البناية شرح الهداية

كتاب اللقطة قال: اللقطة أمانة إذا أشهد الملتقط أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها؛ لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب اللقطة]
[تعريف اللقطة]
م: (كتاب اللقطة) ش: أي هذا الكتاب في بيان أحكام اللقطة، اللقطة واللقيط متقاربان لفظاً ومعنى، وخص اللقيط بابن آدم واللقطة لغيره للتمييز بينهما، وقدم الأول لشرف بني آدم، وقيل: خص لفظ اللقطة بالمال؛ لأن الفعلة بضم الفاء وفتح العين نعت للمبالغة في الفاعلية، كالضحكة واللعنة.
واللقيط فعيل بمعنى المفعول، فاللقيط الدال على الفاعلية أولى بالمال، [....] على الإسناد الخبري كناية كحلوب وركوب كأنها تحلب نفسها وتركب عليه نفسها على وجه المبالغة لزيادة رغبة من رآها في الحلب والركوب.
أما الطفل المفقود لا يميل كل من رآه لرفعه لزيادة ضرر حاضر، فإن أمه نبذته قصد ضرر خاص، بخلاف اللقطة، فإن فيها نفعاً حاضراً، وفي " المغرب " اللقطة الشيء تجده ملقى فتأخذه، وقيل: عين المال الضائع عن صاحبه يلتقطه غيره، وعن الخليل اللقطة بفتح القاف للملتقط؛ لأن ما جاء على فعلة فهو اسم للفاعل، وسكون القاف المال الملتقط مثل الضحكة للذي يضحك منه، وعن الأصمعي وابن الأعرابي، والفراء بفتح القاف اسم للحال أيضاً م: (قال اللقطة أمانة إذا أشهد الملتقط أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره، وشرط الإشهاد كما ترى بلا ذكر خلاف، حتى إذا ملك عنده وقد ترك الإشهاد يضمن.
وقال الطحاوي في " مختصره ": إن أبا حنيفة كان يقول: إن كان أشهد على ذلك فلا ضمان عليه فيها، وإن لم يشهد على ذلك كان عليه ضمانها، وقال أبو يوسف: للضمان عليه فيها أشهد على أنه أخذها ليعرف بها، وإن لم يشهد بعد أن يحلف بالله ما أخذها إلا ليعرف بها، ثم قال الطحاوي: وبه يأخذ، ولم يذكر الطحاوي قول محمد، وذكر " المتوسطة " و " المختلف " و " الحصة " و " فتاوى الولوالجي ".
وخلاصة الفتاوى قول محمد مع أبي حنيفة، وذكر في " التحفة " و " شرح الأقطع " قول محمد مع أبي يوسف ثم علل المصنف ما ذكره القدوري بقوله م: (لأن الأخذ) ش: أي أخذ اللقطة م: (على هذا الوجه) ش: أي على وجه الإشهاد عند الأخذ م: (مأذون فيه شرعاً) ش: لأجل الحفظ على صاحبها، وإذن الشارع ليس أقل من إذن المالك، فإذا أذن المالك فلا ضمان، فكذا

(7/323)


بل هو الأفضل عند عامة العلماء. وهو الواجب إذا خاف الضياع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا أذن الشارع، ألا ترى أن الوديعة لا يجب فيها الضمان لوجود الإذن فكذا هذا، فإن قلت من أين يوجد إذن الشارع فيه.
قلت: من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب لقطة فليشهد ذا عدل» . رواه إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن عياض بن حمار عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإنه يدل على أن له أن يأخذها بالإشهاد م: (بل هو الأفضل) ش: أي بل أخذ اللقطة أفضل قال في " الشامل ": أخذ اللقطة مندوب إليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] (المائدة: الآية 2) .
وفي " المبسوط " اختلف في رفعها فالمتقشفة يقولون: لا يحل رفعها؛ لأنه أخذ مال الغير بغير إذنه، وهو حرام شرعاً، وهو مخالف للحديث، وإجماع الأئمة، وقال بعض التابعين: تحل رفعها ولكن الترك أفضل، وبه قال أحمد في الأصح، وأشار المصنف إلى أن رفعها أفضل: (عند عامة العلماء) .
ش: إذا وجدها بموضعه فله رفع ذلك وهو رواية عن أحمد واختارها أبو الخطاب الحنبلي، وعن الشافعي في قول إذا لم يأمن عليها رفعها واجب.
وقال مالك: إن كان شيئاً له مال فرفعه أحب إلي؛ لأن فيه حفظ مال المسلم، فكان أولى من وضعه وفي شرح الأقطع مستحب أخذ اللقطة، ولا يجب.
وقال في " النوازل ": أبو نصر محمد بن محمد بن سلام: ترك اللقطة أفضل في قول أصحابنا من رفعها ورفع اللقيط أفضل من تركه.
وقال في " خلاصة الفتاوى ": إن خاف ضياعها يعرض الرفع، وإن لم يخف لا يباح رفعها، وأجمع العلماء عليه، والأفضل الرفع في ظاهر المذهب، وقال في فتاوى الولوالجي اختلف العلماء في رفعها.
قال بعضهم: رفعها أفضل من تركها، وقال بعضهم: يحل رفعها وتركها أفضل، وقال الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": ولو رفعها ووضعها في مكانه ذلك فلا ضمان عليه في ظاهر الرواية.
وقال بعض مشايخنا: هذا إذا أخذ ولم يبرح عن ذلك المكان حتى وضع هناك، فأما إذا ذهب عن مكانه ذلك ثم أعادها ووضعها فإنه يضمن، وقال بعضهم: إذا أخذها ثم أعادها إلى ذلك المكان فهو ضامن ذهب عن ذلك المكان أو لم يذهب، وهذا خلاف ظاهر الرواية.
م: (وهو الواجب) ش: أي رفعها هو الواجب م: (إذا خاف الضياع) ش: أي ضياع اللقطة م:

(7/324)


على ما قالوا، وإذا كان كذلك لا تكون مضمونة عليه، وكذلك إذا تصادقا أنه أخذها للمالك؛ لأن تصادقهما حجة في حقهما، فصار كالبينة، ولو أقر أنه أخذها لنفسه يضمن بالإجماع؛ لأنه أخذ مال غيره بغير إذنه وبغير إذن الشرع، وإن لم يشهد الشهود عليه، وقال الآخذ: أخذته للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يضمن، والقول قوله لأن الظاهر شاهد له لاختياره الحسبة دون المعصية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(على ما قالوا) ش: أي المشايخ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] : (التوبة: الآية 71) ، فإذا كان وليه وجب عليه حفظ ماله، وفي " الذخيرة " يفترض رفعها إذا خاف ضياعها بتركه.
م: (وإذا كان كذلك) ش: وإذا كان أخذ اللقطة مأذونا فيه م: (لا تكون مضمونة عليه) ش: أي على الملتقط لجواز الأخذ له شرعا.
م: (وكذلك) ش: أي وكذا لا تكون اللقطة مضمونة م: (إذا تصادقا) ش: أي المالك والملتقط م: (أنه) ش: أي أن الملتقط م: (أخذها للمالك؛ لأن تصادقهما حجة في حقهما فصار) ش: أي فضل فيهما م: (كالبينة) ش: يعني أن البينة إذا وجدت عند الأخذ لا يجب الضمان، فكذا إذا وجد التصادق.
م: (ولو أقر أنه أخذها لنفسه يضمن بالإجماع) ش: ذكر هذا تفريعاً لمسألة القدوري. إنما قيد بالإجماع احترازاً عن الضمان الذي يلزم عند عدم الإشهاد عند أبي حنيفة؛ لأن فيه خلاف أبي يوسف م: (لأنه) ش: أي لأن الملتقط م: (أخذ مال غيره بغير إذنه وبغير إذن الشرع) ش: فكان عاصياً، وقال في " شرح الطحاوي ": أخذها ليأكلها لا ليردها على صاحبها ثم هلكت فإنه يضمن ولا يبرأ من ضمانها حتى يدفعها على صاحبها م: (وإن لم يشهد الشهود عليه) ش: أي عند الالتقاط.
م: (وقال الآخذ: أخذته للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يضمن) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد؛ لأن الإشهاد غير واجب بل هو مستحب، وذكر في شرح الأقطع قول محمد مثل قول أبي يوسف.
م: (والقول قوله) ش: أي قول الملتقط مع يمينه م: (لأن الظاهر) ش: أي ظاهر الحال م: (شاهد له) ش: أي للملتقط م: (لاختياره الحسبة دون المعصية) ش: أي لاختيار الملتقط وجه الله تعالى، والحسبة أي من الاحتساب كالعدة من الإعداد، وإنما قيد الحسبة عملاً لم ينو به وجه الله تعالى؛ لأن له حينئذ أن يعيد عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد.... كذا ذكره الزمخشري في " الفائق ".

