البناية شرح الهداية

كتاب الكفالة قال: الكفالة هي الضم لغة، قال الله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] (آل عمران: الآية 37) ثم قيل: هي ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل: في الدين، والأول أصح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب الكفالة]
[تعريف الكفالة]
م: (كتاب الكفالة) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الكفالة، وإنما عقب البيوع بذكر الكفالة؛ لأنها تكون في البياعات غالبا، ولأن في الكفالة إذا كانت بأمر معنى المعاوضة انتهى، فناسب ذكرها عقيب البيوع التي هي معاوضة.
م: (قال: الكفالة هي الضم لغة) ش: من كفلت به كفالة وكفلت عنه المال لغريمه، والكفيل أيضا من أكفلته المال أي ضمنته إياه، وكفل هو به كفلا وكفولًا، والتكفيل مثله ومكفل بذمته تكفلا، واستشهد المصنف في قوله الكفالة الضم لغة بقوله: م: (قال الله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] (آل عمران: الآية 37) وضمها إلى نفسه، وقرئ بتشديد الفاء ونصب زكريا أي جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها.
وذكر الأخفش أنه قرئ أيضا: "وكفلها" بكسر الفاء، والضمير المنصوب في "كفلها" يرجع إلى مريم أم عيسى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وقصتها مشهورة.
م: (ثم قيل) ش: قائله أكثر الأصحاب م: (هي) ش: أي الكفالة في معناها الشرعي م: (ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد في رواية، وعنه: أن الدين ينتقل في الكفالة عن الميت. ونقل الشيخ أبو حفص أن الدين يسقط عن الأصيل بالكفالة عند مالك، والمشهور عنه خلاف ذلك م: (وقيل في الدين) ش: أي الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في أصل الدين، وهو اختيار بعض المشايخ.
وقال الأترازي: وهو مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والأول أصح) ش: أي القول الأول الذي قاله أكثر الأصحاب هو الأصح، لأن الكفالة كما تصح بالمال تصح بالنفس ولا دين ثمة.
ولأنه لو ثبت الدين في ذمة الكفيل ولم يبرأ الأصيل صار الدين دينين، وأورد ما إذا وهب رب المدين دينه فإنه يصح ويرجع به الكفيل على الأصيل، ولو لم يصر الدين عليه لما ملك قبل الكفالة، لأن تمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز.
وأجيب: بأن رب الدين لما وهب للكفيل صح فجعلنا الدين عليه حينئذ لضرورة تصحيح التصرف، وجعلناه في حكم دينين. وأما قبل ذلك فلا ضرورة فلا يجعل في حكم دينين.

(8/419)


قال: الكفالة ضربان: كفالة بالنفس، وكفالة بالمال، فالكفالة بالنفس جائزة والمضمون بها إحضار المكفول به، وقال الشافعي: لا يجوز؛ لأنه كفل بما لا يقدر على تسليمه إذ لا قدرة له على نفس المكفول به، بخلاف الكفالة بالمال؛ لأن له ولاية على مال نفسه. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الزعيم غارم» . وهذا يفيد مشروعية الكفالة بنوعيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وركن الكفالة الإيجاب والقبول عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف آخرا والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، ومالك وأحمد -رحمهما الله- الكفالة تتم بالكفيل وحده وجد القبول أو لا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الكفالة ضربان: كفالة بالنفس وكفالة المال، فالكفالة بالنفس جائزة، والمضمون بها إحضار المكفول به) ش: وبه قال أحمد وعمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وحمزة بن عمر الأسلمي وجرير بن عبد الله وأبي بن كعب وعمران بن الحصين والأشعث بن قيس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - م: (وقال الشافعي: لا يجوز) ش: هذا ليس بمشهور من مذهبه.
فإن الصحيح عنده كمذهبنا م: (لأنه كفل بما لا يقدر على تسليمه، إذ لا قدرة له على نفس المكفول به، بخلاف الكفالة بالمال؛ لأن له ولاية على مال نفسه، ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «الزعيم غارم» ش: هذا الحديث رواه أبو داود مطولا عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه ... » الحديث، وفي آخره: «والزعيم غارم» .
ورواه ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الزعيم غارم» أخرجه ابن عدي في "الكامل"، ومعناه: الكفيل غارم من غير فصل بين الكفالة بالمال والكفالة بالنفس، وألفاظ المال وكفالة الكفالة. أنا زعيم، أنا ضامن بما عليه، أو كفيل بذلك أو قبيل بذلك، أو قبيل، أو هو علي، أو إلي، أو هو عندي، أو هو لك قبلي.
م: (وهذا) ش: أي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» م: (يفيد مشروعية الكفالة بنوعيها) ش: أي

(8/420)


ولأنه يقدر على تسليمه بطريقه بأن يعلم الطالب مكانه فيخلي بينه وبينه، أو يستعين بأعوان القاضي في ذلك، والحاجة ماسة إليه. وقد أمكن تحقيق معنى الكفالة، وهو الضم في المطالبة فيه. قال: وتنعقد إذا قال: تكفلت بنفس فلان أو برقبته، أو بروحه، أو بجسده، أو برأسه، وكذا ببدنه وبوجهه؛ لأن هذه الألفاظ يعبر بها عن البدن إما حقيقة أو عرفا، على ما مر في الطلاق. وكذا إذا قال: بنصفه أو بثلثه أو بجزء منه؛ لأن النفس الواحدة في حق الكفالة لا تتجزأ، فكان ذكر بعضها شائعا كذكر كلها. بخلاف ما إذا قال: تكفلت بيد فلان أو برجله؛ لأنه لا يعبر بهما عن البدن حتى لا تصح إضافة الطلاق إليهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بنوعي الكفالة وهما كفالة المال وكفالة النفس، لأنه مطلق يشملهما. وفي بعض النسخ بنوعيه، قال الأترازي: الضمير راجع إلى الكفالة على تأويل عقد الكفالة.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الكفيل جواب عن قياس الشافعي. م: (يقدر على تسليمه) ش: أي تسليم المكفول عنه م: (بطريقه بأن يعلم الطالب مكانه فيخلي بينه وبينه) ش: أي بين المكفول له والمكفول عنه م: (أو يستعين) ش: أي الكفيل م: (بأعوان القاضي) ش: الأعوان جمع عون وهو الظهير على الآخر. والحاصل: أن أعوان القاضي هم الرجال الذين في خدمته يساعدونه في مهمات الأمور الشرعية. م: (في ذلك والحاجة ماسة إليه) ش: أي مهمة إلى عقد الكفالة بالنفس وهي ضرورة.
أما حقوق العباد لأنه ربما يعيب بنفسه فيتضرر صاحب الحق م: (وقد أمكن تحقيق معنى الكفالة وهو الضم في المطالبة فيه) ش: أي في هذا النوع م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وتنعقد) ش: أي الكفالة م: (إذا قال: تكفلت بنفس فلان أو برقبته أو بروحه أو بجسده أو برأسه) ش: هذا كله كلام القدوري، وقوله م: (وكذا ببدنه وبوجهه) ش: من كلام المصنف م: (لأن هذه الألفاظ يعبر بها عن البدن إما حقيقة) ش: كقوله تكلفت بنفس فلان أو ببدنه أو بجسده م: (أو عرفا) ش: كقوله تكفلت بوجهه أو برأسه أو برقبته م: (على ما مر في الطلاق) ش: أنه قال: نفسك طالق أو بدنك طالق أو جسدك طالق فإنها تطلق. وإذا قال: يدك طالق أو رجلك طالق أو دبرك طالق لا يقع شيء. م: (وكذا) ش: أي وكذا تنعقد الكفالة م: (إذا قال: بنصفه أو بثلثه أو بجزء منه) ش: أي قال: تكفلت بجزء من فلان بأن قال تكفلت بيده أو رجله م: (لأن النفس الواحدة في حق الكفالة لا تتجزأ فكان ذكر بعضها) ش: أي ذكر بعض النفس الواحدة حال كونه م: (شائعا كذكر كلها) ش: كما في الطلاق؛ لأن إضافة الكفالة إلى جزء شائع تثبت، وترى إلى الجملة كما في الطلاق والعتاق.
م: (بخلاف ما إذا قال: تكفلت بيد فلان أو برجله) ش: حيث لا تصح الكفالة م: (لأنه لا يعبر بهما عن البدن حتى لا تصح إضافة الطلاق إليهما) ش: أي إلى اليد والرجل فكانت إضافة الكفالة

(8/421)


وفيما تقدم يصح، وكذا إذا قال: ضمنته لأنه تصريح بموجبه، أو قال: هو علي؛ لأنه صيغة الالتزام، أو قال: إلي؛ لأنه في معنى علي في هذا المقام. قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا أو عيالا فإلي» . وكذا إذا قال: أنا زعيم به أو قبيل؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إليهما كإضافة الطلاق إليهما على ما مر. م: (وفيما تقدم) ش: أي في الجزء الشائع كالنصف م: (يصح) ش: إضافة الكفالة إليه كما تصح إضافة الطلاق. وقال الشافعي: تجوز الكفالة بما يعبر به عن البدن وجزء شائع أو بجزء لا يمكن فصله عنه كالقلب والكبد، وبه قال أحمد في رواية.
وقال مالك: يصح لكل عضو من بدنه حتى لو قال بوجهه أو بعينه، فهو كفالة بالنفس، وبه قال الشافعي في وجه وأحمد، وعندهما: لو كفل بعينه لم يذكره محمد. وعن أبي بكر البلخي: لا يصح كما في الطلاق، ولو برئ البدن يصح، كذا في " المحيط ".
م: (وكذا) ش: أي وكذا تنعقد الكفالة م: (إذا قال: ضمنته لأنه تصريح بموجبه) ش: أي بموجب عقد الكفالة، لأنه يصير ضامنا للتسليم والعقد ينعقد بالتصريح بموجبه كالبيع ينعقد بلفظ التمليك. م: (أو قال: هو علي لأنه صيغة الالتزام) ش: لأنه من ألفاظ الوجوب فأفاد الضمان فصحت الكفالة م: (أو قال إلي؛ لأنه في معنى "علي" في هذا المقام) ش: فكأنه قال ضمانه بوجه إلي. م: (قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا أو عيالا فإلي» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك كلا فإلي، ومن ترك مالا فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له» ... الحديث، ورواه ابن حبان في "صحيحه"، وفي لفظ لأبي داود قال: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فإلي» .
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلينا» والكل بفتح الكاف وتشديد اللام اليتيم هنا بدليل عطف العيال عليه، وإن كان الكل يجيء بمعنى العيال والجمع الكلول والعيال من يعوله أي يصونه وينفق عليه.
م: (وكذا إذا قال) ش: أي وكذا تنعقد الكفالة بقوله م: (أنا زعيم به) ش: أي بفلان، وليس في بعض النسخ لفظ به، وزعيم من زعم به، أي كفل به يزعم زعامة م: (أو قبيل) ش: أي أو قال: أنا قبيل بفلان فهو بمعنى كفيل من قولهم قبل به أي كفل به بفتح العين في الماضي وكسرها

(8/422)


لأن الزعامة هي الكفالة وقد روينا فيه، والقبيل هو الكفيل، ولهذا سمي الصك قبالة، بخلاف ما إذا قال: أنا ضامن لمعرفته؛ لأنه التزم المعرفة دون المطالبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في المضارع قبالة م: (لأن الزعامة هي الكفالة) ش: يعني معناهما واحد م: (وقد روينا فيه) ش: أي روينا الحديث، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» وفي بعض النسخ روينا الحديث.
وقوله: فيه أي في معنى أن الزعامة هي الكفالة والحميل أيضا بمعنى الكفيل، يقال حمل به يحمل حمالة بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع، أي كفل به، وروى الزمخشري في " الفائق ": الحميل غارم.
م: (والقبيل هو الكفيل، ولهذا سمي الصك قبالة، بخلاف ما إذا قال: أنا ضمن لمعرفته) ش: يعني لا يكون كفيلا بهذا اللفظ م: (لأنه التزم المعرفة دون المطالبة) ش: أي لأن الرجل الذي قال هذا اللفظ التزم لمن يطلب الكفيل معرفة الرجل الذي عليه الدين وما التزم مطالبته الدين.
وفي الأصل: لو قال أنا ضامن لمعرفة فلان أو ضامن لأن أدلك عليه، أو لأن أدل على منزله لا يكون كفالة. ولو قال: أنا ضامن تعريفه أو علي تعريفه ففيه اختلاف المشايخ، كذا نقل في " خلاصة الفتاوى " عن " شرح الشافي ".
وقال الفقيه أبو الليث: روي عن علي بن أحمد عن نصير قال: سئل ابن محمد بن الحسن أبا سليمان الجوزجاني عن رجل قال لآخر: أنا ضامن لمعرفة فلان، أما في قول أبي حنيفة ومالك: لا يلزمه شيء، وأما أبو يوسف قال: هذا على معاملة الناس وعرفهم، ثم قال الفقيه أبو الليث في " النوازل ": هذا القول عن أبي يوسف غير مشهور.
والظاهر ما روي عن أبي حنيفة ومحمد، وقال في خزانة الواقعات: وبه يُفتى، أي بظاهر الرواية، وقال في " الفتاوى الصغرى ": "أسنائي فلان برمن" قال الفقيه أبو جعفر: يكون كفيلا.
وقال أبو الليث: لا وعليه الفتوى. ثم نقل في " الفتاوى الصغرى " عن " الواقعات ": أن الفتوى على أنه يصير كفيلا، ثم قال فيهم إذا قال فلان - أسناي من است، أو قال أثناست صارت كفالة بالنفس عرفا.
ولو قال - آن: جه ترا بر فلان إست جواب كريم - فهو كفالة بحكم العرف. ولو قال: أن جه ترا بر فلان است من بدهم - لا يكون كفالة بحكم العرف، ومن وعد غيره أن يقضي دينه بأن قال: بدهم، لا يجب، ونقله عن مأذون شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

(8/423)


فإن شرط في الكفالة بالنفس تسليم المكفول به في وقت بعينه لزمه إحضاره إذا طالبه في ذلك الوقت وفاء بما التزمه. فإن أحضره وإلا حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء حق مستحق عليه، ولكن لا يحبسه أول مرة فلعله ما درى لماذا يدعى. ولو غاب المكفول بنفسه أمهله الحاكم مدة ذهابه ومجيئه، فإن مضت ولم يحضره يحبسه لتحقق امتناعه عن إيفاء الحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[شرط في الكفالة بالنفس تسليم المكفول به في وقت بعينه]
م: (فإن شرط في الكفالة بالنفس تسليم المكفول به في وقت بعينه لزمه إحضاره إذا طالبه به في ذلك الوقت وفاء بما التزمه) ش: أي لأجل وفاء ما التزمه في الوقت المعين، والأصل فيه أن الكفالة بالنفس نوع ضمان، فيصح التأجيل فيها كالكفالة بالمال، فإذا حل الأجل يجب الإحضار م: (فإن أحضره) ش: فلا كلام فيه م: (وإلا) ش: أي وإن لم يحضره بأن امتنع عن إحضاره م: (حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء حق مستحق عليه) ش: لأنه يصير ظالما والحبس جزاؤه.
م: (ولكن لا يحبسه أول مرة) ش: لأن الحبس عقوبة على الظالم ولا يظهر في أول الوهلة م: (فلعله ما درى لماذا يدعى) ش: على صيغة المجهول.
م: (ولو غاب المكفول بنفسه) ش: أي المدعى عليه م: (أمهله الحاكم مدة ذهابه ومجيئه) ش: هذا إذا علم مكان المكفول به، أما إذا لم يعلم سقطت المطالبة عن الكفيل للحال لعجزه.
وفي " الذخيرة ": ولو كان الكفيل يعرف مكانه أمهله قدر ذهابه ومجيئه، فإن لم يعلم سقطت المطالبة. ولو وقع الاختلاف فقال الطالب: تعرف مكانه.
وقال الكفيل: لا أعرف، فإن كان له خرجة معروفة تخرج إلى موضع معلوم للتجارة في كل وقت فالقول للطالب ويؤمر الكفيل بالذهاب إليه، لأن الظاهر شاهد له.
وإن لم يكن ذلك معروفا منه فالقول للكفيل، لأنه متمسك بالأصل وهو الجهل ومنكر لزوم المطالبة فإن أقام الطالب البينة أنه في موضع كذا يؤمر الكفيل بالذهاب إليه.
وقال الكاكي: وفي بعض النسخ: وكذا إذا ارتد ولحق بدار الحرب، وهذه المسألة ليست في بعض النسخ إلى قوله: وإذا أحضره وسلمه، ثم معنى قوله: وكذا إذا ارتد ولحق بدار الحرب يعني يمهله الحاكم مدة ذهابه إلى دار الحرب ومجيئه، وينبغي أن يبرأ الكفيل كما في الموت، لأن إلحاق المرتد موت حكمي.
والفرق أن اللحاق موت حكمي في قسمة ماله بين ورثته دون الحقوق الثابتة في ذمته. م: (فإن مضت) ش: المدة م: (ولم يحضره يحبسه لتحقق امتناعه عن إيفاء الحق) ش: مع إمكانه وبيان مطله.

(8/424)


قال: وإذا أحضره وسلمه في مكان يقدر المكفول له أن يخاصمه فيه، مثل أن يكون في مصر برئ الكفيل من الكفالة؛ لأنه أتى بما التزمه وحصل المقصود به، وهذا لأنه ما التزم التسليم إلا مرة. وإذا كفل على أن يسلمه في مجلس القاضي فسلمه في السوق برئ لحصول المقصود.
وقيل في زماننا: لا يبرأ؛ لأن الظاهر المعاونة على الامتناع لا على الإحضار، فكان التقييد مفيدا. وإن سلمه في برية لم يبرأ؛ لأنه لا يقدر على المخاصمة فيها فلم يحصل المقصود، وكذا إذا سلمه في السواد لعدم قاض يفصل الحكم فيه. ولو سلم في مصر آخر غير المصر الذي كفل فيه برئ عند أبي حنيفة للقدرة على المخاصمة فيه، وعندهما لا يبرأ لأنه قد يكون شهوده فيما عينه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وكذا إذا أحضره وسلمه في مكان يقدر المكفول له أن يخاصمه فيه مثل أن يكون في مصر برئ الكفيل من الكفالة؛ لأنه أتى بما التزمه وحصل المقصود به، وهذا) ش: يعني ما ذكرنا من إتيانه بما التزمه. م: (لأنه ما التزم التسليم إلا مرة) ش: فحصل التسليم.
م: (وإذا كفل على أن يسلمه في مجلس القاضي فسلمه في السوق برئ لحصول المقصود) ش: وهو القدرة على المحاكمة م: (وقيل في زماننا لا يبرأ؛ لأن الظاهر المعاونة على الامتناع لا على الإحضار، فكان التقييد مفيدا) ش: وقال الأئمة الثلاثة: إذا عين مكانا وفي تسليمه في غيره ضرر يتعين ذلك المكان.
وفي " الشامل " شرط على الكفيل أن يسلمه في المسجد الأعظم فسلمه في السوق برئ، لأن المصر كبقعة واحدة، ثم قال فيه: عن أبي يوسف أنه لا يبرأ، لأن الناس لا يعينونه للإحضار، ثم قال: ويجب أن يكون الفتوى على هذا اليوم.
م: (وإن سلمه في برية لم يبرأ لأنه لا يقدر على المخاصمة فيها فلم يحصل المقصود، وكذا إذا سلمه في السواد لعدم قاض يفصل الحكم فيه) ش: قال الجوهري: سواد الكوفة، والبصرة قرى، والمفهوم من كلام المصنف أن السواد هي القرى التي ليس فيها قضاة، وأما إذا كان فيها قضاة ينبغي أن يبرأ لقدرته على المخاصمة.
م: (ولو سلم في مصر آخر غير المصر الذي كفل فيه برئ -عند أبي حنيفة - للقدرة على المخاصمة فيه) ش: لأن المحاكمة تحقق عنه كل قاض، فصار التسليم في البلدين سواء م: (وعندهما لا يبرأ) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة م: (لأنه قد يكون شهوده فيما عينه) ش: فيتعسر عليه إقامة البينة في بلد آخر.
فقيل: هذا اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان. فأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القرن الثالث والغلبة لأهل الصلاح والقضاة لا يرغبون في الميل إلى الرشوة وتغير الحال في

(8/425)


ولو سلمه في السجن وقد حبسه غير الطالب لا يبرأ لأنه يقدر على المخاصمة فيه. قال: وإذا مات المكفول به برئ الكفيل بالنفس من الكفالة؛ لأنه عجز عن إحضاره، ولأنه سقط الحضور عن الأصيل فيسقط الإحضار عن الكفيل، وكذا إذا مات الكفيل لأنه لم يبق قادرا على تسليم المكفول بنفسه، وماله لا يصلح لإيفاء هذا الواجب بخلاف الكفيل بالمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زمانهما فظهر الفساد والميل إلى الرشوة وعامل كل مصر لا ينقاد لأمر الخليفة فيفيد التقييد.
م: (ولو سلمه في السجن وقد حبسه غير الطالب) ش: أي والحال أن القاضي قد حبسه لأجل غير الطب م: (لا يبرأ لأنه لا يقدر على المخاصمة فيه) ش: وعند مالك يبرأ، وعند أحمد: إن كان في سجن القاضي الذي يرجع الحكم إليه يبرأ وإلا فلا.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا مات المكفول به) ش: وهو المدعى عليه م: (برئ الكفيل بالنفس من الكفالة) ش: وبه قال الشافعي في وجه وأحمد. وقال في أصح الوجهين: يطالب بإحضار الميت ما لم يدفن إذا أراد المكفول إقامة الشهادة على مورثه كما لو تكفل ابتداء ببدن الميت، وعلل المصنف ما ذهب إليه أصحابنا بوجهين: الأول: هو قوله م: (لأنه عجز عن إحضاره) ش: أي إحضار المكفول به وهو المدعى عليه. والثاني: هو قوله م: (ولأنه سقط الحضور عن الأصيل فيسقط الإحضار عن الكفيل) ش: لأن الكفيل الأصيل من الحق المضمون يوجب براءة الكفيل.
م: (وكذا) ش: أي وكذا تسقط الكفالة م: (إذا مات الكفيل لأنه لم يبق قادرا على تسليم المكفول) ش: إلا بإحضار النفس وقد سقط الحضور عن الأصيل، فكذا عن الكفيل، لأن براءة المكفول. م: (بنفسه وماله) ش: أي ومال الكفيل م: (لا يصلح لإيفاء هذا الواجب) ش: وهو الإحضار وتسليم المكفول به.
حاصله: أنه لا يؤدي ما على المكفول به من تركه الكفيل، لأنه ما التزم بأداء المال، وإنما التزم بتسليم النفس، والمال لا يصلح وفاء لهذا الواجب، وبه قال أحمد والشعبي وشريح وحماد بن أبي سليمان والشافعي في أصح الوجهين وقال مالك والليث: يلزمه ما عليه، وبه قال ابن شريح من أصحاب الشافعي.
م: (بخلاف الكفيل بالمال) ش: إذا مات حيث يُؤدى المال من تركه، إذ المقصود هنا إيفاء حق المكفول له في الحال والمآل، والكفيل صالح له فلا تبطل الكفالة فتؤخذ من تركته ويرجع ورثته على المكفول عنه إذا كانت الكفالة بأمره كما في حال الحياة.
ولو كان الدين مؤجلا ومات الكفيل قبل الأجل يؤخذ من تركته حالا، ولكن ورثته ترجع على الذي عليه الأصل بعد حلول الأجل، لأنه باق في حق الأصيل لبقاء حاجته، أما الكفيل

(8/426)


ولو مات المكفول له فللوصي أن يطالب الكفيل، وإن لم يكن فلوارثه لقيامه مقام الميت. قال: ومن كفل بنفس آخر ولم يقل إذا دفعت إليك فأنا بريء فدفعه إليه فهو بريء، لأنه موجب التصرف فيثبت بدون التنصيص عليه. ولا يشترط قبول الطالب التسليم كما في قضاء الدين. ولو سلم المكفول به نفسه من كفالته صح لأنه مطالب بالخصومة فكان له ولاية الدفع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقد استغنى عن الأجل بالموت. كذا في " المبسوط "، وبقولنا قال الشافعي وأحمد. وعن زفر: أن للورثة مطالبته حالا لأنه أدخله في ذلك مع علمه أنه يحل بموته.
قلنا: إنه دين مؤجل فلا يجوز قبل الأجل.
م: (ولو مات المكفول له فللوصي أن يطالب الكفيل) ش: لقيامه مقام المكفول له م: (وإن لم يكن) ش: أي للوصي م: (فلوارثه) ش: المطالبة م: (لقيامه) ش: أي لقيام الوارث م: (مقام الميت) ش: ويجوز أن يكون الضمير في لقيامه راجعا إلى كل واحد من الوصي والوارث لأن كلا منهما يقوم مقام الميت.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن كفل بنفس آخر) ش: بالإضافة م: (ولم يقل) ش: أي والحال أنه لم يقل م: (إذا دفعت إليك فأنا بريء فدفعه إليه فهو بريء لأنه) ش: أي لأن دفع المكفول به إلى الطالب، كذا قاله الكاكي.
وقال الأكمل: لأنه يعني البراءة وذكره لتذكير الخير وهو الموجب م: (موجب التصرف فيثبت) ش: أي الموجب م: (بدون التنصيص عليه) ش: كثبوت الملك بالشراء وإن لم يصرح به وكحل الاستمتاع يثبت بمجرد النكاح الصحيح فإنه موجبه.
وكذا في سائر الموجبات م: (ولا يشترط قبول الطالب التسليم كما في قضاء الدين) ش: إذا سلمه الغاصب إذا رد المغصوب على المالك، والبائع إذا سلم المبيع إلى المشتري، وبه قال مالك وأحمد.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لزمه القبول. ولو امتنع من القبول، قال بعض أصحابه: يرفع الأمر إلى القاضي ويسلمه حتى يبرأ، فإن لم يجدها أو امتنع أحضر شاهدين ليشهدوا على امتناعه، وبه قال بعض أصحاب أحمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولو سلم المكفول به نفسه من كفالته صح) ش: هذه من مسائل " المبسوط " ذكرها تفريعا على ما تقدم م: (لأنه) ش: أي لأن المكفول به م: (مطالب بالخصومة) ش: أي بخصومة المدعي أو مرض من الكفيل، قال شيخنا م: (فكان له ولاية الدفع) ش: أي دفع الخصومة. وفي بعض النسخ: لأنه يطالب بالخصومة. وقال الأترازي: مطالب صح بفتح اللام سماعا، قلت: وكذا قال شيخنا

