البناية شرح الهداية

فصل في القراءة قال: ويجهر بالقراءة في الفجر والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء إن كان إماما، ويخفي في الأخريين، هذا هو المأثور المتوارث،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في القراءة] [الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة والتي يسر فيها]
م: (فصل في القراءة) ش: أي: هذا فصل في بيان أحكام القراءة في الصلاة، إنما جعل أحكام القراءة بفصل على حدة لزيادة أحكام تعلقت بها دون غيرها، ومن أحكامها: الجهر، ومنها: القرب، فالأول: يرجع إلى الصفات، والثاني: إلى الذات. وكان ينبغي تقديم ما بالذات على ما بالصفات، وهاهنا قدم بالعكس؛ لأن الجهر يتعلق بالأداء الكامل، والقدر يشتمل الكامل والناقص، فكان التعلق بالكامل الذي هو الأصل أولى بالتقديم.
م: (ويجهر بالقراءة) ش: أي يجهر المصلي بالقراءة م: (في الفجر والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء إن كان) ش: أي المصلي م: (إماما ويخفي في الأخريين) ش: أي في الركعتين الأخريين من العشاء، ولم يبينه على الأكثر من المغرب؛ لأنه يفهم من قوله: الأوليين في المغرب؛ لأن التنصيص عليه ينفي القراءة بالجهر في الثالثة.
فإن قلت: فعلى هذا ما كان يحتاج إلى ذكر قوله: ويخفي في الأخريين. قلت: يكون ذلك للتأكيد.
م: (هذا هو المأثور المتوارث) ش: أي الجهر في المواضع المذكورة والإخفاء فيما يخفى هو المروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - المتوارث من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، كما روى الدارقطني في "سننه " من حديث قتادة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أتى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بمكة حين زالت الشمس فأمره أن يؤذن للناس بالصلاة حين فرضت الصلاة عليهم، فقام جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمام النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقام الناس خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة، فأتم الناس برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يأتم بجبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثم أمهل حتى دخل وقت العصر فصلى بهم أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة يأتم المسلمون برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويأتم رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بجبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم أمهل حتى وجبت الشمس حتى صلى بهم ثلاث ركعات يجهر في الركعتين بالقراءة، ولا يجهر في الثالثة، ثم أمهل حتى ذهب ثلث الليل فصلى بهم أربع ركعات، يجهر في الأوليين بالقراءة، ولا يجهر في الأخريين بها، ثم أمهل حتى إذا طلع الفجر صلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة» .

(2/292)


وإن كان منفردا فهو مخير إن شاء جهر وأسمع نفسه؛ لأنه إمام في حق نفسه، وإن شاء خافت؛ لأنه ليس خلفه من يسمعه، والأفضل هو الجهر ليكون الأداء على هيئة الجماعة، ويخفيها الإمام في الظهر والعصر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الدارقطني: ورواه سعيد عن قتادة مرسلا، وفيه مرسلان آخران أخرجهما أبو داود في "مراسليه " أحدهما عن الحسن، والآخر عن الزهري، وذكرهما عبد الحق في "أحكامه " من جهة أبي داود وقال: إن مرسل الحسن أصح.

[المنفرد هل يجهر بصلاته أم يسر فيها]
م: (وإن كان) ش: أي المصلي م: (منفردا فهو مخير إن شاء جهر وأسمع نفسه) ش: أسمع نفسه تفسير لقوله: "جهر"، قال تاج الشريعة: وقال السغناقي: إنما ذكر قوله: وأسمع نفسه معنيين أحدهما: لجواب سؤال مقدر، وهو أنه لما قال: إن شاء جهر أو رد عليه فقيل: يجب أن لا يجهر لعدم فائدة الجهر، فإنه للإسماع، وليس معه أحد يسمعه، فأجيب بأن فائدة الجهر حاصلة هاهنا أيضا بقدره وهو أن يسمع نفسه فيجهر لذلك.
والثاني: ما ذكره فخر الإسلام في "مبسوطه ": لا يجهر كل الجهر؛ لأنه ليس معه أحد يسمعه، بل يأتي بأدنى الجهر فكان معناه على هذا إن شاء جهر وأسمع نفسه ولا يسمع غيره؛ لما أن التخصيص في الرواية يدل على نفي ما عداه في الغالب. قلت: كلام تاج الشريعة أوجه وأسد على ما لا يخفى.
م: (لأنه) ش: أي المنفرد م: (إمام في حق نفسه) ش:؛ لأن الإمام يقرأ وهو أيضا يقرأ، والإمام غير مقتد بغيره فكذلك هذا م: (وإن شاء خافت؛ لأنه ليس خلفه من يسمعه) ش: فليتخير ويسمع بضم الياء من الإسماع والضمير المستكن فيه يرجع إلى المنفرد والبارز يرجع إلى من.
م: (والأفضل هو الجهر؛ ليكون الأداء على هيئة الجماعة) ش: وهذا لو أذن وأقام كان أفضل، وفي " الذخيرة ": الأفضل أن يجهر بها في الأصح، وقال القدوري في " شرح مختصر الكرخي ": لا يبالغ في الجهر مثل الإمام؛ لأنه لا يسمع غيره، وفي النوافل النهارية يخافت ويخير بالليل، وفي " المحيط ": والجهر أفضل؛ لأنها اتباع للفرائض فلا يتميز عليها، وفي " الذخيرة ": الأفضل في نوافل الليل بأن تكون بين الجهر والمخافتة.
فإن قلت: إذا كان المنفرد إماما في حق نفسه، فلما أذن جازت المخافتة في حقه.
قلت: لأن القراءة له دون غيره، فكانت مخافتته كجهره.

[الإسرار بالقراءة في الظهر والعصر]
م: (ويخفيها الإمام) ش: القراءة م: (في الظهر والعصر) ش: لأن الأصل فيه أن الكفار كانوا مستعدين للأذى في الظهر والعصر فترك الجهر فيهما لهذا العذر، ثم ثبتت هذه السنة وإن زال

(2/293)


وإن كان بعرفة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة النهار عجماء» أي ليست فيها قراءة مسموعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العذر بكثرة المسلمين.
فإن قلت: لماذا جهر في الجمعة والعيدين؟ قلت لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما صلاها إلا بالمدينة. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه " أن خباب بن الأرت كان يجهر بالقراءة في الظهر والعصر. وعن محمد بن مزاحم قال: صليت خلف سعيد بن جبير فكان الصف الأول يفقهون قراءته في الظهر والعصر، وكان الأسود وعلقمة يجهران بالقراءة في الظهر والعصر ولا يخفيان. وعن جابر سألت الشعبي والحكم وسالما والقاسم ومحمدا ومجاهدا وعطاء عن الرجل يجهر في الظهر والعصر؟ فقالوا: ليس عليه سهو. وعن قتادة: إن شاء جهر في الظهر والعصر ولم يسجد.
وروى أبو حفص بن شاهين بإسناده عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار فارجموه بالتفذ» ". وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن يحيى بن بشير «قالوا: يا رسول الله، إن هاهنا قوما يجهرون بالقراءة بالنهار، فقال: "ارموهم بالبعر» ".
م: (وإن كان بعرفة) ش: كلمة إن للوصل أي وإن كان الإمام يصلي بعرفة، وعن مالك يجهر بالجمع بعرفات؛ لأنه يؤدي بجمع عظيم كما في الجمعة، والآن يأتي مستوفيا.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صلاة النهار عجماء» ش: هذا ليس بحديث مرفوع عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال النووي في " الروضة ": هذا باطل ليس له أصل، ورواه عبد الرزاق في مصنفه من قول مجاهد وأبي عبيدة قال معمر عن عبد الكريم الجزري قال: سمعت أبا عبيدة يقول: صلاة النهار عجماء، وقال مجاهد: صلاة النهار عجماء.
وفي " الذخيرة " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: صلاة النهار عجماء، وجعل في المغربين، وفي " الفائق ": صلاة النهار عجماء من كلام الحسن البصرى، وإنما استدل به أصحابنا؛ لأن الحسن لما كان من القرن الأول وممن أدرك أكابر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جعلوا كلامه كالمسموع من الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
م: (أي ليست فيها قراءة مسموعة) ش: أي ليست في قراءة النهار قراءة بالجهر، والعجماء بالمد تأنيث الأعجم، شبهت بالعجماء من كونها أن الأعجم الذي لا يتكلم وتفسيره لهذا الاحتراز من قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال: لا قراءة في هاتين الصلاتين، فسر الحديث [لا] قراءة فيهما، ولنا رواية البخاري في "صحيحه «عن عبد الله بن سخبرة، قال: قلنا لخباب: هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بم كنتم تعرفون ذلك؟

(2/294)


وفي عرفة خلاف لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والحجة عليه ما رويناه.
ويجهر في الجمعة والعيدين، لورود النقل المستفيض بالجهر
وفي التطوع بالنهار يخافت، وفي الليل يتخير، اعتبارا بالفرد في حق المنفرد، وهذا لأنه مكمل له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال باضطراب لحيته» .

[الجهر في الجمع بعرفة]
م: (وفي عرفة خلاف لمالك) ش: هو يقول بالجهر بالجميع بعرفات م: (والحجة عليه ما رويناه) ش: أي الحجة على مالك ما رويناه وهو الذي ذكره صلاة النهار عجماء. قال الأكمل وأورد عليه بأنه ليس بحديث، وإنما هو من كلام الحسن البصري، ولئن سلم فهو عام خص منه الجمعة والعيدين فيجوز تخصيصها بالقياس على الجمعة وأجيب بأن أصحابنا ملأوا كتبهم ونقلوا أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يفسره بعدم القراءة وليسوا من أهل الأهواء والبدع، ولو ثبت إسناده عندهم لما فعلوا ذلك، فليس العيدان والجمعة مخصوصة؛ لأن الجمعة فرضت بالمدينة وكان نسخا لا تخصيصا، والنسخ بالقياس لا يجوز وكذا الأعياد. قلت: فيه نظر؛ لأن أهل الحديث أطبقوا على أن المذكور ليس بحديث مرفوع كما ذكرنا.

[الجهر في الجمعة والعيدين]
م: (ويجهر في الجمعة والعيدين لورود النقل المستفيض بالجهر) ش: أي النقل الشائع المنتشر، يقال: هذا حديث مستفيض أي منتشر، فمنه ما رواه الجماعة إلا البخاري من حديث حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » . ومنه ما رواه مسلم «عن أبي واقد الليثي قال سألني عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما كان يقرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأضحى والفطر، فقال: كان يقرأ بقاف والقرآن المجيد، واقتربت الساعة» وفي الثاني: كان يصلي خلف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الظهر فسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان والذاريات. ومنه ما رواه البيهقي عن الحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «الجهر في صلاة العيدين من السنة، والخروج في العيدين إلى الجبانة من السنة» .

[تطوعات النهار سرية]
م: (وفي التطوع بالنهار يخافت) ش: أي يخفي حتما حتى يكره الجهر للأثر المذكور م: (وفي الليل يتخير اعتبارا بالفرد في حق المنفرد) ش: أي وفي التطوع بالليل يخير المتطوع بين الجهر والإخفاء، ولكن الجهر أفضل، كذا في " المبسوط ". قلت: المنفرد كذلك أعني التخيير مع أفضلية الجهر فكذا هاهنا.
م: (وهذا) ش: أي اعتبار المتطوع بالليل بفرض المنفرد م: (لأنه) ش: أي؛ لأن التطوع م: (مكمل له) ش: أي للفرض. وروي أن العبد أول ما يحاسب عن الصلاة فإن كان ترك منها شيئا يقال: انظروا إلى عبدي هل تجدون له نافلة؟ فإن وجدت كملت الفرائض منها وأدخل الجنة.