(7/325)


ولهما أنه أقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير وادعى ما يبرئه وهو الأخذ لمالكه، وفيه وقع الشك، فلا يبرأ وما ذكر من الظاهر يعارضه مثله؛ لأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملا لنفسه،
ويكفيه في الإشهاد أن يقول من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي، واحدة كانت اللقطة أو أكثر؛ لأنه اسم جنس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحاصل الكلام أن مطلق فعل المسلم محمود على ما يحل شرعاً، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تظن بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها محملاً من الخير» وإنما كان القول قول صاحبها؛ لأن صاحبها يدعي سبب الضمان وهو ينكر، فالقول له كما في الغصب.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أي أن الملتقط م: (أقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير) ش: بغير إذنه م: (وادعى ما يبرئه) ش: بضم الياء من الإبراء أي ما يبرئه عن الضمان وهو الأخذ أي دعواه ما يبرئه.
م: (وهو الأخذ لمالكه وفيه) ش: أي وفي قوله هذا وقع الشك، وهو أنه يحتمل أنه أخذه لنفسه فيضمن ويحتمل أنه أخذ لمالك فلا يضمن م: (وقع الشك فلا يبرأ) ش: عن الضمان.
م: (وما ذكر) ش: أي والذي ذكر أبو يوسف م: (من الظاهر) ش: وهو قوله لأن الظاهر شاهد له م: (يعارضه مثله) ش: أي مثل هذا الظاهر. وهو أن يقال الأصل م: (لأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملاً لنفسه) ش: أي تصرف الإنسان له لا لغيره وذكروا في نسخ الفتاوى هذا الاختلاف إذا كان متمكناً من الإشهاد، فإن لم يكن لعدم من يشهد على ذلك أو لحقوق أن يأخذ منه ظاهر، فالقول قوله مع اليمين بالإجماع، ولا ضمان عليه في ترك الإشهاد.

[الإشهاد على اللقطة]
م: (ويكفيه) ش: أي ويكفي الملتقط م: (في الإشهاد أن يقول من سمعتموه ينشد لقطة) ش: أي ينادي ويقول من رأى لقطة كذا وكذا م: (فدلوه علي) ش: بضم الدال وتشديد اللام، علي بتشديد الياء، سواء كانت اللقطة م: (واحدة) ش: أو أكثر يعني م: (كانت اللقطة أو أكثر) ش: من جنس واحد أو من أجناس مختلفة، بأن يكون ذهباً وفضة أو أثواباً يكفيه أن يقول من سمعتموه ينشد لقطة ولا يحتاج إلى الزيادة م: (لأنه) ش: أي لأن اللقطة م: (اسم جنس) ش: فيتناول، وعند أحمد ينبغي أن يذكر جنسها من ذهب أو فضة، وفي شرح الطحاوي ولو قال التقطت لقطة أو ضالة أو قال عندي شيء، فمن سمعتموه يسأل شيئا: فدلوه علي، فلما جاء صاحبها قال: هلكت لا ضمان عليه، وكذلك لو وجد لقطتين فقال: من سمعتموه يسأل شيئاً فدلوه علي، ولم يقل عندي لقطتان، وكذلك لو قال عندي لقطة برئ من الضمان، وإن كانت عشراً.
وهذا كله إشهاد أنه إنما أخذها ليردها على صاحبها، وقال شمس الأئمة الحلواني: أوفى ما يكون في التعريف أن يشهد عند الأخذ ويقول أخذتها لأردها، فإن فعل ذلك ولم يعد فيها

(7/326)


قال: فإن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أياما، وإن كانت عشرة فصاعدا عرفها حولا. قال: وهذه رواية عن أبي حنيفة، وقوله أياما معناه على حسب ما يرى الإمام، وقدره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل بالحول من غير تفصيل بين القليل والكثير، وهو قول مالك والشافعي لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من التقط شيئا فليعرفه سنة» من غير فصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعد ذلك كفى م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن كانت) ش: أي اللقطة م: (أقل من عشرة دراهم عرفها أياماً، وإن كانت عشرة فصاعداً عرفها حولاً) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره ".
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهذه رواية عن أبي حنيفة) ش: أي هذه الرواية التي ذكرها القدوري بالترديد رواية عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأشار بهذا إلى أنها ليست ظاهر الرواية، وفي ظاهر الرواية مدة التعريف مقدرة بالحول، فإن الطحاوي أيضاً قال: وإذا التقط لقطة أنه يعرفها سنة، سواء كان الشيء نفياً أو حبسا في ظاهر الرواية وفي " فتاوى الولوالجي "، وعن أبي حنيفة إن كانت مائتي درهم فما فوقها يعرفها حولاً، وإن كانت أقل من مائتي درهم إلى عشرة يعرفها شهراً، وإن كانت أقل من عشرة يعرفها على حسب ما يرى.
وعن أبي حنيفة في رواية أخرى وإن كانت مائتي درهم فصاعداً يعرفها حولاً، وإن كانت عشرة فصاعداً يعرفها شهراً وإن كانت ثلاثة فصاعداً يعرفها عشرة أيام، وإن كانت درهماً فصاعداً يعرفها ثلاثة أيام، وإن كانت دانقاً فصاعدا يعرفها يومان وإن كانت دون ذلك ينظر عنه ويسره ثم يصدقه في كف فقير، وقال شمس الأئمة السرخسي: وشيء من هذا ليس بتقدير لازم؛ بل لا يعرف القليل بقدر ما يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، وقال أصحاب الشافعي: التعريف واجب منه وهو قول مالك وأحمد.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري م: (أياماً معناه على حسب ما يرى الإمام) ش: أي أن الملتقط يعرفها على أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، وقال أصحاب الشافعي: التعريف واجب منه وهو قول مالك وأحمد.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري م: (أياماً معناه على حسب ما يرى الإمام) ش: أي أن الملتقط يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك م: (وقدره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل) ش: أي في " المبسوط " قدر محمد التعريف م: (بالحول من غير تفصيل بين القليل والكثير) ش: وهكذا روي عن محمد وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولأن السنة لا تأخر عنها القوافل، ويمضي فيها الزمان الذي يقصد فيها البلاد من الخبر والبرد والاعتدال فصلحت قدر المدة أجل العين. م: (وهو) ش: أي قول محمد بالحول م: (قول مالك والشافعي) ش: وأحمد أيضاً م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من التقط شيئا فليعرفه سنة» من غير فصل) ش: هذا الحديث رواه إسحاق بن راهويه بإسناده عن عياض، وعن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ذكرنا بعضه عن قريب له، وفيه وليعرفها سنة، وإن جاء صاحبها وإلا فهو مال الله يؤتيه

(7/327)


وجه الأول: أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار تساوي ألف درهم، والعشرة وما فوقها في معنى الألف في تعلق القطع به في السرقة وتعلق استحلال الفرج به، وليست في معناها في حق تعلق الزكاة، فأوجبنا التعريف بالحول احتياطا، وما دون العشرة ليس في معنى الألف بوجه ما، ففوضنا إلى رأي المبتلى به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من يشاء.
وأخرج الدارقطني في " سننه " عن زيد بن خالد الجهني قال: «سأل رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اللقطة فقال: " عرفها سنة» الحديث، من غير فصل يعني بين القليل والكثير م: (وجه الأول) ش: وهو ما روي عن أبي حنيفة أنه عرفها حولاً إذا كانت عشرة فصاعداً م: (أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار تساوي ألف درهم) ش: يشير به إلى ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أخذت مرة مائة دينار فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " عرفها حولاً " فعرفتها فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال: " عرفها حولاً " فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثلاثاً فقال: " احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن بان صاحبها وإلا فاستمتع بها» . وجه الاستدلال أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اعتبر الحول في كل كرة يجب التعريف بالحول مطلقاً، وأجاب المصنف عن هذا بقوله: م: (والعشرة وما فوقها، في معنى الألف في تعلق القطع به في السرقة) ش: لأن اليد تقطع بالعشرة كما تقطع بما فوقها، وكذلك في صلاحية العشرة للمهر فما فوقها، وهو معنى قوله م: (وتعلق استحلال الفرج به) ش: أي وكما في تعلق استحلال الفرج في النكاح.
م: (وليست في معناها) ش: أي وليست العشرة في معنى الألف م: (في حق تعلق الزكاة) ش: وهذا ظاهر، وكأن للعشرة جهتين، إحداهما حال كونها في معنى الأول، والأخرى في عدم كونها، فلما كان الأمر كذلك قال المصنف: م: (فأوجبنا التعريف بالحول احتياطاً) ش: نظراً إلى اعتبار الجهة الأولى م: (وما دون العشرة ليس في معنى الألف بوجه ما) ش: أي بوجه من الوجوه.
قال: فإذا كان الأمر كذلك م: (ففوضنا) ش: يعني تقدير المدة م: (إلى رأي المبتلى به) ش: أي بما دون العشرة، وقال الكاكي: وما روي عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمره بتعريف مائة دينار غير صحيح، قال أبو داود: شك الراوي في ذلك، وقال الراوي: ثلاثة أعوام أو عام واحد. انتهى.
قلت: الحديث رواه مسلم أيضاً في " صحيحه "، وفي آخره، فقال: لا أدري بثلاثة أحوال أو حول واحد، وفي لفظ: عامين أو ثلاثة، وفي لفظ: قال: " ثلاثة أحوال ". وفي لفظ: قال عرفها عاماً واحداً، وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": ولا تخلو هذه الروايات عن غلط

