البناية شرح الهداية

باب القران
"
القران أفضل من التمتع والإفراد، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإفراد أفضل، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التمتع أفضل من القران؛ لأن له ذكرا في القرآن، ولا ذكر للقران فيه. وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "القران رخصة "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب القران] [تعريف القران]
م: (باب القران) ش: أي هذا باب في بيان أحكام القرآن، وهو لغة مصدر قرنت هذا بذلك، أي جمعت بينهما. وشرعاً الجمع بين الحج والعمرة وفي الصفة التي تأتي. وهو من باب ضرب يضرب، وأقرن الرجل إذا رفع رمحه لئلا يصيب من قدامه. وفي المشارق يقال قرن، ولا يقال أقرن، ولذا يقال أقرن التمرتين في لقمة واحدة وفي الحديث «نهى عن الإقران في التمر» قاله القاضي عياض - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذا في أكثر الروايات. قال: وصوابه القرآن في صحيح البخاري في باب التمتع والإقران.
قال السغناقي في " شرحه " الإقران غير ظاهر، لأن فعله ثلاثي، قال وصوابه قرن وإنما الإفراد على القرآن لتقدمه طبعاً على القران؛ ولأن القران إنما عرف بعد معرفة الإفراد، ثم قدم القران على التمتع؛ لأنه أفضل منه، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حق المقرن يقدم على المفرد في الحج في البيان والذكر إلا أن المفرد قدم، لأن معرفة القران مرتبة على معرفة الإفراد، ومعرفة الذات مقدمة على معرفة الصفات.

[المفاضلة بين القران والتمتع والإفراد]
م: (القران أفضل من التمتع والإفراد) ش: وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المروزي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن المنذر من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال الثوري وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري وكثير من أهل الحديث واختيار الظاهرية، وروي ذلك عن عمر وعلي وعائشة وأبي طلحة وعمران بن الحصين وسراقة بن مالك وابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جميعاً والبراء بن عازب والهرماس بن زياد الباهلي وسبرة وحفصة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإفراد أفضل) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التمتع أفضل من القران) ش: وبه قال الشافعي في قول م: (لأن له) ش: أي لأن للتمتع م: (لأن له ذكرا في القرآن، ولا ذكر للقران فيه) ش: أي في القرآن، قال الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] فإذا كان مذكوراً في القرآن يكون أهم لو لم يكن أهم لم يذكر في القرآن م: (وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " القران رخصة ") ش: هذا غريب جداً، وذكر الكاكي وجه قول الشافعي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " إنما أجرك على قدر تعبك» والقران رخصة، والإفراد عزيمة، فالتمسك بالعزيمة أولى، انتهى.

(4/282)


ولأن في الإفراد زيادة التلبية، والسفر، والحلق. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يا آل محمد أهلوا بحجة، وعمرة معا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يرض بهذا، وإنما استدل بما أخرجه البخاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرد الحج» وبما أخرجه البخاري ومسلم أيضاً عن نافع «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أهللنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج مفرداً» وبما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن نافع الصايغ عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرد بالحج وأفرد أبو بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -» - وبما أخرجه مسلم عن أبي الزبير «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج» م: (ولأن في الإفراد زيادة التلبية، والسفر، والحلق) ش: لأن القارن يؤدي النسكين بسفر واحد ويلبي لهما بتلبية واحدة ويحلق مرة واحدة والمفرد يؤدي كل نسكه بصفة الكمال، فكان أفضل.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «يا آل محمد أهلوا بحجة، وعمرة معا» ش: هذا الحديث أخرجه الطحاوي عن أم سلمة سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معاً» ، ولنا أحاديث غير هذا، ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم عن عبد العزيز بن صهيب «عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي بالحج والعمرة يقول لبيك حجة وعمرة.»
فإن قلت: قال ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في " التحقيق " مجيباً عنه: إن أنسا حينئذ كان صبياً فلعله لم يفهم الحال.
قلت: رد عليه صاحب " التنقيح "، فقال: بل كان بالغاً بالإجماع، بل كان له نحو من عشرين سنة، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هاجر إلى المدينة ولأنس عشر سنين، ومات وله عشرون سنة، يدل على ذلك ما أخرجه واللفظ لمسلم «عن بكير عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي بالحج والعمرة جميعاً، قال بكير: فحدثت بذلك ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال لبى بالحج وحده، فلقيت أنساً فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس ما يعدوننا إلا صبياناً، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لبيك عمرة وحجة» .
ومنها ما أخرجه البخاري «عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول وهو بالعقيق " أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال صل في هذا الوادي المبارك، وقيل عمرة في حجة» ومنها ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن داود بن عبد الرحمن عن عمرو بن دينار عن عكرمة «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع

(4/283)


ولأن فيه جمعا بين العبادتين، فأشبه الصوم مع الاعتكاف والحراسة في سبيل الله مع صلاة الليل، والتلبية غير محصورة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عمر الحديبية وعمرة القضاء في ذي القعدة من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة مع حجته» .
وقال ابن حزم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روي القران عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ستة عشر من الثقات، واتفقوا على أن لفظ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إهلالاً بحجة وعمرة معاً، وهم الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي وحميد بن عبد الرحمن الطويل وقتادة ويحيى بن سعيد ويحيى بن إسحاق الأنصاري وثابت البناني وبكر بن عبد الله المزني وعبد العزيز بن صهيب وسليمان التيمي ويحيى بن إسحاق وزيد بن أسلم ومصعب بن أسلم وأبو أسماء وأبو قتادة وأبو قزعة، وهو سويد الباهلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
والجواب عن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وحديث ابن عمر وحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هو أن الصحابة قد اختلفوا في أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أين أحرم فبعضهم قالوا من مسجد ذي الحليفة، وبعضهم قالوا من البيداء، فالذين سمعوا تلبيته بالعمرة في المسجد سمعوا تلبيته بالحج بعد أن استقرت راحلته على البيداء قالوا: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قرن الحج بالعمرة والذين لم يسمعوا تلبيته في المسجد لكونهم غائبين، وسمعوا تلبيته بالحج في البيداء.
قالوا: أفرد بالحج، والذين سمعوا في المسجد ولم يسمعوا تلبيته بالحج بالبيداء، ثم رده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فراغه من العمرة ففعل به ما يفعله الحاج من الوقوف بعرفة، وغير ذلك قالوا إنه تمتع، وكل منهم شهد بما صح عنده، ثم لما صح هذا الاحتمال ثبت أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قارناً، لأنا أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شهد بالقران بعدما تحقق عنده، وحديث المفرد والمتمتع محتمل والعمل بالمتحقق أولى من المحتمل.
فإن قلت: قد صح عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان ينهي عن القران، فلو كان أفضل لما نهى عنه.
قلت: «روى الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده إلى مروان بن الحكم، قال: كنا نسير مع عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإذا رجل يلبي بالحج والعمرة، فقال عثمان: من هذا؟ فقالوا: علي فأتاه عثمان فقال ألم تعلم أني نهيت عن هذا، فقال بلى ولكن لم أكن أدع قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقولك» فدل إنكار علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - على أن القران هو الأفضل.
م: (ولأن فيه) ش: أي في القران م: (جمعا بين العبادتين) ش: الحج والعمرة م: (فأشبه الصوم مع الاعتكاف والحراسة في سبيل الله مع صلاة الليل) ش: يعني يحمي الغزاة، ويصلي أيضاً. وجه الشبه في هذين الاثنين هو الجمع بين العبادتين م: (والتلبية غير محصورة) ش: هذا جواب عن قوله، ولأن في الإفراد زيادة التلبية، وتقديره أن المفرد كما يكون بالتلبية مرة أخرى فكذلك

