البناية
شرح الهداية فصل والمواقيت التي لا يجوز أن يجاوزها
الإنسان إلا محرما خمسة: لأهل المدينة ذو الحليفة ولأهل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل المواقيت المكانية للحج]
[دخول الآفاقي مكة بدون إحرام]
م: (فصل) ش: أي: هذا فصل لا يعرب إلا بهذا التقدير؛ لأن الإعراب لا يكون
إلا في الركب، ولما فرغ من ذكر من يجب عليه الحج، وذكر شرط الوجوب، وما
يتبعها، شرع في بيان أول ما يبدأ به من أفعال الحج، وهي المواقيت التي لا
يجوز أن يتجاوزها الإنسان إلا محرماً.
م: (والمواقيت التي لا يجوز أن يجاوزها الإنسان إلا محرما خمسة) ش: الواو
في أول المواقيت واو الاستفتاح، وقد ذكرنا مرة، والمواقيت مرفوع بالابتداء،
وخبره خمسة أي خمسة مواضع، وهو جمع ميقات أصله موقات، قلبت الواو ياء
لسكونها وانكسار ما قبلها كالموازين جمع ميزان أصله موزان ففعل به ما
ذكرناه، والميقات على وزن مفعال وهو الوقت المحدود، فاستعير للمكان، قال
الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الميقات موضع الإحرام. م: (لأهل المدينة) ش:
ويجوز أن يكون التقدير الميقات لأهل المدينة النبوية م: (ذو الحليفة) ش:
فيكون ذو الحليفة جزءا وعلى كلا التقديرين لأهل المدينة ظرف مستقر، وقال
البكري م: (ذو الحليفة) ش: تصغير حلفة، وهي ما بين بني جشم بن بكر بن هوازن
وبين بني خفاجة القبلتين بينه وبين المدينة من ستة أميال وقيل: سبعة، وهو
كان منزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج من
المدينة أو عمره، وكان ينزل تحت شجرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة
اليوم، قال ابن حزم: على أميال من المدينة، وقال عياض: في الأميال على
سبعة، وقال النووي: نحو ستة أميال، وقال الصباغ: ميل، وقال محب الدين
الطبري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا خطأ ظاهر.
قلت: وذكر الرافعي بينها، وبين المدينة ميل، وهو أيضاً خطأ؛ لأن الحس يرد
ذلك، وقال شيخنا في " شرح الترمذي ": بينه وبين مكة عشرة مراحل، وقيل: عشرة
أيام بينه وبين المدينة فرسخان ستة أميال، هذا هو الصواب، والميل ثلث فرسخ،
والفرسخ اثنتي عشرة ألف خطوة، وقال السروجي: الميل أربعة آلاف ذراع بذراع
محمد بن فرح الشاشي، قلت: العوام يسمون ذا الحليفة آبار علي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -.
(4/157)
العراق ذات عرق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأهل العراق ذات عرق) ش: بكسر العين، والكلام فيه كالكلام في ذي
الحليفة لأهل المدينة، وهذا هو الثاني من المواقيت، وهو ما بين المشرق
والشمال من مكة، قال الكرماني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هي ميقات جميع أهل
المشرق، بينها وبين مكة اثنان وأربعون ميلاً وقال غيره بينهما مرحلتان،
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأصل في حقهم، أي في حق أهل
المشرق الإحرام من العقيق اسم لذات عرق، وهو سهو منه، وبينهما مرحلة، وعن
ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما فتح هذان المصران أتوا عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حد لأهل نجد قرناً، فإنه جوز عن
طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم،
قال: فحد لهم ذات عرق، رواه البخاري.
وقال الشيخ تقي الدين في " الإمام ": المصران البصرة، والكوفة، وغيرهما ما
يقرب منهما، قال: وهذا الحديث يدل على أن ذات عرق مجتهد فيها لا منصوصة.
قلت: أنكر ذلك عليه، وقد أخرج مسلم في " صحيحه ": من حديث أبي الزبير عن
جابر قال: سمعت أحسبه رفع الحديث إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة،
ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من
يلملم» .
فإن قلت: شك الراوي في رفعه.
قلت: أخرجه ابن ماجه من حديث أبي الزبير عن جابر قال: «خطبنا رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " مهل أهل الشرق من ذات عرق "
ثم أقبل بوجهه إلى الأفق فقال: " اللهم أقبل بقلوبهم» وهذه الرواية ليس
فيها شك من الراوي.
