البناية شرح الهداية

كتاب اللقيط اللقيط سمي باعتبار مآله، لما أنه يلقط، والالتقاط مندوب إليه لما فيه من إحيائه. وإن غلب على ظنه ضياعه فواجب. قال: اللقيط حر لأن الأصل في بني آدم إنما هو الحرية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب اللقيط]
[حكم الإ لتقاط]
م: (كتاب اللقيط) ش: أي هذا الكتاب في بيان أحكام اللقيط. والمناسبة بين كتاب اللقيط وكتاب السير من حيث إن فيهما عرضة الفوات للأنفس والأموال. وقدم اللقيط على اللقطة لما أن ذكر النفس مقدم، وهو على وزن فعيل بمعنى مفعول من اللقط، وهو الرفع. معناه لغة: ما يلقط، أي ما يرفع من الأرض، وفي الشرع: اللقيط اسم المولود طرحه أهله خوفاً من العيلة أو فراراً من تهمة الزنا.
قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (اللقيط سمي باعتبار مآله لما أنه يلقط) ش: أشار به إلى أنه في باب تسمية الشيء باعتبار ما يئول إليه، كما في قوله: «من قتل قتيلاً فله سلبه» وكما في قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] (يوسف: الآية 36) م: (والالتقاط مندوب إليه) ش: أي رفع اللقيط من الأرض مستحب م: (لما فيه من إحيائه) ش: لأنه على شرف الهلاك وإحياء الحي بدفع سبب الهلاك، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] (المائدة: الآية 32) .
ولهذا كان رفعه أفضل من تركه لما في تركه من ترك الرحمة على الصغار، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يرحم صغيرنا....» الحديث، وفي رفعه إظهار الشفقة على الصغار، وهو أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله، والتعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، كذا في " المبسوط ".
م: (وإن غلب على ظنه ضياعه) ش: أي على ظن الشخص ضياع اللقيط بتركه م: (فواجب) ش: أي التقاطه حينئذ واجب.
وقال الشافعي ومالك وأحمد: رفعه فرض كفاية إلا إذا خاف هلاكه، فحينئذ فرض عين؛ لإجماع الأمة، كمن رأى أعمى يقع في البئر يفرض عليه حفظه عن الوقوع، وتمسكوا على وجوبه بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] الآية (المائدة: الآية: 2) .
م: (قال: اللقيط حر) ش: أي في جميع أحكامه حتى يحد قاذفه، ولا يحد قاذف أمه، ذكره في شرح الطحاوي، ولا خلاف أنه حر إلا ما روي عن النخعي شاذاً أنه قال: إن رفعه حبسه فهو حر.
وإن أراد أن يسترقه فهو له، وهذا مخالف لإجماع العلماء، م: (لأن الأصل في بني آدم إنما هو الحرية) ش: إذ الإنسان أولاد آدم وحواء - صلوات الله عليهما وسلامه - وكانا حرين، ولأن

(7/312)


وكذا الدار دار الأحرار، ولأن الحكم للغالب، ونفقته في بيت المال هو المروي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأنه مسلم عاجز عن التكسب، ولا مال له ولا قرابة فأشبه المقعد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرق بعارض الكفر، والأصل عدم العارض.
م: (وكذا الدار دار الأحرار) ش: أي الدار دار الإسلام، فيمن كان فيها يكون حراً باعتبار الظاهر م: (ولأن الحكم للغالب) ش: أي لأن الغالب فيمن سكن دار الإسلام الأحرار والعبرة للغالب م: (ونفقته في بيت المال) ش: أي إذا لم يكن معه مال م: (هو المروي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: أما الرواية عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجها مالك في " الموطأ " في كتاب الأقضية عن ابن شهاب الزهري عن سنين أبو جميلة - رجل من بني سليم - أنه وجد منبوذاً في زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: فجئت إلى عمر وقال: ما حملك على حمل هذه التسمية؟ فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها.
فقال له عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، قال: كذلك، قال: نعم، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اذهب به فهو حر وعلينا نفقته.
ورواه عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا مالك عن ابن شهاب حدثني أبو جميلة أنه وجد منبوذاً على عهد عمر بن الخطاب فأتاه به فاتهمه عمر، فأثني عليه خيراً، فقال عمر: هو حر وولاؤه لك، ونفقته من بيت المال.
ورواه الطبراني في " معجمه " من طريق عبد الرزاق، ورواه الطبراني في كتاب " العلل " وزاد فيه زيادة حسنته، وهي أبو جميلة أدرك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحج حجة الوداع.
قلت: اسمه سنين بضم السين المهملة وفتح النون وسكون الياء قبل آخر الحروف، وفي آخره نون، وكنيته أبو جميلة بفتح الجيم. وقال: ولولا أدرك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إنه شهد معه حنيناً، وحدث عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وروى عنه ابن شهاب يعني محمد بن مسلم الزهري.
وأما الرواية عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجها عبد الرزاق، حدثنا سفيان الثوري عن الزهري عن ثابت عن ذهب بن أوس عن تميم أنه وجد لقيطاً فأتي به إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فألحقه بأمه انتهى. وذكره الكاكي فقال: عن علي أنه قال: نفقته في بيت المال، وولاؤه للمسلمين.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن اللقيط م: (مسلم عاجز عن التكسب، ولا مال له ولا قرابة فأشبه المقعد

