لا تجوز صلاته بالتحري، ويجب عليه الاستخبار.
وإنما قيد بالحضرة إشارة إلى أنه لا يجب عليه أن يطلب من يسأله. وقيد بقوله: اجتهد وصلى؛ لأنه إذا صلى بدون الاجتهاد لا تجوز صلاته، حتى روي عن أبي حنيفة أنه يكفر لاستخفافه بالدين. وفي " النوازل ": رجل صلى إلى غير القبلة متعمدا فوافق ذلك الكعبة، قال أبو حنيفة: هو كافر، وقال أبو يوسف: جازت صلاته، قال الفقيه أبو الليث: القول ما قاله أبو حنيفة إن كان

(2/145)


لأن الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - تحروا وصلوا، ولم ينكر عليهم النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فعل ذلك على وجه الاعتقاد.
م: (لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تحروا وصلوا ولم ينكر عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: فيه حديثان، أحدهما عن عامر بن ربيعة قال: «كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر. زاد الترمذي: في "ليلة مظلمة" قال: "قال: فتغيمت السماء وأشكلت علينا القبلة، فصلينا وأعلمنا، فلما طلعت الشمس إذا نحن قد صلينا لغير القبلة، فذكرنا ذلك للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأنزل الله عز وجل {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » (البقرة: الآية 115) .
قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك ولا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان وهو يضعف في الحديث. ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده " وزاد فيه: " فقال: قد مضت صلاتكم، وأنزل الله الآية ".
وقال ابن القطان في "كتابه": الحديث معلول بأشعث وعاصم، فأشعث مضطرب الحديث ينكر عليه أحاديث، وأشعث السمان سيئ الحفظ يروي المنكرات عن الثقات، وقال: فيه عمرو بن على وهو متروك.
والحديث الثاني عن جابر: فروي من ثلاثة طرق:
أحدها: أخرجه الحاكم في " المستدرك " عن محمد بن سالم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: «كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سرية فأظل لنا غيم، فتحيرنا فاختلفنا في القبلة، فصلى كل واحد منا على حدة فجعل كل واحد منا يخط بين يديه ليعلم مكانه، فذكرنا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يأمرنا بالإعادة وقال لنا: "قد أجزأت صلاتكم» .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ومحمد بن سالم لا أعرفه بعدالة ولا جرح. وقال الذهبي: محمد بن سالم يكنى أبا سهيل وهو واه، ورواه الدارقطني، ثم البيهقي في "سننهما"، فقال: محمد بن سالم ضعيف.
الطريق الثاني: أخرجه الدارقطني ثم البيهقي ولفظهما: قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فصلوا وخطوا خطوطا، فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فسكت فأنزل

(2/146)


ولأن العمل بالدليل الظاهر واجب عند انعدام دليل فوقه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » (البقرة: الآية 115) . قال ابن القطان: فيه انقطاع ومجهول الحال.
والطريق الثالث: عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء عن جابر نحوه. فإن قلت: في حديث جابر اختلاف؛ لأن في أحد الطريقين: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سرية، وفي الآخر: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية كنت فيها.
قلت: التوفيق بينهما أن السرية كانت جريدة جردها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العسكر فمر فيها جابر واعتراهم ما ذكر، ولما قفلوا منها إلى عسكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سألوه، أو تكون الجريدة لم تجتمع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في المدينة، حتى يكون قوله: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقوله: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية، صادقين.
م: (ولأن العمل بالدليل الظاهر واجب) ش: هو الدليل الراجح وهو غلبة الظن م: (عند انعدام دليل فوقه) ش: أي فوق الدليل الظاهر. اعلم أن المجتهد في القبلة هو العالم بأدلتها وإن كان عاميا. قال تاج الشريعة: ومن الأدلة المحاريب القديمة المنصوبة في كل موضع؛ لأن نصبها كان باتفاق من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والتابعين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فإن الصحابة فتحوا العراق وجعلوا القبلة لأهلها بين المشرق والمغرب، ثم فتحوا خراسان وجعلوا قبلة أهلها بين مسوى الصيف والشتاء، ومنهم من توفي فجعل قبره إليها من غير إنكار من أحدهم، وكفى باجتماعهم حجة، فيلزمنا اتباعهم في ذلك.
ومن الأدلة السؤال في كل موضع عن أهله عنها لأنهم أعرف بقبلتهم عادة من غيرهم، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (النحل: الآية 43) . ومن الأدلة عند فقد هذه النجوم على ما حكي عن عبد الله بن المبارك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القضاء استقبال القبلة، وهو نجم إلى جنب القطب يعرف القبلة. قال: ونحن نجعل الجدي خلف الأذن اليمنى. وكان الشيخ أبو منصور الماتريدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: انظر إلى مغرب الشمس في أطول أيام السنة وإلى مغربها في أقصر أيام السنة، ثم دع الثلثين عن يمينك والثلث عن يسارك، فتكون مستقبل القبلة، فذلك الوضع، انتهى.