(2/295)


فيكون تبعا له.
ومن فاتته العشاء فصلاها بعد طلوع الشمس إن أم فيها جهر، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين قضى الفجر غداة ليلة التعريس بجماعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فيكون تبعا له) ش: أي إذا كان التطوع مكملا للفرض، فيكون التطوع تبعا للفرض، والتبعية تستدعي أن يكون الحكم في التابع كالحكم في المتبوع فيما يصلح تبعا له، كالجندي يصير مقيما في المفازة لإقامة إمامه في المصر، وإنما قيدنا بقولنا فيما يصلح تبعا له احترازا عن حكم الجواز والفساد، فإنه إذا صلى الأربع قبل الظهر ثم شرع في الظهر وأفسدها لا يرى ذلك إلى فساد السنة قبلها، وإن كانت شرعيتها لتكميل الفرض أيضا لما كان لكل واحدة منهما تحريمة مبتدأة غير مبنية أحدهما على الأخرى. وقولنا غير مبنية احترازا عن صلاة المقتدي حيث تفسد بفساد صلاة الإمام وإن كانت لصلاة كل واحد منهما تحريمة مبتدأة.

م: (ومن فاتته العشاء) ش: هذا إلى قوله: ومن قرأ في العشاء ليس في بعض النسخ، والصواب ذكرها، لما أن ذلك من أصل مسائل " الجامع الصغير " حيث قال فخر الإسلام في "جامعه ": هذه مسألة الكتاب والمصنف التزم ذكر مسائل قوله - ومن فاتته العشاء - أي صلاة العشاء م: (فصلاها بعد طلوع الشمس إن أم فيها جهر) ش: أي بالقراءة وبه قال أبو ثور وأحمد وابن المنذر.
م: (كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حين قضى الفجر غداة ليلة التعريس بجماعة» ش: أي كما جهر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقراءة حين صلى صلاة الفجر قضى غداة ليلة التعريس بجماعة، كما في حديث أبي قتادة، «فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قضى الفجر بعد طلوع الشمس فيه وما أيقظهم إلا حرها، ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين ثم صلى الغداة، فصنع كما صنع كل يوم» رواه مسلم وأحمد وفيه دليل على الجهر في قضاء الفوائت.
وروى محمد بن الحسن في كتاب " الآثار "، أخبرنا أبو جعفر، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي قال: «عرس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال من يحرسنا الليلة؟ فقال رجل من الأنصار شاب: أنا يا رسول الله أحرسكم فحرسهم حتى إذا كان من الصبح غلبته عيناه فما استيقظوا إلا بحر الشمس فقام رسول الله فتوضأ وتوضأ أصحابه وأمر المؤذن فأذن وصلى ركعتين، ثم أقيمت الصلاة، فصلى الفجر بأصحابه وجهر فيها بالقراءة كما كان يصلي بها في وقتها» .
وروى مالك في " الموطأ " عن زيد بن أسلم قال: «عرس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة بطريق مكة.
فذكر الحديث في نومهم وقيامهم وصلاتهم، ثم قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء ما ردها، فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فرغ إليها فليصلها في

(2/296)


وإن كان وحده خافت حتما، ولا يتخير، هو الصحيح؛ لأن الجهر يختص إما بالجماعة حتما، أو بالوقت في حق المنفرد على وجه التخيير، ولم يوجد أحدهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقتها» هذا والذي رواه محمد بن الحسن مرسلان، ففي رواية محمد التصريح بالجهر، وفي رواية مالك يمكن حمله على الجهر، ويمكن على استيفاء الأركان.
قوله: - التعريس - نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة، يقال منه: عرس يعرس تعريسا، ويقال فيه: أعرس والعرس موضع التعريس، وبه سمي معرس ذي الحليفة عرس به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى فيه الصبح ثم رحل.
م: (وإن كان وحده) ش: أي وإن كان الذي فاتته صلاة العشاء وصلى بعد طلوع الشمس وحده م: (خافت) ش: أي أخفى بالقراءة م: (حتما) ش: أي على وجه الحتم، أي الوجوب، والحتم مصدر حتمت عليه الشيء أي أوجبته م: (ولا يتخير) ش: أي بين الجهر والمخافتة.
م: (وهو الصحيح) ش: أي الإخفاء هو الصحيح، واحترز به عما ذكر فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير " أن المخافتة ليست بحتم، بل له أن يجهر إن شاء، والجهر أفضل وكذا ذكره شمس الأئمة السرخسي، والتمرتاشي، والمحبوبي، وقاضي خان في شروحهم " للجامع الصغير "، وقال قاضي خان: ولو صلى وحده خافت؛ لأن الجهر سنة الجماعة والأداء في الوقت، ولا يجهر بعد خروج الوقت. وقال بعضهم: يخير فيها والجهر أفضل كما في الوقت وهو الصحيح؛ لأن القضاء يكون على وفق الأداء، وفي الأداء المنفرد يتخير والجهر أفضل، فكذا في القضاء، وقال الشافعي: لو فاتته صلاة الليل وأراد قضاءها بالنهار أو على العكس يعتبر وقت القضاء وهو ظاهر مذهبه، فإن قضى بالنهار يسر، وإن قضى بالليل يجهر. وقال بعض أصحابه يعتبر وقت الفوات، فإن كان في صلاة الليل جهر فيها، وإن كان في صلاة النهار أسر فيها كذا في تتمتهم.
م: (لأن الجهر يختص إما بالجماعة حتما) ش: أي؛ لأن الجهر بالقراءة مخصوص أما في الصلاة بالجماعة على سبيل الحتم أي الوجوب م: (أو بالوقت) ش: أي وإما أن يختص بوقت الصلاة م: (في حق المنفرد وعلى وجه التخيير) ش: بين الجهر والإخفاء م: (ولم يوجد أحدهما) ش: أي أحد المذكورين وهما أي الجماعة والوقت في حق المنفرد وحاصله أن سبب الجهر إما الجماعة وذلك حتم، وإما الوقت وذلك فيه خيار للمنفرد بين الأمرين الجهر، والمخافتة، والمنفرد القاضي لا يوجد في حقه لا الجماعة ولا الوقت فلا يجهر.
وقال الأترازي: قول صاحب " الهداية " ممنوع عندي بأن يقال: لا نسلم أن الجهر ينبغي مانعا

(2/297)


ومن قرأ في العشاء في الأوليين السورة، ولم يقرأ بفاتحة الكتاب، لم يعد في الأخريين، وإن قرأ الفاتحة ولم يزد عليها قرأ في الأخريين الفاتحة والسورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما قال من السبب؛ لأن الحكم جاز أن يكون معلولا بعلل شتى، وكيف يقال مثل هذا؟ والقضاء يحكي الفائت والمنفرد كما سئل عن الجهر حال الأداء فكذا حال القضاء ألا ترى أنه يؤذن ويقيم في القضاء فكما في الأداء، قلت: أخذ الأكمل كلام الأترازي هذا ثم أجاب عنه بعبارة غير عبارته، فقال بعد ذكر تعليل المصنف: ويمنع بأن السبب ليس بمنحصر في ذلك لم لا يجوز أن يكون موافقة القضاء الأداء سببا للجواز أيضا في حق المنفرد؟
ويمكن أن يجاب عنه بأن ما ذكره المصنف من سبب الجهر ثابت بالإجماع ولا نص يدل عليها فجعلها سببا يكون إثبات سبب بالرأي ابتداء وهو ينزع إلى الشركة في وضع الشرع وهذا باطل، ولعل هذا حمل المصنف على الحكم بكونه حتما، وهو الصحيح فيكون معنى قوله: هو الصحيح يعنى الصحيح دراية لا رواية، فإن أكثر الروايات على الجواز.
قلت: في دعوى الإجماع في الأول نظر لا يخفى، وفي بقية من الثاني كذلك، فإن عند الشافعي الاعتبار لوقت القضاء، وعند الحلوائي الاعتبار لوقت الأداء. وقال بعضهم: القول بأن الجهر سنة الوقت مردود بفعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقوله: فإن أكثر الروايات على الجواز يدل على وجود الرواية على الجواز، فكيف يقول: معنى الصحيح دراية لا رواية.

[حكم من قرأ في العشاء في الأوليين السورة ولم يقرأ بالفاتحة]
م: (ومن قرأ في العشاء في الأوليين السورة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب لم يعد في الأخريين) ش: أي لم يعد قراءة الفاتحة في الركعتين الأخريين. وفي " الذخيرة" يعني قوله: - لم يعد - أي لم يقض. وقال عيسى بن أبان: ينبغي أن يكون الجواب على العكس؛ لأن قراءة الفاتحة واجبة فيقضي، وقراءة السورة سنة فلا تقضى إلا تبعا، فالواجب أولى بالقضاء.
وعن الحسن أنه روى عن أبي حنيفة أنه يقضيهما، أما الفاتحة فكما قال عيسى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأما السورة فلأنها مرتبة على الفاتحة على وفق السنة وهي واجبة أيضا بدليل وجوب سجود السهو بتركها.

م: (وإن قرأ الفاتحة ولم يزد عليها) ش: أي على الفاتحة يعنى لم يقرأ السورة م: (قرأ في الأخريين الفاتحة والسورة وجهر) ش: يعني بالفاتحة والسورة في ظاهر الرواية. وروى ابن سماعة عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه جهر بالسورة خاصة؛ لأنه في الفاتحة مؤد فراعى صفة أدائها، وفي السورة قاض فيجهر بالسورة كما يجهر في الأداء ولا يكون جمعا بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة صورة وحقيقة، وذلك غير مشروع، ووجه ظاهر الرواية وهو الجهر بهما أن قراءة السورة واجبة، وقراءة الفاتحة في الشفع الثاني غير واجبة، فكان مراعاة صفة الواجب أولى، فإذا جهر بالسورة يجهر بالفاتحة كيف يختلف صورة القراءة في قيام واحد، كذا في " الجامع الصغير " للقاضي خان، وذكر شيخ الإسلام في " المبسوط " أن الظاهر من الجواب الجهر بالسورة والمخافتة

(2/298)


وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقضي واحدة منهما؛ لأن الواجب إذا فات عن وقته لا يقضى إلا بدليل، ولهما وهو الفرق بين الوجهين: أن قراءة الفاتحة شرعت على وجه يترتب عليها السورة فلو قضاها في الأخريين تترتب الفاتحة على السورة، وهذا خلاف الموضوع بخلاف ما إذا ترك السورة؛ لأنه أمكن قضاؤها على الوجه المشروع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالفاتحة؛ لأن السورة قضاء وقد قامت بصفة الجهر فيقضي كذلك، والفاتحة أداء وقد شرع أداؤها على سبيل المخافتة وكذلك ذكره الإمام التمرتاشي فقال: وهو الصحيح ما ذكره البلخي وهو جهر السورة دون الفاتحة، فكان ما ذكره المصنف من الجهر بهما جميعا مخالفا لرواية هذين الكتابين ورواية فخر الإسلام أيضا، وموافقا لما ذكره الإمام قاضي خان " ومبسوط شمس الأئمة ".
م: (وهذا) ش: أي قضاء السورة دون قضاء الفاتحة م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " لا يقضي واحدة منهما) ش: أي من الفاتحة والسورة م: (لأن الواجب إذا فات عن وقته لا يقضى إلا بدليل) ش: وهاهنا لم يوجد الدليل؛ لأن من شرط الدليل أن يكون له مثل حتى يصرف ما له إلى ما عليه، والسورة غير مشروعة في الأخريين حتى يصرف إلى ما عليه، ألا ترى أن الصلاة إذا فاتت عن أيام التشريق يقضيها في غير أيام التشريق بلا تكبير له في سائر الأيام. م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (وهو الفرق بين الوجهين) ش: أحد الوجهين هو قراءة السورة في أول العشاء دون الفاتحة، والوجه الأخير هو قراءة الفاتحة وحدها في الأوليين.
م: (أن قراءة الفاتحة شرعت على وجه يترتب عليها السورة) ش: يعني شرعت قراءة الفاتحة في الركعتين الأوليين على وجه يترتب على قراءتها قراءة السورة، ألا ترى أنه إذا نسي الفاتحة فذكرها قبل الركوع أو فيه يقرأها ويعيد السورة.
م: (فلو قضاها) ش: أي الفاتحة م: (في الأخريين تترتب الفاتحة على السورة) ش: يعني تقع الفاتحة عقيب السورة م: (وهذا) ش: أي ترتب الفاتحة على السورة م: (خلاف الموضوع) ش: لأن الموضوع ترتب السورة على الفاتحة، قال الأكمل: ونوقض بترتب الفاتحة التي في الشفع الثاني أي آخره. قلت: هذا أخذ من السغناقي ملخص بيان النقض في منع قوله خلاف الموضوع هو أن ترتيب الفاتحة في الشفع الثاني على السورة في الركعة الثانية من الشفع الأول مشروع، وملخص الجواب أن الذي ذكرتم على وجه الدعاء، وليس الكلام فيه وإنما الكلام في قراءة الفاتحة على وجه قراءة القرآن.
م: (بخلاف ما إذا ترك السورة) ش: في الأوليين، فإنه يقرأ في الأخريين الفاتحة والسورة أيضا م: (لأنه أمكن قضاؤها) ش: أي قضاء السورة في الأخريين م: (على الوجه المشروع) ش:

