البناية
شرح الهداية باب الإحرام قال: وإذا أراد الإحرام اغتسل،
أو توضأ، والغسل أفضل لما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
اغتسل لإحرامه إلا أنه للتنظيف، حتى تؤمر به الحائض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الإحرام]
[تعريف الإحرام وسننه]
م: (باب الإحرام) ش: أي: هذا باب في بيان صفة الإحرام، ولما فرغ من ذكر
المواقيت شرع في بيان أن الإحرام كيف يفعل عندها، والإحرام مصدر من أحرم
الرجل إذا دخل في حرمة لا تهتك، كما تقول: أشتى إذا دخل في الشتاء، وفي عرف
الفقهاء: أن يحرم المباحات على نفسه لأداء هذه العبادة، فإن من العبادات ما
لها تحريم وتحليل كالصلاة والحج، ومنها ما ليس لها ذلك كالصوم والزكاة،
وفيه من الأمور ما لا يهتدي إليه العقل كلبس غير المخيط، وترك التطيب، وترك
النظافة، ورمي الحصيات المعدودة، وهي كلها تشبه بالأموات، وكأن الإشارة إلى
أنه مات في سبيل الله.
م: (قال: وإذا أراد الإحرام) ش: الواو فيه للاستفتاح كما سمعته من مشايخي
الكبار، أي إذا أراد من قصد الحج م: (اغتسل، أو توضأ، والغسل أفضل لما روي
«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل لإحرامه» ش: هذا
الحديث رواه الترمذي، عن عبد الله بن يعقوب المدني، عن أبي الزناد عن خارجة
بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه لإهلاله واغتسل، قال: حديث حسن غريب، وأخرجه
الطبراني في " معجمه "، والدارقطني في سننه "، ولفظهما: اغتسل لإحرامه، وقد
ذكر الأترازي هنا أحاديث في غسل من أراد الإحرام، ولكن كلها أحاديث القول،
وليس منه حديث يطابق متن الكتاب، والذي رويناه عن الترمذي هو المطابق.
م: (إلا أنه للتنظيف) ش: أي إلا أن هذا الاغتسال لزيادة تنظيف البدن، وأشار
إلى أنه غير واجب خلافاً لداود الظاهري، فإنه واجب عنده، ونقل عن بعض أهل
المدينة أن الدم يجب بتركه، وعن الحسن البصري: إذا تركه ناسياً يغتسل إذا
تذكره، والجمهور على أن هذا الغسل مستحب للإحرام م: (حتى تؤمر به الحائض)
ش: والأمر أمر استحباب.
(4/167)
وإن لم يقع فرضا عنها فيقوم الوضوء مقامه
كما في الجمعة والعيدين، لكن الغسل أفضل؛ لأن معنى النظافة فيه أتم، ولأنه
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اختاره.
قال: ولبس ثوبين جديدين، أو غسيلين إزارا ورداء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن لم يقع فرضا عنها) ش: أي عن الحائض؛ لأن اغتسالها قبل الطهر لا
يخرجها عن الحدث، وإنما هو لقطع الرائحة، ولتنظيف [البدن] وحرمة الإحرام
والميقات، وكذا النفساء م: (فيقوم الوضوء مقامه) ش: أي في حق إقامة السنة
لا في حق الأفضلية م: (كما في الجمعة والعيدين، لكن الغسل أفضل؛ لأن معنى
النظافة فيه أتم) ش: لأنه يشمل البدن، فتعم النظافة ولا يعتبر التيمم عند
العجز عن الماء [كالجمعة والعيدين، وبه قال مالك، وأحمد، وقال الشافعي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس التيمم عند العجز عن الماء] ، وفي " جوامع
الفقه ": السنة أن يغتسل قبل إحرامه، فإن أحدث بعده ثم توضأ لم ينل فضل
الغسل للإحرام كالجمعة.
م: (ولأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اختاره) ش: أي لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختار الغسل، كما مر في حديث الترمذي،
وروى الطبراني في " معجمه الأوسط " من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
- «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى مكة
اغتسل حين يريد أن يحرم» .
م: (قال: ولبس ثوبين جديدين، أو غسيلين) ش: أي ولبس ثوبين غسيلين، وقال
الشيخ أبو بكر الرازي في " شرحه لمختصر الطحاوي ": إنما ذكر جديدين أو
غسيلين؛ لأنه روي عن بعض السلف كراهة لبس الجديد عند الإحرام.
قلت: المفهوم هنا أنه إذا لم يجد جديدين يكونا عتيقين غسيلين م: (إزارا
ورداء) ش: كلاهما منصوبان على التمييز؛ لأن في قوله: - لبس ثوبين - أعم من
أن يكون الملبوس مخيطاً أو غير مخيط. وقوله: إزاراً أو رداء، بأن المراد من
اللبس أن يكون غير مخيط؛ لأن المحرم ممنوع من لبسه، ويرجع المعنى إلى تقدير
يلبس ثوباً كالإزار في وسطه، وثوباً آخر يتردى به، والإزار من السترة
والرداء كالميت يستتر بالكفن، ولهذا ليس له لبس المخيط؛ لأن لبس المخيط من
الزينة.
وهيئة الارتداء أنه يدخله تحت يمينه ويلقيه على كتفه الأيسر، ويبقى كتفه
الأيمن مكشوفاً، ولا يزره ولا يحلله بحلال ولا يمسكه ولا يشد إزاره بحبل
على نفسه، ولا يعقد الرداء على عاتقه، ولو فعل ذلك يكون مسيئاً ولا شيء
عليه. وقال الدارقطني: وهو مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضاً،
وعند مالك: عليه الفدية، ولا بأس بالطيلسان إذا لم يزره، وهو قول ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال ابن أبي ليلى: لا بأس به، وإن زره.
(4/168)
لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
اتزر، وارتدى عند إحرامه؛ ولأنه ممنوع عن لبس المخيط، ولا بد من ستر
العورة، ودفع الحر، والبرد، وذلك فيما عيناه، والجديد أفضل؛ لأنه أقرب إلى
الطهارة.
قال: ومس طيبا إن كان له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " البدائع ": وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لأنه ليس
بمخيط، وعن الحكم بن عتبة أنه كان لا يرى بأسا أن يتوسخ المحرم بثوبه
ويعقده على قفاه، ذكره ابن منصور عنه، وهو قول ابن المسيب أباحه إمام
الحرمين والغزالي والمتولي كالإزار وغيره، وعن أبي نصر العراقي أنكر أنه
يكره ولا شيء عليه، وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، وقال النووي: هو شاذ
مردود، ولا معتبر به؛ لأن الأئمة على خلافه، ورأى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - محرماً قد عقد ثوبه، فقال: انزع الحبل ويلك، لكن لم يأمره
بالفدية، وقال: إن يتزر في رواية إزاره وقال في " المبسوط "، و " البدائع
": ولا بأس أن يتحرم بعمامته يشتمل بها، ولا يعقدها.
م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اتزر، وارتدى عند إحرامه)
ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتزر بالهمزة افتعل
من الاتزار، لأن أصله ائتزر بهمزتين، وقال في " المغرب ": اتزر بالتشديد
يعني لبس الإزار، وألقى على كتفه الرداء، والحديث أخرجه البخاري في " صحيحه
" عن كريب، «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قال: انطلق النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة بعدما ترجل وادهن، ولبس
إزاره ورداءه هو وأصحابه ... » الحديث بطوله.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المحرم م: (ممنوع عن لبس المخيط، ولا بد من ستر
العورة، ودفع الحر، والبرد، وذلك) ش: أي ستر العورة ودفع الحر والبرد م:
(فيما عيناه) ش: أراد به الإزار والرداء م: (والجديد أفضل؛ لأنه أقرب إلى
الطهارة) ش: وفي الكفن الجديد والخلق سواء ويستحب أن يكون الإزار والرداء
أبيضين، لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البسوا من ثيابكم البياض، فإنها
من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم» وأخرجه الترمذي من حديث سمرة بن جندب -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «البسوا البياض فإنه أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم» وقال:
حديث صحيح.
وفي " المبسوط ": يلبس الحر، والبرد إذا لم يكن مصبوغاً بالزعفران والعصفر
والورس ولا مخيطاً، وفي " خزانة الأكمل ": يلبس الحر، والبرد العروي،
والمروي، وفي " البدائع ": والصوف، والبرد الملون كالعدني، وإن اقتصر على
ثوب واحد جاز لحصول ستر العورة به.
م: (قال: ومس طيبا إن كان له) ش: أي إن وجده، وعبارته تشعر بأنه لا يطلب من
غيره إن لم يكن عنده شيء من ذلك، واستحباب الطيب عند الإحرام مذهب جمهور
أهل العلم من
(4/169)
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يكره
إذا تطيب بما تبقى عينه بعد الإحرام، وهو قول مالك، والشافعي - رحمهما الله
-، لأنه منتفع بالطيب بعد الإحرام، ووجه المشهور حديث عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أطيب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لإحرامه قبل أن يحرم؛ ولأن الممنوع عنه عند التطيب بعد
الإحرام، والباقي كالتابع له لاتصاله به بخلاف الثوب؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلف والخلف الفقهاء، وأهل العلم، وأهل الحديث، منهم سعد بن أبي وقاص،
وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وابن الزبير، والبراء بن عازب، وعبد الله بن
جعفر، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة، ومحمد بن الحنفية، وعروة، والقاسم،
وإبراهيم، وابن جريج والشعبي، وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ -، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وداود،
وأصحابه، والخطابي، وكرهه عطاء، والزهري، ومالك، ومحمد بن الحسن، وزفر،
فيما تبقى عينه بعد الإحرام كالغالية، والمسك.
ويجب به الدم عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزفر، وفي " الوبري ": لا شيء
عليه إذا فعل ذلك في قولهم جميعا، وفي ظاهر المذهب: لا فرق بين ما تبقى
عينه وما لا تبقى، ويستوي فيه الرجل والمرأة، وكذا يتبخر بالعود والعنبر،
ويتطيب أصناف الطيب من البان والزريرة والكافور والصندل والزعفران والورس،
ذكرهما النووي، والريحان والنسرين والمرزنجوش، وكذا يدهن بالأدهان الطيبة
كدهن البان، والورد، والبنفسج.
م: (وعن محمد أنه) ش: أي عن مس الطيب م: (يكره إذا تطيب بما تبقى عينه بعد
الإحرام) ش: أي بما تبقى عينه على بدنه بعد أن أحرم م: (وهو قول مالك،
والشافعي) ش: وقول زفر أيضاً م: (لأنه منتفع بالطيب بعد الإحرام) ش: وهو
ممنوع من ذلك؛ لأن للبقاء حكم الابتداء وعن مالك منع الطيب مطلقاً.
م: (ووجه المشهور) ش: أي عن أصحابنا م: «حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - قالت: كنت أطيب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لإحرامه قبل أن يحرم» ش:، وفي لفظ: «كأني أنظر وبيض الطيب في مفرق رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم» .
م: (ولأن الممنوع عنه) ش: أي من الطيب م: (عند التطيب بعد الإحرام) ش: يعني
ابتداء م: (والباقي) ش: في أثره م: (كالتابع له لاتصاله به) ش: ولا حكم
للتابع، فيكون بمنزلة المعدوم م: (بخلاف الثوب) ش: يعني بخلاف ما إذا لبس
ثوباً قبل الإحرام وبقي على ذلك الإحرام، حيث يمنع عنه لأنه لم يجعل تبعاً
م: (لأنه مباين عنه) ش: أي عن بدنه، ومن هذا إذا حلف لا يتطيب فدام على طيب
كان بجسده لا يحنث، وإذا حلف لا يلبس هذا الثوب فدام على لبسه حنث.
(4/170)
مباين عنه. قال: وصلى ركعتين لما روى جابر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه.»
قال: وقال: «اللهم إني أريد الحج، فيسره لي، وتقبله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: استدل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما رواه الطحاوي بإسناده إلى
صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه عن جده «أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة وعليه جبة وهو يصفر لحيته، ورأسه،
فقال: يا رسول الله إني أحرمت وأنا كما ترى، فقال: " انزع عنك الجبة، واغسل
عنك الصفرة» ورواه أحمد أيضاً.
واستدل أحمد أيضاً بما رواه مالك في " الموطأ " عن نافع عن أسلم أن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجد ريح طيب، فقال: ممن ريح هذا الطيب،
فقال معاوية: مني يا أمير المؤمنين، فقال: منك لعمري، فقال معاوية: إن أم
حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عزمت
عليك فلترجع فلتغسله.
قلت: الجواب عن حديث يعلى أن الطيب كان خلوقاً وهو مكروه للرجل لا للإحرام،
وعن حديث معاوية أنه أمره بالغسل قطعاً لوهم الحاصل أنه فعله بعد الإحرام،
وفي " الذخيرة ": يكره للمحرم شم الريحان، والطيب، والثمار الطيبة، ولا شيء
عليه عند مالك، ولا يكره عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وصلى ركعتين) ش: أي في
غير الأوقات المكروهة، وفي بعض النسخ: ويصلي ركعتين بلفظ المضارع، وكذا في
متن القدوري، وليس في بعض النسخ لفظ: قال وفي الرواية: يستحب أن يصلي.
وفي " السروجي ": هذه سنة وتجزئه المكتوبة كالتحية م: (لما روى جابر أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بذي الحليفة ركعتين عند
إحرامه) ش: نسبة هذا الحديث إلى جابر لم تصح، والذي في حديث جابر بغير
تعيين عدد على ما رواه جابر في حديث طويل أنه صلى في مسجد ذي الحليفة ولم
يذكر عدداً، نعم روى أبو داود عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «خرج رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجاً فلما صلى في مسجده بذي
الحليفة ركعتين أوجب في مجلسه ... الحديث» .
م: (قال) ش: أي قال القدوري: م: (وقال) ش: الذي يريد الحج، وقال الأكمل:
وقال الذي يريد الحج، وفي " النهاية ": في بعض النسخ لم يذكر، قال الأول:
وألحقه بحديثه جابر، أي صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بذي الحليفة، وقال: أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
والصحيح الأول؛ لأنه هو المثبت في الكتب المقروءة على الأساتذة.
م: (اللهم إني أريد الحج، فيسره لي وتقبله مني؛ لأن أداءها) ش: أي لأن هذه
العبادة، وهو
(4/171)
مني» ؛ لأن أداءها في أزمنة متفرقة، وأماكن
متباينة، فلا يعرى عن المشقة عادة فيسأل التيسير، وفي الصلاة لم يذكر مثل
هذا الدعاء؛ لأن مدتها يسيرة، وأداءها عادة متيسر. قال: ثم يلبي عقيب صلاته
لما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لبى في دبر صلاته.
وإن لبى بعدما استوت به راحلته جاز، ولكن الأول أفضل لما روينا. وإن كان
مفردا بالحج ينوي بتلبيته الحج؛ لأنه عبادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعليل لسؤال التيسير؛ لأنه عبادة عظيمة تحصل بأفعال م: (في أزمنة متفرقة،
وأماكن متباينة، فلا يعرى عن المشقة عادة فيسأل التيسير) ش: لأنه عبادة
عظيمة تحصل بأفعال شاقة فاستحب طلب التيسير، والتسهيل من الله تعالى.
م: (وفي الصلاة لم يذكر مثل هذا الدعاء؛ لأن مدتها يسيرة وأداءها عادة
متيسر) ش: وفي " التحفة "، و " القنية " وغيرهما، قال محمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: في الصلاة يجب أن يقول: اللهم إني أريد صلاة كذا فيسرها لي،
وتقبلها مني، كما في الحج فلا فرق.
[حكم التلبية للمحرم ولفظها]
[رفع الصوت بالتلبية]
م: (قال: ثم يلبي عقيب صلاته لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لبى في دبر صلاته) ش: وبه قال مالك، وأحمد، والشافعي في
القديم، وهو قول الترمذي، والنسائي عن عبد السلام بن حرب، حدثنا خصيف عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أهل في دبر صلاته» وقال: حديث حسن غريب.
م: (وإن لبى بعدما استوت به راحلته) ش: قال في " المغرب ": أي قامت مستوية
على قوائمها، والراحلة هو النجيب، والنجيبة من الإبل م: (جاز) ش: وبه قال
الشافعي في الأصح، وهو قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - م: (ولكن
الأول أفضل لما روينا) ش: أشار به إلى قوله - لبى في دبر كل صلاة - وجه
الأفضلية أنه أكثر عملاً؛ لأن من يلبي عقب صلاته يلبي إذا استوى على
راحلته، وإذا علا شرف البيداء دون العكس، والأحاديث اختلفت في تلبية رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال بعضهم: أهل حين صلى، وقال
بعضهم: أهل حين استوت به راحلته، وقال بعضهم: حين ارتفع على البيداء.
وبين وجه الاختلاف في " شرح الآثار " مسنداً إلى سعيد بن جبير، قال: قيل
لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كيف اختلف الناس في إهلال النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -: سأخبركم عن ذلك، «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أهل في صلاته فشهده قوم فأخذوا بذلك، فلما استوت به راحلته أهل
فشهده قوم، فقالوا: أهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الساعة، وإنما كان إهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
مصلاه فشهده قوم فأخبروا بذلك» .
م: (وإن كان مفردا بالحج ينوي بتلبيته الحج؛ لأنه) ش: أي لأن الحج م:
(عبادة، والأعمال
(4/172)
والأعمال بالنيات، والتلبية أن يقول: لبيك
اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك، لا شريك
لك. وقوله " إن الحمد " والنعمة لك بكسر الألف لا بفتحها، ليكون ابتداء لا
بناء؛ إذ الفتحة صفة الأولى، وهو إجابة لدعاء الخليل صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْه، على ما هو المعروف في القصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالنيات) ش: هو لفظ الحديث في رواية م: (والتلبية أن يقول: لبيك اللهم
لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ش:
لبيك لبيك من المصادر التي يجب حذف فعلها لوقوعه مثنى، واختلفوا في معناه،
فقيل: مشتق من ألب الرجل إذا أقام في مكان، فمعنى لبيك: أقيم على عبادتك
إقامة بعد إقامة؛ لأن التثنية هناك للتكرير والتكثير، ويقال: معنى لبيك:
أنا أقيم على طاعتك، منصوب على المصدر من قولهم: لب بالمكان، وألب إذا أقام
به، ولزم، وكان حقه أن يقال: لباً لك، كقولك: حمدا لله.
ولكن ثني للتأكيد، أي لباً لك بعد إلباب، وقيل: مشتق من قولهم: امرأة لبة
أي محبة لزوجها فمعناه إخلاص لك من قولهم: لباب، أي خالص، ومنه لب الطعام،
وقال الحربي: الألباب القرب، وقيل: خضوعاً لك من قولهم أنا ملب بين يديك،
أي خاضع ذكر ذلك في " الإمام ".
م: (وقوله " إن الحمد " والنعمة لك بكسر الألف لا بفتحها، ليكون ابتداء) ش:
أي ليكون ابتداء الكلام غير متعلق بما قبله م: (لا بناء) ش: أي لا يكون
بناء على ما قبله، فيكون المعنى أثني عليك؛ لأن الحمد لك، ففيه معنى
التخصيص، بخلاف الكسرة لأن فيها معنى التعميم، فهذا أولى م: (إذ الفتحة) ش:
أي فتحة الألف م: (صفة الأولى) ش: أي كلمة الأولى، وهي قوله: لبيك، ولم يرد
به الصفة النحوية، بل أراد به الصفة الحقيقية، وهي القائم بالذات، معناه
التعليل معنى؛ لأن الحمد لك، وابتداء الثناء أولى.
وفي " شرح الإرشاد " م: (وهو) ش: أي الكسر اختيار جماعة من أهل اللغة
والفقه، وفي " المحيط ": لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كسرها، قلت: لا يعرف ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
م: (إجابة لدعاء الخليل - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -) ش: أي
ذكر التلبية، إجابة إبراهيم الخليل - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
م: (على ما هو المعروف في القصة) ش: أي في قصة إبراهيم - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما فرغ من بناء الكعبة أمر بأن يدعو الناس إلى
الحج، فصعد أبا قبيس، وقال: إن الله تعالى أمر ببناء البيت له، وقد بني ألا
فحجوا، فبلغ الله تعالى صوته الناس في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، فمنهم
من أجاب مرة، ومنهم من أجاب مرتين، وأكثروا على حسب جوابهم يحجون.
وبيان هذا في قَوْله تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:
27] الآية (الحج: الآية 27) ، فالتلبية إجابة الداعي بلا خلاف، ولكن الخلاف
في الداعي أشار المصنف إلى أن الداعي هو الخليل عليه
(4/173)
ولا ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات؛
لأنه هو المنقول باتفاق الرواة، فلا ينقص عنه، ولو زاد فيها جاز؛ خلافا
للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة والسلام، وقيل: الداعي هو الله تعالى، كما قال تعالى: {يَدْعُوكُمْ
لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10] (إبراهيم: الآية 10) ،
وقيل: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال: «إن سيدا
بنى دارا واتخذ فيها مأدبة، وبعث داعياً» وأراد بالداعي نفسه - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
م: (ولا ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات) ش: لبيك اللهم لبيك ... إلخ،
قوله: يخل بضم الياء - من الإخلال، وفاعله هو المحرم، ويجوز أن يكون على
صيغة المجهول أيضاً م: (لأنه هو المنقول) ش: أي ذكر التلبية على الهيئة
المذكورة هو المنقول م: (باتفاق الرواة) ش: فيه نظر إذ ليس ما ذكره منقولاً
باتفاق الروايات، فقد روي حديث التلبية عن عائشة، وعبد الله بن مسعود، وليس
فيه: والملك لا شريك لك، فحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه
البخاري في " صحيحه " عن أبي عطية عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
قالت: «إني لأعلم كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يلبي: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك لبيك» .
وحديث ابن مسعود أخرجه النسائي في " سننه " عن حماد بن زيد عن أبان بن ثعلب
عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن زيد عن عبد الله، قال: «كانت تلبية رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا
شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك» ، ولم يتعرض الشراح لهذا، وسكتوا عنه
غير أن الأترازي تبع المصنف على هذا، حيث قال في تفسير قوله: ولا ينبغي أن
يخل بشيء من هذه الكلمات أي لا ينقص من التلبية المذكورة المشهورة باتفاق
الرواة عليها. وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: «وكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - يهل بإهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من هؤلاء الكلمات ويقول: لبيك اللهم لبيك، وسعديك والخير في
يديك لبيك، ورغبتي إليك والعمل» . وروى إسحاق بن راهويه في " مسنده ":
أخبرنا وهب بن جرير بن حازم قال: سمعت أبي يحدث عن أبي إسحاق الهمداني عن
عبد الرحمن بن يزيد، قال: حججنا في إمارة عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - عن عبد الله بن مسعود، فذكر حديثاً فيه طول، وفي آخره وزاد ابن
مسعود في تلبيته فقال لبيك وعدد التراب، وما سمعته قبل ذلك ولا بعده، وروى
النسائي وابن ماجه عن الأعرج عن أبي هريرة، قال كان من تلبية النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبيك إله الحق لبيك.
م: (فلا ينقص عنه) ش: أي عن ذكر التلبية المذكورة، وفي الأسبيجابي إن زاد
عليها أو نقص أجزأه ولا يضره شيء م: (ولو زاد فيها) ش: أي في التلبية
المذكورة م: (جاز خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
(4/174)
في رواية الربيع - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه
هو اعتبره بالأذان والتشهد من حيث إنه ذكر منظوم. ولنا أن أجلاء الصحابة
كابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - زادوا على
المأثور؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في رواية الربيع عنه) ش: أي عن الشافعي في رواية الربيع، والربيع هو ابن
سليمان بن الخباز البصري مولاهم المصري المؤذن راوي كتب الأمهات عن الشافعي
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو أحد مشايخ أبي جعفر الطحاوي وأبي داود
والنسائي وابن ماجه، وذكره ابن حبان في " الثقات "، مات سنة سبعين ومائتين.
قال الطحاوي وكان مؤذن الجامع بفسطاط مصر، وآخر يقال له الربيع بن سليمان
الجيزي المصري الأعرج ممن روى عن الشافعي وروى عنه الطحاوي أيضاً، وثقه ابن
يونس وقال مات سنة ست وخمسين ومائتين، روى المزني عن الشافعي جواز الزيادة.
وفي " شرح الوجيز " لا تستحب الزيادة على تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل يكررها وبه قال أحمد، وقال أبو حامد ذكر أهل
العراق عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ذكر الزيادة على ذلك، وقال هو
غلط لا يكره ولا يستحب، بل يكررها واختاره ابن المنذر.
م: (هو) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (اعتبره بالأذان والتشهد)
ش: أي اعتبر ذلك التلبية بالأذان والتشهد في الصلاة، م: (من حيث إنه ذكر
منظوم) ش: يعني مرتب بألفاظ مخصوصة لا يجوز التغيير فيها كما لا يجوز في
الأذان والتشهد.
م: (ولنا أن أجلاء الصحابة) ش: أي أجلائهم وأكابرهم م: (كابن مسعود، وابن
عمر، وأبي هريرة) ش: وابن مسعود، وهو عبد الله وكذلك ابن عمر عبد الله، وفي
اسم أبي هريرة اختلاف كثير، والأكثر على أن اسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي
اليماني. وقال الهيثم بن عدي كان اسمه في الجاهلية عبد شمس. وقال أبو هريرة
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فسماني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عبد الرحمن، وإنما كنيت بأبي هريرة لأني وجدت هرة فحملتها في
كمي، فقيل لي أنت أبو هريرة، وقيل رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وفي كمه هرة، فقال يا أبا هريرة.
م: (زادوا على المأثور) ش: يعني في التلبية، أما زيادة ابن عمر ففي الحديث
الذي أخرجه الستة عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن
تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبيك اللهم لبيك»
.. إلخ كما هو المذكور المشهور، ثم قال وكان عبد الله بن عمر يزيد في تلبية
لبيك لبيك والخير بيديك والرغبة إليك والعمل، وأخرج مسلم أيضاً هذه الزيادة
من قول عمر أيضاً، وقد ذكرناه عن
(4/175)
ولأن المقصود الثناء، وإظهار العبودية فلا
يمنع من الزيادة عليه.
قال: وإذا لبى فقد أحرم، يعني إذا نوى؛ لأن العبادة لا تتأدى إلا بالنية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قريب، وعن ابن مسعود أنه لبى غداة جمع، فقال رجل ومن هذا الأعرابي، فقال
عبد الله لبيك عدد الحصى والتراب، فقيل له ابن مسعود فانساب الرجل في
الناس، رواه سعيد بن منصور، وذكره في " الأسرار " والمبسوط ".
وفي " جامع المحبوبي " أجهل الناس أم طال العهد لبيك عدد التراب، وأراد
بالعهد عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي رواية
لبيك حقاً حقاً تعبدا ورقا، لبيك عدد التراب، لبيك ذا المعارج، لبيك لبيك
إله الخلق، لبيك لبيك والرغبة إليك، من عبد آبق لبيك، وأما زيادة أبي هريرة
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على التلبية المشهورة فقد ذكرناها عن قريب.
م: (ولأن المقصود به الثناء، وإظهار العبودية فلا يمنع من الزيادة عليه) ش:
لأنه كلما زاد من ذلك كان أفضل، أما الأذان فلأنه للإعلام بدخول الوقت،
فإذا زاد على المشهور يعتقد أنه ذكر الثناء على الله لا للإعلام بدخول
الوقت، وأما التشهد فإنه يدعو في الثاني بما شاء، والزيادة على التشهد
الأول إخلال بنظم الصلاة.
فإن قلت: هل ورد أن الأنبياء كانوا يلبون إذا حجوا.
قلت: ذلك ذكر في " مناسك الطبري " عن الأزرقي بتلبية الأنبياء - عَلَيْهِمْ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مثنى، منهم يونس بن متى - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول لبيك فراج الكرب، وكان موسى - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لبيك أنا عبدك لديك، لبيك لبيك. وتلبية عيسى -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبيك أنا عبدك وابن أمتك.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا لبى فقد أحرم) ش:
يعني دخل في الإحرام م: (يعني إذا نوى) ش: لا يصير محرماً بمجرد التلبية
فلا بد من النية م: (لأن العبادة لا تتأدى إلا بالنية) ش: للحديث المشهور،
وقال الأترازي: والعجب من صاحب الهداية مع جلالة قدره تكلم في هذا الموضع
بلا تفكر، حيث فسر قول القدوري بقوله يعني إذا نوى - وطول كلامه فيه، ثم
قال: ولقد صدقوا في قولهم لكل جواد كبوة.
حاصل كلامه أن القدوري أشار إلى النية فيما تقدم بقوله - يعني إذا نوى، فإن
كان الفرد بالحج نوى بتلبية الحج وصوم بالنية، ومع التصريح كيف يجوز أن
يقال لم يذكر النية، وكيف يحتاج من له تمييز إلى تفسير ذلك بقوله يعني إذا
نوى.
قلت: سبحان الله هذا كلام لا طعم له؛ فإنه ما ارتكب شيئاً يوجب الإنكار
عليه، غاية ما في هذا الباب زيادة إيضاح وتنبيه إلى لزوم النية من كل بد،
وربما لا يطلع أحد على قوله فيما مضى واطلع على هذا الموضع وليس فيه
الإشارة إلى أن يتوهم أن النية ليست بشرط، فأراد ذلك
(4/176)
إلا أنه لم يذكرها لتقدم الإشارة إليها في
قوله: " اللهم إني أريد الحج ". ولا يصير شارعا في الإحرام بمجرد النية ما
لم يأت بالتلبية، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه عقد على
الأداء، فلا بد من ذكر كما في تحريمة الصلاة، ويصير شارعا بذكر يقصد به
التعظيم سوى التلبية فارسية كانت أو عربية، هذا هو المشهور عن أصحابنا -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المقصود بقوله - يعني إذا نوى - ولقد اغتر المصنف في ذكره بقوله - يعني إذا
نوى - بقوله لأن العبادة لا تتأدى إلا بالنية.
م: (إلا أنه) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لم يذكرها) ش: يعني
النية هنا م: (لتقدم الإشارة إليها في قوله: " اللهم إني أريد الحج) ش:
حاصل هذا أن الذي فعله القدوري من باب الاكتفاء والذي فعله المصنف من باب
الإيضاح والتأكيد ولا سيما هو في طبقة الشراح.
م: (ولا يصير شارعا في الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية) ش: بدون
النية وفي " المحيط " لو أراد الإحرام ينوي بنية الحج والعمرة، ويلبي. وفي
" الإيضاح " لا يصير داخلاً في الإحرام بمجرد النية حتى يضم إليها سوق
الهدي أو التلبية م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده
يصير محرماً بمجرد النية لبى أو لم يلب، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف في
رواية، وروى أبو عوانة البصري عنه أن قوله كمذهبنا، وهو اختيار ابن جبير أن
ابن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والزبير من أصحابه.
م: (لأنه) ش: أي لأن الحج م: (عقد على الأداء) ش: أي على عبادة تشتمل على
أركان مختلفة، وكلما كان كذلك م: (فلا بد من ذكر) ش: يقصد به التعظيم م:
(كما في تحريمة الصلاة) ش: حيث اشترط الذكر في الابتداء وهو التكبير م:
(ويصير شارعا بذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية فارسية كانت أو عربية) ش:
ويحتمل أن يكون الضمير فيما كانت راجعاً إلى التلبية.
حاصل الكلام أن كل ذكر فيه تعظيم يصح به الشروع سواء كانت تلبية أو غيرها،
عربيا أو فارسياً، وكذا إذا لبى بالفارسية.
م: (هذا هو المشهور عن أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: يعني أنه يصير
شارعاً بما يقصد به التعظيم. قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه "
هو المشهور عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رواه ابن أبي مالك وبشر
ومعلى، وروى الحسن بن زياد عنه أنه لا يكون محرماً إلا بالتلبية، وقال في "
التحفة ": لو ذكر التهليل أو التسبيح أو التحميد ونوى الإحرام يصير محرماً،
سواء كان يحسن التلبية أو لا، وكذلك إذا نوى، أي بلسان آخر سواء كان يحسن
العربية أو لا يحسنها، هذا جواب ظاهر الرواية.
وروى الحسن عن أبي يوسف إن كان لا يحسن التلبية جاز وإلا فلا، كما في
الصلاة. أما أبو حنيفة فإنه مر على أصله، وهو أن الذكر الموضوع في ابتداء
العبادة لا يختص عنده بعبارة
(4/177)
والفرق بينه وبين الصلاة على أصلهما أن باب
الحج أوسع من باب الصلاة، حتى يقام غير الذكر مقام الذكر، كتقليد البدن،
فكذا غير التلبية، وغير العربية.
قال: ويتقي ما نهى الله تعالى عنه من الرفث، والفسوق، والجدال، والأصل فيه
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
[البقرة: 197] (197 البقرة) ، فهذا نهي بصيغة النفي، والرفث الجماع، أو
الكلام الفاحش، أو ذكر الجماع بحضرة النساء، والفسوق: المعاصي، وهو في حال
الإحرام أشد حرمة. والجدال: أن يجادل رفيقه، وقيل: مجادلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعينها ولا يلقه، كتكبيرات الصلاة، وأما أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقد
فرق بين الإحرام والصلاة على ما هو المشهور منها، وهو أن غير الذكر يقوم
مقام الذكر، وهو التقليد، فكذلك غير العربية بخلاف الصلاة.
م: (والفرق بينه) ش: أي بين الإحرام م: (وبين الصلاة على أصلهما) ش: أي على
أصل أبي يوسف ومحمد م: (أن باب الحج أوسع من باب الصلاة) ش: ألا ترى أنه
يصير شارعاً بسوق الهدي م: (حتى يقام غير الذكر مقام الذكر، وكتقليد البدن)
ش: أو سوقهما م: (فكذا غير التلبية، وغير العربية) ش: أي فكذا غير التلبية
تقوم مقامها غير العربية، كذلك إذا كان بذكر يقصد به التعظيم، ويتقي أي
المحرم، أي يجتنب، وفي بعض النسخ
[محظورات الإحرام]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويتقي ما نهى الله تعالى عنه من الرفث،
والفسوق، والجدال، والأصل فيه) ش: أي في وجوب الاتقاء عن هذه الأشياء م:
(قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي
الْحَجِّ} [البقرة: 197] ش: (البقرة: الآية 197) قرأ ابن كثير وأبو عمرو -
فلا رفث ولا فسوق - بالرفع والتنوين، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر، وحمزة
والكسائي - فلا رفث ولا فسوق - بالفتح بدون التنوين، وكلهم اتفقوا على فتح
اللام في - ولا جدال - بدون تنوين م: (فهذا نهي بصيغة النفي) ش: وهذا أبلغ
في الترك، والمعنى فلا ترفثوا ولا تجادلوا.
م: (والرفث الجماع) ش: هكذا فسره ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - وعطاء ابن أبي رباح وعطاء بن السائب ومجاهد والحسن البصري
والزهري والنخعي وقتادة م: (أو الكلام الفاحش) ش: أي الرفث الكلام الفاحش،
هكذا فسره أبو عبيد م: (أو ذكر الجماع بحضرة النساء) ش: أي الرفث ذكر
الجماع بحضرتهن، وقيل مطلقاً.
م: (والفسوق: المعاصي) ش: وهو الخروج عن طاعة الله تعالى م: (وهو) ش: حرام
مطلقاً وهي م: (في حال الإحرام أشد حرمة) ش: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] (التوبة: الآية 36) .
م: (والجدال أن يجادل رفيقه) ش: وهي حالة الإحرام، أي يخاصم معه م: (وقيل:
مجادلة المشركين في تقديم وقت الحج وتأخيره) ش: وقال الزمخشري: إن قريشاً
كانت تخالف سائر العرب، فتقف بالمشعر الحرام، وسائر العرب يقفون بعرفة،
وكانوا يقدمون الحج سنة وهو
(4/178)
المشركين في تقديم وقت الحج وتأخيره، ولا
يقتل صيدا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ} [المائدة: 95] (95 المائدة) ، ولا يشير إليه ولا يدل عليه، لحديث
«أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أصاب حمار وحش وهو حلال، وأصحابه
محرمون، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صحح لأصحابه: "
هل أشرتم؟ هل دللتم؟ هل أعنتم؟ " فقالوا: لا، فقال: " إذا فكلوا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النسيء فرده الله إلى وقت واحد، والوقوف إلى عرفة فأخبر الله تعالى أنه قد
ارتفع الخلاف في الحج.
م: (ولا يقتل صيدا) ش: أي لا يقتل المحرم صيداً. قال الأترازي: أي لا يذبح
ولا يقتل لأن القتل يستعمل في الحرام غالباً. وذبح المحرم الصيد حرام.