(8/427)


وكذا إذا سلمه إليه وكيل الكفيل أو رسوله لقيامهما مقامه. قال: فإن تكفل بنفسه على أنه إن لم يواف به إلى وقت كذا فهو ضامن لما عليه، وهو ألف فلم يحضره إلى ذلك الوقت لزمه ضمان المال؛ لأن الكفالة بالمال معلقة بشرط عدم الموافاة، وهذا التعليق صحيح. فإذا وجد الشرط لزمه المال، ولا يبرأ عن الكفالة بالنفس، لأن وجوب المال عليه بالكفالة لا ينافي الكفالة بنفسه، إذ كل واحد منهما للتوثيق. وقال الشافعي: لا تصح هذه الكفالة؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العلاء بفتح اللام م: (وكذا) ش: أي وكذا صح م: (إذا سلمه إليه) ش: إذا سلم الكفيل إلى المكفول له م: (وكيل الكفيل أو رسوله) ش: أي أو أسلمه إليه رسول الكفيل م: (لقيامهما) ش: أي لقيام وكيل الكفيل ورسوله م: (مقامه) ش: أي مقام الكفيل.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن تكفل بنفسه على أنه لم يواف به) ش: أي إن لم يأت به وهو من الموافاة، وهو مفاعلة من الوفاء م: (إلى وقت كذا فهو ضامن لما عليه وهو ألف) ش: وقال الكاكي: والتقييد بما عليه مقيد؛ لأنه إذا لم يقل لما عليه لا يلزمه شيء عند عدم الموافاة خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تصح الكفالة، وسيجيء بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وقال الكاكي أيضا: والتقييد بقوله: وهو ألف غير مفيد، لأنه إذا قال: ما عليه ولم يسم كم هو جاز، لأن جهالة المكفول به لا تمنع صحتها لأنها مبنية على التوسع كضمان الدرك وضمان الشجة، فإنه يصح مع أنه مجهول لا يعلم أنها تسري إلى النفس أم لا. م: (فلم يحضره) ش: أي الألف م: (إلى ذلك الوقت لزمه ضمان المال؛ لأن الكفالة بالمال معلقة بشرط عدم الموافاة، وهذا التعليق صحيح) ش: لأنه متعارف بين الناس وإن كان القياس يأباه، كما لو اشترى نعلا على أن يحذوه البائع.
م: (فإذا وجد الشرط لزم المال، ولا يبرأ عن الكفالة بالنفس، لأن وجوب المال عليه بالكفالة لا ينافي الكفالة بنفسه، إذ كل واحد منهما) ش: أي لأن كل واحد من الكفالتين شرع م: (للتوثيق) ش: فيجوز أن يدعي عليه دينا آخر.
م: (وقال الشافعي: لا تصح) ش: ذكر في " المبسوط " موضع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال ابن أبي ليلى م: (هذه الكفالة) ش: إنما قيد بقوله: هذه الكفالة للاحتراز عن سائر الكفالات بالمال بدون النفس بالشرط لا للاحتراز عن الكفالة بالمال، فإن عنده كلتيهما باطلتين، كذا ذكره قاضي خان والمرغيناني.
وقال الكاكي على قوله المنصوص بصحة الكفالة بالنص: وتبطل الكفالة بالمال فقط، ويفهم ذلك من كتبهم، وتعليل الكتاب أيضا يدل عليه م: (لأنه) ش: أي لأن هذا التعليق. وفي

(8/428)


تعليق سبب وجوب المال بالخطر فأشبه البيع. ولنا: أنه يشبه البيع ويشبه النذر من حيث إنه التزام، فقلنا: لا يصح تعليقه بمطلق الشرط كهبوب الريح ونحوه، ويصح بشرط متعارف عملا بالشبهين والتعليق بعدم الموافاة متعارف. ومن كفل بنفس رجل، وقال: إن لم يواف به غدا فعليه المال، فإن مات المكفول عنه ضمن المال لتحقق الشرط، وهو عدم الموافاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعض النسخ هذه الكفالة؛ لأنها م: (تعليق سبب وجوب المال بالخطر) ش: أراد بالسبب الكفالة بالمال؛ لأنها سبب وجوب المال، فيكون تعليقها بالشرط تعليق سبب وجوب المال فلا يصح، لأن المال لا يحتمل التعليق بالخطر لإفضائه إلى معنى القمار م: (فأشبه البيع) ش: أي تعليق البيع بالمال وصار كما إذا قال: إن دخلت الدار فأنا كفيل بمالك على فلان.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن عقد الكفالة م: (يشبه البيع) ش: أي انتهاء من حيث إن الكفيل يرجع على الأصيل إذا كان يأمره م: (ويشبه النذر من حيث إنه التزام) ش: يعني التزام شيء غير لازم، فعملنا بالشبهين. م: (فقلنا: لا يصح تعليقه بمطلق الشرط) ش: عملا بشبه البيع. م: (كهبوب الريح ونحوه) ش: أراد به دخول الدار ومجيء المطر م: (ويصح بشرط متعارف) ش: عملا بشبه النذر م: (عملا بالشبهين، والتعليق بعدم الموافاة متعارف) ش: وبدخول الدار غير متعارف.
م: (ومن كفل بنفس رجل، وقال: إن لم يواف به غدا فعليه المال، فإن مات المكفول عنه ضمن المال لتحقق الشرط وهو عدم الموافاة) ش: لأنه علق الكفالة بالمال بشرط عدم الموافاة بالمكفول به، وقد تحقق الشرط فيوجب المال.
فإن قيل: هذه المسألة عين الأولى غير أن في الأولى لم يذكر موت المكفول به وهاهنا ذكره وبه لا يقع الفرق، إذ لزوم المال بموته وعدم موته لا يتفاوت.
قلنا: بل بينهما فرق، وهو أنه لم يذكر في بعض النسخ " الجامع " لفظ الغد في هذه المسألة، فكان تعليق الكفالة بالمال بعدم الموافاة مطلقًا وهنا مقيدا، فكان بينهما فرق، إذا المطلق غير المقيد.
وقال الأترازي: والفرق بين هذه المسألة ومسألة القدوري التي تقدمت أن في هذه لم يذكر لفظ الغد في أكثر نسخ الجامع الصغير، ولهذا لم يذكره فخر الإسلام والصدر الشهيد وقاضي خان، وإنما ذكر بعضهم فكانت مسألة القدوري مقيدة بوقت وهذه مطلقة عنه فحصل الفرق.
والوجه الثاني من الفرق: أن المكفول به هنا مات قبل الغد وفي مسألة القدوري هو حي، ولكن الكفيل لم يواف به في ذلك الوقت فذكر مسألة " الجامع الصغير " إزاحة لوهم بعض الناس أنه ربما يكون فرق بين عدم الموافاة وهو حي وعدم الموافاة وهو ميت، فقال: لا فرق بينهما، بل يجب المال إذا وجد الشرط وهو عدم الموافاة في الوقت.

(8/429)


قال: ومن ادعى على آخر مائة دينار، بينها أو لم يبينها، حتى تكفل بنفسه رجل على أنه إن لم يواف به غدا فعليه المائة، فإن لم يواف به غدا فعليه المائة عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-، وقال محمد: إن لم يبينها حتى تكفل به رجل ثم ادعى بعد ذلك لم يلتفت إلى دعواه؛ لأنه علق مالا مطلقا بحظر، ألا يرى أنه لم ينسبه إلى ما عليه، ولا تصح الكفالة على هذا الوجه وإن بينها ولأنه لم تصح الدعوى من غير بيان فلا يجب إحضار النفس، وإذا لم يجب لا تصح الكفالة بالنفس فلا تصح بالمال؛ لأنه بناء عليه، بخلاف ما إذا بين. ولهما أن المال ذكر معرفا فينصرف إلى ما عليه، والعادة جرت بالإجمال في الدعاوي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: ومن ادعى على آخر مائة دينار بينها) ش: أي بين صفة مائة دينار أنها جيدة أو رديئة أو خليقة أو ركينة. م: (أو لم يبينها حتى تكفل بنفسه رجل على أنه إن لم يواف به غدا فعليه المائة، فإن لم يواف به غدا فعليه المائة عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: وبه قال أحمد م: (وقال محمد: إن لم يبينها حتى تكفل به رجل ثم ادعى بعد ذلك لم يلتفت إلى دعواه) ش: أي إلى دعوى الطالب، وبه قال الشافعي م: (لأنه) ش: أي لأن الكفيل م: (علق مالا مطلقا) ش: أراد بإطلاقه عدم نسبة المائة إلى المال المدعى به حيث لم يقل: تكفلت بمالك عليه م: (بحظر) ش: أي بتردد وهو شرط عدم الموافاة م: (ألا يرى) ش: توضيح لما قبله م: (أنه لم ينسبه إلى ما عليه) ش: حيث لم يقل التي لك على فلان.
م: (ولا تصح الكفالة على هذا الوجه وإن بينها) ش: أي لا تصح الكفالة على وجه تعليق المال مطلقا بحظر، وإن بين صفة المائة من الجودة والرداءة والوسط، وذلك لاحتمال أن يلتزم المائة على وجه الرشوة للمدعي حتى يترك المدعى عليه في الحال، هكذا ذكر الماتريدي.
م: (ولأنه لم تصح الدعوى) ش: هذا وجه آخر منسوب إلى الشيخ الإمام أبي الحسن الكرخي م: (من غير بيان فلا يجب إحضار النفس) ش: إلى مجلس القاضي لفساد الدعوى بجهالة المدعى به م: (وإذا لم يجب لا تصح الكفالة بالنفس فلا تصح بالمال لأنه بناء عليه) ش: أي لأن عقد الكفالة بالمال بناء على عقد الكفالة بالنفس، وهذا يوجب أن تصح الكفالة بالنفس إذا بين المال، وهو معنى قوله م: (بخلاف ما إذا بين) ش: أي المال، حيث تصح الكفالة بالنفس.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- م: (أن المال ذكر معرفا فينصرف إلى ما عليه) ش: يعني أن المال في قول الكفيل ذكر معرفا، حيث قال: إن لم يواف به غدا فعليه المال فينصرف إلى ما على الأصيل لأنه هو المعهود م: (والعادة جرت بالإجمال في الدعاوي) ش: أي العادة جرت بين الناس أنهم يحملون الدعوى أولا في غير مجلس القاضي، وبينوه عند القاضي دفعا لحيل الخصوم وصرفا لكلامهم إلى وقت الحاجة.

(8/430)


فتصح الدعوى على اعتبار البيان، فإذا بين التحق البيان بأصل الدعوى فتبين صحة الكفالة الأولى فيترتب عليها الثانية.
قال: ولا يجوز الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - معناه لا يجبر عليها عنده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإذا كان كذلك م: (فتصح الدعوى على اعتبار البيان) ش: من جهته م: (فإذا بين التحق البيان بأصل الدعوى) ش: يعني إلى ابتداء الدعوى، فإذا كان كذلك م: (فتبين صحة الكفالة الأولى) ش: وهي الكفالة بالنفس م: (فيترتب عليها الثانية) ش: أي الكفالة الثانية وهي الكفالة بالمال، ويكون القول له في هذا الباب، لأنه يدعي صحة الكفالة، والكفيل يدعي الفساد.

[الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إلى هنا لفظ القدوري، وقوله م: (معناه لا يجبر عليها عنده) ش: من كلام المصنف، أي معنى قول القدوري: لا تجوز الكفالة بالنفس لا يجبر من عليه الحد أو القصاص على الكفالة، حاصل الكلام: من توجه عليه الحد أو القصاص إذا طلب منه كفيل بنفسه بأن يحضره في مجلس القضاء لإثبات ما يدعيه المدعى عليه فامتنع عن إعطائه لا يجبر عليه عند أبي حنيفة، وعلى هذا يكون معنى قوله: ولا تجوز الكفالة لا يجوز إجبار الكفالة بحذف المضاف وإسناد الجواز إلى الكفالة مجازا. وقال فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير ": معنى قول محمد: لا كفالة في الحدود والقصاص - أن القاضي لا يفعل ذلك، لأن فيه احتيالا للإثبات، والشرع أمر بالدرء وهو خلافه، ثم قال فخر الإسلام: وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر الشيخ الإمام علاء الدين الأسبيجابي في أول باب الكفالة من " شرح مختصر الكافي " أن الكفالة بنفس من عليه حد القذف وحد السرقة ومن عليه القصاص في النفس وما دون النفس يصح، وإنما الخلاف في الجبر على إعطاء الكفيل في الحدود، لا يجبر بالإجماع.
وفي القصاص لا يجبر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند صاحبيه يجبر. وفي " الشامل " وفي القصاص وحد القذف والسرقة جازت الكفالة بالنفس ولا تجوز الكفالة بنفس الحد، وفيه أيضا: لا تجوز كفالة في قصاص واحد، ويقول القاضي لمدعي القذف: الزمه إلى قيامي إن كانت بينتك حاضرة، عند أبي حنيفة. وعندهما يأخذ كفيلا ثلاثة أيام، ثم قال: والخلاف في أمر القاضي بإعطائه لا في الصحة، فإنه لو كفل إنسان صح، وذكر الكرخي: أن الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص جائزة في قولهم جميعا إذ بدلهما المطلوب بنفسه، ولكن هل للقاضي أن يأمره بالكفيل إذا طلب الخصم؟ قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يأخذ القاضي منه كفيلا، ولكن يحبسه حتى تقام عليه البينة أو تستوفى، كذا ذكر صاحب " التحفة "، ثم لا يحبسه القاضي في الحدود والقصاص حتى يشهد شاهدان مستوران أو شاهد عدل يعرفه القاضي فيشهد أنه زنى أو قتل فيحبسه القاضي حينئذ لثبوت التهمة بأحد شطري الشهادة من العدد والعدالة حتى يشهد

(8/431)


وقالا: يجبر في حد القذف لأن فيه حق العبد وفي القصاص لأنه خالص حق العبد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليه الشهود العدول، وقد صح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس رجلا بالتهمة» . بخلاف الأموال حيث لا يحبس فيها بشهادة الواحد.
وفي " شرح الأقطع " فإن قيل: فقد قال أبو حنيفة: يحبس، والتوثق بالحبس أعظم من التوثق بالكفيل.
قيل له: ليس الحبس للتوثق، وإنما هو للتهمة والحبس بها واجب، ونقل الناطقي في "أجناسه" عن " نوادر ابن رستم " في التعزير: لا يحبس حتى يسأل عن عدالة الشهود وتقبل فيه الشهادة على شهادة النساء مع الرجال، ويجوز فيه العفو وتصح فيه الكفالة وهو حق الآدمي. وفي " نوادر أبي يوسف " رواية ابن سماعة في الذي يجمع الخمر ويشربه، ويترك الصلاة: أحبسه وأؤدبه ثم أخرجه ومن يتهم بالقتل والسرقة وضرب الناس فإني أحبسه وأخلده في السجن إلى أن يتوب، لأن شر هذا على الناس وشر الأول على نفسه وبقول أبي حنيفة في هذا الباب قال أحمد والشافعي في قول وقول أكثر أهل العلم.
م: (وقالا: يجبر في حد القذف) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: يجبر المدعى عليه في حد القذف على الكفالة، وبه قال الشافعي في قول، وعن مالك مثله م: (لأن فيه) ش: أي في حد القذف م: (حق العبد) ش: ولهذا يشترط الدعوى فيه، وإن كان الغالب حق الله تعالى والمدعي يحتاج إلى أن يجمع بين الشهود وبين المطلوب، والمطلوب قد يخفي نفسه فيحتاج إلى أن يأخذ منه كفيلا، وألحق الإمام المحبوبي حد السرقة بحد القذف في الجبر بالكفالة على قولهما، وفي الجواز بغير الجبر على قول أبي حنيفة لأنه من الحدود التي يتعلق بها حق العباد. وقال المرغيناني: ليس نفس الجبر هنا الحبس لكن يأمره بالملازمة وليس تفسير الملازمة المنع من الذهاب لكن يذهب الطالب مع المطلوب فيدور ومعه أينما دار كيلا يغيب، فإذا انتهى إلى باب الدار وأراد الدخول ليستأذنه الطالب في الدخول فإن أذن له في الدخول يدخل معه وليكن حيث يسكن وإن لم يأذن يحبسه في باب داره ويمنعه من الدخول.
م: (وفي القصاص) ش: أي يجبر في القصاص أيضا م: (لأنه خالص حق العبد) ش: فيجري الجبر في أخذ الكفيل كما في سائر حقوقه. وقال الأترازي: وفيه نظر، لأن القصاص مما اجتمع فيه الحقان حق الله تعالى من حيث إخلاء العالم عن الفساد، وحق العبد من حيث يشفي

(8/432)


بخلاف الحدود الخالصة لله تعالى. ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لا كفالة في حد" من غير فصل، ولأن مبنى الكل على الدرء فلا يجب فيها الاستيثاق، بخلاف سائر الحقوق لأنها تندرئ بالشبهات فيليق بها الاستيثاق كما في التعزير. ولو سمحت نفسه به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصدور. ولكن حق العبد فيه غالب لصحة الاعتياض والعفو م: (بخلاف الحدود الخالصة لله تعالى) ش: أراد بها حد الزنا وشرب الخمر، يعني لا يجوز الكفالة فيها بالاتفاق.
م: (ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا كفالة في حد» ش: قال الأكمل: قيل: هذا من كلام شريح لا من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكره الخصاف في أدب القاضي عن شريح، وقال الصدر الشهيد في " أدب القاضي ": روي هذا الحديث مرفوعا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكذا قاله الأترازي بعينه، ثم قال في آخره: ولنا في رفعه نظر. قلت: هذا أخرجه البيهقي في سننه عن بقية عن عمر بن أبي عمر الكلاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا كفالة في حد» . وقال: تفرد به عمر بن أبي عمر الكلاعي، وهو من مشايخ بقية المجهولين ورواياته منكرة، انتهى. ورواه ابن عدي في "الكامل" عن عمر الكلاعي، فأعله به، وقال: إنه مجهول لا أعلم أنه روى عنه غير بقية كما يروي عن سائر المجهولين وأحاديثه منكرة غير محفوظة. م: (من غير فصل) ش: يعني لم يفرق بين حد فيه حق العبد وبين حد هو خالص حق الله تعالى، فلا تجوز الكفالة في جميع الحدود. م: (ولأن مبنى الكل على الدرء) ش: أي على الدفع. م: (فلا يجب فيه الاستيثاق) ش: يعني بالتكفل، فإذا لم يكفل عنده ماذا يصنع به. قال في " جامع البرهاني ": يلازمه إلى وقت قيام القاضي عن المجلس، فإن أحضر البينة فيها وإلا خلى سبيله، هذا إذا لم يكن شاهدا عدلا أو شاهدين غير مستورين، فإن أقام يحبس لا للتكفيل بل للتهمة م: (بخلاف سائر الحقوق) ش: حيث يجب فيه الاستيثاق بالتكفيل م: (لأنها تندرئ بالشبهات فيليق بها الاستيثاق كما في التعزير) ش: أي يحبس المطلوب على إعطاء الكفيل فيما يجب فيه التعزير؛ لأنه محض حق العبد ويثبت مع الشبهات، وبالشهادة على الشهادة ويحلف فيه فيجبر فيه كالأموال.
م: (ولو سمحت نفسه به) ش: أي نفس المدعى عليه بإعطاء الكفيل للطالب من غير جبر عليه، يعني لو تبرع بإعطاء الكفيل وسامح في ذلك نفس المطلوب وبدل الكفيل بنفسه في القصاص

(8/433)


يصح بالإجماع، لأنه أمكن ترتيب موجبه عليه؛ لأن تسليم النفس فيها واجب فيطالب به الكفيل فيتحقق الضم. قال: ولا يحبس فيها حتى يشهد شاهدان مستوران أو شاهد عدل يعرفه القاضي؛ لأن الحبس للتهمة هاهنا، والتهمة تثبت بأحد شطري الشهادة، إما العدد أو العدالة، بخلاف الحبس في باب الأموال لأنه أقصى عقوبة فيه فلا يثبت إلا بحجة كاملة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحد القذف والسرقة م: (يصح) ش: أي الكفالة م: (بالإجماع) ش: وفي " الجنازية ": هذا في حد للعباد فيه حق كحد القذف، أما في حد ليس للعبد فيه حق لا يجوز الكفالة وإن سمحت به نفسه.
وقال أحمد والشافعي بعدم المطالبة فيه م: (لأنه أمكن ترتيب موجبه عليه) ش: موجبه التزام المطالبة. وقال تاج الشريعة: أي موجب عقد الكفالة وهو ضم الذمة في المطالبة، والضمير فيه يرجع إلى التكفيل، وفي "عليه" إلى التكفيل م: (لأن تسليم النفس فيها) ش: أي في الحدود، ويروى "فيهما" بضمير التثنية، أي في حد القذف والقصاص م: (واجب فيطالب به الكفيل فيتحقق الضم) ش: وهو ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير " - وليس في كثير من النسخ لفظ قال - م: (ولا يحبس فيهما) ش: أي في الحدود، وفي بعض النسخ فيهما أي في حد القذف والقصاص م: (حتى يشهد شاهدان مستوران أو شاهد عدل يعرفه القاضي) ش: أي يعرف كونه عدلا قيد به لأنه لو كان مجهولا لا يحبسه م: (لأن الحبس للتهمة هاهنا) ش: التهمة بضم التاء وفتح الهاء، ويجوز بالإسكان أيضا.
وقال ابن الأثير: التهمة فعلة من الوهم والتاء بدل من الواو وقد تفتح الهاء واتهمته أي ظننت فيه ما نسب إليه، من وهمت الشيء أهمه وهما من باب ضرب أي وقع في خلدي، والوهم ما يقع في القلب من الخاطر، ومعنى الحبس للتهمة تهمة الفساد، وهنا للاحتياط وشهادة المستورين تصلح لإثبات الحكم فيصلح لإثبات التهمة، وخبر الواحد حجة في الديانات والمعاملات فيثبت بشهادة العدل التهمة وإن لم تثبت أصل الحق، والحبس لتهمة الفساد مشروع، لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده «عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه حبس رجلا بالتهمة» .
م: (والتهمة تثبت بأحد شطري الشهادة إما العدد أو العدالة) ش: العدد اثنان، والعدالة في الواحد وقد مر أن الحبس للتهمة من باب دفع الفساد وهو من الديانات فيثبت بأحد شطريها م: (بخلاف الحبس في باب الأموال) ش: حيث لا يحبس فيه بشهادة الواحد م: (لأنه) ش: أي لأن الحبس م: (أقصى عقوبة فيه) ش: أي في باب الأموال م: (فلا يثبت إلا بحجة كاملة) ش: فلا يجوز أن يعاقب به قبل ثبوت الحدود والقصاص به، أما في الحدود والقصاص والتعزير أقصى العقوبة

(8/434)


وذكر في " أدب القاضي " أن على قولهما لا يحبس في الحدود والقصاص بشهادة الواحد لحصول الاستيثاق بالكفالة. قال: والرهن والكفالة جائزان في الخراج؛ لأنه دين مطالب به ممكن الاستيفاء فيمكن ترتيب موجب العقد عليه فيهما.
قال: ومن أخذ من رجل كفيلا بنفسه ثم ذهب وأخذ منه كفيلا آخر فهما كفيلان؛ لأن موجبه التزام المطالبة وهي متعددة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القتل، إذ الضرب والحبس نوع عقوبة، فجاز أن يعاقب به قبل ثبوت الحد والقصاص م: (وذكر في أدب القاضي) ش: ذكر على صيغة المجهول م: (أن على قولهما) ش: أي على قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (لا يحبس في الحدود والقصاص بشهادة الواحد لحصول الاستيثاق بالكفالة) ش: يعني أن عندهما لما كانت الكفالة ثابتة في الحدود والقصاص لم تقع الحاجة إلى الحبس، لأن الاستيثاق يحصل بالكفالة. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا كفالة فيها جبرا فيحبس كي يشهد عليه الشهود العدول.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (والرهن والكفالة جائزان في الخراج لأنه) ش: أي لأن الخراج م: (دين مطالب به) ش: ألا ترى أنه يحبس به ويلازم لأجله ومنع وجوب الزكاة فيجوز الكفالة والرهن به كسائر الديون، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
فإن قيل: يشكل على هذا الزكاة فإنه دين مطالب من جهة العباد في الأموال الظاهرة الإمام، وفي الباطنة نائبه وهو المالك كما مر في الزكاة، ولا يجوز الكفالة بدين الزكاة.
قلنا: قال التمرتاشي: إنما لا يصح لأن الزكاة ليست بدين بل هو تمليك المال، ولهذا لا يؤخذ من تركته عندنا بخلاف الخراج، فإنه يؤخذ من تركته.
م: (ممكن الاستيفاء) ش: راجع إلى الرهن، لأن الرهن توثيق لجانب الاستيفاء فهذا من باب اللف والنشر الغير مرتب، لأن قوله: دين يطالب به يرجع إلى الكفالة م: (فيمكن ترتيب موجب العقد عليه فيهما) ش: المراد بالعقد الكفالة والرهن وموجب الكفالة كونها مشروعة لتحمل المطالبة، وموجب الرهن كونه مشروعا بمضمون يمكن استيفاؤه من الرهن والضمير في "عليه" يرجع إلى الخراج، وفي "فيهما" يرجع إلى الرهن والكفالة.