(4/284)


والسفر غير مقصود، والحلق خروج عن العبادة فلا ترجيح لما ذكر، والمقصود بما روي نفي قول أهل الجاهلية إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور. وللقران ذكر في القرآن؛ لأن المراد من قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (196 البقرة) ، أن يحرم بهما من دويرة أهله على ما روينا من قبل. ثم فيه تعجيل الإحرام واستدامة إحرامهما من الميقات إلى أن يفرغ منهما، ولا كذلك التمتع، فكان القران أولى من التمتع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القارن، لأن له أن يأتي منها ما شاء فيجوز أن تكون تلبية القارن أكثر من تلبية المفرد.

م: (والسفر غير مقصود) ش: هذا جواب عن قوله - والسفر - ووجهه أن المقصود هو الحج والسفر وسبيله إليه، فلم يقع الترجيح م: (والحلق خروج عن العبادة فلا ترجيح لما ذكر) ش: يعني فلا تؤثر فيهما ليترجح به، حاصله أنه ليس بعبادة بنفسه، وهو خروج عن العبادة، بخلاف السلام، فإنه عبادة بنفسه.
م: (والمقصود) ش: أي المراد م: (بما روي) ش: أي ما روى الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (نفي قول أهل الجاهلية) ش: هذا جواب عن قوله - القران رخصة - فإنهم قالوا م: (إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور) ش: أخرج البخاري ومسلم عن طاووس «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفراً ويقولون: أدبر الدبر، وعفى الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا يا رسول الله أي الحل، قال: الحل كله» .
قوله: من أفجر الفجور، أي من أشر السيئات، وإنما قالوا ذلك لئلا يخلو البيت عن الزوار في سائر الشهور، فنفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولهم بقوله القران رخصة جائزة وتوسعة من الله تعالى، وليس المراد من الرخصة ما هو أصح، لأن القران عزيمة فسماه رخصة مجازاً، ويجوز أن يراد بها الصلح ويكون كإسقاط شرط الصلاة في السفر، والرخصة مجازاً في مثله عزيمة عندنا.
م: (وللقران ذكر في القرآن) ش: هذا جواب عن قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لأن المراد من قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، أن يحرم من دويرة أهله على ما روينا من قبل) ش: يعني ما روي عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في فضل المواقيت م: (ثم فيه) ش: أي في القران، وهذا مشروع في الترجيح بعد تمام الجواب م: (تعجيل الإحرام) ش: لأنه إذا لم يكن قارناً يكن إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة، ويحرم من مكة، وإحرام القارن بهما من الميقات م: (واستدامة إحرامهما) ش: أي استدامة إحرام الحج والعمرة م: (من الميقات إلى أن يفرغ منهما، ولا كذلك التمتع) ش: لأن إحرامه بالعمرة ممتنع، وإحرامه بالحج ممكن فيحل قبل إحرام الحج والبقاء في الإحرام نسك وعبادة م: (فكان القران أولى من التمتع) .

(4/285)


وقيل الاختلاف بيننا، وبين الشافعي بناء على أن القارن عندنا يطوف طوافين، ويسعى سعيين، وعنده طوافا واحداً، وسعيا واحداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل الاختلاف بيننا، وبين الشافعي بناء) ش: أي الاختلاف الحاصل بيننا وبين الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مبني م: (على أن القارن عندنا يطوف طوافين، ويسعى سعيين، وعنده طوافا واحداً) ش: أي يطوف طوافاً واحداً م: (وسعياً واحداً) ش: أي ويسعى سعياً واحداً، يعني أن النزاع لفظي، وهكذا الاختلاف في كتبهم، وفي " التحفة " وحاصل الخلاف أن القارن يحرم بإحرامين فلا يدخل إحرام العمرة في إحرام الحج، وعنده يكون محرماً بإحرام واحد وهو قول ابن سيرين والحسن البصري وطاووس ومسلم والزهري ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية وابن راهويه وداود، وفيه قول ثالث، وهو أن يطوف طوافين ويسعى سعيا ًواحداً، وهو قول عطاء ابن أبي رباح، وقولنا قول مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رجع إليه، وجابر بن زيد وشريح القاضي وعامر الشعبي ومحمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن الأوزاعي وعبد الرحمن بن الأسود والثوري والأسود ابن يزيد والحسن بن أبي الحسن وحماد بن سلمة، وحماد بن سليمان والحكم بن عتبة وزياد بن مالك وابن شبرمة وابن أبي ليلى، وهو محكي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعلي بن أبي طالب والحسن والحسين بن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ذكر ذلك ابن حزم في " المحلى " وغيره.
واحتج الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن معه بما رواه الترمذي عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد» . وقال الترمذي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حديث حسن غريب، قال: روي عن عبد الله بن عمر ولم يرفعوه، قال: وهو أصح وقال الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رفع حديث ابن عمر خطأ فيه الداودي فرفعه، وإنما هو عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نفسه، قال: هكذا رواه الحفاظ، وهم مع ذلك لا يحتجون بالداودي عن عبد الله أصلاً، فكيف يحتج بحديث ابن عمر في هذا، وصح عنه أنه قال: «تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع» وصح عنه أنه قال: «أفرد الحج والمفرد والمتمتع أتى بطوافين وسعيين» .
واعلم أنه ينبني على هذا الأصل مسائل منها أن القران أفضل، لأنه يجمع بين العبادتين بإحرامين، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بخلافه ويطوف طوافين ويسعى سعيين وتقدم أفعال العمرة على أفعال الحج، وعنده خلاف ذلك، والدم الواجب فيه دم النسك وعنده دم الجبر، حتى لا يحل له الأكل من عنده، وعليه دمان عند ارتكاب محظور الإحرام، وعنده دم واحد وإذا احصر القارن يحل بهديين عندنا، وعنده بواحدتين.