قلت: لا يحتاج إلى هذا التفسير، لأن القتل حرام، فإن القتل أعم، وفي القرآن
أيضاً مذكور بلفظ القتل لا بلفظ الذبح، قوله: - صيدا - يراد به الصيود لا
المصدر، إذ لو أريد به المصدر وهو الاصطياد لما صح إسناد الفعل إليه،
والمراد صيد البر.
؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا
دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] (المائدة: الآية 96) والحرم جمع حرام يعني
محرمون، والصيد هو الحيوان المتوحش الممتنع في أصل الخلقة، وصيد البحر حلال
للمحرم، وهو ما كان تولده ومثواه في البحر. وصيد البر ما كان تولده ومثواه
في البر، أما الذي يكون في البحر ويتولد في البر فهو من صيد البر، والذي
يتولد في البحر ويكون في البر فهو من صيد البحر كالضفدع؛ لأن الأصل هو
التوالد، والكينونة عارض فتعين الأصل دون العارض.
م: (ولا يشير إليه) ش: أي إلى الصيد م: (ولا يدل عليه) ش: أي على الصيد،
الإشارة أن يشير إلى الصيد باليد، والدلالة أن يقول: إن في مكان كذا صيدا،
والإشارة تكون في الحضور والدلالة تكون في الغيبة م: (لحديث أبي قتادة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه أصاب حمار وحش وهو حلال، وأصحابه محرمون،
فقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لأصحابه: " هل أشرتم؟ هل
دللتم؟ هل أعنتم؟ " فقالوا: لا، فقال: " إذا فكلوا.» ش: هذا الحديث أخرجه
الأئمة الستة في كتبهم عن أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: " إذا
فكلوا ".
هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم «عن أبي قتادة أنهم كانوا في سفر
لهم، بعضهم محرم وبعضهم ليس بمحرم، قال: فرأيت حماراً وحشياً فركبت فرسي
وأخذت الرمح فاستعنتهم، فأبوا أن يعينوني، فاختلست سوطاً من بعضهم وشددت
على الحمار فأصبته، فأكلوا منه، فاستبقوا قال: فسألوا النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو
أشار:؟ " فقالوا لا، قال: " فكلوا ما بقي منها.» وفي لفظ مسلم والنسائي:
«هل أشرتم؟ هل أعنتم "، قالوا لا، قال: " فكلوا» ". واسم أبي
(4/179)
ولأنه إزالة الأمن عن الصيد؛ لأنه أمن
بتوحشه، وبعده عن الأعين.
قال: ولا يلبس قميصا ولا سراويل، ولا عمامة ولا قلنسوة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري، وجه التمسك به أنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علق الإباحة بعدم الإشارة والدلالة، فدل على أنها من
محظورات الإحرام، ولهذا لو أعطاه سكيناً ليذبحه به، وليس معه سكين أو أراه
موضع سكين وموضع السهم ليرميه به، كان ذلك داخلاً تحت الإعانة والإشارة
وقيل الإعانة والإشارة من المحرم محرمة، فإن علم المحرم مكانه وكذا أن لو
أعطاه سكيناً أو معه سكين، لإطلاق الحديث، قلنا: إذا كان عالماً بمكانه
فالموجود من الحلال لغو، فلا اعتبار به، وكذا السكين والسهم، وفي " المبسوط
" قال السروجي الأصح عندي أنه لا شيء على معير السكين من الضمان.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المذكور من الإشارة والدلالة والإعانة م: (إزالة
الأمن عن الصيد؛ لأنه أمن بتوحشه، وبعده عن الأعين) ش: لأن إزالة الأمن
ربما يتطرق بها إلى القتل، وفي " الذخيرة " لا ضمان على الدال سواء كان
محرماً أو حلالاً في صيد الحرم.
م: (قال) ش: أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن بالدلالة، وقال الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمن بالدلالة لأنه لا يلزم حفظه م: (ولا يلبس) ش:
أي المحرم م: (قميصاً) ش: ولو كان من جلد م: (ولا سراويل) ش: قيل إنه عجمي
نكرة مفرد غير منصرف، لأنه وافق بناؤه بناء ما لا ينصرف من العربي نحو
قناديل.
قلت: هذا قول سيبويه، وقيل: إنه جمع سروالة في التقدير، وليس فيه عجمة بل
هو عربي، وقيل بل هو جمع محقق. قال الشاعر:
عليه من العدم سروالة ... فليس يرق المستضعف
فعلى هذا لا كلام في منع الصرف، ولو لبس السراويل عند عدم الإزار لزمه دم،
إلا أن يشقها نصفين ويتزر بهما لتصير بمنزلة الإزار، ولا يشقها ولا شيء
عليه.
م: (ولا عمامة ولا قلنسوة) ش: قال صاحب المطالع القلنسوة معروفة إذا فتحت
القاف ضمت السين، وكان بالواو، وإن ضمت القاف كسرت السين، وكان بالباء، وهي
مشتقة من قلس الشيء إذا أعطاه، النون الزائدة، قاله ابن دريد: وقال ابن
الأنباري فيها تسع لغات بلا واو، قلينسه وقلنيسة وقلنسة كلها بالتصغير،
وقلنساه وقلساة، وقال في " دستور اللغة " القلسوة - هلاه - يعني بالفارسية
وبالعربية القبع، وطول الجوهري فيه الكلام.
حاصله أن جمعه قلانس وقلانيس وقلاسي، وأصله قلنسو، فحذف منه الواو لأنه ليس
في الأسماء اسم آخره حرف علة، وقبلها ضمة، يقال قلسه يقلس وقلس يقلس، أي
لبست
(4/180)
ولا قباء، ولا خفين إلا أن لا يجد نعلين
فيقطعهما أسفل من الكعبين، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى أن يلبس المحرم هذه الأشياء، وقال في آخره: «ولا خفين إلا
أن يجد نعلين فليقطعهما أسفل الكعبين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القلنسوة فيهما.
م: (ولا قباء) ش: أي ولا يلبس قباء، المراد به اللبس المعتاد، حتى قال أبو
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحرم لبس القباء على المحرم إلا إذا أدخل
يديه في كمه، وبه قال النووي وأبو ثور والحربي من الحنابلة، وعند الشافعية
والمالكية والحنابلة لا يتوقف تحريم لبسه على إدخال اليدين في كميه.
م: (ولا خفين) ش: أي ولا يلبس خفين م: (إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل
من الكعبين) ش: وقال عطاء وأحمد بن حنبل لا يقطعهما استدلالاً «بحديث ابن
عباس، قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب
بعرفات من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس
السراويل» ولم يذكر القطع.
ولنا حديث الكتاب وهو قوله م: (لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى أن يلبس المحرم هذه الأشياء، وقال في آخره: ولا خفين إلا
أن لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل من الكعبين) ش: أراد بهذه الأشياء القميص
والسراويل والعمامة والقلنسوة والخفين، والحديث أخرجه الأئمة الستة في
كتبهم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «قال رجل: يا رسول الله ما
تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام، قال: لا يلبس القميص ولا السراويلات
ولا العمائم ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أن يكون أحد ليس له نعلان فيلبس
الخفين، وليقطع أسفل الكعبين....» الحديث.
والعمل بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أولى من العمل بحديث
ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لأنه لم ينقل عنه صفة لبس الخفين،
ونقلها ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن من زاد حفظ ما لم يحفظه
الذي اختصر، والعجب من الأخصام أنهم يحملون المطلق على المقيد ولا سيما في
حادثة واحدة، وهذا لو أمن ذلك.
فإن قلت: زعمت الحنابلة أن حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
منسوخ بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لأنه بعرفات، وحديث ابن
عمر كان بالمدينة، وكذا ذكره الدارقطني أجيب بأن هذا جهل بأصول الفقه، لأن
المطلق والمقيد لا يتناسخان عندهم، مع أن حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - رواه أيوب والثوري وابن عيينة وحماد بن زيد وابن جريج وهشام
وشعبة كلهم من حديث عمرو بن دينار عن جابر بن زيد، ولم يقل أحد منهم بعرفات
غير شعبة وانفراد الواحد عن الثقات يوجب الضرر، فيما انفرد به عندهم.
(4/181)
والكعب هنا المفصل الذي في وسط القدم عند
معقد الشراك دون الناتئ فيما روى هشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
قال: ولا يغطي وجهه ولا رأسه وقال الشافعي: يجوز للرجل تغطية الوجه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة أن ذلك من رواية جعفر بن برقان
وقد وهم في موضعين، أحدهما أنه قال نافع ويقطع الخف أسفل من الكعبين،
والثاني أنه قال فيه فمن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل، وليس هذا في حديث
ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأخذ به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ
- وابن حنبل، وأنكره مالك في الموطأ، وقال أبو عبد الله لا سبيل انفراد
حديث السراويل عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
وهو رجل من أهل البصرة لا يعرف.
قلت: غلط أي غلط من يقدح في رواية الحفاظ الذين رفعوا القطع إلى رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن قلت: قال عطاء: في قطعهما فساد، والله لا يحب المفسدين.
قلت: قد ثبت الأمر من صاحب الشرع بقطعهما، وهو [....] على الشارع بحكمه،
ولأن حكم الفعل فساد، إنما يعرف من جهة الشرع، وقال: أمر به وهو لا يأمر
بالفساد، والأمر بقطعهما مع ما فيه من إتلاف المالية يدل على خلاف ما
قالوا، فالشافعي معنا في الخفين، ومع ابن حنبل في السراويل، ومالك وافقنا
فيهما، وإذا لبس الخفين من غير قطع تلزمه الفدية. وقال ابن بطال في " شرح
البخاري " والطبري في " مناسكه " أن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
تجب الفدية مع قطعهما.
قلت: هذا النقل عنه غير صحيح لا أصل له، ولا تجب الفدية به عندنا مع القطع،
وإن وجد النعلين فلبس الخفين مقطوعين فلا شيء عليه عندنا كالمدارس ونحوه،
وعند مالك وأحمد يفدى، وللشافعي قولان.
م: (والكعب هنا المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك) ش: إنما قال:
هنا يعني في باب الحج، احترازاً عن الكعب المذكور في باب الوضوء، فإن الكعب
هنا هو الذي نفاه بقوله - م: (دون الناتئ) ش: بالنون والتاء المثناة من فوق
النتوء وهو الارتفاع م: (فيما روى هشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش:
هشام بن عبد الله الراوي، فإنه روى عن محمد في الحج أن الكعب هو الناتئ،
قالوا: إن ذلك وهم من هشام في نقله عن محمد، لأن محمداً قال ذلك في مسألة
الوضوء، وقد مر الكلام فيه هناك.
م: (ولا يغطي رأسه ولا وجهه) ش: وبه قال مالك وأحمد في رواية، وفي بعض
النسخ ولا يغطي رأسه ولا وجهه، والأول أصوب على ما لا يخفى.
م: (وقال الشافعي: يجوز للرجل تغطية الوجه) ش: وبه قال مالك وأحمد في
(4/182)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إحرام
الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها» . ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «لا تخمروا وجهه، ولا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا»
قاله في محرم توفي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشهور عنه م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (إحرام الرجل في رأسه
وإحرام المرأة في وجهها) ش: هذا الحديث رواه الدارقطني في " سننه " عن هشام
بن حسان عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن نافع عن ابن
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في
وجهها قال هذه قسمة تقطع الشركة. م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا تخمروا وجهه، ولا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا»
قاله في محرم توفي) ش: هذا الحديث رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «رجلاً أوقصته راحلته
فمات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " غسلوه بماء
وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث
يوم القيامة ملبياً» ورواه الباقون ولم يذكروا فيها وجهاً.
فإن قلت: قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري ذكر الوجه في هذا الحديث
تصحيفاً من الرواة لإجماع الثقات الأثبات من أصحاب عمرو بن دينار ولا تغطوا
رأسه، وهو المحفوظ.
قلت: المرجوع في ذلك إلى مسلم لا إلى الحاكم، فإنه كثير الأوهام، وأيضا في
التصحيف إنما يكون في الحروف المتشابهة، وأي مشابهة بين الرأس والوجه في
الحروف، ومثل هذا بعيد عن التصحيف.
فإن قلت: كيف يستدل أصحابنا بمثل هذا الحديث في مذهبنا على خلاف حكم هذا
الحديث في محرم يموت حيث يصنع به ما يصنع بالحلال من تغطية رأسه ووجهه
باللبس عندنا، خلافاً للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو يتمثل هناك
بمثل هذا الحديث.
قلت: أجيب بأن الحديث فيه دلالة على أن للإحرام تأثيراً في ترك تغطية الرأس
والوجه، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل ترك التغطية بأنه
يبعث ملبيا، أي محرماً.
ثم الحجة لنا في تغطية رأس المحرم ووجهه إذا مات ما روي عن عطاء أن «النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن محرم مات فقال خمروا رأسه
ووجهه ولا تشبهوه باليهود» . وحديث الأعرابي الذي أوقصته راحلته تأويله أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرف بطريق الوحي خصوصية ببقاء
إحرامه بعد موته، وقد كان
(4/183)
ولأن المرأة لا تغطي وجهها مع أن في الكشف
فتنة، فالرجل بطريق الأولى. وفائدة ما روي الفرق في تغطية الرأس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخص بعض أصحابه بأشياء.
قلت: الشراح ذكروا هذا هكذا، وقالوا: عن عطاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى آخره، فهذا يدل بظاهره أنه مرسل، وليس كذلك، فإنه
متصل أخرجه الدارقطني عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي، حدثنا حفص بن غياث عن
ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمروا وجوه موتاكم ولا
تشبهوا باليهود» .
والعجب من الأترازي أنه ذكر هنا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جواز
تغطية الوجه ما رواه البخاري عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن
رجلاً كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقصته راحلته
... الحديث، وهو الحديث الذي ذكرناه عن مسلم في الاستدلال الذي استدل به
المصنف، فذكره الأترازي لاستدلال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وذكر لنا حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المحرمة لا تنتقب ولا تلبس
القفازين» .
قلت: هذا رواه أبو داود عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال الأترازي: فإذا لم
يجز للمرأة تغطية وجهها، مع أن كشف وجهها موجب للفتنة فأولى أن لا يجوز
للرجل تغطية الوجه، لأن الإحرام في الرجل آكد منه في المرأة انتهى. ولقد
أنصف في هذا حيث قال في حيث ذكرت حديث البخاري للشافعي، وليس فيه ذكر
الوجه، ولا يذكر الوجه إلا في رواية مسلم، كما ذكرنا، وترك الحديث الذي
ذكره المصنف لاستدلال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في خلافه في وجه الرجل
م: (ولأن المرأة لا تغطي وجهها مع أن في الكشف فتنة، فالرجل بالطريق
الأولى) ش: يعني أن لا يغطي وجهه م: (وفائدة ما روي الفرق في تغطية الرأس)
ش: أي وفائدة ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهي قوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في
وجهها» الفرق في تغطية الرأس، يعني يجوز للمرأة أن تغطي وجهها، ولا يجوز
للرجل أن يغطي وجهه في الإحرام.
قلت: ذكر في " روضة الشافعية " يغطي أذنيه ولحيته ما دون ذقنه ولا يمسك
أنفه بثوب. ولا
(4/184)
قال: ولا يمس طيبا؛ لقوله - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الحاج الشعث التفل» ، وكذا لا يدهن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بأس في إمساكه بيده ولا يغطي فمه ولا العارضين. وقال أحمد: يغطي وجهه ولا
يغطي أذنيه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الأذنان من
الرأس» ، وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولو غطى بطيب أو طائبة أو
حائبة أو خشب أو حجر أو زجاج أثلل، وهو العفة أو عدل أو جوانق حنطة فلا شيء
عليه وبغيره بأجر أو بغير أجر فعليه الفداء.
وفي " شرح المهذب " للنووي لو وضع على رأسه زنبيلاً أو حملاً يجوز في أصح
الطريقين وعن عطاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا بأس بالمكيل على رأسه،
ويكره أن يمكن وجهه على مخدة بخلاف خديه، وله أن يضع يديه على رأسه، وكذا
يد غيره وينغمس في الماء، ولو غطى رأسه بالطين فشده بالحناء فعليه الفدية،
وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - الحناء ليس بطيب، وفي " المجانسة "
تسدل على وجهها ثوباً أن أرادت ولا من طيب.
وفي أكثر النسخ م: (قال: ولا يمس طيبا) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: والطيب ما رائحته طيبة. وفي " الحلية " الطيب ما يتطيب به، يتخذ
منه الطيب كالمسك والزعفران والعنبر والصندل والورد والياسمين والكافور.
وفي الريحان الفارسي قولان، وكذا المرزجوش النيلوفر والنرجس عند بعض
أصحابنا، وفي تتمتهم التفاح على المحرم شيء من الرياحين. وفي " المحيط " ما
له رائحة مستلذة كالزعفران والبنفسج ونحوهما والحناء طيب خلافاً للشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - والوسمة ليست بطيب، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
هي الحناء والخطمي طيب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، خلافاً لهما،
وقيل الخلاف في خطمي العراق.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «الحاج الشعث التفل» ش: هذا الحديث
أخرجه الترمذي وابن ماجه عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر عن
ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قام رجل فقال يا رسول الله من
الحاج؟ فقال الشعث التفل» ". الشعث بفتح الشين المعجمة وكسر العين المهملة،
وبالثاء المثلثة، وهو مغبر الرأس، وأصله من الشعث، وهو إنشاء الغبر وتغبره
لقلة العهد، ومنه يقال رجل أشعث وامرأة شعثاء. والتفل بفتح التاء المثناة
وكسر الفاء تارك الطيب، وأصله من التفل، وهو الريح الكريهة.
م: (وكذا لا يدهن) ش: أي كما لا يمس طيباً لا يدهن أيضاً، وبه قال مالك -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وابن حبيب.
وفي " شرح المهذب " الزيت والشيرج والسمن ونحوهما من الأدهان لا يحرم
استعمالها على المحرم في بدنه إذا لم تكن مطيبة، وتحرم في الرأس، والمطيب
منه يمنع في جميع البدن، واستدلوا على الإباحة بحديث فرقد السبخي
(4/185)
لما روينا.
ولا يحلق رأسه، ولا شعر بدنه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا
رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196] (196 البقرة) الآية. ولا يقص من لحيته؛ لأنه في
معنى الحلق؛ ولأن فيه إزالة الشعث، وقضاء التفث،
قال: ولا يلبس ثوبا مصبوغا بورس، ولا زعفران، ولا عصفر؛ لقوله - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يلبس المحرم ثوبا مسه زعفران، ولا ورس إلا
أن يكون غسيلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزاهد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم»
رواه البيهقي، قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو ضعيف، وقال: فرقد ليس
بشيء، وقال ابن حبان كانت فيه غفلة، وزاده خطأ، وكان يرفع المسند ويسند
الموقوف من حيث لا يفهم، فبطل الاحتجاج به، وضعفه يحيى بن معين قوله: غير
مقتت أي غير مطيب.
م: (لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحاج
الشعث التفل»
م: (ولا يحلق رأسه، ولا شعر بدنه) ش: مثل شعر إبطه وعانته، وكذا حلق لحيته
وأخذ شاربه م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ}
[البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) فيدل بعبارته على النهي لحلق الرأس
وبدلالة النهي عن حلق شعر البدن، لأن شعر الرأس استحق الأمن عن الإزالة
لكونه نامياً يحصل الارتفاق بإزالته، وهذا المعنى في شعر البدن فتلحق به
دلالته.
م: (ولا يقص من لحيته؛ لأن في معنى الحلق) ش: من حيث الارتفاق به م: (ولأن
فيه) ش: أي في القص من اللحية م: (إزالة الشعث) ش: قد مر تفسيره عن قريب م:
(وقضاء التفث) ش: بفتح التاء المثناة من فوق، والفاء وبالمثلثة، وقال
المطرزي: هو الوسخ، والمراد قضاء إزالة التفث وقيل هو فسخ الإحرام وقضاؤه
بحلق الرأس والاغتسال، وقال الكاكي: قضاء التفث إزالة بقص الشارب، وقلم
الأظافر، ونتف الإبط والاستحداد، وبقولنا قال الشافعي وأحمد ومالك في
رواية، وقال أصحاب الظاهر، لا يجب شيء في غير شعر الرأس وبه قال مالك في
رواية.
م: (قال: ولا يلبس ثوبا مصبوغا بورس) ش: الورس بفتح الواو وسكون الراء
وبالسين المهملة وهو نبت طيب الرائحة، وفي " القاموس ": شيء أحمر، فإنه
يشبه نحو الزعفران مجلوب من اليمن، وفي " الصحاح ": الورس نبت أصفر يكون
باليمن، وفي " الديوان " صبغ أصفر م: (ولا زعفران) ش: أي ولا ثوباً مصبوغاً
بزعفران م: (ولا عصفر) ش: أي ولا ثوباً مصبوغاً بعصفر. قال الجوهري: العصفر
صبغ ولم يزد عليه.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا يلبس المحرم ثوبا مسه زعفران،
ولا ورس إلا أن يكون غسيلاً» ش: هذا الحديث رواه الحافظ أبو جعفر الطحاوي،
قال: حدثنا ابن أبي عمران،
(4/186)
لا ينفض» ؛ لأن المنع للطيب لا للون. وقال
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بلبس المعصفر؛ لأنه لون لا طيب له،
ولنا أن له رائحة طيبة.
قال: ولا بأس بأن يغتسل، ويدخل الحمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، حدثنا أبو معاوية عن عبد الله عن نافع عن
ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا
تلبسوا ثوباً مسه ورس أو زعفران إلا أن يكون غسيلاً» ، يعني في الإحرام،
قوله: - إلا أن يكون غسيلاً - وقع في حديث ابن عمر في رواية الطحاوي م: (لا
ينفض) ش: أي لا يوجد منه رائحة العصفر والزعفران، كذا في " فتاوى قاضي خان
"، وعن محمد، أي أن لا يتعدى أثر الصبغ إلى غيره أي لا يخرج منه رائحة طيبة
إلى غيره، وقيل النفض التناثر، وهذا لا يصح لأن العبرة للطيب لا للتناثر.
م: (لأن المنع للطيب لا للون) ش: أشار بهذا التعليل إلى أن معنى قوله - لا
ينفض - لا يخرج منه رائحة طيبة، لأن المنع لكونه طيباً، أي لأجل كونه
طيباً، اعترض على القدوري بسبب قوله: - إلا أن يكون غسيلاً لا ينفض - حيث
ذكر على البناء للفاعل، لأنه يقال نفضت الثوب أنفضه نفضاً، إذا حركته ليسقط
ما عليه، والثوب منفوض فليس بنافض، هذا خطأ، وإنما هو ينفض على صيغة
المجهول.
قلت: هذا اعتراض ساقط لا وجه له، لأن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما
قال: لا ينفض ضبط على بناء الفاعل حتى يتوجه إليه الاعتراض واللفظ يحتمل
الوجهين، ولئن سلمنا أنه نقل عنه على بناء المجهول، فله وجه بطريق الإسناد
المجازي، وهذا باب واسع.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بلبس المعصفر؛ لأنه لون لا
طيب له) ش: عرفاً، ولهذا لا يباع في سوق القطر، وبه قال أحمد.
م: (ولنا أن له رائحة طيبة) ش: فيكون ممنوعا منها كالورس والزعفران، وصحح
في " الموطأ " إنكار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على طلحة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - في لبس المعصفر حالة الإحرام.
[ما يباح للمحرم]
م: (وقال: ولا بأس بأن يغتسل) ش: لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- اغتسل م: (وهو محرم) ش: رواه مسلم، ولأن ابن عمر رخص فيه، وحكى أبو أيوب
الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «اغتسال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم» متفق عليه، وأجمع أهل العلم أن المحرم
يغتسل من الجنابة، ورخص جابر وابن عمر وسعيد بن جبير والشافعي وأحمد وأبو
ثور، وكره مالك أن يغيب رأسه في الماء لتوهم التغطية، فإن فعل أطعم م:
(ويدخل الحمام) ش: لأنه يصب الماء عليه، وروى الشافعي والبيهقي بإسنادهما
عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه دخل حماماً بالجحفة وهو
محرم، وقال مالك
(4/187)
لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اغتسل
وهو محرم، ولا بأس بأن يستظل بالبيت والمحمل. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ
-: يكره أن يستظل بالفسطاط، وما أشبه ذلك، لأنه يشبه تغطية الرأس. ولنا أن
عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يضرب له فسطاط في إحرامه؛ ولأنه لا
يمس بدنه فأشبه البيت. ولو دخل تحت أستار الكعبة حتى غطته إن كان لا يصيب
رأسه ولا وجهه فلا بأس به؛ لأنه استظلال،
ولا بأس بأن يشد وسطه بالهميان. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره إذا
كان فيه نفقة غيره؛ لأنه لا ضرورة. ولنا أنه ليس في معنى لبس المخيط فاستوت
فيه الحالتان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو دخل الحمام وتدلك افتدى.
م: (لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اغتسل وهو محرم) ش: رواه مالك في "
الموطأ " مطولاً م: (ولا بأس بأن يستظل بالبيت والمحمل) ش: بفتح الميم
الأولى وكسر الثانية، وفي " المغرب " بالعكس أيضاً وهو الهودج الكبير، وعن
مالك وأحمد لو استظل بالمحمل راكباً افتدى، ولو استظل نازلاً لا شيء عليه.
م: (وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يكره أن يستظل بالفسطاط) ش: وهو
الخيمة الكبيرة، وبه قال أحمد، حتى لو فعل تجب الفدية في إحدى الروايتين عن
أحمد م: (وما أشبه ذلك) ش: نحو أن يرفع ثوباً على عود أو يقيم ثلاثة أعواد
مربوطة رأسها ويضع عليها ثوبا ونحو ذلك م: (لأنه يشبه تغطية الرأس) ش: وإن
لم يمس رأسه فيكره.
م: (ولنا أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يضرب له فسطاط في إحرامه)
ش: روى ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا وكيع حدثنا الصلت عن قتيبة بن
طهمان، قال: رأيت عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالأبطح في فسطاط مضروب
وسيفه معلق بالشجرة، ذكره في باب المحرم يحمل السلاح م: (ولأنه) ش: أي ولأن
الفسطاط م: (لا يمس بدنه فأشبه البيت) ش: فلا يكره، لأن الاستظلال في البيت
بالسقف.
م: (ولو دخل تحت أستار الكعبة حتى غطته إن كان لا يصيب رأسه ولا وجهه فلا
بأس به؛ لأنه استظلال) ش: فيكون الاستظلال بالثوب، وفي " المغني " يكره
ذلك.
م: (ولا بأس بأن يشد وسطه بالهميان) ش: وهو ما يوضع فيه الدراهم والدنانير
م: (وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يكره إذا كان فيه نفقة غيره؛
لأنه لا ضرورة) ش: له في ذلك وإن كان فيه نفقته فلا بأس به.
م: (ولنا أنه) ش: أي شد الهميان في وسطه م: (ليس في معنى لبس المخيط فاستوت
به الحالتان) ش: يعني نفقته ونفقة غيره، وقال ابن المنذر، ورخص في الهميان
والمنطقة للمحرم ابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس ومجاهد والقاسم
والنخعي والشافعي وأحمد
(4/188)
ولا يغسل رأسه، ولا لحيته بالخطمي لأنه نوع
طيب، ولأنه يقتل هوام الرأس.
قال: ويكثر من التلبية عقيب الصلوات وكلما علا شرفا، أو هبط واديا، أو لقي
ركبانا وبالأسحار لأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كانوا يلبون في هذه الأحوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإسحاق وأبو ثور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، غير أن إسحاق
قال ليس له أن يعقد بل يدخل بسور بعضها في بعض. وقالت عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - في المنطقة للمحرم أو سويق عليك نفسك، ذكره محب الدين
الطبري.
م: (ولا يغسل رأسه، ولا لحيته بالخطمي) ش: بكسر الخاء. وفي " المحيط "،
وكذا جسده، وبه قال مالك، وفي " شرح الوجيز " في الجديد لا يكره بالخطمي
قال: والسدر، وفي القديم يكره، ولكن لا فدية عليه، وبه قال أحمد م: (لأنه)
ش: أي لأن الغسل بالخطمي م: (نوع طيب) ش: هذا في خطمي العراق، لأن له رائحة
طيبة م: (ولأنه يقتل هوام الرأس) ش: بتشديد الميم، جمع هامة، وأريد بها
القمل ها هنا، ثم إذا غسل رأسه ولحيته بالخطمي يجب عليه الدم عند أبي حنيفة
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال تجب عليه الصدقة، وعن أبي يوسف روايتان
أخريان أحدهما: أنه لا شيء عليه جملة بمنزلة الأشنان، والثانية: يجب عليه
دمان، دم لأنه طيب ودم لأنه يقتل هوام الرأس، وأجمعوا لو غسله بالحرض أو
بالصابون أو بالماء القراح لا شيء عليه.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويكثر من التلبية عقيب
الصلاة) ش: وفي بعض النسخ الصلوات، وفي " المحيط " عقيب المكتوبات دون
الفائتات، وهو الأفضل في ظاهر الرواية، وعليه الإجماع إلا عند مالك وأحمد
قال: لا يلبي عند اصطدام الرفاق م: (وكلما علا شرفا) ش: أي صعد مكاناً
مرتفعاً م: (أو هبط واديا، أو لقي ركبانا) ش: بفتح الراء وسكون الكاف، وهم
أصحاب الإبل في السفر م: (وبالأسحار) ش: عطف على قوله - عقيب الصلاة - أي
يكثر من التلبية، أي أيضاً بالأسحار جمع سحر.
م: (لأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا
يلبون في هذه الأحوال) ش: هذا غريب، وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا
أبو خالد الأحمر عن ابن جريج عن ساباط قال: كان السلف يستحبون التلبية في
أربعة مواضع: في دبر الصلاة، وإذا هبطوا وادياً أو علوه وعند التقاء
الرفاق.
وعن أبي معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال كانوا يستحبون التلبية عند دبر
الصلاة، وإذا استقبلت بالرجل راحلته وإذا صعد شرفاً أو هبط وادياً وإذا لقي
بعضهم بعضاً.
وفي " الإمام «كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي إذا لقي
راكباً، أو صعد، أو هبط واديا، وفي أدبار المكتوبة، وفي آخر الليل» . وقال
النخعي كان السلف يستحبون التلبية في هذه الأحوال وهو قول الشافعي
(4/189)
والتلبية في الإحرام على مثال التكبير في
الصلاة، فيؤتى بها عند الانتقال من حال إلى حال. ويرفع صوته بالتلبية؛
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أفضل الحج العج والثج»
فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج إسالة الدم.
قال: فإذا دخل مكة ابتدأ بالمسجد لما روي «أن النبي عليه الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد، وقال مالك وابن حنبل - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -: لا يلبي عند اصطدام الرفاق.
م: (والتلبية في الإحرام على مثال التكبير في الصلاة) ش: أولها شرط وآخرها
سنة م: (فيؤتى بها عند الانتقال من حال إلى حال ويرفع صوته بالتلبية؛ لقوله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «أفضل الحج العج والثج» ش: هذا الحديث رواه جماعة
من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، منهم ابن عمر، وروى حديثه الترمذي
وابن ماجه عن إبراهيم بن يزيد الخوزي قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث
عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قام رجل إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله من الحاج؟ فقال
الشعث التفل، فقام آخر فقال، أي الحج أفضل؟ فقال العج والثج» وقد مر الكلام
فيه عند قول المصنف: «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
سئل عن السبيل إلى الحج، فقال: " الزاد والراحلة.»
م: (والعج: رفع الصوت بالتلبية) ش: قال الجوهري: العج رفع الصوت، وقد عج
يعج عجيجاً وعجج إذا صوت، ومضاعفته دليل على التكرير، م: (والثج: إراقة
الدم) ش: من ثجت الماء والدم ثجه ثجاً إذا أسلمته، وأتانا الوادي بثجيجه أي
بسبيله، ومطر ثجاج إذا انصب جداً، والثج سيلان دم الهدي، وقال مالك -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يرفع صوته في مساجد الجماعات، لأنها لم تبن
لها إلا في المسجد الحرام ومسجد منى وخالف الجماعة، وقد لبى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجد ذي الحليفة في دبر صلاته.
[آداب دخول مكة]
م: (قال: فإذا دخل مكة ابتدأ بالمسجد) ش: أي إذا دخل المحرم مكة ابتدأ
بالمسجد الحرام، يعني لا يشتغل بعمل آخر قبل أن يدخل المسجد الحرام، لأن
المقصود زيارة البيت، أي الكعبة في المسجد م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل مكة دخل المسجد الحرام) ش: الحديث أخرجه
البخاري ومسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول شيء بدأ به حين دخل مكة توضأ ثم طاف
بالبيت، ويستحب أن يدخله من باب بني شيبة بالإجماع.
(4/190)
والسلام لما دخل مكة دخل المسجد الحرام»
ولأن المقصود زيارة البيت وهو فيه، ولا يضره ليلا دخلها أو نهارا؛ لأنه
دخول بلدة فلا يختص بأحدهما. وإذا عاين البيت كبر وهلل، وكان ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: إذا لقي البيت باسم الله، والله أكبر.
ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يعين في الأصل لمشاهد الحج من الدعوات؛ لأن
التوقيت يذهب بالرقة، وإن تبرك بالمنقول منها فحسن.
قال: ثم ابتدأ بالحجر الأسود فاستقبله، وكبر وهلل؛ لما روي «أن النبي عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن المقصود زيارة البيت وهو فيه) ش: أي البيت في المسجد م: (ولا يضره
ليلاً دخلها أو نهاراً) ش: أي ولا يضر الحاج دخل مكة في الليل أو في النهار
م: (لأنه دخول بلدة فلا يختص بأحدهما) ش: أي بأحد الليل والنهار، وفي "
مبسوط شيخ الإسلام " قال بعض الناس دخولها بالنهار أفضل، لما روي أن
الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يكرهون دخولها ليلاً. قلنا
كانوا يكرهون ذلك مخافة السرقة.
م: (وإذا عاين البيت كبر وهلل) ش: أي قال الله أكبر، أي أجل من هذه الكعبة
المعظمة وهلل، أي قال لا إله إلا الله، ومعناه التبري عن توهم عبادة البيت،
وقد قيل إن الدعاء مستجاب عند رؤية البيت فلا يغفل م: (وكان ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول إذا لقي البيت: بسم الله والله أكبر) ش:
هذا غريب، والذي رواه البيهقي عنه أنه كان يقول ذلك عند استلام الحجر
الأسود.
م: (ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يعين في الأصل) ش: أي في " المبسوط " م:
(لمشاهد الحج شيئاً) ش: بفتح الميم. أي لأماكن الحج، وهو جمع مشهد م: (من
الدعوات، لأن التوقيت يذهب بالرقة) ش: لأنه يصير بمنزلة من يكون على محفوظة
م: (وإن تبرك بالمنقول منها) ش: أي من الدعوات م: (فحسن) ش: منها أن يقول:
اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام، ذكره هشيم عن يحيى بن
سعيد عن محمد بن سعيد بن المسيب عن أبيه أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
كان إذا نظر إلى البيت قال ذلك. وروى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخبرنا
سعيد بن سالم عن ابن جريج أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان إذا نظر البيت رفع بصره وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيما
وتكريماً ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتعظيماً
وتكريماً» .
قلت: هذا مفضل، وعن عطاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا لقي البيت قال: أعوذ برب البيت من
الدين والفقر وضيق الصدر وعذاب القبر» . قلت: هذا أيضاً مفضل.
[طواف القدوم]
[حكم طواف القدوم]
م: (قال: ثم ابتدأ بالحجر الأسود فاستقبله وكبر وهلل لما روي أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المسجد فابتدأ
(4/191)
الصلاة والسلام دخل المسجد فابتدأ بالحجر
فاستقبله وكبر، وهلل؛» قال: ويرفع يديه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن " وذكر من جملتها استلام
الحجر» . قال: واستلمه وقبله إن استطاع من غير أن يؤذي مسلما؛ لما روي «أن
النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قبل الحجر الأسود، ووضع شفتيه
عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالحجر فاستقبله وكبر وهلل) ش: الحجر الأسود في الركن الذي يلي باب البيت
من جانب الشر، ويسمى الركن الأسود والركن العراقي عند من يسمي الذي يليه في
طواف الركن الشامي والذي بعده الركن العراقي، وارتفاعه من الأرض ثلاثة أذرع
إلا سبع أصابع، ويقف بحياله ويستقبله بوجهه، وقوله - كبر - أي قال الله
أكبر وهلل، أي قال لا إله إلا الله.