فإن قلت: في سنده إبراهيم بن يزيد الخوزي لا يحتج به.
قلت: روى أبو داود في " سننه " عن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وقت لأهل العراق ذات عرق،» ورواه النسائي أيضاً.
فإن قلت: كان أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ينكر هذا الحديث عن أفلح بن
حميد، قاله ابن عدي.
قلت: روى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن مالك عن نافع عن ابن عمر «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل العراق ذات عرق» .
فإن قلت: كان الدارقطني يقول: عبد الرزاق لم يتابع على ذلك، ورواه أصحاب
مالك عنه ولم يذكروا فيه ميقات أهل العراق.
(4/158)
ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: روى البزار في " مسنده " عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عطاء
عن ابن عباس قال: «وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لأهل المشرق ذات عرق،» ورواه الشافعي، أخبرنا سعيد بن سالم أخبرني ابن جريج
أخبرني عطاء «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل
المشرق ذات عرق،» رواه الشافعي، فذكره مرسلاً بتمامه، فلم يتوجه الإنكار
على الشيخ تقي الدين فيما قاله؛ لأن الصواب معه.
وقال الأترازي: فإن قلت: كيف وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ذات عرق لأهل العراق، ولم يفتح العراق إلا بعد رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ثم أجاب بأنه مثلما وقت لأهل الشام
الجحفة ولم تفتح الشام إلا بعده - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وقد
كان يعلم بطريق الوحي أن العراق ستكون دار الإسلام، كان يعلم أن الشام
كذلك.
م: (ولأهل الشام الجحفة) ش: الكلام فيه مثل الكلام على ما قبله، وهذا هو
الثالث من المواقيت، وهي ميقات أهل مصر، والمغرب، والشام، من طريق تبوك،
وهي قرية بين الغرب، والشمال من مكة بينها، وبين مكة اثنان وثمانون ميلاً،
وقال النووي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بينهما ثلاث مراحل، أو أكثر، أو
أقل. وقيل: أربع مراحل، وقال الغزالي في بسطه: خمسون فرسخاً.
وقال في " المشارق ": بينها وبين البحر ستة أميال، وبينها وبين المدينة
ثمان مراحل، ويقال لها: مهيعة بكسر الهاء على وزن معيشة، وضبطت في رواية
أبي ذر بإسكان الهاء، وفتح الياء على وزن مفعلة، والأول الصحيح، وإنما سميت
الجحفة لأن العماليق أخرجوا إخوة عاد من يثرب فنزلوا مهيعة، فجاء السيل
فأجحفهم، أي استأصلهم من قولهم: أجحف بهم الذئب إذا استأصلهم، وقد ذكرت في
شرح " الكنز "، أن الجحفة موضع بالقرب من رابغ وهو رسم خال لا يسكن به
والعوام يقولون: جحفة هي الرابغ، وليس كذلك، بل هي مثل ما ذكرنا.
م: (ولأهل نجد قرن) ش: هذا هو الرابع من المواقيت، وهو بفتح القاف، وسكون
الراء بلا خلاف، ويقال له: قرن المنازل، وقرن الثعالب، وقال الجوهري: القرن
بفتح الراء موضع، وهو ميقات أهل نجد، ومنه أويس القرني، قال السروجي: هو
مأخوذ عليه من مكانين فيه وفي تحريك الراء، ونسبة أويس إلى قرن بطن مراد،
وغلط القاضي وغيره.
وفي " الإكمال "، قيل: هو بالسكون اسم الجبل الشرق على الموضع، وبالفتح
مفترق الطرق. ونجد بفتح النون، قال صاحب " المطالع ": هي من عمل اليمامة،
وفي " مناسك الطبري ": قرن ميقات نجد اليمن، ونجد الحجاز، ونجد تهامة، ونجد
الطائف، وقرن شرقي مكة، بينهما اثنان وأربعون ميلاً، وكانت فيه وقعة الطعان
على بني عامر، يقال له: يوم قرن. وفي
(4/159)
ولأهل اليمن يلملم هكذا وقت رسول الله -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هذه المواقيت لهؤلاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الإمام ": هو تلقاء مكة على يوم وليلة منها.
م: (ولأهل اليمن يلملم) ش: وهذا هو الخامس من المواقيت ويقال له: ألملم
بالهمزة موضع الياء، وقال ابن السيد: أرمرم بالراء أيضاً، وهو جنوب مكة
وبينه وبين مكة ثلاثون ميلاً، وفي " الإمام ": هو جبل من جبال تهامة على
ليلتين من مكة، وهو ميقات المتوجهين من تهامة وبعض اليمن؛ لأن اليمن نجد
وتهامة.
وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز صرفه وتركه، قلت: على تأويل المكان
والبقعة، وأنشد بعضهم يقول:
عرق العراق ويلملم اليمن ... بذي الحليفة يحرم المدني
والشام جحفة إن مررت بها ... ولأهل نجد قرن فاستبن
والآخر، ذكره تاج الشريعة:
قرن يلملم ذو الحليفة جحفة ... بل ذات عرق كلها ميقات
نجد تهامة والمدينة مغرب ... شرق وهي إلى الذي مر قات
وقال الأترازي في " شرحه ":
ومما قلته في المواقيت ... ذات عرق عراقي
يلملم ليماني ... وذو الحليفة مدني
وجحفة للشامي داني ... ثم نظر قرن لأهل نجد
منه للإحرام باني ... قلدوا للموت واتبوا بخراب
م: (هكذا وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه
المواقيت لهؤلاء) ش: أي المواقيت الخمسة المذكورة، قوله: هؤلاء، أي
للمذكورين من أهل ذي الحليفة، وأهل العراق، وأهل الشام، وأهل نجد، وأهل
اليمن، والأصل فيه ما رواه البخاري، ومسلم من حديث طاووس عن ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد
قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن، من غير أهلهن ممن
أراد الحج والعمرة» ، ومن كان دون ذلك، فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة،
وليس فيه ذكر ذات عرق، وإنما ذكر هذا في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل
العراق ذات عرق،» وقد مر الكلام فيه آنفاً مستقصى.
(4/160)
وفائدة التأقيت المنع عن تأخير الإحرام
عنها؛ لأنه يجوز التقديم عليها بالاتفاق،
ثم الآفاقي إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفائدة التأقيت) ش: بسكون الهمزة لغة في التوقيت م: (المنع عن تأخير
الإحرام عنها) ش: أي عن هذه المواقيت، قيد بالتأخير لأن التقديم ليس بممنوع
عندنا، لكن إذا قدم الإحرام قبل أشهر الحج يكون مسيئاً عندنا، وعند الشافعي
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز، كذا صرح به في " شرح الطحاوي " -
رَحِمَهُ اللَّهُ -، قلت: تقديم الإحرام على هذه المواقيت جائز بالإجماع.
وقال داود الظاهري: إذا أحرم قبل هذه المواقيت فلا حج له ولا عمرة، والأفضل
عندنا تقديم الإحرام عن هذه المواقيت، والتأخير إليها رخصة من الله تعالى،
ورفق بالناس وكره التقديم مالك وأحمد وإسحاق، قيل: والشافعي، وليس بصحيح؛
لأن النووي ذكر في " المنهاج " الأفضل أن يحرم من دويرة أهله، وفي قول من
الميقات، وهو الأظهر، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون لمن لم يحج أن
يحرم من بيته، ونقل القرطبي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال:
إتمام الحج، والعمرة أن يحرم بهما من دويرة أهله، وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - مثله، أخرجه البيهقي.
وقال القرطبي في " شرح الموطأ " بإسناده أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أهل من بيت المقدس وقال أبو عمر بن عبد البر: أحرم ابن عمر من بيت
المقدس عام الحكمين، وذكر أنه شكر التحكيم بدومة الجندل، فلما اتفق عمرو بن
العاص وأبو موسى من غير اتفاق نهض إلى بيت المقدس فأحرم منه، رواه مالك،
وسعيد، ويدل على صحة ذلك أن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعمران
بن الحصين، وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - أحرموا من المواضع البعيدة قبل المواقيت، وهم فقهاء الصحابة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقد شهدوا إحرام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلموا أن إحرامه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- من ميقاته كان تيسيراً على أصحابه ورخصة لهم، وابن عمر كان أشد الناس
اتباعاً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال القرطبي: كان إحرام ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
من الشام، وكان إحرام عمران بن الحصين من البصرة، وابن مسعود من القادسية،
وكان إحرام علقمة والأسود، وعبد الرحمن بن يزيد الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ
- من بيوتهم، وإحرام سعيد بن جبير من الكوفة على بغلة، رواه سعيد بن منصور
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول الثوري، والحسن بن حي، وقال إسماعيل
القاضي: والذين أحرموا قبل الميقات من الصحابة، والتابعين كثير.