(2/147)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويقال: أدلة معرفة القبلة كثير، منها الشمس من مطلعها ومغربها، والقمر في سيره ومنازله والنجوم في طلوعها وأفولها، والرياح في مهابها، والأنهار في مجاريها، والجبال في وجوهها، والمجرة.
أما الشمس: فمن أشكلت عليه القبلة وكان بالمشرق يجعل الشمس خلفه في أول النهار وتلقاء وجهه في آخره، وإن كان في المغرب فعلى العكس، وإن كان بالشام يجعلها في أول النهار على جانبه الأيسر، وفي آخر النهار على جانبه الأيمن، وإن كان باليمن فعلى العكس يجعلها.
وأما القمر: فإنه يطلع في أول الشهر على يمنة المصلي، ويختلف مطلعه في اليمنة، فربما كان مع قرب شقه اليسرى، وربما كان إلى مدائرها أقرب، ويطلع في ليلة ثمان وعشرين رفيعا لحظة ثم يغيب على يسرة المصلي. وقيل: في الليلة السابعة يكون في القبلة، ويغيب الهلال في الليلة الأولى على مضي ستة [......] .
وأما النجوم: فأقوى الدلائل وأقواها القطب الشمالي، وهو نجم صغير في بنات النعش الصغرى بين الفرقدين في مهب الشمالي على مرتفع لا يغيب شتاء ولا صيفا. وأكثر استدلال الناس على الجهات في البر والبحر لكونه غير "زائل" عن مكانه، وحوله كواكب جلبة وخفيفة تسمى السمكة، وفاس الرحى تدور حول القطب أبدا لقطب الرحى، والفرقدان يكونان أعلاه في أول الليل ثم ينزلان عنه كلما تصرم الليل، وإذا قوي نور القمر خفي، ويعرف بوضعه في الفرقدين.
وأما سهيل اليماني فإنه لا يرى بالأندلس ولا بخراسان لانخفاضه، ويرى مع الفجر في آخر السماء في السادس والعشرين بين سوى بمصر ويطلع فيه ظهوره [كان يصلي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل هجرته إلى المدينة، وهو ما بين الركنين اليماني والعراقي] ويقال القطب الشمالي في داخل السفينة عند رجل الفرقدين عند رتبة الجدي، وهو مقابل القطب الجنوبي والقطب الذي بين الجدي والفرقدين يكون خلف أذن المصلي اليمنى إذا كان بالمشرق، وخلف أذنه اليسرى إذا كان بالمغرب، وبين كتفيه إذا كان بالشام، وخلف كتفه اليسرى إذا كان بأرض جصة، وغروب بنات النعش خلف ظهره. ومطلع العقرب تلقاء وجهه.
ويصلي أهل ديار مصر على حد أسوان مشرق الشتاء، إلا أهل أسوان فإنها أشد سريعا من البلاد الشمالية، تقرب من الجنوب والقطب قبالة وجهه إذا كان باليمين.
وأما الرياح الأربعة: ريح الشمال، والجنوب، والصبا، والدبور، فيقابل أركان الكعبة، فالصبا شرقية تقابل الركن العراقي الذي به الحجر الأسود، سميت الصبا لأنها تصير إلى وجه