(7/313)


الذي لا مال له ولا قرابة. ولأن ميراثه لبيت المال، والخراج بالضمان، ولهذا كانت جنايته فيه،
والملتقط متبرع في الإنفاق عليه لعدم الولاية إلا أن يأمره القاضي به ليكون دينا عليه لعموم الولاية. قال: فإن التقطه رجل لم يكن لغيره أن يأخذه منه؛ لأنه ثبت حق الحفظ له ولسبق يده عليه فإن ادعى مدع أنه ابنه فالقول قوله، معناه إذا لم يدع الملتقط نسبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي لا مال له ولا قرابة) ش:، والجامع بينهما الإسلام، والعجز عن الاكتساب وعدم المال وعدم من يجب عليه نفقته م: (ولأن ميراثه) ش: أي ميراث اللقيط م: (لبيت المال) ش: لعدم وارثه م: (والخراج بالضمان) ش: الخراج ما يخرج من غلة الأرض أو الغلام، يقال: خراج غلامه إذا اتفقا على ضريبة يؤديها إليه في وقت معلوم، ومعنى الخراج بالضمان أي الغلة سبب إن ضمنته لعين أن ميراث اللقيط لما كان لبيت المال كان مؤنة نفقته في بيت المال؛ لأن الغرم بإزاء الغنم.
وقال الأكمل: قوله: الخراج بالضمان أي له غنيمته وعليه غرمه، أي على العبد المعيب للمشتري قبل ولائه قبل الرد في ضمانه م: (ولهذا كانت جنايته فيه) ش: أي ولأجل كون الخراج بالضمان، وكانت جناية اللقيط في بيت المال.

[الإنفاق علي اللقيط]
م: (والملتقط متبرع في الإنفاق عليه) ش: أي على اللقيط م: (لعدم الولاية) ش: أي لعدم ولايته في تقصير حقه فيكون متبرعاً م: (إلا أن يأمره القاضي به) ش: أي بالإنفاق عليه م: (ليكون) ش: ما أنفقه عليه م: (ديناً عليه لعموم الولاية) ش: أي ولاية القاضي، وإن أمره القاضي بذلك مطلقاً، ولم يقل على أن يكون ديناً عليه. ذكر في " مختصر العصام " أنه يكون ديناً عليه، ويرجع عليه إذا كبر، ذكر في " الكافي " أنه لا يكون ديناً عليه، ولا يرجع عليه. وهذا أصح لأن الأمر المطلق محتمل قد يكون للحث في إتمام ما شرع فيه من التبرع.
وقد يكون للرجوع، وإنما يزول هذا الاحتمال إذا شرط أن يكون ديناً عليه، وإن كان مع اللقيط مال أو دابة لم ينفق عليه من ماله بأمر القاضي؛ لأن اللقيط حر، وما في يده فهو له لظاهر ما ذكره في فتاوي الولوالجي.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن التقطه رجل لم يكن لغيره أن يأخذه منه لأنه ثبت حق الحفظ له ولسبق يده عليه) ش: أي على اللقيط، فكان أولى به كما في سائر المباحات م: (فإن ادعى مدع أنه ابنه، فالقول قوله) ش: هذا لفظ القدوري.
وقال المصنف: م: (معناه) ش: أي معنى كلام القدوري م: (إذا لم يدع الملتقط نسبه) ش: أي نسب اللقيط. أما إذا ادعى الملتقط نسبه فهو أولى لأنهما استويا في الدعوى، ولأحدهما يد وصاحب اليد أولى.
وكذا إذا كان الملتقط ذمياً فهو أولى من المسلم الخارج حتى إذا كان في يد ذمي يدعي أنه ابنه،