م: (قال: ويرفع يديه) ش: كما يرفع عند افتتاح الصلاة، كذا في المجتبى. وفي
التحفة يرفعهما كما في الصلاة ثم يرسلهما ثم يسلم. وفي " البدائع " و "
الينابيع " و " الأسبيجابي " يرفع يديه، كما في الصلاة لكن حذو منكبية وهو
الصحيح، وفي " الكرماني " حذو أذنيه م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م:
«لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن» وذكر من جملتها استلام الحجر) ش: قد مر
الكلام فيه مستقصى في صفة الصلاة، وليس فيه استلام الحجر.
وذكر في " شرح الآثار " مسنداً إلى إبراهيم النخعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- قال: ترفع الأيدي في سبعة مواضع في افتتاح الصلاة وفي التكبير للقنوت في
الوتر، وفي العيدين وعند استلام الحجر على الصفا والمروة وبجمع وعرفات وعند
المقامين وعند الجمرتين. وفي " المجتبى " في كتاب الخصال ترفع الأيدي في
سبعة مواطن أربعة منها افتتاح الصلاة والقنوت وتكبيرات العيدين واستفتاح
الطواف والخمس الباقيات عند الصفا والمروة وعند الجمرتين والموقفين.
م: (قال: واستلمه) ش: أي الحجر واستلامه تناوله باليدين أو القبلة أو مسحه
بالكف من السلمة بفتح السين وكسر اللام، وهي الحجر والاستلام طلبه، وعند
الفقهاء الاستلام أن يضع كفيه على الحجر ويقبله بفمه. وقال الأزهري: استلام
الحجر من السلام وهو التحية، ولذلك أهل اليمن يسمون الركن الأسود المجتبى،
ومعناه أن الناس يجتبونه افتعال من السلام. وقال في " المغني " هو افتعال
من السلام بكسر السين، وهي الحجارة، تقول استلمت الحجر إذا لمسته بفم أو
يد. وقال ابن الأعرابي: هو مهموز، تركت همزته مأخوذ من المسالمة وهي
الموافقة.
م: (وقبله إن استطاع من غير أن يؤذي مسلما، لما روي أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الحجر الأسود ووضع شفتيه عليه) ش: هذا
الحديث رواه بهذا اللفظ ابن ماجه في " سننه " عن محمد بن عون عن نافع
(4/192)
وقال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "
إنك رجل أيد تؤذي الضعيف، فلا تزاحم الناس على الحجر، ولكن إن وجدت فرضة
فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل، وكبر.» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «استقبل النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً ثم
التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكي، فقال: " يا عمر ها هنا تسكب العبرات»
ورواه الحاكم في " مستدركه " وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ولم
يتعقبه الذهبي في " مختصره "، ولكنه في " ميزانه " علله بمحمد بن عون، ونقل
عن البخاري أنه قال: هو منكر الحديث.
وقال ابن حبان في كتاب " الضعفاء ": هو قليل الرواية فلا يحتج به إلا إذا
وافق الثقات وقال في " الإمام ": ومحمد بن عون، هذا هو الخراساني، قال ابن
سفيان: هو ليس بشيء، وقال النسائي والأزدي: متروك الحديث.
قلت: الحديث رواه الأئمة الخمسة، وليس فيه ذكر الشفتين أخرجه عن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه جاء إلى الحجر فقبله وقال: إني أعلم
أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبلك ما قبلتك.» وأخرج البخاري عن ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه سئل عن استلام الحجر، فقال رأيته - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلمه ويقبله» وتقبيل الحجر مجمع عليه، وعن
ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سجد على الحجر» رواه الدارقطني. وعن ابن عباس أنه قبل الركن
وسجد عليه ثلاث مرات وعن الشافعي «وقبله عمر وسجد عليه، ثم قال: رأيت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل هكذا» أخرجه البيهقي، وكره
مالك وحده السجود على الحجر، وقال: إنه بدعة. وقال: جمهور أهل العلم على
استحبابه ويجمع بين التقبيل والاستلام والسجود إن أمكن وإلا يقبل ويستلم أو
استلم إن تعذر التقبيل عليه أو يمس الحجر شيئا من محجن أو عصى على ما يأتي
الآن.
م: (وقال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
م: (إنك رجل أيد تؤذي الضعيف فلا تزاحم الناس على الحجر، ولكن إن وجدت
فرضة) ش: ويروى فرجة. أي انفراجاً، أي انكشافاً م: (فاستلمه وإلا فاستقبله
وهلل وكبر) ش: هذا الحديث رواه أحمد والشافعي وإسحاق بن راهوية وأبو يعلى
الموصلي كلهم عن سفيان عن أبي يعقوب العبدي واسمه وقدان، قال: سمعت إمارة
الحجاج يحدث «عن عمر بن الخطاب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال له: " إنك رجل قوي لا تزاحم الناس على الحجر فتؤذي الضعيف،
إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وكبر وهلل.»
(4/193)
ولأن الاستلام سنة والتحرز عن أذى المسلم
واجب. قال: وإن أمكنه أن يمس الحجر بشيء في يده كالعرجون، وغيره ثم قبل ذلك
فعل لما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طاف على راحلته،
واستلم الأركان بمحجنه» وإن لم يستطع شيئا من ذلك استقبله، وكبر وهلل، وحمد
الله، وصلى على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، قال: ثم أخذ
عن يمينه مما يلي الباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الدارقطني: ذكروا أن هذا الشيخ هو عبد الرحمن بن نافع بن عبد الحارث
قوله - أيد - بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة وبالدال المهملة، أي قوي
وهو صفة مشبهة من الأيد، وهو القوة.
م: (ولأن الاستلام سنة، والتحرز عن أذى المسلم واجب) ش: أي ولأن استلام
الحجر سنة، حاصل المعنى لا يأتي بالسنة على وجه يخل بالواجب.
م: (قال: وإن أمكنه أن يمس الحجر بشيء في يده كالعرجون) ش: أي وإن أمكن
الطائف إمساس الحجر بشيء كان في يده كالعرجون، بضم العين المهملة، وهو
العذق الذي يرجع ويقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابساً. وقال الزجاج:
هو فعلون من الانعراج أي الانعطاف، والعذق [ ... ] عنقود النخل م: (وغيره)
ش: مثل المحجن بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم وبالنون، وهو عود
معوج الرأس كالصولجان.
م: (ثم قبل ذلك) ش: إلى الشيء الذي في يده نحو العرجون م: (فعل) ش: جواب
الشرط م: (لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (طاف على راحلته واستلم
الأركان بمحجنه) ش: هذا الحديث رواه البخاري في " الصحيح " عن ابن عباس
قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع
يستلم الركن بمحجن» وروى مسلم وأبو داود من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة
الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه» .. الحديث، وقد مر تفسير المحجن
آنفاً، قوله: - يستلم الأركان - أراد بالأركان الحجر الأسود والركن
اليماني، وإنما جمعه باعتبار تكرر الأشواط.
م: (وإن لم يستطع شيئاً من ذلك) ش: أي من الاستلام للحجر أو إمساس العرجون
وغيره م: (استقبله) ش: هذا الاستقبال مستحب غير واجب، لما روى الترمذي من
حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يحشر الحجر الأسود وله عينان يبصران ولسان
ينطق به فيشهد لمن استلمه أو استقبله.» وهيئة الاستقبال أن يستقبل الحجر
ويجعل باطن كفيه نحو الحجر لا إلى السماء ويكون ظهرهما إليه. م: (وكبر وهلل
وحمد الله) ش: تعالى م: (وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: ثم أخذ عين يمينه مما يلي الباب) ش: الضمير في يمينه يرجع
إلى الآخذ الطائف دون
(4/194)
وقد اضطبع رداءه قبل ذلك فيطوف بالبيت سبعة
أشواط، لما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - استلم الحجر، ثم أخذ عن يمينه
مما يلي الباب فطاف سبعة أشواط» . والاضطباع أن يجعل رداءه تحت إبطه
الأيمن، ويلقيه على كتفه الأيسر، وهو سنة، وقد نقل ذلك عن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحجر، وقيد به لأنه لو أخذه عن يساره يكون الطواف منكوساً، فإذا طاف
منكوساً يعيد به عندنا ما دام بمكة، فإذا رجع قبل الإعادة فعليه دم كذا في
" الذخيرة "، وفي " مبسوط " شيخ الإسلام وقال الشافعي وأحمد ومالك: لا يعتد
به وفي " المبسوط " لو افتتح الطواف من غير الحجر فلم يذكر محمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ - هذا الفصل في الأصل، وقد اختلف المتأخرون فيه، فقيل: لا يجوز،
وقيل: يجوز.
م: (وقد اضطبع رداءه) ش: الصواب بردائه، وهذا سهو منه، وهذه جملة وقعت
حالاً بكلمة قد. لأن الجملة الفعلية الماضية إذا وقعت حالا لا بد فيها من
كلمة - قد - ظاهرة أو مقد، نحو قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ
صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] [النساء: الآية 90] ، أي قد حصرت صدورهم،
واشتقاق الضبع من اضطبع وهو العضد، وهو افتعال منه، قلبت تاؤه طاء لأجل
الضاد.
م: (فيطوف بالبيت سبعة أشواط) ش: أي سبع مرات، وهو جمع شوط يقال عدا شوطاً
أي طلقاً بفتحتين، وهو الثناء، وهو الغاية م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استلم الحجر ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب
ثم طاف سبعة أشواط» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن جعفر عن ابن محمد عن أبيه
عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «لما قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة بدأ بالحجر الأسود فاستلمه ثم مضى على يمينه فرمل
ثلاثاً ومشى أربعاً» .
م: (والاضطباع أن يجعل رداءه تحت إبطه الأيمن ويلقيه على كتفه الأيسر) ش:
أي يبدي كتفه الأيمن ويغطي الأيسر م: (وهو سنة) ش: أي الاضطباع سنة، وعن
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أعرف الاضطباع وما رأيت أحداً فعله، وعن أحمد
يستحب الاضطباع، ولو ترك الاضطباع والرمل لا شيء عليه عند الجمهور، وعليه
الإجماع، وعن الحسن البصري والنووي وابن الماجشون عليه دم ولا يضطبع عند
السعي عند الجمهور، وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يضطبع قياساً
على الطواف.
م: (وقد نقل ذلك) ش: أي الاضطباع م: (عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: هذا رواه أبو داود في " سننه " من حديث ابن جريج
عن ابن يعلى عن يعلى قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- مضطبعاً» .
(4/195)
قال: ويجعل طوافه من وراء الحطيم وهو اسم
لموضع فيه الميزاب، يسمى به؛ لأنه حطم من البيت، أي كسر وسمي حجرا؛ لأنه
حجر منه: أي منع، وهو من البيت لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «فإن الحطيم من البيت» فلهذا
يجعل الطواف من ورائه، حتى لو دخل الفرجة التي بينه وبين البيت لا يجوز،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: ويجعل طوافه من وراء الحطيم) ش: (أي من خارج الحطيم م: (وهو) ش:
أي الحطيم م: (اسم لموضع فيه الميزاب؛ يسمى به لأنه حطم من البيت أي: كسر)
ش: على صيغة المجهول، وكذلك حطم وهو من الحطم وهو الكسر، وهو على وزن فعيل
بمعنى مفعول، أي محطوم؛ لأن البيت رفع وترك وهو محطوما، وقيل: فعيل بمعنى
فاعل، أي حاطم، لأن العرب كانت تطرح فيه ما طاقت به من الباب، فبقي حتى
تحطم لطول الزمان. قال المصنف: الحطيم اسم موضع فيه الميزاب أي ميزاب
الرحمة، وقال صاحب " النهاية ": الحطيم: اسم لموضع بينه وبين البيت فرجة.
م: (وسمي حجرا) ش: أي وسمي الحطيم حجرا بكسر الحاء وسكون الجيم وبالراء م:
(لأنه حجر منه) ش: أي من البيت. وقال تاج الشريعة: هو فعيل بمعنى مفعول من
حجره إذا منعه؛ لأنه موضع محجور، وسمي الحجر بالحطيم، وعلى العكس توسع. قال
ابن دريد في " الجمهرة ": وفيه قبر هاجر وإسماعيل - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
-، م: (وهو من البيت) ش: أي الحطيم من جملة البيت م: (لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - م: (في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فإن الحطيم من
البيت) . ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم قالت: «سألت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمن البيت هو؟ قال: " نعم "،
قالت: فما بالهم لا يدخلوه في البيت، قال: " إن قومك قصرت بهم النفقة "
قلت: فما شأن بابه مرتفعا، قال: " فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا، ويمنعوا
من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بكفر، وأخاف أن تنكر قلوبهم لنظر ذلك
أدخل الجدار في البيت وألزق بابه بالأرض» . وروى أبو داود والترمذي عن
علقمة عن أمه «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: " كنت أحب
أن أدخل البيت وأصلي فيه، فأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بيدي فأدخلني في الحجر فقال: " صلي في الحجر إذا أردت دخول
البيت، فإنما هو قطعة من البيت، فإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه
من البيت» انتهى. محوط مدور على صورة نصف دائرة خارج عن جدار البيت من جهة
الشام وليس كله من البيت بل مقدار ستة أزرع منه من البيت؛ لحديث عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في صحيح مسلم عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستة أزرع من الحجر من البيت وما زاد ليس من البيت»
.
م: (فلهذا يجعل الطواف من ورائه) ش: أي فلكون الحطيم من البيت يجعل الطواف
من ورائه أي من خارجه م: (حتى لو دخل) ش: أي الطائف م: (الفرجة التي بينه
وبين البيت لا يجوز) ش: أي بين الحطيم وبين البيت لا يجوز، وكان الاحتياط
في الطواف أن يكون من وراءه أي يكون
(4/196)
إلا أنه إذا استقبل الحطيم وحده لا تجزيه
الصلاة؛ لأن فرضية التوجه ثبتت بنص الكتاب، فلا تتأدى بما ثبت بخبر الواحد
احتياطا، والاحتياط في الطواف أن يكون وراءه،
قال: ويرمل في الثلاثة الأول من الأشواط، والرمل: أن يهز في مشيته الكتفين
كالمبارز يتبختر بين الصفين، وذلك مع الاضطباع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحطيم من البيت م: (إلا أنه إذا استقبل الحطيم وحده لا تجزيه الصلاة) ش:
هذا استثناء من قوله: - وهو من البيت - جواب سؤال مقدر بأن يقال: لو كان
الحطيم من البيت لجازت الصلاة إذا توجه المصلي إليه، أجاب بأن الصلاة لا
تجزئه إذا توجه إليه دون البيت. م: (لأن فرضية التوجه إلى البيت ثبتت بنص
الكتاب) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
[البقرة: 144] [البقرة: الآية 144] ، م: (فلا يتأدى بما ثبت) ش: بالنص
القطعي فلا يتأدى بما ثبت م: (بخبر الواحد احتياطاً) ش: لأن فيه شبهة م:
(والاحتياط في الطواف أن يكون وراءه) ش: أي وراء الحطيم ليستغرق أطراف
البيت.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويرمل في الثلاثة الأولى
من الأشواط، والرمل) ش: بفتح الميم، والرملان كذا الهرولة، أشار إليها
بقوله م: (أن يهز) ش: أي أن يحول م: (في مشيته الكتفين كالمبارز يتبختر بين
الصفين وذلك مع الاضطباع) ش: أي مع كونه مضطبعاً في هذه الحالة وقوله: في
مشيته بكسر الميم على وزن فعلة بكسر الفاء، لأن الفعلة للحالة والفعلة
بالفتح للمرة، وقال بعضهم: لا رمل اليوم على أهل الآفاق. وقال ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا رمل في الطواف، وإنما فعله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إظهار الجلادة للمشركين على ما روي في عمرة القضاء
أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم مكة للعمرة عام
الحديبية صده المشركون عن البيت، فصالحهم على أن ينصرف ثم يأتي في العام
الثاني ويدخل مكة بغير سلاح فيعتمر ويخرج، فلما قدم في العام الثاني أخلوا
له البيت ثلاثة أيام وصعدوا الجبل، فطاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أصحابه فسمع بعض المشركين يقول لبعض أصنامهم حمى
يثرب، أي المدينة، فاضطبع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بردائه ورمل، وقال لأصحابه: «رحم الله امرءاً أظهر من نفسه جلداً» فإذا كان
الرمل لإظهار الجلد يومئذ، وقد زال ذلك المعنى الآن فلا معنى للرمل.
قلنا: إنه سنة لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف يوم النحر في حجة الوداع فرمل في الثلاثة
الأولى ولم يبق المشركون يومئذ بمكة» . وروي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - لما أراد الرمل في طوافه فقال: يا غلام أمر كتفي وليس هنا أحد
يراه، ولكني مع الحكم مستغن عن بقاء السبب كما في رمي الجمار سببه طرد
الشيطان عن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم بقي ذلك الحكم وإن زال
السبب، وقيل: الحكمة في الرمل اليوم إراءة القوة والجلادة في الطاعة فإنه
حسن في الطاعة يتحمل فيها المشاق، وقيل: إنما يرى الشيطان بأن السفر ما
أضناه حتى ينقطع طمعه في وسوستنا
(4/197)
وكان سببه إظهار الجلد للمشركين حيث قالوا:
أضناهم حمى يثرب ثم بقي الحكم بعد زوال السبب في زمن النبي لله وبعده. قال:
ويمشي في الباقي على هنية على ذلك اتفق رواة نسك رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والرمل من الحجر إلى الحجر هو المنقول من
رمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن زحمه الناس في الرمل
قام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في المناسك. وقال سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد: لا يرمل فيهما بين
الركن اليماني والحجر وإنما يرمل من الجانب الآخر، ويرده ما رواه الطحاوي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مسنداً إلى أبي الطفيل قال: «رمل رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحجر إلى الحجر» .
م: (وكان سببه) ش: أي سبب الرمل م: (إظهار الجلد للمشركين) ش: أي مشركي مكة
م: (حيث قالوا: أضناهم) ش: أي أثقلهم وأوهنهم م: (حمى يثرب) ش: أي المدينة
م: (ثم بقي الحكم) ش: أي حكم الرمل م: (بعد زوال السبب في زمن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعده) ش: أي وبعد النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكرناه.
م: (قال: ويمشي في الباقي) ش: أي من الأشواط م: (على هنية) ش: بكسر الهاء
أي على السكينة، والوقار تعظيماً وتواضعاً لله تعالى م: (على ذلك) ش: أي
على ما ذكرناه م: (اتفق رواة نسك) ش: أي حج م: (رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى
أربعاً. رواه البخاري ومسلم، ومنهم جابر قال في حديث طويل «حتى إذا أتينا
البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً» رواه مسلم، ومنهم عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وروى حديثه أبو داود وابن ماجه عن هشام
بن سعد بن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: سمعت «عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
يقول: يتم الرمل وكشف المناكب، وقد أعز الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله،
ومع ذلك فلا ندع شيئاً كنا نفعله مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -» .
م: (والرمل من الحجر إلى الحجر) ش: أي من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود،
وخالف فيه سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد، وقد ذكرناه الآن وروينا عليهم
م: (هو المنقول) ش: أي الرمل من الحجر إلى الحجر هو المنقول م: (من رمل
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: وروى مسلم وأبو داود
والنسائي، وابن ماجه عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - «رمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
الحجر» وفي لفظ لمسلم «أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر، ذكر أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله» .
م: (فإن زحمه الناس في الرمل قام) ش: يعني وقف إلى أن يجد فرصة للرمل،
وإنما قال:
(4/198)
فإذا وجد مسلكا رمل؛ لأنه لا بد له، فيقف
قائما حتى يقيمه على وجه السنة، بخلاف الاستلام؛ لأن الاستقبال بدل له.
قال: ويستلم الحجر كلما مر إن استطاع؛ لأن أشواط الطواف كركعات الصلاة،
فكما يفتتح كل ركعة بالتكبير يفتتح كل شوط باستلام الحجر. وإن لم يستطع
الاستلام استقبل، وكبر، وهلل على ما ذكرنا، ويستلم الركن اليماني وهو حسن
في ظاهر الرواية، وعن محمد أنه سنة، ولا يستلم غيرهما فإن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستلم هذين الركنين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قام ولم يقل وقف، يشير إلى أنه لا يقعد بل يقف قائماً، وفي " المجتبى "
حائنا، فإن وجد فرجة رمل، فإن رمل في كله لا شيء عليه م: (فإذا وجد مسلكاً)
ش: يعني فرجة م: (رمل به لأنه لا بد له فيقف قائماً حتى يقيمه على وجه
السنة) ش: وهو أن لا يطوف بدون الرمل في تلك الثلاث م: (بخلاف الاستلام) ش:
أي استلام الحجر إذا تعذر، لأنه لا يقف إذا ازدحم م: (لأن الاستقبال بدل
له) ش: أي للاستلام، وإذا تعذر الاستلام يكتفي بالاستقبال.
م: (قال: ويستلم الحجر كلما مر به إن استطاع، لأن أشواط الطواف كركعات
الصلاة " ش: لأنه في كل شوط يفتتح الطواف م: (فكما يفتتح المصلي كل ركعة
بالتكبير، كذلك يفتتح الطائف كل شوط باستلام الحجر؛ وإن لم يستطع الاستلام
استقبل) ش: وجه السبب هو الافتتاح، فافهم. وإن لم يستطع الاستلام للزحام أو
لغيره استقبل الحجر م: (وكبر وهلل على ما ذكرنا) ش: عند قوله: واستلمه إن
استطاع من غير أن يؤذي مسلماً.
م: (ويستلم الركن اليماني) ش: وهو خلاف الشامي لأنها بلاد على يمين الكعبة،
والنسبة إليه اليماني بالتحقيق على تعويض الألف من إحدى ياء النسبة،
والنسبة إليه في الأصل بتشديد الياء م: (وهو) ش: أي استلام الركن اليماني
م: (حسن في ظاهر الرواية) ش: قال أبو بكر الرازي في " شرحه لمختصر الطحاوي
": أما الركن اليماني فإن استلمه فحسن، وإن تركه يضره في قول أبي حنيفة
وأبي يوسف - رحمهما الله -.
م: (وعن محمد أنه سنة) ش: لما روى أبو داود في " سننه " عن ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوافه» م: (ولا
يستلم غيرهما) ش: أي غير الركن الذي فيه الحجر الأسود والركن اليماني، وذلك
لأن الركنين الآخرين ليسا من أركان البيت، لأن بعض الحطيم من البيت، فيكون
هذان الركنان إذا من وسط البيت وليسا بركنين على الحقيقة، ولهذا يجعل
الطواف من وراء الحطيم، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يستلم اليماني
بيده ويقبلها ويقبل الركن، وقال: مالك يستلمه بيده، ولا يقبل يديه وبضعها
على فيه، وعن أحمد يقبل الركن.
م: (فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستلم هذين
الركنين ولم يستلم غيرهما) ش: أي غير الركن اليماني
(4/199)
ولا يستلم غيرهما، ويختم الطواف بالاستلام
- يعني استلام الحجر -.
قال: ثم يأتي المقام فيصلي عنده ركعتين، أو حيث تيسر من المسجد، وهي واجبة
عندنا، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سنة لانعدام دليل الوجوب. ولنا
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليصل الطائف لكل أسبوع
ركعتين» ؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والركن الذي فيه الحجر، وهذا الحديث أخرجه الجماعة إلا الترمذي عن ابن عمر
بلفظ مسلم «كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني» م: (ويختم الطواف
بالاستلام، يعني استلام الحجر) ش: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فعل كذلك في حجة الوداع.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ثم يأتي المقام) ش: يعني
بعد فراغه من سبعة الأشواط يأتي مقام إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - م: (فيصلي عنده ركعتين، أو حيث تيسر من المسجد) ش: مقام
إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الحجر الذي فيه أثر قدميه
والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع قدميه م: (وهي) ش: أي الركعتان
المذكورتان م: (واجبة عندنا) ش: وبه قال الشافعي في قوله وبه قال مالك إلا
أن عند مالك اتصالهما بالطواف شرط ويجب بتركهما الدم.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سنة لانعدام الدليل على وجوبها) ش:
وفي بعض النسخ لانعدام دليل الوجوب.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليصل الطائف لكل
أسبوع ركعتين) ش: هذا الحديث غريب وقيل لا أصل له، واستدل بعضهم لهذا بما
رواه البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال:
«قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فطاف بالبيت سبعاً ثم
صلى خلف المقام ركعتين..» الحديث، وهذا لا يدل على الوجوب، على أن الحافظ
الراوي أبا القاسم تمام بن محمد الرازي روى في " فوائده " بإسناده إلى نافع
عن ابن عمر قال: «سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكل
أسبوع ركعتين» واستدل الأترازي على الوجوب بقوله: ولنا قَوْله تَعَالَى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] [البقرة:
الآية 125] ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي بكسر الخاء على صيغة
الأمر ومطلقه الوجوب، انتهى.
قلت: هذا أجنبي من كلام المصنف لأن الاستدلال على وجوب الركعتين بهذا
الحديث فينبغي أن يكون الكلام فيه. فإن قلت: ذكر صاحب " الإيضاح " لما فرغ
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الطواف صلى ركعتين عند
المقام وتلا قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى} [البقرة: 125] [البقرة: الآية 125] ، رواه الترمذي وغيره وعن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسي
ركعتي الطواف فقضاهما بذي طوى فدل الأمر والقضاء على الوجوب.
(4/200)
والأمر للوجوب، ثم يعود إلى الحجر فيستلمه،
لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صلى
ركعتين عاد إلى الحجر، والأصل أن كل طواف بعده سعي يعود إلى الحجر؛ لأن
الطواف لما كان يفتتح بالاستلام فكذا السعي يفتتح به، بخلاف ما إذا لم
يكن بعده سعي،
قال: وهذا الطواف طواف القدوم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال بعضهم: الأمر في الآية باتخاذ البقعة مصلى وليس فيها الأمر
بالصلاة ورد عليه بأن حمل الآية على ذلك لا يصح، لأنه كان لا يصلي
قبله، ولأن اتخاذ البقعة ليس إلينا، إنما إلينا فعل الصلاة فلا يجوز
حمله عليه.
وقال أصحابنا في حديث جابر في " الصحيح " أنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين بعد طوافه، وتلا هذه الآية فنبه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن صلاته كانت امتثالاً لأمر الله
تعالى وأمره للوجوب. وقال السدي: وقتادة أمروا أن يصلوا عند المقام،
وقال أبو طاهر: الأظهر وجوبها في الطواف الواجب بالدخول في التطوع،
قال: ولا خلاف بين أرباب المذاهب أنهما ليسا ركناً، والمذهب أنهما
واجبتان يجبران بالدم. قال: وقال به أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: لا يجبران عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه بالدم، بل
يصليهما في أي مكان شاء، ولو بعد رجوعه إلى أهله، وهو قول الشافعي
وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعند الثوري: يصليهما ما دام في الحرم،
وليستا شرطاً لصحة الطواف عند الأئمة الثلاثة مع أصحابهم ولا دم في
تركهما عندهم. وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولان في وجوبهما،
وأصحهما أنهما سنة مؤكدة، وعند أحمد سنة مؤكدة، وهو معنى الوجوب عندنا،
وتدخلها النيابة فيهما عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن الأخير
يصليهما عن المتأخر عنده، وعندنا لا مدخل للنيابة في الصلاة، وهو قول
مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولو طاف وصلى ركعتين ففي وقوعهما عن
الصبي وجهان.
م: (والأمر للوجوب) ش: لأن الأمر المطلق المجرد عن القرائن يدل على
الوجوب م: (ثم يعود إلى الحجر) ش: أي بعد فراغه من الصلاة يعود إلى
الحجر الأسود م: (فيستلمه لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما صلى ركعتين عاد إلى الحجر» والأصل أن كل طواف بعده سعي
يعود إلى الحجر لأن الطواف لما كان يفتتح بالاستلام، فكذا السعي يفتتح
به) ش: أي باستلام الحجر.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن السعي للطواف، لأنه يتصل
بأشواطه والسنة أن يستلم الحجر بين الشوطين، وكذا بين الطواف والسعي م:
(بخلاف ما إذا لم يكن بعده) ش: أي بعد الطواف م: (سعي) ش: لأنه قدم
فراغه من الركعتين فلا معنى للعود لما بدأ به الطواف.
م: (قال وهذا الطواف) ش: أي الطواف الذي ذكرنا م: (طواف القدوم ويسمى
طواف التحية) ش: ويسمى أيضاً طواف اللقاء وطواف إحداث العهد بالبيت م:
(وهو) ش: أي طواف القدوم م:
(4/201)
ويسمى طواف التحية، وهو سنة، وليس بواجب.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى البيت فليحيه بالطواف» . ولنا أن الله
تعالى أمر بالطواف، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار به، وقد تعين طواف
الزيارة بالإجماع، وفيما رواه سماه تحية، وهو دليل الاستحباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(سنة وليس بواجب) ش: أي طواف القدوم ليس بواجب عندنا، وبه قال الشافعي
وأحمد.
م: (وقال مالك: إنه واجب) ش: وبه قال أبو ثور م: (لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من أتى البيت فليحيه بالطواف» ش: ومطلق الأمر
للوجوب، فإذا كان واجبا يجب الدم بتركه عنده، وفي " الحلية ": وقال
مالك: إن تركه تعجلاً فلا شيء عليه، وإن تركه مطيقاً فعليه الدم، وهذا
الحديث غريب.
م: (ولنا أن الله تعالى أمر بالطواف) ش: في قَوْله تَعَالَى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] [الحج: الآية
29] ، م: (والأمر المطلق لا يقتضي التكرار به) ش: ولا يراد به إلا
الواحد م: (وقد تعين) ش: بالأمر م: (طواف الزيارة بالإجماع) ش: فلما
يبقى غيره مراداً ولا يلزم التكرار، فلا يجوز.
وقال الأترازي: هذا الاستدلال ضعيف، لأن لقائل أن يقول سلمنا أن الأمر
المطلق لا يقتضي التكرار، وسلمنا أيضاً أن طواف الزيارة هو المراد
بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29] لكن لا نسلم أن طواف السنة
واجباً بدليل آخر توجبه الزيارة للأمر، فالدليل الآخر من غير الكتاب
الذي يوجبه، لأن غيره لا يعلم به لأنه ينافي ما ثبت بالدليل القطعي فلا
يعمل به، وقوله: ولهذا قلنا ... إلى آخره - وأراد لأنه يؤتى به بعد
تمام التحلل، فلو جعلناه واجباً لا يؤدي إلى تكرار الواجب في الإحرام.
وأما الجواب عن بنيه فقد أشار إليه المصنف بقوله م: (وفيما رواه) ش: أي
في الحديث الذي رواه مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (سماه) ش: أي
سمى الطواف م: (تحية، وهو دليل الاستحباب) ش: لأن التحية في اللغة اسم
الإكرام مبتدأ به على سبيل التبرع فلا يدل على الوجوب، وإن كان على
صيغة الأمر كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«أكرموا الشهود» .
فإن قلت: يشكل هذا بقوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا}
[النساء: 86] (النساء: الآية 86) ، وجواب السلام واجب، وإن كان بلفظ
التحية.
قلت: الجواب المقيد بالأحسن غير واجب فكانت التحية بمعنى الأحسن، فإن
لفظ التحية هنا مخرج على طريق المطابقة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا
حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86] فلا يدل على عدم الوجوب.
(4/202)
وليس على أهل مكة طواف القدوم؛ لانعدام
القدوم في حقهم.
قال: ثم يخرج إلى الصفا فيصعد عليه، وليستقبل البيت، ويكبر، ويهلل،
ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويرفع يديه،
ويدعو الله لحاجته؛ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صعد الصفا حتى إذا نظر إلى البيت قام مستقبل القبلة يدعو
الله؛» لأن الثناء والصلاة يقدمان على الدعاء تقريبا إلى الإجابة كما
في غيره من الدعوات، والرفع سنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وليس على أهل مكة طواف القدوم؛ لانعدام القدوم في حقهم) ش: لأنهم
حاضرون.
[السعي بين الصفا والمروة]
[حكم السعي بين الصفا والمروة وكيفيته]
م: (قال: ثم يخرج إلى الصفا) ش: من باب بني مخزوم، ويسمى باب الصفا،
ولا يتعين، بل هو مستحب، وهو أقرب الأبواب إلى الصفا، والشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل الخروج منه سنة، والصحيح أنه مستحب، وبه قال
مالك. ويقدم رجله اليسرى في الخروج، ويقول بسم الله والسلام على رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللهم افتح لي أبواب رحمتك
وأدخلني فيها وأعذني من الشيطان الرجيم م: (فيصعد عليه) ش: بقدر ما يرى
البيت. والصعود على الصفا مستحب، وقيل سنة، وهو المشهور عن الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه أنه ركن، ذكره الطبري في مناسكه، وعن أحمد: إن
لم يصعد عليه فلا شيء عليه، وعن مالك م: (وليستقبل البيت، ويكبر،
ويهلل، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويرفع
يديه) ش: وكفيه نحو السماء من أول ما يكبر ويهلل م: (ويدعو الله تعالى
بحوائجه) ش: من حوائج الدنيا والآخرة م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد الصفا حتى إذا نظر إلى البيت قام
مستقبل القبلة يدعو الله تعالى» ش: هذا في حديث جابر أخرجه مسلم مطولاً
وهو مشهور.
م: (ولأن الثناء) ش: على الله تعالى م: (والصلاة) ش: على النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (يقدمان على الدعاء تقريبا إلى
الإجابة) ش: أراد بهذا أن الدعاء بحوائجه بعد الثناء على الله والصلاة
على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه عقبهما أقرب
إلى الإجابة لأنهما وسيلة إليها فلا جرم أنهما يقدمان م: (كما في غيره
من الدعوات) ش: أي كما يقدم الدعاء والصلاة في غير هذين الوقتين، ألا
ترى أن الدعاء في الصلاة يكون بعد قراءة التشهد والصلاة على النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذا في كل موضع يدعو الشخص
بحوائجه بعد أن يثني على الله تعالى ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما ذكر الدعاء ها هنا ولم يذكر عند استلام الحجر وفي الطواف لأن حالة
الاستلام حالة ابتداء العبادة والطواف يشبه الصلاة والدعاء يؤتى به بعد
الفراغ من العبادة، والسعي تتمة ذلك، فأشبه آخر الصلاة فاستقام الدعاء
للحاجة فيه.
م: (والرفع سنة الدعاء) ش: أي رفع اليدين سنة.
وروي فيه أحاديث، منها ما أخرجه أبو داود في " سننه " في الدعاء من
حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك
أو نحوهما، والإشعار أن تشير بإصبع واحدة، والإهلال أن تمد يديك» ، ثم
أخرجه عن ابن
(4/203)
الدعاء، وإنما يصعد الصفا بقدر ما يصير
البيت بمرأى منه؛ لأن الاستقبال هو المقصود بالصعود، ويخرج إلى الصفا
من أي باب شاء. وإنما خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
من باب بني مخزوم، وهو الذي يسمى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أيضاً موقوفاً، ومنها ما رواه أبو
داود أيضاً من حديث السائب بن يزيد عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دعا رفع يديه فمسح وجهه بيديه» وفي سنده ابن
لهيعة وهو معلول به.
ومنها ما رواه أبو داود أيضاً من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها
وجوهكم» .
وقال أبو داود روي هذا الحديث من غير وجه كلها واهية، وهذه الطريق
أمثلها وهو ضعيف أيضاً، ومنها ما رواه الترمذي، في الدعوات من حديث
سليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «إن الله حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع يديه
فيردهما صفراً خائبتين» . وقال الترمذي حسن غريب، وبعضهم لم يرفعه.
ومنها ما رواه الترمذي أيضاً من حديث سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما ثم يمسح بهما
وجهه» وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى، وقد تفرد
به، وقال ابن حبان: في كتاب " الضعفاء ": حماد بن عيسى الجعفي يروي
المعلولات التي يظن أنها معمولة، لا يجوز الاحتجاج به. وقال النووي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد ثبت أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رفع يديه في الدعاء، ذكرت من ذلك نحو عشرين حديثاً في "
شرح المهذب ". م: (وإنما يصعد الصفا بقدر ما يصير البيت بمرأى منه) ش:
أي بمنظر من الحاج الصاعد م: (لأن الاستقبال) ش: إلى البيت م: (هو
المقصود بالصعود، ويخرج إلى الصفا من أي باب شاء) ش: من أبواب المسجد
م: (وإنما خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من باب بني
(4/204)
باب الصفا لأنه كان أقرب الأبواب إلى الصفا
لأنه سنة. قال: ثم ينحط نحو المروة ويمشي على هنيته، فإذا بلغ بطن
الوادي يسعى بين الميلين الأخضرين سعيا، ثم يمشي على هنيته حتى يأتي
المروة ويصعد عليها ويفعل كما فعل على الصفا لما روي «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل من الصفا وجعل يمشي نحو
المروة وسعى في بطن الوادي، حتى إذا خرج من بطن الوادي مشى حتى صعد
المروة وطاف بينهما سبعة أشواط» وهذا شوط واحد فيطوف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مخزوم وهو الذي يسمى باب الصفا، لأنه كان أقرب الأبواب إلى الصفا) ش:
روى الطبراني في " الكبير " من حديث نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج
من المسجد إلى الصفا من باب بني مخزوم» م: (لأنه سنة) . ش: وإنما كان
قربه من الصفا دون سائر الأبواب. م: (وقال: ثم ينحط) ش: أي ينزل من
الصفا عامداً م: (نحو المروة) ش: في بعض النسخ قال: ثم ينحط أي قال
القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثم ينحط م: (ويمشي على هنيته) ش: أي على
سكونه ووقاره م: (فإذا بلغ بطن الوادي) ش: قيل: لم يبق اليوم بطن
الوادي لأن السوال سنة ولم يبق له أثر إلا أنه جعل له ميلان أخضر وأصفر
ليعلم أنه بطن الوادي فيسعى الحاج بين الميلين، كذا في " المبسوط " م:
(يسعى بين الميلين الأخضرين سعيا) ش: إنما ذكر الأخضرين بطريق التغليب،
لأن أحدهما أخضر والآخر أصفر كما ذكرنا.