(7/328)


وقيل: الصحيح أن شيئا من هذه المقادير ليس بلازم، ويفوض إلى رأي الملتقط يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، ثم يتصدق بها، وإن كانت اللقطة شيئا لا يبقى عرفها حتى إذا خاف أن يفسد تصدق به، وينبغي أن يعرفها في الموضع الذي أصابها، وفي المجامع فإن ذلك أقرب إلى الوصول إلى صاحبها، وإن كانت اللقطة شيئا يعلم أن صاحبها لا يطلبها كالنواة وقشور الرمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعض بدليل أن شعب قال بالتعريف فيه مستحقة يقول: بعد عشر سنين عرفها عاماً واحداً، ويكون - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علم أنه لم يقع تعريفها كما ينبغي فلم يجب له بالتعريف الأول.
م: (وقيل الصحيح) ش: أشار به إلى قول شمس الأئمة السرخسي، وقد ذكرناه عن قريب، ولهذا قال بعض أصحاب مالك وأصحاب أحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (أن شيئاً من هذه المقادير ليس بلازم، ويفوض إلى رأي الملتقط يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك ثم يتصدق بها) ش: أي باللقطة.
م: (وإن كانت اللقطة شيئا لا يبقى) ش: قالوا في نسخ " الفتاوى ": وإن كانت اللقطة مما لا تبقى إذا مر عليه يوم أو يومان عرفها، فإذا خاف الفساد تصدق بها م: (عرفها حتى إذا خاف أن يفسد تصدق به) ش: كلمة حتى هنا بمعنى إلى، والمعنى عرفها إلى أن خاف فسادها أي تلفها فحينئذ يتصدق به.
والضمير في قوله: عرفها يرجع إلى اللقطة، أو في قوله: به يرجع إلى قوله: شيئاً م: (وينبغي أن يعرفها في الموضع الذي أصابها، وفي المجامع) ش: مجمع الناس كالأسواق وأبواب المساجد، وفي " الشامل ": والتعريف أن ينادي في الأسواق والمساجد من ضاع له شيء فليطلبه عندي م: (فإن ذلك) ش: أشار به إلى الموضع أصابه فيه م: (أقرب إلى الوصول إلى صاحبها) ش: لأن صاحبها يرجع إلى الموضع الذي نسيه فيه.
م: (وإن كانت اللقطة شيئاً يعلم أن صاحبها لا يطلبها كالنواة وقشور الرمان) ش: يعني في مواضع مختلفة، فجمعها حتى صارت بحكم الكثرة لها قيمة فلا اعتبار بقيمتها؛ لأنها ظهرت بصيغة وهي جمعه، وله الانتفاع بذلك، وذكر شيخ الإسلام: ولو كانت متفرقة جمعها للمالك أخذها، لأنه يصير ملكاً للأخذ بالجمع.
وكذا الجواب في التقاط المسائل، وبه كان يفتي الصدر الشهيد كذا في " الذخيرة " وفي " المحيط ": لو وجد النواة والصور في مواضع متفرقة يجوز الانتفاع بها، أما لو كانت مجتمعة في موضع فلا يجوز الانتفاع بها؛ لأن صاحبها لما جمعها فالظاهر أنه ما ألقى بها، بل سقطت منه.... انتهى.

(7/329)


يكون إلقاؤه إباحة حتى جاز الانتفاع به من غير تعريف، ولكنه يبقى على ملك مالكه؛ لأن التمليك من المجهول لا يصح قال: فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها إيصالا للحق إلى المستحق، وهو واجب بقدر الإمكان، وذلك بإيصال عينها عند الظفر بصاحبها، وإيصال العوض وهو الثواب على اعتبار إجازته التصدق بها، وإن شاء أمسكها رجاء الظفر بصاحبها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكلام المصنف يدل على شيئين أحدهما أنه إذا جمعها يجوز الانتفاع بها؛ لأنه علل بقوله: م: (يكون إلقاؤه إباحة) ش: أي إلقاء الشيء الذي يعلم أن صاحبه لا يطلبه يكون إباحة منه لمن يأخذه م: (حتى جاز الانتفاع به من غير تعريف) ش: لأنه حينئذ من الإباحات.
والثاني يدل على أنه لا يخرج من ملك مالكها أشار إليه بقوله: م: (ولكنه يبقى على ملك مالكه) ش: لأنه لم يخرج من ملكه فلا يكون ملكاً لمن أخذه م: (لأن التمليك من المجهول لا يصح) ش: فإذا وجده في يده الملتقط أخذ منه إن شاء، وفي " المبسوط " روى بشر عن أبي يوسف لو جز صوف شاة ميتة ملقاة كان له أن ينتفع به، ولو وجده صاحب الشاة في يده كان له أن يأخذه منه، ولو دفع جلدها كان لصاحبها أن يأخذ الجلد منه بعدما يعطيه ما زاد الدباغ فيه؛ لأن ملكه لم يزل بالإلقاء.
وفي " خلاصة الفتاوى ": التفاح والكمثرى والحطب في المال لا بأس أن يأخذها م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن جاء صاحبها) ش: أي صاحب اللقطة إن جاء بعد التعريف، وخبر إن محذوف تقديره دفعها إليه م: (وإلا) ش: أي وإن لم يجئ، يعني إذا لم يظفر الملتقط بصاحبها م: (تصدق بها) ش: والمسألة من القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتمامها فيه، فإن جاء صاحبها بعد ذلك فهو بالخيار إن شاء أمضى الصدقة وإن شاء ضمن الملتقط.
وشرح المصنف كلام القدوري بقوله م: (إيصالاً) ش: أي لأجل الإيصال م: (للحق إلى المستحق وهو) ش: أي إيصال الحق إلى المستحق م: (واجب بقدر الإمكان) ش: ليخرج من عهدته، ولما كان الإيصال أعم من أن يكون لصاحب الحق أو لغيره أوضح ذلك بقوله م: (وذلك) ش: أي إيصال الحق.
م: (بإيصال عينها) ش: أي عين اللقطة، م: (عند الظفر بصاحبها وإيصال العوض وهو الثواب على اعتبار إجازته) ش: أي إجازة صاحب اللقطة م: (التصدق بها، وإن شاء أمسكها رجاء الظفر بصاحبها) ش: أي باللقطة أي مستحقة، وإنما قيد به لأنه إذا لم يجز التصدق لا يكون الثواب له.

(7/330)