(4/286)


قال: وصفة القران أن يهل بالعمرة، والحج معا من الميقات، ويقول عقيب الصلاة: اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي، وتقبلهما مني؛ لأن القران هو الجمع بين الحج والعمرة، من قولك قرنت الشيء بالشيء إذا جمعت بينهما، وكذا إذا أدخل حجة على عمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط، لأن الجمع قد تحقق إذ الأكثر منها قائم، ومتى عزم على أدائهما يسأل التيسير فيهما وقدم العمرة على الحج فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[صفة القران]
م: (وصفة القران) ش: وفي بعض النسخ قال أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وصفة القران م: (أن يهل بالعمرة، والحج معا من الميقات، ويقول عقيب الصلاة) ش: وهي الركعتان اللتان يصليهما عند الشروع في الإحرام م: (اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي، وتقبلهما مني) ش: وذلك بعد أن يأتي بجميع ما ذكر في المفرد من الاغتسال والوضوء والإحرام وغير ذلك م: (لأن القران هو الجمع بين الحج والعمرة، من قولك قرنت الشيء بالشيء إذا جمعت بينهما) ش: القران مصدر من قرن يقرن، من باب نصر ينصر، وقد استوفينا الكلام فيه في أول الباب.
م: (وكذا) ش: أي وكذا يكون قارناً م: (إذا أدخل حجة على عمرة) ش: يعني أحرم بعمرة ثم أدخل على العمرة حجة م: (قبل أن يطوف لها) ش: أي للعمرة م: (أربعة أشواط، لأن الجمع قد تحقق إذ الأكثر منها) ش: أي من العمرة م: (قائم) ش: لأن أكثر الأشواط منها أو فصار كأن الكل باق، وإنما قيد بقوله قبل أن يطوف لها بأربعة أشواط، لأنه لو أدخل الحج عليها بعد أن طاف أربعة أشواط لا يصير قارناً بالإجماع.
وعند الشافعي ومالك - رحمهما الله - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصير قارناً أيضاً في الصورة الأولى ولو أحرم بحجة ثم أدخل عليها عمرة يصير قارناً، ولكن أساء، لأنه خالف السنة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم، لأنهما نسكان، فيجوز الجمع بينهما كما لو أحرم بعمرة ثم أدخل عليها الحج. وقال في الجديد: لا يجوز، وبه قال أحمد. وفي " الذخيرة " عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - القران هو اجتماع الحج والعمرة في إحرام واحد أو أكثرهما، فإن أدخل الحج على العمرة كان قارناً، وإن طاف بعمرته شوطاً ثم أردف الحج قال: فقد صار قارناً عند ابن القاسم نوى أن يكمل به أحد ركني العمرة بعده وفي قول يصير قارناً في أثناء السعي ويقطع باقيه.
م: (ومتى عزم على أدائها) ش: أي على أداء الحج والعمرة م: (يسأل التيسير فيهما) ش: أي في الحج والعمرة م: (وقدم العمرة على الحج فيه) ش: أي في أدائهما. وقال الكاكي: أي في القران وقال أيضاً ويجوز أن يرجع الضمير إلى السؤال.
فإن قلت: السؤال الذي دل عليه قوله - يسأل الله تعالى - وقال الأترازي قول - قدم - معطوف على قوله - يسأل الله.

(4/287)


وكذلك يقول: لبيك بعمرة وحجة معا، لأنه يبدأ بأفعال العمرة، فكذلك يبدأ بذكرها، وإن أخر ذلك في الدعاء، والتلبية لا بأس به، لأن الواو للجمع،
ولو نوى بقلبه ولم يذكرهما في التلبية أجزأه اعتبارا بالصلاة. فإذا دخل مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاث الأول منها، ويسعى بعدها بين الصفا والمروة، وهذه أفعال العمرة، ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط ويسعى بعده كما بينا في المفرد، ويقدم أفعال العمرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] (196 البقرة) والقران في معنى المتعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: عطف الماضي على المضارع فيه خلاف، إلا إن كان عنده - سأل - بصيغه الماضي وسؤاله التيسير أن يقول: اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني.
قلت م: (وكذلك يقول) ش: أي بتقديم العمرة على الحج في التلبية يقول م: (لبيك بعمرة وحجة معا، لأنه يبدأ بأفعال العمرة) ش: في التلبية، لأنه يشرع أولاً في أفعال العمرة م: (فكذلك يبدأ بذكرها) ش: أي بذكر العمرة، يقول اللهم إني أريد العمرة كما ذكرنا الآن م: (وإن أخر ذلك) ش: أي وإن أخر ذلك العمرة أولاً م: (في الدعاء) ش: بأن قال: اللهم إني أريد الحج والعمرة إلى آخره م: (والتلبية) ش: بأن قال لبيك بحجة وعمرة.
م: (لا بأس به، لأن الواو للجمع) ش: دون الترتيب، وقال الكرماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقديم الحج على ذكر العمرة اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح البخاري " قدم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - العمرة على الحج، وروى الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقديم الحج على العمرة الأول أصح من جهة الرواية، والمعنى لأن أفعالها مقدمة على أفعال الحج وفي " الينابيع " تقديم العمرة على الحج في التلبية أفضل.

[طواف وسعي القارن]
م: (ولو نوى بقلبه ولم يذكرهما في التلبية أجزأه اعتبارا بالصلاة) ش: غير واجب، ولكن ذكر باللسان أن أحوط الذكر فيهما باللسان واجب، بل يكتفي بذكرها عند التلبية غير واجب، ولكن الذكر باللسان أحوط كما في الصلاة م: (فإذا دخل) ش: أي القارن.
م: (مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاث الأول منها، ويسعى بعدها بين الصفا والمروة، وهذه أفعال العمرة، ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط ويسعى بعده كما بينا في المفرد) ش: أي في المفرد بالحج م: (ويقدم أفعال العمرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] (196 البقرة)) بيانه أن الله تعالى جعل الحج غاية ومنتهى إلى التمتع، فيكون المبدأ من العمرة لا محالة، فلما ثبت تقديم العمرة على الحج في التمتع، ثبت أيضاً في القران، لأن القران في معناه وهو معنى قوله م: (والقران في معنى المتعة) ش: لأن في كل منهما جمعاً بين النسكين في سفره. وفي " التحفة " إذا أفرد بالحج ثم قبل الفراغ من أفعال الحج أحرم بالعمرة يصير قارناً أيضاً لكنه أساء لترك السنة.