وقال المطرزي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الميلان علامتان لموضع الهرولة من
بطن الوادي، وقال العلامة حافظ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هما
علامتان قد ركزا في حائط المسجد الحرام.
وفي " شرح الوجيز " ثم ينزل من الصفا ويمشي على هنيته حتى يبقى بينه
وبين الميل الأخضر الملصق ببنيان المسجد وركنه قدر ستة أذرع ويمشي
ويسرع ويسعى سعياً شديداً، وكان ذلك الميل موضوعاً على متن الطريق في
الموضع الذي يبتدأ منه السعي إعلاماً فكان السيل يهدمه، فرفعوه إلى
أعلى ركن المسجد، ولهذا معلقاً، فرفع متأخراً عن مبدأ السعي ستة أذرع،
لأنه لم يكن موضع أليق منه، وهذا على يسار الساعي، والميل الثاني متصل
بدار العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال الروياني وغيره: هذه
الأسامي.
م: (ثم يمشي على هنيته حتى يأتي المروة فيصعد عليها ويفعل كما فعل على
الصفا) ش: من استقبال القبلة ورفع اليدين والدعاء لحاجته م: (لما روي
«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل من الصفا، وجعل
يمشي نحو المروة، وسعى في بطن الوادي، حتى إذا خرج من بطن الوادي مشى
حتى صعد المروة، وطاف بينهما سبعة أشواط» ش: هذا أخرجه البخاري ومسلم
عن عمرو بن دينار عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قدم
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة فطاف بالبيت سبعا
وصلى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة سبعاً» م: (وهذا شوط
واحد) ش: أي وهذا الذي ذكرناه شوط واحد.
م: (فيطوف) ش: ورجوعه منها إلى الصفا شوط آخر، وبه قال الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ -
(4/205)
سبعة أشواط يبدأ بالصفا ويختم بالمروة
ويسعى في بطن الوادي في كل شوط لما روينا، وإنما يبدأ بالصفا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومالك وأحمد وأكثر أهل العلم، وذكر الطحاوي أنه يطوف سبعة أشواط من
الصفا إلى الصفا ولا يعتبر الرجوع من المروة إلى الصفا، وبه قال ابن
جرير الطبري والصيرفي من أصحاب الشافعي، فقال أبو بكر الرازي: هذا غلط
لأنه يصير أربعة عشر شوطاً، وإنما عليه م: (سبعة أشواط) ش: لأن رواة
نسك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتفقوا على أنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف بينهما سبعة أشواط لا أربعة
عشر، وهي ما قال م: (يبدأ بالصفا) ش: في كتاب بدأ بالصفا.
م: (ويختم بالمروة) ش: أي يبدأ الشوط الأول من الصفا ويختم الشوط
السابع بالمروة، ولو كان الأمر كما قاله الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يقال: يبتدئ لكل شوط بالصفا، كذا في " المبسوط " وفي " المجتبى " إنما
قال: يبدأ بالصفا ويختم بالمروة حتى لا يظن أن كل شوط يبدأ بالصفا
ويختم به شوط واحد، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد ضعفوا قول
الطحاوي في عامة كتب أصحابنا بعضهم قالوا: ذلك غلط وبعضهم: ليس بصحيح،
وعندي لما قال الطحاوي وجه لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما رقى على الصفا قال: " نبدأ بما بدأ الله به "، وأراد
به قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ
اللَّهِ} [البقرة: 158] [البقرة: الآية 158] ، فيفهم منه أن يبدأ
بالصفا في كل شوط، لأن الحديث مطلق فيه يبدأ به كل شوط فإن كان البداءة
في كل شوط من الصفا يكون المضي من الصفا إلى المروة، والعود من المروة
إلى الصفا شوطاً واحداً لا محالة.
إنا نقول: إن أهل الحديث أوردوه في عامة كتبهم أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعى بين الصفا والمروة سبعاً ولم يذكروا
أن البداءة من الصفا شوط والعود من المروة شوط، ويحتمل أن طواف النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما قال الطحاوي يحتمل أن يكون
على ما قاله، أو نقول في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نبدأ محذوف والمفعول إذا كان محذوفاً يقدر أعم الأشياء لا أخصها، لعدم
الألوية، فيكون حينئذ تقدير الكلام نبدأ كل شوط من الأشواط بما بدأ
الله به، أي بالصفا، فيكون الأمر على ما قاله الطحاوي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - انتهى.
قلت: فيه نظر، لأنا لا نسلم أن المفعول فيه محذوف، لأن قوله: بما بدأ
الله به، هو المفعول في الحقيقة، لأن كلمة (ما) مصدرية، فالتقدير يبدأ
بابتداء الله تعالى، أو موصولة، فالتقدير نبدأ بالذي بدأ الله به وهو
الصفا، فمن أين يأتي ما ذكره.
م: (ويسعى في بطن الوادي في كل شوط) ش: المراد من السعي الهرولة م:
(لما روينا) ش: أشار به إلى قوله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نزل من الصفا وجعل يمشي ويسعى في بطن الوادي م: (وإنما
يبدأ
(4/206)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فيه: «ابدأ بما بدأ الله تعالى به» ، ثم السعي بين الصفا والمروة
واجب، وليس بركن. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه ركن لقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى كتب عليكم السعي
فاسعوا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالصفا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي في البداية
بالصفا م: «ابدأ بما بدأ الله تعالى به» ش: هذا الحديث روي بصيغة
الأمر، كما قاله المصنف، وهذه رواية النسائي والدارقطني ثم البيهقي في
تتمتهم، وأما في رواية مسلم من حديث جابر الطويل بصيغة الخبر وهي ابتدأ
بما بدأ الله به، وبنون الجمع في رواية أبي داود والترمذي وابن ماجه
ومالك في الموطأ. وقد عزا بعض الفقهاء لفظ الأمر لمسلم وهو وهم منه،
فسعى بل تجب النية ها هنا، ولو بدأ بالمروة لا يعتد به بالإجماع، وشذ
عطاء بن أبي رباح فقال: إن بدأ فيه بالمروة أجزأ.
م: (ثم السعي بين الصفا والمروة واجب، وليس بركن) ش: وهو قول ابن عباس
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعبد الله بن الزبير وأنس وعروة بن
الزبير والحسن البصري، وعطاء ومحمد بن سيرين ومجاهد، ونقل المروزي
والميموني عن ابن حنبل أنه مستحب، واختار القاضي من الحنابلة أنه واجب
فيجبر بالدم كقولنا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه ركن) ش: وبه قال مالك
وأحمد في رواية. ويروى عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وإذا كان
ركنا لا يصح بدونه م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «إن الله
تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا» ش: هذا الحديث رواه الشافعي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أخبرنا عبد الله بن المؤمل العابدي عن عمر بن عبد
الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة «عن حبيبة بنت
أبي تجرأ إحدى نساء بني عبد الدار قالت: رأيت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه
وهو وراءهم يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي وهو يقول: " اسعوا، فإن
الله كتب عليكم السعي» .
وقال ابن القطان: عبد الله بن المؤمل سيء الحفظ، وفي حديثه اضطراب
كبير، وعن يحيى بن معين والنسائي والدارقطني: هو ضعيف، وقال ابن حبان:
هو لا يجوز الاحتجاج بحديثه إذا انفرد، وذكره ابن الجوزي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في " الضعفاء والمتروكين ".
(4/207)
ولنا قَوْله تَعَالَى: {فلا جناح عليه أن
يطّوّف بهما} [البقرة: 158] (158 البقرة) ، ومثله أن يستعمل للإباحة
فينفي الركنية والإيجاب إلا أنا عدلنا عنه في الإيجاب ولأن الركنية لا
تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد، ثم معنى ما روي كتب استحبابا كما في
قَوْله تَعَالَى {كتب عليكم إذا حضر أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:
180] [180 البقرة: الآية] ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ولهذا رواه الحاكم في " مستدركه " وسكت عنه، وقال السروجي: وقد
رواه البيهقي عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ولم يتعرض
له بضعف مع علمه بضعفه، [.....] نظراً إلى عصبيته وعدم إنصافه، وهذا لا
يليق بالإنسان في أمر الدين، وتراهم يقولون: الجرح مقدم على التعديل مع
وجود التعديل، فكيف مع عدمه.
قوله: حبيبة بنت تجرأ بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الجيم وفتح
الراء والهمزة. وقال الذهبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حبيبة بنت تجرأ
العبدرية، ويقال حبيبة بالتشديد روت عنها صفية بنت شيبة.
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا} [البقرة: 158] (البقرة: الآية 158) ش: أي بالصفا والمروة وجه
الاستدلال به هو قوله م: (ومثله) ش: أي مثل هذا الكلام وهو لفظ لا جناح
م: (يستعمل للإباحة) ش: كما في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}
[البقرة: 235] [البقرة: الآية 215] ، فإذا كان يستعمل للإباحة م:
(فينفي الركنية والإيجاب إلا أنا عدلنا عنه) ش: أي عن ظاهر الآية م:
(في الإيجاب) ش: أي في نفي الإيجاب، قال الكاكي: وفي بمعنى إلى لأن:
حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، أي عدلنا عن النفي المطلق إلى الإيجاب
الثابت بالخبر.
قلت: إن أراد بالخبر ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا يصح،
لأن الخبر ضعيف منكر كما ذكرناه، ولم يذكر ما وجب العدول، واختلف فيه
الشارحون، فمنهم من قال عملاً بما رواه لأنه خبر واحد يوجب الإيجاب،
ومنهم من قال بأول الآية، وهو قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] [البقرة: الآية
158] ، فإن الشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة وذلك يكون فرضاً، فأول
الآية يدل على الفرضية وآخرها على الإباحة فعلمنا بهما، وقلنا بالوجوب
لأنه ليس بفرض علماً وهو فرض عملاً فكان فيه نوع من كل واحد من الفرض
والاستحباب وقيل بالإجماع.
قلت: الذي قال عملاً بما رواه لم يقف على حال الحديث، وكيف يعمل به وهو
حديث ضعيف، حتى قال أحمد: أحاديث رواة هذا الحديث منكرة، وقال ابن حبان
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لا يجوز الاحتجاج بخبره.
م: (ولأن الركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد) ش: يعني فيما
رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (ثم معنى ما روي)
ش: أي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (كتب استحبابا كما في
قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ} [البقرة: 180] [البقرة: الآية 180] ش: قيل فيه نظر، لأن
(4/208)
ثم يقيم بمكة حراما؛ لأنه محرم بالحج فلا
يتحلل قبل الإتيان بأفعاله. ويطوف بالبيت كلما بدا له؛ لأنه يشبه
الصلاة، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت
صلاة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوصية للوالدين والأقربين كانت فرضاً ثم نسخت فكان كتب دلالة على
الفرضية، قالوا وإن ذلك ليس بمجمع عليه، بل قال بعضهم ليست بمنسوخة بل
يجمع للوارث من الوصية والميراث، والمانع يكفيه ذلك.
م: (ثم يقيم بمكة حراما) ش: أي ثم بعد فراغه من الطواف والسعي يقيم
بمكة محرماً لا يحلق ولا يقصر م: (لأنه محرم بالحج فلا يتحلل قبل
الإتيان بأفعاله) ش: أي بأفعال الحج فيقيم محرماً أي يوم النحر، وهو
وقت التحلل. قال الكاكي: قوله: ثم يقيم بمكة حراماً، احترازاً عن قول
ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال: يحلق أو يقصر ويحل،
لما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «خرجنا مع رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة الوداع فمنا من أهل
بحجة، ومنا من أهل بعمرة وكنت فيمن أهل بعمرة فدخلنا مكة صبيحة أربعة
ذي الحجة، فلما طفنا وسعينا أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من أهل بحجة بالإحلال فأحللنا وواقعنا النساء» .
والجواب عنه أنه منسوخ لأنه كان ذلك في الابتداء حين كان الناس يعدون
العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فأمرهم أن يحلوا ويجعلوها عمرة
تقريراً للحكم الشرعي ودرءاً للحكم الجاهلي في نسخ ذلك.
وإذا فرغ من السعي وهو مفرد بعمرة حلق أو قصر وكذا المتمتع الذي لم يسق
الهدي، وبه قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعند مالك والشافعي
هما سواء، ويمكث بمكة حلالاً إلى يوم التروية، ثم يحرم بالحج يوم
التروية من ميقات أهل مكة وإن قدم إحرامه كان أفضل، وإن كان مفرداً
بالحج أو متمتعاً ساق الهدي لا يتحلل بل يبقى محرماً ويؤدي أفعاله إلى
أوان التحلل.
م: (ويطوف بالبيت كلما بدا له) ش: أي كلما ظهر له أن يطوف م: (لأنه) ش:
أي لأن الطواف م: (يشبه الصلاة) ش: يعني في الثواب دون الحكم، ألا ترى
أن الإنحراف والشر فيه لا يفسده. م: (قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة» ش: هذا الحديث رواه ابن حبان -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " صحيحه " من حديث طاوس عن ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى قد أحل
فيه المنطق فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير» ، وأخرجه الحاكم أيضاً وسكت
عنه.
(4/209)
والصلاة خير موضوع، فكذا الطواف إلا أنه لا
يسعى عقيب هذه الأطوفة في هذه المدة؛ لأن السعي لا يجب فيه إلا مرة،
والتنفل بالسعي غير مشروع، ويصلي لكل أسبوع ركعتين، وهي ركعتا الطواف
على ما بينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومعنى قوله صلاة، يعني يشبه الصلاة لأنه ليس بصلاة حقيقة، ولهذا يجوز
الكلام فيه، وقد رواه الترمذي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بلفظ الطواف
حول البيت مثل الصلاة، ثم قال: وقد روي هذا موقوفاً على ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (والصلاة خير موضوع، فكذلك الطواف) ش: خير موضوع، وفي " شرح الطحاوي
" - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل،
وهو مذهب عامة أهل العلم، لأن الغرباء يفوتهم الطواف، وأهل مكة لا
يفوتهم الأمران، وعند الاجتماع الصلاة أفضل بعينها، وإليه الإشارة
بقوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125]
[الحج: الآية 125] ، قيل: الغرباء م: (إلا أنه لا يسعى عقيب هذه
الأطوفة في هذه المدة) ش: هذا الاستثناء من قوله: ويطوف بالبيت كلما
بدا له يعني لا يسعى بين الصفا والمروة عقيب هذه الأطوفة التي يأتي بها
في مدة إقامته بمكة إلى أوان التحلل.
م: (لأن السعي لا يجب فيه) ش: أي في المفرد بالحج الموصوف من عند قوله
- وإن كان مفرداً بالحج - إلى هنا م: (إلا مرة واحدة، والتنفل بالسعي
غير مشروع) ش: لعدم ورود النص به.
فإن قلت: السعي تبع الطواف، ولهذا لا يجوز قبله والتنفل بمتبوعه مشروع
فيجب أن يكون التنفل بالسعي أيضاً مشروعاً تبعاً للطواف.
قلت: السعي إنما ثبت كونه عبادة بالنص، بخلاف القياس فيقتصر على النص،
والنص ورد بالإتيان مرة فلا يشرع ثانياً بالقياس لأنه لا محل له.
م: (ويصلي لكل أسبوع) ش: أي لكل سبعة أشواط وهو طواف واحد م: (ركعتين)
ش: وفيه خلاف أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن عنده يجوز أن يجمع
بين أسبوعين فصاعداً قبل أن يصلي ركعتي الطواف، وبه قال أحمد، ولكن عند
أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينصرف عن وتر ثلاثة أو خمسة أو سبعة
وعند أبي حنيفة ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يكره الجمع بين
الأسبوعين وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعند الشافعي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الأفضل الفصل بين كل أسبوعين بركعتين.
م: (وهي ركعتا الطواف على ما بينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يصلي الطائف لكل أسبوع ركعتين» ، ذكره عند
قوله: ثم يأتي المقام فيصلي ركعتين.
(4/210)
قال: فإذا كان قبل يوم التروية بيوم خطب
الإمام خطبة يعلم فيها الناس الخروج إلى منى والصلاة بعرفات والوقوف،
والإفاضة، والحاصل أن في الحج ثلاث خطب، أولها ما ذكرنا، والثانية
بعرفات يوم عرفة، والثالثة بمنى في اليوم الحادي عشر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[خطب الإمام في الحج]
[النفر إلى منى والمبيت بها ليلة التاسع]
م: (قال: فإذا كان قبل يوم التروية بيوم) ش: وهو اليوم السابع من ذي
الحجة، لأن يوم التروية الثامن منه، كذا في " المغرب " وإنما سمي يوم
التروية بذلك، لأن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى
ليلة الثامن كأن قائلاً يقول له: إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك، فلما
أصبح رؤي، أي افتكر في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا، أم من
الشيطان؟ فمن ذلك سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من
الله تعالى، فمن ثم سمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم
بنحره، فسمي اليوم العاشر يوم النحر.
وقال أبو بكر الأنباري: في كتاب الزهد إنما سميت التروية لأن الناس
يروون من الماء العطش في هذا اليوم، ويحملون الماء بالروايا إلى عرفة
ومنى، وإنما سمي يوم عرفة لأن جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - علم إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
المناسك كلها يوم عرفة، فقال: أعرفت في أي موضع تطوف؟ وفي أي موضع
تسعى؟ وفي أي موضع تقف؟ وفي أي موضع تنحر وترمي؟ فقال: عرفت فسمي يوم
عرفة، وسمي يوم الأضحية، لأن الناس يضحون فيه بقربانهم، وقيل: إن آدم -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما هبط بالأرض وقع بالهند،
وامرأته حواء - عَلَيْهَا السَّلَامُ - وقعت بالسند، فلم يلتقيا إلا
عشية عرفة، فسمي يوم عرفة، لمعرفة كل منهما الآخر.
م: (خطب الإمام خطبة) ش: أي خطبة واحدة من غير جلسة بين الخطبتين بعد
صلاة الظهر م: (يعلم الناس فيها الخروج إلى منى) ش: وهي قرية فيها ثلاث
سكك بينها وبين مكة فرسخ، وهي في الحرم، لأنها منحر، والمنحر يكون في
الحرم، والغالب على منى التذكير والصرف، وقد تكتب بالألف، وسميت بمنى
لأن الحيوانات تساق إلى مناياها، وهو جمع منية وهي الموت وقيل لما تمنى
من الدماء أي تراق، وقيل: إن جبرائيل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما أراد أن يفارق آدم قال له: ماذا تتمنى فقال آدم: الجنة
فسمي ذلك الموضع منى.
م: (والصلاة بعرفات) ش: أي يعلم الصلاة بجبل عرفات م: (والوقوف بها
والإضافة) ش:.
م: (والحاصل أن في الحج ثلاث خطب أولها ما ذكرناه) ش: وهو الذي ذكر أن
الإمام يخطب بمكة يوم التروية م: (والثانية) ش: أي الخطبة الثانية م:
(بعرفات يوم عرفة) ش: قبل صلاة الظهر، وهي خطبتان يجلس بينهما جلسة
خفيفة، قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يبتدئ الخطبة إذا فرغ
المؤذنون من الأذان بين يديه كخطبة الجمعة، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: يخطب الإمام قبل الأذان، فإذا مضى صدر من خطبته أذن
المؤذنون.
م: (والثالثة) ش: أي الخطبة الثالثة م: (بمنى في اليوم الحادي عشر) ش:
يعلم الناس فيها النفر
(4/211)
فيفصل بين كل خطبتين بيوم. وقال زفر -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يخطب في ثلاثة أيام متوالية، أولها يوم التروية،
لأنها أيام الموسم ومجتمع الحاج. ولنا أن المقصود منها التعليم ويوم
التروية، ويوم النحر يوم اشتغال، فكان ما ذكرناه أنفع، وفي القلوب
أنجع، فإذا صلى الفجر يوم التروية بمكة خرج إلى منى فيقيم بها حتى يصلي
الفجر من يوم عرفة؛ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلى الفجر يوم التروية»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وطواف الصدر، ولا يحتاج يوم النحر إلى خطبة، لأنهم قد علموا ما يحتاجون
إليه في خطبة يوم عرفة، وما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خطب يوم النحر، فإنها لم تكن خطبة من خطب الحج، وإنما كانت
من خطب الوداع علمهم الأحكام لما علم أنه لا يتحقق مثله بعدها من
الاجتماع والكثرة.
م: (يفصل بين كل خطبتين بيوم) ش: أي يفصل الخطيب الذي هو الإمام بين كل
خطبتين من الخطب الثلاثة بيوم، وذلك كما ذكره أن الأولى قبل يوم
التروية بمكة، والثانية يوم عرفة وبينهما يوم، وهو يوم التروية الثامن
من الشهر، والثالثة في يوم الحادي عشر، وبينهما يوم وهو يوم العيد
العاشر من شهره.
م: (وقال زفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخطب في ثلاثة أيام متواليات)
ش: أي متتابعات م: (أولها يوم التروية، لأنها أيام الموسم) ش: أي لأن
هذه الأيام الثلاثة أيام الموسم، وفي " المغرب " موسم الحاج سوقهم
ومجتمعهم مشتق من الوسم وهو العلامة م: (ومجتمع الحاج) ش: أي موضع
اجتماعهم م: (وذلك أن المقصود تعليمهم ما يقع في هذه الأيام) ش: فيجب
أن تكون الخطب فيها.
م: (ويوم التروية، ويوم النحر يوم اشتغال) ش: جمع شغل، أما يوم التروية
فيوم حاجتهم إلى الخروج إلى منى، وأما يوم النحر فلاشتغالهم بالحلق
والرمي والطواف فلا تفيد الخطبة فيها، وبقولنا قال الشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ -، وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يخطب في اليوم السابع م:
(فكان ما ذكرناه) ش: أي من التفريق بين كل خطبتين م: (أنفع) ش: مما
قاله زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وفي القلوب أنجع) ش: من نجع الوعظ
إذا أثر.
م: (فإذا صلى الفجر يوم التروية بمكة خرج إلى منى) ش: يعني بعد طلوع
الشمس، وعند عمر ابن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى منى
قبل الزوال، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويستحب أن ينزل عند
مسجد الخيف م: (فيقيم بها) ش: أي بمنى م: (حتى يصلي الفجر من يوم عرفة)
ش: أي إلى أن يصلي الفجر الذي صبيحة يوم عرفة، وقال الرغيناني: يصلي
الفجر بمنى بغلس، وفي مناسك الكرماني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي
في وقته، وفي " الوتري " يصلي في وقته المعروف، فإذا طلعت الشمس على
ثبير وهو أعلى جبل بمنى راح إلى عرفة مع الناس وعليه السكينة والوقار،
وفي خزانة الأكمل يذهب إلى عرفة بعد صلاة الغداة.
م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى
الفجر يوم التروية بمكة، فلما طلعت الشمس راح إلى منى فصلى
(4/212)
«بمكة فلما طلعت الشمس راح إلى منى فصلى
بمنى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر ثم راح إلى عرفات» ولو
بات بمكة ليلة عرفات، وصلى بها الفجر ثم غدا إلى عرفات ومر بمنى أجزأه؛
لأنه لا يتعلق بمنى في هذا اليوم إقامة نسك، ولكنه أساء بتركه الاقتداء
برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: ثم يتوجه إلى
عرفات فيقيم بها لما روينا، وهذا بيان الأولوية، أما لو دفع قبله جاز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم راح إلى عرفات» ش: هذه
قطعة من حديث جابر الذي رواه مسلم مطولاً، وروى الترمذي وابن ماجه عن
إسماعيل بن مسلم عن عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر
والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم غدا إلى عرفات» وقال الترمذي:
وإسماعيل بن مسلم تكلموا فيه.
م: (ولو بات بمكة ليلة عرفة ثم صلى بها الفجر ثم غدا) ش: بالغين
المعجمة والدال المهملة من الغد، وهو الذهاب أول النهار م: (إلى عرفات
ومر بمنى) ش: يعني جازها ولم ينزل بها م: (أجزأه) ش: ولا شيء عليه
خلافاً للظاهرية م: (لأنه لا يتعلق بمنى في هذا اليوم إقامة نسك ولكنه
أساء بتركه الاقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-) ش: إساءة الأدب في تركه اتباعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وفي ترك العمل بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، وهو أيضاً قوله: «خذوا عني مناسككم» .
[الدفع من منى إلى عرفة]
[الجمع بين الصلاتين بعرفة وخطبة الإمام
بها]
م: (ثم يتوجه إلى عرفات) ش: هذا عطف على قوله فيقيم بها حتى يصلي الفجر
من يوم عرفة م: (فيقيم بها) ش: أي بعرفات م: (لما روينا) ش: إشارة إلى
قوله لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى
الفجر إلى آخره م: (وهذا) ش: أي الذهاب والتوجه إلى عرفات بعد طلوع
الشمس م: (بيان الأولوية) ش: يعني أولى من الذهاب قبل طلوع الشمس، وذكر
هذا القيد، أعني طلوع الشمس [....] . وقال تاج الشريعة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: ينبغي هذا القيد هنا، وقال الأترازي - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: كان هذا القيد تركه سهواً من الكاتب، وقال الأكمل: قال بعض
الشارحين ترك هذا القيد من الكاتب.
قلت: أراد به الأترازي، فإنه هكذا ذكره كما ذكرنا. م: (أما لو دفع قبله
جاز) ش: أي قبل طلوع الشمس إلى عرفات، وقال الأكمل: هذا إضمار قبل
الذكر، وكان من حق الكلام أن يقول ثم يتوجه إلى عرفات بعد طلوع الشمس
حتى يصبح بناء على قوله - أما لو دفع قبله عليه - وقال الكاكي مثله، ثم
قال ولكن اتبع لفظ الإيضاح، فإنه ذكر هنا الضمير بعد طلوع الشمس، حيث
قال - وإذا طلعت الشمس إلى أن قال: وإن دفع قبله جاز - انتهى.
قلت: هذا الجواب بطريق الاعتذار لا يحسن على ما لا يخفى، ولكن يمكن أن
يقال الإضمار قبل الذكر يقع كثيراً من الكلام إذا دلت عليه قرينة لفظية
أو حالية، وها هنا قد مضى
(4/213)
لأنه لا يتعلق بهذا المقام حكم، قال في
الأصل: وينزل بها مع الناس لأن الانتباذ تجبر، والحال حال تضرع،
والإجابة في الجمع أرجى، وقيل: مراده أن لا ينزل على الطريق كي لا يضيق
على المارة. قال: وإذا زالت الشمس يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر
فيبتدئ بالخطبة، فيخطب خطبة يعلم فيها الناس الوقوف بعرفة والمزدلفة
ورمي الجمار والنحر والحلق وطواف الزيارة، ويخطب خطبتين يفصل بينهما
بجلسة كما في الجمعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله فيما قبل هذا تعليل، فلما طلعت الشمس راح إلى منى، فيكون الضمير
في قوله - قبله - يرجع إلى الطلوع الذي يدل عليه لفظ طلعت، كما في قوله
سبحانه وتعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] [المائدة:
الآية 8] ، فالضمير يرجع إلى العدل الذي يدل عليه اعدلوا.
م: (لأنه لا يتعلق بهذا المقام حكم، قال في الأصل) ش: أي قال محمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط " م: (وينزل بها) ش: أي في عرفات م:
(مع الناس لأن الانتباذ) ش: أي الانفراد والعزلة م: (تجبر) ش: لأنه لا
يرى أحد مجاورة من تجبر وتكبر م: (والحال) ش: أي حال الحاج في هذا
الوقت م: (حال تضرع) ش: وسكينة م: (والإجابة في الجمع أرجى) ش: لأنه قد
يكون فيه من لا ترد دعوته.
م: (وقيل مراده) ش: أي مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من
قوله - وينزل مع الناس - م: (أي لا ينزل على الطريق كيلا يضيق على
المارة) ش: بتشديد الراء، أي الناس الذين يمرون في الطريق، وفي " فتاوى
الظهيرية " وينزل بعرفات في أي موضع شاء، إلا أنه لا ينزل على الطريق،
وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله والنزول بقرب جبل
الرحمة أفضل. وقال مالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ينزل ببطن
نمرة، والنزول فيه أفضل، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في
قول، قالوا نزل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، قلنا نمرة
بعرنة، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارتفعوا عن
بطن عرنة» ، ونزوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه لم يكن
عن قصد.
م: (وإذا زالت الشمس) ش: أي شمس يوم عرفة، وفي " الإيضاح " وإذا زالت
الشمس اغتسل إن أحب، وهو سنة وليس بواجب، كما في الجمعة والعيدين م:
(ويصلي الإمام بالناس الظهر والعصر فيبتدئ بالخطبة) ش: أي قبل الصلاة
م: (فيخطب خطبة يعلم فيها الناس الوقوف بعرفة، والمزدلفة) ش: هي المشعر
الحرام، وقال في " المطالع " من الازدلاف، ولأنها منزلة من الله وقربة
وقال الهروي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سميت بها لاجتماع الناس في زلفى
الليل، وقيل لازدلاف حواء وآدم فيها، أي لاجتماعهما ويسمى الجمع أيضاً
لاجتماع الناس فيها. ومزدلفة فوق منى من الجانب الشرقي، وعرفات فوق
مزدلفة من الجانب الشرقي أيضاً بميل إلى الجنوب، ومن مزدلفة إلى مسجد
عرفات ثلاثة أميال وإلى منى ثلاثة أميال.
م: (ورمي الجمار والنحر والحلق وطواف الزيارة، ويخطب خطبتين يفصل
بينهما بجلسة كما في
(4/214)
هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يخطب بعد
الصلاة، لأنها خطبة وعظ وتذكير، فأشبه خطبة العيد ولنا ما روينا، ولأن
المقصود منها تعليم المناسك والجمع منها، وفي ظاهر المذهب إذا صعد
الإمام المنبر فجلس أذن المؤذنون كما في الجمعة. وعن أبي يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يؤذن قبل خروج الإمام، وعنه أنه يؤذن بعد
الخطبة، والصحيح ما ذكرنا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما خرج واستوى على ناقته أذن المؤذنون بين يديه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجمعة، هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش:
يعني في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب بعرفة قبل صلاة الظهر» وصفة الخطبة كما ذكره
الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهي أن الإمام يحمد الله تعالى ويثني عليه
ويهلل ويكبر ويعظ الناس ويأمرهم بما يجب عليهم، وينهاهم عما نهاهم الله
تعالى عنه ويخبر الناس معالم حجهم وتلبيتهم، ثم يدعو الله تعالى بحاجته
ثم ينزل، وفي " الذخيرة " ويبدأ بالتكبير كخطبة العيد.
م: (وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يخطب بعد الصلاة، لأنها خطبة
وعظ وتذكير، فأشبه خطبة العيد. ولنا ما رويناه) ش: أشار به إلى قوله -
هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (ولأن
المقصود منها) ش: أي من الخطبة م: (تعليم المناسك) ش: من الوقوف بعرفة
والمزدلفة ورمي الجمار. م: (والجمع منها) ش: أي الجمع بين الصلاتين من
المناسك م: (وفي ظاهر المذهب: إذا صعد الإمام المنبر فجلس أذن المؤذنون
كما في الجمعة) ش: إنما قال كما في الجمعة، لأن رواية جابر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - تقتضي الأذان بعد الخطبة، ورواية أخرى تقتضي قبلها،
فتعارضت، يصير إلى القياس على الجمعة.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يؤذن قبل خروج الإمام) ش:
لأن هذا الأذان لأداء الظهر كما في سائر الأيام م: (وعنه) ش: أي وعن
أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه يؤذن بعد الخطبة) ش: وبه قال
مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وفي " البدائع " عن أبي يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاث روايات، وظاهر الرواية كقولهما وقول الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا فرغ من الخطبة الأولى يجلس جلسة خفيفة ثم يقوم
ويفتتح الخطبة الثانية، والمؤذنون يأخذون في الأذان معه، ويخفف بحيث
يكون فراغه من فراغ المؤذنين من الأذان.
م: (والصحيح ما ذكرنا) ش: أي الصحيح من المذهب ما ذكرنا وهو ظاهر
المذهب. قال الأكمل: وقال بعض الشارحين: ورواية أبي يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أنه يؤذن بعد الخطبة أصح عندي وإن كان على خلاف ظاهر الرواية
لما صح من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن بلالاً أذن بعد
الخطبة ثم أقام. قلت بعض الشارحين هو الأترازي، فإنه قال هذه المقالة.
م: (ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خرج واستوى
على ناقته أذن المؤذنون بين يديه) ش: هذا الحديث غريب جداً، والذي صح
من الحديث ما رواه أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " سننه " «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما زاغت الشمس أمر
بالقصواء فرحلت له، فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن
(4/215)
ويقيم المؤذن بعد الفراغ من الخطبة؛ لأنه
أوان الشروع في الصلاة فأشبه الجمعة. قال: ويصلي بهم الظهر، والعصر في
وقت الظهر بأذان وإقامتين، وقد ورد النقل المستفيض باتفاق الرواة
بالجمع بين الصلاتين، وفيما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاهما بأذان وإقامتين،
ثم بيانه أنه يؤذن للظهر، ويقيم للظهر، ثم يقيم للعصر؛ لأن العصر يؤدى
قبل وقته المعهود، فيفرد بالإقامة إعلاما للناس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم أقام، فصلى» الحديث رواه عن جابر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ويقيم المؤذن بعد الفراغ) ش: أي بعد فراغ الإمام م: (من الخطبة؛
لأنه أوان الشروع في الصلاة فأشبه الجمعة. قال: ويصلي بهم الظهر والعصر
في وقت الظهر بأذان وإقامتين) ش: ويخفي الإمام القراءة فيهما، لأنهما
ظهر وعصر، كما في سائر الأيام. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن شاء
صلى بإقامة من غير أذن، وبقولنا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو
ثور والثوري وأبو عبيد والطبري وابن الماجشون، وهو اختيار الأثرم وأبو
حامد من الحنابلة. وقال ابن قدامة وهو أول حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - الصحيح أنه صلى صلاتين بأذان وإقامتين، وهو حجة على مالك -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في اعتبار الأذانين، وفي هذه المسألة ستة
أقوال.
الأول: مذهبنا الذي ذكرنا الذي بأذان وإقامتين، وبه قال عطاء والظاهرية
والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في قول وأحمد، واختاره الطحاوي،
وبه قال زفر وأبو ثور.
والثالث: بأذانين وإقامتين، روي ذلك عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - ومحمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين وهل
بنية وهو رواية ابن مسعود.
والرابع: بإقامتين فقط، وروي ذلك عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - وسالم بن عبد الله وهو أحد قولي الثوري وأحمد والشافعي -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
والخامس: بإقامة واحدة من غير أذان، وبه قال الثوري وأبو بكر بن داود،
ورواية مقطع عن أحمد والسادس: بغير أذان ولا إقامة، روي ذلك عن ابن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (وقد ورد النقل المستفيض) ش: أي الشائع م: (باتفاق الرواة) ش: أي
رواة الحديث م: (بالجمع بين الصلاتين) ش: أي الظهر والعصر م: (وفيما
روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاهما بأذان
وإقامتين) ش: كذا في " صحيح مسلم " كما ذكر الآن م: (ثم بيانه أنه) ش:
أي أن المؤذن م: (يؤذن للظهر) ش: أي لأجل صلاة الظهر ثم م: (يقيم
للظهر، ثم يقيم للعصر؛ لأن العصر يؤدى قبل وقته المعهود) ش: لأنه يصلى
في وقت الظهر م: (فيفرد بالإقامة إعلاما للناس) ش: أي لأجل إعلام الناس
من أنه يصلي العصر.