(2/299)


ثم ذكر هاهنا ما يدل على الوجوب، وفي الأصل بلفظة الاستحباب؛ لأنها إذا كانت مؤخرة فغير موصولة بالفاتحة فلم يمكن مراعاة موضوعها من كل وجه،
ويجهر بهما، هو الصحيح؛ لأن الجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة شنيع، وتغيير النفل وهو الفاتحة أولى، ثم المخافتة: أن يسمع نفسه والجهر: أن يسمع غيره، وهذا عند الفقيه أبي جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو أن ترتب السور على الفاتحة وانضمامها إليها.
م: (ثم ذكر) ش: أي ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (هاهنا) ش: أي في " الجامع الصغير " م: (ما يدل على الوجوب) ش: وهو قوله: قرأ في الأخريين الفاتحة والسورة.
فإن قلت: كيف يدل هذا على الوجوب؟ قلت: لأنه ذكر بلفظ الخبر والأخبار في الوجوب دليل الأمر على ما عرف، فدل على أن قضاء السورة في الشفع الثاني واجب. م: (وفي الأصل بلفظ الاستحباب) ش: أي وذكر في " المبسوط "، وهو قوله: أحب إلي أن يقضي السورة في الأخريين م: (لأنها) ش: أي؛ لأن السورة، وهذا بيان وجه الاستحباب، وهو أن السورة م: (إذا كانت مؤخرة) ش: عن الفاتحة م: (فغير موصولة بالفاتحة) ش: الأولى لوقوع الفصل بالفاتحة الثانية، أي فهي غير موصولة بالفاتحة؛ لأن السورة في الثانية والفاتحة في الأولى.
م: (فلم يمكن مراعاتها) ش: أي مراعاة السورة م: (من كل وجه) ش: في القضاء ولم يذكر الوجه الآخر وهو أن تكون متقدمة على الفاتحة لبعده؛ لأنه يفضي إلى أمر غير مشروع آخر وهو تقديم السورة على الفاتحة، وإن ذهب إليه بعضهم.

م: (ويجهر بهما) ش: أي بالفاتحة والسورة إذا قضى السورة في الشفع الثاني م: (هو الصحيح) ش: احترز به عما روى ابن سماعة عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يجهر بالسورة لا الفاتحة، وقد مر الكلام فيه مستقصى م: (لأن الجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة شنيع) ش: أي غير موجه بحسب الظاهر م: (وتغيير النفل وهو الفاتحة أولى) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: سلمنا أن الجمع بين الأمرين شنيع. لكن لا نسلم أن ارتفاع هذا الشنيع ينحصر فيما قلتم؛ لأنه لا يلزم الجمع بينهما فيما قال هشام في روايته عن محمد: أنه لا يجهر أصلا.
وتقرير الجواب أن فيما قال هشام تغيير صفة الواجب إلى صفة النفل، وفيما قلتم تغيير صفة النفل إلى الواجب وتغيير صفة النفل أحق، فكان هذا التغيير أولى من ذلك التغيير.
م: (ثم المخافتة أن يسمع نفسه) ش: أشار بهذا إلى بيان الاختلاف. في حد المخافتة والجهر فقال: حد المخافتة أن يسمع القارئ نفسه؛ لأن ما دون ذلك حمحمة وليس بقراءة م: (والجهر أن يسمع غيره) ش: سواء كان ذلك الغير في الصلاة بجنبه أو خارج الصلاة م: (وهذا) ش: أي الذي ذكرنا من حد المخافتة والجهر م: (عند الفقيه أبي جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي عند الإمام أبي جعفر، ونسبته إلى هِنْدوان بكسر الهاء قلعة ببلخ.

(2/300)


لأن مجرد حركة اللسان لا يسمى قراءة بدون الصوت، وقال الكرخي: أدنى الجهر أن يسمع نفسه، وأدنى المخافتة تصحيح الحروف؛ لأن القراءة فعل اللسان دون الصماخ، وفي لفظ الكتاب إشارة إلى هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن مجرد حركة اللسان لا تسمى قراءة بدون الصوت) ش: الواصل إلى أذنه فهو كما ترى جعل كل واحد من المخافتة والجهر من الكيفيات المسموعة. وقال الأكمل: قال الهندواني: مجرد حركة اللسان لا يسمى بدون الصوت قراءة، يعني لا لغة ولا عرفا وفيه نظر، فإن من رأى المصلي الأطرش يحرك شفتيه يخبر عنه أنه يقرأ، وإن لم يسمع منه شيئا.
قلت: في نظره نظر؛ لأن الهندواني ما قيد قوله باللغة، ولا بالعرف كليهما؛ لأنه ليس المراد من القراءة إفادة المخاطب. والأطرش قارئ وإن لم يفهم المخاطب قراءته، وبقول الهندواني قال الفضل، والشافعي، وشرط بشر المريسي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خروج الصوت من الفم وإن لم يصل إلى أذنه، ولكن بشرط أن يكون مسموعا في الجملة حتى لو أدنى أحدهما عنه إلى فيه يسمع.
م: (وقال الكرخي: أدنى الجهر أن يسمع نفسه، وأدنى المخافتة تصحيح الحروف) ش: وبه قال أبو بكر البلخي المعروف بالأعمش، وهو قول مالك أيضا، واكتفوا بتصحيح الحروف. وفي " الذخيرة " ولا بد من تحريك اللسان وتصحيح الحروف حتى قال الكرخي: لا يجزئه بلا تحريك اللسان. قالوا: وقول الكرخي أقيس وأصح.
م: (لأن القراءة فعل اللسان دون الصماخ) ش: بكسر الصاد وتخفيف الميم، وهو خرق الأذن، ويقال الأذن نفسها. قال الجوهري: وبالسين نفسه، فالكرخي كما ترى جعل المخافتة من الكيفيات المبصرة، والجهر من الكيفيات المسموعة. قال الأكمل: واعترض عليه بأن الكتابة يوجد بها تصحيح الحروف ولا تسمى قراءة لعدم الصوت، وهذا فاسد؛ لأنه لم تجعل تصحيح الحروف مطلقا قراءة بل تصحيح الحروف باللسان قراءة، ألا ترى إلى قوله: لأن القراءة فعل اللسان قلت: المراد من فعل اللسان تحريكه كما ذكرنا.
م: (وفي لفظ الكتاب) ش: أي وفي لفظ " مختصر القدوري "، وقيل: المراد منه " المبسوط "، وقيل: " الجامع الصغير " والأول أظهر م: (إشارة إلى هذا) ش: أي قول الكرخي حيث قال في " مختصر القدوري ": وإن كان مفردا فهو مخير، إن شاء جهر وأسمع نفسه، وإن شاء خافت.
وجه الإشارة إليه أنه جعل أدنى المخافتة ما دون إسماع النفس كما ترى فعلم أن تصحيح الحروف كاف.
وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا صحح الحروف ولم يسمع نفسه هل تجوز صلاته أم لا؟ فعند الكرخي يجوز وعند الهندواني لا. وأما عبارة محمد في الأصل إن شاء قرأ في نفسه، وإن شاء جهر وأسمع نفسه، وهذا يدل على أن القراءة في نفسه غير إسماع نفسه لوجهين:

(2/301)


وعلى هذا الأصل كل ما يتعلق بالنطق كالطلاق والعتاق والاستثناء، وغير ذلك.
وأدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة آية عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: ثلاث آيات قصار أو آية طويلة؛ لأنه لا يسمى قارئا بدونه، فأشبه قراءة ما دون الآية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: أنه جعل إسماع نفسه جهرا والقراءة في نفسه مخافتة، والجهر ليس قسما من المخافتة فلا يمكن حمل الأول على كلا الجملتين، أو نقول: جعل إسماع نفسه قسيما للقراءة في نفسه، وقسيم الشيء لا يكون قسما له.
والثاني: لو كان إسماع نفسه داخلا في القراءة في نفسه لكان مستفادا من قوله: إن شاء قرأ في نفسه فيكون قوله: - وإن شاء أسمع نفسه - تكرارا خاليا عن الفائدة، والعرف غير معتبر في هذا الباب؛ لأنه أمر بينه وبين ربه.
وقال الحلوائي: الأصح أنه لا يجوز ما لم يسمع نفسه ويسمع من يقربه. وفي " المرغيناني " قال أبو جعفر: إسماع نفسه لا بد منه.
م: (وعلى هذا الأصل) ش: أي وعلى هذا الاختلاف المذكور م: (كل ما يتعلق بالنطق كالطلاق) ش: بأن قال لامرأته: أنت طالق ولم يسمع نفسه يقع الطلاق عند الكرخي خلافا للهندواني م: (والعتاق) ش: بأن قال لعبده: أنت حر ولم يسمع نفسه يعتق عند الكرخي خلافا للهندواني م: (والاستثناء) ش: بأن قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو قال لعبده: أنت حر إن شاء الله، وخافت إن شاء الله ولم يسمع نفسه لا يقع الطلاق ولا العتاق عند الكرخي، وعند الهندواني يقعان في الحال. وكذلك الخلاف في الشرط.
م: (وغير ذلك) ش: مثل الإيلاء واليمين والتكبير وإحرام الحج والتسمية ووجوب سجدة التلاوة ونحو ذلك مما يتعلق بالنطق، وإن تكلم في صلاته ولم يصحح الحروف لا يفسد، وإن صحح الحروف لا يفسد، وعلى قول محمد بن الفضل لا يفسد، والبيع على الخلاف المذكور. وقيل: الصحيح في البيع أن يسمع المشتري. وفي النصاب [....
.....] الإمام يسمع قراءة رجل أو رجلين في صلاة المخافتة، قال: لا يكون جهرا والجهر أن يسمع الكل.

[أدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة]
م: (وأدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة آية) ش: أي قراءة آية سواء كانت طويل أو قصيرة م: (عند أبي حنيفة) ش: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكرها في " المغني ". م: (وقالا: ثلاث آيات قصار أو آية طويلة) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد أدنى ما يجوز من القراءة في الصلاة قراءة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، وهو رواية عن أبي حنيفة م: (لأنه لا يسمى قارئا بدونه فأشبه قراءة ما دون الآية) ش: أي؛ لأن المصلي لا يسمى قارئا عرفا بدون المذكور من ثلاث آيات، أو آية طويلة؛ لأنه مأمور بالقراءة المطلقة، والمطلق ينصرف إلى المتعارف، وقارئ الآية القصيرة لا يسمى قارئا عرفا، فلا تجوز الصلاة بذلك القدر، كما لا تجوز إذا قرأ ما دون الآية.