(4/288)


ولا يحلق بين العمرة والحج؛ لأن ذلك جناية على إحرام الحج، وإنما يحلق في يوم النحر كما يحلق المفرد، ويتحلل بالحلق عندنا لا بالذبح كما يتحلل المفرد، ثم هذا مذهبنا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يحلق) ش: رأسه م: (بين العمرة والحج؛ لأن ذلك جناية على إحرام الحج، وإنما يحلق في يوم النحر كما يحلق المفرد، ويتحلل بالحلق عندنا لا بالذبح كما يتحلل المفرد) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحل بالذبح لأنه روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أحل منهما حتى أنحر» ، ولنا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في رواية: " لا أحل منهما حتى أحلق "، ولأن التحليل يحصل بالحلق كما في المفرد، وتأويل ما رواه حتى أنحر ثم أحلق بعد، انتهى.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال بعض الشارحين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتحلل بالذبح، هذا ليس بمشهور عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويحتمل أن يكون ذلك عنه رواية والمشهور عنه أن المحلل هو الرمي انتهى.
قلت: هو لم يجز مذهب الشافعي كما جاز مذهبه حتى قال هذا القول.
م: (ثم هذا مذهبنا) ش: أي إتيان القارن بأفعال الحج والعمرة جميعاً هو مذهبنا، وبه قال جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والتابعين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقد ذكرناهم عن قريب.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يطوف) ش: أي القارن م: (طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا) ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وهو الرواية عنه، وهو قول الزهري والحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وطاووس وسالم وابن سيرين م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عن مجاهد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن عنده هدي فليحل كله وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حسن ومعناه لا بأس بالعمرة في أشهر الحج. وقال أبو داود هذا حديث منكر، إنما هو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقال المنذري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفيما قاله نظر.
وقد رواه أحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وعثمان بن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد بن جعفر عن عتبة مرفوعاً، ورواه أيضاً يزيد بن هارون ومعاذ بن معاذ العنبري وأبو داود الطيالسي وعمر بن مرزوق عن شعبة مرفوعاً وتقصير من قصر من الرواة لا يؤثر فيما أثبته الحفاظ.

(4/289)


ولأن مبنى القران على التداخل حتى اكتفي فيه بتلبية واحدة، وسفر واحد، وحلق واحد، فكذلك في الأركان. ولنا أنه لما طاف صبي بن معبد طوافين، وسعى سعيين، قال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: - هديت لسنة نبيك؛ ولأن القران ضم عبادة إلى عبادة، وذلك إنما يتحقق بأداء عمل كل واحد على الكمال؛ ولأنه لا تداخل في العبادات المقصودة، والسفر للتوسل، والتلبية للتحريم، والحلق للتحلل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن مبنى القران على التداخل) ش: أوضح التداخل بقوله م: (حتى اكتفي فيه) ش: أي في القران م: (بتلبية واحدة، وسفر واحد، وحلق واحد، فكذلك في الأركان) ش: أي فكذا يكفي في الأركان وهو الطواف والسعي، حاصل المعنى كما جاء التداخل في الإحرام بالأشياء المذكورة جاء التداخل أيضاً في الطواف والسعي الذين هما من الأركان.
م: (ولنا أنه «لما طاف صبي بن معبد طوافين، وسعى سعيين، قال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: - هديت لسنة نبيك» ش: هذا الحديث لم يقع هكذا، فقد أخرجه أبو داود والنسائي عن منصور وابن ماجه عن الأعمش كلاهما عن بني وائل «عن صبي بن معبد الثعلبي قال: أهللت بهما معاً فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هديت لسنة نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وذكر بعضهم فيه قصة، ورواه ابن حبان في " صحيحة " وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة في " مسانيدهم ".
وقال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " العلل ": وحديث الصبي بن معبد هذا حديث صحيح، وروى محمد بن الحسين في " المبسوط «أن صبي بن معبد قرن فطاف طوافين وسعى سعيين، فذكر ذلك لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: هديت لسنة نبيك» . وصبي بضم الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة الثعلبي الكوفي ذكره ابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التابعين الثقات.
م: (ولأن القران ضم عبادة إلى عبادة) ش: أخرى م: (وذلك) ش: أي ضم عبادة إلى عبادة م: (إنما يتحقق بأداء عمل كل واحد على الكمال) ش: ولا يكون إسقاطاً لحدهما لا قراناً م: (ولأنه لا تداخل في العبادات المقصودة) ش: بخلاف العقوبات.
فإن قلت: هذا منقوض بسجدة التلاوة، فإنها عبادة وفيها التداخل.
قلت: المراد العبادة المقصودة، والسجدة لست كذلك، ولأن التداخل لرفع الحرج على خلاف القياس فلا يقاس عليهما ولا يلحق بهما الحج، لأنه ليس في معناها، أي في وجود الحرج.
م: (والسفر للتوسل) ش: جواب عن قوله - ولسفر بهذا - وقوله م: (والتلبية للتحريم، والحلق للتحلل) ش: وقع تكراراً، لأنه ذكره فيما مضى عن قريب، وهو قوله - وبالتلبية غير

(4/290)