(4/216)
ولا يتطوع بين الصلاتين تحصيلا لمقصود
الوقوف، ولهذا قدم العصر على وقته، فلو أنه فعل مكروها، وأعاد الأذان
للعصر في ظاهر الرواية، خلافا لما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛
لأن الاشتغال بالتطوع، أو بعمل آخر يقطع فور الأذان الأول، فيعيده
للعصر، فإن صلى بغير خطبة أجزأه؛ لأن هذه الخطبة ليست بفريضة.
قال: ومن صلى الظهر في رحله وحده، صلى العصر في وقته، عند أبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يجمع بينهما المنفرد؛ لأن جواز الجمع
للحاجة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يتطوع) ش: أي الإمام، وكذا القوم لا يتطوعون م: (بين الصلاتين)
ش: أي الظهر والعصر م: (تحصيلا لمقصود الوقوف) ش: أي بعرفة م: (ولهذا)
ش: أي ولأجل تحصيل المقصود بالوقوف م: (قدم العصر على وقته) ش: وقال
النووي يصلي السنن الراتبة، فيصلي أولاً سنة الظهر التي قبلها ثم يصلي
الظهر ثم العصر ثم سنة الظهر التي بعدها، ثم سنة العصر، ولا يتنفلون
بعد الصلاتين، ولم يسبح بهما ولا بعد واحدة منها، متفق عليه ولا فرق
بين جمع عرفة.
م: (فلو أنه فعل) ش: أي فلو أن الإمام تطوع ذلك اليوم م: (فعل مكروهاً،
وأعاد الأذان للعصر في ظاهر الرواية) ش: وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ - م: (خلافا لما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواه
ابن سماعة عنه أنه لا يعيد الأذان وتجزئه الإقامة، لأن الوقت قد جمعهما
فيكتفي بأذان كما في العشاء مع الوتر.
م: (لأن الاشتغال) ش: هذا تعليل وجه ظاهر الرواية، لأن اشتغال الإمام
م: (بالتطوع، أو بعمل آخر يقطع فور الأذان الأول) ش: أي اتصال الأذان،
يقال فلان فعل ذلك من فوره إذا أوصل الفعل بالآخر لا لبث بينهما م:
(فيعيده للعصر) ش: أي لأجل صلاة العصر م: (فإن صلى بغير خطبة أجزأه؛
لأن هذه الخطبة ليست بفريضة) ش: إذ هي ليست تخلف عن ركن بخلاف خطبة
الجمعة، فإنها خلف عن الركعتين.
م: (قال: ومن صلى الظهر) ش: وفي أكثر النسخ قال: أي القدوري - رَحِمَهُ
اللَّهُ - ومن صلى الظهر م: (في رحله) ش: أي في منزله حال كونه م:
(وحده صلى العصر في وقته) ش: يعني لا يجمع العصر مع الظهر م: (وهذا) ش:
أي هذا المذكور م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال
إبراهيم النخعي والثوري.
م: (وقالا: يجمع بينهما المنفرد) ش: كما يجمع بينهما الإمام، وبه قال
مالك والشافعي وأحمد وهو مروي عن ابن عمر وعائشة - رحمهما الله -،
وإليه ذهب عطاء وإسحاق وأبو ثور، وقال ابن حزم لو فاتته مع الإمام يفرض
عليه أن يجمع بينهما واحد م: (لأن جواز الجمع للحاجة إلى امتداد الوقوف
والمنفرد محتاج إليه) ش: لأن حال الوقوف حال تضرع واشتغال بالدعاء،
(4/217)
إلى امتداد الوقوف، والمنفرد محتاج إليه؛
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المحافظة على الوقت فرض بالنصوص
فلا يجوز تركه إلا فيما ورد الشرع به، وهو الجمع بالجماعة مع الإمام،
والتقديم لصيانة الجماعة؛ لأنه يعسر عليهم الاجتماع للعصر بعد ما
تفرقوا في الموقف لا لما ذكراه إذ لا منافاة، ثم عند أبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - الإمام شرط في الصلاتين جميعا. وقال زفر - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: في العصر خاصة؛ لأنه هو المغير عن وقته، وعلى هذا الخلاف
الإحرام بالحج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيحتاج إلى الامتداد مع ذلك المنفرد أيضاً محتاج إليه.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المحافظة على الوقت) ش: أي
على وقت الصلاة م: (فرض بالنصوص) ش: قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] [البقرة: الآية
238] وقال {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا} [النساء: 103] [النساء: الآية 103] أي فرضا موقتاً م: (فلا
يجوز تركه) ش: أي ترك الفرض الموقت م: (إلا فيما ورد الشرع به) ش: أي
بالترك م: (وهو الجمع بالجماعة مع الإمام) ش: أي ما ورد الشرع به هو
الجماعة مع الإمام م: (والتقديم لصيانة الجماعة) ش: هذا جواب عن
قولهما، تقريره لا نسلم أن جواز الجمع بالتقديم لامتداد الوقوف، بل
لصيانة الجماعة.
م: (لأنه يعسر عليهم الاجتماع للعصر بعد ما تفرقوا في الموقف) ش: لأن
الموقف موضع واسع ذو طول وعرض، ولا يمكنهم إقامة الجماعة إلا
بالاجتماع، وأنه متعذر في العادة فيجعل العصر لئلا تفوتهم فضيلة الصلاة
بالجماعة لحق الوقوف، لأن الجماعة تفوت لا إلى خلف، وحق الوقوف ينادي
قبل وبعد م: (لا لما ذكره) ش: أي التقديم لأجل الصيانة لا لأجل ما ذكر
أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -، وهو الحاجة إلى امتداد الوقوف م: (إذ
لا منافاة) ش: أي لأنه لا منافاة بين الصلاة والوقوف، لأن الوقوف لا
ينقطع بالاشتغال بالصلاة، كما لا ينقطع بالأكل والشرب والتوضي وغير
ذلك.
م: (ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الإمام شرط في الصلاتين
جميعا. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في العصر خاصة) ش: أي الإمام
شرط في العصر خاصة، ولم يذكر قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لأن
عندهما الإمام ليس بشرط أصلاً م: (لأنه هو المغير عن وقته) ش: أي لأن
العصر هو الذي غير عن وقته حيث قدم قبل وقته، بخلاف الظهر فإنه في
وقته، فجاز له أن يصلي العصر مع الإمام، وأن يصلي الظهر في منزله.
م: (وعلى هذا الخلاف الإحرام بالحج) ش: أي الخلاف الذي قلنا في الإمام
أنه شرط في الصلاتين عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وشرط عند زفر
في العصر وحده الإحرام بالحج، قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
الإحرام بالحج شرط فيهما جميعا حتى إذا صلى الظهر مع الإمام وهو حلال
من أهل مكة ثم أحرم للحج فإنه يصلي العصر لوقته، ولا يجوز كقول زفر،
كذا في
(4/218)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن
التقديم ورد على خلاف القياس عرفت شرعيته فيما إذا كان العصر مرتبة على
ظهر مؤدى بالجماعة مع الإمام في حالة الإحرام بالحج فيقتصر عليه، ثم لا
بد من الإحرام بالحج قبل الزوال في رواية تقديما للإحرام على وقت
الجمع، وفي أخرى يكتفي بالتقديم على الصلاة؛ لأن المقصود هو الصلاة.
قال: ثم يتوجه إلى الموقف فيقف بقرب الجبل، والقوم معه عقيب انصرافهم
من الصلاة؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - راح إلى
الموقف عقيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولأبي حنيفة أن التقديم) ش: أي تقديم العصر قبل وقته م: (ورد على
خلاف القياس عرفت شرعيته) ش: أي عرفت مشروعيته، وفي بعض النسخ عرفنا
شرعيته م: (فيما إذا كان العصر مرتبة على ظهر مؤدى بالجماعة مع الإمام
في حالة الإحرام بالحج فيقتصر عليه) ش: أي على مورد النص، وإنما قيد
الإحرام بالحج لما روى محمد عن أبي حنيفة - رحمهما الله - أنه كان حين
صلى الظهر مع الإمام محرماً بالعمرة ثم أحرم بالحج قبل العصر لم يجزئه،
لأن إحرام العمرة لا تأثير له في جواز الجمع، فوجوده وعدمه سواء.
م: (ثم لا بد من الإحرام بالحج قبل الزوال) ش: أي لا بد في جواز الجمع
بين الصلاتين بأن يكون محرماً من قبل الزوال، لأن الإحرام شرط جواز
الجمع، وشرط الشيء يسبقه، ولهذا لا يجوز الجمع قبل الزوال، م: (في
رواية تقديما) ش: أي لأجل التقديم م: (للإحرام على وقت الجمع) ش: تحقيق
وجه هذه الرواية أن بالزوال يدخل وقت الجمع، ويختص بهذا الجمع المحرم
بالحج، فيشترط تقديم الإحرام على الحج قبل الزوال.
م: (وفي أخرى) ش: أي وفي رواية أخرى م: (يكتفي بالتقديم) ش: أي بتقديم
الإحرام م: (على الصلاة لأن المقصود هو الصلاة) ش: أي لأن المصنف اشترط
الإحرام هو لأجل الصلاة لا لأجل الوقت، حتى إن الحلال لو صلى الظهر مع
الإمام ثم أحرم فصلى العصر أو المحرم بالعمرة صلى مع الإمام ثم أحرم
بالحج فصلى العصر معه لم تجز العصر إلا في وقتها.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ثم يتوجه) ش: أي الإمام م: (إلى الموقف) ش:
بكسر القاف م: (فيقف بقرب الجبل) ش: أي الجبل الذي يسمى جبل الرحمة،
وهو الجبل الذي بوسط عرفات، يقال له ألال على وزن هلال، والجوهري فتح
همزته. وقال النووي المعروف كسرها، وذهب ابن جرير والماوردي إلى أنه
يستحب الوقوف على جبل الرحمة الذي هو بوسط عرفات، ويقال له جبل الدعاء،
قيل هو موقف الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. وقال النووي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا أصل له إذ لم يرد به حديث صحيح ولا ضعيف،
والصواب الاعتناء بموقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-.
م: (والقوم معه) ش: أي يتوجه القوم مع الإمام م: (عقيب انصرافهم من
الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راح إلى
الموقف عقيب الصلاة) ش: كما في حديث جابر الذي رواه مسلم مطولاً.
(4/219)
الصلاة، والجبل يسمى جبل الرحمة، والموقف
للموقف الأعظم.
قال: وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «عرفات كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها
موقف، وارتفعوا عن وادي محسر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والجبل يسمى جبل الرحمة والموقف) ش: أي ويسمى الموقف م: (للموقف
الأعظم) ش:
[حدود عرفة]
م: (قال: وعرفات كلها موقف) ش: أي موضع منها وقف جاز م: (إلا بطن عرنة)
ش: بضم العين المهملة وفتح الراء والنون. قال في " ديوان الأدب " عرنة
واد في عرفات، وعامة أهل العلم على هذا الاستثناء، وشذ مالك فجوز
الوقوف ببطن عرنة ووجب معه ما قال عياض، روى ابن المنذر عنه أنه لم
يثبته في حديث جابر الطويل كما لو أثبت الاستثناء في حديث ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو الذي ذكره المصنف بقوله - إلا بطن
عرنة - م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «عرفات كلها موقف،
وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن وادي محسر» ش:
هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهم ابن
عباس وجابر وجبير بن مطعم وابن عمرو وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -، فحديث ابن عباس أخرجه الطبراني في " معجمه " من حديث ابن
أبي مليكة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفوعاً نحو ما
ذكر في الكتاب.
وحديث جابر عند ابن ماجه ولفظه قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كل عرفة موقف وارتفعوا عن بطن عرنة، وكل
المزدلفة موقف وارتفعوا عن بطن محسر، وكل منى منحر إلا ما وراء العقبة»
. وفي سنده القاسم بن عبد الله بن عمر العمري متروك.
وحديث جبير بن مطعم عند أحمد ولفظه كل عرفات موقف وارتفعوا عن عرنة،
وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن وادي محسر، وكل فجاج منى منحر، وكل أيام
التشريق ذبح.
وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عند ابن عدي في " الكامل "
بلفظ حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وحديث أبي هريرة عنده
أيضاً، وفي سنده يزيد بن عبد الملك النوفلي، وعن
(4/220)
قال: وينبغي للإمام أن يقف بعرفات على
راحلته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف على
ناقته، وإن وقف على قدميه جاز، والأول أفضل لما بينا. وينبغي أن يقف
مستقبل القبلة) لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقف
كذلك، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المواقف
ما استقبلت به القبلة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النسائي أنه متروك.
ومحسر بكسر السين المهملة المشددة، هو بين مكة وعرفات عن يسار الموقف،
وقيل رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشيطان في بطن
عرنة، فنهى عن الوقوف فيه، فكان هذا نظير النهي عن الصلاة في الأوقات
المكروهة الثلاث. وقال بعضهم كانوا ينكرون وينزلون منزلين عن الناس في
بطن عرنة وبطن محسر.
[آداب وسنن الوقوف بعرفة]
م: (قال: وينبغي للإمام أن يقف بعرفة على راحلته) ش: وهي من الإبل
والبعير القوي على الأٍسفار والأحمال، الذكر والأنثى فيه سواء والهاء
فيه للمبالغة وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وتمام
الخلق وحسن المنظر، فإذا كان في جماعة الإبل عرفت م: (لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف على ناقته) ش: هذا من حديث
جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى
الصخيرات، وجعل خيل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة» .. الحديث.
يقال ناقة قصوءا إذا قطع طرف أذنها، ولا يقال جمل أقصى، إنما يقال جمل
قصوى على خلاف القياس، وقال ابن دريد في " الجمهرة " القصواء اسم ناقة
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (وإن وقف) ش: أي الإمام م: (على قدميه جاز) ش: لحصول المقصود م:
(والأول أفضل) ش: أي للوقوف على الراحلة أفضل م: (لما بينا) ش: أشار به
إلى قوله - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف على
ناقته - م: (وينبغي أن يقف مستقبل القبلة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف كذلك) ش: هذا أيضاً في حديث جابر الطويل.
م: (وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المواقف
ما استقبلت» ش: هذا حديث غريب بهذا اللفظ، وأخرج الحاكم في " مستدركه "
عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن لكل شيء شرفاً، وإن أشرف المجالس ما
استقبل» م: (به القبلة) ش: الحديث بطوله وسكت عنه الحاكم وفي سنده هشام
بن زياد قال الذهبي في " مختصره " هو متروك، وروى أبو يعلى الموصلي في
" مسنده " والطبراني في " معجمه الأوسط " من حديث حمزة بن أبي حمزة
النصيبي
(4/221)
ويدعو، ويعلم الناس المناسك، لما روي «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو يوم عرفة مادا
يديه، كالمستطعم المسكين» ويدعو بما شاء، وإن وردت الآثار ببعض
الدعوات، وقد أوردنا تفاصيلها في كتابنا المترجم " بعدة الناسك في عدة
من المناسك " بتوفيق الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكرم المجالس ما استقبل به
القبلة» ، ورواه ابن عدي في " الكامل "، وأعله بحمزة النصيبي، وقال إنه
يقف الحديث. ورواه أبو نعيم الأصبهاني في " تاريخ أصبهان " في باب
العين المهملة من حديث ابن الصلت عن ابن شهاب عن نافع مرفوعاً «خير
المجالس ما استقبل به القبلة» .
م: (ويدعو) ش: وهو بالنصب عطف على قوله - أن يقف - أي يدعو الإمام م:
(ويعلم الناس المناسك) ش: بنصب يعلم أيضاً عطفا على المنصوب الذي قبله
م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو
يوم عرفة مادا يديه، كالمستطعم المسكين» ش: هذا الحديث رواه البيهقي في
" سننه «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رأيته - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو بعرفة مادا يديه كالمستطعم المسكين»
ورواه البزار في " مسنده " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
عن «الفضل رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
واقفاً بعرفة ماداً يديه كالمستطعم، أو كلمة نحو المستطعم» وفي تقديم
المستطعم الذي هو صفة فائدة، وفي المبالغة في تحقق المد، فإن الشبهة
حينئذ إنما تحصل بحالة الاستطعام، وهي حال الاحتياج.
م: (ويدعو بما شاء) ش: من الأدعية بحسب ما تيسر له ويكثر من الدعاء في
هذا اليوم إلى أن تغرب الشمس ويلبي ساعة فساعة في أثناء الدعاء ويدعو
الله بحاجته الدينية والدنيوية فإنه مستجاب غير مردود ويجتهد أن تقطر
من عينه قطرات من الدمع، فإنه دليل القبول والإجابة، ويدعو لأبويه
ولأهله ولإخوانه ولأصحابه ومعارفه وجيرانه، ويلح في الدعاء مع قوة
الرجاء للإجابة ولا يقتصر فيه. م: (وإن وردت الآثار ببعض الدعوات) ش:
كلمة إن واصلة بما قبلها، ذلك لأن كل الناس ما يقدرون على حفظ الدعوات،
وهذا الدعاء مبناه على اليسير، ومن الأدعية المأثورة في هذا اليوم ما
رواه الترمذي في " جامعه " مسندا إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء يوم
عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» م: (وقد أوردنا تفاصيلها)
ش: أي تفاصيل الدعوات م: (في كتابنا المترجم) ش: أي المسمى م: (بعدة
الناسك) ش: بضم العين، الناسك السلاح م: (في عدة) ش: بكسر العين من
العدد م: (المناسك بتوفيق الله عز وجل) ش: بين العدة والعدة وبين
الناسك والمناسك جناس.
(4/222)
قال: وينبغي للناس أن يقفوا بقرب الإمام؛
لأنه يدعو، ويعلم، فيعوا، ويسمعوا، وينبغي أن يقف الحاج وراء الإمام
ليكون مستقبل القبلة، وهذا بيان الأفضلية لأن عرفة كلها موقف على ما
ذكرنا. قال: ويستحب أن يغتسل قبل الوقوف بعرفة ويجتهد في الدعاء. أما
الاغتسال فهو سنة، وليس بواجب، ولو اكتفى بالوضوء جاز كما في الجمعة
والعيدين، وعند الإحرام. وأما الاجتهاد فلأنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتهد في الدعاء في هذا الموقف لأمته فاستجيب له
إلا في الدماء والمظالم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: وينبغي للناس أن يقفوا بقرب الإمام؛ لأنه يدعو، ويعلم، فيعوا)
ش: أي فيحفظوا من الوعي، أصله يوعيوا، حذفت الواو لوقوعها بين الياء
والكسرة، واستثقلت الضمة على الياء، فحذفت بعد سلب حركتها إلى ما قبلها
م: (ويسمعوا) ش: حذفت النون منه ومن قوله - فيعوا - علامة للنصب،
لأنهما معطوفان على قوله - أن يقفوا - الذي سقط منه النون لأجل الناصب.
م: (وينبغي أن يقف وراء الإمام ليكون مستقبل القبلة) ش: لأن وجه الإمام
إلى القبلة، فشكل من يقف وراءه أن يكون مستقبل القبلة م: (وهذا) ش: أي
وقوف الحاج وراء الإمام م: (بيان الأفضلية لأن عرفة كلها موقف) ش: ففي
أي موضع من عرفة وقف جاز م: (على ما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرفة كلها موقف إلى آخره.
م: (قال: ويستحب أن يغتسل قبل الوقوف ويجتهد في الدعاء. أما الاغتسال
فإنه سنة، وليس بواجب) ش: إنما قال أولاً ويستحب أن يغتسل، ثم قال أما
الاغتسال فهو سنة، لأنه في صدد الشرح لكلام القدوري، فإنه قال يستحب أن
يغتسل فنقله ثم قال: إنه سنة وكل سنة مستحبة من غير عكس، وقيد بقوله -
وليس بواجب - لدفع وهم من يتوهم أن الاغتسال سنة مؤكدة، وهي كالواجب في
القوة، وما رأيت أحداً من الشراح نبه لمثل هذا الدعاء.
م: (ولو اكتفى بالوضوء جاز كما في الجمعة والعيدين، وعند الإحرام. وأما
الاجتهاد فلأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي ولأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (اجتهد في الدعاء في
هذا الموقف لأمته فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم) ش: هذا أخرجه ابن
ماجه في " سننه " عن عبد القاهر بن السري عن عبد الله بن كنانة بن عباس
بن مرداس عن أبيه كنانة عن أبيه عباس بن مرداس «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب أني
قد غفرت لهم ما خلا المظالم، فإني آخذ للمظالم، قال رب إن شئت أعطيت
المظلوم الجنة وغفرت للظالم، فلم يجبه، عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة
أعاد الدعاء، فأجيب بما سأل، فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، أو قال فتبسم فقال أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - بأبي أنت وأمي إن هذه ساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي
أضحكك أضحك الله سنك، قال: " إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد
استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثو على رأسه ويدعو بالويل
والثبور فأضحكني ما رأيت من جزعه» .
(4/223)
ويلبي في موقفه ساعة بعد ساعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه الطبراني في " معجمه " عن ابن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وأبي
يعلى الموصلي في " مسنده "، ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله بكنانة،
وأسند عن البخاري أنه قال: كنانة روى عنه ابنه أنه لم يصح، وقال ابن
حبان في كتاب " الضعفاء " كنانة بن العباس بن مرداس السلمي يروي عن
أبيه، وروي عنه أنه منكر الحديث جدا، ولا أدري التخليط في حديثه منه أو
من أبيه أو من أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج بما روى، وذلك لعظم ما أتى
من المناكير عن المشاهير.
وروى ابن الجوزي في " الموضوعات " من طريق الطبراني حدثنا إسحاق بن
إبراهيم المدبري حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عمن سمع عن قتادة يقول:
حدثنا خلاس بن عمرو عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة:
" أيها الناس إن الله تطول عليكم في هذا اليوم فغفر لكم إلا التبعات
فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى لمحسنكم ما سأل فارفعوا بسم
الله، وإبليس وجنوده واقف على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم،
فإذا نزلت المغفرة دعا هو وجنوده بالويل والثبور» ثم قال هذا حديث لا
يصح، والراوي عن قتادة مجهول.
وخلاس ليس بشيء، قال أيوب لا يروى عنه فإنه ضعيف، قوله - إلا في الدماء
- جمع دم، والمظالم جمع ملظمة وهو الظلم المتعلق بحق العباد بها، أما
في حق الدم الذي وجب قصاصاً فلعجز صاحبه عن الاستغفار. وأما في حق
المظالم التي وجبت لبعضهم على بعض فلعجز صاحبه عن الانتصاب وقيل توقف
دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة في الدماء
والمظالم إلى المزدلفة فاستجيب له فيها في الدماء والمظالم أيضا.
وفي الروحي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تطول على أهل عرفة
فباهى بأهل عرفة يوم عرفة فيقول انظروا يا ملائكتي أي انظروا إلى عبادي
شعثاً غبراً أقبلوا يضربون إلي من كل فج عميق فاشهدوا أني قد غفرت لهم
إلا التبعات التي بينهم "، قال ثم إن القوم أفاضوا من عرفات إلى جمع
قال يا ملائكتي انظروا إلى عبادي وقفوا وعادوا في الطلب والرغبة
والمسألة اشهدوا أني قد وهبت مسيئهم لمحسنهم وتحملت عنهم التبعات التي
بينهم» رواه أبو ذر عن ابن أحمد الهروي في " منسكه ".
م: (ويلبي في موقفه ساعة بعد ساعة) ش: قال الأكمل يعني يستديم ذلك إلى
أن يرمي أول
(4/224)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
يقطع التلبية كما يقف بعرفة لأن الإجابة باللسان قبل الاشتغال
بالأركان. ولنا: ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة؛» ولأن التلبية فيه كالتكبير في
الصلاة فيأتي بها إلى آخر جزء من الإحرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حصاة من العقبة.
قلت: ليس المراد أن يستمر على التلبية وحدها، بل يلبي ويكبر ويهلل،
ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتكون التلبية
في أثناء ذلك من غير انقطاع، وذلك لأن التلبية في الإحرام كالتكبير في
الصلاة، ولهذا يؤتى في الانتقالات واختلاف الأحوال، كما في التكبير في
الصلاة كما يتخلل بين التكبيرات في الصلاة بأشياء، فكذلك ينبغي أن
يتخلل بين التلبية بالتكبير والتهليل والصلاة على النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيؤتى بالتلبية إلى آخر جزء من الإحرام،
وروى الفضل بن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» متفق عليه.
م: (وقال مالك: يقطع التلبية كما يقف بعرفة؛ لأن الإجابة باللسان قبل
الاشتغال بالأركان) ش: مبنى هذا الكلام أن التلبية إجابة اللسان،
والإجابة باللسان قبل الاشتغال بالأركان كتكبيرة الافتتاح في الصلاة.
م: (ولنا: ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما
زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في
كتبهم عن الفضل بن عباس وقد ذكرناه الآن، وهو قول ابن مسعود وابن عباس
وعطاء وطاووس والنخعي وابن أبي ليلى والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق
وقالوا يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، ويقطعها مع أول حصاة يرميها.
وعند أحمد وإسحاق والظاهرية يقطعها إذا رمى الحصيات السبع بأسرها. وعن
علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقطعها إذا زاغت
الشمس من يوم عرفة.
م: (ولأن التلبية فيه) ش: أي في الحج م: (كالتكبير في الصلاة فيأتي
بها) ش: أي بالتلبية م: (إلى آخر جزء من الإحرام) ش: وهو يكون عند رمي
جمرة العقبة، وكان القياس أن تكون التلبية إلى آخر الحج، إلا أن القياس
ترك فيما بعد الرمي بعد الإجماع، فبقي ما رواءه على أصل القياس،
والقارن مثل المفرد بالحج في قطعه التلبية.
وقال الكرخي: يقطع التلبية في أول حصاة في حجه الفاسد، وأما المحرم
بالعمرة فإنه يقطع التلبية حين يستلم الحجر الأسود عندنا، وعند مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا رأى البيت. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
والذي يفوته الحج يتحلل بعمرة ويقطع التلبية حين يأخذ في الطواف الذي
يتحلل به، ويقطع المحصر التلبية إذا ذبح هديه، لأنه أبيح له التحلل.
(4/225)
قال: وإذا غربت الشمس أفاض الإمام، والناس
معه على هينتهم حتى يأتوا المزدلفة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع بعد غروب الشمس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال القدوري في " شرحه " فإن حلق الحاج قبل أن يرمي جمرة العقبة قطع
التلبية لأنه تحلل من الإحرام، والتلبية لا تثبت بعد التحلل، قال: فإن
زالت الشمس قبل أن يرمي أو يذبح أو يحلق قطع التلبية في قول أبي حنيفة
ومحمد - رحمهما الله - رواه هشام. وروى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن
أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: يلبي ما لم يحلق، أو تزول
الشمس من يوم النحر، وروى ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن
من لم يرم قطع التلبية إذا غربت الشمس يوم النحر.
أما إذا ذبح قبل أن يرمي فقد ذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هشاما
روى عن أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أنه يقطع التلبية لأنه تحلل
بالذبح، وروى ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يقطعها ما
لم يرم أو يحلق، وقال الحسن عن أبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
أنه يقطع التلبية لأنه تحلل بالذبح إنما يقطع التلبية بالذبح، القارن
والمتمتع، وأما إذا ضحى المفرد لم يقطعها، لأن تحلله لم يقف على ذبحه.
[الإفاضة من عرفات بعد غروب الشمس]
م: (قال: وإذا غربت الشمس) ش: أي يوم عرفة م: (أفاض الإمام) ش: أي رجع،
وإنما قال أفاض اتباعاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] [البقرة: الآية 198) م: (والناس معه على
هينتهم) ش: أي غير مسرعين، بل على السكينة والوقار، وقال - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس البر في إيجاف الخيل ولا في إيضاع
الإبل، فعليكم بالسكينة والوقار» . الإيجاف بالجيم نوع من سير الخيل
والإيضاع انشراح الخيل في السير، وفي " المبسوط " زعم بعض الناس أن
الإيضاع سنة، وإنا نقول به، وتأويل ما روي أن راحلته - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت في ذلك الموضع فنخسها فانبعثت كعادة الدواب
لا أنه قصد الإيضاع.
م: (حتى يأتوا المزدلفة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دفع بعد غروب الشمس) ش: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي
وابن ماجه من حديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
«وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة، فقال: "
هذه عرفة وعرفة كلها موقف "، ثم أفاض حين غربت الشمس» .. الحديث.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، «وفي حديث جابر الطويل - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، إلى أن قال ودفع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد سبق القصواء» .. الحديث.
وفي حديث أسامة رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل «كنت ردف رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما وقعت الشمس دفع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
(4/226)
ولأن فيه إظهار مخالفة المشركين. وكان
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشي على راحلته في
الطريق على هينته، فإن خاف الزحام فدفع قبل الإمام، ولم يجاوز حدود
عرفة أجزأه؛ لأنه لم يفض من عرفة والأفضل أن يقف في مقامه كيلا يكون
آخذا في الأداء قبل وقتها، فلو مكث قليلا بعد غروب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن فيه) ش: أي في الدفع بعد غروب الشمس م: (إظهار مخالفة
المشركين) ش: فإنهم كانوا يدفعون من عرفة قبل طلوع الشمس، وقال
الأترازي «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشية
يوم عرفة قال: أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر، وإن أهل الشرك
والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل غروب الشمس حين يقوم بها رؤوس
الجبال، كأنها عام الرحال في وجوههم وإنا ندفع فلا تعجلوا، فدفع بعد
غروب الشمس» انتهى.
قلت: هذا الحديث رواه الحاكم في " المستدرك " من حديث المسور بن مخرمة
قال: «خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات»
.. الحديث، ثم قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال فقد
صح بهذا سماع المسور بن مخرمة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، لا كما يتوهمه رعاع أصحابنا أن له رواية بلا سماع، وهذا
رواه الشافعي والبيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً، والعجب من الأترازي
مع دعواه الفريضة كيف يذكر الحديث بصيغة التمريض.
م: (وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشي على راحلته
في الطريق على هينته) ش: - في الطريق - أي في طريق المزدلفة. وفي حديث
جابر الطويل قال: «دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وقد شق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله وهو يقول بيده
اليمنى: أيها الناس السكينة» ... الحديث.
م: (فإن خاف الزحام) ش: أي وإن خاف الحاج إلحاق الزحام، أي زحمة الناس
م: (فدفع قبل الإمام، ولم يجاوز حدود عرفة أجزأه) ش: كذا إذا كان به
علة فدفع قبل الإمام م: (لأنه لم يفض من عرفة) ش: بضم الياء وكسر الفاء
من الإفاضة، وهو الدفع من عرفات، م: (والأفضل أن يقف في مقامه كيلا
يكون آخذا في الأداء قبل وقتها) ش: أي قبل وقت الإفاضة وفيه إشارة إلى
أنه إن جاوز عرفة قبل الإمام وقبل غروب الشمس وجب عليه الدم، ولكن إن
عاد إلى عرفة قبل الغروب ثم دفع مع الإمام منها بعد الغروب سقط عنه
الدم.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يسقط، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - يسقط صححه الكرخي، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، وإن عاد بعد
غروب الشمس لم يسقط بالاتفاق، ولو ند بعيره فتبعه حتى خرج من عرفات إذا
أخرجه بعيره فعليه دم، ولا يسقط بالعود، كذا في " المحيط " و " خزانة
الأكمل "، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أحفظ فيه شيئاً عن
أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولو مكث قليلا بعد غروب الشمس وإفاضة الإمام لخوف الزحام فلا بأس
به) ش: وكذا
(4/227)
الشمس، وإفاضة الإمام لخوف الزحام فلا بأس
به؛ لما روي أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بعد إفاضة الإمام دعت
بشراب فأفطرت ثم أفاضت.
قال: وإذا أتى مزدلفة فالمستحب، أن يقف بقرب الجبل الذي عليه الميقدة
يقال له: قزح لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف عند
هذا الجبل، وكذا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويتحرز في النزول عن
الطريق كيلا يضر بالمارة فينزل عن يمينه أو يساره، ويستحب أن يقف وراء
الإمام لما بينا في الوقوف بعرفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخوف علة من العلل م: (لما روي أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
بعد إفاضة الإمام دعت بشراب فأفطرت ثم أفاضت) ش: هذا رواه ابن أبي شيبة
في " مصنفه "، حدثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت تدعو بشراب تفطر ثم تفيض.
[المبيت بالمزدلفة]
[جمع المغرب والعشاء بمزدلفة]
م: (وإذا أتى مزدلفة فالمستحب أن يقف بقرب الجبل الذي عليه الميقدة) ش:
بكسر الميم، موضع كان أهل الجاهلية يوقدون عليه النار، يقال لذلك الجبل
قزح، بضم القاف كذا في " المغرب "، وقيل إنها كانون آدم - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (يقال له: قزح) ش: أي يقال لذلك الجبل
قزح، بضم القاف وفتح الزاي وبالحاء المهملة، وهو غير منصرف للعدل
والعلمية، كذا قاله الكاكي.
قلت: هو عدل تقديري، كأنه معدول عن قازح كزفر عن زافر، وفي الحديث لا
يقول قوس قزح من أسماء الشياطين، قيل سمي بقزح لتسويله الناس بحثه إلى
المعاصي من القزح وهو الجنين، وقيل من القزح وهو الطريق والألوان التي
في القوس الواحدة قزحة، ويمكن هذا أيضاً يسمى الجبل به لكونه ذات طرائق
وألوان.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف عند هذا
الجبل) ش: يعني جبل قزح رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبيد الله
بن أبي رافع عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - واللفظ للترمذي قال:
«وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة ... »
الحديث، فلما أصبح أتى قزح فوقف عليه، وروى الحاكم في المستدرك عن جابر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: حين وقف بعرفة هذا الموقف، وكل عرفة موقف» وقيل حين
وقف على قزح قال هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف.
م: (وكذا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي وكذا وقف عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - على قزح، وهذا غريب يعني ليس له أصل. م: (ويتحرز في
النزول عن الطريق كيلا يضر بالمارة فينزل عن يمينه أو يساره) ش: وقال
الكرخي: وإذا جاء الإمام المزدلفة، وهي المشعر الحرام، وهي التي أقصيت
من وادي عرفات إلى بطن محسر فانزل بها حيث شئت عن يمين الطريق وعن
يساره، ولا تنزل على جادة الطريق فتؤذي الناس، وذلك لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن
محسر» وأما النزول على الطريق فهو ممنوع بالمزدلفة وغيرها، لأنه يقطع
الناس عن الاجتياز.
م: (ويستحب أن يقف) ش: أي الحاج م: (وراء الإمام لما بينا في الوقوف
بعرفة) ش: أشار به
(4/228)
قال: ويصلي الإمام بالناس المغرب والعشاء
بأذان وإقامة واحدة. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بأذان وإقامتين
اعتبارا بالجمع بعرفة. ولنا رواية جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جمع بينهما بأذان،
وإقامة واحدة؛» ولأن العشاء في وقته فلا يفرد بالإقامة إعلاما، بخلاف
العصر بعرفة لأنه مقدم على وقته، فأفرد بها لزيادة الإعلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى قوله - لأنه يدعو ويعلم فيعوا ويسمعوا - م: (قال: ويصلي الإمام
بالناس المغرب والعشاء بأذان وإقامة واحدة) ش: وفي أكثر النسخ قال:
ويصلي الإمام، أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره.
م: (وقال زفر: بأذان وإقامتين اعتبارا بالجمع بعرفة) ش: أي قياساً
عليه، واختاره الطحاوي وبه قال الشافعي في قول وأبو ثور وابن الماجشون
المالكي، وفي قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإقامتين دون الأذان.
م: (ولنا رواية جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بينهما بأذان وإقامة واحدة) ش: أي
جمع بين المغرب والعشاء بأذان وإقامة واحدة، يعني في المزدلفة، وهذا
رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا حاتم بن إسماعيل عن محمد بن جعفر
بن محمد عن جابر بن عبد الله قال: «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب والعشاء يجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ولم
يسبح بينهما» وهذا حديث غريب، فإن الذي في حديث جابر الطويل عند مسلم
أنه صلاهما بأذان وإقامتين وبلفظه «ثم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب
والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً» .. الحديث. وعند
البخاري أيضاً عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «جمع النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المغرب والعشاء، يجمع كل
واحد بينهما بإقامة ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدة بينهما» وهذا
مخالف لرواية ابن أبي شيبة. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
والترجيح لقولنا بأن نقول إن حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
مضطرب كما ترى، لأنه حدث في رواية بأذان وإقامتين، وفي رواية بأذان
وإقامة.
قلت: إنما يصح الحكم بالاضطراب لو كانت زيادة روايته مخرجتين في "
الصحيح "، والرواية التي تخبر بأذان واحد وإقامة واحدة ليست في "
الصحيح ".