(2/302)


وله قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] [المزمل: الآية 20] من غير فصل إلا أن ما دون الآية خارج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] [المزمل: الآية 20] من غير فصل) ش: بيانه أن الله تعالى أمرنا بالقراءة مطلقا وبإطلاقه يتناول ما يطلق عليه اسم القراءة مقصودة لا يشعر بها قصد الخطاب لأحد ولا جوابه ولا قصد التلقين من غيره، وفي رواية عنه آية واحدة؛ لأن ما دونها يوجد في كلام الناس فلا يطلق عليه اسم القرآن، وهذه الرواية هي المذكورة في المتن، والحاصل أن في ذلك عن أبي حنيفة ثلاث روايات: الأولى: رواية الأصل كقول الصاحبين.
والثانية: رواية القدوري وهو ما يتناوله اسم القراءة، قال القدوري: هو الصحيح، وهو قول ابن عباس فإنه قال: اقرأ ما معك من القرآن فليس شيء من القرآن بقليل.
والثالثة: ما قاله في " الينابيع " وهو قراءة آية أي آية كانت قصيرة أو طويلة، ولو كانت الآية قصيرة كلمة واحدة مثل مدهامتان أو حرفا واحدا مثل قاف أو صاد أو نون، فإن كل واحد منها آية عند بعض القراء.
اختلف المشايخ فيه، قال المرغيناني: الأصح أنه لا يجزئه، وقال الحلوائي: لأنه يسمى عادا لا قارئا. وفي " نوادر المغني " عن أبي يوسف: إذا كان الرجل لا يحسن إلا قوله: الحمد لله رب العالمين يقرؤها مرة واحدة في كل ركعة ولا يكررها، وتجوز صلاته وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي " فتاوى المرغيناني ": لو قرأ آية الكرسي أو المداينة بدون الفاتحة الصحيح عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجزئه، فإن ذلك عند القاضي عماد الدين، وعامة المشايخ على جوازها.
ولو قرأ آية الكرسي أو المداينة في ركعتين اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة، قيل: لا يجزئه؛ لأنه لم يقرأ في كل ركعة آية تامة.
وقيل: يجوز؛ لأن بعضها يزيد على ثلاث آيات قصار. ولو قرأ نصف آية مرتين أو كلمة واحدة من آية مرارا حتى بلغ قدر آية تامة لا يجوز، وفي " فتاوى النسفي " قراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة واحدة بالإجماع. وقد ثبت رجوع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن آية.
وفي " البدرية " هذا أحد الجواز، أما الكراهية ثابتة ما لم يقرأ الفاتحة مع ثلاث آيات. وفي " شرح الطحاوي ": قراءة الفاتحة وحدها ومعها آية أو آيتان مكروه. وفي " المبسوط ": تكرار آية طويلة بمنزلة ثلاث آيات في حق إقامة السنة.
م: (إلا أن ما دون الآية خارج) : ش: هذا جواب سؤال مقدر وهو أن يقال: لو كان المراد من قوله: ما تيسر من القرآن مطلقة من غير فصل لجاز ما دون الآية كما جاز بالآية؛ لأن إطلاق ما دون الآية خارج عن الإطلاق؛ لأن المطلق ينصرف إلى الكامل، والكامل من القراءة ما هو قرآن حقيقة وحكما، وما دون الآية وإن كان قرآنا حقيقة فليس بقرآن حكما، ألا ترى أنه يجوز قراءته للجنب والحائض، نص بذلك في " العيون "، و" المختلف " فلا ينصرف المطلق إليه.

(2/303)


والآية ليست في معناه. وفي السفر يقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شاء؛ لما «روي أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - "قرأ في صلاة الفجر في سفر بالمعوذتين» ؛ ولأن للسفر أثر في إسقاط شطر الصلاة فلأن يؤثر في تخفيف القراءة أولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والآية ليست في معناه) ش: أي في معنى ما دون الآية، فإذا كان كذلك لم يجز قياسها م: (وفي السفر يقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شاء) ش: قدم حكم القراءة في السفر مع أنه من العوارض وهو أليق بالتأخير؛ لأنه مظنة قلة القراءة فكانت له مناسبة للحكم التي قبله وهو قراءة الآية الواحدة، أو؛ لأن أحكام قراءة الحضر كثيرة فأراد أن يدخلها فيها بعد الفراغ من القليل.
م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في صلاة الفجر في سفر بالمعوذتين» ش: هذا الحديث رواه أبو داود في "سننه " في فضائل القرآن، والنسائي في الاستعاذة من حديث القاسم مولى معاوية، «عن عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت أقود لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقته في السفر، فقال لي: "يا عقبة لأعلمك خير سورتين قرئتا فعلمني: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ الناس. قال: فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس» . الحديث. والقاسم هو عبد الرحمن القرشي الأموي مولاهم الشامي وثقه ابن معين وتكلم فيه غير واحد قاله المنذري، ورواه ابن حبان في "صحيحه " والحاكم في "مستدركه ".
م: (ولأن للسفر أثر في إسقاط شطر الصلاة فلأن يؤثر في تخفيف القراءة أولى) ش: السفر مظنة التخفيف فأدير الحكم عليه وخففت القراءة، وإن كان المسافر أميا؛ لأن للسفر أثرا في إسقاط الركعتين من الرباعيات للتخفيف، وتأثيره في تخفيف القراءة التي هي جزء من الصلاة أظهر وادعى إلى التخفيف.
قال الأكمل: فإن قيل: هذا التعليل مخالف لما ذكر في طرق أبي حنيفة في مسألة الأرواث في باب الأنجاس حيث استدل هاهنا بوجود التخفيف ثانيا وما ذاك هنا أجيب بالفرق بين الموضعين بأن العمل بتخفيف القراءة عملا بالدلالة؛ لأن كل شيء ظهر تأثيره في الأصل كان ظهور تأثيره في الوصف أولى؛ لكونه تابعا للأصل بخلاف الأدوات فإن الضرورة عملت في وصف التخفيف مدة وكفت مؤنتها بها فلا تعمل ثانية.
قلت: هذا ذكره العتابي وله جواب آخر، وهو أن الحكم يدور مع العلة، لا مع الجملة ألا ترى أنه يباح الفطر في السفر مع الأمن والقرار لوجود العلة، وقيل: في تعليل المصنف نظر؛ لأن السفر ما أثر في إسقاطه على مذهبنا؛ بل صلاة السفر من الأصل وجبت ركعتين؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن الصلاة فرضت ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر» . رواه مسلم.
قلت: زيادته في الحضر أمر تعبدي، وتركه على السفر في ركعتين؛ لأجل التخفيف، وإن كان في الأصل شرع ركعتين قال: الأمر في ذلك مع كل وجه إلى التخفيف.

(2/304)


وهذا إذا كان على عجلة من السير، وإن كان في أمنة وقرار يقرأ في الفجر نحو سورة البروج، وانشقت؛ لأنه يمكنه مراعاة السنة مع التخفيف. ويقرأ في الحضر في الفجر الركعتين بأربعين آية، أو خمسية آية سوى فاتحة الكتاب، ويروى من أربعين إلى ستين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: يعني ما ذكرنا من قوله: وفي السفر يقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شاء. م: (إذا كان) ش: أي المسافر الذي يصلي م: (على عجلة من السير) ش: أي على استعجال في سيره لوصول المنزل، أو كان وراءه عدو، أو سبع يخافه، فيستعجل للحوق بجماعته.
م: (وإن كان في أمنة) ش: بفتح الميم أي أمن ومنه قَوْله تَعَالَى: {أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154] (آل عمران: الآية 154) ، والأمنة أيضا الذي يثق بكل أحد، وكذلك الأُمنة بضم الهمزة م: (وقرار) ش: وفي مكان م: (يقرأ في الفجر سورة البروج وانشقت) ش: يعني {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] وهي ثنتان وعشرون آية، وسورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وهي خمس وعشرون آية.
م: (لأنه يمكنه مراعاة السنة مع التخفيف) ش: مراعاة السنة هي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قرأ في الحضر بمثل سورة (البروج) ، و (انشقت) في صلاة الفجر، فإذا كان المسافر في أمن يقرأ بمثل هذه السورة في صلاة الفجر، فيكون مراعيا للسنة مع حصول التخفيف المطلوب في السفر، الذي هو عين المشقة.

[مقدار القراءة في الصلوات الخمس]
م: (ويقرأ في الحضر في الفجر في الركعتين بأربعين آية، أو خمسين آية سوى فاتحة الكتاب) ش: في هذه العبارة إشارة إلى أن الأربعين آية، أو الخمسين تكون في الركعتين، لا في ركعة واحدة، فيكون في كل ركعة من الفجر عشرون آية في رواية الأربعين، وخمسة وعشرين آية في رواية الخمسين.
فإن قلت: هذا خلاف الآثار فإنه ذكر في " المبسوط " عن «مسروق العجلي قال: بلغت سورة "ق" و {اقْتَرَبَتِ} [القمر: 1] من فيّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكثرة قراءته إياهما في صلاة الفجر» ولا يمكن حمله على أنه قرأ بعض سورة (ق) في ركعة؛ لأن المستحب قراءة سورة تامة في ركعة، وقد أمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: يحمل على ما رواه العجلي على ما في الكتاب من ستين إلى مائة فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قرأ سورة (ق) في الركعة الأولى وهي أربع وخمسون آية كأن يقرأ في الثانية ما يعادلها أو يقاربها، فكان مجموعهما يقرب إلى مائة؛ ولهذا فسر في " مبسوط شيخ الإسلام " وقال: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ سورة (ق) ، أو {اقْتَرَبَتِ} [القمر: 1] في الركعة الأولى. والحاصل أن الاختلاف الواقع في هذا الباب لاختلاف الأخبار والآثار، على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى.
م: (ويرى من أربعين إلى ستين) ش: أراد بهذا أنه روي عن أبي حنيفة أنه يقرأ في الفجر في

(2/305)


ومن ستين إلى مائة وبكل ذلك ورد الأثر ووجه التوفيق أنه يقرأ بالراغبين مائة وبالكسالى أربعين، وبالأوساط ما بين خمسين إلى ستين، وقيل: ينظر إلى طول الليالي وقصرها، وإلى كثرة الأشغال وقلتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحضر في الركعتين من أربعين آية إلى ستين: م: (ومن ستين إلى مائة) ش: أي ويروى عن أبي حنيفة أيضا رواها الحسن عنه أنه يقرأ من ستين آية إلى مائة آية م: (وبكل ذلك ورد الأثر) ش: أي بكل ما ذكرنا من المقادير في القراءة في الفجر في السفر والحضر ورد الأثر، ألا ترى أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قرأ في الفجر سورة البقرة، فلما قال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كادت الشمس تطلع يا خليفة رسول الله، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قرأ سورة يوسف، فلما انتهى {أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] (يوسف: الآية 86) ، خنقته العبرة فركع، وروي عن أبي سويد أنه قال: خرجنا مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حجاجا فصلى بنا الفجر ب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} [الفيل: 1] ، {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] .
وعن ابن ميمون قال: صلى بنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الفجر في السفر فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وعن الأعمش، عن إبراهيم قال: كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأون في السفر بالسور القصار.
وعن أبي وائل قال: صلى بنا ابن مسعود في السفر الفجر بآخر بني إسرائيل {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111] (الإسراء: الآية 111) ، ثم ركع، كذا ذكر ذلك ابن أبي شيبة.
م: (ووجه التوفيق) ش: أي بين الروايات التي رويت، وقد ذكر وجه ذلك بثلاثة أوجه: أحدها: قوله م: (أنه) ش: أي الإمام م: (يقرأ بالراغبين) ش: في سماع طول القراءة والإمام م: (مائة) ش: أي مائة آية أو أكثر؛ لأن الراغبين هم الزهاد والعباد، فلا يثقل عليهم التطويل، ويجمع الإمام في هذا بين التغليس والإسفار.
م: (وبالكسالى) ش: أي ويقرأ بالكسالى، وهو جمع كسلان م: (من أربعين إلى خمسين) ش: أي من أربعين آية إلى خمسين آية، ولا يزيد على هذا؛ لأنه يثقل عليهم، لقلة رغبتهم م: (وبالأوساط) ش: أي ويقرأ بأوساط الناس، وهم لا راغبون ولا كسالى جدا، بل بين هؤلاء وهؤلاء، وهو جمع وسط م: (ما بين خمسين إلى ستين) ش: أي ما بين خمسين آية إلى ستين آية.
م: (وقيل: ينظر إلى طول الليالي وقصرها) ش: وأقصرها ليالي الصيف، ويقرأ فيها أربعين آية. وفي الخريف خمسين آية أو ستين آية م: (وإلى كثرة الأشغال وقلتها) ش: هو الوجه الثالث من وجوه التوفيق، وهو أنه ينظر إلى كثرة أشغال الناس وقلتها؛ لأن التطويل عند الاشتغال الكثير يؤدي إلى ترك السنة، وهاهنا وجوه أخرى.