(2/148)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكعبة، ومهبها ما بين الركن اليماني والركن العراقي إلى مصلى آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو وسط الكعبة.
والشمال شامية تقابل الركن الشامي والركن الغربي، والدبور غربية لأنها تقابل الركن العراقي، ومهبها جبال الميزاب إلى ما بين الركن اليماني والغربي، سميت بالدبور لأنها تأتي من دبر الكعبة. والجنوب جبالية لأنها تقابل الركن اليماني ومهبها حيال الركن الغربي والركن اليماني إلى مصلى النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قبل الهجرة، وسميت الجنوب لأنها تستقبل الجانب الأيمن من الكعبة، فالصبا تقابل الدبور والشمال تقابل الجنوب وكل ريح بين ريحين من هذه الأرياح الأربعة تسمى ريحا.
وأما الأنهار والمياه: فإنها تحل جارية من يمنة المصلي إلى يسرته على انحراف قليل يقرب من كتفه اليمنى، وتنفذ من الماء في اليسرى، كدجلة والفرات، والنهرين وغيرها من الأنهار، أحدها بخراسان، والأخرى: بالشام يسمى العاصي، ويقال لهما العارض لأنهما يخالفان لجريان الماء لأنهما يجريان عن يسرة المصلي إلى يمينه، ولا اعتبار بالأنهار المحدثة والسواقي لأنها بحسب الحاجات، ونيل مصر أيضا يجري إلى الشمال على خلاف الأنهار.
وأما الجبال فوجوهها مستقبل البيت.
وأما المجرة فإنها تكون ممتدة على كتف المصلي اليسرى إلى القبلة، ثم تلتوي رأسها حتى يصير آخر الليل على كتفه اليمنى.
وقال المرغيناني: قيل: قبلة البشر الكعبة، وقبلة أهل السماء البيت المعمور، وقبلة الكروبيين: الكرسي، وقبلة حملة العرش العرش، ومطلوب الكل وجه الله تعالى.
م: (والاستخبار فوق التحري) ش: أي طلب خبر القبلة من غيره فوق التحري إذا كان المخبر من ذلك الموضع، وأما إذا كان مسافرا لا يلتفت إلى الخبر، وفي " التحفة ": إذا كان في المفازة والسماء مضحية وله علم بالاستدلال بالنجوم على القبلة، لا يجوز له التحري، والتحري في اللغة طلب أحد الأمرين وهو أولاهما، وفي الشرع يقع على أخف الأمرين وأولاهما بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته.
قلت: الخبر قد يكون حجة [......] ، فلذلك قلنا: إن الاستخبار فوق التحري، كما في خبر رواية الهلال ورواية الحديث، والتحري حجة حقة لا في غيره، ولا يجوز التحري مع المحاريب، وقال النووي: أحب اعتمادها ولا يجوز معها الاجتهاد، وقال: ونقل صاحب " الشمائل " إجماع المسلمين على هذا.

(2/149)


والاستخبار فوق التحري، فإن علم أنه أخطأ بعدما صلى لا يعيدها، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يعيدها إذا استدبر لتيقنه بالخطأ، ونحن نقول: ليس في وسعه إلا التوجه إلى جهة التحري والتكليف مقيد بالوسع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن علم أنه أخطأ بعدما صلى لا يعيدها) ش: أي الصلاة التي صلاها، وبه قال مالك وأحمد والمزني م: (وقال الشافعي: يعيدها إذا استدبر) ش: وهو ظاهر مذهبه وقوله الآخر كمذهبنا. وفي " الحلية ": هو المختار، وقيد بالاستدبار لأن في التيامن والقياس لا يعيد اتفاقا.
م: (لتيقنه بالخطأ) ش: وتمكنه من أداء الفرض بيقين، فيعيدها كما لو تحرى في ثوبين، أحدهما نجس، ثم ظهر بعد الصلاة في أحدهما بالتحري أنه نجس فيها أنه يعيد الصلاة إجماعا، وكذا التحري في الأواني.
قلنا: الاجتهاد يقوم مقام إصابة الكعبة عند العجز عن التوجه إلى عينها، بخلاف الثوب النجس والماء النجس إذا تنجس ما أقيم مقامه الظاهر فظاهر. ولأن الحاجة إلى الاجتهاد في القبلة أمس إذ لولاه صحت الصلاة أصلا، بخلاف الثوب والماء فإنه يمكنه أن يصلي عاريا وبالتيمم، فللصلاة وجود بدونها.
م: (ونحن نقول: ليس في وسعه إلا التوجه إلى جهة التحري) ش: إذ ليس في وسع هذا المجتهد إلا التوجه إلى جهة التحري لأن المقصود من طلب الجهة رضاء الله عنه لا عين الجهة، إلا إذا أمر بالطلب تحقق معنى الابتداء، والابتداء قد تم بالتحري فسقط عنه ما لزمه من الفرض.
م: (والتكليف مقيد بالوسع) ش: قال الله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] (البقرة: الآية 286) . قال الأكمل: قيل هذا لا يصح جوابا للشافعي اه.
قلت: هذا هو كلام السغناقي، فإنه قال: فإن قلت: هذا التعليل لا يكون جوابا كما ذكره الشافعي، فإن له أن يقول: سلمنا أن التكليف مقيد بالوسع، لكن هذا حال العمل، فإن له أن يعمل حال توجه الخطاب بالعقل لما في وسعه، ولا يأثم بما فعل عند ظهور الخطأ، فأما إذا ظهر خطؤه يقينا فكان فعله كلا فعل في حق وجوب الإعادة، كما في التحري في ثوبين أحدهما نجس، فإنه يعيد الصلاة هنا.
وملخص جوابه بأن القبلة من قبيل ما يحتمل الانتقال لأنها انتقلت من بيت المقدس إلى الكعبة ومن الكعبة إلى الجهة ومنها إلى سائر الجهات إذا كان راكبا، فإن فعل حيثما توجهت إليه راحلته فيعيد ما صلى إلى الجهة بالتحري إذا تحرك رأسه، فينتقل فرض التوجه إلى تلك الجهة، فكما يبدل الرأي فيه بمنزلة الفسخ فيعمل به في المستقبل، ولا يعمل به بطلان ما مضى، كما في النسخ الحقيقي، بخلاف النجاسة ونحوها مما لا يحتمل الانتقال من محل إلى محل، فلم يحركه العمل إلا بظاهر ما أدى إليه تحريه، فإذا ظهر ما هو أقوى منه أبطله لأنه غير قابل للانتقال.