م: (ولأن العشاء في وقته) ش: أي مؤداة في وقته م: (فلا يفرد بالإقامة
إعلاما) ش: أي لأجل الإعلام، لأنه معلوم في جميع أهل الموقف م: (بخلاف
العصر بعرفة؛ لأنه) ش: أي لأن العصر م: (مقدم على وقته فأفرد بها) ش:
أي بالإقامة م: (لزيادة الإعلام) ش: فإن قلت: يرد عليكم الفوائت لأنه
إن شاء أذن وأقام لكل صلاة، وإن شاء اقتصر على الإقامة، فينبغي أن يكون
هذا كذلك.
(4/229)
ولا يتطوع بينهما؛ لأنه يخل بالجمع، ولو
تطوع، أو تشاغل بشيء أعاد الإقامة لوقوع الفصل، وكان ينبغي أن يعيد
الأذان أيضا كما في الجمع الأول بعرفة إلا أنا اكتفينا بإعادة الإقامة،
لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى المغرب
بمزدلفة ثم تعشى ثم أفرد الإقامة للعشاء» ولا تشترط الجماعة لهذا الجمع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الفوائت كل واحد منها صلاة على حدة فينفرد كل منهما بالإقامة،
بخلاف الصلاتين بالمزدلفة، فإنهما صارتا كصلاة واحدة، بدليل أنه لا
يجوز التطوع بهما، فلأجل هذا أفرد كل واحدة بالإقامة.
م: (ولا يتطوع بينهما) ش: أي بين المغرب والعشاء بالمزدلفة م: (لأنه
يخل بالجمع) ش: ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم
يتطوع بينهما م: (ولو تطوع) ش: أي بينهما م: (أو تشاغل بشيء) ش: مثل
التعشي وافتقار النية ونحو ذلك م: (أعاد الإقامة لوقوع الفصل) ش:
فيحتاج إلى إعلام آخر. قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال شيخي
العلامة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسوي بين التطوع والتعشي والتشاغل بشيء
آخر في إعادة الإقامة، وهو يوافق ما ذكر في " المبسوط "، ولكن اشترط في
" المبسوط " الأسبيجابي، الذي اختصره في " مبسوط " البزدوي إلى إعادة
الإقامة، وإلى إعادة الأذان والإقامة في النفس وغيره.
م: (وكان ينبغي أن يعيد الأذان أيضا) ش: لقول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -
م: (كما في الجمع الأول) ش: أي كما يعيد الأذان أيضاً في الجمع الأول،
وهو الجمع بين الظهر والعصر بعرفة م: (إلا أنا اكتفينا بإعادة الإقامة،
لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى المغرب
بمزدلفة ثم تعشى) ش: أي أكل العشاء م: (ثم أفرد الإقامة بالعشاء) ش: أي
بصلاة العشاء، وهذا الحديث غريب، وتمثيله بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مشكل لأنه قد ذكر أولاً قبل هذا أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بأذان وإقامة واحدة، واحتج به
على زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إفراد الإقامة، وكان ذلك هو الثابت
الصحيح عنده ضرورة، وبعد ثبوته لا يمكنه التمثيل بما ذكره بعد، لأنه لم
يصح ولم يثبت، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحج إلا
مرة واحدة، فكيف يستدل به؟!
فإن قلت: هذه صورة التعارض فيحمل كل واحد على حالته.
قلت: لا يمكن هذا هاهنا لأنا ننفي صحة الحديث الذي ذكره، فمن أين يأتي
التعارض حتى يوفق بينهما بذلك. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا
ترجحت، أعني الرواية المروية في " الصحيح " انتفت الأخرى، وحملت على
سهو الراوي فلا يصح التمسك به انتهى.
قلت: فلأجل ذلك اختار الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مذهب زفر -
رَحِمَهُ اللَّهُ - لصحة دليله وترك الرواية الأخرى.
م: (ولا تشترط الجماعة لهذا الجمع) ش: أي الجمع الذي في المزدلفة.
(4/230)
عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن
المغرب مؤخرة عن وقتها، بخلاف الجمع بعرفة لأن العصر مقدم على وقته.
قال: ومن صلى المغرب في الطريق لم تجزئه عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما
الله -، وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: يجزيه، وقد أساء، وعلى هذا الخلاف إذا صلى بعرفات. ولأبي
يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه أداها في وقتها فلا تجب عليه إعادتها
كما بعد طلوع الفجر، إلا أن التأخير من السنة فيصير مسيئا بتركه. ولهما
ما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسامة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في طريق المزدلفة: " الصلاة أمامك»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المغرب) ش: أي صلاة المغرب
م: (مؤخرة عن وقتها، بخلاف الجمع بعرفة؛ لأن العصر مقدم على وقته) ش:
فروعي منه جمع ما ورد به النص وهو الأداء مع الإمام في حالة الإحرام،
وأما الجمع بمزدلفة فلم يخالف القياس، لأن المغرب مؤخرة عن وقتها،
وقضاء الصلاة بعد وقتها أمر معقول لوجود المسبب بعد وجود السبب فلم
يشترط فيه مراعاة ما ورد به النص وهو الإمام، ولكن الأفضل أن يصلي مع
الإمام بالجماعة، لأن الأداء بالجماعة أولى، كذا في " الإيضاح "، وقال
الإمام المحبوبي: لا يشترط الإحرام والسلطان أيضاً.
م: (قال: ومن صلى المغرب) ش: أي صلاة المغرب م: (في الطريق) ش: قبل أن
يأتي إلى المزدلفة م: (لم يجزئه عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -،
وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر) ش: وبه قال زفر والحسن بن زياد -
رحمهما الله تعالى - م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجزئه،
وقد أساء) ش: لمخالفة السنة، وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
والشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي بين أبي حنيفة ومحد وبين أبي يوسف -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (إذا صلى) ش: أي المغرب م: (بعرفات) ش:
فعندهما لا يجزئه، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجزئه، وفي "
الإيضاح " وكذا لو صلى العشاء الآخرة بعد دخول وقتها في الطريق، لأنها
مرتبة على المغرب فإذا لم تجز المغرب فما رتب عليه أولى بتركه.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه أداها في وقتها فلا تجب
إعادتها كما في بعد الطلوع) ش: أي كما إذا صلى بعد طلوع الفجر م: (إلا
أن التأخير) ش: أي تأخير المغرب ليلة المزدلفة م: (من السنة فيصير
مسيئا بتركه) ش: أي بترك التأخير.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: «ما روي أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسامة في طريق
المزدلفة: الصلاة أمامك» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن أسامة
بن زيد بن حارثة مولى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وكان يسمى حب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال أسامة
«دفع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عرفة حتى إذا كان
بالشعب نزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له الصلاة فقال الصلاة
أمامك» .
(4/231)
معناه: وقت الصلاة، وهذا إشارة إلى أن
التأخير واجب، وإنما وجب ليمكنه الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة فكان
عليه الإعادة ما لم يطلع الفجر ليصير جامعا بينهما. وإذا طلع الفجر لا
يمكنه الجمع فسقطت الإعادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
.. الحديث، م: (معناه) ش: أي معنى قوله أمامك م: (وقت الصلاة) ش: ومكان
الصلاة، لأن الصلاة فعل المصلي، وفعله لا يتصور أن يكون أمامه، فإذا
أداها في الطريق فقد أداها قبل الوقت الثابت بهذا الخبر فوجبت الإعادة
كما إذا صلى الظهر في منزله يوم الجمعة، فإنه يؤمر بالقضاء حتى يأتي
على هذا الوجه الأكمل.
م: (وهذا) ش: أي قوله الصلاة أمامك م: (إشارة إلى أن التأخير) ش: أي
تأخير صلاة المغرب م: (واجب، وإنما وجب ليمكنه الجمع بين الصلاتين
بالمزدلفة) ش: ما دام وقت العشاء باقياً م: (فكان عليه الإعادة ما لم
يطلع الفجر ليصير جامعا بينهما) ش: أي بين الصلاتين م: (وإذا طلع الفجر
لا يمكنه الجمع فسقطت الإعادة) ش: وقال القدوري: إذا كان يخشى أن يطلع
الفجر قبل أن يصلي إلى المزدلفة صلى المغرب لأنه إذا طلع الفجر فات وقت
الجمع، وكذلك إن صلى العشاء الأخيرة في الطريق بعد دخول وقتها لم تجزئه
إلا على تقدير خوف طلوع الفجر.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام عن الصلاة..
الحديث خبر واحد يوجب الترتيب، وتجب عليه الإعادة وإن ذهب، وها هنا لم
تجب الوقت.
قلت بأن وجوب الإعادة هناك لوجوب الترتيب، وهو قائم ما لم يدخل الأكثر،
وها هنا وجوب الإعادة لرعاية الجمع فيفوت إن كان الجمع بفوات وقت
العشاء.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا صلاة إلا
بفاتحة الكتاب» لا تجب الإعادة لو صلى بدون فاتحة الكتاب ناسياً أو
عامداً، وها هنا وجبت ما دام الوقت باقيا.
قلت خبر الواحد يوجب العمل على وجه لا يؤدي إلى إبطال الكتاب، ثم ها
هنا الإعادة من باب العلم ما دام الوقت باقياً لما أنه صلى قبل الوقت
الثابت بخبر الواحد، وقبل الوقت لا يجوز فتجب الإعادة كما في مسألة
الترتيب، وأما خبر الفاتحة فقد علمنا به كما يليق بحاله حيث قلنا يوجب
صلاة السهو إذا تركها ساهياً، وبالإثم إذا تركها عامداً، أما لو قلنا
بالإعادة كان خبر الواحد مبطلاً لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا
مَا تَيَسَّرَ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) ، وذلك لا يجوز.
فإن قلت: ففي حديث أسامة أيضاً القول بوجوب الإعادة في الوقت فوجب
الإبطال. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] [النساء: الآية 13]
.
قلت: قالوا: الإعادة فيه لنوع فساد اقتضاء خبر الواحد لا لفساد قوي،
فلو قلنا بالإعادة بعد الوقت، لكنا قائلين بالفساد لتؤدي فحينئذ كنا
مبطلين وجوب قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]
(4/232)
قال: وإذا طلع الفجر يصلي الإمام بالناس
الفجر بغلس لرواية ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها يومئذ بغلس "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا نقول به.
فإن قلت: خبر أسامة خبر واحد فلا يجوز تأخير المغرب عن وقته، لأن
محافظة الوقت واجبة بالدلائل القطعية، ولو كان من المشاهير تجب الإعادة
على الإطلاق، لأنه مؤدي للمغرب قبل الوقت الثابت بالحديث المشهور.
قلت: قال الشيخ الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وجوب التأخير ثبت الجمع
بمزدلفة وهو من المشاهير تجوز للزيادة به على الكتاب فصار للعصر بعرفات
وللمغرب بمزدلفة وقتان، أحدهما ثابت بالدليل القطعي، والثاني ثابت
بالسنة المشهورة إلا أنه مأمور بالأداء في الوقت الثابت بالسنة، فإذا
أداها في الوقت الثابت بالكتاب ثبت لها أصل الجواز، وكان مثبتاً
لمخالفة السنة المشهورة فيؤمر بالإعادة تحقيقاً للجمع، فإذا فات وقت
الجمع فلا فائدة في الأمر بالإعادة بعدما ثبت جواز الأداء والله أعلم.
وأشكل عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن صلاة المغرب التي صلاها في
الطريق، إما إن وقعت صحيحة أو لا، فإن كان الأول فلا تجب الإعادة إلا
في الوقت ولا بعده، وإن كان الثاني وجبت فيه وبعده لأنها وقعت فاسدة،
فلا تنقلب صحيحة بمضي الوقت.
وأجيب بأن الفساد موقوف لظهور أثره في ثاني الحال، كما مر في مسألة
الترتيب.
[صلاة الفجر بغلس في المزدلفة والوقوف بها]
م: (قال: وإذا طلع الفجر) ش: أي في يوم النحر م: (يصلي الإمام بالناس
الفجر) ش: أي صلاة الفجر م: (بغلس) ش: بفتحتين، وهو آخر ظلمة الليل،
قاله الأترازي ثم قال كذا في الديوان وقال الأكمل الغلس: ظلمة آخر
الليل، وفي بعض الشروح ناقلاً عن الديوان آخر ظلمة الليل، وقد وافق على
ما نحن فيه على ما سيظهر، انتهى.
قلت: أراد ببعض الشروح شرح الأترازي م: (لرواية ابن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
صلاها يومئذ بغلس» ش: هذا رواه البخاري، ومسلم عن عبد الرحمن بن يزيد
عن ابن مسعود قال: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاتين، صلاة المغرب والعشاء
بجمع وصلاة الفجر يومئذ قبل ميقاتها.» قوله - قبل ميقاتها - معناه
المعهود المعتاد في كل يوم، لا أنه صلاها قبل الفجر ولكنه غلس بها
كثيرا بينه لفظ البخاري، وصلى الفجر حين طلع الفجر، وفي لفظ لمسلم «أنه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع الصلاتين جميعاً، وصلى
الفجر حين طلع الفجر» وقائل يقول لم يطلع الفجر، ولهذا يندفع قول من
يقول أن الدليل غير مطابق للمدلول، لأن الدليل يدل على أنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها بغلس،
(4/233)
ولأن في التغليس دفع حاجة الوقوف فيجوز
كتقديم العصر بعرفة. ثم وقف - أي ووقف معه الناس، فدعا لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف في هذا الموضع يدعو حتى روي
في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فاستجيب له دعاؤه لأمته
حتى الدماء والمظالم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمدلول قوله - وإذا طلع الفجر يصلي الإمام بالناس الفجر بغلس.
م: (ولأن في التغليس دفع حاجة الوقوف فيجوز) ش: أي التغليس م: (كتقديم
العصر بعرفة) ش: أي كما يجوز تقديم العصر بعرفة قبل وقتها لدفع حاجة
الوقوف بها، واعترض عليه أن هذا الدليل العقلي لا يطابق المدلول، بيانه
أن تقريره في التغليس دفع حاجة الوقوف، ودفع الحاجة يجوز التقديم للعصر
بعرفة، وتقديم العصر كان على وقته، فيكون ها هنا تصحيحاً للتشبيه، وهو
خلال المطلوب، وأجيب بأن معناه لما جاز تعجيل العصر على وقتها للحاجة
إلى الوقوف بعدها، فلا يجوز التغليس بالفجر وهو في وقتها أولى.
م: (ثم وقف) ش: أي ثم وقف الإمام بعد أن غلس بصلاة الفجر م: (أي ووقف
معه الناس، فدعا) ش: بما شاء من الأدعية ويرفع يديه ويستقبل بهما وجهه
سبطاً. وفي النوازل ويدعو بالمزدلفة نحو ما دعا بعرفة «اللهم حرم لحمي
وشعري ودمي وعظمي وجميع جوارحي من النار يا أرحم الراحمين» .
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف في هذا
الموضع يدعو حتى روي في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
فاستجيب له دعاؤه لأمته حتى الدماء والمظالم) ش: فيه حديثان، أحدهما
قوله لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف في هذا
الموضع، وأشار به إلى المشعر الحرام الذي هو الجبل الذي يقال له قزح،
ويدعو لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ} [البقرة: 198] (البقرة: الآية 198) ، وهذا في حديث جابر
الطويل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال: «ثم ركب أي النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل
القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع
قبل أن تطلع الشمس» .
الحديث الثاني: هو حديث عباس بن مرداس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وليس
هو حديث ابن عباس الذي هو عبد الله وقول المصنف في حديث ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهم، ولم ينبه على هذا أحد من الشراح، واعتذر
بعضهم بأن المصنف إنما أراد بابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كنانة
بن عباس بن مرداس وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أن ابن عباس إذا أطلق لا
يراد به إلا عبد الله بن عباس، فلو أراد كنانة لقيده.
والثاني: أن المصنف ليس من عادته أن يذكر الشافعي دون الصحابي عند ذكر
الحديث، فلا يليق به ذلك.
(4/234)
ثم هذا الوقوف واجب عندنا، وليس بركن حتى
لو تركه بغير عذر يلزمه الدم. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه
ركن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما حديث ابن عباس بن مرداس فقد ذكرناه عند قوله وأما الاجتهاد فلأنه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتهد في الدعاء في هذا الموقف
لأمته فاستجيب له، إلا في الدماء والمظالم، وها هنا استجيب له دعاؤه
لأمته، حتى الدماء والمظالم بالرفع فيهما، والمظالم جمع مظلمة، وهو
الظلم أو اسم مأخوذ ظلماً يعني حتى استجيب له دعاؤه في الدماء
والمظالم، والأصل أن تبقى حقوق العباد لكن قالوا إن الله تعالى يرضي
الخصوم بالأزدياد في بيوتهم حتى تركوا خصوماتهم في الدنيا والمظالم
واستوجبوا المغفرة.
فإن قلت: هذا خاص بالذي يحج أول عام أو لا.
قلت: لا بل هو عام لجميع أمته ولا قرينة للتخصيص، ثم الكلام في إعراب
حتى الدماء والمظالم، فقد ذكرنا أنه بالرفع فيهما لأن حتى للعطف كما في
قولهم قدم الحاج حتى المشاة، ويجوز الجر فيهما على أن تكون حتى جارة
كما في قولك أكلت السمكة حتى رأسها، وها هنا قيل حتى ظهرها قبلها، لأن
الرأس داخل في أكله السمكة، وتقدير الكلام استجيب له دعاؤه ولأمته في
ذنوبهم حتى الدماء والمظالم.
فإن قلت: الشرط في الرفع أن يكون ما بعدها مجازاً لما قبلها، وفيه
الدعاء والمظالم ليس من عين الدعاء.
قلت: لا بد من التأويل، وهو أن قال إن معناه استجيب له كل ذنب لأمته
حتى استجيب له في الدماء والمظالم.
م: (ثم هذا الوقوف) ش: أي الوقوف بالمزدلفة م: (واجب عندنا، وليس بركن،
حتى لو تركه بغير عذر يلزمه الدم) ش: وإن تركه بعذر لازدحام أو تعجيل
السير إلى منى فلا شيء عليه، قاله في " المحيط "، والمبيت بمزدلفة سنة
وبه قال مجاهد وعطاء وقتادة والزهري والثوري وإسحاق وأبو ثور.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه ركن) ش: أي أن الوقوف
بالمزدلفة ركن، ونسبة هذا القول إلى الشافعي غير صحيحة، لأنه ذكر في "
وجيزهم " أن الوقوف بالمزدلفة سنة، قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
إن صاحب " الهداية " وجد نقلاً صحيحاً عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
أنه ذكر. وقال الشافعي وقال الكاكي - رحمهما الله -: نسبته لهذا القول
إلى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقع سهواً من الكاتب لما أنه ذكر في
كتبهم أنه سنة، وذكر في " المبسوط " الليث بن سعد مكان الشافعي، وفي "
الأسرار " علقمة، وفي " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ - مالكاً
مكانه، وذكر في " المحيط " مالكاً والشعبي وعلقمة، ونسبة هذا أيضاً إلى
مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سهو، لأن
(4/235)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ
عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] [198 البقرة] ، وبمثله
تثبت الركنية، ولنا ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
قدم ضعفة أهله بالليل، ولو كان ركنا لما فعل ذلك، والمذكور فيما تلا
الذكر وهو ليس بركن بالإجماع، وإنما عرفنا الوجوب بقوله - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من وقف معنا هذا الموقف وقد كان أفاض قبل
ذلك من عرفات فقد تم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصحيح من مذهبه أن الوقوف بها سنة، والنزول بها واجب، وكذا الوقوف مع
الإمام سنة عنده. وذهب علقمة بن قيس والشعبي والنخعي والحسن البصري
والأوزاعي وحماد بن أبي سليمان إلى أن الحج يفوت بفوات الوقوف
بالمزدلفة، ويروى عن ابن عباس والزبير. وفي " المبسوط " وعلى قول الليث
بن سعد هذا الوقوف ركن. وقالت الظاهرية: من لم يدرك مع الإمام صلاة
الصبح بالمزدلفة بطل حجه إن كان رجلاً، ولو دفع عن عرفة قبل غروب الشمس
فلا شيء عليه وحجه تام م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ
عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] [البقرة: الآية 198] ،
وبمثله) ش: أي وبمثل هذا الأمر الذي في الآية الكريمة م: (تثبت
الركنية) ش: لأنه نص قطعي، فأمر بالذكر عند المشعر الحرام والذكر يكون
مع الوقوف فيكون فرضاً.
م: (ولنا ما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قدم ضعفة
أهله بالليل» ش: هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عطاء عن ابن
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقدم ضعفة أهله بغلس ويأمرهم لا يرمون
الجمرة حتى تطلع الشمس» وروى البخاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومسلم
عن سالم عن أبيه عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان
يقدم ضعفة أهله ... الحديث، والضعفة على وزن فعلة، جمع ضعيف ويجمع على
ضعفاء أيضا وأراد به النساء والولدان والخدام.
م: (ولو كان) ش: أي الوقوف بمزدلفة م: (ركنا لما فعل ذلك) ش: أي تقديم
الضعفة، لأن ما كان ركناً لا يجوز تركه للعود، وفي " الإيضاح " الركن
لا يثبت إلا بدليل مقطوع به، وقد أجمعت الأمة أن الوقوف بعرفة وطواف
الزيارة من جملة الأركان، وفي الوقوف بمزدلفة لم ينعقد الإجماع بل
الحديث ورد به م: (والمذكور فيما تلا الذكر) ش: هذا جواب عن استدلال
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالآية، وتقديره أن المأمور به في الآية
هو الذكر.
م: (وهو ليس بركن بالإجماع) ش: فكذا ما كان وسيلة إليه، وهو الحضور في
الوقوف م: (وإنما عرفنا الوجوب) ش: جواب عن سؤال مقدر ما يقال إذا
نفيتم الركنية عن الوقوف بالمزدلفة، فمن أين يقولون بوجوبه، فقال وإنما
عرفنا الوجوب، أي وجوب الوقوف بمزدلفة م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من وقف معنا هذا الموقف وقد كان أفاض قبل ذلك من عرفات،
فقد تم
(4/236)
حجه» علق به تمام الحج، وهذا يصلح أمارة
للوجوب، غير أنه إذا تركه بعذر بأن يكون به ضعف، أو علة، أو كانت امرأة
تخاف الزحام لا شيء عليه لما روينا.
قال: والمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر لما روينا من قبل. قال: فإذا
طلعت الشمس أفاض الإمام والناس معه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حجة» هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عروة بن نصير، قال: قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شهد صلاتنا هذه
ووقف معنا حتى يدفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك، ليلاً أو نهاراً فقد تم
حجه وقضى تفثه» وأخرجه ابن حبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " صحيحه
" والحاكم في " مستدركه " وقال: وهو الصحيح على شرط كافة أئمة الحديث.
قوله - هذا الموقف - أشار به إلى موقف المزدلفة، والواو في - وقد كان -
للحال قوله - أفاض - أي رجع ووقع.
م: (علق) ش: أي علق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
م: (به) ش: أي بالوقوف بالمزدلفة م: (تمام الحج، وهذا) ش: أي تعليق
تمام الحج بالوقوف م: (يصلح أمارة للوجوب) ش: بفتح الهمزة، أي علامة
وجوب الوقوف م: (غير أنه إذا تركه) ش: إشارة من قوله - وهذا يصلح أمارة
الوجوب - يعني الوقوف بمزدلفة واجب، إلا أنه إذا تركه، أي الوقوف م:
(بعذر كأن) ش: أي بسبب عذر مثل الخوف من الزحام أو عروض علة من العلل،
أشار إليه بقوله م: (بأن يكون به ضعف، أو علة، أو كانت امرأة تخاف
الزحام لا شيء عليه لما روينا) ش: أراد به أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - قدم ضعفه أهله بالليل.
[المزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والمزدلفة كلها موقف
إلا وادي محسر لما روينا من قبل) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - ومزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن وادي محسر وفي " المحيط
" وقت الوقوف بمزدلفة بعد طلوع الفجر من يوم النحر، إلا إن أسفر جداً.
وفي " الأسبيجابي " لو جاوز حد المزدلفة قبل طلوع الفجر، فعليه دم إلا
لعلة أو ضعف، فخاف الزحمة فدفع منها ليلا أو مر بها من غير أن يقف جاز
كالوقوف بعرفة، وفي " التحفة " لو مر في حريم آخر المزدلفة جاز، ومحسر
بكسر السين المشددة فاعل من حسر بالتشديد، لأن فيه أصحاب حسر فيه،
[....] ، وقيل: من السير وهو واد بين منى والمزدلفة، وسمي وادي النار،
يقال: إن رجلاً اصطاد فيه فنزلت نار فأحرقته، وقيل لأنه يحسر سالكيه
رؤوسهم، ذكره المنذري، وحد المزدلفة ما بين ماري عرفة، وقرن بمحسر
يمينا وشمالا من الشعاب والجبال، ذكره النووي - رحمهما الله - وحكم
الإسراع فيه مخالفة النصارى لأنه موقفهم.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإذا طلعت الشمس أفاض الإمام والناس معه)
ش: على هينهم.
(4/237)
حتى يأتوا منى قال العبد الضعيف - عصمه
الله تعالى -: هكذا وقع في نسخ المختصر، وهذا غلط، والصحيح: أنه إذا
أسفر أفاض الإمام والناس؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - دفع قبل طلوع الشمس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (حتى يأتوا منى. قال العبد الضعيف - عصمه الله تعالى -) ش: أي
المصنف م: (هكذا وقع في نسخ المختصر، وهذا غلط، والصحيح: أنه إذا أسفر
أفاض الإمام والناس) ش: معه. وقال الأترازي: هذا الذي قاله صاحب "
الهداية " - رَحِمَهُ اللَّهُ - صحيح، لكن الغلط وقع من الكاتب لا من
القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ففسره الأترازي أن الشيخ أبا النصر
البغدادي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو من تلامذة الشيخ أبي الحسن القدوري
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا الموضع في الشرح بقوله، قال ثم يفيض
الإمام من مزدلفة قبل طلوع الشمس والناس معه حتى يأتي منى.
وأثبت الإمام أبو الحسن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصر
الكرخي " مثل هذا، فقال ويفيض الإمام قبل طلوع الشمس فيأتي منى فعلم أن
ذكر صاحب " الهداية " منقول في " مختصر " القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ
-، فذلك سهو من الكاتب لا من القدوري، والشيخ أبو الحسن القدوري -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أجل نصاً من أن تزل قدمه في هذا القدر وهو بحر جار
في الفقه، وغيث مدرار في الحديث، وناهيك من دليل على غزارة علمه شرحه
لمختصر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإذا طالعته عرفت أن محله في
الفقه كان عند العيوب ولا تناله يد كل أحد ويرجع طرف الناظر إلى منزلته
من كلال ورمد، انتهى.
قلت: هذا كله لا ينافي وقوع السهو منه لأن تعرض له كبوة، والعالم له
زلة، وقد وقع من أكابر العلماء ممن تقدموا من السهو والخطأ، ومع هذا
وقوع السهو لا ينافي جلالة قدره وغزارة علمه، ولكن سمعت من أستاذه
الكبير يقول إن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما فرغ من تصنيف مختصره
المنسوب إليه حج، وأخذ المختصر معه، ولما فرغ من طوافه سأل الله سبحانه
أن يوقفه على خطأ فيه وسهو منه عن قلم.
ثم إنه فتح المختصر وتصفحه ورقة ورقة إلى آخره فوجد فيه خمسة مواضع أو
ستة مواضع ممحوة، وهذا يعد من كرامته، وهذا مما يؤيد أن وقوع هذا الغلط
من الكاتب لا منه والله أعلم، ومختصر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -
الذي عنده يقرؤه أبي وجدي وقرئ على شيخ المشايخ هكذا، والمزدلفة كلها
موقف إلا بطن محسر، ثم أفاض الإمام والناس قبل طلوع الشمس حتى يأتوا
منى. قوله والصحيح إذا أسفر ذكره في " المحيط " محمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ - الإسفار يقال إذا لم يبق من طلوع إلا مقدار ما يصلي فيه
ركعتان.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع قبل طلوع
الشمس) ش: هذا الحديث رواه الجماعة إلا سلمان عن «عمرو بن ميمون قال:
شهدت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال: إن
(4/238)
قال: فيبتدئ بجمرة العقبة فيرميها من بطن
الوادي بسبع حصيات مثل حصى الخذف؛ «لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير، وأن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع
الشمس» و - ثبير - بفتح الثاء وكسر الباء الموحدة اسم جبل، وكانوا
يقولون أشرف نهر كما يغير من الإغارة بالغين المعجمة وهو الإسراع.
[رمي الجمرات]
[عدد الجمرات وصفاتها]
م: (قال: فيبتدئ بجمرة العقبة) ش: وفي بعض النسخ م: (قال) ش: أي
القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيبتدئ بجمرة العقبة - الجمرة - الحجر
الصغير، وجمعها الجمار، وبها سمي المواضع التي يرمي جمار أو حجار أو
حجرات لما بينهما من الملابسة. وقيل لجمع ما هنالك من الحصى من تجمر
القوم إذا اجتمعوا، وسميت جمرة العقبة لأنها جبل في طريق منى كذا في "
مبسوط " البكري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر في " مبسوط " شيخ الإسلام
إنما سميت جمرة لأن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما
أمر بذبح الولد جاء الشيطان يوسوسه فكان إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- يرمي إليه الأحجار طرداً له، وكان بجمع بين يديه أي يسرع في المشي.
م: (فيرميها من بطن الوادي) ش: أي فيرمي الجمرة من أسفل الوادي إلى
أعلاه، هكذا رواه ابن عمر وابن مسعود في " الصحيحين " والترمذي عن ابن
مسعود أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لما رمى جمرة العقبة جعل البيت عن
يساره ومنى عن يمينه» وفي رواية أنه أسطن، وقال ابن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة، وإنما خص
بسورة البقرة لأن معظم مناسك الحج فيها، ولو رماها من أعلاها جاز،
والأول السنة، فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رماها من أعلاها
للزحام.
وفي " البدائع " و " التحفة " يأخذ الجمار من المزدلفة أو من الطريق،
وفي " المحيط " يأخذ من الطريق، وفي " مناسك " جمال الدين الحضرمي قد
جرى التواتر بحمل الحصى من جبل على الطريق، فيحمل سبعين حصاة، وفي "
مناسك " الكرماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرفع من المزدلفة سبع حصاة،
لحديث الفضل هو السنة، وقال قوم يأخذ منها سبعين حصاة، ويكره كسر
الحجارة إلا عن عذر، ويستحب التقاطها من الطريق والأمر في ذلك واسع
لسبع حصيات مثل حصيات الخذف بالخاء والذال المعجمتين الرمي برؤوس
الأصابع والحذف بالحاء المهملة الرمي بالقبض.
وقال الحسن البصري في " مناسكه " حصى الحذف مثل النواة وقال الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكون أصغر من الأنملة طولاً وعرضاً، لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتى منى لم يعرج على شيء حتى
رمى جمرة العقبة، هذا في حديث جابر الطويل - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فدفع
قبل أن تطلع الشمس حتى وصل إلى بطن محسر، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق
الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى الجمرة التي عند الشجرة
فرماها.
م: (بسبع حصيات مثل حصى الخذف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما أتى منى لم يعرج على شيء حتى رمى
(4/239)
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما أتى منى
لم يعرج على شيء حتى رمى جمرة العقبة» وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «عليكم بحصى الخذف، لا يؤذي بعضكم بعضا» ولو رمى بأكبر
منه جاز لحصول الرمي، غير أنه لا يرمي بالكبار من الأحجار كيلا يتأذى
به غيره. ولو رماها من فوق العقبة أجزأه؛ لأن ما حولها موضع النسك،
والأفضل أن يكون من بطن الوادي لما روينا، ويكبر مع كل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جمرة العقبة) ش: فقوله لم يعرج على شيء، أي لم يقف عنده، يقال مررت به
فأعرجت عليه، أي ما وقفت وعرجت بالقاف، م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بحصى الخذف، لا يؤذي بعضكم بعضا» ش: هذا
الحديث رواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه الأوسط " من
حديث نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لما أتى محسراً: " عليكم بحصى
الخذف» . وفي رواية ابن ماجه من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه
قالت: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي
الجمرة من بطن الوادي.. الحديث، وفي آخره وإذا رميتم الجمرة فارموا
بمثل حصى الخذف.» م: (ولو رمى بأكبر منه) ش: أي بحجر أكبر من حصى الخذف
م: (جاز لحصول الرمي، غير أنه لا يرمي بالكبار من الأحجار كيلا يتأذى
به غيره) ش: وفي " المحيط " لا يستحب الكبار، وعند أحمد - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - لو رمى بحجر كبير لا تجزئه، وقال مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - عنه يستحب أن يكون أكبر من حصى الخذف، وأنكر القرطبي
والشافعي - رحمهما الله -، وقالا بعدما صح من قول الشارع أنه مثل حصى
الخذف لا معنى لأكبر من ذلك.
م: (ولو رماها من فوق العقبة أجزأه) ش: جاز لحصول الرمي، غير أنه لا
يرمي بالكبار كيلا يتأذى به غيره أجزأه م: (لأن ما حولها موضع النسك)
ش: لأن بعض الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يرمونها من فوق
العقبة، ألا ترى أن عبد الرحمن بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
إن الناس يرمونها من فوقها، وأراد بالناس الصحابة والتابعين - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (والأفضل أن يكون من بطن الوادي لما روينا) ش:
وهو أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى هكذا.
م: (ويكبر مع كل حصاة) ش: من الحصيات السبع، قال الناطقي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في كتاب " الأجناس " - ذكر في مناسك الحسن بن دينار -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يقول عند كل حصاة يرميها بسم الله والله
أكبر، ويرمي بيد واحدة بيده اليمنى. وقال في " النوازل " يكبر مع كل
حصاة، ويقول اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً.
وقال أبو عمر بن عبد
(4/240)
حصاة، كذا روي ابن مسعود، وابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولو سبح مكان التكبير أجزأه) لحصول الذكر،
وهو من آداب الرمي، ولا يقف عندها؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - لم يقف عندها. ويقطع التلبية مع أول حصاة؛ لما روينا عن
ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تأقيت في دعاء الرمي عند الفقهاء، وإنما
هو ذكر ودعاء، وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أنه إذا كان يرمي يقول بسم الله اللهم لك الحمد والشكر، وعن
علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول كلما رمى حصاة اللهم اهدني
بالهدى، وقوني بالتقوى، واجعل الآخرة خيراً لي من الأولى، والمعروف
عندنا أن يقول عند كل حصاة بسم الله والله أكبر، رغماً للشيطان وحزبه
ويقوم التسبيح والتهليل مقامه.
م: (كذا روي ابن مسعود، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أما
حديث ابن مسعود فأخرجه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن زيد قال عبد
الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جمرة العقبة من بطن الوادي
بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة الحديث.
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فأخرجه البخاري عن
الزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمعت سالماً يحدث عن أبيه «أن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رمى الجمرة رماها بسبع
حصيات، يكبر مع كل حصاة» .. الحديث.
م: (ولو سبح مكان التكبير أجزأه لحصول الذكر) ش: أي ذكر الله تعالى م:
(وهو من آداب الرمي) ش: أي التكبير من آداب الرمي ولهذا لو سبح مكان
التكبير جاز لحصول المقصود وهو الذكر م: (ولا يقف عندها) ش: أي عند
جمرة العقبة م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم
يقف عندها) ش: كان إذا رمى الجمرة ... الحديث، وفيه: ثم يأتي الجمرة
التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رماها بحصاة، ثم ينصرف
ولا يقف عندها.
م: (ويقطع التلبية مع أول حصاة؛ لما روينا عن ابن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أشار به إلى قوله فيما مضى، ولنا ما روي «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما زال يلبي حتى أتى جمرة
العقبة» هكذا قال الأترازي، وقال مخرج الأحاديث: كأن المصنف ذهل، فإنه
لم يذكر هذا عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأما ما ذكر عند
التكبير مع كل حصاة إلا أن يكون مفهوماً، فإنه قوله: يكبر مع كل حصاة،
يدل على أنه قطع التلبية مع أول كل حصاة، وصرح به البيهقي في " المعرفة
"، فإنه قال بعد أن ذكره من جهة مسلم: وفيه دلالة على أنه قطع التلبية
بأول حصاة ثم كان يكبر مع كل حصاة، انتهى، ورمى جمرة العقبة بأول حصاة.
(4/241)
وروى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة.