(2/306)


قال وفي الظهر مثل ذلك لاستوائهما في سعة الوقت وقال في الأصل أو دونه لأنه وقت الاشتغال فينقص عنه تحرزا عن الملال
والعصر والعشاء سواء يقرأ فيهما بأوساط المفصل
وفي المغرب دون ذلك يقرأ فيها بقصار المفصل، والأصل فيه كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصل وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل وفي المغرب بقصار المفصل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: ينظر إلى حال الإمام في الطول والقصر بحسب القدرة.
الثاني: ينظر إن كان الإمام حسن الصوت يقرأ مائة، وإن كان خلاف ذلك لا يزيد على الأربعين.
الثالث: ينظر إلى حال الوقت بحسب الأمن والخوف.

م: (قال) ش: أي في " الجامع " م (وفي الظهر مثل ذلك) ش: أي يقرأ في صلاة الظهر مثل ما قرأ في صلاة الفجر، وقد روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الظهر {الم} [السجدة: 1] {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] السجدة، وروي أنه كان يقرأ في الفجر {الم} [السجدة: 1] {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] فدل على أنه كان يقرأ في ركعتي الظهر مثل ما يقرأ في الفجر م (لاستوائهما في سعة الوقت) ش: أي لاستواء الظهر والعصر في سعة الوقت.
م: (وقال في الأصل) ش: أي قال محمد في " المبسوط " م: (أو دونه) ش: أي أو يقرأ في الظهر دون ما يقرأ في الفجر م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الظهر م: (وقت الاشتغال) ش: بخلاف الفجر م: (فينقص عنه) ش: أي عن الفجر م: (تحرزا عن الملال) ش: أي احتراز عن الملالة المفضية إلى تقليل الجماعة.

م: (والعصر والعشاء سواء) ش: يعني يتساويان في حكم القراءة م: (يقرأ فيهما بأوساط المفصل) ش: وأوساط المفصل من كورت إلى الضحى، وطوال المفصل من الحجرات إلى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] والقصار من الضحى إلى آخر القرآن، كذا في " جامع المحبوبي " و " قاضي خان " إلا أنه ذكر في " جامع قاضي خان " قيل: أول الطوال من قاف، قال الخطابي: روي هذا في حديث مرفوع. وحكى القاضي عياض أنه من الجاثية وهو غريب، وسمي المفصل؛ لكثرة الفصول فيه، وقيل: لقلة المنسوخ فيه.

م: (وفي المغرب دون ذلك يقرأ فيها بقصار المفصل والأصل فيه) ش: أي في تقدير القراءة في الصلاة م: (كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصل، وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل) ش: هذا له أصل، ولكن بغير هذا الوجه، فروى عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا سفيان الثوري عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره قال: كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي

(2/307)


ولأن مبنى المغرب على العجلة والتخفيف أليق بها، والعصر والعشاء يستحب فيهما التأخير، وقد يقعان بالتطويل في وقت غير مستحب، فيوقف فيهما بالأوساط.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موسى الأشعري أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بأوساط المفصل، وفي الصبح بطوال المفصل. وروى ابن شاهين ولفظه: أن اقرأ في الصبح بطوال المفصل، وفي الظهر بأوساط المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل.
وقال الترمذي في كتابه في آيات القراءة في الصبح، وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل، وأبو موسى الأشعري اسمه عبد الله بن قيس، مات سنة اثنين وأربعين، وهو ابن ثلاث وستين سنة.
م: (ولأن مبنى المغرب على العجلة والتخفيف أليق بها، والعصر والعشاء يستحب فيهما التأخير) ش: أراد بالعجلة الاستعجال خوفا من وقوعها إلى اشتباك النجوم، وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه ابن ماجه.
فإن قلت: في حديث «جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب بالطور» وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قرأ في المغرب الأعراف وقسمها في ركعتين» رواه النسائي.
قلت: هذا بحسب الأحوال، فكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم من أحوال المؤمنين في وقت أنهم يؤثرون التطويل فيطول، وفي وقت غير مستحب قد ذكر المصنف في باب المواقيت، ويستحب تأخير العصر ما لم تتغير الشمس في الشتاء والصيف؛ لما فيه من تكثير النوافل لكراهتها بعده، وذكر في العشاء أنه يستحب تأخيره إلى ما قبل ثلث الليل. ثم تعليل المصنف حينئذ بقوله م: (وقد يقعان بالتطويل في وقت غير مستحب) ش: ماش ظاهر في العصر وغير ماش في العشاء؛ لأن تأخيره إلى نصف الليل مباح والتعليل الصحيح فيه أن وقتها وقت النوم فبالتطويل في القراءة يحصل التأخير، وبالتأخير يحصل التنفير والتقليل في الجماعة لغلبة النوم عليهم حينئذ م: (فيوقت فيهما) ش: أي في وقت العصر والعشاء م: (بالأوساط) ش: أي بأوساط المفصل، وعن أبي بريدة: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العشاء الآخرة: والشمس وضحاها ونحوها» ، ورواه النسائي والترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن جابر بن سمرة: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الظهر والعصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] » رواه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه.

م:

(2/308)


وقال: ويطيل الركعة الأولى من الفجر على الثانية، إعانة للناس على إدراك الجماعة.
قال: وركعتا الظهر سواء، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أحب إلي أن يطيل الركعة الأولى على غيرها في الصلوات كلها؛ لما «روي أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "كان يطيل الركعة الأولى على غيرها في الصلوات كلها» ، ولهما أن الركعتين استويا في استحقاق القراءة فيستويان في المقدار،
بخلاف الفجر؛ لأنه وقت نوم وغفلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وقال) ش: أي محمد في الأصل م: (ويطيل الركعة الأولى من الفجر على الثانية) ش: وفي بعض النسخ ويطول وهذا بالاتفاق بين أصحابنا، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسوي بين الركعتين في الصلاة كلها ذكر في " المهذب " وبه قال الأكثرون من الشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - واختار النووي قول محمد وفي " الروضة " والأصح التسوية بينهما وبين الثالثة والرابعة، واتفقوا على كراهية إطالة الثانية على الأولى إلا مالكا، فإنه قال: لا بأس بأن يطول الثانية على الأولى.
م: (إعانة للناس على إدراك الجماعة) ش: أي لأجل الإعانة للناس على إدراك الجماعة؛ لأن وقت الفجر وقت نوم وغفلة، فاستحب تطويل الركعة الأولى ليدرك الناس الجماعة.

م: (قال: وركعتا الظهر سواء) ش: أي الركعتان الأوليان من الظهر مستويتان في الإطالة والقصر، لأنهما استويا في وجوب القراءة ويستويان في مقدارها إذ الترجيح خلاف الأصل بخلاف صلاة الفجر لما ذكرنا وقد ذكرنا عن قريب حديث جابر بن سمرة وقراءته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الظهر والعصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] وهما متقاربتان.
م: (وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: يعني استواء ركعتي الظهر وغيره م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أحب إلي أن يطول الركعة الأولى على الثانية في الصلوات كلها) ش: وبه قال الثوري وأحمد - رحمهما الله - م: (لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطيل الركعة الأولى على الثانية في الصلوات كلها) ش: روى البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة، واللفظ للبخاري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب ويطول في الركعة الأولى ما لا يطيل في الثانية وهكذا في العصر» وهكذا في الصبح وزاد أبو داود والعشاء؛ لأنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة. م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (أن الركعتين استويا في حق استحقاق القراءة فيستويان في المقدار) ش: يعني أن القراءة كما فرضت في الأولى فرضت في الثانية، فثبت استواؤهما في استحقاق القراءة، فينبغي أن يستويا في حق المقدار أيضا.

م: (بخلاف الفجر؛ لأنه وقت نوم وغفلة) ش: هذا جواب عن قياس محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قاس سائر الصلوات بالفجر، فإن إطالة الأولى على الثانية مسنونة بالإجماع، وأما الفجر فإنه في وقت نوم وغفلة بخلاف غيرها، فإن الناس فيها على علم ويقظة، فلا يقاس على الفجر

(2/309)


والحديث محمول على الإطالة من حيث الثناء والتعوذ والتسمية،
ولا معتبر بالزيادة والنقصان بما دون ثلاث آيات؛ لعدم إمكان الاحتراز عنه من غير حرج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لوجود الفارق، وفي " جامع المحبوبي ": الجمعة والعيد وغيرهما في هذا الحكم سواء.
م: (والحديث محمول على الإطالة من حيث الثناء والتعوذ والتسمية) ش: هذا جواب من جهة أبي حنيفة وأبي يوسف عن الحديث الذي احتج به محمد وهو ظاهر، وفيه نظر من وجهين، أحدهما: أنه احتج لمحمد بالحديث المذكور، ولم يحتج لأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - إلا بالمعقول، وكان ينبغي له أن يذكر لهما حديثا ثم يجيب عن حجته. والثاني: أن المراد من الإطالة هي الإطالة في نفس القراءة، والثناء، والتعوذ، والتسمية ليست من القراءة، وهذا جواب شاف.
وقد احتج أبو حنيفة وأبو يوسف بما رواه أبو سعيد الخدري «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرأ في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين خمس عشرة آية، وقال: نصف ذلك في العصر، في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك» . رواه مسلم وأحمد - رحمهما الله.

م: (ولا معتبر بالزيادة والنقصان بما دون ثلاث آيات؛ لعدم إمكان الاحتراز عنه من غير حرج) ش: أي ولا عبرة في زيادة آية أو آيتين في الركعة الأولى على القراءة في الركعة الثانية، وكذلك على العكس وكذا لا عبرة في نقصان آية أو آيتين عن ذلك، والحاصل أن المقدار في الزيادة والنقصان بما دون ثلاث آيات من غير حرج في اعتبار التساوي على الحقيقة، «وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في المغرب بالمعوذتين» والثانية أطول من الأولى بآية، وإطالة الركعة الثانية على الأولى بثلاث آيات فصاعدا في الفرائض مكروه بالإجماع، وفي السنن والنوافل لا يكره؛ لأن أمرها أسهل كذا في " جامع المحبوبي "، وفي " جامع التمرتاشي " هكذا إذا كان إماما، أما إذا كان منفردا قرأ ما شاء؛ لأن على الإمام أن يراعي حق القوم، قال المرغيناني: في التطويل يعتبر بالآي إن كان بينهما مقاربة، بأن كانت الآيات متقاربة من حيث الطول والقصر معتبرا بالكلمات والحروف، وقيل: ينبغي أن يكون التقرب بالثلاث والثلاثين.
وقال الطحاوي: يقرأ في الأولى ثلاثين آية، وفي الثانية عشر آيات، أو عشرين آية، وهذا بيان الأولوية.
وفي " المجرد " قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المنفرد كالإمام في جميع ما وصفنا من القراءة إلا أنه ليس عليه الجهر، وقيل: يستحب للمنفرد رجلا كان أو امرأة تطويل القراءة؛ لقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: طول القراءة أحب إلي من كثرة الركوع والسجود، وقَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] (البقرة: الآية 238) ، قيل: القنوت طول القيام، وفي " القنية ": القراءة المسنونة يستوي

(2/310)


وليس في شيء من الصلوات قراءة سورة بعينها بحيث لا تجوز غيرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها الإمام والمنفرد والناس عنها غافلون.