م: (لأنه يجوز التقديم عليها بالاتفاق) ش: أي لأن الشأن أنه يجوز له تقديم
الإحرام على المواقيت بلا خلاف، وقد مر الآن الكلام فيه.
م: (ثم الآفاقي) ش: هو من كان خارج المواقيت، قيل: الصواب يبقى نسبة إلى
المفرد، وهو الأفق، والآفاقي واحد، فإن السماء، والأرض وهي نواحيها.
(4/161)
انتهى إليها على قصد دخول مكة عليه أن يحرم
قصد الحج، والعمرة أو لم يقصد عندنا؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما» . ولأن وجوب الإحرام
لتعظيم هذه البقعة الشريفة فيستوي فيه التاجر والمقيم وغيرهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إذا انتهى إليها) ش: أي إلى هذه المواقيت م: (على قصد دخول مكة عليه أن
يحرم قصد الحج، أو العمرة أو لم يقصد عندنا) ش: وعند الشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - يجوز له مجاوزة الإحرام إذا لم يرد النسك، وفي " النهاية ": وقال
الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما يجب الإحرام عند الميقات على من
أراد دخول مكة للحج والعمرة، فأما من أراد دخولها لقتال فليس عليه الإحرام
عنده قولاً واحداً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلها
يوم الفتح بغير إحرام، فإن أراد دخولها للتجارة أو طلب غريم له فيه قولان.
وفي " المنهاج " للنووي: من قصد مكة غير محرم لا شك أنه يستحب له أن يحرم
بحج أو عمرة، وفي قول: يجب إلا أن يتكرر دخولها كحطاب، وصياد، وقال مالك:
من دخل مكة غير محرم متعمداً أو جاهلاً فقد أساء، ولا شيء عليه، وفي "
النوادر ": يحرم على غير المترددين دخولها، وإن لم يرد نسكاً، وفي " المغني
": قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يدخلها أحد بغير إحرام، وعنه ما يدل
على أن الإحرام مستحب.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجاوز أحد الميقات
إلا محرما» ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا
الحديث رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا عبد السلام بن حرب عن حصين
عن سعيد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجاوزوا الوقت إلا بإحرام» ورواه
الطبراني في " معجمه ".
م: (ولأن وجوب الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فيستوي فيه التاجر
والمقيم وغيرهما) ش: أي غير التاجر، والمقيم مثل طلب غريم له في الحرم، أو
هارب من أحد، أو طالت حاجته، ونحو ذلك؛ لأن المقصود من الإحرام عند الميقان
تعظيم مكة شرفها الله تعالى، والمكي بالاستيطان لها، أو لما حولها جعل نفسه
تبعاً لها، فلم يتصور منه القدوم عليها، فلا يلزمه ما يجب بحق القدوم على
الآفاقي، فإنهم كالحراس حول الحصن. وقال أبو بكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "
العارضة ": الدخول بغير إحرام لأجل القتال حلال أبداً، بل واجب حتى لو يغلب
فيها كفاراً يجب قتالهم فيها بالإجماع.
(4/162)
ومن كان داخل الميقات له أن يدخل مكة بغير
إحرام لحاجته؛ لأنه يكثر دخوله مكة وفي إيجاب الإحرام في كل مرة حرج بين
فصاروا كأهل مكة حيث يباح لهم الخروج منها، ثم دخولها بغير إحرام لحاجتهم،
بخلاف ما إذا قصد أداء النسك؛ لأنه يتحقق أحيانا فلا حرج، فإن قدم الإحرام
على هذه المواقيت جاز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وأتمّوا الحجّ والعمرة لله}
[البقرة: 196] [196 البقرة] وإتمامها أن يحرم بهما من دويرة أهله، كذا قاله
علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومن كان داخل الميقات) ش: أي ومن كان وطنه بين الميقات ومكة م: (له أن
يدخل مكة بغير إحرام لحاجته) ش: أي لأجل حاجته م: (لأنه يكثر دخوله مكة،
وفي إيجاب الإحرام في كل مرة حرج بين) ش: أي ظاهر، والحرج مدفوع شرعاً م:
(فصاروا كأهل مكة، حيث يباح لهم الخروج منها، ثم دخولها بغير إحرام
لحاجتهم) ش: روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رخص للحطابين أن يدخلوها بغير إحرام» والظاهر
أنهم لا يجاوزون الميقات، فدل أنه من كان داخل الميقات.