قال: فإن جاء صاحبها يعني بعد ما تصدق بها فهو بالخيار إن شاء أمضى الصدقة، ولو ثوابها؛ لأن التصدق وإن حصل بإذن الشرع لم يحصل بإذنه، فيتوقف على إجازته، والملك يثبت للفقير قبل الإجازة فلا يتوقف على قيام المحل بخلاف بيع الفضولي لثبوته بعد الإجازة فيه، وإن شاء ضمن الملتقط؛ لأنه سلم ماله إلى غيره بغير إذنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: فإن جاء صاحبها يعني بعدما تصدق بها فهو) ش: أي صاحبها م: (بالخيار إن أمضى الصدقة وله ثوابها؛ لأن التصدق وإن حصل بإذن الشرع) ش: حيث جاء في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه البزار «فإن جاء صاحبها فليرده إليه، وإن لم يأت فليتصدق به.....» الحديث.
فهذا التصدق وإن حصل بإذن الشرع م: (لم يحصل بإذنه) ش: أي بإذن صاحبها الذي هو المالك، فإن كان كذلك م: (فيتوقف على إجازته) ش: أي إجازة صاحب الصدقة م: (والملك يثبت للفقير) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال لما توقف فعاد التصدق على إجازته فينبغي أن يشترط وجود المحل عند الإجازة، لكن لا يشترط حتى إذا هلك المال في يد الفقير، ثم أجاز المالك جاز، وتقدير الجواب أن الملك ثبت للفقير م: (قبل الإجازة) ش: لأن الملتقط لما أذن له الشرع في التصدق ملكه الفقير؛ لأن الصدقة من أسباب الملك م: (فلا يتوقف) ش: أي ثبوت الملك م: (على قيام المحل) ش: حتى لو هلك المال في يد الفقير تجوز الإجازة.
فإن قيل: لو ثبت الملك للفقير فالأخذ ينبغي أن لا يأخذه المالك إذا كان قائماً في يده.
قلنا: ثبوت الملك لا يمنع صحة الاسترداد كالواهب يملك الرجوع بعد ثبوت الملك للموهوب له. وكالمرتد لو عاد من دار الحرب مسلماً بعد قسمة ماله بين ورثته، فإنه يأخذ ما وجده قائماً بعد ثبوت الملك لهم م: (بخلاف بيع الفضولي) ش: حيث يشترط فيه الإجازة قيام المحل م: (لثبوته) ش: أي لثبوت الملك م: (بعد الإجازة) ش: أي بعد إجازة المالك م: (فيه) ش: أي في بيع الفضولي، وإذا أجاز المالك بيع الفضولي يشترط لصحة الإجازة قيام الأربعة: المالك والمتعاقدان والمقصود عليه إن كان الثمن ديناً. وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى في باب البيوع. م: (وإن شاء ضمن الملتقط) ش: هذا عطف على قوله إن شاء أمضى الصدقة م: (لأنه) ش: أي لأن الملتقط م: (سلم ماله إلى غيره بغير إذنه) ش: أي سلم مال صاحب اللقطة إلى غيره بغير إذن منه فله أن يضمنه، وبه قال مالك والثوري والحسن بن صالح.
وقال الشافعي وأحمد فإذا لم يجئ بعد التعريف ملكها الملتقط بحكم القاضي، وصارت من ماله كسائر أمواله غنياً كان الملتقط أو فقيراً، وروي مثله عن عمر وابن مسعود وحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وبه قال عطاء والنخعي وابن المنذر واحتج الشافعي وأحمد بحديث زيد بن

(7/331)


إلا أنه بإباحته من جهة الشرع، وهذا لا ينافي الضمان حقا للعبد كما في تناول مال الغير حال المخمصة وإن شاء ضمن المسكين إذا هلك في يده لأنه قبض ماله بغير إذنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خالد، فإن لم يعرف فاستنفقها، وفي رواية فاستمتع بها، ولنا حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن اللقطة فقال: «لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئاً فليعرفه سنة، فإن جاء صاحبه فليرده إليه، وإن لم يأت فليتصدق به فإن جاء فليخير بين الأجر وبين العطالة» رواه البزار، ولأنها ملك الغير فلا يملكها لغيرها ويملكها الفقير عنه. فلحديث عياض بن حمار والمجاشعي وقد ذكرناه، وفيه «فإن جاء صاحبها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء» . رواه النسائي وغيره. وما يضاف إلى الله تعالى إنما يملكه من يستحق الصدقة، وعن أحمد مثله، وحديث زيد بن خالد يمكن أن يكون في فقير فيحل عليه جمعاً بين الأحاديث.
فإن قلت: قيل إن حديث أبي هريرة غريب.
قلت: ليس كذلك بل نقله القدوري وهو موافق للنصوص في عدم جوازه بملك مال الغير بغير إذنه.
فإن قلت: كيف يضمن الملتقط وقد تصدق بإذن الشرع؟
قلت: الشرع أباح له التصدق وما ألزمه ذلك وهو يعني قول المصنف م: (إلا أنه) ش: أي أن الملتقط م: (بإباحته من جهة الشرع) ش: يعني أن الإذن كان إباحة منه لا إلزاماً ومثل ذلك الإذن يسقط الإثم لا الضمان وهو معنى قوله.
م: (وهذا لا ينافي الضمان حقاً للعبد كما في تناول مال الغير حال المخمصة) ش: فإنه يحل بإباحة شرعية، لكن مع الضمان، وكذا الرمي إلى الصيد مباح، وكذا المشي في الطريق مباح، فإذا هلك بذلك شيء يجب الضمان على الرامي والماشي؛ لأن إسقاط حق محترم لا يجوز.
وفي " خلاصة الفتاوى ": إن تصدق الملتقط بإذن القاضي ليس له أن يضمنه، وقال الكاكي: هذا ليس بصواب إذا تصدق الملتقط بإذن القاضي لا يكون أعلى حالاً من تصدق القاضي بنفسه، ويقال يضمن القاضي وهاهنا أولى، كذا في " الذخيرة " و " فتاوى قاضي خان " م: (وإن شاء ضمن المسكين إذا هلك في يده لأنه قبض ماله بغير إذنه) ش: أي لأن المسكين قبض مال مالك اللقطة بغير إذن منه فصار الملتقط كالغاصب والمسكين كغاصب الغاصب، لكن إن ضمن لا يرجع على صاحبه بشيء.
أما المسكين؛ فلأنه أخذ لنفسه، ومن أخذ لنفسه لا يرجع على أحد كالمعتبر. وأما الملتقط

(7/332)


وإن كان قائما أخذه؛ لأنه وجد عين ماله.
قال: ويجوز الالتقاط في الشاة والبقر والبعير، وقال مالك والشافعي: إذا وجد البعير والبقر في الصحراء فالترك أفضل، وعلى هذا الخلاف الفرس لهما، أن الأصل في أخذ مال الغير الحرمة والإباحة مخافة الضياع، وإذا كان معها ما يدفع عن نفسها يقل الضياع ولكنه يتوهم فيقضى بالكراهة والندب إلى الترك، ولنا أنها لقطة يتوهم ضياعها، فيستحب أخذها وتعريفها صيانة لأموال الناس كما في الشاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنه لما ضمن مالك اللقطة وقت التصدق بغير أنه تصدق بملك نفسه م: (وإن كان) ش: أي المال الذي هو لقطة م: (قائماً) ش: في يد الفقير م: (أخذه لأنه وجد عين ماله) ش: وهو حقه فليأخذه إن شاء.

[الالتقاط في الشاة والبقر والبعير]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويجوز الالتقاط في الشاة والبقر والبعير) ش: هذا كلام القدوري.
وقال المصنف: م: (وقال مالك والشافعي: إذا وجد البعير والبقر في الصحراء فالترك أفضل) ش: وبه قال أحمد، وعن مالك والليث في ضالة الإبل لو وجدها في القرى عرفها، وفي الصحراء لا يتعرض لها وهو رواية المزني عن الشافعي، وعن مالك أن البقر كالشاة، أما إذا وجدها في مكان يغلب على الظن هلاكها أو في قرية لا مرعى فيها فالأولى أخذها عند الكل، وفي " الوجيز ": لو وجدها في بلدة أو قرية أو قريب منهما فوجهان أحدهما لا يجوز وأصحهما يجوز. هذا إذا كان في وقت أمن، أما في زمن النهب والفساد يجوز في الصحراء والعمران.
وما لا يمنع من صغار المتاع كالبعير والغنم والفحول والفصلان يجوز التقاطه في المفازة والعمران، في الأصح.
وفي " شرح الأقطع ": الخلاف في الجواز، وذكر الكتاب الخلاف في الأفضلية، وروايات كتبهم ومستمسكاتهم تدل على أن الخلاف في الجواز م: (وعلى هذا الخلاف الفرس) ش: وعلى الخلاف المذكور التقاط الفرس م: (لهما) ش: أي للشافعي ومالك م: (أن الأصل في أخذ مال الغير الحرمة والإباحة مخافة الضياع) ش: أي إباحة أخذ مال الغير لأجل الخوف عن ضياعه.
م: (وإذا كان معها) ش: أي مع اللقطة م: (ما يدفع عن نفسها) ش: كالعزل ونحوه م: (يقل الضياع ولكنه يتوهم) ش: أي ولكن الضياع يتوهم م: (فيقضى بالكراهة والندب إلى الترك) ش: أي المستحب أن يتركها، وقد ذكرنا الآن عن الأقطع أنه خلاف الجواز م: (ولنا أنها) ش: أي أن البقر والبعير والفرس م: (لقطة يتوهم ضياعها فيستحب أخذها وتعريفها صيانة لأموال الناس كما في الشاة) ش: فإن التقاطها يستحب بالإجماع.
وإذا خيف الضياع على البعير ونحوها يستحب أخذها أيضاً صيانة لأموال الناس.
فإن قلت: ما تقول في حديث رواه البخاري عن زيد بن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلاً

(7/333)