[أخذ من رجل كفيلا بنفسه ثم ذهب وأخذ منه كفيلا آخر]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن أخذ من رجل كفيلا بنفسه ثم ذهب وأخذ منه كفيلا آخر فهما كفيلان) ش: أي ذهب الطالب وأخذ من المطلوب وهو المديون كفيلا آخر، فهما -أي الأول والثاني- كفيلان م: (لأن موجبه) ش: أي موجب عقد الكفالة م: (التزام المطالبة وهي متعددة) ش: ألا ترى أنهما لو كفلا جميعا بنفسه معا جاز، فكذا إذا كفلا على التعاقب ثم أسلم أحدهما نفس الأصيل إلى الطالب برئ هو دون الآخر وليس هذا كالدين، فإنه لو قضى أحد الكفيلين لدين واحد يبرآن، وفي " التفاريق ": والكفلاء الثلاثة في العقد الواحد

(8/435)


والمقصود التوثق، وبالثانية يزداد التوثق فلا يتنافيان. وأما الكفالة بالمال فجائزة، معلوما كان المكفول به أو مجهولا إذا كان دينا صحيحا، مثل أن يقول: تكفلت عنه بألف، أو بما لك عليه، أو بما يدركك في هذا البيع؛ لأن مبنى الكفالة على التوسع فيحتمل فيها الجهالة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيهم سلم الأصيل كتسليمهم.
وفي " الشافي ": ثلاثة كفلوا بألف طالب كل واحد بثلث الألف، وإن كفلوا على التعاقب يطالب كل واحد بالألف، كذا ذكره شمس الأئمة والمرغيناني والتمرتاشي، ومذهب الشافعي لا يتأتى هنا؛ لأن الكفالة بالنفس عنده لا تصح، كذا قاله الأترازي، وفي قول ابن أبي ليلى يرى الكفيل الأول م: (والمقصود) ش: من عقد الكفالة م: (التوثيق، وبالثانية) ش: أي وبالكفالة الثانية م: (يزداد التوثق فلا يتنافيان) ش: أي الكفالتان.
فإن قيل: لما أخذ الطالب والمطلوب وأخذ منه كفيلا فقد صار مستوفيا للنفس حين صارت في يده فلم لا يبرأ الكفيل الأول بمنزلة الكفيل بالدين إذا أخذ الطالب من المطلوب الدين برئ الكفيل.
قيل له: لأن الطالب إذا أخذ الدين لم يبق له حق، وهاهنا حقه باق وتسليم النفس إليه يحتاج إليه في كل وقت حتى يستخرج حقه، انتهى.
قلت: نفس السؤال دليل ابن أبي ليلى على قوله برئ الكفيل الأول، والجواب جواب عنه فافهم.
م: (وأما الكفالة بالمال) ش: لما قسم المصنف الكفالة على قسمين كفالة بالنفس وكفالة بالمال وبين الأول فشرع في بيان الثاني بقوله م: (فجائزة) ش: وهو جواب أما، وهذا لا خلاف فيه إذا كان المال معلوما، وأما إذا كان المال مجهولا فكذلك جائز عندنا، وهو معنى قوله م: (معلوما كان المكفول به أو مجهولا) ش: وقال الشافعي: لا يجوز إذا كان مجهولا، وصورة المعلوم مثل قوله تكفلت عنه بألف، وصورة المجهول مثل قوله: تكفلت عنه بمالك عليه. والآن بينه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن فيه شرط عندنا، أشار إليه بقوله م: (إذا كان دينا صحيحا) ش: احترز به عن بدل الكتابة، ويجيء الآن أيضا م: (مثل أن يقول: تكفلت عنه بألف) ش: هذا صورة المعلوم م: (أو بما لك عليه) ش: أي أو قال: تكفلت عنه بما لك عليه، وهذا هو صورة المجهول م: (أو بما يدركك في هذا البيع) ش: أي أو يقول: تكفلت عنه بما يدركك من العوارض في هذا البيع م: (لأن مبنى الكفالة على التوسع) ش: لأنها تبرع ابتداء فلا يمنع صحتها الجهالة المستدركة اليسيرة م: (فيحتمل فيها) ش: أي في الكفالة م: (الجهالة) ش: أي جهالة المكفول به، وبقولنا قال مالك وأحمد والشافعي في القديم. وقال في الجديد: لا يصح ضمان المجهول وهو قول الليث والثوري وابن

(8/436)


وعلى الكفالة بالدرك إجماع، وكفى به حجة، وصار كما إذا كفل لشجة صحت الكفالة وإن احتملت السراية أو الاقتصار. وشرط أن يكون دينا صحيحا، ومراده أن لا يكون بدل الكتابة، وسيأتيك في موضعه إن شاء الله تعالى. قال: والمكفول له بالخيار إن شاء طالب الذي عليه الأصل، وإن شاء طالب كفيله لأن الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وذلك يقتضي قيام الأول لا البراءة عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي ليلى وابن المنذر قالوا لأنه التزام، قال: فلم يصح مجهولا كالثمن في البيع. ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] (يوسف: الآية 72) . لأن حمل البعير يختلف باختلاف البعير، وعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الزعيم غارم» .
م: (وعلى الكفالة بالدرك إجماع) ش: إجماع مبتدأ وخبره هو قوله: مقدما على الكفالة بالدرك، وأراد به زيادة الإيضاح على صحة الكفالة بجهالة المكفول به فإنه يصح بالإجماع، وفي " الأقطع ": ونص الشافعي على جواز ضمان الدرك، وهو عبارة عن ضمان الاستحقاق وهو مجهول، وهو أن يقول للمشتري: أنا ضامن للثمن إن استحق المبيع أحد والدرك بتحريك الراء وتسكينها التبعة، يقال: ما لحقك من درك فعلي خلاصه.
فإن قيل: هذا ضمان مال مجهول فلا يصح كما لو قال: ضمنت لك بعض مالك على فلان. فقيل له: هذا يصح عندنا والخيار فيه إلى الضامن يبين أي مقدار شاء م: (وكفى به) ش: أي بالإجماع م: (حجة) ش: والإجماع من أقوى الحجج م: (وصار) ش: أي حكم هذا المذكور م: (كما إذا كفل لشجة) ش: أي خطأ م: (صحت الكفالة) ش: مع أن فيها جهالة.
م: (وإن احتملت السراية) ش: إلى النفس م: (أو الاقتصار) ش: عليه بدون السراية بخلاف الكفالة بشجة عمدا لأن فيها القصاص ولا تصح الكفالة بالقصاص م: (وشرط) ش: أي القدوري م: (أن يكون) ش: المكفول به م: (دينا صحيحا) ش: وذلك في قوله: وأما الكفالة بالمال فجائزة، معلوما كان المكفول به أو مجهولا إذا كان دينا صحيحا، وهذا لفظ القدوري في "مختصره" م: (ومراده) ش: أي مراد القدوري من قوله إذا كان دينا صحيحا م: (أن لا يكون بدل الكتابة) ش: لأن الكفالة ببدل الكتابة لا تصح، لأنه ليس بدين صحيح، لأن الدين الصحيح لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء فيسقط بدل الكتابة بدونهما بتعجيز النفس م: (وسيأتيك في موضعه إن شاء الله تعالى) ش: في كتاب المكاتب.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (والمكفول له بالخيار إن شاء طالب الذي عليه الأصل) ش: أي الدين م: (وإن شاء طالب كفيله؛ لأن الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وذلك يقتضي قيام الأول) ش: أي الذمة الأولى م: (لا البراءة عنه) ش: أي لا يستدعي البراءة عنها خلافا لما يقول ابن

(8/437)


إلا إذا شرط فيه البراءة، فحينئذ تنعقد حوالة اعتبارا للمعنى كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرأ بها المحيل يكون كفالة. ولو طالب أحدهما له أن يطالب الآخر وله أن يطالبهما؛ لأن مقتضاه الضم، بخلاف المالك إذا اختار تضمين أحد الغاصبين، لأن اختياره أحدهما يتضمن التمليك منه فلا يمكنه التمليك من الثاني، أما المطالبة بالكفالة فلا يتضمن التمليك فوضح الفرق.
قال: ويجوز تعليق الكفالة بالشروط، مثل أن يقول: ما بايعت فلانا فعلي أو ما ذاب لك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي ليلى: إن الكفالة توجب براءة الأصيل. وقال الكاكي: قوله وإن شاء طالب الكفيل. قاله أكثر العلماء، وعن مالك في رواية عنه أنه لا يطالب الكفيل إلا إذا تعذر المطالبة عن الأصيل م: (إلا إذا شرط فيه البراءة) ش: أي إلا إذا شرط عقد الكفالة براءة الأصيل م: (فحينئذ تنعقد) ش: أي الكفالة م: (حوالة اعتبارا للمعنى) ش: وهو أنه أتى بخاصية الحوالة.
فإن نوى على ما في الكفيل يرجع على الأصيل عندنا خلافا للشافعي والثوري بأحد الأمور الثلاثة، وسيجيء بيانه في "كتاب الحوالة" إن شاء الله تعالى.
م: (كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرأ بها) ش: أي بالكفالة م: (المحيل يكون كفالة، ولو طالب أحدهما) ش: أي ولو طالب المكفول له أحد الاثنين وهما الكفيل والأصيل م: (له أن يطالب الآخر) ش: لأن مطالبة أحدهما لا تسقط مطالبة الآخر م: (وله أن يطالبهما) ش: أي الكفيل والأصيل جميعا م: (لأن مقتضاه) ش: أي مقتضى عقد الكفالة م: (الضم) ش: أي ضم الذمة إلى الذمة.
م: (بخلاف المالك) ش: أي مالك الشيء الذي غصب منه غاصب وغصب من الغاصب غاصب آخر م: (إذا اختار تضمين أحد الغاصبين) ش: وهما الغاصب وغاصب الغاصب فليس له أن يضمن الآخر بعد ذلك م: (لأن اختياره) ش: أي اختيار المالك تضمين م: (أحدهما) ش: أي أحد الغاصبين م: (يتضمن التمليك منه) ش: أي من الذي اختار تضمينه يعني إذا قضى القاضي بذلك، كذا في " المبسوط " م: (فلا يمكنه التمليك من الثاني) ش: أي من الغاصب الثاني، لأنه من المحال أن يملك العين الواحدة جميعا لاثنين في زمان واحد. م: (أما المطالبة بالكفالة فلا يتضمن التمليك) ش: ما لم يوجد الاستيفاء حقيقة فلا يمنع مطالبة أحدهما مطالبة الآخر. م: (فوضح الفرق) ش: بين المسألتين.

[تعليق الكفالة بالشروط]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز تعليق الكفالة بالشروط مثل أن يقول: ما بايعت فلانا فعلي) ش: قيد بقوله: فلانا ليصير المكفول له معلوما، إذ جهالته تمنع صحة الكفالة، حتى لو قال: ما بايعت من الناس فأنا لذلك ضامن، لا يجوز لجهالة المكفول عنه والمكفول به فتفاحشت الجهالة، بخلاف الأول، لأن الجهالة فهي يسيرة متحملة، كذا في " الإيضاح " م: (أو ما ذاب لك)

(8/438)


عليه فعلي، أو ما غصبك فعلي، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] (يوسف: الآية 72) . والإجماع منعقد على صحة ضمان الدرك. ثم الأصل أنه يصح تعليقها بشرط ملائم لها مثل أن يكون شرطا لوجوب الحق كقوله: إذا استحق المبيع أو لإمكان الاستيفاء مثل قوله: إذا قدم زيد وهو مكفول عنه، أو لتعذر الاستيفاء مثل قوله: إذا غاب عن البلدة، وما ذكر من الشروط في معنى ما ذكرناه، فأما لا يصح التعليق بمجرد الشرط كقوله: إن هبت الريح أو جاء المطر، وكذا إذا جعل واحدا منهما آجلا إلا أنه تصح الكفالة ويجب المال حالا؛ لأن الكفالة لما صح تعليقها بالشرط لا تبطل بالشروط الفاسدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي أو يقول ما ذاب لك أي ما وجب وثبت لك م: (عليه) ش: أي على فلان فهو م: (فعلي) ش: ولفظ ذاب مستعار من ذوب الشحم، كذا في " المغرب ".
م: (أو ما غصبك) ش: أي أو يقول: ما غصبك فلان أي ما غصب منك م: (فعلي) ش: أي فهو علي، والياء مشددة في لفظة علي في ثلاثة مواضع م: (والأصل فيه) ش: أي في باب تعليق الكفالة بالشروط الملائمة م: (قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] (يوسف: الآية 72)) ش: فإنه يدل على أن جهالة المكفول به لا تمنع صحة الكفالة، إذ حمل البعير مجهول، وقد مر بيانه.
والأصل فيه أن شرائع من قبلنا تلزمنا ما لم ينص الله تعالى على إنكاره م: (والإجماع منعقد على صحة ضمان الدرك) ش: أي الإجماع انعقد على صحة ضمان الدرك، وقد مر الكلام فيه عن قريب.
م: (ثم الأصل) ش: في هذا الباب م: (أنه يصح تعليقها) ش: أي تعليق عقد الكفالة م: (بشرط ملائم لها) ش: لمقتضى العقد م: (مثل أن يكون شرطا لوجوب الحق كقوله: إذا استحق المبيع) ش: فأنا ضامن لذلك م: (أو لإمكان الاستيفاء مثل قوله: إذا قدم زيد وهو مكفول عنه أو لتعذر الاستيفاء مثل قوله: إذا غاب عن البلدة) ش: أي إذا غاب المكفول عنه عن البلدة فأنا ضامن لك بما عليه م: (وما ذكر من الشروط) ش: أي في أصل المسألة مثل: ما بايعت، وما ذاب، وما غصب م: (في معنى ما ذكرناه) ش: أي بمعنى الأصل الذي ذكرناه وهو أن كل شرط ملائم لعقد الكفالة يصح تعليقها به.
م: (فأما لا يصح التعليق بمجرد الشرط) ش: يعني غير ملائم م: (كقوله إن هبت الريح) ش: فأنا كفيل لك بما عليه م: (أو جاء المطر) ش: أي إن جاء المطر فأنا كفيل م: (وكذا) ش: أي وكذا لا يصح م: (إذا جعل واحدا منهما آجلا) ش: يعني إذا جعل هبوب الريح أو مجيء المطر آجلا لكفالة يبطل الأجل م: (إلا أنه تصح الكفالة ويجب المال حالا؛ لأن الكفالة لما صح تعليقها بالشروط لا تبطل بالشروط الفاسدة) .

(8/439)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكاكي: قوله إلا أن تصح الكفالة إلى آخره، اعلم أن في هذا اللفظ نوع اشتباه، لأنه إن أراد بقوله لما يصح تعليقها بالشرط لا تبطل بالشروط الفاسدة ابتداء تعليق الكفالة بالشرط، فإن هناك لا يصير كفيلا أصلا، ذكره في " المبسوط "، وإن أراد بهذا اللفظ تأجيل الكفالة إلى هذه الشروط الفاسدة فهذا تأجيل.
والتأجيل غير التعليق ذكره في " فتاوى قاضي خان "، فكيف يصح تعليله بقوله: لما صح تعليقها بالشرط لا تبطل بالشروط الفاسدة، إلا إن أراد بالتعليق التأجيل بجامع أن في كل منهما عدم ثبوت الحكم في الحال فحينئذ يصح، وقلد المصنف في هذا الاستعمال لفظ " المبسوط "، فإنه ذكرها هكذا وذكر التعليق وأراد التأجيل.
وقال الأكمل هنا: وفي كلامه نظر من أوجه:
الأول: أن قوله: لا يصح التعليق يقتضي نفي جواز التعليق لا نفي جواز الكفالة، مع أن الكفالة لا تجوز.
الثاني: أن قوله: وكذا إذا جعل معطوفا على قوله: فأما لا يصح فيكون تقديره وكذا لا يصح إذا جعل ولا يخلو، إما أن يكون فاعل يصح هو التعليق أو الكفالة، إذ لم يذكر المصنف ثالثا. والأول: لا يجوز، إذ لا معنى لقوله وكذا لا يصح التعليق إذا جعل كل واحد منهما آجلا.
والثاني: كذلك لقوله بعده: إلا أنه تصح الكفالة.
والثالث: أن الدليل لا يطابق المدلول؛ لأن المدلول بطلان الأجل مع صحة الكفالة والدليل صحة تعليقها بالشرط، وعدم بطلانها بالشروط الفاسدة، ومع ذلك فليس بمستقيم، لأنها تبطل بالشرط المحض وهو أول المسألة.
ويمكن أن يجاب عن الأول بأن حاصل الكلام ينفي جواز الكفالة المعلقة بهما، والمجموع ينتفي بانتفاء جزئه، لا يقال نفي الكفالة المؤجلة كنفي المعلقة، ولا تنتفي الكفالة بانتفاء الأجل، لأن الإيجاب المعلق نوع، إذ التعليق يخرج العلة عن العلية، كما عرف في موضعه، والأجل عارض بعد العقد، فلا يلزم من انتفائه انتفاء معروضه.
وعن الثاني بأن فاعل يصح المقدر وهو الأجل، وتقديره: وكما لا يصح الأجل إذا جعل كل واحد منهما آجلا.
وعن الثالث بأن الراد بالتعليق بالشرط الأجل مجازا بقرينة قوله، ويجب المال حالا، وتقديره لأن الكفالة لما صح تأجيلها بأجل متعارف لم تبطل بالأجل الفاسد كالطلاق والعتاق، ويجوز المجاز وعدم الثبوت في الحال في كل واحد منهما.

(8/440)


كالطلاق والعتاق. فإن قال: تكفلت بما لك عليه فقامت البينة بألف عليه ضمنه الكفيل؛ لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة فيتحقق ما عليه فيصح الضمان به. وإن لم تقم البينة فالقول قول الكفيل مع يمينه في مقدار ما يعترف به؛ لأنه منكر للزيادة، فإن اعترف المكفول عنه بأكثر من ذلك لم يصدق على كفيله؛ لأنه إقرار على الغير ولا ولاية له عليه. ويصدق في حق نفسه لولايته عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كالطلاق والعتاق) ش: أي كما أن الشرط المجهول في الطلاق والعتاق يبطل ويصح الطلاق والعتاق بأن قال: أعتقت عبدي، أو قال: طلقت امرأتي إلى قدوم الحاج أو الحاصد أو القطاف م: (فإن قال: تكفلت عنه بما لك عليه) ش: فإن قال شخص لآخر: تكفلت عنه بما لك عليه من المال م: (فقامت البينة بألف عليه ضمنه الكفيل) ش: أي ضمن الألف الكفيل م: (لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة فيتحقق ما عليه) ش: أي ما على الكفيل م: (فيصح الضمان به) ش: فصار كأنه ضمن بالألف الذي عليه فلزمه ذلك م: (وإن لم تقم البينة فالقول قول الكفيل مع يمينه في مقدار ما يعترف به) ش: لأنه مال مجهول لزمه بقوله فالقول قوله، كما لو أقر بشيء مجهول م: (لأنه منكر للزيادة) ش: فالقول قول المنكر مع يمينه كالمدعى عليه بالمال م: (فإن اعترف المكفول عنه بأكثر من ذلك) ش: أي مما يعترف به الكفيل م: (لم يصدق على كفيله؛ لأنه إقرار على الغير ولا ولاية له عليه ويصدق في حق نفسه لولايته عليها) ش: أي على نفسه.
والحاصل أن إقرار المكفول عنه تضمن شيئين، أحدهما على نفسه، والآخر على الكفيل، فيصدق في إقراره على نفسه، لأن له ولاية على نفسه، ولا يصدق على الكفيل لعدم ولايته عليه.
وفي " الشامل ": ما ذاب لك على فلان فهو علي أو ثبت، أو ما قضي عليه فأقر المطلوب يلزم الكفيل، إلا قوله: ما قضي عليه، لم يلزمه إلا أن يقضي القاضي. ولو أبى المطلوب اليمين فألزمه القاضي لم يلزمه الكفيل؛ لأن النكول ليس بإقرار بل بدل، وقال الكاكي: قوله ولا ولاية له عليه.
فإن قيل: يشكل هذا بما يكفل بما ذاب له على فلان ثم بعد ذلك قال الطالب: هو ألفان وقال المطلوب ألف، وقال الكفيل: لا شيء لك عليه فيلزم هناك على الكفيل ألف التي أقر بها الطالب، مع أنه لا ولاية له على الكفيل، ذكره في " المبسوط ".
قلنا: هذا إيجاب المال على الكفيل بكفالته، لا بقوله المطلوب؛ لأنه لما قيد الكفالة بالذوب، مع علمه أن الذوب قد يحصل عليه بإقراره، وقد صار ملتزما ذلك لكفالته، وهذا استحسان، وفي القياس لا يجب على الكفيل شيء كما في مسألتنا لإنكاره الوجوب على المطلوب، كذا في

(8/441)


قال: وتجوز الكفالة بأمر المكفول عنه وبغير أمره لإطلاق ما روينا، ولأنه التزام المطالبة، وهو تصرف في حق نفسه وفيه نفع الطالب، ولا ضرر فيه على المطلوب بثبوت الرجوع إذ هو عند أمره وقد رضي به، فإن تكفل عنه بأمره رجع بما أدى عليه؛ لأنه قضى دينه بأمره. وإن كفل بغير أمره لم يرجع بما يؤديه لأنه متبرع بأدائه، وقوله: رجع بما أدى، معناه إذا أدى ما ضمنه. أما إذا أدى خلافه رجع بما ضمن؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" المبسوط ".

[الكفالة بأمر المكفول عنه وبغير أمره]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وتجوز الكفالة بأمر المكفول عنه وبغير أمره لإطلاق ما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الزعيم غارم» . م: (ولأنه التزام المطالبة، وهو تصرف في حق نفسه، وفيه نفع الطالب، ولا ضرر فيه على المطلوب بثبوت الرجوع، إذ هو) ش: أي الرجوع م: (عند أمره) ش: أي أمر المطلوب م: (وقد رضي به) ش: أي رضي المكفول عنه بالرجوع عليه هذا جواب لإشكال يقال: لم قلتم إن في الكفالة نفعا للمكفول عنه أو لا ضرر عليه. ورجوع الكفيل عليه بما أدى ضرر فقال لا نسلم أنه ضرر مع وجود الرضا بالرجوع، م: (فإن تكفل عنه بأمره رجع بما أدى عليه) ش: أي: رجع بما أدى للمكفول له على المكفول عنه بالإجماع. وفي " النهاية " ليس على إطلاقه بل مقيد بما إذا كان الأمر وهو المطلوب ممن يجوز إقراره على نفسه بالديون ويملك المتبرع، حتى لو كان المطلوب صبيا محجورا وأمر رجلا بأن يكفل عنه فالكفالة صحيحة، ولكن لو أدى الكفيل ما أمره به لا يرجع على الصبي الآمر، وكذا الحكم في العبد المحجور، ذكره في " التحفة ".
وفي " أحكام الصغار " للإستروشني: لو كان الصبي مأذونا له صح أمره ويرجع الكفيل بما أدى عليه بصحة أمره بالإذن، وفي " شرح الأقطع " وهذا الذي ذكره المصنف إنما يصح إذا قال: اضمن عني لفلان كذا، فإن قال له: اضمن الألف التي لفلان علي لم يرجع عليه عند الأداء، لأن قوله اضمن يحتمل أن يكون على وجه التبرع وأن يكون غيره فلا يجوز إيجاب الضمان إلا بلفظ مختص به، فإذا قال: اضمن عني دل على الضمان فلزمه ولا يلزم غيره بالشك، ولكن هذا الذي ذكره مذهب أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- خلافا لأبي يوسف.
م: (لأنه قضى دينه بأمره) ش: أي لأن المأمور قضى دين الآمر بأمره فيرجع عليه م: (وإن كفل بغير أمره لم يرجع بما يؤديه لأنه متبرع بأدائه) ش: وبه قال الشافعي، وأحمد -رحمهما الله- في رواية. وقال مالك، وأحمد في رواية: يرجع كما لو كفل بأمره م: (وقوله رجع بما أدى معناه) ش: أي قول القدوري يرجع بما أدى معناه م: (إذا أدى ما ضمنه، أما إذا أدى خلافه رجع بما ضمن) ش: لا بما أدى، حتى لو كفل بالجياد وأدى الزيوف، ويجوز للطالب أن يرجع على المطلوب

(8/442)


لأنه ملك الدين بالأداء فنزل منزلة الطالب كما إذا ملكه بالهبة أو بالإرث، وكما إذا ملكه المحتال عليه بما ذكرنا في الحوالة، بخلاف المأمور بقضاء الدين حيث يرجع بما أدى لأنه لم يجب عليه شيء حتى يملك الدين بالأداء، وبخلاف ما إذا صالح الكفيل الطالب عن الألف على خمسمائة؛ لأنه إسقاط فصار كما إذا أبرأ الكفيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالجياد. ولو كفل بالزيوف وأدى بالجياد رجع بالزيوف م: (لأنه) ش: أي لأن الكفيل م: (ملك الدين بالأداء فنزل منزلة الطالب كما إذا ملكه بالهبة) ش: يعني ملك إذن الكفيل المكفول به بأن يهبه المكفول له الكفيل، يرجع الكفيل على المكفول عنه بالمكفول.
فإن قيل: هبة الدين من غير من عليه الدين إنما لا يجوز إذا لم يأذنه بقبضه، وأما إذا أذنه بقبضه يجوز استحسانا، وهاهنا لما أدى الدين فقد سلطه الطالب على قبضه من المطلوب فيصح هبة أو يجعل ذلك نقل الدين إليه فيقضي الهبة فتصير هبة لمن عليه الدين م: (أو بالإرث) ش: بأن مات المكفول له فورثه الكفيل يرجع على المكفول عنه بالمكفول به كما لو ملك ذلك بالأداء.
م: (وكما إذا ملكه المحتال عليه) ش: يعني إذا أحال المديون غريمه على رجل ليس للمديون على رجل دين فتقبل الحوالة فأدى، يرجع المحتال عليه على المحيل بما يضمن لا بما أدى، لأنه ملك الدين بالأداء كالكفيل م: (بما ذكرنا في الحوالة) ش: أي في حوالة كفاية المنتهي م: (بخلاف المأمور بقضاء الدين حيث يرجع بما أدى لأنه لم يجب عليه شيء حتى يملك الدين بالأداء) ش: هذا جواب كفل تقديره الكفيل لا يرجع إلا إذا أدى بأمر المكفول عنه، وحينئذ لا فرق بينه وبين المأمور بقضاء الدين والمأمور يرجع بما أدى، فكذلك الكفيل، وتوجيهه أن يقال: المأمور بقضاء الدين لم يجب له على الآمر شيء، حيث لم يلزم بالكفالة فلا يملك الدين بالأداء حتى ينزل منزلة الطالب فيرجع بما ضمن، وإنما الرجوع بحكم الآمر بالأداء فلا بد من اعتبارهما.
فلو أدى الزيوف عن الجياد ويجوز له ذلك رجع بها دون الجياد، لأن أداء المأمور به لم يوجد، وإن عكس فكذلك لأن الآمر لم يوجد في حق الزيادة فكان متبرعا بها، فقوله: رجع بما أدى بإطلاقه، فيه تسامح.
م: (وبخلاف ما إذا صالح الكفيل الطالب عن الألف على خمسمائة) ش: حيث يرجع بما أدى وهو خمسمائة لا بما ضمن وهو الألف م: (لأنه إسقاط) ش: عن بعض الدين وليس مبادلة، إذ لو جعل مبادلة لكان ربا، وإن كان إسقاطا للبعض م: (فصار كما إذا أبرأ الكفيل) ش: أي أخذ من الكفيل خمسمائة وأبرأ نفسه بدفع خمسمائة لا يرجع الكفيل على المكفول عنه بما أدى وهو خمسمائة لا بما ضمن، وكذا إذا أبرأ الكفيل عن مجموع الدين لا يرجع على المكفول عنه، فكذا إذا صالح الكفيل إياه على بعض الدين لأنه جمع بالباقي مطلقًا باعتبار البعض بالكل.