(7/314)


وهذا استحسان، والقياس أن لا يقبل قوله؛ لأنه يتضمن إبطال حق الملتقط. وجه الاستحسان أنه إقرار للصبي بما ينفعه؛ لأنه يتشرف بالنسب ويعير بعدمه، ثم قيل يصح في حقه دون إبطال يد الملتقط، وقيل يبتنى عليه بطلان يده. ولو ادعاه الملتقط قيل يصح قياسا واستحسانا والأصح أنه على القياس والاستحسان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأقام أحد من المسلمين أنه ابنه فهو للذمي بحكم يده.
وأما لو كان مدعيا اللقيط خارجين أحدهما مسلم والآخر ذمي، وأقاما بينة من المسلمين يقضى للمسلم، فالحاصل أن الترجيح في باب النسب أو على الأمر باليد كذا في " الذخيرة " و " الإيضاح ".
وقال الشافعي وأحمد: الترجيح بقول القافة م: (وهذا استحسان) ش: أي هذا الذي ذكره القدوري استحسان م: (والقياس أن لا يقبل قوله؛ لأنه يتضمن إبطال حق الملتقط) ش: من حق اللقيط وما لعامة المسلمين من الولاء، فلا يقبل من غير بينته م: (وجه الاستحسان أنه إقرار للصبي بما ينفعه) ش: من حيث وجوب المنفعة والحضانة فقبل قوله م: (لأنه) ش: أي لأن اللقيط م: (يتشرف بالنسب ويعير بعدمه) ش: أي بعدم النسب.
م: (ثم قيل: يصح في حقه) ش: هذه إشارة، إلى خلاف المشايخ في ادعاء الخارج أن اللقيط ابنه، فقال بعضهم: يصح ادعاؤه في حق النسب يعني في حق ثبوته في إبطال يد الملتقط، وهذا معنى قوله م: (دون إبطال يد الملتقط) ش: وقال بعضهم: يقبل قوله فيهما جميعاً.
وهو معنى قوله م: (وقيل: يبتنى عليه) ش: أي على ثبوت النسب م: (بطلان يده) ش: أي يد الملتقط؛ لأن الأب أحق بالولد من الأجنبي، ويجوز أن يثبت الشيء ضمناً وإن لم يثبت قصداً، كما يثبت الإرث بشهادة القابلة على الولادة حكماً.
م: (ولو ادعاه الملتقط) ش: أي ولو ادعى نسب الملتقط وهو الذي التقطه، وهذا ذكره المصنف تفريعاً لمسألة القدوري م: (قيل: يصح) ش: أي ادعاؤه م: (قياساً واستحساناً) ش: يعني من حيث القياس ومن حيث الاستحسان؛ لأنه لم تبطل دعواه حق أحد، ولا منازع له في ذلك. م: (والأصح أنه على القياس والاستحسان) ش: أي على اختلاف حكم القياس مع حكم الاستحسان، يعني في القياس لا يصح، وفي الاستحسان يصح كما في دعوى غير الملتقط. ولهذا لم يذكرهما الكرخي.
وإنما ذكرهما الطحاوي فقال: القياس أن لا تصح دعواه إلا ببينته، وفي الاستحسان تصح بغير بينته.
ثم اعلم أن وجه القياس هنا غير وجه القياس في دعوى الأجنبيين، بيانه أن دعوى الأجنبيين

(7/315)