م: (بخلاف ما إذا قصد أداء النسك) ش: أي الحج والعمرة، حيث لا يجوز دخوله
بلا إحرام ولا مجاوزة الميقات بالإحرام إن خرج عن الميقات م: (لأنه يتحقق
أحيانا) ش: أي لأن قصد من كان داخل الميقات أن النسك متحقق في بعض الأحيان
م: (فلا حرج) ش: حينئذ بخلاف قصده غير، وذلك ليس بحطب وبحشيش وحاجة ونحوها،
فإنه يكثر، وفي إيجاب الإحرام حرج.
م: (فإن قدم الإحرام على هذه المواقيت) ش: أي المواقيت المذكورة م: (جاز)
ش: وهذا إجماع خلافاً لداود الظاهري، فإنه يجوزه ولا حج له م: (لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]
[البقرة: الآية 196] ش: وإتمامها أن يحرم بهما) ش: أي بالحج والعمرة م: (من
دويرة أهله، كذا قاله علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش:
حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه الحاكم في " المستدرك "، في
المعتبر من حديث آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله
بن أبي سلمة المرادي، قال: سئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قول الله
- عز وجل -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]
(البقرة: الآية 196) ، قال: أن تحرم من دويرة أهلك، وقال: حديث صحيح على
شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ورواه البيهقي في " سننه "، وقال: وروي من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - مرفوعاً وفيه نظر، وحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
غريب. وقال الأترازي: روي ذلك عن علي، وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يبين حال تخريجه، قال في " النهاية ": كان شيخي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - كثيراً ما يقول: إن ذكر الدار ها هنا بلفظ التصغير
بمقابلة
(4/163)
والأفضل التقديم عليها؛ لأن إتمام الحج
مفسر به، والمشقة فيه أكثر، والتعظيم له أوفر، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - إنما يكون أفضل إذا كان يملك نفسه أن لا يقع في محظور.
ومن كان داخل الميقات فوقته الحل، معناه الحل الذي بين المواقيت وبين الحرم
لأنه يجوز إحرامه من دويرة أهله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعظيم بيت الله تعالى، يعني أن بيت الله يعظم، وغيره من البيوت يصغر.
م: (والأفضل التقديم عليها) ش: أي الأفضل تقديم الإحرام على المواقيت م:
(لأن إتمام الحج مفسر به، والمشقة فيه أكثر، والتعظيم أوفر) ش: وقال
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإحرام من الميقات هو الأفضل؛ لأن الإحرام
عنده من الأداء، وبه قال مالك، وأحمد، وهو اختيار المزني، والبويطي، وعن
الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كقولنا، وفي " شرح الوجيز ": وهو
الأظهر، وعن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «من أحرم من المسجد الأقصى إلى
المسجد الحرام بحج أو عمرة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ووجبت له
الجنة» وفي رواية: «وإن كانت أكثر من زبد البحر» رواه أبو داود، وأحمد،
وابن ماجه، والدارقطني.
فإن قلت: ما حاله؟
قلت: أبو داود إذا أخرج حديثا، ولم يتكلم في رجاله كان حجة لأن فيه مسارعة
إلى الطاعة.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما يكون) ش: أي التقديم م: (أفضل
إذا كان) ش: أي الذي يحرم قبل المواقيت م: (يملك نفسه أن لا يقع في محظور)
ش: من محظورات الإحرام، وفي " المجتبى ": قال أصحابنا: وكلما قدم الإحرام
عليها فهو أفضل إذا ملك نفسه، وعن بعض أصحاب الشافعي: يستحب التقديم عنده
قولاً واحداً.
فإن قلت: كيف يكون التقديم أفضل، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أحرم من الميقات؟
قلت: كان ذلك لبيان الجواز لمن لا يأمن على نفسه ارتكاب محظور الإحرام،
وشفقته على الضعفاء.
م: (ومن كان داخل الميقات فوقته الحل) ش: أي موضع إحرامه الحل، وقد فسره
بقوله: م: (معناه الحل الذي بين المواقيت وبين الحرم؛ لأنه يجوز إحرامه من
دويرة أهله) ش: وهذا دليل لما ادعاه في معنى الحل، يعني المراد به الحل
الذي بين المواقيت، وبين الحرم لا مطلق الحل، أن لو كان مراده المطلق،
فحينئذ يصير هو كالآفاقي، ولما جاز له أن يحرم من دويرة أهله، وحيث جاز له
ذلك جاز له أن يحرم من دويرة أهله جاز من أي المواضع شاء من أصل، ومثاله
إذا كان من أهل بستان بني عامر، أو نخلة، أو عسفان أو خليص، فالأفضل أن
يكون إحرامه من منزله، ويجوز عندنا تأخيره إلى الحرم، ولا معنى لذكر الحل
الذي هو قبل منزله إلى المواقيت، ومثله في
(4/164)
وما وراء الميقات إلى الحرم مكان واحد. ومن
كان مكة فوقته في الحج الحرم، وفي العمرة الحل؛ لأن «النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن
يحرموا بالحج من جوف مكة وأمر أخا عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن
يعمرها من التنعيم وهو في الحل» ولأن أداء الحج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المواقيت إلى آخر الأرض.