فإن أنفق الملتقط عليها بغير إذن الحاكم فهو متبرع لقصور ولايته عن ذمة المالك. وإن أنفق بأمره كان ذلك دينا على صاحبه؛ لأن للقاضي ولاية في مال الغائب نظرا له، وقد يكون النظر في الإنفاق على ما نبين، إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اللقطة فقال: " عرفها سنة " إلى أن قال: فضالة الغنم؟ قال: " خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب " قال فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى احمرت وجنتاه واحمر وجهه. ثم قال: " مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها» .
قلت: هو محمول على ما إذا لم يخف عليها، أما إذا خيف عليها فأخذها للصيانة أولى، ويدل عليه ما رواه الطحاوي عند عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رجلاً من مدينة أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل كيف ترى في ضالة الغنم قال: " طعام مأكول لك أو لأخيك أو للذئب أحسن على أخيك ضالته " قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكيف ترى في ضالة الإبل؟ قال: " مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ولا تخاف عليها الذئب تأكل الكلأ وترد الماء فدعا حتى يجيء طالبها....» انتهى.
قوله: سقاؤها بكسر السين وأراد بها إذا وردت الماء تشرب ما يكون بها من ظمأ والحذاء بكسر الحاء المهملة بالذال المعجمة وبالألف ممدودة وأراد بها خفافها التي تقوى بها على السير.
فإن قلت: ينبغي أن لا يجوز أخذ اللقطة أصلاً بدليل ما روي في شرح الآثار عن أبي عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ضالة المسلم حرق النار» ..
قلت: معناه إذا أخذها للركوب لا للتعريف، والحرق بفتحتين اسم الإحراق. وعن ثعلب الحرق: اللهب يعني إن تملكها سبب العقاب في النار. وكذا الجواب عن الحديث الآخر، وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يؤوي الضالة إلا الضال» يعني إذا أخذها لنفسه وإن أبرأها إذا كان لنفسه لا للتعريف
م: (فإن أنفق الملتقط عليها) ش: أي على اللقطة م: (بغير إذن الحاكم فهو متبرع لقصور ولايته عن ذمة المالك) ش: فصار لو قضى دين غيره بغير أمره وبغير أمر القاضي م: (وإن أنفق بأمره) ش: أي بأمر القاضي م: (كان ذلك) ش: أي إنفاقه م: (ديناً على صاحبه) ش: أي صاحب اللقطة، وإنما ذكر الضمير باعتبار المال م: (لأن للقاضي ولاية في مال الغائب نظراً له) ش: أي لأجل النظر للغائب؛ لأنه نصب لمصالح المسلمين فتعم ولايته.
م: (وقد يكون النظر في الإنفاق) ش: أي وقد يكون نظر الحاكم في الأمر بالإنفاق على اللقطة، فكل ما رآه القاضي أحوط وأصلح كان له ذلك م: (على ما نبين إن شاء الله تعالى) ش: أي بعد خمسة خطوط عند قوله.

(7/334)


وإذا رفع ذلك إلى الحاكم نظر فيه، فإن كان للبهيمة منفعة أجرها وأنفق عليها من أجرتها؛ لأن فيه إبقاء العين على ملكه من غير إلزام الدين عليه وكذلك يفعل بالعبد الآبق. وإن لم يكن لها منفعة وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها باعها وأمر بحفظ ثمنها إبقاء له معنى عند تعذر إبقائه صورة، وإن كان الأصلح الإنفاق عليها أذن في ذلك، وجعل النفقة دينا على مالكها لأنه نصب ناظرا، وفي هذا نظر من الجانبين، قالوا: وإنما يأمر بالإنفاق يومين أو ثلاثة أيام على قدر ما يرى رجاء أن يظهر مالكها، فإذا لم يظهر يأمر ببيعها؛ لأن دارة النفقة مستأصلة، فلا ينظر في الإنفاق مدة مديدة، قال في الأصل: شرط إقامة البينة وهو الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا كان الأصلح الإنفاق عليها م: (وإذا رفع ذلك) ش: أي أمر اللقطة م: (إلى الحاكم نظر فيه) ش: أي في أمر اللقطة م: (فإذا كان للبهيمة منفعة) ش: وهي صلاحيتها للإجارة كالحيوان التي تركب م: (أجرها وأنفق عليها من أجرتها لأن فيه) ش: أي لأن في أمر الإجارة م: (إبقاء العين) ش: أي عين اللقطة م: (على ملكه) ش: أي على ملك صاحبها م: (من غير إلزام الدين عليه) ش: أي على صاحبها.
م: (وكذلك يفعل) ش: أي الحاكم م: (بالعبد الآبق) ش: فإنه يؤجره وينفق عليه من أجرته؛ لأن فيه إبقاء لملكه م: (وإن لم يكن لها منفعة) ش: كالشاة مثلاً م: (وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها باعها وأمر) ش: أي الملتقط م: (بحفظ ثمنها إبقاء له) ش: أي لأجل إبقاء اللقطة للمالك. م: (معنى عند تعذر إبقائه صورة) ش: أي من حيث المعنى بالمالية حيث لم يكن إبقاء الصورة؛ لأنه يخاف عليها أن يستأصل النفقة القيمة م: (وإن كان الأصلح الإنفاق عليها) ش: يعني القاضي لو رأى الإنفاق أصلح م: (أذن في ذلك) ش: أي في الإنفاق.
م: (وجعل النفقة ديناً على مالكها لأنه) ش: أي لأن القاضي م: (نصب ناظراً) ش: في أمور المسلمين يفعل ما رآه أحوط وأصلح كان له ذلك بعموم ولايته م: (وفي هذا) ش: أي وفي إذن القاضي للملتقط في الإنفاق وجعل النفقة ديناً على المالك م: (نظر من الجانبين) ش: جانب المالك بإبقاء عين ملكه وجانب الملتقط برجوعه على المالك بما أنفق.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ: م: (وإنما يأمر بالإنفاق يومين أو ثلاثة أيام على قدر ما يرى رجاء أن يظهر مالكها، فإذا لم يظهر يأمر ببيعها) ش: أي يأمر القاضي ببيع اللقطة م: (لأن دارة النفقة) ش: أي استمرارها م: (مستأصلة) ش: للقيمة م: (فلا ينظر في الإنفاق مدة مديدة) ش: أي طويلة.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (في الأصل) ش: أي في " المبسوط " م: (شرط إقامة البينة) ش: حيث قال: فإن رفعها إلى قاض وأقام بينة أنه التقطها أمره بأن ينفق عليها م: (وهو الصحيح) ش: وفي بعض النسخ: وهو الصحيح وهو اختيار المصنف، وقال الولوالجي في " فتاواه ":

(7/335)


لأنه يحتمل أن يكون غصبا في يده ولا يأمر فيه بالإنفاق بخلاف الوديعة حيث يأمره بالإنفاق فيها، فلا بد من البينة لينكشف الحال، وليست تقام للقضاء، وإن قال: لا بينة لي يقول له القاضي: أنفق عليه إن كنت صادقا فيما قلت حتى يرجع على المالك إن كان صادقا ولا يرجع إن كان غاصبا، وقوله في الكتاب وجعل النفقة دينا على صاحبها إشارة إلى أنه إنما يرجع على المالك بعدما حضر، ولم يبع اللقطة إذا شرط القاضي الرجوع على المالك وهذه رواية وهو الأصح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قالوا: هذا إذا كانت اللقطة شيئاً لا يخاف الهلاك عليه لذلك لم ينفقه إلى أن تقوم البينة.
أما إذا كان يخاف أمان القاضي لا يكلفه إقامة البينة لكن يقول له أنفق عليه إن كنت صادقاً م: (لأنه يحتمل أن يكون غصباً في يده ولا يأمر فيه بالإنفاق بخلاف الوديعة حيث يأمره بالإنفاق فيها) ش: خوفاً من ضياعها م: (فلا بد) ش: أي فإذا احتمل في اللقطة الغصب فلا بد م: (من البينة) ش: على أنه التقطها م: (لينكشف الحال) ش: للحاكم حتى يقع أمره على الصواب.
م: (وليست تقام) ش: أي البينة م: (للقضاء) ش: أي لأجل الحكم، وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: كيف شرط في الأصل إقامة البينة، ولا تقوم البينة إلا على مدع منكر، ولم يوجد ذلك هنا؟، وتقدير الجواب: أن البينة هنا ليست لأجل قضاء القاضي، وإنما لكشف الحال يعني تقام حتى ينكشف حال البهيمة أنها لقطة أو غصب، فإن في الأولى يأمر القاضي بالإنفاق دون الثاني.
م: (وإن قال: لا بينة لي) ش: أي وإن قال الملتقط: لا بينة لي على أني التقطها م: (يقول له القاضي أنفق عليه إن كنت صادقاً فيما قلت حتى يرجع على المالك، إن كان صادقاً، ولا يرجع إن كان غاصباً) ش: قوله ولا يرجع بالنصب؛ لأنه عطف على قوله حتى يرجع فإن يرجع فيه منصوب بتقدير أن بعد حتى.
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري وهو مبتدأ م: (في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري " م: (وجعل النفقة ديناً على صاحبها) ش: هذا من لفظ القدوري م: (إشارة) ش: بالرفع خبر المبتدأ المذكور م: (إلى أنه إنما يرجع) ش: أي الملتقط م: (على المالك بعد ما حضر، ولم يبع اللقطة) ش: اللقطة، وضبطه بعضهم على صيغة المجهول م: (إذا شرط القاضي الرجوع) ش: هذا متصل بقوله: إنما يرجع الملتقط م: (على المالك) ش: إذا شرط القاضي الرجوع على المالك.
م: (وهذه رواية) ش: أي شرط الرجوع رواية، فعلى هذه الرواية إذا أمر القاضي بالإنفاق على اللقطة ولم يشترط الرجوع على المالك لا يرجع عليه، وفي الرواية الأخرى يرجع.
م: (وهو الأصح) ش: أي الأصح في الرجوع إن شرط القاضي الرجوع، واحترز به عن