وقد عرف في الأصل وإن ادعاه اثنان ووصف أحدهما علامة في جسده فهو أولى به؛ لأن الظاهر شاهد له. لموافقة العلامة كلامه وإن لم يصف أحدهما علامة فهو ابنهما لاستوائهما في السبب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إنما لا تصح قياساً للزوم بطلان حق الملتقط، ودعوى الملتقط إنما لا تصح قياساً لتناقض كلامه؛ لأنه لما زعم أنه لقيط كان نافياً نسبه لأن ابنه لا يكون لقيطاً في يده، ثم إنه لما ادعى أنه ابنه كان مناقضاً لا محالة، وجه الاستحسان ظاهر وهو أن فيه بقاء الصبي من حيث وجوب النفقة والحضانة وثبوت النسب ويحصل له أسرى بذلك وفاء.
قيل: من التناقض في وجه القياس ليس بمعتبر لاشتباه الحال، فربما يكون الصبي منبوذاً بقبض الحوارث، فيظن الملتقط أنه لقيط، ثم تبين أنه ولده فلا تناقض إذاً، ولئن سلمنا التناقض ظاهراً فالتناقض لا يمنع ثبوت النسب كالملاعن إذا كسب نفسه.
م: (وقد عرف في الأصل) ش: أي قد عرف حكم هذا في " المبسوط "، وهو ما ذكرناه م: (وإن ادعاه اثنان) ش: أى وإن ادعى اللقيط شخصان من خارج م: (ووصف أحدهما علامة في جسده) ش: أي في جسد اللقيط، مثل ثيابه أو سلعته أو أثر لذلك ونحو ذلك م: (فهو أولى به) ش: أي الذي وصف علامة أولى باللقيط م: (لأن الظاهر شاهد له، لموافقة العلامة كلامه) ش: فيجب على اللقيط دفعه إليه.
وقال الشافعي وأحمد وأبو الليث وأبو ثور والأوزاعي: يعتبر قول القافة، وإذا اشتبه على القافة أقرع، وكذا إذا تعارضت بينتاهما لحديث المدلجي. وقال مالك: لا يثبت النسب ببينة، أو يكون لدعوى أحدكم بل عرف أنه لا يعيش له الولد فزعم أنه رماه؛ لأنه سمع إذا طرح نفس عاش، ونحو ذلك مما يدل على صدقه، وقال أشهب: يلحق بمجرد الدعوى إذا ادعاه ملتقطه أو غيره، إلا إن بان كذبه كذا في جواهر المالكية.
م: (وإن لم يصف أحدهما علامة فهو ابنهما لاستوائهما في السب) ش: وهو الدعوة لأنها سبب الاستحقاق في حق اللقيط، وقد مر خلاف الشافعي وأحمد في اعتبارهما قول القافة.
وإن كان المدعي أكثر من اثنين.
روي عن أبي حنيفة أنه جزاء إلى خمسة، ولا يلحق بأكثر من اثنين عند أبي يوسف، وبه قال أحمد في رواية، وقال محمد: يلحق بأكثر من ثلاثة، وبه قال أحمد في رواية. في " الإيضاح ": ولو وافق بعض القافة وخالف البعض سقط الترجيح.
وفي " الذخيرة ": وهذا بخلاف في اللقطة لو تنازعا فيها ووصف أحدهما ووافق من حيث لا يرجح صاحب الوصف، بل إذا انفرد الواصف بحل الملتقط دفعها عليه، ولا يجب وهنا يلزمه

(7/316)


ولو سبقت دعوى أحدهما فهو ابنه؛ لأنه ثبت حقه في زمان لا منازع له فيه، إلا إذا أقام الآخر البينة؛ لأن البينة أقوى.
وإذا وجد في مصر من أمصار المسلمين، أو في قرية من قراهم فادعى ذمي أنه ابنه ثبت نسبه منه وكان مسلما، وهذا استحسان؛ لأن دعواه تتضمن النسب، وهو نافع للصغير، وإبطال الإسلام الثابت بالدار وهو يضره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دفعه، والفرق أن في فصل اللقيط، ألا ترى أنه لو انفرد بدعوى اللقيط قضي له به كما لو أقام البينة فمعتبر الوصف لترجح سبب الاستحقاق.
وأما في اللقيط فالدعوى ليست بسبب الاستحقاق حتى يترجح بالوصف، فلو اعتبر الوصف اعتبر أصل الاستحقاق، والوصف لا يصلح سبباً له فافترقا.
م: (ولو سبقت دعوى أحدهما فهو ابنه؛ لأنه ثبت حقه في زمان لا منازع له فيه إلا إذا أقام الآخر البينة؛ لأن البينة أقوى) ش: لتأكد دعواه بها، وفي " الشامل " ادعته امرأة أنه ابنها لم يقبل إلا ببينة لأن في دعوى المرأة حمل النسب على الزوج، وإذا ادعته امرأتان وأقامتا البينة فهو ابنهما عند أبي حنيفة في رواية أبي حفص.
وعندهما لا يكون ابن واحدة منهما، وهو رواية أبي سليمان عن أبي حنيفة أيضاً، وفي وجيز الشافعية، ولو ازدحم اثنان قدم من سبق فإن استويا قدم الغني على الفقير، والبلدي على القروي والقروي على البدوي، وكل ذلك ينظر للصبي، وظاهر العدالة يقدم على المستور في أحسن الوجهين، فإن تساويا من كل وجه أقرع بينهما، وسلم إلى من خرجت قرعته.