وفي " المحيط "، و " البدائع ": من كان داخل الميقات كأهل بستان بني عامر
فميقاته في الحج والعمرة من داره إلى الحرم، ومن داره أفضل، وكذا الآفاقي
إذا حل في البستان، والمكي إذا أخرج إليه من الحرم يكون حكمه حكم أهل
البستان.
م: (وما وراء الميقات إلى الحرم مكان واحد) ش: في حقه بدليل حل الاصطياد
والاحتطاب في هذه الأماكن م: (ومن كان بمكة) ش: أي ومن كان وطنه بمكة م:
(فوقته) ش: أي فموضع إحرامه م: (في الحج) ش: يعني في قصده في الحج م:
(الحرم) ش: يعني يحرم منه م: (وفي العمرة) ش: أي في قصد العمرة م: (الحل)
ش: أي خارج الحرم م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر
أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن يحرموا بالحج من جوف مكة) ش: هذا
الحديث أخرجه مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من
الأبطح» وذكره البخاري تعليقاً، فقال: وقال أبو الزبير: عن جابر: أهللنا من
البطحاء.
م: (وأمر أخا عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن يعمرها من التنعيم) ش:
أي وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخا عائشة هو عبد
الرحمن بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهذا الحديث أخرجه
البخاري، ومسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «خرجنا مع رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موافقين لذي الحجة، فلما كان
بذي الحليفة إلى أن قالت: فلما كان ليلة الصدر أمر يعني رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم، فأهلت
بعمرة مكان عمرتها، فطافت بالبيت فقضى الله عمرتها وحجتها» .
م: (وهو) ش: أي التنعيم م: (في الحل) ش: وهو موضع قريب من مكة عند مسجد
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وسمي تنعيماً؛ لأن عن يمينه جبلاً يقال
له نعيم، وعن شماله جبل يقال له: ناعم.
م: (ولأن أداء الحج في عرفة) ش: يعني المحرم للحج من مكة يكره أداؤه في
عرفة يعني بوقوفه م: (وهي في الحل) ش: أي والحال أن عرفة في الحل، قال
الأترازي: قوله: عرفة وهي في الحل، وفيه نظر؛ لأن اسم الموقف عرفات، سمي
بجمع إذا درع، كذا في " الكشاف "،
(4/165)
في عرفة وهي في الحل فيكون الإحرام من
الحرم ليتحقق نوع سفره، وأداء العمرة في الحرم، فيكون الإحرام من الحل
لهذا، إلا أن التنعيم أفضل لورود الأثر به، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعرفة اسم اليوم التاسع من ذي الحجة، والذي في الحل فهو الموقف لا اليوم،
انتهى.
قلت: نظره ليس بوارد؛ لأنه اغتر بكلام الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن
اسم الموقف ... إلخ، أن إطلاق عرفة مفرداً لا يجوز إطلاقه على الموقف، وليس
كذلك فإنه يطلق عليه عرفات أيضاً، قال " صاحب المغرب ": عرفات علم للموقف
يقال لها: عرفة أيضاً فافهم؛ لأنها خارجة عن حد الحرم.
م: (فيكون الإحرام من الحرم ليتحقق نوع سفره) ش: لأن الحج عبارة عن سفره م:
(وأداء العمرة في الحرم، فيكون الإحرام من الحل لهذا) ش: ليتحقق نوع سفره
م: (إلا أن التنعيم أفضل) ش: هذا إشارة من قوله: وفي العمرة الحل، يعني أن
إحرام المكي في العمرة الحل، ويجوز له أن يحرم من حيث شاء من الحل، إلا أن
إحرامه من التنعيم أفضل م: (لورود الأثر) ش: وهو الخبر الذي مضى م: (به) ش:
أي بالإحرام من التنعيم.
(4/166)
|