فليست هذه الأشياء بمقاصد، بخلاف الأركان، ألا ترى أن شفعي التطوع لا يتداخلان، وبتحريمة واحدة يؤديان، ومعنى ما رواه. دخل وقت العمرة في وقت الحج".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
محصورة ... إلى آخره. قيل ذكر هناك باعتبار الإفراد أفضل، وهاهنا باعتبار إفراد السعي فيحتاج إلى الجواب عنه بالاعتبارين، ومثله في التكرار غير منكر.
قلت: هذا شرح، والتكرار فيه يزيد وضوحاً.
م: (فليست هذه الأشياء) ش: يعني السفر والتلبية والحلق م: (بمقاصد) ش: وإنما هي وسائل، فجاز التداخل فيها، لأن السفر للتوسل إلى أداء الحج والعمرة، فيكتفى بسفر واحد، والمقصود من التلبية الإحرام، ويحصل إحرامهما بتلبية واحدة، والمقصود من الحلق التحلل، فيحصل ذلك بحلق واحد م: (بخلاف الأركان) ش: نحو الطواف والسعي، والطواف ركن، والسعي واجب، فلا يتداخلان.
وأوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أن شفعي التطوع لا يتداخلان، وبتحريمة واحدة يؤديان) ش: لما أن التحريمة غير مقصودة، فيجزئ التداخل فيه م: (ومعنى ما رواه) ش: هذا جواب عن الحديث الذي احتج به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي معنى الحديث الذي رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (دخل وقت العمرة في وقت الحج) ش: بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويجوز ذلك عند عدم القياس.
كما في قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] [يوسف: الآية 82] ، أي اسأل أهلها، وإنما قدر ذلك لأن حقيقة العمرة لا يمكن دخولها في حقيقة الحج، لأن الفرض لا يمكن أن يكون طرفاً لشيء آخر، فتعين المجاز بأن يراد اتحاد الوقت مجازاً، فيكون المعنى يجوز أداء العمرة في أشهر الحج، وذلك لنفي قول أهل الجاهلية أن العمرة لا يجوز أداؤها في أشهر الحج، لا لبيان أن القارن يأتي بطواف واحد وسعي واحد.
فإن قلت: روى الدارقطني عن ابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد الخدري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما بالبيت طوافاً واحداً وبالصفا والمروة طوافاً واحداً» .
قلت: قال ابن الجوزي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو ضعيف، وقال في " التنقيح ": وعطية أضعف منه، وقيل: ولئن سلمنا صحته فمعناه طاف لهما على صفة واحدة بدليل ما روي عن صبي بن معبد وغيره. وأخرج

(4/291)


قال: فإن طاف طوافين لعمرته، وحجته، وسعى سعيين يجزئه؛ لأنه أتى بما هو المستحق عليه، وقد أساء بتأخير سعي العمرة، وتقديم طواف التحية عليه، ولا يلزمه شيء. أما عندهما فظاهر؛ لأن التقديم والتأخير في المناسك لا يوجب الدم عندهما. وعنده طواف التحية سنة، وتركه لا يوجب الدم، فتقديمه أولى. والسعي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه الكبرى " في مسند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري «عن إبراهيم بن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: طفت مع أبي وقد جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين وحدثني أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك، وحدثني أن رسول الله فعل ذلك» .

م: (فإن طاف طوافين) ش: وفي بعض النسخ قال: فإن طاف طوافين أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في القارن فإن طاف طوافين م: (لعمرته وحجته وسعى سعيين يجزئه) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو قال صاحب " الهداية " في قوله وسعى بلفظ أو بحرف الفاء لكان أولى، لأن صورة المسألة السعيان بعد الطوافين ولا يفهم ذلك من حرف الواو، ولهذا ذكر محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الجامع الصغير " بلفظ ثم حيث قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القارن يطوف طوافين لعمرته ولحجته ثم يسعى سعيين قال: يجزئه وقد أساء، انتهى.
قلت تقديم لفظ - طاف طوافين يشعر أن الطواف كان قبل السعي، وإن كانت الواو للجمع، على أن بعضهم ذكر أنها تجيء للترتيب أيضا وإن كان غير مشهور.
م: (لأنه أتى بما هو المستحق عليه) ش: وهو الطوافان وسعيان م: (وقد أساء بتأخير سعي العمرة، وتقديم طواف التحية عليه) ش: هاهنا مناقشات، الأولى: مع المصنف حيث قال طواف التحية يعني طواف القدوم لأن الظاهر من كلام محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المراد أحد الطوافين، طواف العمرة والآخر طواف الزيارة لا طواف القدوم، ولهذا قال: في جواب المسألة تجزئه. ولمحمد ابن عبادة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عما يكون كافياً في الخروج عن عهدة الفرض ولا يحصل الأجر بإتيان السنة وترك الفرض. المناقشة الثانية: مع محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هذه المسألة كان ينبغي أن يجزئه، لأنه ترك الترتيب المشروع فيبطل، كما إذا قدم السعي على الطواف م: (ولا يلزمه شيء) ش: أي دم.
م: (أما عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (فظاهر) ش: يعني عدم اللزوم ظاهر م: (لأن التقديم والتأخير في المناسك لا يوجب الدم عندهما وعنده) ش: أي وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (طواف التحية سنة، وتركه لا يوجب الدم، فتقديمه أولى. والسعي

(4/292)


بتأخيره والاشتغال بعمل آخر لا يوجب الدم فكذا بالاشتغال بالطواف.

قال: وإذا رمى الجمرة يوم النحر ذبح شاة، أو بقرة، أو بدنة، أو سبع بدنة، فهذا دم القران؛ لأنه في معنى المتعة، والهدي منصوص عليه فيها، والهدي من الإبل، والبقر، والغنم، على ما نذكره في بابه إن شاء الله تعالى، وأراد بالبدنة هنا البعير، وإن كان اسم البدنة يقع عليه. وعلى البقرة على ما ذكرنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بتأخيره والاشتغال بعمل آخر لا يوجب الدم، فكذا بالاشتغال بالطواف) ش: أي بطواف التحية، لأن عندهما أحدهما طواف التحية، والآخر طواف العمرة.

[دم القران]
م: (وإذا رمى الجمرة يوم النحر) ش: وفي أكثر النسخ قال وإذا رمى، أي قال القدوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإذا رمى القارن جمرة العقبة يوم النحر، وفي أكثر النسخ قال: وإذا رمى، أي قال القدوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإذا رمى القارن جمرة العقبة يوم النحر م: (ذبح شاة، أو بقرة، أو بدنة، أو سبع بدنة، فهذا دم القران) ش: أي فهذا المذكور دم القران.
م: (لأنه) ش: أي لأن القران م: (في معنى المتعة) ش: لأن كلاً منهما يقال في سفرة واحدة والمتعة اسم بمعنى المتمتع م: (والهدي منصوص عليه فيها) ش: أي في المتعة بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، أي فعليه ما استيسر من الهدي فإذا كان الهدي واجباً على المتمتع بالنص، فكذلك يجب على القارن، لأنه في معنى التمتع في الجمع بين النسكين.
م: (والهدي من الإبل، والبقر، والغنم) ش: أي من هذه الثلاثة، ولما قال والهدي منصوص عليه في المتعة بين الهدي بقوله - والهدي - أي الهدي المذكور في قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) وإن أهدى. من هذه الثلاثة ثم أحال تفسير الأحكام التي فيه على باب الهدي بقوله م: (على ما نذكره في بابه إن شاء الله تعالى) ش: أي في باب الهدي م: (وأراد بالبدنة هنا) ش: أي أراد القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله - أو بدنة أو سبع بدنة - م: (البعير، وإن كان اسم البدنة يقع عليه) ش: أي على البعير م: (وعلى البقرة) ش: لأن اسم البدنة يطلق عليهما م: (على ما ذكرنا) ش: في آخر الفصل الذي قبل هذا الباب. واعلم أن قوله - وأراد بالبدنة البعير - كأنه جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال أنتم تقولون البدنة تطلق على البعير، فكيف قال القدوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هاهنا أو بقرة أو بدنة أو سبع بدنة؟ والجواب نحن لا ننكر إطلاق البدنة على كل واحد من نفسه مفرداً، وهاهنا كذلك.
فإن قلت: سلمنا ذلك، لكن المنصوص عليه هدي وهو اسم لما يهدى به إلى الحرم وسبع بدنة ليس كذلك، ولهذا لو قال: إن فعلت كذا فعلي هدي، ففعل كان عليه ما استيسر من الهدي، وهو شاة.
فالجواب: أن القياس ما ذكرتم ولكن ثبت جواز سبع البدنة أو البقرة «بحديث جابر - رضي