[الرجل يلتقط اللقيط فيدعيه النصراني]
م: (وإذا وجد) ش: أي اللقيط م: (في مصر من أمصار المسلمين أو في قرية من قراهم فادعى ذمي أنه ابنه ثبت نسبه منه وكان مسلماً) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره.
وقال المصنف: م: (وهذا استحسان) ش: والقياس أنه لا يثبت نسبه من الذمي؛ لأن المنبوذ في دار الإسلام محكوم عليه بإسلامه، بدليل الصلاة عليه إذا مات ودفنه في مقابر المسلمين، وإذا ثبت إسلامه بحكم دار الإسلام لا يصدق ذمي على دعواه؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وأشار إلى وجه الاستحسان بقوله م: (لأن دعواه تتضمن النسب وهو نافع للصغير) ش: من حيث وجوب النفقة والحضانة. م: (وإبطال الإسلام) ش: أي يتضمن دعواه أيضاً إبطال الإسلام م: (الثابت بالدار) ش: أي بدار الإسلام م: (وهو يضره) ش: أي وإبطال الإسلام يضر اللقيط. ولا يمنع أن يكون الذمي ولد مسلم، ولهذا يكون ولده مسلماً إذا أسلمت أمه، وقال الكرخي في " مختصره "، وقال ابن سماعة عن محمد في " النوادر " في الرجل يلتقط اللقيط فيدعيه النصراني، قال: فهو ابنه وهو مسلم، وإن كان عليه رأي الإسلام فإني أجعله مسلماً وأثبت نسبته من

(7/317)


فصحت دعوته فيما ينفعه دون ما يضره، وإن وجد في قرية من قرى أهل الذمة، أو في بيعة أو كنيسة كان ذميا، وهذا الجواب فيما إذا كان الواجد ذميا رواية واحدة. وإن كان الواجد مسلما في هذا المكان أو ذميا في مكان المسلمين اختلفت الرواية فيه. ففي رواية كتاب اللقيط اعتبر المكان لسبقه، وفي كتاب الدعوى في بعض النسخ اعتبر الواجد، وهو رواية ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لقوة اليد، ألا ترى أن تبعية الأبوين فوق تبعية الدار حتى إذا سبي مع الصغير أحدهما يعتبر كافرا، وفي بعض نسخه اعتبر الإسلام نظرا للصغير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النصراني؛ لأن ذلك لا يضره، وينفق عليه، قال: وإن كان عليه زي الشرك فهو ابنه وهو نصراني على دينه، وذلك أن يكون في رقبته صليب وعليه قميص ديباج ووسط رأسه مجزوز إلى هنا لفظه.
م: (فصحت دعوته) ش: إلى دعوة الذمي م: (فيما ينفعه) ش: أي في الشيء الذي ينفع اللقيط وهو الإسلام م: (دون ما يضره) ش: وهو إبطال الإسلام م: (وإن وجد) ش: أي اللقيط م: (في قرية من قرى أهل الذمة، أو في بيعة) ش: أي وجد في بيعة اليهود م: (أو كنيسة) ش: أي أو وجد في كنيسة النصارى م: (كان) ش: أي الملتقط م: (ذمياً) ش: لأنه لما وجد في مواضع مختصة بهم كان ظاهراً من حاله أنه منهم م: (وهذا جواب فيما إذا كان الواجد ذمياً رواية واحدة) ش: من غير خلاف فيها. م: (وإن كان الواجد مسلماً) ش: في حيز الجواز أن يكون لغيرهم ولهذا يحكم منبوذ وجد في دار الحرب لدلالة الظاهر، وإن جاز أن يكون ولد مسلم تاجر أو أسير وهو الجواب أي الجواب الذي ذكر القدوري.
وهو قوله كان ذمياً؛ لأن لفظه في مختصره م: (في هذا المكان) ش: يعني في البيعة والكنيسة م: (أو ذمياً) ش: الواجد ذمياً م: (في مكان المسلمين اختلفت الرواية فيه) ش: أي في هذا الفصل م: (ففي رواية كتاب اللقيط) ش: يعني ففي رواية كتاب اللقيط من " المبسوط " م: (اعتبر المكان لسبقه) ش: أي لسبق المكان على يد الواجد، والسبق من أسباب الترجيح م: (وفي كتاب الدعوى) ش: من " المبسوط " م: (في بعض النسخ) ش: ويروى في بعض نسخه أي في بعض نسخ الدعوى من " المبسوط " م: (اعتبر الواجد وهو رواية ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لقوة اليد) ش: لأنه كالمباحات التي تستحق سبق اليد، فكان اعتبار الواجد أولى.
ثم أوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أن تبعية الأبوين فوق تبعية الدار حتى إذا سبي مع الصغير أحدهما) ش: أي أحد الأبوين م: (يعتبر كافراً) ش: لا مسلماً م: (وفي بعض نسخه) ش: أي في بعض نسخ الدعوى من " المبسوط م: (اعتبر الإسلام نظراً للصغير) ش: لأنه ينفعه، والكفر يضره، وقال الشافعي إن كان يوجد في بلد المسلمين وفيه مسلمون أو في بلد كان لهم أخذ الكفار