(8/443)


قال: وليس للكفيل أن يطالب المكفول عنه بالمال قبل أن يؤدي عنه؛ لأنه لا يملكه قبل الأداء بخلاف الوكيل بالشراء، حيث يرجع قبل الأداء؛ لأنه انعقد بينهما مبادلة حكمية. قال: فإن لوزم بالمال كان له أن يلازم المكفول عنه حتى يخلصه، وكذا إذا حبس كان له أن يحبسه لأنه لحقه ما لحقه من جهته فيعامله بمثله. وإذا أبرأ الطالب المكفول عنه أو استوفى منه برئ الكفيل؛ لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل، لأن الدين عليه في الصحيح. وإن أبرأ الكفيل لم يبرأ الأصيل عنه لأنه تبع، ولأن عليه المطالبة وبقاء الدين على الأصيل بدونه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وليس للكفيل أن يطالب المكفول عنه بالمال قبل أن يؤدي عنه، لأنه لا يملكه) ش: أي لأن الكفيل لا يملك الدين م: (قبل الأداء) ش: لأن الكفيل كالمقرض، يعني والمقرض لا يرجع على المستقرض ما لم يقرض م: (بخلاف الوكيل بالشراء، حيث يرجع قبل الأداء لأنه انعقد بينهما) ش: أي بين الوكيل والموكل م: (مبادلة حكمية) ش: ألا ترى أن الملك ينتقل إلى الموكل من جهة الوكيل، ولهذا يتحالفان إذا اختلفا في الثمن، وللوكيل بالشراء حبس المبيع بالثمن فلا تثبت المبادلة الحكمية وكان الوكيل مع الموكل كالبائع مع المشتري، فللبائع حبس المبيع لاستيفاء الثمن، فكذا الوكيل.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فإن لوزم) ش: أي الكفيل م: (بالمال كان له أن يلازم المكفول عنه حتى يخلصه) ش: أي حتى يخلص المكفول عنه الكفيل؛ لأن الأصيل هو الذي أوقعه في هذه الورطة فعليه خلاصه عنها، م: (وكذا إذا حبس كان له) ش: أي الكفيل م: (أن يحبسه) ش: أي أن يحبس المكفول عنه م: (لأنه لحقه) ش: أي لحق الكفيل م: (ما لحقه من جهته) ش: أي من جهة المكفول عنه م: (فيعامله بمثله) ش: أي فيقابل الكفيل المكفول عنه بمثل ما قابله.
وبقولنا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، ومالك وأحمد -رحمهما الله- إذا كانت الكفالة بأمره، قال الشافعي في الأصح: لا يحبسه.
م: (وإذا أبرا الطالب المكفول عنه أو استوفى منه) ش: يعني أخذ الذي كان عليه م: (برئ الكفيل، لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل) ش: بلا خلاف بين الفقهاء بخلاف ما إذا كفل بشرط الأصيل فبراءته لا توجب براءة الكفيل، لأنه في معنى الحوالة، والاعتبار للمعاني لا للعبارة.
م: (لأن الدين عليه) ش: أي على المكفول عنه م: (في الصحيح) ش: أي في القول الصحيح، وهو احتراز عن قول بعض المشايخ، حيث قالوا: الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في الدين، فوجب أصل الدين في ذمة الكفيل وقد مر هذا في أول الكتاب.
م: (وإن أبرأ الكفيل) ش: أي وإن أبرأ المكفول له الكفيل عن الدين م: (لم يبرأ الأصيل عنه لأنه تبع ولأن عليه المطالبة وبقاء الدين على الأصيل بدونه) ش: أي بدون المطالبة على تأويل الطلب

(8/444)


جائز. وكذا إذا أخر الطالب عن الأصيل فهو تأخير عن الكفيل، ولو أخر عن الكفيل لم يكن تأخيرا عن الذي عليه الأصل؛ لأن التأخير إبراء مؤقت فيعتبر بالإبراء المؤبد، بخلاف ما إذا كفل بالمال الحال مؤجلا إلى شهر فإنه يتأجل عن الأصيل لأنه لا حق له إلا الدين حال وجود الكفالة، فصار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (جائز) ش: وفي " شرح الطحاوي ".
وإذا أبرأ المكفول له المطلوب عن الدين وقبل ذلك برئ الأصيل والكفيل جميعا، لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل وبراءة الأصيل، إلا أنه اشترط في ذلك، قوله: أو بموت قبل القبول أو الرد فقام ذلك مقام القبول، ولو رده ارتد وأدين الطالب على حاله.
واختلف مشايخنا في ذلك: أن الدين هل يعود إلى الكفيل أم لا؟ قال بعضهم: يعود، وقال بعضهم: لا يعود، ولو أبرأ الكفيل صح الإبراء قبل أو لم يقبل، ولا يرجع على الأصيل. ولو وهب الدين أو تصدق عليه يحتاج إلى القبول.
فإن قيل: كان له أن يرجع على الأصيل، كما إذا أدى، وفي الكفيل حكم إبرائه والهبة تختلف، ففي الإبراء لا يحتاج إلى القبول.
وفي الهبة والصدقة يحتاج إلى القبول. وفي الأصل يتفق حكم إبرائه والهبة والصدقة فيحتاج إلى القبول في الكل. ولو كان الإبراء والهبة والصدقة بعد موته فقبل ورثته صح، وبرد ورثته ارتد وبطل الإبراء عند أبي يوسف، لأن الإبراء بعد الموت إبراء للورثة، وقال محمد: لا يرتد بردهم كما لو أبرأهم في حال حياته ثم مات.
م: (وكذا إذا أخر الطالب عن الأصيل فهو تأخير عن الكفيل، ولو أخر عن الكفيل لم يكن تأخيرا عن الذي عليه الأصل) ش: وهو المكفول عنه ولا نعلم فيه خلافا.
م: (لأن التأخير إبراء مؤقت فيعتبر بالإبراء المؤبد) ش: فإن قيل: الإبراء المؤبد لا يرتد برد الكفيل والمؤقت يرتد برده، وبرد الأصيل يرتدان كلاهما، والرواية في التتمة، فكيف يعتبر المؤقت بالمؤبد؟
قلنا: كلامنا في السقوط والثبوت، أما قبول الارتداد وعدم قبوله حكم آخر سوى ما نحن فيه، فلا يلزم من اعتبارهما حكم اعتبارهما في جميع الأحكام، م: (بخلاف ما إذا كفل بالمال الحال مؤجلا) ش: نصب على الحال من قوله كفل.
م: (إلى شهر فإنه يتأجل عن الأصيل) ش: وقال الشافعي وأحمد ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية: لا يتأجل على الأصيل، بل يتأجل على الكفيل، م: (لأنه) ش: أي لأن الطالب م: (لا حق له إلا الدين حال وجود الكفالة فصار

(8/445)


الأجل داخلا فيه، أما هاهنا فبخلافه. فإن صالح الكفيل رب المال عن الألف على خمسمائة فقد برئ الكفيل والذي عليه الأصل؛ لأنه أضاف الصلح إلى الألف الدين، وهي على الأصيل فبرئ عن خمسمائة لأنه إسقاط، وبراءته توجب براءة الكفيل، ثم برئا جميعا عن خمسمائة بأداء الكفيل، ويرجع الكفيل على الأصيل بخمسمائة إن كانت الكفالة بأمره، بخلاف ما إذا صالح على جنس آخر لأنه مبادلة حكمية فملكه فيرجع بجميع الألف. ولو كان صالحه عما استوجب بالكفالة لا يبرأ الأصيل؛ لأن هذا إبراء الكفيل عن المطالبة. قال: ومن قال لكفيل ضمن له مالا: قد برئت إلي من المال، رجع الكفيل على المكفول عنه، معناه بما ضمن له بأمره؛ لأن البراءة التي ابتداؤها من المطلوب وانتهاؤها إلى الطالب لا يكون إلا بالإيفاء فيكون هذا إقرارا بالأداء فيرجع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأجل داخلا فيه) ش: لأنه أضاف الأجل إلى نفس الدين لأنه لا شيء سوى الدين حتى يصرف الأجل فيه فصار التأجيل وصفا لأجل الدين فيظهر الأجل في حقهما ضرورة. م: (أما هاهنا فبخلافه) ش: يعني فيما كفل حالا، ثم أخر عنه الطالب لم يكن ذلك تأخيرا عن الأصيل.
وفي " الفتاوى الصغرى ": الكفيل بالدين المؤجل إذا أدى قبل حلول الأجل لا يرجع على المكفول عنه حتى يحل الأجل. م: (فإن صالح الكفيل رب المال عن الألف على خمسمائة فقد برئ الكفيل والذي عليه الأصل) ش: وهو الدين م: (لأنه أضاف الصلح إلى الألف الدين، وهي على الأصيل فبرئ عن خمسمائة لأنه إسقاط، وبراءته توجب براءة الكفيل، ثم برئا جميعا عن خمسمائة بأداء الكفيل، ويرجع) ش: أي م: (الكفيل على الأصيل بخمسمائة إن كانت الكفالة بأمره) ش: وإن كانت بغير أمره لا يرجع وإن صالحه مطلقًا أو أبرأه بطلت المطالبة عن الكفيل وبقي الحق على الأصيل، وكذا قال فخر الإسلام وغيره.
م: (بخلاف ما إذا صالح على جنس آخر) ش: أي صالح عن ألف هي دراهم على ثوب مثلا حيث يرجع الكفيل إذا أدى بجميع الألف م: (لأنه مبادلة حكمية) ش: وهو جعل الثوب بدل الألف م: (فملكه) ش: أي فملك الألف م: (فيرجع بجميع الألف) ش: هذا نتيجة ملك الألف م: (ولو كان صالحه عما استوجب بالكفالة) ش: الذي استوجب بالكفالة هو المطالبة م: (لا يبرأ الأصيل لأن هذا إبراء الكفيل عن المطالبة) ش: لأن هذا فسخ الكفالة لا إسقاط لأصل الدين.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن قال لكفيل ضمن له مالا: قد برئت إلي من المال رجع الكفيل على المكفول عنه، معناه) ش: أي معنى ما قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله: ضمن له مالا. م: (بما ضمن له بأمره؛ لأن البراءة التي ابتداؤها من المطلوب وانتهاؤها إلى الطالب لا يكون إلا بالإيفاء فيكون هذا) ش: أي قوله برئت إلي. م: (إقرارا بالأداء) ش: أي بالإيفاء م: (فيرجع) ش: فكأنه قال: استوفيت منك حقي فإذا أقر الطالب بالإيفاء يرجع

(8/446)


وإن قال: أبرأتك لم يرجع الكفيل على المكفول عنه؛ لأنه براءة لا تنتهي إلى غيره وذلك بالإسقاط فلم يكن إقرارا بالإيفاء. ولو قال: برئت، قال محمد: هو مثل الثاني؛ لأنه يحتمل البراءة بالأداء إليه والإبراء فيثبت الأدنى إذ لا يرجع الكفيل بالشك. وقال أبو يوسف: هو مثل الأول لأنه أقر ببراءة ابتداؤها من المطلوب، وإليه الإيفاء دون الإبراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكفيل فكذا هذا.
م: (وإن قال) ش: أي الطالب م: (أبرأتك لم يرجع الكفيل على المكفول عنه لأنه براءة لا تنتهي إلى غيره، وذلك) ش: يكون م: (بالإسقاط فلم يكن إقرارا بالإيفاء) ش: لأن البراءة في هذه الصورة ابتداؤها من الطالب، وهذا لا يكون إلا بالإسقاط، فإذا أسقط من الكفيل لا يرجع؛ لأن براءة الكفيل لا توجب براءة الأصيل م: (ولو قال: برئت) ش: ولم يقل إلي م: (قال محمد: هو مثل الثاني) ش: أي مثل قوله: أبرأتك م: (لأنه يحتمل البراءة بالأداء إليه والإبراء) ش: ويحتمل البراءة بالإبراء، فإذا كان كذلك م: (فيثبت الأدنى) ش: وهو البراءة بالإبراء لا البراءة بالأداء وهو الإسقاط، وبقوله قالت الثلاثة م: (إذ لا يرجع الكفيل بالشك) ش: هذا نسخة بكلمة أو لا يرجع، والظاهر أن هذا دليل آخر وهو أنه لا يرجع بالشك لاحتمال الأمرين المذكورين فافهم فإن هذا موضع لا يتيقظ فيه كل أحد.
م: (وقال أبو يوسف: هو مثل الأول) ش: وهو قوله برئت إلي من المال م: (لأنه أقر ببراءة ابتداؤها من المطلوب) ش: فإنه ذكر حرف الخطاب وهو التاء، وذلك إنما يكون بفعل مضاف إليه على الخصوص كما إذا قيل قمت وقعدت مثلا م: (وإليه) ش: أي وإلى المطلوب م: (الإيفاء دون الإبراء) ش: تقرير هذا أنه أخبر على البراءة بفعل يتعدى عن المطلوب وهو الكفيل إلى الطالب، وذلك بالإيفاء يكون لأنه هو الذي يتعدى من المطلوب إلى الطالب دون الإبراء إذ الإبراء يتعدى من الطالب إلى المطلوب.
وقيل: أبو حنيفة مع أبي يوسف في هذه المسألة، وكان المصنف اختاره فأخره وهو أقرب الاحتمالين، فالمصير إليه أولى، وما قاله محمد إنما يستقيم إذا كان الاحتمالان على السواء وقد يرجح أحد الاحتمالين وهو البراءة بالقبض، لأنه كالحقيقة والآخر كالمجاز. وقيل: برئت مطاوع أبرأتك فتكون حقيقة أيضا.
واختلف مشايخنا المتأخرون فيما إذا قال المدعى عليه أبرأني المدعي من الدعوى التي يدعي علي يكون إقرارا، كما لو قال: أبرأني من هذا المال. وقيل: لا يكون إقراره لأن الدعوى قد تكون حقًّا وباطلا، ولو قال الطالب للكفيل: أنت في حل من المال فهو كقوله أبرأتك بإجماع الأئمة الأربعة، لأن لفظ الحل يستعمل في البراءة بالإبراء دون البراءة بالقبض، كذا ذكره المحبوبي.

(8/447)


وقيل في جميع ما ذكرنا: إذا كان الطالب حاضرا يرجع في البيان إليه لأنه هو المجمل.
قال: ولا يجوز تعليق البراءة من الكفالة بالشرط لما فيه من معنى التمليك كما في سائر البراءات، ويروى أنه يصح لأن عليه المطالبة دون الدين في الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل في جميع ما ذكرنا) ش: من الوجوه الثلاثة م: (إذا كان الطالب حاضرا يرجع في البيان إليه لأنه هو المجمل) ش: لأن الأصل في الإجمال الرجوع إلى بيان المجمل.
فإن قيل: المجمل ما لا يمكن العمل به إلا بالبيان، وهاهنا العمل ممكن في الأوجه الثلاثة بدون البيان على ما ذكر من وجوه البيان خصوصا في الوجه الأول، لأنه بين أن البراءة التي ابتداؤها من الكفيل وانتهاؤها إلى الطالب بمنزلة قوله دفعت إلي وقبضته منك فلا يكون فيه إجمال. وكذا في الشافعي، وهذا لا خلاف فيه أنه أبرأ بدون القبض. وفي الوجه الثالث عمل محمد يتعين. وأبو يوسف رجح الإبراء بالقبض فلا يكون مجملا.
قيل: في جوابه قوله برئت إلي وإن كان بمنزلة الصريح في حق الإيفاء والقبض من حيث الاستدلال، لكنه ليس بصريح فيه بل هو قابل للاستعارة بأن قال: برئت إلي لأني أبرأتك، وإن كان بعيدا عن الاستعمال وما ذكروا في تعليل الأوجه الثلاثة كله استدلال لا صريح في الإيفاء وغير الإيفاء.
ولهذا جعلت الأئمة الثلاثة الكل الإبراء بدون الإيفاء فكان العمل به عند العجز عن العمل بالصريح، فلما أمكن العمل بصريح البيان من الطالب سقط العمل به بالاستدلال وفيه تأمل.

[تعليق البراءة من الكفالة بالشرط]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا يجوز تعليق البراءة من الكفالة بالشرط) ش: أراد به الشرط الغير المتعارف، كما إذا قال: إذا جاء غدا فأنت بريء من الكفالة. حاصله: أن المراد به الشرط المحض الذي لا منفعة للطالب فيه أصلا كدخول الدار ومجيء الغد لأنه غير متعارف، أما إذا كان متعارفا يجوز كله في تعليق الكفالة.
فإنه ذكر في " الإيضاح " لو كفل بالمال وبالنفس أيضا، وقال: إن وافيتك غدا فأنت بريء من المال فوافاه غدا يبرأ من المال.
وكذا لو علق البراءة باستيفاء البعض يجوز أو علق البراءة عن البعض يجوز ذكره في " مبسوط شيخ الإسلام " م: (لما فيه) ش: أي تعليق البراءة من الكفالة بالشرط م: (من معنى التمليك) ش: ولهذا يرجع الكفيل بما أدى عن المكفول عنه إذا كان بأمره والتمليكات لا يجوز تعليقها بالشروط لإفضائه إلى معنى القمار م: (كما في سائر البراءات) ش: لا يجوز فيها التعليق بالشرط م: (ويروى أنه يصح) ش: أي أن في تعليق البراءة من الكفالة بالشرط م: (لأن عليه) ش: أي على الكفيل م: (المطالبة دون الدين في الصحيح) ش: أي في القول الصحيح من المشايخ، فإذا

(8/448)


فكان إسقاطا محضا كالطلاق، ولهذا لا يرتد الإبراء عن الكفيل بالرد، بخلاف إبراء الأصيل. وكل حق لا يمكن استيفاؤه من الكفيل لا تصح الكفالة به كالحدود والقصاص، معناه بنفس الحد لا بنفس من عليه الحد؛ لأنه يتعذر إيجابه عليه، وهذا لأن العقوبة لا تجري فيها النيابة. وإذا تكفل عن المشتري بالثمن جاز؛ لأنه دين كسائر الديون، وإن تكفل عن البائع بالمبيع لم تصح؛ لأنه عين مضمون بغيره وهو الثمن، والكفالة بالأعيان المضمونة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان كذلك م: (فكان) ش: أي إبراء الكفيل م: (إسقاطا محضا) ش: والإسقاط المحض يصح تعليقه م: (كالطلاق) ش: فإنه إسقاط محض يصح تعليقه بالشرط م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه إسقاطا محضا م: (لا يرتد الإبراء عن الكفيل بالرد بخلاف إبراء الأصيل) ش: فإنه يرتد بالرد م: (وكل حق لا يمكن استيفاؤه من الكفيل لا تصح الكفالة به كالحدود والقصاص) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره"، قوله لا يمكن أي لا يصح، لأن إمكان الضرب أو جر الرقبة ليس بمنفعة لا محالة، لكنه لا يصح شرعا، وعبر عنه بعدم الإمكان مبالغة في نفي الصحة.
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (معناه بنفس الحد) ش: يعني بنفس الحد لا يجوز م: (لا بنفس من عليه الحد) ش: فإن الكفالة بنفس من عليه الحد تجوز، لأنه تعليق لقوله: معناه بنفس الحد م: (لأنه) ش: أي لأن الاستيفاء م: (يتعذر إيجابه عليه) ش: أي على الذي يكفل م: (وهذا) ش: أي عدم الإيجاب عليه المتعذر م: (لأن العقوبة لا تجري فيها النيابة) ش: لعدم حصول المقصود لأن المقصود الزجر وهو لا يتحقق بالنائب.
م: (وإذا تكفل عن المشتري بالثمن جاز) ش: هذا لفظ القدوري إنما جاز الكفالة بالثمن. م: (لأنه دين كسائر الديون) ش: لأنه دين صحيح يمكن استيفاؤه من الكفيل فصحت الكفالة به كما في سائر الديون وكالقرض م: (وإن تكفل عن البائع بالمبيع لم تصح) ش: وهذا أيضا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي بعض النسخ لم يجز، م: (لأنه) ش: أي لأن المبيع.
م: (عين مضمون بغيره وهو الثمن) ش: ولا يمكن أداؤه عن الكفيل إذا هلك فإنه لو هلكت العين سقط الثمن م: (والكفالة بالأعيان المضمونة) ش: الأعيان على نوعين أمانة ومضمونة والكفالة بالأمانة لا تصح كالودائع والعواري ومال المضاربة والشركة والعين المستأجرة، غير أن العارية والعين المستأجرة واجبة الرد إن كان لها حمل ومؤنة، بخلاف الودائع ومال المضاربة والشركة فإنها ليست بواجبة الرد، بل الواجب التخلية، فلو كفل بتسليم العارية والمستأجرة صح، أما الأعيان المضمونة فعلى نوعين:
الأول: ما كان مضمونا بنفسه على معنى أنه يجب رد عينها إن كانت باقية، وقيمتها إن هلكت تصح الكفالة وهي كالعين المغصوبة والمقبوض على سوم الشراء والمبيع بيعا فاسدا.

(8/449)


وإن كانت تصح عندنا خلافا للشافعي، لكن بالأعيان المضمونة بنفسها كالمبيع بيعا فاسدا، والمقبوض على سوم الشراء والمغصوب لا بما كان مضمونا بغيره كالمبيع والمرهون، ولا بما كان أمانة كالوديعة والمستعار والمستأجر ومال المضاربة والشركة. ولو كفل بتسليم المبيع قبل القبض، أو بتسليم الرهن بعد القبض إلى الراهن، أو بتسليم المستأجر إلى المستأجر جاز؛ لأنه التزم فعلا واجبا. ومن استأجر دابة للحمل عليها؛ فإن كانت بعينها لا تصح الكفالة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: غير مضمون بنفسه بل هو مضمون بغيره كالمبيع في يد البائع، والمرهون في يد المرتهن، لأن المبيع مضمون بالثمن والرهن مضمون بالدين لا تصح الكفالة به، وإذا تكفل بتسليم المبيع صح.
وقال تاج الشريعة: كون الشيء مضمونا بنفسه أن لا يزول عنه الزمان أصلا كالمقبوض على سوم الشراء والمغصوب، فإنه يجب رد عينه أو قيمته والأعيان المضمونة لغيرها ليست كذلك، إذ المبيع لو هلك يهلك على حكم ملك للمالك وينفسخ البيع، والإنسان لا يضمن مال نفسه.
م: (وإن كانت تصح عندنا) ش: كلمة إن واصلة بما قبله م: (خلافا للشافعي) ش: فإن عنده في وجه لا تصح الكفالة بالأعيان غير ثابتة في الذمة م: (لكن بالأعيان المضمونة بنفسها) ش: هذا في محل الخبر عن قوله والكفالة بالأعيان المضمونة إنما تصح إذا كانت مضمونة بنفسها لا مطلقا، ومثل لذلك بقوله م: (كالمبيع بيعا فاسدا، والمقبوض على سوم الشراء والمغصوب لا بما كان) ش: يعني لا تصح الكفالة بما كان م: (مضمونا بغيره كالمبيع) ش: فإنه مضمون بالثمن م: (والمرهون) ش: فإنه مضمون بالدين م: (ولا بما كان) ش: أي ولا تصح الكفالة أيضا بالشيء يكون م: (أمانة كالوديعة والمستعار والمستأجر، ومال المضاربة والشركة) ش: وقد ذكرنا الجميع آنفا.
م: (ولو كفل بتسليم المبيع قبل القبض أو بتسليم الرهن بعد القبض) ش: أي قبض الدين م: (إلى الراهن أو بتسليم المستأجر) ش: بفتح الجيم، م: (إلى المستأجر) ش: بكسرها م: (جاز لأنه التزم فعلا واجبا) ش: أي لأن الكفيل التزم فعلا واجبا على الأصيل وهو تسليم المبيع والمرهون والمستأجر، فلو هلك المبيع أو الرهن أو المستأجر بطلت الكفالة، ولم يكن على الكفيل شيء لأنه ما ضمن الثمن إلا في المبيع أو القيمة في غيره. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: العين في يد الأجير المشتركة مضمونة فتصح الكفالة بهما عندهما خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الذخيرة ": الكفالة بتمكين المودع من الأخذ صحيحة، وكذا الكفالة بتسليم العارية صحيحة لكن بعينها لا تجوز.
وقال " شمس الأئمة ": الكفالة بتسليم العارية باطلة وهذا ليس بصواب، فقد نص محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع " أن الكفالة بتسليم العارية صحيحة، وهكذا في " المبسوط "

(8/450)


بالحمل؛ لأنه عاجز عنه. وإن كانت بغير عينها جازت الكفالة لأنه يمكنه الحمل على دابة نفسه، والحمل هو المستحق، وكذا من استأجر عبدا للخدمة فكفل له رجل بخدمته فهو باطل لما بينا. قال: ولا تصح الكفالة إلا بقبول المكفول له في المجلس، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز إذا بلغه فأجاز ولم يشترط في بعض النسخ الإجازة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
و" الإيضاح ". وقال الأكمل: في قوله وهذا ليس بصواب نظر، فإن شمس الأئمة ليس ممن لم يطلع على الجامع، بل لعله قد اطلع عل رواية أخرى أقوى من ذلك فاختارها، وفيه تأمل، وعند أحمد يجوز ضمان العارية لأنه مضمون عنده كالمغصوب.