ثم كيفية الرمي أن يضع الحصاة على ظهر إبهامه اليمنى، ويستعين بالمسبحة
ومقدار الرمي أن يكون بين الرامي، وبين موضع السقوط خمسة أذرع فصاعدا،
كذا روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن ما دون ذلك يكون
طرحا، ولو طرحها طرحا أجزأه لأنه رمى إلى قدميه، إلا أنه مسيء لمخالفته
السنة. ولو وضعها وضعا لم يجزئه؛ لأنه ليس برمي، ولو رماها فوقعت قريبا
من الجمرة يكفيه؛ لأن هذا القدر مما لا يمكن الاحتراز عنه، ولو وقعت
بعيدا منها لا يجزئه؛ لأنه لم يعرف قربة إلا في مكان مخصوص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة»
ش: هذا الحديث لم يتعرض إليه أحد من الشراح، وهذا مفهوم ما جاء في حديث
جابر الطويل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «حتى أتى الجمرة التي عند
الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة» ... الحديث.
[كيفية رمي الجمرات ومقداره]
م: (ثم كيفية الرمي أن يضع الحصاة على ظهر إبهامه اليمنى، ويستعين
بالمسبحة) ش: أي بالسبابة وهي التي تلي الإبهام. قيل: إن المسبحة اسم
جاهلي، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اختلف المشايخ في كيفية
الرمي، قال بعضهم يضع الحصاة على ظهر إبهامه ويستعين بالمسبحة كأنه
عاقد سبعين. وقيل يأخذها بطرف إبهامه وسبابته كأنه عاقداً ثلاثين
ويرميها، وقال بعضهم يحلق سبابته ويضعها على مفصل إبهامه كأنه عاقد
عشرة ويرميها وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وفي " الفتاوي الظهيرية " قال مشايخ بخارى كيفما رمى فهو جائز، والأول
أصح، كذا في " المحيط " وقيل يضع رأس الإبهام عند وسط السبابة ويرمي
بظفر الإبهام، وفي " البدائع «عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه وضع إحدى سبابتيه على الأخرى كأنه يحذف وكيفما رمى جاز» .
م: (ومقدار الرمي أن يكون بين الرامي، وبين موضع السقوط خمسة أذرع
فصاعدا، كذا روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن ما دون
ذلك يكون طرحا) ش: فيكون مسبباً لمخالفة السنة م: (ولو طرحها طرحا
أجزأه لأنه رمى إلى قدميه، إلا أنه مسيء لمخالفته السنة. ولو وضعها
وضعا لم يجزئه؛ لأنه ليس برمي) ش: حكى القاضي عياض - رَحِمَهُ اللَّهُ
- عن المالكية أن الطرح والوضع لا يجزئ، قال: وقال أصحاب الرأي يجزئ
الطرح ولا يجزئ الوضع.
قال: ووافقنا أبو ثور إلا أنه قال: إن كان يسمى الطرح رمياً أجزأه.
وحكى إمام الحرمين عن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يكفي
الوضع.
م: (ولو رماها فوقعت قريبا من الجمرة يكفيه؛ لأن هذا القدر مما لا يمكن
الاحتراز عنه، ولو وقعت بعيدا منها لا يجزئه؛ لأنه) ش: أي لأن الرمي م:
(لم يعرف قربة إلا في مكان مخصوص) ش: وهو الجمرة، لأن نفس الرمي ليس
بقربة فلا يقع قربة إلا في المكان المخصوص الذي عينه الشارع.
(4/242)
ولو رمى بسبع حصيات جملة، فهذه الجملة
واحدة؛ لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال، ويأخذ الحصاة من أي موضع شاء،
إلا من عند الجمرة فإن ذلك يكره؛ لأن ما عندها من الحصى مردود، هكذا
جاء في الأثر فيتشاءم به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو رمى بسبع حصيات جملة، فهذه واحدة) ش: أي رمية واحدة فعليه أن
يأتي بالبقية م: (لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال) ش: أي لأن المنصوص هو
فعل الرمي بسبع حصيات متفرقات لا عين الحصيات. وقال الحاكم الشهيد في "
الكافي ": وإن رماها بأكثر من سبع لم تضره تلك الزيادة م: (ويأخذ الحصى
من أي موضع شاء، إلا من عند الجمرة، فإن ذلك يكره) ش: وبه قال الشافعي
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن شعبان
المالكي لا يجوز. وقال الحاكم الشهيد في " الكافي " فإن رماها بحصاة
أخذها من عند الجمرة أجزأه، وقد أساؤوا.
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه "، فإن رمى بحجر من
الجمرة جاز، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز. لنا أن الرمي لا
يغير صفة الحجر، فجاز الرمي كما جاز في الابتداء بخلاف الماء المستعمل
عندنا حيث لا يجوز استعماله ثانياً لأنه انتقلت النجاسة إليه
بالاستعمال، وقال القدوري: والعجب من مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث
جوز الوضوء بالماء المستعمل وإن كان الاستعمال يغير اسم الماء ومنع
الرمي بالحجر وإن كان الرمي لا يغير صفته، انتهى.
قلت: ذكر الكاكي مالكاً والشافعي - رحمهما الله - ينافي هذه المسألة.
م: (لأن ما عندها من الحصى مردود) ش: أي لأن ما عند الجمرة من الحصى
مردود لم يقبل الله من راميه م: (هكذا جاء في الأثر) ش: أي بكونه
مردوداً جاء الحديث م: (فيتشاءم به) ش: أي فيعد مشئوماً مانعاً إلا به،
والأثر أخرجه أبو نعيم في " دلائل النبوة " عن عبد الله بن خراش عن
العوام عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما قبل حج امرئ إلا رفع
حصاه» ، ورواه إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قال في حصى الجمار ما قبل منه رفع وما لا يقبل منه
ترك، وروى ابن أبي شيبة أيضاً نحوه موقوفاً. وروى الحاكم في " مستدركه
" والدارقطني في " سننه " عن يزيد بن سنان عن زيد بن أبي شيبة عن عمرو
بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن
أبي سعيد الخدري قال: «قلنا يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - هذه الجمار التي يرمى بها كل عام فنحسب أنها تنقص فقال إن
ما قبل منها رفع ولولا ذلك لرأيتها أمثال الجبال» قال الحاكم - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - حديث
(4/243)
ومع هذا لو فعل أجزأه، لوجود فعل الرمي،
ويجوز الرمي بكل ما كان من أجزاء الأرض عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ويزيد بن سنان ليس بالمتروك. وأعله الشيخ في
" الإمام " بأن يزيد بن سنان فيه مقال. وقال صاحب " التنقيح " هذا حديث
لا يثبت، فإن أبا فروة يزيد بن سنان ضعفه الإمام أحمد والدارقطني -
رحمهما الله - وغيرهما، وتركه النسائي وغيره.
ورواه ابن أبي شيبة في " منصفه " موقوفاً على أبي سعيد، وقال ما تقبل
من حصى الجمار رفع، والكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر هنا عند قوله،
هكذا جاء الأثر قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من قبلت
حجته رفعت جمرته» وعن سعيد بن جبير - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قلت لابن
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما بال الجمار ترمى من وقت الخليل -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[.....] لسد الأفق، فقال أما علمت
أن من تقبل حجته ترفع حصاه، ومن لم تقبل حجته ترك حصاه. قال مجاهد لما
سمعت هذا منه جعلت على حصياتي علامة، ثم توسطت الجمرة من كل جانب فلم
أجدها، كذا في " المبسوط " وقال الأترازي هنا: ولا يأخذ من الجمار التي
رميت عند الجمرة لما قيل إنها حصى من لم تقبل حجته، فإن من قبلت حجته
رفعت جمرته، وقال: وقد روي عن سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أنه قال لابن عباس، فذكر مثل ما ذكره الكاكي إلى قوله [
] ، وقال ابن عباس: أما علمت أن من قبل حجته رفع حصاه، انتهى.
قلت: كل هذا من عدم اطلاعهم على كتب الحديث وما آفة ذاك إلا من
التقليد.
م: (ومع هذا) ش: أي وعلى ما ذكرنا من أن أخذه الحصى من عند الجمرة
مكروه م: (لو فعل) ش: أي لو أخذ من موضع الجمرة م: (أجزأه لوجود فعل
الرمي) ش: لأن المقصود التشبه بإبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في إهانة الشيطان وإنه حاصل.
م: (ويجوز الرمي بكل ما كان من أجزاء الأرض عندنا) ش: سواء كان مدراً
أو طيناً أو يابساً أو قبضة تراب، وفي السروجي وكذا المغرة والنورة
والزرنيخ والأحجار النفيسة كالياقوت والزمرد والبلخش ونحوها والملح
الحيلي والكحل والزبرجد والبلور والعقيق والفيروز، بخلاف الحشيش
والعنبر واللؤلؤ والذهب والفضة والجواهر وهي كبار اللؤلؤ فإنها ليست من
أجزاء الأرض، وبقولنا قال الثوري.
م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه عنده لا يجوز إلا
بالحجر، وفي " السروجي " وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المرمر
والدام، والكران وحجر النورة قبل أن يطبخ، وحجر الحديد على
(4/244)
لأن المقصود فعل الرمي، وذلك يحصل بالطين
كما يحصل بالحجر، بخلاف ما إذا رمى بالذهب أو الفضة فإنه لا يجوز، لأنه
يسمى نثارا لا رميا.
قال: ثم يذبح إن أحب ثم يحلق أو يقصر لما روي عن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن أول نسكنا في يومنا هذا أن
نرمي ثم نذبح، ثم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المذهب الصحيح، ومما يتخذ منه الفصوص كالفيروزج والياقوت والعقيق
والبلور والزبرجد في أصح الوجهين، وهو قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - و
[.....] مع أنه نوع من الحجر. وبقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال
مالك: وقال القاضي من الحنابلة لا يجوز بالدام والحام والكران، وعن
أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز الحجر الكبير، وذهب أبو داود إلى
أنه يجوز بكل شيء حتى البعرة والعصفور الميت، وقال ابن المنذر -
رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز إلا بالحصى، ذكره القرطبي.
م: (لأن المقصود فعل الرمي) ش: هذا تعللينا، ولم يذكر تعليل الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ -، هو يقول أن المأثور هو الحجر م: (وذلك) ش: أي
المقصود من الرمي م: (يحصل بالطين كما يحصل بالحجر) ش: والمقصود هو
إهانة الشيطان وهو يحصل بكل ما كان مهاناً في نفسه من أجزاء الأرض،
هكذا ذكره الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الكاكي: المقصود التشبه
بإبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إهانة الشيطان،
انتهى.
قلت: في كلام كل منهما نظر، أما كلام الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
فإنه قال بكل ما كان مهانا في نفسه، فالياقوت والزمرد والبلخش والزبرجد
والبلور والعقيق والفيروزج عزيزة في أنفسها غير مهانة، فعلى تعليله
ينبغي أن لا يجوز الرمي بهذه الأشياء، وأما كلام الكاكي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فإنه قال: المقصود التشبه بإبراهيم - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففي الرمي بهذه الأشياء لا يوجد التشبه.
م: (بخلاف ما إذا رمى بالذهب أو الفضة، فإنه لا يجوز، لأنه يسمى نثارا
لا رميا) ش: فيه نظر، لأن فيه الرمي حقيقة، بل قوله - لأنه يسمى نثاراً
- صحيح، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه نثار لا رمي، فلم
يدل على الإهانة، بل على الإعزاز، وفيه أيضاً نظر، لأن الإعزاز في
الياقوت ونحوه مما ذكرنا أقوى وأشد وأظهر فعلى كلامه ينبغي أن لا يجوز
ومع هذا يجوز.
[ذبح الهدي والحلق والتقصير للحاج]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ثم يذبح) ش: بعد رمي
جمرة العقبة م: (إن أحب) ش: أي الذبح، يعني إن شاء، وأما على المحبة
باعتبار الدم على المفرد مستحب لا واجب، والكلام في المفرد لا في
القارن والمتمتع، فإن الدم واجب عليهما م: (ثم يحلق أو يقصر) ش: إنما
تردد بين الحلق والتقصير، لأن أحدهما واجب، سواء كان مفرداً أو قارناً
أو متمتعاً، لكن الحلق أفضل، وفي " المبسوط " أنه خير بين الحلق
والتقصير إذا لم يكن شعره ملبداً أو معقوصاً أو مصفراً، فإن كان لا
يتخير بل يلزمه الحلق، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم
وأحمد وقال في الجديد يجوز القصر.
م: (لما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
" إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نرمي، ثم نذبح ثم نحلق ") ش: هذا
(4/245)
نحلق» ولأن: الحلق من أسباب التحلل، وكذا
الذبح حتى يتحلل به المحصر، فيقدم الرمي عليهما، ثم الحلق من محظورات
الإحرام فيقدم عليه الذبح، وإنما علق الذبح بالمحبة لأن الدم الذي يأتي
به المفرد تطوع، والكلام في المفرد، والحلق أفضل؛ لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله المحلقين» قاله ثلاثا ...
الحديث ظاهر بالترحم عليهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غريب، وأخرجه الجماعة إلا ابن ماجه عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أتى منى وأتى الجمرة ورماها ثم أتى منزله منى فنحر ثم قال
للحلاق خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس» .
م: (ولأن: الحلق من أسباب التحلل، وكذا الذبح حتى يتحلل به المحصر) ش:
أي الذبح أيضاً من أسباب التحلل كالحلق، وهكذا يتحلل به المحصر، وليس
عليه حلق أو تقصير في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - على ما يجيء
بيانه في باب الإحصار م: (فيقدم الرمي عليهما) ش: أي على الذبح م: (ثم
الحلق من محظورات الإحرام) ش: أي من ممنوعاته م: (فيقدم عليه الذبح) ش:
أي على الحلق، فأخر لذلك م: (وإنما علق الذبح بالمحبة) ش: أي إنما علق
القدوري الذبح بقوله إن أحب.
م: (لأن الدم الذي يأتي به المفرد تطوع) ش: لأنه مسافر م: (والكلام) ش:
يعني في هذا الباب م: (في المفرد) ش: يعني في الحاج المفرد وقد ذكرنا
هذا عن قريب م: (والحلق أفضل) ش: أي من التقصير م: (لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله المحلقين، قاله ثلاثاً» ...
الحديث) ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله»
. وفي رواية البخاري «لما كان الرابعة قال: و " المقصرين»
قوله الحديث - بالنصب، أي آخر الحديث إلخ، ويجوز رفعه على أنه مبتدأ
محذوف الخبر م: (ظاهر بالترحم عليهم) ش: أي ظاهر النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالترحم على المحلقين.
قال الأكمل: أي كرر الترحم عليهم، وقال الكاكي: المراد به ها هنا
التلفظ به مراراً، يعني كرر لفظ رحم الله، وهو قريب من الأول، قال تاج
الشريعة حيث قال: ثلاث مرات حيث قال رحم الله المحلقين من ظاهر بين
الثوبين، إذ ليس أحدهما فوق الآخر.
قلت: ظاهر من باب المفاعلة وأصله للمشاركة بين اثنين، وها هنا ليس
كذلك، بل هو بمعنى فعل كما في قَوْله تَعَالَى {وَسَارِعُوا} [آل
عمران: 133] أي أسرعوا، وفي الحديث ظاهر بين درعين، أي ظهر بينهما
معناه ليس أحدهما فوق الآخر، ومنه بارز علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
يوم بدر، أي نصر وأعان، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله ظاهر
الحديث بالترحم عليهم، ورفع لفظ الحديث، فيدل على أن لفظ الحديث هو
فاعل، وظاهر فعله، وبالترحم في محل المفعول وليس كذلك، بل فاعل ظاهر هو
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكرنا فافهم.
(4/246)
ولأن الحلق أكمل في قضاء التفث وهو
المقصود، وفي التقصير بعض التقصير، فأشبه الاغتسال مع الوضوء، ويكتفى
في الحلق بربع الرأس اعتبارا بالمسح، وحلق الكل أولى اقتداء برسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي التقصير أن يأخذ من رؤوس
شعره مقدار الأنملة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن الحلق أكمل في قضاء التفث) ش: أي في إزالة الوسخ، لأن قضاء
التفث قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، والتفث بالفتحات
الوسخ، ومادته بالمثناة من فوق وفاء وتاء مثلثة، وكون الحلق أكمل
إجماع، واختلف فيمن وجب عليه الحلق، وليس على رأسه شعر، قيل يجب عليه
إمرار الموسى على رأسه، وبه قال مالك وبعض أصحاب الشافعي - رحمهما الله
-، لأن الواجب عليه إمرار الموسى على رأسه وإزالة الشعر، إلا أنه عجز
عن أحدهما وقدر على الآخر، فما قدر عليه بقي وما عجز عنه سقط، وقال
بعضهم يستحب وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - م: (وهو المقصود)
ش: أي إزالة التفث هو المقصود.
م: (وفي التقصير بعض التقصير) ش: أي في تقصير شعر رأسه بعض التقصير في
إقامة السنة وإنما قيد بالبعض لأن كلاً من الحلق والتقصير جائز، ولكن
الحلق أفضل من التقصير، وفيه نوع قصور م: (فأشبه الاغتسال مع الوضوء)
ش: فإن المغتسل إذا ترك الوضوء واكتفى بغسله فإنه يجوز، ولكن الأفضل أن
يتوضأ أولاً ثم يغتسل، فإن في ترك الوضوء نوع قصور.
م: (ويكتفي في الحلق بربع الرأس اعتبارا بالمسح) ش: في الوضوء، لأن
الربع يقوم مقام الكل م: (وحلق الكل أولى اقتداء برسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي أفضل، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ -، وعنده أقل ما يجزئ ثلاث شعرات أو يقصر بها، وقال مالك وأحمد
- رحمهما الله - بحلق الكل أو الأكثر بناء على مسح الرأس، وفي حمل
النوازل حلق كله مسنون.
م: (وفي التقصير أن يأخذ من رؤوس شعره مقدار الأنملة) ش: وهذا التقدير
مروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعليه إجماع الأمة
والمرأة فيه كالرجل. وفي " الولوالجي " تقصر ربع رأسها مقدار الأنملة -
وكذا الرجل تأخذ من كل قرن بقدر الأنملة، ولو تنور حتى زال شعره فهو
كالحلق، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومن لا شعر له لو أمر
موسى لا يأخذ من لحيته أو شاربه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يأخذ استحباباً، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - لأن ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فعل ذلك. قلنا: فعل ذلك اتفاقاً لا قصداً،
والحلق من يمين الحالق، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من يمين
المحلوق، فاعتبرنا يمين المحلوق، وقال الكرماني ذكره بعض أصحابنا ولم
يعزه إلى أحد، بل الأولى اتباع السنة، فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
بدأ بيمينه.
وقال الكاكي: وقد أخذ أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقول الحجام حين
قال أذن الشق الأيمن من رأسه وفيه حكاية معروفة.
(4/247)
وقد حل له كل شيء إلا النساء. وقال مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإلا الطيب أيضا؛ لأنه من دواعي الجماع. ولنا قوله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه: «حل له كل شيء إلا النساء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الحكاية هي ما روي عن وكيع قال: قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ
-: أخطأت في ستة أبواب من المناسك علمنيها حجام، وذلك حين أردت أن أحلق
رأسي وقفت على حجام، فقلت له بكم تحلق رأسي؟ فقال لي: أعرابي أنت،
فقلت: نعم، قال النسك لا يشترط عليه، اجلس، فجلست منحرفاً عن القبلة،
فقال لي حول وجهك إلى القبلة، فحولت وأردت أن يحلق رأسي من الجانب
الأيسر، فقال لي أدر الشق الأيمن من رأسك، فأدرته، فجعل يلحق وأنا
ساكت، فقال لي كبر، فجعلت أكبر حتى قمت لأذهب، فقال: رأيت عطاء بن أبي
رباح يفعل هذا، أخرجه أبو الفرج في مسير القوم الساكن إلى أشرف الأماكن
اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أخرج الجماعة إلا ابن ماجه عن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال: «لما رمى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمرة ونحر نسكه
وحلق ناول الحالق شقه الأيمن، فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - فأعطاه ثم ناوله الآخر، فقال احلق فحلقه أبو طلحة،
فقال: " اقسمه بين الناس» ، والتقصير أن يأخذ من رؤوس شعره مقدار
الأنملة وقد مر الآن.
[التحلل الأصغر والأكبر للحاج]
م: (وقد حل له) ش: أي لهذا الحاج المفرد م: (كل شيء) ش: من محظورات
الإحرام م: (إلا النساء) ش: قال الأترازي: الرواية بنصب - النساء -
لأنه مستثنى من الموجب.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإلا الطيب أيضاً) ش: وبه قال
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله وقال الليث إلا النساء والصيد،
كذا في " شرح مختصر الكرخي " م: (لأنه) ش: أي الطيب م: (من دواعي
الجماع) ش: كالمس والقبلة، ولهذا حرم الطيب على المعتدة وروي عن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يحل الطيب. م: (ولنا قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (فيه) ش: أي فيمن رمى وحلق وذبح م:
(حل له كل شيء إلا النساء) ش: هذا أخرجه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
في " شرح الآثار " بإسناده إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -،
قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا
رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء» . وروى أبو
داود عن حجاج بن أرطاة عن الزهري عن عمرة عن عائشة قالت، قال رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة
فقد حل له كل شيء إلا النساء» ، قال أبو داود: هذا الحديث ضعيف،
والحجاج بن أرطاة لم ير الزهري ولم يسمع منه.
(4/248)
وهو مقدم على القياس. ولا يحل له الجماع
فيما دون الفرج عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه قضاء
الشهوة بالنساء فيؤخر إلى تمام الإحلال.
ثم الرمي ليس من أسباب التحلل عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ
- هو يقول: إنه يتوقت بيوم النحر كالحلق فيكون بمنزلته في التحليل.
ولنا أن ما يكون محللا يكون جناية في غير أوانه كالحلق، والرمي ليس
بجناية في غير أوانه، بخلاف الطواف؛ لأن التحلل بالحلق السابق لا به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو مقدم على القياس) ش: أي الحديث مقدم على القياس الذي قاسه
مالك، حيث لم يجوز الطيب بالقياس، وقال الجماع لا يحل له بعد الحلق قبل
الطواف، فكذا الطيب. لأنه من دواعي الجماع، وجوابه هو قوله - وهو مقدم
على القياس - حاصله لا نسلم بأن الطيب من دواعي الجماع، ولئن سلمنا لكن
نقول العمل بخبر الواحد أولى من العمل بالقياس، لأن الشبهة في القياس
في أصله وفي خبر الواحد في نقله لا في أصله.
م: (ولا يحل له الجماع فيما دون الفرج عندنا) ش: كالبطن ونحوه م:
(خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده في أحد قوليه يحل
الجماع فيما دون الفرج والمباشرة م: (لأنه) ش: أي لأن الجماع فيما دون
الفرج م: (قضاء الشهوة بالنساء فيؤخر إلى تمام الإحلال) ش: وهو بعد
الطواف.
م: (ثم الرمي) ش: أي رمي جمرة العقبة م: (ليس من أسباب التحلل عندنا)
ش: وقبل الحلق م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فعنده يتحلل
بعد الرمي، ويحل له كل شيء إلا النساء م: (هو) ش: أي الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يقول: إنه) ش: أي إن التحلل م: (يتوقت بيوم
النحر كالحلق) ش: فإنه يحل له بعد الرمي، وهو من محظورات الإحرام م:
(فيكون) ش: أي الرمي م: (بمنزلته) ش: أي بمنزلة الحلق م: (في التحليل)
ش: لأن كل ما هو يتوقت بيوم النحر فهو محلل كالحلق.
م: (ولنا أن ما يكون محللا يكون جناية في غير أوانه) ش: لأن كل ما هو
يتوقت بيوم النحر فهو محلل، لأن قبل أوانه فيه صفة الحظر كالسلام في
الصلاة فإنه في غير أوانه جناية م: (كالحلق والرمي ليس بجناية في غير
أوانه) ش: فإن قلت: يشكل على هذا دم الإحصار فإنه للتحلل وهو ليس محظور
الإحرام.
قلت: قال في " النهاية ": الأصل فيما شرع هو الذي ذكر في الكتاب، وهو
أن يكون محظور الإحرام، وأما دم الإحصار فهو ليس بأصل في التحلل، وإنما
صير إليه لضرورة المنع.
م: (بخلاف الطواف) ش: هذا جواب عما يقال الطواف محلل في حق النساء وليس
بمحظور الإحرام، وتقديره هو قوله م: (لأن التحلل) ش: في حق النساء إنما
وقع م: (بالحلق السابق لا به) ش: أي لا بالطواف، إلا أن الحلق قد يراعى
بعض حكمه، وذلك في حق النساء يكون
(4/249)
قال: ثم يأتي مكة من يومه ذلك، أو من الغد،
أو من بعد الغد، فيطوف بالبيت طواف الزيارة سبعة أشواط، لما روي أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق أفاض إلى مكة
فطاف بالبيت ثم عاد إلى منى وصلى الظهر بمنى. ووقته أيام النحر؛ لأن
الله تعالى عطف الطواف على الذبح قال: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28]
(28 الحج) ، ثم قال {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:
29]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطواف مؤدى في الإحرام ليظهر كونه ركناً.
فإن قلت: روي في السنن عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كان
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا رمى أحدكم
جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء» .
قلت: قد مر هذا الحديث مع جوابه.
[طواف الزيارة]
م: (ثم يأتي مكة من يومه ذلك) ش: وفي بعض النسخ م: (قال: ثم يأتي مكة)
ش: قال: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم يأتي الحاج المفرد مكة من
يومه ذلك، يعني يوم النحر م: (أو من الغد) ش: أي أو يأتي من يوم الغد،
وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة م: (أو من بعد الغد) ش: وهو اليوم
الثاني عشر من ذي الحجة م: (فيطوف بالبيت طواف الزيارة سبعة أشواط، لما
روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق أفاض إلى
مكة، فطاف بالبيت ثم عاد إلى منى، وصلى الظهر بمنى» ش: هذا الحديث
أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن نافع عن
ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى.»
فإن قلت: في حديث جابر الطويل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى يوم
النحر بمكة ولفظه قال ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر
... الحديث.
قلت: قال ابن حزم - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحد الخبرين وهم، إلا أن
الغالب أنه صلى الظهر بمكة لوجود ذكرها، وقال غيره يحتمل أنه أعادها
لبيان الجواز. وقال أبو الفتح اليعمري في " سيرته ": وقع في رواية ابن
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رجع في يومه إلى منى فصلى الظهر» وقالت عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى الظهر ثم اليوم
بمكة، ولا شك أن أحد الخبرين وهم ولا ندري أيهما لصحة الطريق في ذلك.
م: (ووقته) ش: أي وقت طواف الزيارة م: (أيام النحر) ش: وهي ثلاثة أيام
العاشر والحادي عشر، والثاني عشر م: (لأن الله تعالى عطف الطواف على
الذبح قال: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] (الحج: الآية 28) ش:، ثم قال
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ش: أي قال الله
عز وجل {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى
مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]
(4/250)
فكان وقتهما واحدا، وأول وقته بعد طلوع
الفجر من يوم النحر؛ لأن ما قبله من الليل وقت الوقوف بعرفة والطواف
مرتب عليه، وأفضل هذه الأيام أولها كما في التضحية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] (الحج: الآية 28)
، والمراد بالذكر والله أعلم التسمية على ما ينحر لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] قوله:
{فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] ليس بأمر لازم، إن شاء أكل من أضحيته،
وإن شاء لم يأكل، وهذا الأمر كما في قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] (المائدة: الآية 2) ، فإن مثل
هذا الأمر للإباحة سعة لنا، وإذا قلنا بالوجوب يعود علينا.
قوله - البائس - هو الذي له بؤس، وهو شدة الفقر، يقال بئس الرجل، وبئس
إذا صار ذا بؤس. قوله تفثهم التفث الأخذ من الشارب وتقليم الأظفار ونتف
الإبط وحلق العانة والأخذ من الشعر وكأنه الخروج من الإحرام إلى
الإحلال، والبيت العتيق القديم، سمي به لأنه أعتق من الغرق أيام
الطوفان، وقيل: إنه أعتق من الجبابرة فلم يغلب عليه جبار، وقيل: لأنه
لم يدعه أحد من الناس. قوله ثم قال وليطوفوا بالبيت العتيق فإنه عطف
النحر، والنحر مؤقت بأيام النحر.
م: (فكان وقتهما واحداً) ش: أي وقت النحر والطواف، لأن حكم المعطوف حكم
المعطوف عليه، إلا أن الأضحية لم تشرع بعد أيام النحر والطواف مشروع
بعد ذلك.
فإن قلت: هذا الطواف يجوز أداؤه بعد أيام النحر، ولو كان مؤقتاً لما
جاز القضاء بعد الوقت كرمي الجمار والوقوف بعرفة.
قلت: إنما لا يجوز قضاؤهما بعد الوقت لا لأنهما مؤقتان، بل لأن القضاء
شرع بالتطوع، والتطوع بهما غير مشروع، بخلاف التطوع بالطواف، فإنه
مشروع، كذا في " مبسوط " البكري. م: (وأول وقته) ش: أي أول وقت طواف
الزيارة م: (بعد طلوع الفجر من يوم النحر لأن ما قبله من الليل وقت
الوقوف بعرفة، والطواف مرتب عليه) ش: أي على الوقوف، وبقولنا قال مالك
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أول وقته إذا انتصف الليل من ليلة
النحر، وبه قال أحمد، وآخر وقته اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن
أخره عنها طاف وعليه دم عند أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لا شيء عليه، وفي " شرح القدوري
": آخره آخر أيام التشريق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما
آخره غير موقت، وبه قال الشافعي وأحمد وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
آخره بمضي ذي الحجة، وعن الشافعي وأحمد - رحمهما الله - أول وقته من
نصف الليل، وأفضله ضحى نهاره، وآخره غير مؤقت.
م: (وأفضل هذه الأيام) ش: أي أيام النحر م: (أولها كما في الأضحية) ش:
فإن التضحية في
(4/251)
ففي الحديث "أفضلها أولها". فإن كان قد سعى
بين الصفا والمروة عقيب طواف القدوم لم يرمل في هذا الطواف ولا سعي
عليه، وإن كان لم يقدم السعي رمل في هذا الطواف وسعى بعده؛ لأن السعي
لم يشرع إلا مرة، والرمل ما شرع إلا مرة في طواف بعده سعي. ويصلي
ركعتين بعد هذا الطواف؛ لأن ختم كل طواف بركعتين فرضا كان الطواف أو
نفلا لما بيناه. قال: وقد حل له النساء، ولكن بالحلق السابق إذ هو
المحلل لا بالطواف، إلا أنه أخر عمله في حق النساء. قال: وهذا الطواف
هو المفروض في الحج، وهو ركن فيه، إذ هو المأمور به في قَوْله
تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] (29
الحج) ، ويسمى طواف الإفاضة، وطواف الزيارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أول أيام النحر أفضل م: (ففي الحديث أفضلها) ش: أي وجاء في حديث النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل التضحية أول أيامها، وهذا
الحديث غريب جداً، يعني لم يثبت، والأولى أن يقال هذا بالإجماع.
م: (فإن كان قد سعى بين الصفا والمروة عقيب طواف القدوم لم يرمل في هذا
الطواف) ش: أي طواف الزيارة م: (ولا سعي عليه) ش: أي بين الصفا والمروة
م: (وإن كان لم يقدم السعي) ش: يعني عقيب طواف القدوم م: (رمل في هذا
الطواف وسعى بعده؛ لأن السعي لم يشرع إلا مرة، والرمل ما شرع إلا مرة
في طواف بعده سعي) ش: والأصل هنا أن السعي الواجب في الحج موضعه طواف
الزيارة، لأنه ذكره في الحج، فيتبعه ما هو الواجب، بخلاف طواف القدوم،
فإنه سنة فلا يتبعه ما هو الواجب، لأنه أعلى من السنة فلا يصح أن يكون
تبعاً لها، إلا أنه جاز تقديم السعي وفعله عقيب طواف القدوم رخصة طلباً
للتخفيف، لأن يوم النحر يوم الاشتغال في الأفعال، فإذا لم يترخص بتقديم
السعي عقيب طواف الزيارة لأنه هو العزيمة والأصل في الرمل أن كل طواف
بعده سعي ففيه رمل، وكل طواف لا سعي بعده فلا رمل فيه.
م: (ويصلي ركعتين بعد هذا الطواف) ش: أي بعد طواف الزيارة م: (لأن ختم
كل طواف بركعتين فرضا كان الطواف أو نفلا لما بيناه) ش: أي في طواف
القدوم وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وليصل الطائف
لكل أسبوع ركعتين " م: (قال: وقد حل له النساء) ش: وفي بعض النسخ قال
أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد حل له النساء، أي بعد الطواف م:
(ولكن بالحلق السابق إذ هو المحلل لا بالطواف، إلا أنه أخر عمله في حق
النساء) ش: أي إلا أن الشأن أو الحلق آخر عمله في آخر عمله النساء، لأن
الطواف لا يصلح للتحلل، وهذا كالطلاق الرجعي فإنه محرم إلا أنه أخر
عمله إلى انقضاء العدة، فإن الفرقة بعد انقضائها تضاف إلى الطلاق لا
إلى الانقضاء.
م: (قال: وهذا الطواف) ش: أي طواف الزيارة م: (هو المفروض في الحج، وهو
ركن فيه) ش: أي في الحج م: (إذ هو المأمور به في قَوْله تَعَالَى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] (الحج: الآية
28) ش:، ويسمى طواف الإفاضة) ش: عند أهل الحجاز م: (وطواف الزيارة) ش:
عند أهل العراق م:
(4/252)
وطواف يوم النحر. ويكره تأخيره عن هذه
الأيام لما بينا أنه موقت بها
وإن أخره عنها لزمه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وسنبينه في
باب الجنايات إن شاء الله تعالى. قال: ثم يعود إلى منى فيقيم بها؛ لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إليها كما روينا،
ولأنه بقي عليه الرمي وموضعه بمنى،
فإذا زالت الشمس من اليوم الثاني من أيام النحر رمى الجمار الثلاث
فيبدأ بالتي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف
عندها، ثم يرمي التي تليها من ذلك ويقف عندها، ثم يرمي جمرة العقبة
كذلك ولا يقف عندها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وطواف يوم النحر) ش: أي ويسمى أيضاً يوم النحر، ويسمى أيضاً طواف يوم
النحر، ويسمى أيضاً طواف الركن م: (ويكره تأخيره عن هذه الأيام) ش: أي
عن أيام النحر م: (لما بينا أنه مؤقت بها) ش: أي بأيام النحر، وهو ما
ذكره بقوله ووقته أيام النحر.
م: (وإن أخره) ش: أي إن أخر هذا الطواف م: (عنها) ش: أي عن أيام النحر
م: (لزمه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وسنبينه في باب
الجنايات إن شاء الله تعالى. قال) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - م: (ثم يعود) ش: أي من مكة بعد طواف الزيارة م:
(إلى منى فيقيم بها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
رجع إليها) ش: أي إلى منى م: (كما روينا) ش: وهو ما ذكره قبل هذا بقوله
وروي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق أفاض
إلى مكة فطاف» قيل هذا كقوله «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - طاف بالبيت ثم عاد إلى منى وصلى الظهر بمنى» م: (ولأنه) ش:
أي ولأن الحاج م: (بقي عليه الرمي وموضعه بمنى) ش: وفي " شرح مختصر
الكرخي " قال القدوري، قال أصحابنا: إذا بات بمكة فقد أساء ولا شيء
عليه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن بات ليلة فعليه مد، وإن
بات ليلتين فعليه مدان، وإن بات ثلاث ليال فعليه دم.
م: (فإذا زالت الشمس من اليوم الثاني من أيام النحر رمى الجمار الثلاث
فيبتدئ بالتي) ش: أي بالجمرة التي م: (تلي مسجد الخيف) ش: وهو مسجد
إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال في " الديوان "
الخيف ما يحد من غلظ الجبل وارتفع عن سبيل الماء، ومنه سمي مسجد الخيف،
وفي " المغرب " بالسكون المكان المرتفع نحو خيف منى، أو الذي اختلفت
ألوان حجارته، ومنه حديثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
نحن نازلون بخيف بني كنانة " يعني المحصب.
قلت: الخيف خيفان، خيف منى، وخيف بني كنانة، قوله - بالجمرة التي تلي
مسجد الخيف - المراد بالجمرة موضعها، بدليل قوله م: (فيرميها بسبع
حصيات) ش: أي يرمي الجمرة، أي موضعها بسبع حصيات م: (يكبر مع كل حصاة،
ويقف عندها) ش: أي عند الجمرة الأولى.
م: (ثم يرمي التي) ش: أي الجمرة التي م: (تليها) ش: أي تلي جمرة مسجد
الخيف م: (من ذلك) ش: يعني بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة م: (ويقف عندها)
ش: أي عند الجمرة الثانية، وهي التي تلي الجمرة التي تلي مسجد الخيف م:
(ثم يرمي جمرة العقبة كذلك) ش: أي حصيات م: (ولا يقف عندها) ش: أي عند
جمرة العقبة.