(7/318)


ومن ادعى أن اللقيط عبده لم يقبل منه لأنه حر ظاهرا إلا أن يقيم البينة أنه عبده، فإن ادعى عبد أنه ابنه ثبت نسبه منه؛ لأنه ينفعه. وكان حرا لأن المملوك قد تلد له الحرة فلا تبطل الحرية الظاهرة بالشك. والحر في دعوته اللقيط أولى من العبد، والمسلم أولى من الذمي ترجيحا لما هو الأنظر في حقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فهو مسلم، وإن وجد في بلد فتحه المسلمون، ولا مسلم فيه أو في بلد الكفار ولا مسلم فيه فهو كافر. وإن وجد في بلد الكفار وفيه مسلمون فهو مسلم، وقيل هو كافر، وبه قال أحمد ومالك اعتبر المكان، وأشهب اعتبر الواجد في مكان أهل الكفر ترجيحاً للإسلام م: (ومن ادعى أن اللقيط عبده لم يقبل منه) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره. وقال الكاكي: يجب أن يقيد هذا بقيدين أي ادعى الحر المسلم، وقيد المسلم؛ لأنه إذا كان المدعي ذمياً ففي قبول نسبه تفصيل إن شهد مسلمان تقبل، ويجعل اللقيط حراً مسلماً، وإن شهد كافران لا يقبل، وقبل الجزية لأن المدعي إذا كان عبداً وأضاف ولادته إلى امرأته الأمة فإن فيه خلافاً بين أبي يوسف ومحمد، فذكر في " الذخيرة " أن الولد حر عند محمد، وعبد عند أبي يوسف.
م: (لأنه حر ظاهراً) ش: لأن الأصل في بني آدم الحرية؛ لأن الناس كلهم أولاد آدم وحواء صلوات الله عليهما وسلامه، وهما كانا مسلمين حرين فكان أولادهما أحراراً تبعاً لهما، والرق بعارض الكفر، فكأن الحرية هي الظاهر والحكم بالظاهر إلى أن يثبت خلافه بالبينة وهو معنى قوله م: (إلا أن يقيم البينة) ش: أي المدعي الذي ادعى اليتيم م: (أنه عبده) ش: فحينئذ يكون عبده، فإن قيل: البينة لا تقوم إلا على خصم منكر، ولا خصم هنا، أجيب: بأن الملتقط خصم لأنه أحق بحقه، ولا تزول يده إلا بالبينة م: (فإن ادعى عبد أنه ابنه ثبت نسبه منه) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره.
وقال المصنف: م: (لأنه ينفعه) ش: أي لأن النسب ينفعه لأنه تيسر فيه م: (وكان حراً) ش: من تتمة كلام القدوري قال المصنف: م: (لأن المملوك قد تلد له الحرة فلا تبطل الحرية الظاهرة بالشك) ش: حاصل الكلام أن المملوك قد تلد له الحرة، فلا يكون عبداً وقد تلد له الأمة فيكون عبدا، والظاهر في بني آدم الحرية، فلا يبطل بالشك م: (والحر في دعوته اللقيط أولى من العبد) ش: الحر مرفوع على أنه مبتدأ وقوله: أولى خبره.
وقوله: في دعوته مصدر مضاف إلى فاعله، وقوله: اللقيط بالنصب مفعول قوله من العبد أي من دعوى العبد م: (والمسلم أولى من الذمي) ش: أي ودعوى المسلم أولى من دعوى الذمي إذا ادعى كل واحد منهما أن اللقيط ابنه م: (ترجيحاً) ش: أي لأجل الترجيح م: (لما هو الأنظر في حقه) ش: أي في حق اللقيط، إنما ذكر المصنف هذا تفريعا لما قاله القدوري، ثم كون المسلم أولى من الذمي مما إذا ادعيا وهما خارجان، أما إذا كان أحدهما ذا اليد كان هو أولى.