[الكفالة بالحمل]
م: (ومن استأجر دابة للحمل عليها فإن كانت) ش: أي الدابة م: (بعينها لا تصح الكفالة بالحمل؛ لأنه عاجز عنه) ش: أي لأن الكفيل عاجز عن تسلم الدابة المعينة لأنها ملك الغير والمستحق الحمل عليها م: (وإن كانت بغير عينها جازت الكفالة لأنه يمكنه الحمل على دابة نفسه والحمل هو المستحق) ش: يعني إذا لم تكن الدابة بعينها م: (وكذا) ش: الحكم في م: (من استأجر عبدا) ش: أي معينا م: (للخدمة فكفل له رجل بخدمته هو باطل لما بينا) ش: إشارة إلى قوله: لأنه عاجز.
م: (قال: ولا تصح الكفالة) ش: سواء كانت بالنفس أو بالمال م: (إلا بقبول المكفول له في المجلس) ش: أي في مجلس عقد الكفالة م: (هذا) ش: أي اشتراط قبول المكفول له. م: (عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في وجه م: (إذا بلغه فأجاز) ش: أي إذا بلغ المكفول له بالتكفيل فأجاز م: (ولم يشترط في بعض النسخ) ش: أي نسخ كفالة " المبسوط " م: (الإجازة) ش: على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال الأكمل: قبل أي نسخ كفالة " المبسوط "، وفيه نبوة، لأن نسخ كفالة المبسوط لم تتعدد، وإنما هي نسخة واحدة، فالموجود في بعضها دون بعض يدل على ترك في بعض أو زيادة في آخر.
قلت: النبوة فيما قاله لا فيما قيل.
وفي " الكافي ": واختلفوا في قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقيل: يجوز عنده بوصف التوقف حتى لو رضي به الطالب ينفذ. وقيل: يجوز لوصف النفاد، قيل رضاء الطالب ليس بشرط وهو الأصح عنده. وفي " شرح المجمع " وأفتى بعض المشايخ بقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - رفقا بالناس.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والحاصل أن الكفالة بالنفس أو بالمال إذا كانت بحضرة المكفول له والمكفول عنه صحت بالإجماع، فإن كان الطالب غائبا فهي جائزة عند أبي يوسف

(8/451)


والخلاف في الكفالة بالنفس والمال جميعا. له أنه تصرف التزام فيستبد به الملتزم، وهذا وجه هذه الرواية عنه، ووجه التوقف ما ذكرناه في الفضولي في النكاح. ولهما أن فيه معنى التمليك، وهو تمليك المطالبة منه فيقوم بهما جميعا، والموجود شطره فلا يتوقف على ما رواء المجلس، قال: إلا في مسألة واحدة وهي أن يقول المريض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يجوز إلا أن يقبل عنه قابل فيتوقف على إجازته، كذا في المختلف.
م: (والخلاف) ش: بين أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- وبين أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الكفالة بالنفس والمال جميعا له) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إنه) ش: أي أن عقد الكفالة م: (تصرف التزام) ش: للغير م: (فيستبد به) ش: أي فينتقل به م: (الملتزم) ش: كالإقرار والنذر، ولهذا يصح مع الجهالة م: (وهذا) ش: أي هذا التعليل وهو أنه تصرف التزام م: (وجه هذه الرواية عنه) ش: أي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ووجه التوقف) ش: يعني أن وجه الرواية التي أجازت الكفالة عند غيبة المكفول له موقوفة على الإجازة م: (ما ذكرناه) ش: في كتاب النكاح م: (في الفضولي في النكاح) ش: وهو أن شطر العقد يتوقف على ما وراء المجلس عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والجامع عدم الضرر.
وعندهما لا يتوقف شطر العقد على ما وراء المجلس كما في البيع. حاصل الكلام من جعل الخلاف في التوقف جعله فرعا للفضولي في النكاح، إذا تزوج امرأة وليس عنها قابل يتوقف عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - على إجازتها فيما وراء المجلس لأنه لا ضرر في هذا التوقف على أحد.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن فيه) ش: في عقد الكفالة، م: (معنى التمليك وهو تمليك المطالبة منه) ش: أي من المكفول عنه، كذا قال شيخنا العلاء، ثم قال: ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الكفيل لأن الكفيل ملك المطالبة للمكفول عنه. وقال تاج الشريعة: منه، أي من الكفيل. ومتى ثبت معنى التملك لم ينفرد الواحد به؛ لأن شطر العقد م: (فيقوم بهما جميعا) ش: أي فيقوم التمليك بالكفيل والطالب، م: (والموجود شطره) ش: أي شطر العقد م: (فلا يتوقف على ما وراء المجلس) ش: فعلى هذا لو قبله عن الطالب فضولي توقف على إجازته لوجود شطريه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (إلا في مسألة واحدة) ش: وهو استثناء من قوله ولا تصح الكفالة إلا بقبول المكفول له في المجلس حيث يصح استحسانا، والقياس عدمهما على قولهما، م: (وهي أن يقول المريض) ش: وفي " القدوري ": وهي أن يقول المريض وهذا على الأصل، لأن الضمير يرجع إلى المسألة.

(8/452)


لوارثه: تكفل عني بما علي من الدين فكفل به مع غيبة الغرماء جاز؛ لأن ذلك وصية في الحقيقة، ولهذا تصح وإن لم يسم المكفول لهم، ولهذا قالوا: إنما تصح إذا كان له مال، أو يقال إنه قائم مقام الطالب لحاجته إليه تفريغا لذمته، وفيه نفع الطالب، كما إذا حضر بنفسه، وإنما يصح بهذا اللفظ، ولا يشترط القبول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ووجه تذكير الضمير في الكتاب باعتبار المذكور في القدوري أن يقول المريض م: (لوارثه تكفل عني بما علي من الدين فكفل به) ش: أي فتكفل الوارث لما عليه من الدين م: (مع غيبة الغرماء جاز) ش: حيث تصح استحسانا م: (لأن ذلك وصية في الحقيقة) ش: أي يصير كأنه أوصى إليه بقضاء ديونه فيشترط قبول من أوصى إليه ليصير وصيا لا قبول غيره، كذا قاله تاج الشريعة.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل في تعليل الكتاب بقوله: لأن ذلك وصية في الحقيقة نظرا، إذ لو كان وصية حقيقة لما اختلف الحكم بين حالة الصحة وحالة المرض، وقد ذكرنا من " المبسوط " أن هذا لا يصح في حالة الصحة، إلا أن يأول هذا ويقال لأن ذلك في معنى الوصية في الحقيقة وفيه بعد، وقد نقل الأكمل هذا ثم قال: مثل هذه العبارة يستعمل عند المحصلين فيما إذا دل لفظ بظاهره على معنى.
وإذا نظرت في معناه يأول إلى معنى آخر وحينئذ لا فرق بين أن يقول في معنى الوصية أو وصية في الحقيقة، وفيه تأمل. وفي " الشامل ": الإيصاء بقضاء الدين يصح. وفي الخلاصة: ثم هذا من المريض يصح وإن لم يسم الدين ولا صاحب الدين، وأشار إليه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: م: (ولهذا تصح وإن لم يسم المكفول لهم) ش: أي ولأجل أن ذاك وصية.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ذلك أيضا م: (قالوا) ش: أي المشايخ م: (إنما تصح) ش: أي عقد الكفالة بدون قبول الطالب م: (إذا كان له) ش: أي للمريض م: (مال) ش: عند الموت إذ الوصية تصح في المال عند الموت م: (أو يقال) ش: إشارة إلى بيان وجه آخر في صحة قول المريض لوارثه: تكفل بما علي من الديون. تقريره أن يقال م: (إنه) : أي المريض م: (قائم مقام الطالب) ش: وهو المكفول له م: (لحاجته إليه) ش: أي لحاجة المريض إلى إقامة نفسه مقام الطالب م: (تفريغا لذمته) ش: أي لأجل تفريغ ذمته عن الدين فصار كأن الطالب حضر بنفسه على ما يجيء م: (وفيه) ش: أي وفي إقامة نفسه مقام الطالب م: (نفع الطالب) ش: وهو حصول حقه إليه، فصار حكمه م: (كما إذا حضر) ش: أي الطالب م: (بنفسه، وإنما يصح بهذا اللفظ) ش: متصل بقوله لأن ذلك وصية، يعني أن قول المريض: لوارثه تكفل عني أيضا، ولهذا تصح إذا لم يكن مال ولكن الإيصاء صح بلفظ الضمان.
م: (ولا يشترط القبول) ش: أي قبول المريض، هذا جواب سؤال مقدر، وهو أن يقال: لو

(8/453)


لأنه يراد به التحقيق دون المساومة ظاهرا في هذه الحالة فصار كالأمر بالنكاح. ولو قال المريض ذلك لأجنبي اختلف المشايخ فيه،
قال: وإذا مات الرجل وعليه ديون ولم يترك شيئا فتكفل عنه رجل للغرماء لم تصح عند أبي حنيفة، وقالا: تصح؛ لأنه كفل بدين ثابت لأنه وجب لحق الطالب ولم يوجد المسقط، ولهذا يبقى في حق أحكام الآخرة. ولو تبرع به إنسان وله مال يصح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان المرض نازلا منزلة الطالب لكان قبوله شرطا كقبول الطالب. وتقرير الجواب: أنه لا يشترط القبول م: (لأنه يراد به التحقيق) ش: أي المريض يريد بقوله تكفل عني تحقيق الكفالة م: (دون المساومة) ش: نظرا إلى ظاهر حالته التي هو عليها، وهو معنى قوله م: (ظاهرا في هذه الحالة فصار) ش: فصار هذا م: (كالأمر بالنكاح) ش: لو قال لامرأة زوجيني نفسك، فقالت: زوجت نفسي منك يكون ذلك بالقبول فكأنها قالت زوجت، وقال: قبلت.
م: (ولو قال المريض ذلك لأجنبي) ش: أي لو قال المريض لأجنبي تكفل عني بما علي من الدين ففعل الأجنبي ذلك، م: (اختلف المشايخ فيه) ش: فمنهم من لم يصح ذلك؛ لأن الأجنبي غير مطالب بقضاء دينه لا في الحياة ولا بعد موته بدون الالتزام، فكان المريض والصحيح في حقه سواء، ولو قال الصحيح ذلك لأجنبي أو لوارثه لم يصح بدون قبول المكفول له، فكذا المريض.
ومنهم من صححه؛ لأن المريض قصد به النظر لنفسه والأجنبي إذا قضى دينه بأمره يرجع في تركته فيصح هذا من المريض، على أن يجعل قائما مقام الطالب لتضيق الحال عليه بمرض الموت؛ لكونه على شرف الهلاك. ومثل ذلك لا يوجد في الصحيح فأخذناه بالقياس.

[مات الرجل وعليه ديون ولم يترك شيئا فتكفل عنه رجل للغرماء]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا مات الرجل وعليه ديون ولم يترك شيئا فتكفل عنه رجل للغرماء لم تصح عند أبي حنيفة) ش: أي لم تصح الكفالة عنده، سواء كان ذلك الرجل أجنبيا أو وارث الميت، م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (تصح) ش: الكفالة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأنه) ش: أي لأن الرجل، م: (كفل بدين ثابت لأنه) ش: أي لأن الدين م: (وجب لحق الطالب ولم يوجد المسقط) ش: أي مسقط الدين، لأن الإسقاط إنما يكون بالإيفاء أو الإبراء أو انفساخ سبب وجوبه وبالموت لا يتحقق شيء من ذلك.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ما ذكرنا من عدم الإسقاط م: (يبقى) ش: أي الدين م: (في حق أحكام الآخرة) ش: فيطالب به في الآخرة.
م: (ولو تبرع به) ش: أي بأداء الدين م: (إنسان وله مال) ش: أي والحال أن للميت مالا م: (يصح) ش: أي التبرع به، ولو برئ المفلس من الدين بالموت لما حل لصاحب الدين الأخذ من

(8/454)


وكذا يبقى إذا كان به كفيل أو مال. وله أنه كفل بدين ساقط لأن الدين هو الفعل حقيقة، ولهذا يوصف بالوجوب؛ لكنه في الحكم مال؛ لأنه يئول إليه في المال، وقد عجز بنفسه وبخلفه، ففات عاقبة الاستيفاء فيسقط ضرورة، والتبرع لا يعتمد قيام الدين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المتبرع م: (وكذا يبقى) ش: أي الدين م: (إذا كان به كفيل أو مال) ش: ويبقى هو على كفالته ولو سقط الدين بالموت ليسقط عن الكفيل، لأن سقوط الدين عن الأصيل يوجب براءة الكفيل.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (أنه) ش: أي أن الرجل م: (كفل بدين ساقط) ش: لأن محل الدين قد فات وقيام الدين من غير محل محال م: (لأن الدين هو الفعل حقيقة) ش: لأن المقصود والفائدة الحاصلة منه هو فعل الأداء.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الدين هو الفعل حقيقة م: (يوصف بالوجوب) ش: يقال دين واجب كما يقال الصلاة واجبة والوصف بالوجوب حقيقة إنما هو في الأفعال م: (لكنه في الحكم مال) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال: لزم حينئذ قيام العرض بالعرض هو غير جائز عند المتكلمين من أهل السنة.
وتقرير الجواب هو ما قاله، لكنه أي لكن الدين في الحكم مال، لأن تحقيق ذلك الفعل في الخارج ليس إلا بتمليك طائفة من المال فوصف المال بالوجوب م: (لأنه) ش: أي لأن الأداء الموصوف به م: (يؤول إليه في المال) ش: فكان وصفا مجازيا، وكونه مالا بواسطة الاستيفاء م: (وقد عجز) ش: أي والحال أنه قد عجز عنه م: (بنفسه وبخلقه) ش: أي كفيله م: (ففات عاقبة الاستيفاء فيسقط) ش: في أحكام الدنيا م: (ضرورة) ش: لأن الكفالة من أحكام الدنيا فانعدم أثر الوجوب في حق الميت فلم تصح الكفالة؛ لأنها بناء على الوجوب في جانب من عليه.
فإن قلت: العجز بنفسه وبخلقه يدل على تعذر المطالبة منه، وذلك لا يستلزم بطلان الدين في نفسه كمن كفل عن عبد محجور أقر بدين فإنها تصح، فإن تعذرت المطالبة في حال الرق.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قلنا غلط بعدم التفرقة بين ذمة صالحة بوجوب الحق عليها ضعفت بالرق وبين ذمته خربت بالموت ولم يبق أهلا للوجوب عليها. وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا وهذا التقرير كما ترى يشير إلى أن المصنف ذكر دليل أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بطريق المعارضة. ولو أخرجه إلى سبيل الممانعة بأن يقول: لا نسلم أن الدين ثابت بل هو ساقط ويذكر السند بقوله فإن الدين هو الفعل، كان أحدث في وجوه النظر على ما لا يخفى.
قلت: الذي قرره المصنف يتناول كل واحد من طريق الممانعة وطريق المعارضة على ما لا يخفى.
م: (والتبرع لا يعتمد قيام الدين) ش: هذا جواب عما قال: ولو تبرع به إنسان، تقريره أن

(8/455)


وإذا كان به كفيل أوله مال فخلفه أو الإفضاء إلى الأداء باق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشرع لا يعتمد قيام الدين، فإن من قال: لفلان على فلان ألف درهم وأنا كفيل صحت الكفالة وعليه أداؤه وإن لم يوجد الدين أصلا. وقال تاج الشريعة: والتبرع لا يعتمد قيام الدين أي في حق المكفول عنه، بل يعتمد قيامه في حق الكفيل؛ ولهذا لو أقر رجل أن لفلان على فلان كذا وأنا كفيل بذلك وأنكر المكفول عنه تصح الكفالة وعليه أداء الدين م: (وإذا كان به كفيل) ش: جواب عن قولهما: وكذا يبقى إذا كان به كفيل م: (أو له مال) ش: بيان هذا أن القدرة شرط الفعل إما بنفس القادر أو بخلفه، فإذا كان به كفيل أو له مال وانتفى القادر م: (فخلفه) ش: وهو الوكيل أو المال في حق بقاء الدين م: (أو الإفضاء إلى الأداء) ش: هذا غير موجود في بعض النسخ. وقال الأترازي: هكذا وقع السماع مرارا، وقد كانت نسخة شيخ الإسلام حافظ الدين الكبير البخاري هكذا أيضا.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقوله هو الإفضاء على ما هو السماع، وعليه أكثر النسخ، وكأنه قال: الكفيل والمال إن لم يكونا خلفين فالإفضاء إلى الأداء بوجودهما، م: (باق) ش: بخلاف ما إذا عدما. ويجوز أن يكون في الكلام لف ونشر، وتقريره فخلفه وهو الكفيل أو الإفضاء، أي ما يفضي إلى الأداء، وهو المال باق، وعلى هذا يشترط في القدرة، إما نفس القادر أو خلفه أو ما يفضي إلى الأداء، وقد وقع في بعض النسخ، إذ الإفضاء على وجه التعليل لقوله فخلفه.
وعلى هذا يكون تقرير الكلام فخلفه باق حذفه لدلالة المذكور عليه، كما في قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض
والرأي مختلف، ومعناه كل واحد من الكفيل والمال خلف للميت، لأن رجاء الأداء منهما باق، فإن الخلف ما به تحصل كفاية أمر الأصيل عند عدمه، وهما كذلك فكانا خلفين، انتهى.
وقال شيخنا العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله إذا كان به كفيل، أي إذا كان بالدين كفيل فخلفه باق، وكذا إذا له مال فالتقضي إلى الأداء باق، لأنه يستوفي من المال فتحقق باقيا في أحكام الدنيا.
وقوله: فخلفه أي إذا كان له كفيل والإفضاء إليه فيما إذا كان له مال باق، انتهى.
قلت: هنا تكلفات كثيرة، فالمختصر من الكلام أن يقال: فخلفه أي الكفيل أو الإفضاء بالنظر إلى وجود المال، وإعراب ما وقع في المتن أن قوله: فخلفه مبتدأ. وقوله: أو الإفضاء إلى الأداء عطف عليه. وفي بعض النسخ بدون الألف. وقول: باق خبر المبتدأ.

(8/456)


قال: ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره فقضاء الألف قبل أن يعطيه صاحب المال فليس له أن يرجع فيها؛ لأنه تعلق به حق القابض على احتمال قضائه الدين، فلا تجوز المطالبة ما بقي هذا الاحتمال. كمن عجل زكاته ودفعها إلى الساعي، ولأنه ملكه بالقبض على ما نذكر، بخلاف ما إذا كان الدفع على وجه الرسالة لأنه تمحض أمانة في يده. وإن ربح الكفيل فيه فهو له لا يتصدق به؛ لأنه ملكه حين قبضه، أما إذا قضى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره) ش: أي على الرجل بأمره، وهو المديون م: (فقضاه الألف) ش: أي فقضى الرجل الألف الكفيل م: (قبل أن يعطيه صاحب المال) ش: أي قبل أن يعطي الألف صاحب المال وهو منصوب على أنه مفعول ثان للإعطاء م: (فليس له) ش: أي للرجل المذكور وهو المكفول عنه م: (أن يرجع فيها) ش: أي في الألف على تأويل الدراهم م: (لأنه) ش: أي لأن الألف م: (تعلق به حق القابض) ش: وهو الكفيل م: (على احتمال قضائه الدين، فلا تجوز المطالبة ما بقي هذا الاحتمال) ش: يعني ما لم يبطل هذا الاحتمال بأداء الأصل بنفسه حق الطالب ليس له أن يسترده، لأن النفع الدفع إذا كان الفرض لا يجوز الاسترداد فيه ما دام باقيا كيلا يكون سعيا في نقض ما أوجبه.
وهذا م: (كمن عجل زكاته ودفعها إلى الساعي) ش: وهو المصدق الذي يتولى أخذ الزكاة فإنه ليس له أن يستردها، لأن الدفع كان لفرض، وهو أن يصير زكاته بعض الحول، فما دام الاحتمال ليس له الرجوع م: (ولأنه) ش: أي ولأن الكفيل م: (ملكه) ش: أي الألف م: (بالقبض) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه. وقال في وجه: لا يملكه وفي يده أمانة فيسترده قبل أداء الكفيل به، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- م: (على ما نذكر) ش: إشارة إلى قوله بعد خطين، أما إذا قضى الدين فظاهر إلى آخره.
م: (بخلاف ما إذا كان الدفع) ش: أي الدفع إلى الكفيل م: (على وجه الرسالة) ش: يعني يرجع الأصيل على الكفيل بالمدفوع إليه م: (لأنه تمحض أمانة في يده) ش: صورته أن يقول الأصيل للكفيل: خذ هذا المال، وادفع إلى الطالب، فإنه لا يصير ملكا للكفيل، بل هو أمانة في يده، ولكن لا يكون للمطلوب أن يسترده من يد الكفيل، لأنه تعلق بالمؤدى حق الطالب فالمطلوب بالاسترداد يريد إبطال ذلك فلا يقدر عليه، لكنه لم يملكه لكونه إصابة.
م: (وإن ربح الكفيل فيه) ش: أي في الألف المقبوض بأن تصرف فيه وربح م: (فهو له) ش: أي الربح له م: (لا يصدق به) ش: يعني لا يجب أن يتصدق به م: (لأنه ملكه حين قبضه) ش: والربح الحاصل من ملكه طيب له لا محالة، وإنما قلنا: إنه ملكه حين قبضه لأن قضاء الدين إما أن يحصل من الكفيل أو من الأصيل، فإن كان الأول فظاهر، وهو معنى قوله: م: (أما إذا قضى

(8/457)


الدين فظاهر، وكذا إذا قضى المطلوب بنفسه وثبت له حق الاسترداد؛ لأنه وجب له على المكفول عنه مثل ما وجب للطالب عليه، إلا أنه أخرت المطالبة إلى وقت الأداء فنزل منزلة الدين المؤجل. ولهذا لو أبرأ الكفيل المطلوب قبل أدائه يصح، فكذا إذا قبضه يملكه، إلا أن فيه نوع خبث نبينه، فلا يعمل مع الملك فيما لا يتعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدين فظاهر) ش: لأنه قبض ما وجب له فيه فيملكه من حيث قبض؛ كمن قبض الدين المؤجل معجلا.
م: (وكذا) ش: أي وكذا الحكم م: (إذا قضى المطلوب بنفسه) ش: أي الأصيل أداه بنفسه حيث يملكه الكفيل م: (وثبت له حق الاسترداد لأنه) ش: أي لأن الكفيل م: (وجب له على المكفول عنه مثل ما وجب للطالب عليه) ش: أي على الكفيل، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقيل على المكفول له، لأن الكفالة ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة لا في الدين، ولكن ذكر في " جامع المحبوبي " و" قاضي خان ": أن الدين وجب للطالب على الكفيل فيكون الضمير في "عليه" راجعا إلى الكفيل.
وفي " المبسوط " الكفالة توجب الدينين دينا للكفيل على الأصيل ودينا للطالب، لكن دين الكفيل مؤجل إلى وقت الأداء، لأن له مطالبة الأصيل بعد الأداء، ولهذا لو أخذ الكفيل من الأصيل رهنا بهذا المال يصح بمنزلة ما لو أخذ رهنا بدين مؤجل.
م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله: لأنه وجب له على المكفول عنه فعل ما وجب للطالب عليه، أي إلا أنه م: (أخرت المطالبة) ش: أي مطالبة للكفيل الأصيل م: (إلى وقت الأداء) ش: أي أداء الكفيل م: (فنزل منزلة الدين المؤجل) ش: أي نزل بناء على المكفول عنه الكفيل منزلة الدين المؤجل م: (ولهذا) ش: أي ولأجل تنزله منزلة الدين المؤجل م: (لو أبرأ الكفيل المطلوب قبل أدائه) ش: أي قبل أداء الكفيل للطالب م: (يصح) ش: حتى لم يكن له الرجوع بعد الأداء م: (فكذا إذا قبضه يملكه) ش: أي فكذا إذا قبض الكفيل الدين يملكه، وهذا أيضا يدل على أن الكفالة تقتضي دينين كما ذكرناه عن " المبسوط ".
م: (إلا أن فيه) ش: أي في الربح الحاصل للكفيل بتصرفه في المقبوض على وجه الاقتضاء وقد أدى الأصيل الدين م: (نوع خبث نبينه) ش: أي نبين نوع الخبث ونبينه في مسألة الكفالة بالكبر، والآن نذكرها، م: (فلا يعمل) ش: أي الخبث م: (مع الملك فيما لا يتعين) ش: كغير النقود، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا استثناء من قوله فهو له ولا يتصدق به، فكأنه ذكره جوابا لسؤال بأن يقال في هذا الربح نوع خبث، فينبغي أن يتصدق به، لأن حق المال الخبيث التصدق به فأجاب عنه وقال: لكن فيه نوع خبث مع الملك، فلا يعمل الخبيث مع الملك فيما لا يتعين،

(8/458)