[قراءة نفس السورة مع الفاتحة في الركعة الثانية]
فروع: إذا قرأ الفاتحة وسورة معها، ثم قرأ في الثانية تلك السورة مع الفاتحة فلا بأس به، حتى قال الأصحاب لو قرأ (قل أعوذ برب الناس) في الأولى، ثم قام إلى الثانية يقرأها بعينها. وعن أبي الحويرث: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في المغرب بأم القرآن وقرأ معها (إذا زلزلت الأرض) ثم قام فقرأ بأم القرآن وقرأ (إذا زلزلت الأرض» أيضا" رواه أبو داود.
وفي " البخاري «أن رجلا كان يقرأ في كل ركعة ب (قل هو الله أحد) فرفع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقره عليه» وكره جماعة الجمع بين سورتين غير الفاتحة في ركعة واحدة، وعندنا لا يكره ذلك، وقال الطحاوي: وثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعله، وذكر في " الحديقة " أن أربعة من العلماء ختموا القرآن في ركعة واحدة، وهم عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير وأبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وإن جمع بين سورتين في ركعة، وبينهما سور أو سورة يكره. وإن قرأ في الركعتين من وسط السورة وآخرها في الأولى، وفي الثانية وسط سورة وآخر سورة أخرى لا ينبغي أن يفعل، ولو فعل لا بأس به، وإن انتقل من آية إلى آية وبينهما آيات يكره في ركعة واحدة، وفي الركعتين إن كان بينهما سورة لا يكره، وإن كان سور يكره، وقيل: لا يكره إذا كانت السورة طويلة، وقيل: لا يكره على الإطلاق. ويكره أن يقرأ سورة أو آية في ركعة، ثم يقرأ في الثانية ما فوقها، وعليه جمهور الفقهاء.
قال ابن بطال في " شرح البخاري " وعن عبد الله أنه سئل عمن يقرأ القرآن منكوسا قال: ذلك منكوس القلب، وفسر بأن يقرأ سورة ثم يقرأ بعدها سورة قبلها في النظم، وبه قال أحمد، ولم يكرهها مالك، وكذا ترديد السورة في ركعة، نص مالك: لا بأس به وروى ابن القاسم عنه أنه سئل عن تكرير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فكره وقال: هذا مما أحدثوه.
وفي " الذخيرة ": ولو قرأ آية في التطوع لا يكره ذلك فقد ثبت عن جماعة من السلف أنهم كانوا يحيون ليلتهم بآية العذاب، أو الرحمة، أو الرجاء.
م: (وليس في شيء من الصلوات قراءة سورة بعينها بحيث لا تجوز غيرها) ش: أي ليس في صلاة من الصلوات أي صلاة كانت قراءة سورة من القرآن بعينها للمصلي، بحيث أنه لا تجوز غيرها إذا قرأ ذلك الغير، وفيه نفي قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده الفاتحة فرض على التعيين في الصلوات، حتى إذا ترك الفاتحة لا تجوز الصلاة.
وقوله: - لا يجوز غيرها - يجوز فيه الوجهان:

(2/311)


لإطلاق ما تلونا.
ويكره أن يوقت بشيء من القرآن لشيء من الصلوات لما فيه من هجر الباقي وإيهام التفضيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: أن يكون يجوز بالتخفيف، وغيرها بالرفع فاعله، والجملة بقيت في محل النصب على الحال، والآخر: أن يكون من باب التفعيل وغيرها بالنصب على المفعولية، والضمير في لا يجوز على هذا يرجع إلى المصلي الذي يدل عليه قوله: - قرأ سورة -؛ لأن التقدير قراءة المصلي سورة، فالمصدر مضاف إلى مفعوله، وطوى ذكر الفاعل. م: (لإطلاق ما تلونا) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) ، فإنه مطلق ولا يجوز تقييده بخبر الواحد.

[تعيين سورة أو آية من القرآن لشيء من الصلوات]
م: (ويكره أن يوقت) ش: أي يعين م: (بشيء من القرآن لشيء من الصلوات) ش: مثل ما أخذ عين قراءة السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] في فجر كل جمعة، ومثل تعيين قراءة سورة الجمعة والمنافقين في صلاة الجمعة م: (لما فيه) ش: أي في توقيت السورة من القرآن بشيء من الصلوات م: (من هجر الباقي) ش:؛ لأن المواظبة على تعيين شيء من القرآن لشيء من الصلوات هجر لباقي القرآن من غير المعين، فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] (الفرقان: الآية 30) ، أي متروكا وأعرضوا عنه م: (وإيهام التفضيل) ش: أي ولما فيه من إيهام تفضيل المعين على غيره، والقرآن كلام الله تعالى كله سواء في التفضيل.
وقال السغناقي: هاهنا سؤال، وملخصه أن هذه المسألة والتي قبلها في إبداء حكم واحد بحسب الظاهر، فحينئذ يصير هذا تكرارا ولا فائدة فيه. وأجابوا بجوابين ملخصهما:
الأول: أن المسألة الأولى من مسائل القدوري.
والثانية: من مسائل " الجامع الصغير "، والمصنف التزم ذكر مسائلهما.
قلت: فيه نظر لا يخفى.
والثاني: أن في الأولى تعيين السورة في مطلق الصلوات ولا يقرأ غيرها في كلها، وفي الثانية تعيين سورة معينة [في] صلاة معينة كما ذكرنا مثلها. وأورد الأكمل هذا في شرحه ناقلا عنه، وذكر في الجواب الأول أن المصنف قد التزم الإتيان بمسائل القدوري، ومسائل " الجامع الصغير " إذا اختلفت الروايتان.
قلت: ليس هاهنا اختلاف الروايتين، وإنما هو اختلاف الحكمين.
وقال الأترازي: فافهم فرق ما بين هذه المسألة وبين المسألة المتقدمة، وقد خبط خبط عشواء إذ ركب متن في فرقهما كثير ممن تصدى للتدريس.
قلت: هو فيما ذكره؛ لأنه لم يفرق بينهما بوجه ما، وأظن أنه حل المسألة الثانية على أنه إذا

(2/312)


ولا يقرأ المؤتم خلف الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واظب على البعض، وأما إذا قرأ أحيانا تبركا، روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] في صلاة الفجر» فيكون مستحبا لا مكروها، فلذلك قال: ممن تصدى للتدريس ولم يقل من تصدى للشرح.
ثم ذكر السغناقي سؤالا آخر ملخصه: أنه علم كراهة التعيين من جانب واحد فعلمه من الجانبين بالطريق الأولى؛ لأن الكراهة ما جاءت إلا من جانب التقديم وأجاب بما ملخصه بطريق المنع؛ لأنه يجوز أن يكون للتعيين من الجانبين فائدة لزيادة التبرك بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك دون الآخر، حتى إن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرى استحباب الثاني دون الأول؛ لأن فيه هجرا للباقي من غير تضمن معنى التبرك، فيكره الأول دون الثاني، وقد تكلم هاهنا من غير تحريم يعلم ذلك بالوقوف عليه والتأويل فيه.
ثم قال الإسبيجابي والطحاوي: هذا الذي ذكر رآه حتما واجبا، لا يجزي غيرها أو رأى القراءة بغيرها مكروهة، أما لو قرأها في تلك الصلاة تبركا بقراءة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها أو تأسيا به، أو لأجل التيسير عليه، فلا كراهة في ذلك، لكن بشرط أن يقرأ غيرها أحيانا لئلا يظن الجاهل الغبي أن لا يجوز غير ذلك، وغالب العوام على اعتقاد بطلان سورة السجدة دون سورة (هل أتى) ، وما تحملهم على هذا إلا التزام الشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قراءة سورة السجدة.
وقال الطحاوي: قرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجمعة بغير ما ذكر فيها. وعن النعمان بن بشير: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الركعة الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » ، فيحمل على أنه قرأ هذا مرة، وبهذا مرة، واستدل النووي بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة {الم} [السجدة: 1] {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] » على سنية قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة.
وكذلك استدل بما رواه مسلم وأبو داود والنسائي بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] » "، وقال: فيه دليل لمذهبنا، ومذهب موافقينا، وهم محجوجون بهذه الأحاديث الصحيحة المروية من طريق ابن عباس، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
قلت: ولا خلاف بيننا وبينهم في الحقيقة؛ لأن أبا حنيفة إنما كره الملازمة إذا لم يعتقد الجواز بغيره، والشافعي أيضا يكره مثل هذا، أما إذا اعتقد الجواز بغيره ولازم على سورة معينة لأحد الوجوه التي ذكرناها الآن فلا يكره.

[قراءة المؤتم خلف الإمام]
م: (ولا يقرأ المؤتم خلف الإمام) ش: سواء جهر الإمام أو أسر به.

(2/313)


خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفاتحة، له أن القراءة ركن من الأركان فيشتركان فيه، ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن المسيب، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير، والزهري، والشعبي، والثوري، والنخعي، والأسود، وابن أبي ليلى، والحسن بن جني: إذا كان يسمع قراءة الإمام.
وقال ابن تيمية: وبه قال الأوزاعي، وابن عيينة، وابن المبارك، والإمام مالك، وأحمد، وفي " الجواهر " يستحب قراءتها في السر دون الجهر. وقال ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب: لا يقرأها في الجهر ولا في السر.
م: (خلافا للشافعي في الفاتحة) ش: فعنده يجب على المأموم قراءة الفاتحة في السرية والجهرية وبه قال الليث وأبو ثور، وفي القديم لا يجب في الجهرية نقله أبو حامد في تعليقه. وحكى الرافعي وجها أنه لا يجب في السرية، وقال الثوري فإنه يجب فيهما.
م: (له) ش: أي للشافعي م: (أن القراءة ركن من الأركان فيشتركان فيه) ش: أي يشترك الإمام والمقتدي في هذا الركن كما يشتركان في سائر الأركان بخلاف ما لو أدرك الإمام في الركوع؛ لأن تلك الحالة حالة الضرورة ولم يذكر المصنف إلا الدليل العقلي؛ لأنه ذكر في باب صفة الصلاة ما احتج به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الحديث وقد بسطنا الكلام فيه هناك، ومن جملة ما احتج به من المنقول ما رواه عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمأمومين الذين قرأوا خلفه: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها» ، رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
واحتج له البيهقي بحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج"، فقيل لأبي هريرة إذا يكون وراء الإمام، فقال اقرأها في نفسك يا فارسي» . الحديث رواه أبو داود بلفظ: فهي خداج غير تام.
وفي لفظ ابن عدي: «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فهي خداج» وفي رواية الطبراني: «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي مخدجة» . وفي رواية أخرى لابن عدي بإسناده إلى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تجزئ المكتوبة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات فصاعدا» . وقد أجبنا عن هذه الأحاديث وما جاء في هذا الباب من نحو ذلك في باب صفة الصلاة.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ش: هذا الحديث رواه من الصحابة جابر بن عبد الله وابن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أما حديث جابر فأخرجه ابن ماجه في "سننه " عن جابر الجعفي عن أبي الزبير عن جابر