(7/319)


وإن وجد مع اللقيط مال مشدود عليه فهو له اعتبارا للظاهر، وكذا إذا كان مشدودا على دابة وهو عليها لما ذكرنا، ثم يصرفه الواجد إليه بأمر القاضي؛ لأنه مال ضائع، وللقاضي ولاية صرف مثله إليه، وقيل يصرفه بغير أمر القاضي، لأن اللقيط ظاهر وله ولاية الإنفاق، وشراء ما لا بد منه كالطعام والكسوة لأنه من الإنفاق له، ولا يجوز تزويج الملتقط، لانعدام سبب الولاية من القرابة والملك والسلطنة. ولا تصرفه في مال الملتقط اعتبارا بالأم وهذا لأن ولاية التصرف لتثمير المال، وذلك إنما يتحقق بالرأي الكامل والشفقة الوافرة والموجودة في كل واحد منهما أحدهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[وجد مع اللقيط مال مشدود عليه]
م: (وإن وجد مع اللقيط مال مشدود عليه فهو له اعتبارا للظاهر) ش: أي لظاهر يده لكونه من أهل الملك لكونه حرا، فيكون ما في يده له م: (وكذا) ش: أي وكذا يكون اللقيط م: (إذا كان) ش: أي المال م: (مشدودا على دابة وهو عليها) ش: أي اللقيط على الدابة م: (لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله اعتبارا للظاهر م: (ثم يصرفه الواجد إليه) ش: الملتقط، ينفق عليه من ذلك المال.
م: (بأمر القاضي) ش: لعموم ولاية القاضي، لأنه نصب قاضيا لأمور المسلمين، هو ظاهر الرواية م: (لأنه مال ضائع) ش: أي لأن المال الذي وجد مع هذا اللقيط مال ضائع م: (وللقاضي ولاية صرف مثله إليه) ش: أي مثل مال الضائع إلى اللقيط، وكذا لغيره بأمره، وبه قال الشافعي.
وقال ولو أنفقت بغير أمر القاضي ضمنه، وإن لم يكن بحاكم وأنفق بدون الإشهاد ضمن أيضا، وإن أنفق بالإشهاد ففيه قولان، قال في " الشامل " وهو مصدق في نفقة مثله.
م: (وقيل يصرفه) ش: أي يصرف الملتقط إلى اللقيط م: (بغير أمر القاضي، لأن) ش: أي لأن المال م: (اللقيط ظاهر) ش: أي بحسب الظاهر م: (وله) ش: أي ولملتقطه م: (ولاية الإنفاق وشراء ما لا بد منه) ش: عطف على قوله ولاية الإنفاق، أي وله شراء ما لا يستغي عنه م: (كالطعام والكسوة، لأنه من الإنفاق له) ش: أي لأن شراء ما لا بد منه من الإنفاق عليه. وبه قال أحمد م: (ولا يجوز تزويج الملتقط) ش: أي تزويجه اللقيط م: (لانعدام سبب الولاية) ش: للملتقط م: (من القرابة والملك والسلطنة) ش: ولم يوجد واحد منهما، فلا يثبت الولاية لعدم سببها م: (ولا تصرفه) ش: أي تصرف الملتقط م: (في مال الملتقط اعتبارا بالأم) ش: أي قياسا على عدم جواز تصرفها في مال ابنها.
م: (وهذا) ش: أي عدم جواز تصرف الملتقط في مال اللقيط م: (لأن ولاية التصرف لتثمير المال) ش: أي يكره بالفائدة والربح م: (وذلك) ش: أي تثمير المال م: (إنما يتحقق بالرأي الكامل والشفقة الوافرة والموجودة في كل واحد منهما) ش: أي من الأم والملتقط م: (أحدهما) ش: أي من