وقد قررناه في البيوع. ولو كانت الكفالة بكر حنطة فقبضها الكفيل فباعها وربح فيها فالربح له في الحكم لما بينا أنه ملكه. قال: وأحب إلي أن يرده على الذي قضاه الكر ولا يجب عليه في الحكم، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية " الجامع الصغير "، وقالا: هو له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلأجل هذا لم يؤمر بالتصدق.
وذكر في شروح " الجامع الصغير " هذا الفصل على وجهين: فإما أن يدفع الأصيل إليه على وجه الرسالة، أو على وجه الاقتضاء، وكل ذلك على وجهين، إما إن كان الدفع مما لا يتعين بالتعيين كالنقود أو مما يتعين كالعروض.
فإن دفع على وجه الرسالة بأن قال: خذ هذا المال وادفع إلى الطالب لا يطيب الربح، سواء كان المدفوع مما لا يتعين أو يتعين في قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ومحمد -وطالب له- عند أبي يوسف، لأن الخبث يثبت لعدم الملك، لأن تصرفه وجد في غير ملكه فاستوى فيه المال لأنه وإن دفع على وجه الاقتضاء بأن قال الأصيل للكفيل: إني لا آمن أن يأخذ الطالب حقه منك فأنا أقضيك قبل أن تؤدي طاب له الربح إذا كان المدفوع مما لا يتعين كالنقود لأنه ملكها بالقبض، وإن كان المدفوع مما يتعين كغير النقود.
قال أبو حنيفة -في رواية-: هذا الكتاب يستحب أن يرده على الأصيل، وقال في كتاب الكفالة من الأصل يتصدق به، وقال في كتاب البيوع منه: يطيب له. وعند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- يطيب له ولا يرده، ولا يتصدق به، وقال فخر الإسلام: ويستوي في هذا أن أداء المطلوب إلى الطالب بنفسه أو أداء الكفيل م: (وقد قررناه في البيوع) ش: أي في آخر فصل أحكام البيع الفاسد.
م: (ولو كانت الكفالة بكر حنطة فقبضها الكفيل) ش: أي فقبض الكفيل الكر من الأصيل فتصرف فيها م: (فباعها وربح فيه فالربح له) ش: أي الكفيل م: (في الحكم) ش: أي في القضاء م: (لما بينا أنه ملكه) ش: أي أن الكفيل ملك الذي قبضه.
م: (قال) ش: أي قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " لما روى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا كانت الكفالة بكر حنطة فقضاه الذي عليه الأصيل فباعه الكفيل فربح فيه فإن الربح له إلا أنه أحب إلي أن يدفعه إلى الذي قضاه ويرده عليه، ولا أجبره على ذلك في القضاء ونقل المصنف هذا بقوله م: (وأحب إلي أن يرده على الذي قضاه الكر، ولا يجب عليه في الحكم، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية " الجامع الصغير ") ش: أي ولا يجب الرد على الذي قضاه في الحكم، أي في القضاء، ثم إن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما نقل هذا عن " الجامع الصغير ".
ثم قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقالا هو له) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد: الربح له، م:

(8/459)


ولا يرده على الذي قضاه الكر وهو رواية عنه. وعنه أنه يتصدق به. لهما أنه ربح في ملكه على الوجه الذي بيناه فيسلم له. وله أنه تمكن الخبث مع الملك، إما لأنه بسبيل من الاسترداد بأن يقضيه بنفسه، أو لأنه رضي به على اعتبار قضاء الكفيل، فإذا قضاه بنفسه لم يكن راضيا به، وهذا الخبث يعمل فيما يتعين فيكون سبيله التصدق في رواية ويرده عليه في رواية؛ لأن الخبث لحقه، وهذا أصح، لكنه استحباب لا جبر لأن الحق له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(ولا يرده على الذي قضاه الكر) ش: وهذا لفظه في " الجامع الصغير "، وقال يعقوب ومحمد: هو له ولا يرده على الذي قضاه الكر م: (وهو رواية عنه) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد رواية عن أبي حنيفة أيضا وهو أن الربح للكفيل ولا يرده على الأصيل وهو رواية كتاب البيوع م: (وعنه أنه) ش: أي أن الكفيل م: (يتصدق به) ش: أي بالربح، وهو رواية كتاب الكفالة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه تمكن الخبث مع الملك) ش: لأحد الوجهين إشارة إلى الوجه الأول بقوله م: (إما لأنه) ش: أي لأن الأصيل م: (بسبيل من الاسترداد بأن يقضيه) ش: أي يقضي الكر م: (بنفسه) ش: فإذا كان كذلك كان الربح حاصلا في ملك متردد بين أن يقر وأن لا يقر.
ومثل ذلك قاصر، ولو عدم الملك أصلا كان خبيثا، فإذا كان قاصرا تمكن فيه شبهة الخبث. وأشار إلى الوجه الثاني بقوله م: (أو لأنه) ش: أي أو لأن الأصيل م: (رضي به) ش: أي يكون المدفوع ملكا للكفيل م: (على اعتبار قضاء الكفيل) ش: الدين (فإذا قضاه بنفسه لم يكن راضيا به) ش: فتمكن الخبث م: (وهذا الخبث) ش: أي الخبيث الذي يكون مع الملك م: (يعمل فيما يتعين) ش: كغير النقود م: (فيكون سبيله التصدق في رواية) ش: عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويرده عليه) ش: أي على الأصيل.
م: (في رواية) ش: أخرى عن أبي حنيفة، فإن رده على الأصيل فإن كان الأصيل فقيرا طاب له، وإن كان غنيا ففيه روايتان في كتاب الغصب. قال فخر الإسلام في "شرح الجامع الصغير ": والأشبه أي يطب له، لأنه إنما يرده عليه على أنه حقه م: (لأن الخبث لحقه) ش: أي لحق الأصيل لا لحق الشرع.
م: (وهذا أصح) ش: أي الرد، لأن يرد الربح على المكفول عنه أصح من القول بالتصدق م: (لكنه استحباب) ش: أي لكن الرد عليه مستحب، لأن الملك لكفيل م: (لا جبر، لأن الحق له)

(8/460)


قال: ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره، فأمره الأصيل أن يتعين عليه حريرا ففعل؛ فالشراء للكفيل والربح الذي ربح البائع فهو عليه، ومعناه الأمر ببيع العينية، مثل أن يستقرض من تاجر عشرة، فيتأبى عليه، ويبيع منه ثوبا يساوي عشرة بخمسة عشر مثلا رغبة في نيل الزيادة ليبيعه المستقرض بعشرة ويتحمل عليه خمسة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي لا يجبر على دفعه إلا أنه لما تمكن الخبث يستحب الدفع إليه، بخلاف الربح في الغصب حيث يجبر الغاصب على الدفع لأنه لا حق للغاصب في الربح.
وفي " الكافي ": هذا إذ أعطاه على وجه القضاء، أما لو أعطاه على وجه الرسالة فتصرف فيه الرسول وربح لم يطب له الربح، سواء كان ثمنا أو مما يتعين لأنه مودع والمودع إذا تصرف فيه الوديعة وربح لم يطب له الربح عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- وطاب له عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما عرف.

م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره فأمره الأصيل أن يتعين عليه حريرا) ش: أي على الأصيل، أي أمره أن يشتري له حريرا بطريق العينية م: (ففعل) ش: أي الكفيل م: (فالشراء للكفيل والربح الذي ربح البائع فهو عليه) ش: أي الربح على الكفيل.
م: (ومعناه) ش: أي معنى قوله أن يتعين عليه حريرا م: (الأمر ببيع العينية) ش: يعني أمره أن يشتري حريرا بطريق العينة فعين ذلك بقوله م: (مثل أن يستقرض من تاجر عشرة) ش: أي يطلب من تاجر عشرة دراهم على سبيل الفرض م: (فيتأبى عليه) ش: أي فيمتنع أن يقرضه عشرة م: (ويبيع منه ثوبا يساوي عشرة بخمسة عشر مثلا رغبة في نيل الزيادة) ش: يعني طمعا في الفضل الذي لا يناله المقرض بالقرض ويقول لا يتيسر لي القرض ثم يبيعه ثوبا م: (ليبيعه المستقرض بعشرة ويتحمل عليه خمسة) ش: أي يتحمل المقرض خمسة دراهم يحصل له عشرة دراهم، ولرب الثوب خمسة دراهم بطريق البيع، هذا الذي ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جملة صور العينة.
ومن صورها ما ذكره " قاضي خان " وهو أن يجعل المقرض والمستقرض بينهما ثالثا فيبيع صاحب الثوب باثني عشر من المستقرض، ثم إن المستقرض يبيعه من الثالث بعشرة ويسلم ثم يبيع الثالث من المقرض بعشرة ويأخذ منه عشرة ويدفعها إلى المستقرض فتندفع حاجته، وإنما خللا ثالثا تحرزا عن شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن.
وفي " فتاوى الكردي ": صورته أن يبيع المستقرض سلعة من المقرض بعشرة ويسلم إليه، ثم قال المستقرض يعني باثني عشر فباعه جاز.

(8/461)


سمي به لما فيه من الإعراض عن الدين إلى العين، وهو مكروه لما فيه من الإعراض عن مبرة الإقراض مطاوعة لمذموم البخل. ثم قيل: هذا ضمان لما يخسر المشتري نظرا إلى قوله "علي" وهو فاسد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " محيط السرخسي ": صورته باع متاعه بالعين في المستقرض إلى أجل ثم يبعث متوسطا ليشتري المتاع لنفسه بألف حالة ويقبضه ثم يبيعه من البائع الأول بألف، ثم يحيل المتوسط بائعه على البائع الأول بالثمن الذي عليه ويخرج من الوسط فيدفع البائع الأول ألفا حالة إلى المستقرض ويأخذ منه ألفين عند حلول الأجل وهذا البيع جائز في الحكم، فقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكره، لأنه فعل ذلك كثير من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم يعدوه من الربا.
وقال محمد: هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال أي لها شبهة كأمثال الجبال اخترعه أكلة الربا وقد ذمهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم وظفر عليكم عدوكم» . وفي رواية: «سلط الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم» . وقيل: إياك والعينة فإنها لعينة، والمراد باتباع أذناب البقر الزراعة.
م: (سمي به) ش: أي سمي هذا البيع بيع العينة. وفي نسخة شيخنا: سمي بعينه م: (لما فيه) ش: أي في بيع العينة م: (من الإعراض عن الدين إلى العين وهو مكروه) ش: أي بيع العينة مكروه، إما كراهة تحريم أو كراهة تنزيه على الاختلاف م: (لما فيه من الإعراض عن مبرة الإقراض) ش: المبرة اسم للبر.
وقال الجوهري: البر خلاف العقوق والمبرة مثله تقول بررت والدي بالكسر أبره برا فأنا بر به وبار، وجمع البر الأبرار، وجمع البار البررة، وروى: المصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر، م: (مطاوعة لمذموم البخل) ش: يعني لأجل المطاوعة للبخل الذي هو مذموم وكان الكره حصل من المجموع فإن الإعراض عن الإقراض ليس بمكروه، والبخل الحاصل من طلب الربح في التجارات كذلك وإلا لكانت المرابحة مكروهة.
م: (ثم قيل هذا ضمان) ش: أي قوله أن يتعين عليه ضمان م: (لما يخسر المشتري نظرا) ش: أي بالنظر م: (إلى قوله علي) ش: بالتشديد، لأن كلمة علي تعني الالتزام م: (وهو فاسد) ش: أي الضمان بالخسران فاسد، لأن الخسران ليس بمضمون على أحد لأن الكفالة والضمان إنما يصح بما هو مضمون فلا يصح ضمانه.
كم قال لآخر: بائع في هذا السوق على أن كل وضيعة وخسران يصيبك فأنا ضامن به

(8/462)


وليس بتوكيل، وقيل: هو توكيل فاسد، لأن الحرير غير متعين، وكذا الثمن غير متعين لجهالة ما زاد على الدين، وكيفما كان فالشراء للمشتري وهو الكفيل والربح، أي الزيادة عليه لأنه هو العاقد. قال: ومن كفل عن رجل بما ذاب له عليه، أو بما قضى له عليه فغاب المكفول عنه، فأقام المدعي البينة على الكفيل بأن له على المكفول عنه ألف درهم ولم يقبل ببينته؛ لأن المكفول به مال مقضي به، وهذا في لفظة القضاء ظاهر، وكذا في الأخرى، لأن معنى ذاب تقرر وهو بالقضاء أو مال يقضي به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لك كان باطلا، كذا في " جامع المحبوبي " م: (وليس بتوكيل) ش: لأنه لم يقل: تعين لي، بل قال: تعين علي وهي ليست بكلمة وكالة.
م: (وقيل: هو توكيل فاسد، لأن الحرير غير متعين) ش: إذ الحرير أجناس مختلفة م: (وكذا الثمن غير متعين لجهالة ما زاد على الدين) ش: أي على قدر الدين، وقال الأكمل: فإن قيل: الدين معلوم والمأمور به هو مقداره، فكيف يكون الثمن مجهولا، أجاب بقوله: لجهالة ما زاد على الدين فإنه داخل في الثمن.
م: (وكيفما كان) ش: سواء كان قوله: تعين علي وكالة أو كفالة فاسدة م: (فالشراء للمشتري) ش: بفتح الراء وصح بكسر الراء م: (وهو الكفيل والربح أي الزيادة) ش: أي الزيادة على الدين م: (عليه لأنه هو العاقد قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: ومن كفل عن رجل بما ذاب له) ش: أي بما وجب وثبت له م: عليه أو بما قضى له عليه) ش: أي بما حكم له عليه من الحق م: (فغاب المكفول عنه فأقام المدعي البينة على الكفيل بأن له على المكفول عنه ألف درهم، ولم يقبل ببينته) ش: أي بينة المدعي على الكفيل حتى يحضر المكفول عنه فيقضي به عليه م: (لأن المكفول به مال مقضي به) ش: على الأصيل؛ لأن الكفيل التزم ما لا يقضي به في المستقبل، فما لم يقض به لا يجب شيء على الكفيل القضاء على الأصيل ولم يوجد الشرط ولا يوجد القضاء على الأصيل بهذه البينة حال غيبته، لأنه يكون قضاء على الغائب، وهو لا يصح عندنا خلافا للشافعي ومالك، رحمهما الله.
م: (وهذا في لفظة القضاء) ش: وهو قوله أو بما قضى له عليه م: (ظاهر) ش: لدلالة ما قضى بصراحة عبارته.
م: (وكذا في الأخرى) ش: وكذا ظاهر في المسألة الأخرى وهو قوله: ما ذاب له عليه لأنه يستلزم ذلك م: (لأن معنى ذاب تقرر) ش: وهو بالقضاء وقد قلنا إنه مستعار من ذوب الشحم م: (وهو) ش: أي التقرر م: (بالقضاء) ش: أي إنما هو بالقضاء والدعوى مطلق غير ذلك، فلا مطابقة بينهما م: (أو مال يقضي به) ش: معطوف على قوله: أو بما قضي له، يعني كفل بمال

(8/463)


وهذا ماض أريد به المستقبل كقوله: أطال الله بقاءك، والدعوى مطلق عن ذلك فلا تصح. ومن أقام البينة أن له على فلان كذا وأن هذا كفيل عنه بأمره فإنه يقضي به على الكفيل وعلى المكفول عنه. وإن كانت الكفالة بغير أمره يقضي به على الكفيل خاصة، وإنما تقبل لأن المكفول به مال مطلق بخلاف ما تقدم، وإنما يختلف بالأمر وعدمه لأنهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقضي به بعد الكفالة، فلم توجد هذه الصفقة لا يكون كفيلا به م: (وهذا ماض) ش: أي قوله ذاب أو قضى له ماض، ولكن م: (أريد به المستقبل) ش: وفي نسخة شيخنا أريد به المستأنف، أي يجعل لفظ الماضي بمعنى المستقبل م: (كقوله) ش: أي كقول الداعي لشخص م: (أطال الله بقاءك) ش: فهو وإن كان ماضيا يراد به المستقبل م: (والدعوى مطلق عن ذلك فلا تصح) ش: أي دعوى المدعي على الكفيل مطلقة عن ذلك حيث لم يتعرض لموجب المال بعد الكفالة بل يحتمل أنه كان واجبا قبل الكفالة وذلك لا يدخل تحت الكفالة ففسدت الدعوى فلم تسمع البينة، حتى لو أقام البينة أنه وجب له على الغائب ألف درهم بعد عقد الكفالة قبلت بينته، كذا قالوا في " شرح الجامع الصغير ".
م: ومن أقام البينة أن له على فلان كذا وأن هذا كفيل عنه) ش: أي عن فلان م: بأمره) ش: أي بأمر فلان م: (فإنه) ش: أي فإن المال الذي قامت به البينة م: (يقضى به على الكفيل، وعلى المكفول عنه) ش: الذي هو الغائب م: (وإن كانت الكفالة بغير أمره) ش: أي بغير أمر فلان م: (يقضي به) ش: أي المدعي م: (على الكفيل خاصة) ش: يعني دون الغائب م: (وإنما تقبل) ش: إقامة البينة حتى يقضي بالمال على الكفيل م: (لأن المكفول به مال مطلق) ش: أي عن التوصيف بكونه مقضيا به أو يقتضي به فكانت الدعوى مطابقة للمدعى به فصحت وقبلت البينة لابتنائها على دعوى صحيحة.
م: (بخلاف ما تقدم) ش: أي بخلاف المسألة المتقدمة وهي قوله: ومن كفل عن رجل بما ذاب له..... إلى آخره، حيث لا يقبل بينة المدعي على الكفيل، لأن ثمة المكفول به مال مقيد وهو ما يجب على الكفيل بعد عقد الكفالة ودعوى المدعي وقعت مطلقة لم يتعرض لذلك ففسدت الدعوى فلم تقبل. ثم اعلم أن فائدة القضاء على الكفيل وعلى المكفول عنه أنه لو حضر المكفول عنه لا يحتاج إلى إقامة البينة عليه، لأنه لما أثبت الكفالة على الحاضر بأمر الغائب وقضى القاضي بذلك ثبت أمر الغائب بالكفالة عنه وثبت إقراره بالدين وانتصب الحاضر خصما عن الغائب، بخلاف ما إذا أقام البينة على أنه كفيل بغير أمر الغائب ثبت الدين على الكفيل خاصة ولا يثبت على الغائب شيء لأنه لما لم يثبت الأمر من الغائب لم يتعد القضاء إليه، كذا قال الإمام الزاهد العتابي.
م: (وإنما يختلف) ش: أي حكم القاضي بالرجوع على الأصيل م: (بالأمر وعدمه لأنهما)

(8/464)


يتغايران لأن الكفالة بأمر تبرع ابتداء ومعاوضة انتهاء، وبغير أمر تبرع في الحالين، فبدعواه أحدهما لا يقضى له بالآخر. وإذا قضى بها بالأمر ثبت أمره وهو يتضمن الإقرار بالمال فيصير مقضيا عليه، والكفالة بغير أمره لا تمس جانبه؛ لأنه يعتمد صحتها قيام الدين في زعم الكفيل فلا يتعدى إليه. وفي الكفالة بأمره يرجع الكفيل بما أدى على الآمر. وقال زفر: لا يرجع لأنه لما أنكر فقد ظلم في زعمه فلا يظلم غيره. ونحن نقول: صار مكذبا شرعا فبطل ما في زعمه. قال: ومن باع دارا وكفل رجل عنه بالدرك فهو تسليم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي لأن الكفالة بأمره والكفالة بغير أمره م: (يتغايران، لأن الكفالة بأمر تبرع ابتداء، ومعاوضة انتهاء، وبغير أمر تبرع في الحالين) ش: أي في الابتداء والانتهاء م: (فبدعواه أحدهما) ش: أي أحد عقدي الكفالة م: (لا يقضى له بالآخر) ش: لأن ذلك غير مشهور به م: (وإذا قضى بها) ش: أي بالكفالة، م: (بالأمر ثبت أمره) ش: أي أمر الأصيل، وهو الآمر بالكفالة، م: (وهو) ش: أي الآمر بالكفالة م: (يتضمن الإقرار بالمال) ش: لأنه لا يأمر الكفيل بأن يؤدي عنه إلا إذا كان مقرا بالمال م: (فيصير مقضيا عليه والكفالة بغير أمره لا تمس جانبه) ش: أي جانب المكفول عنه م: (لأنه) ش: أي لأن الأمر أو الشأن م: (يعتمد صحتها) ش: أي صحة الكفالة م: (قيام الدين) ش: ولفظ صحتها مرفوع بقوله يعتمد. وقوله قيام الدين بالنصب مفعول، م: (في زعم الكفيل) ش: لأن المرء يؤاخذ بزعمه والزعم بفتح الزاي وهو لغة أكثر القراء في قَوْله تَعَالَى: {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 136] (الأنعام الآية: 136) وقرأ الكسائي بالضم م: (فلا يتعدى إيه) ش: أي إلى المكفول عنه، لأنها لم تكن بأمره فلم يمس جانبه.
م: (وفي الكفالة بأمره يرجع الكفيل بما أدى على الآمر. وقال زفر: لا يرجع) ش: أي الكفيل على الأصيل م: (لأنه) ش: أي لأن الكفيل م: (لما أنكر فقد ظلم في زعمه) ش: يعني أن الكفيل لما أنكر بزعم أن الطالب ظلمه م: (فلا يظلم غيره ونحن نقول صار مكذبا شرعا) ش: لأن القاضي لما قضى عليه فقد أكذبه فيما زعمه م: (فبطل ما في زعمه) ش: كمن اشترى شيئا وأقر أن البائع باع ملكه ثم استحقه آخر بالبينة لا يبطل حقه في الرجوع بالثمن على البائع، كذا ذكره شمس الأئمة وقاضي خان.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن باع دارا وكفل رجل عنه بالدرك) ش: الدرك عبارة عن قبول ثمن الدار عند استحقاق الدار وضمان الدرك صحيح بإجماع الفقهاء وهو المنصوص عن الشافعي، وأخرج أبو العباس عن الشافعي قولا آخر: أنه لا يصح م: (فهو) ش: أي فضمان الدرك م: (تسليم) ش: من الكفيل وتصديق بأن البائع باع ملك نفسه، والمسألة في " الجامع الصغير ": وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في الرجل يبيع الدار ويكفل رجل للمشتري بما أدركها من درك ثم جاء الكفيل يدعيها، قال: كفالة تسليم للبيع، فإن شهد على البائع وختم لم تكن شهادته وختمه تسليما للبيع، إلى هنا لفظ محمد فيه.

(8/465)


لأن الكفالة لو كانت مشروطة في البيع فتمامه بقبوله، ثم بالدعوى يسعى في نقض ما تم من جهته، وإن لم تكن مشروطة فيه فالمراد بها إحكام البيع وترغيب المشتري فيه إذ لا يرغب فيه، دون الكفالة فنزل منزلة الإقرار بملك البائع. قال: ولو شهد وختم ولم يكفل لم يكن تسليما وهو على دعواه، لأن الشهادة لا تكون مشروطة في البيع ولا هي إقرارا بالملك؛ لأن البيع مرة يوجد من المالك وتارة من غيره، ولعله كتب الشهادة ليحفظ الحادثة بخلاف ما تقدم، قالوا: إذا كتب في الصك باع وهو يملكه أو بيعا باتا نافذا وهو كتب شهد بذلك فهو تسليم إلا إذا كتب الشهادة على إقرار المتعاقدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال المصنف م: (لأن الكفالة لو كانت مشروطة في البيع فتمامه) ش: يعني لو باع بشرط الكفالة كان تمام البيع متعلقا م: (بقبوله) ش: أي بقبول الكفيل فصار كأنه هو الموجب للعقد ولا يصح دعواه بعد ذلك، وهو معنى قوله م: (ثم بالدعوى) ش: بعد ذلك م: (يسعى في نقض ما تم من جهته) ش: فلا يجوز ذلك م: (وإن لم تكن) ش: أي الكفالة م: (مشروطة فيه) ش: أي في البيع م: (فالمراد بها) ش: أي بالكفالة م: (إحكام البيع) ش: بكسر الهمزة أي إتقانه م: (وترغيب المشتري فيه) ش: أي في البيع م: (إذ لا يرغب) ش: المشتري م: (فيه دون الكفالة) ش: خوفا من الاستحقاق م: (فنزل منزلة الإقرار بملك البائع) ش: أي بمنزلة قوله: اشتر هذه الدار ولا تبالي فإنها ملك البائع. ومن أقر بملك البائع لا تصح دعواه بعد ذلك، وإنما قال: ينزل منزلة الإقرار لأنه يئول إليه في المعنى.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولو شهد) ش: أي لو شهد الشاهد على بيع الدار م: (وختم) ش: شهادته بأن كتب اسمه في الصك وجعل اسمه تحت رصاص مكتوبا ووضع عليه نقش خاتمه حتى لا يجري فيه التزوير والتبديل، كذا ذكره شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل لفظ ختم وقع اتفاقا باعتبار عادة العرب، وهذا عرف زمانهم، أما في زماننا هذا العرف لم يبق م: (ولم يكفل لم يكن تسليما. وهو على دعواه؛ لأن الشهادة لا تكون مشروطة في البيع) ش: لعدم الملازمة م: (ولا هي) ش: أي الشهادة م: (إقرارا بالملك لأن البيع مرة يوجد من المالك وتارة من غيره، ولعله كتب الشهادة ليحفظ الحادثة بخلاف ما تقدم) ش: من ضمان الدرك، فإنه إقرار بالملك.
م: (قالوا) ش: مشايخنا م: (إذا كتب في الصك باع) ش: فلان م: (وهو) ش: أي والحال أنه م: (يملكه أو بيعا باتا) ش: أي أو باع بيعا باتا م: (نافذا وهو) ش: أي الشاهد م: (كتب شهد بذلك فهو تسليم) ش: فلا تصح دعواه م: (إلا إذا كتب الشهادة على إقرار المتعاقدين) ش: فإنه ليس بتسليم وإن كان المكتوب فيما يدل على الصحة والنفاذ.