(7/336)


وإذا حضر المالك فللملتقط أن يمنعها منه حتى يحضر النفقة؛ لأنه يحيى بنفقته، فصار كأنه استفاد الملك من جهته فأشبه المبيع، وأقرب ذلك رد الآبق فإن له الحبس لاستيفاء الجعل لما ذكرنا، ثم لا يسقط دين النفقة بهلاكه في يد الملتقط قبل الحبس ويسقط إذا هلك بعد الحبس؛ لأنه يصير بالحبس شبيه الرهن،
قال: ولقطة الحل والحرم سواء، وقال الشافعي: يجب التعريف إلى أن يجيء صاحبها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحرم: «لا يحل لقطتها إلا لمنشدها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول بعض أصحابنا إن مجرد أمر القاضي يكفي للرجوع. م: (وإذا حضر المالك فللملتقط أن يمنعها منه) ش: أي يمنع اللقطة من المالك م: (حتى يحضر النفقة) ش: الذي أنفقها الملتقط على اللقطة م: (لأنه) ش: أي لأن اللقطة، ذكر الضمير باعتبار المذكور.
قاله الكاكي، والأوجه أن يقال: ذكره باعتبار المال، وكذلك الكلام في قوله م: (يحيى بنفقته) ش: أن بنفقة الملتقط م: (فصار، كأنه استفاد الملك من جهته) ش: أي من جهة الملتقط م: (فأشبه المبيع) ش: حيث يجوز للبائع أن يحبس المبيع لاستيفاء الثمن.
م: (وأقرب من ذلك) ش: أي أقرب من البيع إلى اللقطة في السيد م: (رد الآبق) ش: أي العبد الهارب؛ لأن الذي رده لحبسه لأجل أخذ الجعل، وهو معنى قوله م: (فإن له) ش: أي الراد دل عليه قوله، رد الآبق م: (الحبس) ش: أي حبس الآبق م: (لاستيفاء الجعل) ش: وهو أربعون درهماً على ما يأتي م: (لما ذكرنا) ش: هو قوله: حتى ينفقه، فكما أن اللقطة حيث ينفقه الملتقط، فكذلك الآبق حتى يرد من مسك م: (ثم لا يسقط دين النفقة بهلاكه) ش: أي بهلاك اللقطة على تأويل المال م: (في يد الملتقط قبل الحبس، ويسقط إذا هلك بعد الحبس؛ لأنه) ش: أي لأن اللقطة على تأويل المال لما ذكرنا م: (يصير بالحبس شبيه الرهن) ش: إذا هلك بعد حبس الرهن بالنفقة.
وفي " الذخيرة ": إذا أبى الراهن أن ينفق على الرهن فللمرتهن أن يجب الرهن حتى في النفقة، ولو هلك الرهن بعد ذلك لا شيء على الراهن ثم قال قول زفر، وقال أبو يوسف: ليس له أن يحبس بالنفقة، فإذا هلك في يد المشتري، والنفقة دين على الراهن بحاله.

[تعريف لقطة الحرم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولقطة الحل والحرم سواء) ش: يعني في الحكم م: (وقال الشافعي: يجب التعريف) ش: أي تعريف لقطة الحرم م: (إلى أن يجيء صاحبها) ش: قال أحمد في رواية م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (في الحرم: «لا يحل لقطتها إلا لمنشدها» ش: هذا أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة ... الحديث بطوله وفيه: «ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها»
الحديث، وفي لفظ لها: يلتقط شيئاً قطعهما إلا منشد، وقال أبو عبيد: المنشد المعرف،

(7/337)


ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة» من غير فصل، ولأنها لقطة، وفي التصدق بعد مدة التعريف إبقاء ملك المالك من وجه فيملكه كما في سائرها، وتأويل ما روي أنه لا يحل الالتقاط إلا للتعريف والتخصيص بالحرم لبيان أنه: لا يسقط التعريف فيه لمكان أنه للغرباء ظاهرا. وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم تدفع إليه حتى يقيم البينة، فإن أعطى علامتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والناشد: الطالب، معناه: لا يحل لقطة مكة إلا لمن يعرفها.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اعرف عفاصها، ووكاءها ثم عرفها سنة» من غير فصل) ش: يعني بين لقطة الحل ولقطة الحرم، والحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن زيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء رجل فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اللقطة فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ... » الحديث، والعفاص الوعاء الذي يكون فيه النفقة من جلد أو خرقة أو غير ذلك، والوكاء بكسر الواو بالمد هو الرباط يشد به.
م: (ولأنها) ش: أي ولأن لقطة الحرم م: (لقطة) ش: كسائر اللقطات فأبيح أخذها، وجاز الانتفاع بها بعد الحول كلقطة الحل م: (وفي التصدق بعد مدة التعريف إبقاء ملك المالك من وجه) ش: يعني من حيث يحصل الثواب له م: (فيملكه) ش: أي الملتقط م: (كما في سائرها) ش: أي كما يملك في سائر اللقطات م: (وتأويل ما روي) ش: أي ما رواه الشافعي م: (أنه لا يحل الالتقاط إلا للتعريف) ش: ولهذا ذكر في رواية أخرى: ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها.
م: (والتخصيص بالحرم) ش: هذا جواب عما يقال ما وجه تخصيص الحرم في هذا المعنى، وتقدير الجواب أن تخصيص حل الرفع بالحرم يعني بلقطة الحرم م: (لبيان أنه لا يسقط التعريف فيه) ش: أي في الحرم م: (لمكان أنه) ش: أي أن الذي يلتقط فيه م: (للغرباء ظاهراً) ش: أي من حيث الظاهر، بيان ذلك أن مكة مكان الغرباء؛ لأن الناس يأتون إليها من الأقطار من كل فج عميق، ثم يتفرقون في شعابها فالغالب: إن لقطها الغريب لا يدرى عوده إلى مكة، فلا فائدة إذاً في التعريف فينبغي أن يسقط التعريف أصلاً لعدم الفائدة، فأزال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك الوهم، فقال: لا يحل رفع لقطتها إلا لمعرف كما هو الحكم في غيرها من البلاد.
وقيل لا يصح عند الشافعي بالحديث المذكور إلا إذا جعل الناشد، وجعل إلا بمعنى ولا، تقديره: لا يحل لقطها لا لغير الملتقط ولا للملتقط.... انتهى.
قلت: قد ذكرنا أن المنشد هو المعرف، والناشد هو الطالب ومذهبه ليس كذلك، قال صاحب الوجيز: معنى الحديث لا يحل لقطها إلا لمنشد على الدوام، وإلا لم تظهر فائدة التخصيص م: (وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم تدفع إليه حتى يقيم البينة فإن أعطى علامتها

(7/338)