(2/314)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان له إمام فإن قراءة الإمام له قراءة» ".
وأما حديث ابن عمر فأخرجه الدارقطني في "سننه " عن محمد بن الفضل بن عطية عن أبيه عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان له إمام فقراءته له قراءة» " وعن إبراهيم بن عامر الأصبهاني حدثنا أبي عن جدي عن النضر بن عبد الله ثنا الحسن بن صالح عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وثنا العدوي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» .
وأما حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فأخرجه الدارقطني في "سننه " عن محمد بن عباد الرازي، ثنا إسماعيل بن إبراهيم التيمي، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا نحوه سواء.
وأما حديث ابن عباس فأخرجه الدارقطني أيضا من حديث عاصم بن عبد العزيز المدني، عن أبي سهيل عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تكفيك قراءة الإمام خافت أو جهر» ".
وأما حديث أنس فأخرجه ابن حبان في كتاب " الضعفاء " عن غنيم بن سالم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ".
فإن قلت: حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه جابر الجعفي وهو مجروح وروي عن أبي حنيفة أنه قال: ما رأيت أكذب من جابر الجعفي. وحديث ابن عمر موقوف وفيه وهم قاله الدارقطني. وحديث أبي سعيد أخرجه ابن عدي أيضا فيه إسماعيل بن عمرو بن نجيح وهو ضعيف. وقال ابن عدى: هذا لا يتابع عليه.
وحديث أبي هريرة، قال الدارقطني: لا يصح هذا عن سهيل، وتفرد به محمد بن عباد

(2/315)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو ضعيف.
وحديث ابن عباس قال أحمد: هو حديث منكر، وقال الدارقطني: فيه عاصم بن عبد العزيز وليس بالقوي ورفعه وهم
وحديث أنس بن مالك فيه غنيم بن سالم قال ابن حبان: هو يخالف في الروايات ولا تعجبني الرواية عنه فكيف الاحتجاج به؟.
قلت: أما حديث جابر فله طرق أخرى وهي وإن كانت مدخولة ولكن يشد بعضها بعضا، فمنها ما رواه محمد بن الحسن في "موطئه " أخبرنا الأمام أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلى خلف الإمام فإن قراءة الإمام قراءة له» ". ومنها ما رواه ابن عدي والدارقطني، عن الحسن بن صالح عن ليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا نحوه، ومنها ما رواه الدارقطني في "سننه "، والطبراني في "معجمه الأوسط "، عن سهل بن العباس المروزي، ثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن أبي الزبير [عن جابر] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ".
فإن قلت: أخرج هذا الحديث الدارقطني في "سننه "، ثم البيهقي عن أبي حنيفة مقرونا بالحسن بن عمارة، وعن الحسن بن عمارة وحده بالإسناد المذكور، قال الدارقطني: وهذا الحديث لم يسنده عن جابر بن عبد الله غير أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والحسن بن عمارة وهما ضعيفان، وقد رواه سفيان الثوري وأبو الأحوص، وشعبة، وإسرائيل، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وسفيان بن عيينة وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مرسلا وهو الصواب.
قلت: سئل يحيى بن معين عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: ثقة ما سمعت أحدا ضعفه، هذا شعبة بن الحجاج يكتب إليه أن يحدث ويأمره شعبة وسعيد وقال أيضا: كان أبو حنيفة ثقة من أهل الصدق، ولم يتهم بالكذب، وكان مأمونا على دين الله صدوقا في الحديث، وأثنى عليه جماعة من الأئمة الكبار، مثل عبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، والأعمش، وسفيان الثوري، وعبد الرزاق، وحماد بن زيد، ووكيع وكان يفتي برأيه والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وآخرون كثيرون فقد ظهر لنا من هذا تحامل الدارقطني عليه وتعصبه الفاسد، فمن أين له تضعيف أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو مستحق التضعيف، وقد روى في "مسنده" أحاديث سقيمة ومعلولة ومنكرة وغريبة وموضوعة، ولقد صدق القائل في قوله حينئذ والمعنى:

(2/316)


وعليه إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا لم ينالوا شأنه ووقاره ... فالقوم أعداء له وخصوم
وفي المثل السائر:
البحر لا يكدره وقوع الذباب ولا ينجسه ولوغ الكلاب
وحديث أبي حنيفة حيث صحيح، وأما أبو حنيفة فأبو حنيفة، وأبو الحسن موسى بن أبي عائشة الكوفي من الثقات الأثبات ومن رجال الصحيحين، وعبد الله بن شداد من كبار الثلاثة وثقاتهم.
فإن قلت: هذا الحديث زاد فيه أبو حنيفة جابر بن عبد الله وقد رواه جرير، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأبو الأحوص، وشعبة، وزائدة وزهير، وأبو عوانة، وابن أبي ليلى، وقيس، وشريك وغيرهم فأرسلوه.
فقلت: الزيادة من الثقة مقبولة، ولئن سلمنا فالمراسيل عندنا حجة.
فإن قلت: حديث ابن عمر فيه محمد بن الفضل وهو متروك، وقال الدارقطني رفعه وهم.
قلت: نحن نحتج بالموقوف؛ لأن الصحابة عدول.
فإن قلت: حديث أبي سعيد أخرجه ابن عدي عن إسماعيل بن عمرو وهو ضعيف.
قلت: هو من طريق الطبراني والضعيف ما كذبه.
فإن قلت: حديث أبي هريرة فيه محمد بن عباد الرازي وهو ضعيف، وكذلك حديث ابن عباس وحديث أنس.
قلت: قد ذكرنا أن الضعيف قد يتقوى بالصحيح ويقوي بعضها بعضا.

م: (وعليه إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي على ترك القراءة خلف الإمام كما مر في حديث عبادة بن الصامت، وحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكيف ينعقد الإجماع مع خلف بعض؟
قلت: سماه إجماعا باعتبار اتفاق الأكثر فإنه يسمى إجماعا عندنا. وقد روي منع القراءة عن ثمانين نفرا من كبار الصحابة منهم المرتضى والعبادلة الثلاثة، وأسانيدهم عند أهل الحديث. وقيل ما يجاوزه عدد من أفتى في ذلك الزمان عن الثمانين فكان اتفاقهم بمنزلة الإجماع، وذكر الشيخ الإمام عبد الله بن يعقوب الحارثي السنديوتي في كتاب " كشف الأسرار "، عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: عشرة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهون عن القراءة خلف الإمام أشد النهي: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن

(2/317)


وهو ركن مشترك بينهما، لكن حظ المقتدي الإنصات والاستماع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جميعا.
أو نقول إجماع ثبت بنقل الآحاد، ولهذا لم يعد مخالفة جاهلا فلا يمنعه نقل البعض بخلافه كنقل حديث بالآحاد لا يتبع نقل حديث آخر معارض له، ثم لما ثبت نقل الأمرين ترجح ما قلنا؛ لأنه موافق لقول العامة وظاهر الكتاب والأحاديث المشهورة، ويجوز أن يكون رجوع المخالف ثابتا فتم الإجماع.
إن قلت: لما ثبت نهي العشرة المذكورة ولم يثبت رد واحد عليهم عند توفر الصحابة كان إجماعا سكوتيا.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قراءة الإمام له قراءة معارض بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا} [المزمل: 20] فلا يجوز تركه بخبر الواحد.
قلت: جعل المقتدي قارئا بقراءة الإمام إلا ما يأتم فلا يلزم الترك، أو نقول: إنه خصه منه المقتدي الذي أدرك الإمام في الركوع، فإنه لا يجب عليه القراءة بالإجماع، فيجوز الزيادة عليه حينئذ بخبر الواحد.
فإن قلت: قد حمل البيهقي في كتاب " المعرفة " حديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» على ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام، وعلى قراءة الفاتحة دون السورة، واستدل عليه بحديث عبادة بن الصامت المذكور فيما مضى.
قلت: ليس في شيء من الأحاديث بيان القراءة خلف الإمام فيما جهر، والفرق بين الإسرار والجهر لا يصح؛ لأن فيه إسقاط الواجب بمسنون على زعمهم قاله إبراهيم بن الحارث.
وفي حديث عبادة محمد بن إسحاق بن يسار وهو مدلس.
قال النووي: ليس فيه إلا التدليس، قلنا: المدلس إذا قال عن فلان لا يحتج بحديثه عند جميع المحدثين، مع أنه قد كذبه مالك وضعفه أحمد، وقال: لا يصح الحديث عنه، وقال أبو زرعة الرازي: لا يقضى له بشيء.

م: (وهو ركن مشترك بينهما) ش: جواب عن قول الشافعي القراءة ركن وتقريره سلمنا أنها ركن لكن مشترك بينهما أي بين المقتدي والإمام م (لكن حظ المقتدي الإنصات) ش: أي السكوت م: (والاستماع) ش: بمعنى، فعلى قوله: لا فرق بينهما فحينئذ يكون قوله: - والاستماع - عطف تفسيري. وقال ابن الأثير: يقال: أنصت ينصت إنصاتا إذا سكت فسمع، وقد نصت انتصاتا وأنصته إذا سكته فهو لازم ومتعد ويقال: الإنصات والسكوت والاستماع شغل السمع بالسماع.

(2/318)


قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وإذا قرأ فأنصتوا» .
ويستحسن على سبيل الاحتياط فيما يروى عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويكره عندهما؛ لما فيه من الوعيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وإذا قرأ فأنصتوا» ش: وتمام الحديث قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده قولوا: ربنا لك الحمد» ، رواه أبو هريرة، وأخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
فإن قلت: قال أبو داود: هذه الزيادة فأنصتوا [ليست] بمحفوظة والتوهم عندنا من أبي خالد. قلت: تعقبه المنذري في "مختصره "، وقال: وهذا فيه نظر، فإن أبا خالد الأحمر هذا هو سليمان بن حيان وهو من الثقات الذي احتج بهم البخاري ومسلم، ومع هذا لم ينفرد بهذه الزيادة بل تابعه عليها أبو سعيد محمد بن سعيد الأنصاري الأسلمي المدني، نزيل بغداد، وقد أخرج مسلم هذه الزيادة في "صحيحه" من حديث أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حديث سليمان التيمي عن متابعة أبي سعيد أبا خالد مما رواه النسائي في "سننه " أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك، ثنا محمد بن سعيد الأنصاري، حدثني محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا» .
فإن قلت: قال البيهقي في " المعرفة " بعد أن روى حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي موسى: قد أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة في حديث أبي داود، وابن أبي حاتم، وابن معين، والحاكم والدارقطني وقالوا: إنها ليست بمحفوظة.
قلت: يرد هذا كله ما يوجد في بعض النسخ مسلما هذه الزيادة عقيب هذا الحديث، وصحح ابن خزيمة حديث ابن عجلان المذكور في تلك الزيادة، فقال مسلم: هو صحيح عندي يعني الحديث الذي رواه أبو هريرة المذكور، فقيل له: لم يضعفه هاهنا، فقال: ليس كل شيء عندي صحيح، وضعفه هاهنا إنما وضعت هاهنا وأجمعوا عليه، وهذا مسلم جبل من جبال أئمة الحديث، وأهل النقل قد حكم بصحة هذا الحديث ورد بهذا كلام البيهقي وأمثاله.