(2/150)


فإن علم ذلك وهو في الصلاة استدار إلى القبلة وبنى عليه؛ لأن أهل قباء لما سمعوا بتحول القبلة استداروا كهيأتهم في الصلاة، واستحسنه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وكذا إذا تحول رأيه إلى جهة أخرى توجه إليها؛ لوجوب العمل بالاجتهاد فيما يستقبل من غير نقض المؤدى قبله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن علم ذلك) ش: يعني خطأه م: (وهو في الصلاة) ش: أي والحال أنه في نفس الصلاة م: (استدار إلى القبلة) ش: بلا استئناف.
م: (لأن أهل قباء لما سمعوا بتحول القبلة استداروا كهيأتهم، واستحسنه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: هذا الحدث أخرجه البخاري ومسلم عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: «بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أنزل عليه الليلة قرآنا، وقد أمرنا أن نستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة» وأخرجه مسلم عن أنس وفيه: " وهم ركوع في صلاة الفجر ".
وأخرج البخاري عن البراء قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، فإنه صلى أول صلاة صلاها العصر ومعه قوم» . الحديث. وفي لفظ آخر له: «وهم ركوع في صلاة العصر» . وروى ابن سعد عن الواقدي: ثنا عمر بن صالح مولى التوأمة قال: سمعت محمد بن عبد الله بن سعد يقول: «صليت القبلتين مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصرفت القبلة إلى البيت ونحن في صلاة الظهر فاستدار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستدرنا معه» .
قوله: بقباء بصم القاف والمد: قرية من قرى المدينة، قال أبو حاتم: من العرب من يصرفه ويجعله مذكرا، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه.
قوله: استداروا؛ أي داروا من الدوران. وفي " الكافي " كيفية الاستدارة أن يبدأ من الجانب الأيمن لا من الجانب الأيسر.
م: (وكذا إذا تحول رأيه إلى جهة أخرى توجه إليها) ش: صورته: صلى بالتحري ركعة إلى جهة ثم تبين خطؤه في الصلاة، حول وجهه إلى تلك الناحية وبقي على الأول، ولا يجب عليه شيء فيها، وبه قال ابن أبي موسى والأسدلي من الحنابلة.
م: (لوجوب العمل بالاجتهاد فيما يستقبل من غير نقص المؤدى قبله) ش: المؤدى بفتح الدال. قوله: قبله؛ أي قبل تحريه إلى جهة أخرى وهو في الصلاة، لأن تبدل الرأي بمنزلة النسخ فيعمل في المستقبل لا في الماضي، كما في النسخ.
وكذلك الأمة إذا] أعتقت في الصلاة أنها تأخذ قناعا وتبني، ولو شك وصلى من غير تحر فهو على الفساد ما لم يتبين الصواب بعد الفراغ. ولو علم في الصلاة أنه أصاب القبلة فعليه أن يستقبل صلاته لأن حاله قويت بالعلم، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز، ذكر ذلك الأسبيجابي والمرغيناني.