(8/466)


فصل في الضمان قال: ومن باع لرجل ثوبا وضمن له الثمن أو مضارب ضمن ثمن متاع رب المال فالضمان باطل؛ لأن الكفالة التزام المطالبة وهي إليهما فيصير كل واحد منهما ضامنا لنفسه، ولأن المال أمانة في أيديهما والضمان تغيير لحكم الشرع فيرد عليه كاشتراطه على المودع والمستعير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل في الضمان]
[باع لرجل ثوبا وضمن له الثمن]
م: (فصل في الضمان) ش: أي هذا فصل في بيان الضمان، والضمان والكفالة بمعنى واحد، ولكن لما كان هذا الفصل في مسائل " الجامع الصغير ": ووردت فيه بلفظ الضمان فلذلك فصلها لتغاير في اللفظ، ولهذا سمى أكثر الفقهاء باب الكفالة باب الضمان.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن باع لرجل ثوبا وضمن له الثمن) ش: أي باع لأجل رجل ثوبا وضمن البائع للآمر الثمن، صورته في " الجامع ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في الرجل يعطي الرجل ثوبا ليبيعه بعشرة ففعل ثم ضمن البائع الثمن للآمر، قال: الضمان باطل.
م: (أو مضارب ضمن ثمن متاع رب المال) ش: أي أو باع مضارب من المتاع شيئا وضمن لرب المال م: (فالضمان باطل) ش: في الصورتين م: (لأن الكفالة التزام المطالبة وهي) ش: أي المطالبة م: (إليهما) ش: أي إلى الوكيل والمضارب أو حقوق العقد يرجع إلى العقد فاختصت المطالبة به، فلو صح الضمان منهما م: (فيصير كل واحد منهما ضامنا لنفسه) ش: وإنه لا يجبر يجوز، بخلاف الوكيل بالنكاح، فإن ضمن المهر من الزوج يصح، لأنه سفير، ولهذا لا يلي قبض المهر فلا يصير ضامنا لنفسه، كذا ذكره المرغيناني، والمحبوبي، وعلى قياس من قول الأئمة الثلاثة ينبغي أن يصح هذا الضمان، لأن للموكل ولاية مطالبة الثمن فلا يكون ضامنا لنفسه كما في النكاح.
م: (ولأن المال) ش: هذا وجه آخر في تعليل المسألتين المذكورتين وهو أن المال م: (أمانة في أيديهما) ش: أي في يد الوكيل والمضارب والأمين لا يكون ضمينا م: (والضمان تغيير لحكم الشرع) ش: لأنه يناقضه م: (فيرد عليه) ش: أي على الضامن م: (كاشتراطه) ش: أي كاشتراط الضمان م: (على المودع) ش: بفتح الدال.
م: (والمستعير) ش: فإنه لا ضمان عليهما شرعا، فاشتراطه يكون تغييرا للمشروع فلا يجوز، وكمن عليه السهو إذا سلم بنية قصد الخروج، يرد عليه، ولا يخرج حتى كان له أن يعود إلى سجدتي السهو، وكمن نذر أن يصوم غدا وعليه قضاء رمضان يجوز له صوم القضاء، فيرد عليه نية تعيينه الغد لصوم النذر؛ لأنه تغيير المشروع وهو صلاحية الغد لصوم القضاء.

(8/467)


وكذلك رجلان باعا عبدا صفقة واحدة وضمن أحدهما لصاحبه حصته من الثمن؛ لأنه لو صح الضمان مع الشركة يصير ضامنا لنفسه. لو صح في نصيب صاحبه خاصة يؤدي إلى قسمة الدين قبل قبضه ولا يجوز ذلك. بخلاف ما إذا باعا بصفقتين؛ لأنه لا شركة، ألا ترى أن للمشتري أن يقبل نصيب أحدهما ويقبض إذا نقد ثمن حصته وإن قبل الكل. قال: ومن ضمن عن آخر خراجه ونوائبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذلك) ش: أي وكذلك لا يصح الضمان إذا كان م: (رجلان باعا عبدا صفقة واحدة وضمن أحدهما لصاحبه حصته من الثمن؛ لأنه لو صح الضمان مع الشركة) ش: أي مع بقاء الشركة الشائعة م: (يصير ضامنا لنفسه) ش: لأن ما من جزء من الثمن إلا وهو مشترك بينهما م: (ولو صح) ش: أي الضمان م: (في نصيب صاحبه خاصة يؤدي إلى قسمة الدين قبل قبضه) ش: حيث امتاز نصيب أحدهما والدين لا يحتمل قسمة قبل القبض، لأن القسمة إفراز، والإفراز يتحقق في الأعيان لا في الأوصاف.
والدين وصف، ولأن في القسمة معنى التمليك، وتمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز، كذا في " جامع قاضي خان " م: (ولا يجوز ذلك) ش: أي قسمة الدين قبل قبضه.
م: (بخلاف ما إذا باعا) ش: عبدا م: (بصفقتين) ش: بأن سمى كل واحد منهما لنفسه ثمنا ثم ضمن أحدهما الآخر صح ضمانه، م: (لأنه لا شركة) ش: إذ نصيب كل منهما ممتاز عن نصيب الآخر، م: (ألا ترى) ش: توضيح لما قبله م: (أن للمشتري أن يقبل نصيب أحدهما ويقبض إذا نقد ثمن حصته وإن قبل الكل) ش: أي: وإن قبل المشتري الكل بكلام واحد.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن ضمن عن آخر خراجه ونوائبه) ش: جمع نائبة. واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: المراد منه ما يكون بحق كأجر الحارس كري نهر العامة، وأنه دين وسمى نائبه، وقال بعضهم: هو ما يحتاج الإمام إليه نحو تجهيز المقاتلين.
وكفداء الأسارى بأن لا يكون في بيت المال شيء فيوظف ما على الناس فيجوز ذلك، فيجب أداؤه على كل موسر نظرا للمسلمين فضمن إنسان قسمة صاحبه أي نصيبه من ذلك يجوز.
وأما النوائب التي يوظفها السلطان على الناس كالجبايات في زماننا بسبيل الظلم فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تصح الكفالة بها لأنه لا دين عليه فلا تصح. وقال بعضهم: يصح حتى إذا أدى بعدما ضمن بأمره يرجع عليه، لأن العبرة في الكفالة لتوجه المطالبة حسا، فكان بمنزلة دين واجب، وإليه ذهب فخر الإسلام البزدوي. وأما النوائب الكبرى الداهية الدهياء التي هي المكس فهي حرام قطعا، فلا تجوز الكفالة بها، ولا التصرف فيها

(8/468)


وقسمته فهو جائز. أما الخراج فقد ذكرناه وهو يخالف الزكاة لأنها مجرد فعل، ولهذا لا تؤدى بعد موته من تركته إلا بوصيته. وأما النوائب فإن أريد بها ما يكون بحق ككري النهر المشترك، وأجرة الحارس والموظف لتجهيز الجيش وفداء الأسارى وغيرها جازت الكفالة بها على الاتفاق. وإن أريد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بوجه من الوجوه أصلا وقد لعن الشارع صاحب المكس م: (وقسمته) .
ش: قال الفقيه أبو الليث السمرقندي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذكر عن أبي بكر بن أبي سعيد أنه قال: وقع هذا الحرف غليظا لأنه لا معنى له، يعني أن القسمة مصدر والمصدر فهو الفعل غير مضمون، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: معناه إذا طلب أحد الشريكين القسمة من صاحبه وامتنع صاحبه من ذلك، فإن القسمة واجبة عليه، فإذا ضمن إنسان ليقوم مقامه في القسمة يجوز ذلك، لأنه ضمن شيئا مضمونا وهو يقدر على ذلك، يعني على إيفائه، وقال بعضهم، منهم فخر الإسلام البزدوي: يحتمل أن يكون المراد بالقسمة ما وظف عليه من النوائب الراتبة كأجرة الحارس ونحوها. وقيل: القسمة تجيء بمعنى النصيب، قال الله تعالى: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم} [القمر: 28] (القمر: الآية 28) ، والمراد النصيب، وقال بعضهم: معناه إذا اقتسما ثم منع أحد الشريكين قسم صاحبه.
قال الأكمل: فتكون الرواية على هذا قسمة بالضمير لا بالتاء. م: (فهو جائز) ش: جواب عن قوله ومن ضمن. م: (أما الخراج) ش: هذا مشروع في بيان قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجامع وهو الذي ذكره أولا بقوله: ومن ضمن إلى آخره، م: (فقد ذكرناه) ش: أي قبل هذا الفصل بقوله والرهن والكفالة في الخراج بلا خلاف، م: (وهو يخالف الزكاة لأنها) ش: أي لأن الزكاة م: (مجرد فعل) ش: وهو تمليك المال من غير أن يكون دينا.
وفي " الفوائد الظهيرية ": الخراج دين كسائر الديون، كأنه أراد به الموظف مخالف الزكاة في الأموال الظاهرة حيث لا يجوز الضمان لها، لأن الواجب جزء من النصاب وهو غير مضمون بدليل أنه لو هلك لا يضمن شيئا والكفالة بأعيان غير مضمونة باطلة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون الزكاة مجرد فعل م: (لا تؤدى بعد موته) ش: أي بعد موت من عليه الزكاة م: (من تركته إلا بوصيته) ش: منه وقد عرف في موضعه.
م: (وأما النوائب فإن أريد بها ما يكون بحق ككري النهر المشترك وأجرة الحارس والموظف) ش: من جهة الإمام م: (لتجهيز الجيش) ش: عند خلو بيت المال م: (وفداء الأسارى) ش: وهو تخليصهم من الأسر من أيدي الكفرة م: (وغيرها) ش: كإطفاء النائرة، م: (جازت الكفالة بها) ش: أي من النوائب بالحق م: (على الاتفاق) ش: بين أصحابنا وغيرهم من الفقهاء م: (وإن أزيد

(8/469)


بها ما ليس بحق كالجبايات في زماننا ففيه اختلاف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وممن يميل إلى الصحة الإمام علي البزدوي. وأما القسمة فقد قيل: هي النوائب بعينها أو حصة منها، والرواية "بأو" وقيل: هي النائبة الموظفة الراتبة، والمراد بالنوائب ما ينوبه غير راتب والحكم ما بيناه. ومن قال لآخر: لك علي مائة إلى شهر، وقال المقر له: هي حالة، فالقول قول المدعي. ومن قال: ضمنت لك عن فلان مائة إلى شهر، وقال المقر له: هي حالة، فالقول قول الضامن. ووجه الفرق أن المقر أقر بالدين، ثم ادعى حقا لنفسه وهو تأخير المطالبة إلى أجل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بها) ش: أي من النوائب م: (ما ليس بحق) ش: بل لظلم من الملوك الظلمة م: (كالجبايات) ش: وهي الصادرات م: (في زماننا ففيه اختلاف المشايخ) ش: وقد ذكرناه عن قريب مفصلا م: (وممن يميل إلى الصحة) ش: أي صحة الكفالة بها م: (الإمام علي البزدوي) ش: وهو فخر الإسلام علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم النسفي لا أخوه صدر الإسلام محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم النسفي وعبد الكريم هذا كان تلميذ الشيخ الإمام أبي المنصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي.
م: (وأما القسمة فقد قيل: هي النوائب بعينها أو حصة منها) ش: أي أو حصة الرجل من النوائب، يعني إذا قسم الإمام ما ينوب العامة نحو مؤنة ككري النهر المشترك فأصاب واحدا شيء من ذلك فكفل به رجل صحت الكفالة بالإجماع، قيل: ولكن كان ينبغي أن يذكر الرواية على هذا التقدير وقسمته بالواو ليكون عطف الخاص على العام كما في قوله عز وجل: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} [البقرة: 98] م: (البقرة الآية 98) ش: وقال المصنف م: (والرواية بأو) ش: أي بكلمة أو على تقدير أن تكون القسمة حصة من النوائب، لأن القسمة إذا كانت حصة منها فهو محل أو، أما إذا كانت هي النوائب بعينها فهو محل الواو.
م: (وقيل: هي النائبة الموظفة الراتبة) ش: أي المقاطعات الديوانية في كل شهر أو ثلاثة أشهر، كذا في " الفوائد الظهيرية "، وفسروها في شروح " الجامع الصغير " بأجرة الحارس ونحوها م: (والمراد بالنوائب) ش: أي بالنوائب المذكورة أولا م: (ما ينوبه غير راتب) ش: أي ما ينوب الشخص مما هو غير متعارف ولا موظف م: (والحكم ما بيناه) ش: يعني جواز الكفالة فيما كان بحق بالاتفاق، واختلاف المشايخ فيما كان بغير حق.
م: (ومن قال لآخر: لك علي مائة إلى شهر، وقال المقر له: هي حالة فالقول قول المدعي) ش: وهذه والتي بعدها من مسائل " الجامع الصغير " وهي قوله م: (ومن قال: ضمنت لك عن فلان مائة إلى شهر، وقال المقر له: هي حالة فالقول قول الضامن) ش: أي في ظاهر الرواية، وقال قاضي خان في " شرح الجامع الصغير ": قال الشافعي: القول قول المقر في الفصلين على ما يجيء م: (ووجه الفرق) ش: بين المسألتين م: (أن المقر أقر بالدين ثم ادعى حقا لنفسه وهو تأخير المطالبة إلى أجل) ش:

(8/470)


وفي الكفالة ما أقر بالدين؛ لأنه لا دين عليه في الصحيح، إنما أقر بمجرد المطالبة بعد الشهر، ولأن الأجل في الديون عارض حتى لا يثبت إلا بالشرط، فكان القول قول من أنكر الشرط كما في الخيار. أما الأجل في الكفالة فنوع منها حتى يثبت من غير شرط إن كان مؤجلا على الأصيل، والشافعي ألحق الثاني بالأول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمقر له ينكر ذلك، فالقول قول المنكر في الشرع. م: (وفي الكفالة ما أقر) ش: أي الكفيل م: (بالدين لأنه لا دين عليه في الصحيح) ش: من الجواب، ولهذا لو أقر بدين الطالب الكفيل فرده الكفيل لا يرتد برده فعلم أن لا دين عليه م: (إنما أقر بمجرد المطالبة بعد الشهر) ش: والمكفول له يدعي حق المطالبة لنفسه في الحال، والضامن ينكر ذلك القول فالقول للمنكر.
فإن قيل: فعلي هذا التقدير تتعطل الكفالة عن موجبها، وهو إلزام المطالبة، فينبغي ألا يكون القول للضامن، قلنا: لا يتعطل لأن التزام المطالبة إما للحال أو في المستقبل، وقد وجد منها التزام المطالبة في المستقبل، فكانت صحيحة، إليه أشار في " الفوائد الظهيرية ".
م: (ولأن الأجل في الديون عارض) ش: هذا بيان فوق آخر ذكره لمن له زيادة استكبار في الاستقضاء، لأن الفرق الأول إقناعي جدلي لدفع الخصم في المجلس، ومبنى هذا الفرق على ما لا يثبت لشيء إلا بشرط لم يثبت له ذلك، فكان عارضا. والأجل في الديون بهذه المثابة، م: (حتى لا يثبت إلا بالشرط) ش: لأن ثمن البياعات والمهور وقيم المتلفات حالة لا يثبت الأجل إلا بالشرط م: (فكان القول قول من أنكر الشرط كما في الخيار) ش: إذا ادعى أحد المتعاقدين خيار الشرط وينكر الآخر فالقول لمنكر الشرط مع اليمين.
م: (أما الأجل في الكفالة فنوع منها) ش: أي نوع من الكفالة، يعني أن الكفالة الموجلة أحد نوعي الكفالة م: (حتى يثبت من غير شرط، إن كان مؤجلا على الأصيل) ش: لأن الأجل في الكفالة ذاتي، فإذا كان ذاتيا كان إقراره نوعا منها فلا يحكم بغيره، فكان القول قوله.
م: (والشافعي ألحق الثاني بالأول. وأبو يوسف فيما يروى عنه ألحق الأول بالثاني) ش: هكذا وقع في عامة النسخ وليس بصحيح، بل الصحيح عكسه، فإن الشافعي ألحق الأول بالثاني، وأبا يوسف ألحق الثاني بالأول، وذلك لأن الشافعي قال: القول للمقر في الفصلين جميعا. وبيانه أن الشافعي ألحق الإقرار بالدين، بالإقرار بالكفالة، حيث صدق المقر بالدين الموجل كما صدقنا المقر بالكفالة، وأبو يوسف ألحق الإقرار بالكفالة المؤجلة بالإقرار بالدين المؤجل حيث لم يصدق المقر فيهما جميعا.
وفي " الكافي ": ما ذكر في الهداية أن الشافعي ألحق الثاني بالأول - مشكل، لأن مذهبه على عكسه فيحتمل أن يكون له قولان، أو لفظ المصنف الشافعي: ألحق الأول بالثاني وأبو يوسف

(8/471)


وأبو يوسف فيما يروى عنه ألحق الأول بالثاني، والفرق قد أوضحناه، قال: ومن اشترى جارية فكفل له رجل بالدرك فاستحقت لم يأخذ الكفيل، حتى يقضى له بالثمن على البائع؛ لأن بمجرد الاستحقاق لا ينتقض البيع على ظاهر الرواية ما لم يقض له بالثمن على البائع فلم يجب له على الأصيل رد الثمن، فلا يجب على الكفيل، بخلاف القضاء بالحرية؛ لأن البيع يبطل بها لعدم المحلية فيرجع على البائع والكفيل، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يبطل البيع بالاستحقاق، فعلى قياس قوله يرجع بمجرد الاستحقاق، وموضعه أوائل الزيادات في ترتيب الأصل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني بالأول، وهكذا في شرح البزدوي الظهيري وقع الخطأ من الكاتب. وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فمن الشارحين من حمل على الروايتين عن كل واحد منهما. ومنهم من حمله على الغلط، ولعله أظهر، م: (والفرق) ش: بين المسألتين م: (قد أوضحناه) ش: عند قوله: ووجه الفرق أن المقر أقر بالدين ثم ادعى حقا لنفسه ... إلى آخره.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى جارية فكفل له رجل بالدرك) ش: وتفسير الدرك مر م: (فاستحقت لم يأخذ الكفيل حتى يقضى له بالثمن على البائع لأن بمجرد الاستحقاق) ش: أي القضاء بالاستحقاق والقضاء بالمبيع للمستحق م: (لا ينتقض البيع على ظاهر الرواية ما لم يقض له بالثمن على البائع) ش: لأن احتمال الإجازة ثابت، أي لأن احتمال إجازة المستحق البيع ثابت م: (فلم يجب له على الأصيل رد الثمن، فلا يجب على الكفيل) ش: لأن الكفالة محل للضمان عن غيره فلم يقض على الأصيل، لأنه قد يجب التحمل على الكفيل، وإنما قيد بقوله: في ظاهر الرواية احترازا عن رواية " الأمالي "، قال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع "، قال أبو يوسف في " الأمالي ": له أن يأخذ الكفيل قبل أن يقضي على البائع، وهو رواية عن أبي حنيفة، وبه قالت الأئمة الثلاثة. م: (بخلاف القضاء بالحرية؛ لأن البيع يبطل بها) ش: حيث ينتقض البيع بمجرد القضاء بها م: (لعدم المحلية) ش: أي محلية البيع، م: (فيرجع) ش: أي المشتري م: (على البائع والكفيل) ش: أي وعلى الكفيل أيضا إن شاء م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يبطل البيع بالاستحقاق، فعلى قياس قوله يرجع بمجرد الاستحقاق وموضعه) ش: أي موضع هذا، م: (أوائل الزيادات في ترتيب الأصل) ش: أراد بترتيب الأصل المحلية، أي ترتيب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه افتتح كتاب الزيادات بباب المأذون مخالفا لترتيب سائر الكتب تبركا بما أملى به أبو يوسف، فإن محمدا أخذ ما أملى أبو يوسف بابا بابا وجعله أصلا وزاد عليه من عنده ما يتم به تملك الأبواب، فكان أصل الكتاب من تصنيف أبي يوسف وزيادته من تصنيف محمد، فلذلك سماه كتاب " الزيادات ".
وكان ابتداء إملاء أبي يوسف في هذا الكتاب من أبواب المأذون، ولم يغيره محمد تبركا

(8/472)


ومن اشترى عبدا فضمن له رجل بالعهدة فالضمان باطل، لأن هذه اللفظة مشتبهة قد تقع على الصك القديم وهو ملك البائع فلا يصح ضمانه، وقد تقع على العقد وعلى حقوقه وعلى الدرك وعلى الخيار، ولكل ذلك وجه، فتعذر العمل بها، بخلاف الدرك لأنه استعمل في ضمان الاستحقاق عرفا، ولو ضمن الخلاص لا يصح عند أبي حنيفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
به، ثم رتبها الزعفراني على هذا الترتيب الذي عليه اليوم، والزعفراني هذا تلميذ محمد بن الحسن.

[اشترى عبدا فضمن له رجل بالعهدة]
م: (ومن اشترى عبدا فضمن له رجل بالعهدة فالضمان باطل) ش: هنا ثلاث مسائل: ضمان العهدة وضمان الدرك وضمان الخلاص.
فضمان الدرك جائزة باتفاق أصحابنا، وضمان العهدة باطل عندهم بالاتفاق، وضمان الخلاص باطل عند أبي حنيفة وجائز عندهما، وأما ضمان العهدة فقد ذكر في " الجامع الصغير " أنه باطل ولم يحك خلافا، وذكر بعض مشايخنا أن عند أبي حنيفة ضمان العهدة ضمان الدرك.
وذكر الصدر الشهيد في " أدب القاضي " للخصاف: أن تفسير الخلاص والدرك والعهدة واحد عند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- وهو الرجوع بالثمن على البيع عند الاستحقاق. وبه قالت الأئمة الثلاثة، وعند أبي حنيفة شرط.
وفي تفسير الصك الأصل الذي كان عند البائع يشترط أن يسلمه إليه، وهذا شرط لا يقتضيه العقد أو لأحد المتعاقدين فيه منفعة فكان باطلا والضمان به باطل أيضا، لأنه التزام شيء لا يقدر عليه، م: (لأن هذه اللفظة) ش: أي لفظة العهدة م: (مشتبهة) ش: في المراد لاشتراكها فلا يجب العمل به قبل البيان؛ لأنها م: (قد تقع) ش: أي قد تطلق م: (على الصك القديم) ش: لأنه وثيقة بمنزلة كتاب العهد فسمي عهدة لأنه م: (وهو) ش: أي الصك القديم م: (ملك البائع فلا يصح ضمانه، وقد تقع على العقد) ش: لأن العهدة أخذت من العهد، والعهد والعقد سواء م: (وعلى حقوقه) ش: أي وقد تقع هذه اللفظة على حقوق العهد؛ لأنها من ثمرات العقد م: (وعلى الدرك) ش: أي وقد يقع على الحديث عهدة الرقيق ثلاثة أيام، م: (وعلى الخيار) ش: أي خيار الشرط م: (ولكل ذلك وجه) ش: يجوز الحمل به عليه فصار بهما، م: (فتعذر العمل بها) ش: قبل البيان فيبطل الضمان للجهالة.
م: (بخلاف الدرك) ش: حيث يصح ضمان الدرك م: (لأنه) ش: أي لأن ضمان الدرك، م: (استعمل في ضمان الاستحقاق عرفا) ش: فيصح.
م: (ولو ضمن الخلاص لا يصح عند أبي حنيفة) ش: وبه قال أحمد في رواية واختاره القاضي

(8/473)


لأنه عبارة عن تخليص المبيع وتسليمه لا محالة، وهو غير قادر عليه. وعندهما هو بمنزلة الدرك وهو تسليم المبيع أو قيمته فيصح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحنبلي م: (لأنه) ش: أي لأن ضمان الخلاص م: (عبارة عن تخليص المبيع) ش: الاستحقاق م: (وتسليمه) ش: أي وتسليم المبيع إلى المشتري م: (لا محالة وهو غير قادر عليه) ش: لأن المبيع إذا خرج حرا أو مستحقا كيف يخلصه.
م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (هو) ش: أي ضمان الخلاص، م: (بمنزلة الدرك) ش: أي بمنزلة ضمان الدرك، م: (وهو تسليم المبيع) ش: وهو أن يشترط على البائع أن المبيع إن استحق من يده يخلصه م: (أو قيمته) ش: أو أن يسلم قيمة المبيع إن عجز عن تسليم المبيع، فإذا كان كذلك م: (فيصح) ش: أي ضمان الخلاص، هذا الذي ذكره المصنف، ذكره المحبوبي في جامعه وقاضي خان.
وقال شمس الأئمة: تفسير شرط الخلاص أن يشترط على البائع أن المبيع إن استحق من يده يخلصه ويسلمه بأي طريق يقدر عليه وهذا باطل لأنه شرط لا يقدر عليه الوفاء به، إذ المستحق ربما لا يساعده عليه، ولهذا ذكر أبو زيد في شروطه أن أبا حنيفة وأبا يوسف - رحمهما الله - كانا يكتبان في الشروط: فما أدرك فلان بن فلان قبل فلان خلصه أو رد الثمن، وإن لم يذكر رد الثمن يفسد البيع لأنه يبقى الضمان بتخليص المبيع، وأنه باطل، وعلم من هذا أن الخلاف فيما إذا ذكر ضمان الخلاص مطلقا. أما إذا ذكر بخلاص المبيع أو رد الثمن يجوز بالإجماع، والله أعلم.

(8/474)


باب كفالة الرجلين وإذا كان الدين على اثنين وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه، كما إذا اشتريا عبدا بألف درهم، وكفل كل واحد منهما عن صاحبه، فما أدى أحدهما لم يرجع على شريكه حتى يزيد ما يؤديه على النصف فيرجع بالزيادة؛ لأن كل واحد منهما في النصف أصيل، وفي النصف الآخر كفيل، ولا معارضة بين ما عليه بحق الأصالة وبحق الكفالة؛ لأن الأول دين والثاني مطالبة، ثم هو تابع للأول فيقع عن الأول، وفي الزيادة لا معارضة فيقع عن الكفالة ولأنه لو وقع في النصف عن صاحبه فيرجع عليه فلصاحبه أن يرجع عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب كفالة الرجلين]
[كان الدين على اثنين وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه]
م: (باب كفالة الرجلين) ش: أي هذا باب في بيان حكم كفالة الرجلين، ولما ذكر كفالة الواحد عقبه بكفالة الاثنين، إذ الاثنان بعد الواحد وجودا، وكذا ذكرا.
م: (وإذا كان الدين على اثنين وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه) ش: أي لرب الدين، وهذا لفظ القدوري في "مختصره" وذكر المصنف نظير الدين الكائن على اثنين من " الجامع الصغير " بقوله م: (كما إذا اشتريا) ش: أي الاثنان م: (عبدا بألف درهم وكفل كل واحد منهما عن صاحبه) ش: لما ذكر هذا من " الجامع " أتم لفظ القدوري بقوله م: (فما أدى أحدهما لم يرجع على شريكه حتى يزيد ما يؤديه على النصف فيرجع بالزيادة) ش: هذا جواب المسألتين، ثم عللهما بقوله م: (لأن كل واحد منهما في النصف أصيل، وفي النصف الآخر كفيل، ولا معارضة بين ما عليه بحق الأصالة وبحق الكفالة؛ لأن الأول دين) ش: الأول هو الأصالة وهو دين، لأنه أداء بحقيقة الدين.
م: (الثاني) ش: هو حق الكفالة م: (مطالبة) ش: لأن ما عليه بطريق الكفالة من ثمرات الدين وهو المطالبة م: (ثم هو) ش: أي الثاني وهو المطالبة بالدين بالكفالة م: (تابع للأول) ش: أي الدين، وفي " المحيط ": الدين أقوى من المطالبة، ألا ترى أن الطالب يمكن إخراجه عن المطالبة ولا يملك في حق ما لزم الأصيل، فلما لم يستويا في القوة لم تثبت المعارضة م: (فيقع عن الأول) ش: أي عن حق الأصالة لأنه أقوى، لأن الأصل فرق التبع.
م: (وفي الزيادة) ش: أي على النصف م: (لا معارضة) ش: لأنه لم يبق معارضة الأصل م: (فيقع عن الكفالة) ش: فيرجع فيما أدى فيما وراءه النصف م: (ولأنه) ش: دليل آخر على ذلك أورده بقياس الخلف، فإنه جعل نقيض المدعي وهو الرجوع على صاحبه مستلزما لمحال وهو رجوع صاحبه المستلزم للدور فإنه قال م: (لو وقع في النصف عن صاحبه فيرجع عليه فلصاحبه أن يرجع عليه) ش: لكن ليس لصاحبه أن يرجع عليه لأنه يؤدي إلى الدور، فلم يرجع في النصف عن صاحبه ليرجع عليه.