(4/293)


وكما يجوز سبع البعير يجوز سبع البقرة فإذا لم يكن له ما يذبح صام ثلاثة أيام في الحج آخرها يوم عرفة
وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] [196 البقرة] . فالنص وإن ورد في التمتع فالقران مثله لأنه مرتفق بأداء النسكين، والمراد بالحج - والله أعلم - وقته؛ لأن نفسه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عنه - قال: أشركنا حين كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البقرة سبعة وفي البدنة سبعة وفي الشاة واحد» وأما الناذر إذا نوى سبع بدنة فلا رواية في، وعلى تقدير التسليم فالفرق أن النذر ينصرف إلى المتعارف كاليمين وبعض الهدي ليس بهدي عرفاً.

[صيام القارن]
م: (وكما يجوز سبع البعير يجوز سبع البقرة) ش: لحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور م: (فإذا لم يكن له) ش: أي للقارن م: (ما يذبح صام ثلاثة أيام في الحج) ش: أي في وقته يبدأ إن أحرم بالعمرة م: (آخرها) ش: أي آخر الثلاثة الأيام م: (يوم عرفة) ش: يصوم قبل التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة.
قال طاووس والشعبي والنخعي وعطاء والحسن وسعيد بن جبير - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وعلقمة وعمرو بن دينار. وقال شمس الأئمة وهو قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكره صوم يوم عرفة عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الأوزاعي، والثوري - رحمهما الله - يصومهن من أول العشر إلى يوم عرفة ويجوز أن يصومها قبل الإحرام بالحج وهو محرم بالعمرة أو حلال. وبه قال عطاء وأحمد - رحمهما الله - وحكى ابن المنذر عن أبي ثور أنه حكى عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يجوز قبل أن يحرم بالعمرة قلت: هذا غير صحيح، والنقل عند غيرهما، ولا يجوز إلا بعد الإحرام بالعمرة، وكذا ذكره في " المبسوط " و " المحيط " والبدائع " قال هذا بلا خلاف.

م: (وسبعة أيام) ش: أي صوم سبعة أيام م: (إذا رجع إلى أهله لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] [البقرة الآية 196] . فالنص وإن ورد في التمتع فالقران مثله لأنه) ش: أي لأن القارن م: (مرتفق بأداء النسكين) ش: أي العمرة والحج، وقد مر بيانه.
م: (والمراد بالحج) ش: أي في قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) م: (والله أعلم - وقته) ش: أي وقت الحج م: (لأن نفسه) ش: أي نفس الحج م: (لا يصلح ظرفاً) ش: لأنه عبارة عن الأفعال المعلومة، والفعل لا يصلح أن يكون ظرفاً لفعل آخر، وهو الصوم، فتعين الوقت، وهذا عندنا وعند أحمد في رواية، حتى لو صام بعد إحرام العمرة يجوز. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصوم الثلاثة إلا بعد إحرام الحج.
لأن الصوم عبادة بدنية فلا يجوز قبل وقتها كالصلاة، قلنا: إنه دم نسك حيث وفقه - الله تعالى - لأداء النسكين في سفرة واحدة، وأثره يظهر في العمرة، فإن الله تعالى من علينا وشرع

(4/294)


لا يصلح ظرفا، إلا أن الأفضل أن يصوم قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية، ويوم عرفة لأن الصوم بدل عن الهدي، فيستحب تأخيره إلى آخر وقته رجاء أن يقدر على الأصل، وإن صامها بمكة بعد فراغه من الحج جاز، ومعناه بعد مضي أيام التشريق؛ لأن الصوم فيها منهي عنه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لا يجوز لأنه معلق بالرجوع، إلا أن ينوي المقام، فحينئذ يجزيه لتعذر الرجوع. ولنا أن معناه: رجعتم عن الحج، أي فرغتم، إذ الفراغ سبب الرجوع إلى أهله، فكان الأداء بعد السبب فيجوز، وإن فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزئه إلا الدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العمرة في أشهر الحج رداً لقول الكفرة، فظهر أثره في العمرة فكانت هي الأصل في باب التمتع والقران، فإذا وجد سبب وجوب الهدي جاز الصوم الذي خلفه للعاجز عنه.
م: (إلا أن الأفضل أن يصوم) ش: هذا استثناء من قوله: - المراد بالحج وقته - أي المراد بالمذكور من قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] هو الوقت، لكن الأفضل أن يصوم م: (قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية، ويوم عرفة؛ لأن الصوم بدل عن الهدي، فيستحب تأخيره إلى آخر وقته رجاء) ش: أي لأجل رجاء م: (أن يقدر على الأصل) ش: وهو الهدي م: (وإن صامها) ش: أي إن صام سبعة أيام م: (بمكة بعد فراغه من الحج جاز) ش: في أي مكان كان م: (ومعناه) ش: أي معنى هذا الكلام م: (بعد مضي أيام التشريق؛ لأن الصوم فيها) ش: أي في أيام التشريق م: (منهي عنه) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا لا تصوموا في هذه الأيام» ، وقد مر في كتاب الصوم، وإنما قيد هذا الكلام بقوله - ومعناه - لأنه لما يذكر هذا القيد.
ولكن المراد هو المراد فيه فلذلك ذكره لأنه يشرح كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز) ش: أي صوم السبعة بمكة، إلا أن يقيم بها م: (لأنه) ش: أي صوم السبعة م: (معلق بالرجوع) ش: إلى أهله فيكون الرجوع شرطاً، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.
م: (ولنا أن معناه: رجعتم عن الحج، أي فرغتم، إذ الفراغ سبب الرجوع إلى أهله فكان الأداء بعد السبب) ش: أي بعد وجود السبب، وهذا من باب ذكر المسبب وهو الرجوع وإرادة السبب وهو الفراغ وكان الأداء بعد السبب م: (فيجوز) ش: وإنما صير إلى المجاز، لأن الرجوع ليس بشرط بالاتفاق ألا ترى أنه إذا نوى الإقامة بمكة جاز له صوم السبعة بمكة وإن لم يوجد الرجوع إلى أهله، وقد قيل معناه إذا رجعتم إلى مكة، وقيل إذا رجعتم إلى الحالة الأعلى معنى إذا فرغتم من أفعال الحج م: (وإن فاته الصوم) ش: أي صوم هذه الأيام الثلاثة م: (حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم) ش: روى ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد والحسن وعطاء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ووجوب صومها بعد أيام التشريق حماد والثوري وابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أحد أقوال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على