(4/253)
هكذا روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
فيما نقل من نسك رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
مفسرا،
ويقف عند الجمرتين في المقام الذي يقف فيه الناس، ويحمد الله تعالى،
ويثني عليه، ويهلل، ويكبر، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، ويدعو الله تعالى بحاجته،
ويرفع يديه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (هكذا روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما نقل من نسك رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفسرا) ش: نصب على الحال
من قوله - هكذا - من أنه مفعول - روي - ويجوز أن يكون حالاً من الموصول
في قوله - فيما نقل - أي فيما نقله، ويجوز حذف الراجع إلى الموصول عند
أهل العلم به، ثم الحديث الذي نسبه المصنف إلى جابر غريب عن جابر،
والذي روي عن جابر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حديثه الطويل أنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى جمرة العقبة يوم النحر لا غير، وروى
أبو داود في " سننه " عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه،
عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أفاض رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى
منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة
بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام
ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» . قال المنذري في " مختصره ":
حديث حسن، ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم " في مستدركه " وقال:
صحيح على شرط مسلم.
م: (ويقف عند الجمرتين) ش: أي الجمرة الأولى والوسطى م: (في المقام
الذي يقف فيه الناس) ش: وهو أعلى الوادي، كذا في " المحيط " م: (ويحمد
الله تعالى ويثني عليه، ويهلل، ويكبر، ويصلي على النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويدعو الله تعالى بحاجته) ش: وكان ابن
عمر وابن عباس وسعيد بن جبير والأسود وطاوس والنخعي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - يطلبون القيام عند الجمرتين وقال ابن المنذر ولا شيء عليه
في ترك القيام، لأنه سنة لا عند الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه
قال: يريق دماً.
م: (ويرفع يديه) ش: يعني عند الوقوف في الجمرتين، وفي المرغيناني
يرفعهما حذو منكبيه بسطا، وفي " الينابيع " يرفع يديه عقيب كل حصاة
ويكبر ويهلل ويسبح ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويسأل حاجته ثم يأتي
المقام، وقيل: إنه يقول عند كل حصاة يرميها بيمينه بسم الله والله أكبر
ثم يرفع يديه ويقول: اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وعملا
مشكوراً، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال يجب أن
يكون بين الرامي وبين المرمى خمسة أذرع، وفي " خزانة الأكمل " إن رماها
من بعيد فوقعت الحصاة قريباً من الجمرة أجزأه، وقال الكرماني -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجزئه وهو
قول ابن حنبل.
ولو رماها في الهواء فوقعت في المرمى لا يجزئه، ذكره النووي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - ويجزئه
(4/254)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن» - وذكر من جملتها " عند
الجمرتين "، والمراد رفع الأيدي بالدعاء. وينبغي أن يستغفر للمؤمنين في
دعائه في هذه المواقف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: «اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» ، ثم الأصل أن كل رمي
بعده رمي يقف بعده؛ لأنه في وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه، وكل رمي
ليس بعده رمي لا يقف لأن العبادة قد انتهت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطرح، وإن رمى حصاة فوقعت وطارت أخرى فوقعت الثانية في المرمى دون
الأولى لا يجزئه، وإن التقطها طائر قبل وصولها لا يجزئه، وإن وقعت
الحصاة على حجر أو أرض صلبة فتدحرجت أو على ثوب إنسان فطارت ووقعت في
المرمى أجزأه، وبه قال أحمد والشافعي - رحمهما الله - في الأصح، ولو
وقعت في عنق البعير أو على المحمل فتدحرجت إلى المرمى تجزئه، وعند
الشافعية لا يجزئه في أظهر الوجهين، ذكرهما النووي. ولو رمى عن القوس
أو بالرجل لا يجزئه.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا ترفع الأيدي
إلا في سبعة مواطن ") ش: هذا الحديث تقدم في باب صفة الصلاة، ولفظ
الحديث في " شرح الآثار " بإثبات الفعل بدون حرف الاستثناء بعده، ولكن
الفقهاء ذكروه بنفي الفعل وحرف الاستثناء بعده، وقالوا لا ترفع الأيدي
إلا في سبعة مواطن، ولئن صح ما رواه الفقهاء فهو أبلغ م: (وذكر من
جملتها) ش: أي من جملة السبعة م: (عند الجمرتين) ش: الأولى والوسطى م:
(والمراد رفع الأيدي بالدعاء) ش: أي المراد من قوله - لا ترفع الأيدي
إلا في سبعة مواطن، رفع الأيدي بالدعاء.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرفع يديه بالدعاء حذو منكبيه، نص
عليه محمد، ويجعل بطون كفيه إلى السماء بخلاف الافتتاح، وقال ابن
المنذر رفع اليد في الدعاء في المقامين إجماع، ولا نعلم أحداً أنكر ذلك
غير مالك، واتباع السنة أولى، وقد ثبت دعاؤه عليه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المقامين.
م: (وينبغي أن يستغفر للمؤمنين في دعائه في هذه المواقف؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللهم اغفر للحاج، ولمن
استغفر له الحاج» ش: هذا الحديث أخرجه الحاكم في " المستدرك " عن شريك
عن منصور عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج»
، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
م: (ثم الأصل أن كل رمي بعده رمي يقف بعده؛ لأنه في وسط العبادة فيأتي
بالدعاء فيه) ش: للوقار والسكينة م: (وكل رمي ليس بعده رمي لا يقف لأن
العبادة قد انتهت، ولهذا لا يقف؛ بعد
(4/255)
ولهذا لا يقف بعد جمرة العقبة في يوم النحر
أيضا. قال: وإذا كان من الغد رمى الجمار الثلاث بعد زوال الشمس. كذلك،
وإن أراد أن يتعجل النفر إلى مكة نفر، وإن أراد أن يقيم رمى الجمار
الثلاث في اليوم الرابع بعد زوال الشمس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ
تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] (203 البقرة) ،
والأفضل أن يقيم لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- صبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جمرة العقبة في يوم النحر أيضاً) ش: لأن العبادة لم تبق.
فإن قلت: الأصل أن الدعاء بعد العبادة كما في الصلاة.
قلت: بل الأصل أن يكون الدعاء مقترنه في العبادة، وإنما أخرت في حق
الصلاة لعدم التكلم فيها.
م: (فإن كان من الغد) ش: وفي أكثر النسخ قال أي القدوري - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: وإذا كان بعد الغد وهو الثالث من أيام النحر، أعني اليوم
الثاني عشر من ذي الحجة م: (رمى الجمار الثلاث بعد زوال الشمس. كذلك)
ش: أي كما رمى في اليوم الحادي عشر يبتدئ بالجمرة التي تلي مسجد الخيف
فيرميها ثم يرمي الجمرة الوسطى ويقف عند الجمرتين ويدعو لحاجته ويرفع
يديه ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها ولا يرفع يديه.
م: (وإن أراد أن يتعجل النفر) ش: أي الرجوع من منى إلى مكة نفر إلى مكة
م: (وإن أراد أن يقيم) ش: أي بمنى م: (رمى الجمار الثلاث في اليوم
الرابع) ش: وهو الثالث عشر من ذي الحجة، والثالث من أيام التشريق،
والرابع من يوم النحر م: (بعد زوال الشمس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ
تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]
(البقرة الآية: 203) .
ش: المراد من اليومين الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة من نفر بعدما
رمى الجمار الثلاث في اليوم الثاني من أيام التشريق فلا إثم عليه وهو
النفر الأول، والنفر الثاني في اليوم الثالث وهو آخر أيام التشريق،
والحاصل أنه لا إثم عليه في التأجيل، ولا في التعجيل وأنه مخير فيهما،
ويجوز التخيير بين التعجيل والتأخير، وإن كان التأخير أفضل، لأنه يجوز
التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار، وإن
كان الصوم أفضل.
وقال الزمخشري: قيل: إن أهل الجاهلية كانوا فريقين، منهم من جعل
التعجيل إثماً، ومنهم من جعل التأخير إثماً فورد القرآن ينفي الإثم
عنهما، ويتعجل يأتي مطاوعاً ومتعدياً، والأول أولى يدل له قوله {لِمَنِ
اتَّقَى} [البقرة: 203] أي ذلك التأخير ونفي المأثم فيها للحاج الذي
يتقي به معاصي الله تعالى.
م: (والأفضل أن يقيم) ش: أي بمنى م: (لما روي أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صبر حتى رمى الجمار الثلاث في
(4/256)
حتى رمى الجمار الثلاث في اليوم الرابع
وله أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرابع، فإذا طلع الفجر من
اليوم الرابع لم يكن له أن ينفر لدخول وقت الرمي، وفيه خلاف الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ -
وإن قدم الرمي في هذا اليوم - يعني اليوم الرابع - قبل الزوال، وبعد
طلوع الفجر جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا استحسان،
وقالا: لا يجوز اعتبارا بسائر الأيام، وإنما التفاوت في رخصة النفر،
فإذ لم يترخص التحق بها، ومذهبه مروي عن ابن عباس - رضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اليوم الرابع) ش: هذا الحديث رواه أبو داود عن ابن إسحاق، وقد ذكرناه
عن قريب.
م: (وله أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرابع) ش: وهو آخر أيام
التشريق م: (فإذا طلع الفجر من اليوم الرابع لم يكن له أن ينفر لدخول
وقت الرمي) ش: فلا ينفر حتى يرمي م: (وفيه خلاف الشافعي) ش: فإن عنده
لا يجوز له النفر إذا غربت الشمس من اليوم الثاني عشر حتى يرمي الجمار
الثلاث في اليوم الرابع، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وهو رواية
عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أنه قال: من أدرك المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى
ينفر مع الناس، قلنا: الليل ليس بوقت لرمي اليوم الرابع، لأن ليلة يوم
الرابع ملحقة باليوم الثالث في حق الرمي، بدليل أنه لو ترك رمي اليوم
الثالث، ورمى في هذه الليلة يجوز بخلاف ما بعد طلوع الفجر، فإنه وقت
الرمي فلا يتقي جاره بعد ذلك، وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- غير مشهور، ولو ثبت يحمل على الأفضلية.
م: (وإن قدم الرمي في هذا اليوم - يعني اليوم الرابع - قبل الزوال وبعد
طلوع الفجر جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو استحسان،
وقالا: لا يجوز) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ
- م: (اعتبارا بسائر الأيام) ش: يعني قياساً عليها، وأراد بسائر الأيام
اليومين، يوم الثاني والثالث دون اليوم الأول من أيام النحر، فإن رمي
جمرة العقبة في ذلك اليوم قبل الزوال جائز بالإجماع م: (وإنما التفاوت
في رخصة النفر، فإذ لم يترخص التحق بها) ش: أي بسائر الأيام، ولأنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى فيه بعد الزوال، وكون الرمي
عبادة لا يعرف إلا بقياس، فيقتصر على مورد النص.
م: (ومذهبه) ش: أي مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (مروي عن
ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: رواه البيهقي عنه إذا انفتح
النهار من يوم النحر فقد حل الرمي والصيد، والانفتاح الارتفاع، وفعل
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمول على الأفضل بدلالة
جواز النفر بحكم الآية، وقياسهما على اليوم الثاني والثالث ضعيف لأنه
لا يجوز ترك الرمي فيهما أصلاً، فجاز التقديم أيضاً على الزوال.
(4/257)
الله عنهما -؛ ولأنه لما ظهر أثر التخفيف
في هذا اليوم في حق الترك؛ فلأن يظهر في حق جوازه في الأوقات كلها
أولى، بخلاف اليوم الأول، والثاني، حيث لا يجوز الرمي فيهما إلا بعد
الزوال في المشهور من الرواية، لأنه لا يجوز تركه فيهما فبقي على الأصل
المروي.
؛ فأما يوم النحر فأول وقت الرمي فيه من وقت طلوع الفجر. وقال الشافعي:
أوله بعد نصف الليل لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن يرموا ليلا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأنه لما ظهر أثر التخفيف في هذا اليوم) ش: يعني اليوم الرابع م:
(في حق الترك؛ فلأن يظهر في جوازه في الأوقات كلها أولى، بخلاف اليوم
الأول، والثاني، حيث لا يجوز الرمي فيهما إلا بعد الزوال في المشهور من
الرواية) ش: إنما قيد بالمشهور، احترازاً عما ذكره الحاكم في " المنتقى
" قال: كان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: الأفضل أن يرمي في
اليوم الثاني والثالث بعد الزوال، يعني في اليوم الثاني والثالث من
أيام النحر، فإن رمى قبله جاز.
م: (لأنه لا يجوز تركه فيهما) ش: أي لا يجوز ترك الرمي في اليومين م:
(فبقي على الأصل المروي) ش: أي بقى حكم الرمي في اليومين على الأصل
المروي، يعني لم يجز إلا بعد الزوال وأراد بالمروي ما روي عن جابر قبل
هذا، أو أراد بالأصل المروي أن لا يتغير حكم المروي عما كان، والذي روي
عن جابر هو «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى جمرة
العقبة قبل الزوال يوم النحر ورمى في بعض الأيام بعد الزوال» .
م: (فأما يوم النحر فأول وقت الرمي من وقت طلوع الفجر. وقال الشافعي)
ش: - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أوله بعد نصف الليل) ش: وبه قال أحمد وهو
قول عطاء م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
رخص للرعاء أن يرموا ليلا» ش: هذا رواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ -
في " معجمه " من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن يرموا ليلاً»
وروى الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
«أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن
يرموا ليلاً وأي ساعة يشاءوا من النهار» .
وروى البزار - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " عن ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - من طريق مسلم ابن خالد الزنجي عن عبيد الله عن
نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(4/258)
ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين» ويروى " حتى تطلع
الشمس "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رخص لرعاء الإبل أن يرموا بالليل» .
وقال ابن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مسلم بن خالد الزنجي شيخ
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضعفه قوم ووثقه آخرون، وقال البخاري وأبو
حاتم: منكر الحديث، والرعاء بكسر الراء وبالمد جمع راع الغنم، وقد يجمع
على رعاة بالضم كقضاة جمع قاض.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا ترموا جمرة العقبة إلا
مصبحين» ويروي «حتى تطلع الشمس» ش: الرواية الأولى رواها الطحاوي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الآثار " حدثنا ابن أبي داود ثنا المقدمي
ثنا فضيل بن سليمان حدثني موسى بن عقبة أخبرنا كريب عن ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يأمر نساءه نقله صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر
بسواد ولا يرموا الجمرة إلا مصبحين.» والرواية الثانية رواها الأربعة
عن عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «كان رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقدم ضعفة أهله بغلس ويأمرهم أن
لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس.» فإن قلت: ما وجه الدليل من الحديثين.
قلت: الإصباح يوجد بعد الفجر فيقول ثبت أول الوقت برواية الطحاوي -
رَحِمَهُ اللَّهُ -، ووقت الأفضل بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -.
قلت: كأنه ما اطلع في هذا الموضع في كتب الحديث، فالحديثان كلاهما لنا،
وما رواه الشافعي يحمل على الليلة الثانية والثالثة.
فإن قلت: احتج الخصم أيضاً بما رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - من
حديث هشام بن عروة عن أبيه «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها
قالت أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم سلمة
ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت ففاضت، وكان ذلك اليوم الذي
يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - يعني عندها،
وروى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً من حديث ابن جريج قال:
أخبرنا عطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال أخبرني مخبر «عن أسماء أنها رمت
الجمرة، قلت: إنا رمينا الجمرة في ليلة قال: إنما كنا نصنع هذا على عهد
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.»
قلت: حديث أم سلمة مروي من طرق وليس فيها أنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمرها أن ترمي ليلاً، ولأن بين مكة وبين جمرة
العقبة ميلين فيجوز أن تكون رمت أول الليل ثم صلت الصبح بمكة. وأما
حديث أسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فمنقطع بروايته عن ابن جريج عن
عطاء قال: أخبرني مخبر عن أسماء
(4/259)
فيثبت أصل الوقت بالأول، والأفضلية
بالثاني. وتأويل ما روي الليلة الثانية، والثالثة؛
ولأن ليلة النحر وقت الوقوف، والرمي يترتب عليه، فيكون وقته بعده
ضرورة، ثم عند أبي حنيفة: يمتد هذا الوقت إلى غروب الشمس لقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أول نسكنا في هذا اليوم
الرمي» جعل اليوم وقتا له، وذهابه بغروب الشمس. وعن أبي يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يمتد إلى وقت الزوال، والحجة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فهو منقطع مجهول، ثم إنه لم يذكر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم بذلك فلم يكره.
م: (فيثبت أصل الوقت بالأول) ش: أي يثبت أصل وقت رمي الجمرة بالحديث
الأول، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترموا
جمرة العقبة إلا مصبحين» م: (والأفضلية بالثاني) ش: أي وتثبت الأفضلية
بالحديث الثاني، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا
ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس» . م: (وتأويل ما روي) ش: أي ما روى
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الليلة الثانية، والثالثة) ش: هذا
جواب عن الحديث الذي رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو «أنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن يرموا ليلاً» وهو
أنه محمول على الليلة الثانية والثالثة توفيقاً بين الحديثين، ولئن
سلمنا أن المراد منه ليلة العيد، فنقول لا حجة للخصم علينا، لأنه ثبت
منه رخصة للرعاء والضعفاء، فلا يعد وهماً؛ لأن الرمي ثابت بخلاف
القياس.
م: (ولأن ليلة النحر وقت الوقوف) ش: يعني وقوف المزدلفة م: (والرمي
يترتب عليه) ش: أي على الوقوف م: (فيكون وقته بعده ضرورة) ش: أي فيكون
وقت الرمي بعد الوقوف، وكون الرمي مرتباً على الوقوف بالإجماع، والقول
بأن وقته بعد النصف من الليل يؤدي إلى خرق الإجماع.
م: (ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يمتد هذا الوقت إلى غروب
الشمس) ش: أي عنده وقت رمي جمرة العقبة من وقت طلوع الشمس إلى غروب
الشمس، روى ذلك الحسن عنه، كذا ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م:
(لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «إن أول نسكنا في هذا اليوم
الرمي» ش: هذا الحديث قد تقدم عند قوله - ثم يحلق أو يقصر - ومضى
الكلام فيه هناك م: (جعل اليوم وقتا له) ش: أي جعل النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليوم وقتاً للرمي، يعني جعله ظرفاً،
فجاز في كل جزء من أجزائه إلى غروب الشمس م: (وذهابه) أي ذهاب اليوم م:
(بغروب الشمس) ش: لأن اليوم من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي روي عن أبي يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أن وقت الرمي م: (يمتد إلى وقت الزوال) ش: وما بعده
قضاء، لأن الوقت يعرف بتوقيت الشارع، والشرع ورد بالرمي قبل الزوال،
فلا يكون ما بعده وقتاً له، وفي " الإيضاح " وأصل محمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في وقت الرمي كأصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (والحجة عليه) ش: أي على أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ما
روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن أول
نسكنا هذا اليوم الرمي» ، وفي " مبسوط شيخ الإسلام " الحاصل أن ما بعد
طلوع الفجر
(4/260)
عليه ما روينا. وإن أخره إلى الليل رماه
ولا شيء عليه، لحديث الرعاء. وإن أخر إلى الغد رماه؛ لأنه وقت جنس
الرمي، وعليه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لتأخيره عن وقته،
كما هو مذهبه.
قال: فإن رماها راكبا أجزأه لحصول فعل الرمي. وكل رمي بعده رمي فالأفضل
أن يرميه ماشيا، وإلا فيرميه راكبا؛ لأن الأول بعده وقوف، ودعاء على ما
ذكرنا فيرمي ماشيا ليكون أقرب إلى التضرع، وبيان الأفضل مروي عن أبي
يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ويكره أن لا يبيت بمنى ليالي الرمي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من يوم النحر إلى طلوع الشمس وقت الجواز مع الإساءة، وما بعده إلى
الزوال وقت مسنون، وما بعده إلى الغروب وقت الجواز من غير إساءة،
والليل وقت الجواز مع الإساءة.
م: (وإن أخره إلى الليل) ش: أي وإن أخر رمي جمرة العقبة إلى الليل م:
(رماه) ش: أي في الليل م: (ولا شيء عليه، لحديث الرعاء) ش: «لأنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص لرعاء الإبل أن يرموا ليلاً»
م: (وإن أخره إلى الغد) ش: أي وإن أخر الرمي إلى غد يوم النحر م:
(رماه؛ لأنه) ش: أي لأن غد يوم النحر م: (وقت جنس الرمي، وعليه دم عند
أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لتأخيره) ش: أي لتأخيره الرمي م: (عن
وقته، كما هو مذهبه) ش: هو أن تأخير الشك عن وقته يوجب النسك من وقتيه
يوجب الدم عنده.
م: (قال: وإن رماها) ش: أي فإن رمى الجمار حال كونه م: (راكبا أجزأه
لحصول فعل الرمي) ش: وفي " المبسوط " " والمحيط " قال أبو حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز الرمي راكباً وماشياً لحصول الرمي، وفي حمل
النوازل عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا رمى يوم النحر أفضل
وفيما بعده من الأيام راجلاً لأنه كذا روي من فعله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المستحب أن
يرمي يوم النحر وآخر أيام التشريق راكباً، لأنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى فيهما راكباً، كذا ذكره في " الإملاء "،
والصحيح أن لا يرمي غير الأول راكباً من أيام التشريق كلها، كما روي عن
أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
- روى «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتي الجمرات بعد
يوم النحر ماشياً» .
م: (وكل رمي بعده رمي فالأفضل أن يرميه ماشيا، وإلا) ش: أي وإن لم يكن
بعده رمي كرمي جمرة العقبة م: (فيرميه) ش: حال كونه م: (راكبا لأن
الأول) ش: أي الرمي الأول م: (بعده وقوف، ودعاء على ما ذكرناه) ش: عند
قوله ثم الأصل إن كان رمي بعده رمي يقف بعده، لأنه في وسط العبادة
فيأتي بالدعاء فيه م: (فيرمي ماشيا ليكون أقرب إلى التضرع) ش: وإظهار
المسكنة.
م: (وبيان الأفضل مروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي بيان
الأفضل في الرمي مروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ماشياً أو
راكباً، وهو أن كل رمي بعده رمي، فالأفضل أن يرمي ماشياً، وكل رمي ليس
بعده رمي كجمرة العقبة، فالأفضل أن يرمي راكباً.
م: (ويكره أن لا يبيت بمنى ليالي الرمي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بها) ش: وذكرنا فيما مضى «عن
(4/261)
وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يؤدب
على ترك المقام بها. ولو بات في غيرها متعمدا لا يلزمه شيء عندنا،
خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه وجب ليسهل عليه الرمي في
أيامه، فلم يكن من أفعال الحج فتركه لا يوجب الجابر.
قال: ويكره أن يقدم الرجل ثقله إلى مكة ويقيم حتى يرمي لما روي أن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يمنع منه، ويؤدب عليه؛ ولأنه يوجب شغل
قلبه، وإذا نفر إلى مكة نزل بالمحصب وهو الأبطح وهو اسم موضع قد نزل به
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: أفاض النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث
بها ليالي التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس» م: (وعمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - كان يؤدب على ترك المقام بها) ش: أي بمنى، وهذا غريب،
نعم روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا ابن نمير عن عبيد الله بن عمر
عن نافع عن ابن عمر أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان ينهى أن يبيت
من وراء العقبة وكان يأمرهم أن يدخلوا بمنى.
م: (ولو بات في غيرها) ش: أي في غير منى حال كونه م: (متعمدا لا يلزمه
شيء عندنا) ش: وإن كان يكره م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -)
ش: فإن عنده بالمبيت بمنى قولان: أحدهما أنه يجب حتى وجب بتركها الدم،
وبه قال مالك، وأحمد - رحمهما الله - في رواية؛ لأنه نسك والثاني أنه
مستحب، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وعن بعض أصحاب
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو ترك البيتوتة ليلة فعليه مد، ولو ترك
ليلتين فعليه مدان، ولو ترك ثلاث ليال فعليه دم م: (لأنه) ش: تعليل
لأصحابنا، أي لأن المبيت م: (وجب ليسهل عليه الرمي في أيامه، فلم يكن
من أفعال الحج فتركه لا يوجب الجابر) ش: كالبيتوتة بمنى ليلة العيد.
م: (قال: ويكره أن يقدم الرجل ثقله) ش: بفتح الثاء المثلثة وفتح القاف،
وهو متاع المسافر وحشمه، كذا في " الديوان " م: (إلى مكة، ويقيم حتى
يرمي لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يمنع منه، ويؤدب
عليه) ش: هذا غريب، وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه ": حدثنا ابن إدريس،
عن الأعمش، عن عمارة، قال: قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من قدم
ثقله من منى ليلة نفره فلا حج له م: (ولأنه) ش: أي ولأن تقدم الثقل م:
(يوجب شغل قلبه) ش: من الاشتغال وذلك لأنه إذا قدمه يحصل له في قلبه
أمور من جهة.
م: (وإذا نفر) ش: أي وإذا ذهب متوجهاً م: (إلى مكة نزل بالمحصب) ش: على
وزن اسم المفعول من التحصيب وهو الأبطح، وهو اسم موضع ذي حصى بين منى
ومكة م: (وهو الأبطح) ش: أي وهو الذي يقال له الأبطح م: (وهو) ش: أي
المحصب م: (اسم موضع قد نزل به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -) ش: فيه أحاديث: منها ما رواه قتادة عن أنس «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر، والعصر، والمغرب،
والعشاء، ورقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف» .
(4/262)
وكان نزوله قصدا، وهو الأصح حتى يكون
النزول به سنة على ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال لأصحابه: «إنا نازلون غدا عند خيف بني كنانة حيث تقاسم المشركون
فيه على شركهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها ما أخرجه مسلم عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، وعمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كانوا ينزلون بالأبطح» .
ومنها ما رواه مسلم أيضاً «عن أبي رافع مولى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لم يأمرني رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أنزل بالأبطح من حين خرج من منى، ولكن
جئت فضربت قبة في منزل، قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان
على ثقل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
م: (وكان نزوله قصدا) ش: أي وكان نزول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالمحصب قصداً م: (وهو الأصح حتى يكون النزول به سنة) ش:
قوله: وهو الأصح احترازاً عما قاله بعض أصحابنا أن النزول بالمحصب ليس
بسنة، واحتجوا على ذلك بما روى البخاري، عن عطاء، عن ابن عباس، قال ليس
التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وعن هذا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التحصيب
مستحب، وليس بسنة، وبه قال مالك، وذهب المصنف وآخرون أنه سنة؛ لأنه -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نزل به قصداً، رآه المشركون لطيف
صنع الله تعالى به من الفتح، والنصر وإهانة لهم، فكان سنة كالرمل في
الطواف، ومعنى ليس التحصيب بشيء ليس بنسك مفروض.
م: (على ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (قال لأصحابه: «إنا
نازلون غدا عند خيف بني كنانة حيث تقاسم المشركون فيه على شركهم» ش:
هذا الحديث أخرجه الجماعة عن عمرو بن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - «عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله أين ننزل غداً أي
في حجه، قال: " هل ترك لنا عقيل منزلاً " قال: " نحن نازلون بخيف كنانة
حيث قاسمت قريش على الكفر» وذلك أن بني كنانة خالفت قريشاً على بني
هاشم أن لا يناكحوهم، ولا يودوهم، ولا يبايعوهم.
وأخرجه البخاري، ومسلم أيضاً عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ونحن بمنى: «نحن نازلون غدا ًبخيف بني كنانة، حيث تقاسموا
على الكفر» وذلك أن قريشاً وبني كنانة تحالفت على بني هاشم، وبني
المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله]-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني بذلك المحصب، وقد ذكر
الأترازي الحديث أولاً، فقال: وقد روى صاحب " السنن " بإسناده إلى
أسامة بن زيد فذكره، ثم قال: وأخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن
ماجه، فكان ما اطلع أولاً على تخريج البخاري، ومسلم ثم استدركه وليس
هذا طريقة من له يد في الحديث.
وقال أيضاً: قوله: «خيف بني كنانة» كما ذكرنا في " السنن " بلا تكرار
الخيف خيفان، وعلى ما ذكره صاحب " السنن "، يكون الخيف الثاني عطف
بيان؛ لأن الخيف خيفان،
(4/263)
يشير إلى عهدهم على شركهم على هجران بني
هاشم، فعرفنا أنه نزل به إراءة للمشركين لطيف صنع - الله تعالى - به،
فصار سنة كالرمل في الطواف،
قال: ثم دخل مكة وطاف بالبيت سبعة أشواط لا يرمل فيها، وهذا طواف
الصدر، ويسمى طواف الوداع، وطواف آخر العهد بالبيت لأنه يودع البيت
ويصدر به عنه، وهو واجب عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: خيف منى، وهو الذي فيه المسجد، وهو مشهور، والثاني خيف بني
كنانة، وهو المحصب، وسمي خيف بني كنانة لأنهم تحالفوا مع قريش في ذلك
الموضع على بني هاشم.
قوله: حيث تقاسم، أي تعاهد، وتحالف، قوله: على شركهم أي مع شركهم، وعلى
بمعنى مع، كما يقال: فلان يقول الشعر على صغر سنه، أي مع صغر سنه.
م: (ويشير إلى عهدهم) ش: أي يشير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إلى عهد بني كنانة م: (على هجران بني هاشم) ش: روي أنهم
حبسوا بني هاشم في واد سبع سنين م: (فعرفنا أنه) ش: أي النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (نزل به) ش: أي بالمحصب م: (إراءة) ش:
أي لأجل الإراءة، وهو مصدر من أرى يرى إراءة م: (للمشركين لطيف صنع -
الله تعالى - به) ش: حيث فتح له مكة، ونصره عليهم م: (فصار) ش: أي
النزول بالمحصب م: (سنة كالرمل في الطواف) ش: حيث كان لإظهار الجد
والقوة ليغيظ به المشركين.
م: (قال: ثم دخل مكة) ش: وفي أكثر النسخ قال: أي القدوري - رَحِمَهُ
اللَّهُ - ثم دخل الحاج مكة بعد نزوله بالمحصب م: (فطاف بالبيت سبعة
أشواط لا يرمل فيها) ش: أي في السبعة الأشواط م: (وهذا طواف الصدر) ش:
لأنه يصدر به عن مكة، أي يرجع، والصدر بفتحتين وهو الرجوع م: (ويسمى
طواف الوداع) ش: لأن وداع البيت يحصل به، والوداع بفتح الواو اسم
التويدع كسلام بمعنى التسليم، وكلام بمعنى التكليم م: (وطواف آخر عهده)
ش: أي ويسمى أيضاً طواف العهد م: (بالبيت؛ لأنه يودع البيت ويصدر به
عنه) ش: أي يصدر بهذا الطواف عن البيت، وفي بعض النسخ: يصدر عنه، أي
رجع عن البيت والأول أجود.
م: (وهو) ش: أي طواف الصدر م: (واجب عندنا) ش: وبه قال أحمد - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده
يستحب في أحد القولين، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه سنة ولا
دم على تاركه، وعلى تارك طواف القدوم دم، وقال ابن قدامة في " المغني
": ووافقه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما، وهذه غفلة، فالمتأخر
يوقف المتقدم دون العكس، قال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أوجب الدم
على تارك طواف الوداع الحسن البصري، ومجاهد، والثوري، والحكم، وحماد،
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما يدل عليه.
(4/264)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف» ، ورخص للنساء
الحيض تركه إلا على أهل مكة؛ لأنهم لا يصدرون، ولا يودعون، ولا رمل فيه
لما بينا أنه شرع مرة واحدة،
ويصلي ركعتي الطواف بعده لما قدمنا. ثم يأتي زمزم، فيشرب من مائها؛ لما
روي «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - استقى دلوا بنفسه
فشرب منه، ثم أفرغ باقي الدلو في البئر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من حج هذا البيت فليكن آخر
عهده بالبيت الطواف» ، ورخص للنساء الحيض تركه) ش: يجوز رفع الآخر،
ونصب الطواف وبالعكس. قوله: رخص أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - للنساء الحيض، وهو جمع حائض، وتخصيص الحائض برخصة الترك
دليل على الوجوب أيضاً، وهذا الحديث رواه البخاري عن طاوس عن ابن عباس
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم
بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض» في لفظ مسلم، قال: «كان
الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» ورواه الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ -، وزاد في آخره، «فإن آخر النسك الطواف بالبيت» وهذه
الزيادة توافق ما في الكتاب.
قال م: (إلا على أهل مكة؛ لأنهم لا يصدرون، ولا يودعون) ش: هذا استثناء
من قوله: وهو واجب، أي طواف الصدر واجب، إلا على أهل مكة فإنه ليس
بواجب عليهم، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو كان واجباً لوجب
على أهل مكة.
قلت: جوابه يفهم من قول المصنف لأنهم لا يصدرون ولا يودعون، فلا يحتاج
إلى التطويل م: (ولا رمل فيه) ش: أي في طواف الصدر م: (لما بينا أنه
شرع مرة واحدة) ش: أشار بقوله: لما بينا إلى قوله فيما مضى: والرمل ما
شرع إلا مرة واحدة في طواف بعده سعي، وفي السروج: ويسقط طواف الوداع عن
ستة: عن المكي؛ لأن التوديع شأن المفارق، والمعتمر، وأهل المواقيت فمن
دونها ممن نوى الإقامة بمكة قبل النفر الأول، وبعده لا يسقط عند أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسقط
لعدم مفارقته البيت وعن الحائض والنفساء.
م: (ويصلي ركعتي الطواف بعده) ش: أي بعد طواف الصدر م: (لما قدمنا) ش:
أي في أوائل هذا الباب، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
-: «ويصلي الطائف لكل أسبوع ركعتين» ، ويأتي زمزم فيشرب من مائها لما
روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى دلواً
بنفسه فشرب منه ثم أفرغ باقي الدلو في البئر» ش: قال الأترازي: قال في
" الإيضاح ": روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
استسقى.. إلخ. نحوه، والعجب منه: كيف يقنع بهذا المقدار، وقد روى أحمد
في " مسنده "، والطبراني في " معجمه " «عن ابن
(4/265)
ويستحب أن يأتي الباب، ويقبل العتبة، ثم
يأتي الملتزم، وهو ما بين الحجر إلى الباب فيضع صدره ووجهه عليه،
ويتشبث بالأستار ساعة يدعو الله تعالى فيها، ثم يعود إلى أهله، هكذا
روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فعل بالملتزم ذلك.
قالوا: وينبغي أن ينصرف وهو يمشي وراءه، ووجهه إلى البيت متباكيا
متحسرا على فراق البيت حتى يخرج من المسجد، فهذا بيان تمام الحج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: جاء النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمزم فنزعت له دلواً فشرب منها ثم مج فيها، ثم
أفرغناها في زمزم، ثم قال: " لولا أن تعلموا عليها السرعة لبدئ» .
وروي عن ابن سعد في كتاب " الطبقات " في باب حجة النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يوافق المذكور في الكتاب، قال: أخبرنا
عبد الوهاب عن ابن جريج عن عطاء «لما أفاض نزع بنفسه الدلو يعني من
زمزم لم ينزع منه أحد فشرب ثم أفرغ باقي الدلو في البئر....» الحديث
وهو مرسل.
م: (ويستحب أن يأتي الباب) ش: أي باب الكعبة م: (ويقبل العتبة) ش: أي
عتبة الباب م: (ويأتي الملتزم، وهو ما بين الحجر إلى الباب) ش: أي ما
بين الحجر الأسود إلى باب البيت م: (فيضع صدره ووجهه عليه، ويتشبث
بالأستار) ش: أي يتعلق بأستار الكعبة وهو جمع ستر م: (ساعة يدعو الله
تعالى فيها، ثم يعود إلى أهله، هكذا روي أن النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فعل بالملتزم ذلك) ش: هذا أخرجه أبو داود في
" سننه " عن المثنى بن صالح «عن عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب قال: طفت مع
عبد الله فلما جئنا دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ، قال: نتعوذ بالله من
النار، ثم مضى، واستلم الحجر، وقام بين الركن والباب، فوضع صدره،
ووجهه، وذارعيه، وكفيه هكذا، وبسطهما بسطاً، ثم قال: هكذا رأيت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.» م: (قالوا) ش: أي
مشايخنا: م: (فينبغي أن ينصرف) ش: أي الحاج م: (وهو يمشي وراءه) ش: أي
والحال أنه يمشي وراءه يعني ينكص على عقبيه م: (ووجهه) ش: أي والحال أن
وجهه م: (إلى البيت) ش: حال كونه م: (متباكيا متحسرا على فراق البيت
حتى يخرج من المسجد الحرام) ش: فهذا الذي ذكرنا م: (بيان تمام الحج) ش:
أي الذي فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(4/266)
|