حل للملتقط أن يدفعها إليه، ولا يجبر على ذلك في القضاء، وقال مالك والشافعي: يجبر والعلامة مثل أن سمى وزن الدراهم وعددها ووكاءها ووعاءها، لهما أن صاحب اليد ينازعه في اليد ولا ينازعه في الملك فيشترط الوصف لوجود المنازعة من وجه، ولا يشترط إقامة البينة لعدم المنازعة من وجه، ولنا أن اليد حق مقصود كالملك فلا يستحق إلا بحجة، وهي البينة اعتبارا بالملك إلا أنه يحل له الدفع عند إصابة العلامة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها فادفعها إليه» وهذا للإباحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حل للملتقط أن يدفعها إليه، ولا يجبر على ذلك) ش: أي على الدفع م: (في القضاء) ش: بمعنى الحاكم لا يجبره على الدفع م: (وقال مالك والشافعي: يجبر) ش: على الدفع، قال الكاكي: هذا وقع في نسخ أصحابنا، ولكن القائل بوجوب الدفع بالعلامة، مالك وأحمد وداود وابن المنذر فإن في كتب أصحاب الشافعي قوله كقولنا م: (والعلامة مثل أن سمى وزن الدراهم وعددها ووكاءها ووعاءها) ش: ويصف في ذلك كله، وقد مر عن قريب تفسير الوكاء.
م: (لهما) ش: أي لمالك والشافعي م: (أن صاحب اليد) ش: الذي هو الملتقط م: (ينازعه) ش: أن ينازع المدعي؛ لأن اللقطة له م: (في اليد ولا ينازعه في الملك فيشترط الوصف) ش: أي وصف اللقطة بذكر العلامة م: (لوجود المنازعة من وجه) ش: وهي المنازعة في اليد م: (ولا يشترط إقامة البينة لعدم المنازعة من وجه) ش: وهي المنازعة في الملك، وحاصله أن الملتقط لا نزاع له في الملك؛ لأنه لا يدعي الملك، وإنما نزاعه في اليد، فكان نزاعه من وجه دون وجه فاشترط بيان العلامة دون إقامة البينة م: (ولنا أن اليد حق مقصود) ش: للإنسان م: (كالملك) ش: حتى يجب الضمان على الغاصب بإزالة اليد، ألا ترى أن المدبر إذا غصبه غاصب يلزم الضمان لإزالة يد المحرم وإن لم يكن المدبر قابلاً للملك.
فإذا كان كذلك م: (فلا يستحق) ش: أي المدعي م: (إلا بحجة وهي البينة اعتباراً بالملك) ش: إذا ادعاه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «البينة على المدعي» م: (إلا أنه) ش: أي غير أن الملتقط م: (يحل له الدفع) ش: أي دفع اللقطة إلى صاحبها م: (عند إصابة العلامة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها فادفعها إليه» ش:.... الحديث رواه مسلم عن أبي كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في اللقطة: «عرفها فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووكائها ووعائها فأعطه إياها وإلا فاستمتع بها» ، وفي رواية: «وإلا فهي كسبيل مالك» ، وفي رواية أبي داود: «فإن جاء مالكها فعرف عددها ووكاءها فادفعها إليه» .
م: (وهذا) ش: أي قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فادفعها إليه م: (للإباحة) ش: يعني الأمر فيه

(7/339)


عملا بالمشهور، وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على المدعي» .... الحديث ويأخذ منه كفيلا إذا كان يدفعها إليه استيثاقا، وهذا بلا خلاف؛ لأنه يأخذ الكفيل لنفسه بخلاف التكفيل لوارث غائب عنده، وإذا صدقه قيل لا يجبر على الدفع كالوكيل بقبض الوديعة إذا صدقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للإباحة؛ لأن الأمر يجيء للإباحة م: (عملاً بالمشهور) ش: أي لأجل العمل بالحديث المشهور م: (وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «البينة على المدعي ... » الحديث) ش: أي أتم الحديث، وتمامه: «واليمين على من أنكر» بيانه أن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " ادفعها إليه " ون لم يحمل على الإباحة، وحمل على الوجوب لزم التعارض على وجه يلزم التنافي وهو الاستحقاق وعدمه.
والأصل في التعارض الجمع عملاً بالدليلين، فحملنا ما تمسك به الشافعي على إباحة الدفع دفعاً للتعارض بين الحديثين.
وقال الأكمل: ولقائل أن يقول الحمل على الإباحة عملاً بالمشهور يلزم عدم جواز الدفع أيضاً؛ لأن انتفاء الوجوب يلزم انتفاء الجواز وأن الشافعي لم يقل بانتفاء الجواز بانتفاء الوجوب، والمصنف هاهنا في مقام الدفع فجاز أن يدفعه على طريقه فيلزمه الخصم.
م: (ويأخذ منه) ش: أي من مدعي اللقطة م: (كفيلاً إذا كان) ش: أي الملتقط م: (يدفعها إليه) ش: أي يدفع اللقطة إلى المدعي م: (استيثاقاً) ش: أي لأجل الاستيثاق لنفسه حتى إذا ظهر الأمر بخلاف، وتقدر الرجوع إليه يرجع على الكفيل.
هذا إذا دفعها بالعلامة، أما لو دفعها بالبينة، فلأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان، والصحيح أنه لا يأخذ كفيلاً، كذا في " جامع قاضي خان " م: (وهذا بلا خلاف) ش: يعني أخذ الكفيل سوماً بلا خلاف م: (لأنه يأخذ الكفيل لنفسه) ش: ولا يأخذه لغيره م: (بخلاف التكفيل لوارث غائب عنده) ش: أي عند أبي حنيفة ودل الضمير إليه، وإن لم يسبق ذكره لشهرة حكم تلك المسألة، صورته ميراث قسم بين الغرماء أو الورثة لا يؤخذ من الغريم ولا من الوارث كفيل عند أبي حنيفة.
وعندهما تؤخذ، والفرق عند أبي حنيفة أن حق الحاضر هاهنا غير ثابت، فيمكن أن يكون غيره فيضمنه، ولا يمكن الرجوع على الآخذ؛ لأنه قد يتوارى فيحتاط بأخذ الكفيل.
أما في الميراث فحق الحاضر ثابت ومعلوم، وحق الآخر موهوم، فلا يجوز أن يأخذ حق الحاضر الثابت لموهوم، وقال الأترازي: قوله ويأخذ منه كفيلاً إلى قوله: وهذا بلا خلاف فيه، تناقض من المصنف؛ لأنه قال في فصل المواريث: فيه روايتان، والأصح أنه على الخلاف.
م: (وإذا صدقه) ش: أي إذا صدق الملتقط مدعي اللقطة م: (قيل لا يجبر على الدفع كالوكيل بقبض الوديعة إذا صدقه) ش: أي لا يجبر المودع على الدفع يعني لو جاء رجل إلى المودع وقال أنا

(7/340)


وقيل يجبر لأن المالك هاهنا غير ظاهر، والمودع مالك ظاهر، ولا يتصدق باللقطة على غني؛ لأن المأمور هو التصدق لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فإن لم يأت - يعني صاحبها - فليتصدق به» والصدقة لا تكون على غني فأشبه الصدقة المفروضة، وإن كان الملتقط غنيا لم يجز له أن ينتفع بها، وقال الشافعي: يجوز، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها» وكان من المياسير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكيل المودع في استرداد الوديعة منك فصدقه لا يجبر على الدفع إليه؛ لأنه أمر بحق القبض في ملك الغير.
م: (وقيل: يجبر لأن المالك هاهنا غير ظاهر) ش: أي مالك آخر غير هذا المدعي في اللقطة غير ظاهر ولما أقر أنه هو المالك يلزمه إقراره فيجب على الدفع.
م: (والمودع) ش: بكسر الدال م: (مالك ظاهر) ش: فبالإقرار بالوكالة لا يلزمه الدفع إليه؛ لأنه غير مالك بيقين، ثم في الوديعة إذا دفع إليه بعدما صدقه وهلك في يده ثم حضر المودع وأنكر والوكالة وضمن المودع ليس له أن يرجع على الوكيل بشيء.
وهنا للملتقط أن يرجع على القابض؛ لأن هناك في زعم المودع أن الوكيل عامل للمودع في قبضه له لم يأمره، وأنه ليس بضامن بل المودع ظالم في تضمينه إياه، ومن ظلم فليس له أن يظلم غيره وهنا في زعمه أن القابض عامل لنفسه وإنه ضامن بعدما ثبت الملك لغيره بالبينة فكان له أن يرجع عليه بما ضمن لهذا، كذا في " المبسوط ".
م: (ولا يتصدق باللقطة على غني لأن المأمور هو التصدق لقوله - عليه السلم -: فإن لم يأت يعني صاحبها - فليتصدق به) ش: أي ما أمر بالصدقة م: (والصدقة لا تكون على غني فأشبه الصدقة المفروضة) ش: حيث لا تصح على غني، والحديث رواه أبو هريرة، أخرجه الدارقطني، وقد تقدم م: (وإن كان الملتقط غنياً لم يجز له أن ينتفع بها) ش: أي باللقطة م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يجوز) ش: وبه قال أحمد م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (في حديث أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها» ش: حديث أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الصحيحين، وفيه: «فاحفظ عددها ووعاءها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فانتفع بها ... » الحديث.
م: (وكان) ش: أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (من المياسير) ش: أي من الأغنياء، وهذا من كلام المصنف وليس من سنن الحديث، والمياسير جمع ميسور ضد المسور، وهما