م: (ويستحسن على سبيل الاحتياط فيما يروى عن محمد) ش: أي يستحسن قراءة المقتدي الفاتحة احتياطا، ورفعا للخلاف فيما روى بعض المشايخ عن محمد. وفي " الذخيرة ": لو قرأ المقتدي خلف الإمام في صلاة لا يجب فيها، اختلف المشايخ فيه، فقال أبو حفص - وهو من بعض مشايخنا -: لا يكره في قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأطلق المصنف كلامه ومراده في حالة المخافتة دون الجهر. وفي " شرح الجامع " للإمام ركن الدين علي السعدي عن بعض مشايخنا أن الإمام لا يتحمل القراءة عن المقتدي في الصلاة المخافتة.
م: (ويكره عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لما فيه من الوعيد) ش: أي لما في هذا الصنع وهو القراءة خلف الإمام، فقد أخطأ طريق الفطرة رواه ابن

(2/319)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي شيبة، وروي عن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمرة. رواه عبد الرزاق في "مصنفه "، إلا أنه قال: في فيه حجرا.
وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حجرا، رواه عبد الرزاق، ومحمد بن الحسن أيضا.
وروي عن عبد الله: من قرأ خلف الإمام ملئ فيه ترابا.
وروي عن زيد بن ثابت: من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له. وقال السروجي: تفسد صلاته في قول عدة من الصحابة، وعن البلخي أحب إلي أن يملأ فمه من التراب. وقيل: يستحب أن يكسر أسنانه، ذكر ذلك الرازي في "أحكام القرآن". وفي " شرح التأويلات " عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قرأ خلف الإمام لا صلاة له.
وروي أيضا نهى عن ذلك جماعة من الصحابة. وروى الطحاوي في " شرح الآثار " حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عروة بن شريح، عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعن عبد الله بن مقسم أنه سأل عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله فقالوا: لا تقرأ خلف الإمام في شيء من الصلاة.
وروى محمد بن الحسن في "موطئه" عن سفيان بن عيينة، عن أبي منصور، عن أبي وائل قال: سئل عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن القراءة خلف الإمام، قال: أنصت، فإن في الصلاة ثقلا ويكفي في الإمام.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن جابر قال: لا يقرأ خلف الإمام إن جهر وإن خافت.
فإن قلت: روى أبو داود والترمذي والنسائي مرة حديث أبي هريرة «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: "هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟ " فقال رجل: نعم يا رسول الله فيما يجهر فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - من قول الزهري فلم يجعل الحديث حجة، قال أحمد: ما سمعنا أحدا من أهل الإسلام يقول: إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا يجزئ صلاة المأموم ما لم يقرأ، وهذا النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر، قالوا: الرجل إن قرأ إمامه ولم يقرأ هو صلاته باطلة.
وفي المعارضة: يقال للشافعي: عجبا لك كيف تقدر المأموم على القراءة في الجهر أينازع القرآن الإمام أم لا يعرض عن إسماعه، أم يقرأ إذا سكت؟ فإن قال: يقرأ إذا سكت، قيل له: فإن لم يسكت الإمام وقد اجتمعت الأمة أن سكوت الإمام غير واجب، فمتى يقرأ؟ ثم يقال: ليس في استماعه لقراءة القرآن قراءة منه، وهذا كاف لمن أنصف، وفيهم قد كان ابن عمر لا يقرأ

(2/320)


ويستمع وينصت وإن قرأ الإمام آية الترغيب والترهيب؛ لأن الاستماع والإنصات فرض بالنص،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلف الإمام، وكان أعظم الناس اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

م: (ويستمع وينصت وإن قرأ الإمام آية الترغيب والترهيب) ش: أي يستمع المقتدي وينصت وكلمة إن واصلة بما قبله، والمعطوف عليه محذوف وتقديره يستمع المقتدي وينصت وإن لم يقرأ الإمام آية الترغيب وإن قرأ آية الترغيب مثل الآية التي فيها ذكر الجنة، وآية الترهيب مثل الآية التي فيها ذكر النار، وفي ذكر المصنف هذا التركيب على هذه العبارة رعاية حسن الأدب حيث لم يقل: ولا يسأل المتقدي الجنة، أو لا يتعوذ من النار إذا قرأ الإمام آية الترغيب والترهيب، فإن فيه التصريح بالنهي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن تحذيره، وذكره بطريق الكناية عن النهي هو طريق حسن، ولكنه اقتصر فيه على بيان حكم المقتدي في هذا الباب، فإن في هذا المقام ثلاثة أحكام: حكم المقتدي، وحكم الإمام، وحكم المنفرد، أما حكم المقتدي فهو الذي ذكره، وهو أنه يستمع وينصت ولا ينشغل بالدعاء.
م: (لأن الإنصات والاستماع فرض بالنص) ش: هو قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] (الأعراف: الآية 204) .
وأما حكم الإمام فإنه لا يفعل ذلك في التطوع، ولا في الفرض؛ لأنه يؤدي إلى تطويل الصلاة على القوم وإنه مكروه. وقال الشافعي: إذا قرأ الإمام آية الرحمة فيستحب له أن يسأل الله تعالى، أو آية العذاب يستحب له أن يستعيذ، أو آية تنزيه يستحب له أن يسبح؛ لما «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ما مر بآية رحمة إلا سألها، أو آية عذاب إلا استعاذ منها» ويستحب للمقتدي أن يتابعه على ذلك نقله المزني في "المختصر "؛ لأن كل ذكر يسن للإمام فيسن للمقتدي كسائر الأذكار، وكذا لو قرأ بقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] (القيامة: الآية 40) ، يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين: أو قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] (التين: الآية 8) ، يقول بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، أو قرأ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] (الملك: الآية 30) يستحب أن يقول: الله رب العالمين، ولو قرأ قَوْله تَعَالَى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185] (الأعراف: الآية 185) ، يقول: آمنت بالله، ويقول: لا إله إلا الله، وبجميع ذلك ورد الأثر والخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والكل سنة في حق المقتدي أيضا كذا في الصلاة تفسد والدعاء فيها مندوب إليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فإنه أحرى أن يستجاب لكم» .
وأما حكم المنفرد فإنه وإن كان في التطوع فهو حسن للحديث المذكور، وفي أن يسن له ذلك؛ لأنه لم ينقل عن ذلك في الخبر، ولا عن الأئمة بعده، فكان محدثا، وشر الأمور محدثاتها.

(2/321)


والقراءة وسؤال الجنة والتعوذ من النار، كل ذلك مخل به
وكذلك في الخطبة،
وكذلك إن صلى على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لفريضة الاستماع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والقراءة) ش: وراء الإمام م: (وسؤال الجنة) ش: عند قراءة آية الترغيب م: (والتعوذ من النار) ش: عند قراءة آية الترهيب م: (كل ذلك) ش: أشار به إلى الأشياء المذكورة م: (مخل به) ش: أي بكل واحد من الإنصات والاستماع.

م: (وكذلك في الخطبة) ش: أي كذلك يسمع وينصت عند الخطبة؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت» رواه البخاري ومسلم، وآخرون، وبمعنى لغوت.
قلت: اللغو وهو الكلام الساقط الباطل المردود وقيل معناه: قلة الصواب، وقيل: تكلمت بما لا ينبغي، وفي رواية: لقد لغيت. قال: الزيادة هي لغة أبي هريرة، وإنما هي: لغوت، قال أهل اللغة: لغى يلغو لغوا، يقال: بمعنى يلغي كعمي يعمى لغتان والأول أفصح، والظاهر أن القراءة تقتضي الثانية التي هي لغة أبي هريرة، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] (فصلت: الآية 26) وهذا من لغى يلغي، ولو كان من الأول لقال: والغو بضم الغين. وقال ابن السكيت وغيره: مصدر الأول: اللغو ومصدر الثاني: اللغي، ففي هذا الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وطريقه إذا أراد النهي عن الكلام أن يشير إليه بالسكوت إن فهمه، فإن تعذر فهمه فليفهمه بكلام مختصر، ولا يزيد على أقل ممكن.
واختلفوا فيه: هل هو حرام أم مكروه كراهة تنزيه؟ فيهما قولان للشافعي، وقال القاضي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وعامة العلماء: يجب الإنصات للخطبة، وحكي عن النخعي والشعبي وبعض السلف: أنه لا يجب إلا إذا تلا فيها القرآن.

م: (وكذلك إن صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي وكذلك يستمع وينصت إن صلى الخطيب على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبة م: (لفريضة الاستماع) ش: في الخطبة والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس بفرض إلا في العمر مرة واستماع الخطبة فرض لا يجوز ترك الفرض لإقامة ما ليس بفرض. وسأل أبو حنيفة أبا يوسف: إذا ذكر الإمام فهل يذكرون ويصلون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: أحب إليّ أن يستمعوا وينصتوا، ولم يقل: لا يذكرون ولا يصلون فقد أحسن في العبارة وأحسن من أن يقول: ولا يذكرون ولا يصلون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعن أبي يوسف: يصلي في نفسه، واختاره الطحاوي كذا ذكره في " المحيط ". قلت: عند الطحاوي تجب الصلاة عليه كلما سمع فلهذا اختار قول أبي يوسف، وكذا حكم التشميت ورد السلام لا يأتي بهما حال الخطبة، والمسلم ممنوع عن السلام فلا يكون الجواب فرضا، وكذا لو قرأ القرآن فسلم عليه لا يرد الجواب، وكذا لو سلم على المدرس في حال التدريس له أن لا يرد.

(2/322)


إلا أن يقرأ الخطيب قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] (الأحزاب: الآية 56) فيصلي السامع في نفسه.
واختلفوا في النائي عن المنبر، والأحوط هو السكوت إقامة لفرض الإنصات والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجواب، كذا لو سلم السائل على إنسان لا يرد الجواب؛ لأن مقصوده المال دون إفشاء السلام ذكره المحبوبي. وقال النووي: قوله: - والإمام يخطب - دليل على أن وجوب الإنصات والنهي عن الكلام إنما هو في حال الخطبة فهذا مذهبنا ومذهب مالك والجمهور. وقال أبو حنيفة: يجب الإنصات بخروج الإمام.
قلت: أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم كانوا يكرهون الصلاة. وفي " الموطأ " عن الزهري قال: خروجه يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام.
م: (إلا أن يقرأ الخطيب قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فيصلي السامع في نفسه) ش: هذا استثناء من قوله: وكذلك إن صلى - يعني إذا قرأ الخطيب قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] (الأحزاب: الآية 56) يصلي السامع في نفسه؛ لأن الخطيب حكى عن الله، وعن ملائكته أنهم يصلون، وحكى أمر الله بذلك وهو قد اشتغل بذلك فكان على القوم أن ينشغلوا.
فإن قلت: توجه عليه أمران: أحدهما {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} [الأحزاب: 56] والأمر الآخر قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] (الأعراف: الآية 204) . قال مجاهد: نزلت في الخطبة الاشتغال بأحدهما يفوت الآخر، قلت: إذا صلى في نفسه وأنصت وسكت يكون إيتاء بموجب الأمرين.
فإن قلت: الجمهور على أن الآية نزلت في استماع القراءة في الصلاة.
قلت: الخطبة بآيات من القرآن والخطبة كالصلاة لأنها تقوم مقام الركعتين.

م: (واختلفوا في النائي عن المنبر) ش: أي اختلف المشايخ المتأخرون في البعيد عن المنبر وهو الذي لا يسمع الصوت فعن فضيل بن يحيى يحرك شفتيه ويقرأ القرآن، وعن محمد بن سلمة الأنصاري: الإنصات أولى واختاره المصنف؛ فلذلك قال: (والأحوط هو السكوت إقامة لفرض الانصات والله أعلم بالصواب) ش: وكذا روي عن أبي يوسف وقوله: الأحوط، أفعل التفضيل، وقال المطرزي: قولهم: أحوط. أي أدخل في الاحتياط شاذا أو نظيره أخصر من الاختصار.
قلت: وجه الشذوذ أنه مخالف للقياس؛ لأن القياس أن يقال فيه أشد احتياطا.

(2/323)