(4/295)


وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصوم بعد هذه الأيام لأنه صوم موقت، فيقضي كصوم رمضان. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصوم فيها لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] (196 البقرة) ، وهذا وقته. ولنا النهي المشهور عن الصوم، في هذه الأيام فيتقيد به النص أو يدخله النقص، فلا يتأدى به ما وجب كاملا، ولا يؤدى بعدها؛ لأن الصوم بدل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما يجيء الآن.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصوم بعد هذه الأيام) ش: أي أيام التشريق وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا ستة أقوال: أحدها: لا صوم، وينقل إلى الهدي، الثاني: عليه صوم عشرة أيام مطلقاً، والثالث: عليه صوم عشرة أيام يفرق بيوم، الرابع: يفرق بأربعة أيام. والخامس: يفرق بمدة إمكان السير.
والسادس: بأربعة أيام، ومدة إمكان السير وهو أصحها عندهم ذكر ذلك كله النووي في " شرح المهذب " وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأخرج ابن شريح وإسحاق المروزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولاً إنه يسقط الصوم ويستقر في ذمته ولا يجب التتابع في الثلاثة ولا في السبعة، وقال ابن قدامة: ولا نعلم فيه خلافاً م: (لأنه صوم موقت، فيقضي) ش: فإذا فات أداؤه يجب قضاؤه.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصوم فيها) ش: أي في أيام التشريق م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196)) ش:، وهذا وقته. ولنا النهي المشهور عن الصوم في هذه الأيام) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألا لا تصوموا في هذه الأيام» ، وقد مر في الصوم، ويعكر عليه حديث أخرجه البخاري «عن عائشة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يضمن إلا لمن لم يجد الهدي» وقال البيهقي في " المعرفة ": هذا يشبه المسند، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بلغني أن ابن شهاب يرويه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي التعريض بلفظ المشهور إشارة إلى الجواب عما يقال النص يدل على شرعية الصوم في هذه الأيام بقوله - في الحج - فلا يجوز تقييده بغير أيام التشريق بالخبر، لأنه نسخ بالكتاب، وتقدير الجواب أن الخبر مشهور فيجوز التقييد به.
م: (فيتقيد به النص) ش: أي يتقيد بالخبر المشهور قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، وقد علم في الأصول أن تقييد المطلق من كتاب الله عز وجل بالخبر المشهور جائز، فيكون العمل بالمقيد نسخاً للإطلاق م: (أو يدخله النقص) ش: يعني يدخل الصوم لورود النهي عن الصوم في هذه الأيام م: (فلا يتأدى به ما وجب كاملا) ش: أي فلا يتأدى بسبب النقص ما وجب كاملاً، وأراد بما وجب كاملاً صوم ثلاثة أيام.
م: (ولا يؤدي بعدها) ش: أي بعد هذه الأيام م: (لأن الصوم بدل) ش: أي عن الهدي، فلو جاز قضاؤه يلزمه أن يكون للبدل بدل، ولا نظير له في الشرع، وذلك لأن أداء الصوم بدل، ثم

(4/296)


والأبدال لا تنصب إلا شرعا، والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر في مثله بذبح الشاة، فلو لم يقدر على الهدي تحلل وعليه دمان، دم التمتع، ودم التحلل قبل الهدي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قضاؤه يدل على البدل م: (والأبدال لا تنصب إلا شرعا) ش: يعني البدل على خلاف القياس، لأنه لا مماثلة بين إراقة الدم والصوم، فلا يثبت إلا بإثبات الشارع م: (والنص خصه بوقت الحج) ش: النص هو قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) قوله - خصه - أي الصوم بوقت الحج، حيث قال في الحج، فإذا فات وقته فات هو أيضاً، فيظهر حكم الأصل وهو الدم على ما كان.
م: (وجواز الدم على الأصل) ش: هذا جواب سؤال وهو أن يقال الدم يجوز في أيام النحر والتشريق، وبعدها ينبغي أن يجوز الصوم، لأنه بدله، فقال وجواز الدم بطريق الأصالة لا بطريق البدل، ولم يقيده الشارع بوقت، حيث قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فبقي مطلقاً، ففي أي وقت أتى به يجوز، بخلاف الصوم؛ لأنه موقت بوقت الحج.
م: (وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر في مثله بذبح الشاة) ش: يعني في قارن لم يجد الهدي ولم يصم حتى أتت عليه أيام النحر، وهذا عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غريب، وكذا ذكره في " المبسوط " فنقل عن عمر أنه أتاه رجل يوم النحر فقال: إني تمتعت بالعمرة إلى الحج، فقال: اذبح شاة، قال ما معي شيء، قال: سل أقاربك، قال: ما هنا أحد منهم، فقال: يا فتى أعطه قيمة شاة.
م: (فلو لم يقدر) ش: أي القارن م: (على الهدي تحلل وعليه دمان، دم التمتع، ودم التحلل قبل الهدي) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما يلزم ذلك لوقوع التحلل قبل أوانه.
فإن قلت: التحلل جناية على إحرامين، فينبغي أن يلزمه دمان.
قلت: إنه خرج بالحلق عن إحرام العمرة، فيكون هذا جناية على إحرام الحج فقط، ولا يلزمه بتأخير الذبح عن الحلق شيء. وفي " المحيط والبدائع " لو قدر على الهدي بعد المال صام ثلاثة أيام قبل يوم النحر لزمه الهدي وبطل صومه، وإن وجده بعدما حلق أو قصر قبل صوم السبعة فلا هدي عليه، وكذا لو لم يحل حتى مضت أيام النحر فلا هدي عليه، وصومه تام.
وفي " المبسوط " وجد الهدي بعد صوم يومين بطل صومه ويجب الهدي، وبعد التحلل لا يجب كالمتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من صلاته، وفي المجرد صام ثلاثة أيام ثم وجد الهدي بعد صومه بطل صومه، وفي قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في نوادر ابن سماعة لا ذبح عليه، وجاز صومه، سواء وجد الهدي في أيام الذبح أو بعدها. وقال