(2/151)


ومن أم قوما في ليلة مظلمة فتحرى القبلة وصلى إلى المشرق، وتحرى من خلفه فصلى كل واحد منهم إلى جهة، وكلهم خلفه، لا يعلمون ما صنع الإمام، أجزأهم؛ لوجود التوجه إلى جهة التحري، وهذه المخالفة غير مانعة كما في جوف الكعبة بالجماعة، ومن علم منهم بحال الإمام تفسد صلاته؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروي عن أبي يوسف جواز البناء، ولو كان في الزاوية إلى جهة فتركها وصلى إلى غيرها، فإنه لا تجوز صلاته وإن أصاب القبلة، لأنه تولى القبلة المتعينة عليه، وكذا لو أصاب في أثنائها يستقبل. وفي رواية أبي سليمان عن أبي يوسف أنه يجزئه لأنه أدرك المطلوب من الاجتهاد.
وفي " المحيط ": لو كان بحضرته من يسأله عنها فصلى بالتحري، لا يجزئه إلا إذا أصاب القبلة، لحصول المقصود، ولو قام إلى الصلاة إلى جهة من غير شك ثم شك بعد ذلك، فهو على الجواز حتى يعلم يقينا فساده، فتجب عليه الإعادة، وإن علم فيها استقبل صلاته، ولو صلى بالتحري في أحد ثوبين ثم تحول تحريه إلى الثوب الآخر، فكل صلاة صلاها في الثوب الأول تجزئه، وإن علم النجاسة في الثوب الأول أعاد.
وفي " المرغيناني ": صلى بالتحري في المفازة والسماء مصحية وهو لا يعرف النجوم، فتبين أنه أخطأ القبلة، قال ظهير الدين: يجوز، وقال غيره: لا يجوز. وفي " فتاوى السغناقي ": يجزئه ولم يقع تحريه على شيء، قيل: يؤخر الصلاة، وقيل: يصلي إلى أربع جهات، وقيل: يخير. وفي " المحيط ": دخل مصرا وعاين المحاريب لا يتحرى، وبه قال الشافعي، ولو دخل مسجدا لا محراب له وبحضرته أهله، لا يجزئه التحري إلا إن أصاب، ولو سألهم ولم يخبروه فتحرى وصلى جاز.

م: (ومن أم قوما في ليلة مظلمة فتحرى القبلة وصلى إلى المشرق، وتحرى من خلفه فصلى كل واحد منهم إلى جهة وكلهم خلفه لا يعلمون ما صنع الإمام أجزأهم) ش: أي الصلاة.
فإن قلت: قوله: لا يعلمون ما صنع الإمام، مشكل، لأنه يجوز أن يعلموا حال الإمام بصوته لأنهم في صلاة الليل بدليل قوله: في ليلة مظلمة.
قلت: يحتمل أن تكون الصلاة قضاء، أو يترك الإمام الجهر ناسيا، أو يكونوا قد عرفوا الإمام بصوته أنه قدامهم ولكن لم يميزوا من صوته إلى أي جهة توجه.
م: (لوجود التوجه إلى جهة التحري) ش: وجهة التحري هي المتعينة، وقد وجدت م: (وهذه المخالفة غير مانعة) ش: لأن جهة تحري كل واحد قبلة له، فلا بأس بالاختلاف.
م: (كما في جوف الكعبة بالجماعة) ش: فإنه لا يضر، فكذا ذاك، وبه قال الشافعي. وقال بعض أصحابه: عليهم الإعادة، كذا قال الأترازي وأخذ عنه الأكمل م: (ومن علم منهم) ش: أي من القوم المقتدين م: (بحال الإمام تفسد صلاته) ش: قال السغناقي: وهذا القيد وهو علم المقتدي حال

(2/152)


فكذا لو كان متقدما على الإمام؛ لتركه فرض المقام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كونهم مأمومين ليس بلازم في سبق فساد صلاتهم، فإنه لو علم حال الإمام قبل الاقتداء فالحكم كذلك، وإن كان الإمام في وقت الاقتداء على الصحة، قال الأكمل: فيه نظر لأن قوله: ومن علم منهم حال إمامه، أعم من أن يكون علم قبل الاقتداء به أو بعده.
قلت: في نظره مخالفة إمامه في الكعبة، لأن صلاة الكل إلى القبلة. م: (فكذا لو كان متقدما عليه) ش: أي فكذا الحكم لو كان المأموم متقدما على الإمام م: (لتركه فرض المقام) ش: أي لترك المأموم فرض مقامه، وهو تأخره عن الإمام.

(2/153)