(7/320)


قال: ويجوز أن يقبض له الهبة؛ لأنه نفع محض، ولهذا يملكه الصغير بنفسه إذا كان عاقلا وتملكه الأم ووصيها. قال: ويسلمه في صناعة؛ لأنه من باب تثقيفه وحفظ حاله. قال: ويؤاجره، قال العبد الضعيف: وهذا رواية القدوري في مختصره، وفي " الجامع الصغير ": لا يجوز أن يؤاجره، ذكره في الكراهية وهو الأصح، وجه الأول: أنه يرجع إلى تثقيفه، ووجه الثاني: أنه لا يملك إتلاف منافعه فأشبه العم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرأي الكامل والشفقة الوارفة، وفي الأم الشفقة الوافرة دون الرأي الكامل.
وفي الملتقط على العكس فلم يكن لهما ولاية التصرف في المال لعدم المقصود، وهما بخلاف الأب فإن له شفقة وافرة ورأياً كاملاً، فكان له التصرف في النفس والمال جميعاً.
م: (قال: ويجوز أن يقبض له الهبة) ش: أي يجوز للملتقط أن يقبض اللقيطة الهبة م: (لأنه) ش: أي ولأن قبض الهبة له م: (نفع محض) ش: لا شك فيه بلا خلاف م: (ولهذا) ش: أي ولكون الهبة نفعاً محضاً م: (يملكه الصغير بنفسه) ش: أي يملك قبض الهبة بيده م: (إذا كان عاقلا) ش: فلا يفعل ذلك ويميزه م: (وتملكه الأم) ش: أي تملك قبض الهبة لابنها م: (ووصيها) ش: أي ويملك أيضاً وصي الأم؛ لأنه نفع محض للصغير.
م: (قال: ويسلمه) ش: أي يسلم الملتقط اللقيط م: (في صناعة لأنه من باب تثقيفه) ش: التثقيف تقويم المعوج بالثقاف، وهو ما يسوي به الرماح ويستعار للتأديب والتهذيب م: (وحفظ حاله) ش: من الاشتغال باللعب وتعلم الفساد.
م: (قال: ويؤاجره) ش: أي يؤاجر الملتقط اللقيط؛ لأن فيه نفعاً له، ولفظ يؤاجره ليس على قانون اللغة، وإنما هو اصطلاح الفقهاء.
م: (قال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهذا رواية القدوري في مختصره) ش: يعني جواز إجارة الملتقط اللقيط على رواية القدوري في مختصره.
م: (وفي " الجامع الصغير ": لا يجوز أن يؤاجره ذكره في الكراهية) ش: ذكره محمد في باب الكراهية م: (وهو الأصح) ش: أن المذكور في " الجامع الصغير " هو الأصح مما ذكره القدوري.
م: (وجه الأول) ش: أراد به رواية القدوري م: (أنه يرجع إلى تثقيفه) ش: وقد مر معناه آنفاً م: (ووجه الثاني) ش: أراد به رواية الجامع الصغير م: (أنه) ش: أي أن الملتقط م: (لا يملك إتلاف منافعه) ش: أي منافع اللقيط بالاستخدام.
م: (فأشبه العم) ش: أي فأشبه الملتقط العم، أي كما لا يجوز لعم إتلاف منافع الصغير

(7/321)


بخلاف الأم؛ لأنها تملكه على ما نذكره في الكراهية، إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فكذلك لا يجوز للملتقط م: (بخلاف الأم لأنها تملكه) ش: يعني الأم تملك إتلاف منافع الصغير بالاستخدام بلا عوض.
فلأن يملكه بالإجارة بعوض أولى م: (على ما نذكره في الكراهية إن شاء الله تعالى) ش: أي في آخر كتاب الكراهية في مسائل متفرقة.

(7/322)