(4/297)


فإن لم يدخل القارن مكة وتوجه إلى عرفات فقد صار رافضا لعمرته بالوقوف؛ لأنه تعذر عليه أداؤها؛ لأنه يصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج، وذلك خلاف المشروع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحسن وقتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إذا دخل في الصوم ثم أيسر مضى في صومه، واختاره ابن المنذر، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقال الأترازي في هذا الموضع كلامًا كثيراً، حاصله أنه أراد الإشكال بيانه أن قوله - فلو لم يقدر إلى قوله - قبل الهدي - لفظ القدوري بعينه في " شرحه " لمختصر القدوري ولكن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ساق كلامه في المتمتع وصاحب الهداية نقل ذلك إلى القارن والإشكال أنه هو كيف جعل حكمهما واحداً في الكفارة والمتمتع حكمه في الكفارة حكم المفرد، سواء لأنه محرم بعمرة.
فإذا فرغ منها يجزئه بحجة، وبه صرح في " شرح الطحاوي "، فلما كان كذلك يجب عليه دم واحد للكفارة، كالمفرد إذا جنى، وأما القارن إذا جنى يجب عليه دمان الأجل الجناية إلا أنه لو حلق المفرد قبل الذبح لا يلزمه دم عند أبي حنيفة أيضاً، لأنه لا ذبح على المفرد فلا يتحقق تأخير النسك، فينبغي أن يجب هنا دمان آخران سوى دم النسك بجناية على إحرامين في الحج والعمرة جميعاً، انتهى.
قلت: صاحب الهداية - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم ينقل لفظ التمتع إلى القارن قصد الهدي الذي ذكره حتى يرد عليه إشكال، بل نية ذلك أن مراد القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - من لفظ المتمتع هو القران، لأنه يصح إطلاقه عليه من حيث أن كلاً منهما نسكان في الصورة، وإن كان بينهما فرق في الحكم، ولهذا وقع عند بعض الشراح هنا بعد قوله دم التمتع أو القران.

م: (فإن لم يدخل القارن مكة، وتوجه إلى عرفات فقد صار رافضا لعمرته بالوقوف) ش: هذا لفظ القدوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مختصره، وذكر صاحب " الهداية " تعليله بقوله م: (لأنه) ش: أي لأن القارن م: (تعذر عليه أداؤها) ش: أي أداء العمرة م: (لأنه يصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج، وذلك خلاف المشروع) ش: لأن المشروع أن يكون الوقوف مرتباً على أفعال العمرة. وقال الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مختصره إلى عرفات قبل أن يطوف لعمرته، فإن أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يقول قد صار بذلك رافضاً لعمرته حين توجه وعليه دم وعمرة مكانها، ويمضي في حجه. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لا يكون رافضاً لعمرته حتى يقف بعرفات بعد زوال الشمس.
وقال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه لمختصر الطحاوي: هذا الخلاف الذي ذكر أبو جعفر لا نعرفه، وإنما نعرف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها روايتين، وأما رواية " الجامع الصغير " و " الأصل " فإنه لا يكون رافضاً بالتوجه حتى يقف بعرفات بعد الزوال وروى صاحب

(4/298)


ولا يصير رافضا بمجرد التوجه، هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا. والفرق له بينه وبين أن يصلي الظهر يوم الجمعة إذا توجه إليها أن الأمر هنالك بالتوجه متوجه بعد أداء الظهر،
والتوجه في القران والتمتع منهي عنه قبل أداء العمرة فافترقا. قال: وسقط عنه دم القران لأنه لما ارتفضت العمرة لم يرتفق لأداء النسكين، وعليه دم لرفض عمرته بعد الشروع فيها، وعليه قضاؤها لصحة الشروع فيها، فأشبه المحصر، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الإملاء " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يكون رافضاً بالتوجه وذكر الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكافي " عن " نوارد ابن سماعة " قال وفي قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو رافض للعمرة حين توجه إلى عرفات، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصير رافضاً بالتوجه ولا بالوقف، انتهى.
قلت: وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يكون رافضاً ما لم يأخذ في التحلل، لأن عنده طواف العمرة يدخل في طواف الحج، فلا يلزمه طواف مقصود وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يكون رافضاً ما لم يركع الطواف.
م: (ولا يصير رافضا بمجرد التوجه، هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا) ش: احترز به عن رواية أصحاب الإملاء عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد مر آنفاً م: (والفرق له) ش: أي لأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (بينه) ش: أي بين التوجه إلى عرفات م: (وبين أن يصلي الظهر) ش: في منزله م: (يوم الجمعة إذا توجه إليها أن الأمر هنالك) ش: وفي بعض النسخ هناك هو قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (الجمعة: 9) م: (بالتوجه متوجه بعد أداء الظهر) ش: ووجه توجهه أنه مأمور بالتوجه إلى الجمعة وفرض من فروضها بالنص.

م: (والتوجه في القران والتمتع منهي عنه قبل أداء العمرة فافترقا) ش: أي حكم التوجه إلى الجمعة، وحكم التوجه إلى عرفات م: (وسقط عنه دم القران) ش: وفي بعض النسخ قال وسقط أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وسقط وفي بعض النسخ أيضاً وبطل عنه دم القران م: (لأنه لما ارتفضت العمرة لم يرتفق لأداء النسكين) ش: وهما العمرة والحج، وفي بعض النسخ لم يتوقف لأداء النسكين.
م: (وعليه دم لرفض عمرته بعد الشروع فيها، وعليه قضاؤها) ش: أي قضاء العمرة المرفوضة م: (لصحة الشروع فيها) ش: أي في العمرة، لأن الشروع ملزم، ولأن هذا تحليل من إحرامها يعني طوافاً م: (فأشبه المحصر) ش: حيث يجب عليه دم رفضاً «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر عام الحديبية بعث البدن للنحر ورجع وقضى عمرته من قابل» كذا في " مبسوط شيخ الإسلام " والله أعلم.

(4/299)