(7/341)


ولأنه إنما يباح للفقير حملا له على رفعها صيانة لها والغني يشاركه فيه، ولنا أنه مال الغير فلا يباح الانتفاع به إلا برضاه لإطلاق النصوص والإباحة للفقير لما رويناه أو بالإجماع فيبقى ما رواه على الأصل، والغني محمول على الأخذ؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجهان عند سيبويه، ومصدران عند غيره.
قيل: يرد كلام المصنف ما رواه البخاري ومسلم «عن أبي طلحة. قلت: يا رسول الله: إن الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] (آل عمران، الآية: 92) ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها فما ترى يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجعلها في فقراء قرابتك " فجعلها أبو طلحة في أبي، وحسان،» فهذا صريح أن أبياً كان فقيراً.
قلت: يحتمل أنه أيسر بعد ذلك، وقضايا الأحوال متى تطرق إليها الاحتمال سقط منها الاستدلال.
م: (ولأنه) ش: أي لأن الانتفاع باللقطة م: (إنما يباح للفقير حملاً له على رفعها) ش: أي لكونه حاملاً وباعثاً على رفعها أي على رفع اللقطة م: (صيانة لها) ش: أي حفظاً للقطة، يعني حفظاً لها عن الضياع م: (والغني يشاركه فيه) ش: أي يشارك الفقير في الانتفاع بها.
حاصله أن حل الانتفاع باللقطة بعد التعريف للفقير لا للتصدق فيصير ذلك سبباً للالتقاط، فيصير المال محفوظاً على المالك.
فإنه متى علم أنه يحل له الانتفاع به بعد التعريف يرغب في الالتقاط والغني يشارك الفقير في هذا المعنى، فيشاركه في الانتفاع.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن اللقطة، ذكر الضمير باعتبار المال م: (مال الغير فلا يباح الانتفاع به إلا برضاه لإطلاق النصوص) ش: الحرية للتعرض لملك مال الغير فلا يباح، قال الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .
م: (والإباحة للفقير لما رويناه) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " فليتصدق به " فعلم أن الإباحة بطريق التصدق. م: (أو بالإجماع) ش: على جواز تعادل الصدقة للفقير دون الغني م: (فيبقى ما رواه على الأصل) ش: أي بقي ما رواه جواز الانتفاع الفقير على الأصل وهو حرمة الانتفاع بمال الغير بغير إذنه.
م: (والغني محمول على الأخذ) ش: هذا جواب عما قال الشافعي: يجوز الانتفاع للغني بعد مدة التعريف حتى يكون حاملاً على رفع اللقطة وصيانتها؛ لأنه إذا عرف أن اللقطة يجوز له

(7/342)


لاحتمال افتقاره في مدة التعريف، والفقير قد يتوانى لاحتمال استغنائه فيها، وانتفاع أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان بإذن الإمام وهو جائز بإذنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الانتفاع بها بعد التعريف يرفعها رجاء أن يؤول إليه، وتقرير الجواب أن الغني محمول على الأخذ، يعني كونه حاملاً لرفعها م: (لاحتمال افتقاره في مدة التعريف) ش: يعني يحتمل أن يكون فقيراً في مدة التعريف.
م: (والفقير قد يتوانى) ش: أي قد يتكاسل في الأخذ م: (لاحتمال استغنائه فيها) ش: أي في مدة التعريف، فيكون الحاصل في كل منهما رفع اللقطة والحاجة إليها، وكذلك في كل منهما مال عدم رفعها، إلا أن الحامل في الغني لا يوجب الانتفاع بها بخلاف الفقير وتطرق الاحتمال في المال لا يؤثر في الحال.
فإن قلت: في صحيح البخاري عن زيد بن خالد الجهني: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك» فدل على الانتفاع للملتقط غنياً كان أو فقيراً.
قلت: معنى شأنك الزم شأنك بها في الحفظ لصاحبها م: (وانتفاع أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان بإذن الإمام) ش: هذا جواب عن استدلال الشافعي بحديث أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بيانه أن انتفاع أبي ابن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان بإذن الإمام تخصيصاً له، كما في شهادة خزيمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وهو جائز بإذنه) ش: أي الانتفاع باللقطة بعد مدة التعريف جائز للغني بإذن الإمام على وجه يكون قرضاً.
وهذا الجواب الذي أجاب به المصنف عن حديث أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما يمشي على كون أبي غنياً؛ لأنه قال فيما مضى وكان من المياسير، وقد قلنا فيما مضى أنه كان فقيراً وبينا ذلك، قال الأترازي في جوابه عن حديث أبي، قال أصحابنا: إنه كان فقيراً وذكر حديث أبي طلحة، وقد ذكرناه.
فإن قلت: قال الترمذي عقيب حديث أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والعمل عليه عند أهل العلم، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا لصاحب اللقطة أن ينتفع بها إذا كان غنياً.
ولو كانت اللقطة لا تحل إلا لمن تحل له الصدقة لم يحل لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد أمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأكل الدينار حين وجده، ومن لم يعرفه.
قلت: أجيب عن هذا بما أجيب عن حديث أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه أبو داود في سننه عن سهل بن سعد «أن علي بن أبي طالب دخل على فاطمة وحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهما يبكيان، فقال: ما يبكيكما؟ قالا: الجوع، فخرج علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فوجد ديناراً بالسوق، فجاء فاطمة فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا دقيقاً، فجاء اليهودي

(7/343)


وإن كان الملتقط فقيرا فلا بأس بأن ينتفع بها لما فيه من تحقيق النظر من الجانبين، ولهذا جاز الدفع إلى فقير غيره، وكذا إذا كان الفقير أباه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واشترى به دقيقاً.
فقال اليهودي: أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول الله؟ قال: نعم، قال: فخذ ثم جاء فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فأخبرها، فقالت: اذهب به إلى فلان الجزار فخذ لنا بدرهم لحماً فذهب فرهن الدينار بدرهم، فطبخت وخبزت وأرسلت إلى أبيها، فجاء فقالت: يا رسول الله أذكر لك فإن كان لنا حلالاً أكلناه، من شأنه كذا وكذا، فقال: " كلوا باسم الله " فأكلوا فبينما هم مكانهم إذا غلام ينشد الله والإسلام الدينار.
فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعي، فسأله فقال: سقط مني في السوق، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا علي اذهب إلى الجزار فقل له إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل إلي بالدينار، ودرهمك علي " فأرسل به فدفعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه ... » انتهى.
واستشكل هذا من جهة أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنفق الدينار قبل التعريف، وأجاب المنذري بأن مراجعة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ملأ الخلق إعلان به، ثم قال: بهذا يؤيد الاكتفاء بالتعريف مرة واحدة.
قلت: هذا رواه عبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «إن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجد ديناراً في السوق فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " عرفه ثلاثة أيام " قال: فعرفه ثلاثة أيام فلم يجد من يعرف، فرجع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره فقال: " شأنك ... » الحديث.
م: (وإن كان الملتقط فقيراً فلا بأس بأن ينتفع بها لما فيه) ش: أي من الانتفاع م: (من تحقيق النظر من الجانبين) ش: جانب الملتقط بالانتفاع، وجانب المالك بحصول الثواب له.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون النظر فيه من الجانبين م: (جاز الدفع) ش: أي دفع اللقيط م: (إلى فقير غيره) ش: من الفقراء أو هو وسائر الفقراء سواء في الفقر، فجاز الانتفاع له أيضاً، م: (وكذا) ش: أي وكذا يجوز م: (إذا كان الفقير أباه) ش: أي أب الملتقط.

(7/344)


أو ابنه أو زوجته، وإن كان هو غنيا لما ذكرنا، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أو ابنه أو زوجته، وإن كان هو) ش: أي الملتقط م: (غنياً) ش: وصرفها إلى هؤلاء، وكلمة إن واصلة بما قبلها م: (لما ذكرنا) ش: أي لما فيه من تحقيق النظر من الجانبين، ولو التقط العبد شيئاً بغير إذن مولاه يجوز عندنا ومالك وأحمد والشافعي في قول، فإذا أتوه طولب ربه بقضاء الدين أو البيع فيه سواء أتوه قبل التعريف أو بعده.
وبه قال أحمد والشافعي في وجه؛ لأنه ضمان خيانة فتعلق برقبته، ويظهر في حق المولى، وعند مالك إن أتلفه قبل التعريف يؤمر الولي بالدفع أو القدر، وإن أتلف بعد التعريف يطالب العبد بعد العتق؛ لأن الشرع أذن له في الانتفاع فكان ضمان بحصته فلا يظهر في حق المولى م: (والله أعلم) .

(7/345)