(8/475)


لأن أداء نائبه كأدائه فيؤدي إلى الدور، وإذا كفل رجلان عن رجل بمال على أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فكل شيء أداه أحدهما رجع على صاحبه بنصفه قليلا كان أو كثيرا. ومعنى المسألة في الصحيح أن تكون الكفالة بالكل عن الأصيل وبالكل عن الشريك، والمطالبة متعددة فيجتمع الكفالتان على ما مر، وموجبها التزام المطالبة فتصح الكفالة عن الكفيل كما تصح الكفالة عن الأصيل، وكما تصح الحوالة من المحتال عليه. وإذا عرف هذا فما أداه أحدهما وقع شائعا عنهما، إذ الكل كفالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله م: (لأن أداء نائبه كأدائه) ش: بيان للملازمة، وتقريره أن صاحب المؤدي يقول له: أنت أديت عني بأمري فيكون ذلك كأدائه، ولو أديت بنفسي كان لي أن أجعل المؤدي عنك فإن رجعت علي وأنا كفيل عنك قائما أجعله عنك فأرجع عليك، لأن ذلك الذي أديته عني فهو كأدائي في التقدير.
ولو أديت حقيقة رجعت عليك ففي تقدير أدائي كذلك، والشريك الآخر يقول مثل ما قال، م: (فيؤدي إلى الدور) ش: ولم يكن في الرجوع فائدة فجعلنا المؤدي عن نصيبه خاصة إلى تمام النصف لينقطع الدور، بخلاف الزيادة على النصف، فإنه لو رجع على شريكه بذلك لم يكن لشريكه أن يرجع عليه، إذ ليس على شريك بحكم الأصالة إلا النصف، فيفيد الرجوع.
م: (وإذا كفل رجلان عن رجل بمال على أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه، فكل شيء أداه أحدهما رجع على صاحبه بنصفه قليلا كان أو كثيرا، ومعنى المسألة في الصحيح) ش: قال تاج الشريعة: قوله في الصحيح، أي كفل كل واحد منهما مجموع الدين لرب الدين ثم صار كل واحد كفيلا عن صاحبه بجميع المال. وقال الأكمل: وإنما قال في الصحيح لتتأتى الفروع المبينة على ذلك، فإنه قال على الأصيل.... إلى آخره، على ما يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.
وقال الكاكي: إنما قال في الصحيح لأنه لو جعل كل واحد منهما كفيلا بالنصف لما صح النصف الذي يأتي م: (أن تكون الكفالة بالكل عن الأصيل وبالكل عن الشريك والمطالبة متعددة) ش: لأن كل واحد من الكفيلين مطالب بالكل من جهة الأصيل، ومطالبة بالكل أيضا من جهة الكفيل م: (فيجتمع الكفالتان) ش: فتعددت المطالبتان لتعدد الكفالتين م: (على ما مر) ش: إشارة إلى أن الكفالة التوثق، وعند اجتماع الكفالتين يزداد التوثق م: (وموجبها) ش: أي موجب الكفالة، م: (التزام المطالبة فتصح الكفالة عن الكفيل، كما تصح الكفالة عن الأصيل، وكما تصح الحوالة من المحتال عليه) ش: أي كما تصح حوالة المحتال عليه بما جعل ما عليه على آخر، والجامع بينهما التزام ما وجب.
م: (وإذا عرف هذا) ش: أي الذي ذكرناه م: (فما أداه أحدهما وقع شائعا عنهما إذ الكل كفالة)

(8/476)


فلا ترجيح للبعض على البعض، بخلاف ما تقدم فيرجع على شريكه بنصفه، ولا يؤدي إلى الدور؛ لأن قضيته الاستواء، وقد حصل برجوع أحدهما بنصف ما أدى، فلا ينقض برجوع الآخر عليه، بخلاف ما تقدم، ثم يرجعان على الأصيل؛ لأنهما أديا عنه أحدهما بنفسه والآخر بنائبه، وإن شاء رجع بالجميع على المكفول عنه لأنه كفل بجميع المال عنه بأمره. قال: وإذا أبرأ رب المال أحدهما أخذ الآخر بالجميع؛ لأن إبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل، فبقي المال كله على الأصيل، والآخر كفيل عنه بكله على ما بيناه، ولهذا يأخذه به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: فيقع شائعا م: (فلا ترجيح للبعض على البعض) ش: لأن الكل كفالة م: (بخلاف ما تقدم) ش: أي في المسألة الأولى حيث لا يرجع على صاحبه ما لم يزد على النصف، لأن أداء النصف كان بحق الأصالة، والنصف الآخر بحق الكفالة م: (فيرجع على شريكه بنصفه ولا يؤدي إلى الدور، لأن قضيته الاستواء) ش: الاستواء بهما في العلة وهي ضمان الكفالة، فلما كان كذلك كان لمن أدى ولاية الرجوع على صاحبه بنصف ما أدى، لأنه مستو لصاحبه في التزام بجهة، فوجب أن يستويا في العزم بسببه.
م: (وقد حصل) ش: أي الاستواء م: (برجوع أحدهما بنصف ما أدى فلا ينقض برجوع الآخر عليه) ش: لأنه لو رجع الشريك على هذا المؤدي ما بقيت المساواة م: (بخلاف ما تقدم) ش: لأن كل واحد منهما لم يلتزم جميع المال بحكم الكفالة بل التزم نصف المال بشرائه بنفسه بكفالة ولو لم يكن عن شريكه وجعل المؤدي عن الكفالة يؤدي إلى الدور كما تقدم.
م: (ثم يرجعان على الأصيل لأنهما أديا عنه أحدهما بنفسه والآخر بنائبه) ش: وهو صاحبه الذي كفل عنه م: (وإن شاء رجع) ش: عطف على قوله رجع شريكه بنصفه قليلا كان أو كثيرا، أي وإن شاء من أدى فيهما شيئا رجع م: (بالجميع) ش: أي بجميع ما أدى م: (على المكفول عنه لأنه كفل بجميع المال عنه بأمره) ش: ولو كان أحدهما كفيلا عن المكفول فقط لم يكن له رجوع على الأصيل.
م: (قال) ش: قيل: الظاهر أن قائله محمد. قلت: الظاهر أن قائله المصنف لأن المسألة ما ذكرها إلا شرح الجامع الصغير، وقال الأترازي: قالوا في شروح الجامع الصغير م: (وإذا أبرأ رب المال أحدهما) ش: أي أحد الكفيلين م: (أخذ الآخر) ش: أي الكفيل الآخر م: (بالجميع) ش: أي بجميع الدين م: (لأن إبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل، فبقي المال كله على الأصيل، والآخر كفيل عنه بكله) ش: أي بكل الدين فيطالب بذلك م: (على ما بيناه) ش: إشارة إلى قوله: وبالكل عن الشريك.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل بقاء المال كله على الأصيل م: (يأخذه به) ش: أي يأخذ رب

(8/477)


قال: وإذا افترق المتفاوضان فلأصحاب الديون أن يأخذوا أيهما شاءوا بجميع الدين، لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه على ما عرف في الشركة، ولا يرجع أحدهما على صاحبه حتى يؤدي أكثر من النصف؛ لما مر من الوجهين في كفالة الرجلين. قال: وإذا كوتب العبدان كتابة واحدة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فكل شيء أداه أحدهما رجع على صاحبه بنصفه. ووجهه: أن هذا العقد جائز استحسانا، وطريقه: أن يجعل كل واحد منهما أصيلا في حق وجوب الألف عليه، فيكون عتقهما معلقا بأدائه ويجعل كفيلا بالألف في حق صاحبه، وسنذكره في المكاتب إن شاء الله تعالى، وإذا عرف ذلك فما أداه أحدهما رجع بنصفه على صاحبه لاستوائهما، ولو رجع بالكل لا تتحقق المساواة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المال الكفيل الذي لم يبرأ به بجميع الدين.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: وإذا افترق المتفاوضان) ش: أي شريكا المفاوضة وعليهما دين م: (فلأصحاب الديون أن يأخذوا أيهما شاءوا بجميع الدين، لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه على ما عرف في الشركة) ش: أي المفاوضة شركة عامة تُبتنى على التوكيل من كل واحد منهما صاحبه فيما كان من أعمال التجارة، وعلى الكفالة بما كان من ضمان التجارة م: (ولا يرجع أحدهما) ش: أي أحد المتفاوضين م: (على صاحبه حتى يؤدي أكثر من النصف لما مر من الوجهين في كفالة الرجلين) ش: في مسألة أول الباب.
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كوتب العبدان كتابة واحدة) ش: بأن قال: كاتبتكما على ألف إلى سنة قيد بالكفالة الواحدة، لأن المولى إذا كاتب كل واحد منهما على حدة وكفل أحدهما عن الآخر لا يصح ذلك قياسا واستحسانا، إذ الكفالة ببدل الكتابة لا تصح بإجماع الأئمة الأربعة، أما لو كانت الكتابة واحدة تصح استحسانا عندنا ولا يصح قياسا، وبه قالت الأئمة الثلاثة، م: (وكل واحد منهما) ش: أي من العبدين م: (كفيل عن صاحبه فكل شيء أداه أحدهما رجع على صاحبه بنصفه ووجهه) ش: أي وجه هذا المذكور، م: (أن هذا العقد جائز استحسانا) ش: لا قياسا لأنه باطل قياسا؛ لأن الكفالة تبرع، والمكاتب لا يملك التبرع، م: (وطريقه) ش: أي طريق جوازه استحسانا م: (أن يجعل كل واحد منهما أصيلا في حق وجوب الألف عليه، فيكون عتقهما معلقا بأدائه) ش: أي بأداء كل واحد منهما كأنه قال لكل واحد منهما: إن أديت الألف فأنت حر، م: (ويجعل كفيلا بالألف في حق صاحبه، وسنذكره في المكاتب) ش: أي في كتاب المكاتب، م: (إن شاء الله تعالى، وإذا عرف ذلك) ش: أي ما ذكره، م: (فما أداه أحدهما رجع بنصفه على صاحبه لاستوائهما) ش: في العلة وهي أن كل البدل مضمون على أحدهما بعقد الكتابة، ولهذا لا يعتق واحد منهما ما لم يؤد جميع البدل.
م: (ولو رجع بالكل) ش: أي بكل الألف الذي هو البدل م: (لا تتحقق المساواة) ش: وكذا إذا

(8/478)


قال: ولو لم يؤديا شيئا حتى أعتق المولى أحدهما جاز العتق لمصادفته ملكه، وبرئ عن النصف لأنه ما رضي بالتزام المال إلا ليكون المال وسيلة إلى العتق، وما بقي وسيلة فيسقط ويبقى النصف على الآخر، لأن المال في الحقيقة مقابل برقبتهما، وإنما جعل على كل واحد منهما احتيالا لتصحيح الضمان، وإذا جاء العتق استغنى عنه فاعتبر مقابلا برقبتهما، فلهذا يتنصف، وللمولى أن يأخذ بحصة الذي لم يعتق أيهما شاء المعتق بالكفالة وصاحبه بالأصالة، فإن أخذ الذي أعتق رجع على صاحبه بما يؤدي، لأنه مؤد عنه بأمره، وإن أخذ الآخر لم يرجع على المعتق بشيء، لأنه أدى عن نفسه، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يرجع بشيء، م: (قال: ولو لم يؤديا شيئا حتى أعتق المولى أحدهما جاز العتق لمصادفته ملكه) ش: أي لمصادفة العتق المولى م: (وبرئ عن النصف) ش: أي وبرئ العتق عن نصف البدل م: (لأنه ما رضي بالتزام المال إلا ليكون المال وسيلة إلى العتق، وما بقي وسيلة فيسقط) ش: أي النصف م: (ويبقى النصف على الآخر) ش: أي يبقى النصف الآخر على العبد الآخر م: (لأن المال في الحقيقة مقابل برقبتهما) ش: حتى يكون موزعا منقسما عليهما م: (وإنما جعل على كل واحد منهما احتيالا لتصحيح الضمان) ش: بأن يجعل كأن كل البدل على كل واحد منهما بحكم الأصالة لا الكفالة، فكان ضروريا لا يتعدى غير موضعهما.
م: (وإذا جاء العتق استغنى عنه) ش: أي عن الاحتمال، م: (فاعتبر مقابلا برقبتهما، فلهذا يتنصف) ش: وعورض بأنه إذا كان مقابلا بهما كان على كل واحد منهما بعضه فيجب أن لا يصح الرجوع ما لم يزد المؤدي على النصف لئلا يلزم الدور كما مر.
وأجيب: بأن الرجوع بنصف ما أدى إنما هو للتحرز عن تفرق الصفقة على المولى، لأن المؤدي لو وقع عن المؤدي على الخصوص برئ بأدائه عن نصيبه وعتق، لأن المكاتب إذا أدى ما عليه من بدل الكتاب عتق والمولى شرط عليهما أن يؤديا جميعا ويعتقا جميعا، فكان كالتخصيص إضرار للمولى بتفريق الصفقة، فأوقعنا المؤدى عنهما جميعا، وإذا بقي النصف على الآخر.
م: (وللمولى أن يأخذ بحصة الذي لم يعتق أيهما شاء) ش: أي العبدين المكاتبين م: (المعتق) ش: بفتح التاء أي يأخذ المعتق م: (بالكفالة وصاحبه بالأصالة فإن أخذ الذي أعتق رجع على صاحبه بما يؤدي لأنه مؤد عنه بأمره، وإن أخذ الآخر لم يرجع) ش: أي الآخر م: (على المعتق بشيء، لأنه أدى عن نفسه، والله أعلم) ش: قال الأترازي: ولنا فيه نظر، لأن مطالبة المولى المعتق بحكم الكفالة، والكفالة ببدل الكتابة لا تجوز، وإذا سقط النصف بالعتق سقط مطالبة بالأصالة وبقي

(8/479)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المطالبة بالكفالة وهي باطلة، فينبغي أن لا يطالبه المعتق أصلا، انتهى.
والجواب عنه: أن الكفالة ببدل الكتابة ابتداء لا تجوز، ولهذا جعلنا البدل على كل واحد منهما تصحيحا للكتابة على هذا الوجه بقدر الإمكان، أما بعد عتق أحدهما صار كفيلا عن العتق ببدل الكتابة بقاء، فيجوز ذلك بقاء، وإن لم يجز ابتداء، والله أعلم.

(8/480)


باب كفالة العبد وعنه ومن ضمن عن عبد مالا لا يجب عليه حتى يعتق ولم يسم حالا ولا غيره فهو حال؛ لأن المال حال عليه لوجود السبب وقبول الذمة، إلا أنه لا يطالب به لعسرته، إذ جميع ما في يده ملك المولى ولم يرض بتعلقه به، والكفيل غير معسر، فصار كما إذا كفل عن غائب أو مفلس، بخلاف الدين المؤجل لأنه متأخر بمؤخر، ثم إذا أدى رجع على العبد بعد العتق؛ لأن الطالب لا يرجع عليه إلا بعد العتق، فكذا الكفيل لقيامه مقامه. قال: ومن ادعى على عبد مالا وكفل له رجل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب كفالة العبد وعنه]
[ضمن عن عبد مالا]
م: (باب كفالة العبد وعنه) ش: أي هذا باب في بيان كفالة العبد عن الآخر وكفالة الآخر عن العبد، وأخر هذا الباب لأن الحر مقدم على العبد لشرفه.
م: (ومن ضمن عن عبد مالا لا يجب عليه حتى يعتق) ش: لا يجب عليه صفة لقوله: مالا لا يجب، جواب المسألة، إذ هي جملة فعلية وقعت صفة للنكرة، وجواب المسألة هو قوله فهو حال، صورة المسألة في " الجامع الصغير ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في العبد الذي يستهلك المال الذي لا يجب عليه حتى يعتق فضمنه رجل ولم يسم حالا ولا غير حال، وهو معنى قوله: م: (ولم يسم حالا ولا غيره فهو حال) ش: أي الضمان على الكفيل حال م: (لأن المال حال عليه) ش: أي على العبد م: (لوجود السبب وقبول الذمة، إلا أنه) ش: أي أن العبد م: (لا يطالب به لعسرته، إذ جميع ما في يده ملك المولى ولم يرض) ش: أي المولي م: (بتعلقه به) ش: أي بتعلق الدين بالعبد.
م: (والكفيل غير معسر فضار كما إذا كفل عن غائب) ش: فإن الكفيل يؤخذ به في الحال إن عجز الطالب عن مطالبة الأصيل م: (أو مفلس) ش: بتشديد اللام المفتوحة، أي فصار أيضا كما إذا كفل عن مفلس فإنه يؤاخذ به في الحال.
م: (بخلاف الدين المؤجل) ش: حيث يؤخذ الكفيل به بعد الأجل م: (لأنه) ش: أي لأن الدين م: (متأخر بمؤخر) ش: بكسر الخاء المشددة، أراد أن الدين المؤجل إذا كفل بواحد لا يطالب قبل حلول الأجل، لأن الدين ثمة أخر بمؤخر وقد التزم الكفيل ذلك فلزمه كذلك مؤجلا م: (ثم إذا أدى) ش: أي الكفيل عن العبد المكفول م: (رجع على العبد بعد العتق؛ لأن الطالب لا يرجع عليه إلا بعد العتق فكذا الكفيل) ش: لا يرجع عليه إلا بعد العتق م: (لقيامه مقامه) ش: أي لقيام الكفيل مقام الطالب في المطالبة.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن ادعى على عبد مالا وكفل له رجل

(8/481)


بنفسه فمات العبد برئ الكفيل لبراءة الأصيل، كما إذا كان المكفول بنفسه حرا. قال: فإن ادعى رقبة العبد فكفل به رجل فمات العبد فأقام المدعي البينة أنه كان له ضمن الكفيل قيمته؛ لأن على المولى ردها على وجه تخلفها قيمتها، وقد التزم الكفيل ذلك، وبعد الموت تبقي القيمة واجبة على الأصيل، فكذا على الكفيل بخلاف الأولى. قال: وإذا كفل العبد عن مولاه بأمره فعتق فأداه، لو كان المولى كفيلا عنه فأداه بعد العتق لم يرجع واحد منهما على صاحبه. وقال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بنفسه فمات العبد برئ الكفيل لبراءة الأصيل) ش: لأنه كفل عن العبد بتسليم نفسه فسقط التسليم عن الأصيل بموته فيسقط عن الكفيل أيضا، لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل م: (كما إذا كان المكفول بنفسه حرا) ش: حيث يبرأ الكفيل ببراءة الأصيل هنا أيضا، والحاصل أن الكفالة بالنفس لا تتفاوت بين ما إذا كان المكفول بنفسه حرا أو عبد. وقال الكاكي: وهذا الحكم لا يختلف إلا أنه ذكر العبد هاهنا ليبني المسألة الثانية عليها ويفرق بينهما م: (قال: فإن ادعى رقبة العبد فكفل به) ش: أي بالعبد م: (رجل فمات العبد فأقام المدعي البينة أنه كان له ضمن الكفيل قيمته) ش: قبل إثبات ذلك بالبينة لأنه لو ثبت ملك المدعي بإقرار ذي اليد أو بنكوله عند التحليف وقد مات العبد في يد ذي اليد، قضى بقيمة العبد على المدعى عليه ولا يلزم على الكفيل شيء، لأن إقراره غير حجة على الكفيل إلا إذا أقر الكفيل بما أقر به الأصيل.
وقال التمرتاشي: لا يصدق ذو اليد في موت العبد ويحبس هو والكفيل، فإن طال الحبس ضمناه القيمة، وكذا الوديعة المجحودة م: (لأن على المولى ردها) ش: أي رد الرقبة على ذي اليد م: (على وجه تخلفها قيمتها) ش: أي تخلف نفس العبد قيمة نفس العبد عند العجز عن ردها م: (وقد التزم الكفيل ذلك) ش: لأن الكفالة تحمل الضمان عن المغير م: (وبعد الموت تبقي القيمة واجبة على الأصيل فكذا على الكفيل) ش: لأن ضمان القيمة وجب على الأصيل ووجب على الكفيل أيضا؛ لأنه التزم المطالبة بما على الأصيل، وقد انتقل الضمان في حق الأصيل إلى القيمة فينتقل في حق الكفيل أيضا م: (بخلاف الأولى) ش: أي المسألة الأولى حيث لم يجب الضمان على المولى فلا يجب على الكفيل أيضا، وفي بعض النسخ بخلاف الأول، قال الأكمل: أي بخلاف الضمان الأول لأن محل ما التزمه وهو العبد قد مات، ويسقط عن العبد تسليم نفسه، فكذا عن كفيله.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كفل العبد عن مولاه بأمره) ش: قيد بالأمر، إذ كفالة العبد بغير إذن سيده لا يجوز بإجماع الفقهاء، إلا عند الشافعي في وجه، وبإذن سيده يجوز إلا في المأذون المستغرق بالدين، لا تجوز الكفالة، وبه قال مالك م: (فعتق فأداه لو كان المولى كفيلا عنه فأداه) ش: أي المال المكفول به م: (بعد العتق) ش: أي بعد أن أعتقه مولاه م: (لم يرجع) ش: جواب المسألتين م: (واحد منهما) ش: أي من المولى والعبد م: (على صاحبه. وقال

(8/482)


زفر: يرجع، ومعنى الوجه الأول أن لا يكون على العبد دين حتى تصح كفالته بالمال على المولى إذا كان بأمره، أما كفالته عن العبد فتصح على كل حال. له أنه تحقق الموجب للرجوع وهو الكفالة بأمره والمانع وهو الرق قد زال. ولنا: أنها وقعت غير موجبة للرجوع؛ لأن المولى لا يستوجب على عبده دينا، وكذا العبد على مولاه فلا تنقلب موجبة أبدا كمن كفل عن غيره بغير أمره فأجازه. ولا تجوز الكفالة بمال الكتابة حر تكفل به أو عبد؛ لأنه دين ثبت مع المنافي فلا يظهر في حق صحة الكفالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زفر: يرجع) ش: أي كل واحد منهما م: (ومعنى الوجه الأول) ش: وهو كفالة العبد عن مولاه بأمره م: (أن لا يكون على العبد دين حتى تصح كفالته بالمال عن المولى إذا كان بأمره) ش: وفي بعض النسخ أن يكون على العبد دين، وهذا كان مصححا بخط الثقات وهو الأصح، لأنه لو كان على العبد دين مستغرق لم تصح كفالة لحق الغرماء، وإن كان بإذن السيد م: (أما كفالته) ش: أي كفالة المولى م: (عن العبد فتصح على كل حال) ش: يعني سواء كانت الكفالة بالمال أو بالنفس أو على العبد دين أو لا.
م: (له) ش: أي لزفر، وبه قال الشافعي م: (أنه) ش: أي أن الشأن م: (تحقق الموجب) ش: بكسر الجيم م: (للرجوع وهو الكفالة بأمره والمانع وهو الرق قد زال) ش: يعني امتناع الكفالة كان المانع الرق، لأن العبد لا يستوجب على مولاه دينا وقد زال المانع فيرجع.
م: (ولنا أنها) ش: أي أن الكفالة م: (وقعت) ش: حال كونها م: (غير موجبة للرجوع، لأن المولى لا يستوجب على عبده دينا) ش: أي لا يستحق م: (وكذا العبد) ش: لا يستوجب م: (على مولاه فلا تنقلب) ش: أي الكفالة م: (موجبة أبدا كمن كفل عن غيره بغير أمره فأجازه) ش: أي الغير أو جاز ذلك لا يرجع، فكذا هذا.
م: (ولا تجوز الكفالة بمال الكتابة حر تكفل به) ش: أي بمال الكتابة م: (أو عبد) ش: أي أبو العبد تكفل به م: (لأنه دين) ش: أي لأن مال الكتابة دين غير مستقر، لأنه م: (ثبت مع المنافي) ش: وهو الرق م: (فلا يظهر) ش: أي دين بدل الكتابة م: (في حق صحة الكفالة) ش: وبه قال أكثر أهل العلم. وعن أحمد في رواية: تصح؛ لأنه دين كسائر الديون، والأصح عنده أيضا لأن الكفالة به غير جائزة.
وفي " النهاية ": التخصيص بمال الكتابة غير مفيد، فإنه كما لا تجوز الكفالة بمال الكتابة عن المكاتب للمولى لا تجوز بدين آخر للمولى سوى مال الكتابة على المكاتب، ذكره في " المبسوط ". ولو كان للمكاتب دين على مولاه ولم يكن ذلك الدين من جنس الكفالة فكفل به رجل للمكاتب عن المولي صح، لأن الأصيل مطلوب بهذا المال مطلقا فتصح الكفالة.

(8/483)


ولأنه لو عجز نفسه سقط، ولا يمكن إثباته على هذا الوجه في ذمة الكفيل، وإثباته مطلقا ينافي معنى الضم، لأن من شرطه الاتحاد. وبدل السعاية كمال الكتابة عند أبي حنيفة، لأنه كالمكاتب عنده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما العبد التاجر إذا ادَّان مولاه دينا ولا دين على العبد وأخذ منه كفيلا بذلك فالكفالة باطلة وإن كان العبد مديونا صحت الكفالة، لأن كسبه حق الغرماء فكان الدين واجبا في ذمته كما في ذمة غيره فصحت الكفالة، والكفالة بالنفس مثل ذلك، فإن العبد إن كان لا دين عليه لا يصح، وإن كان عليه دين صح.
م: (ولأنه) ش: دليل آخر على عدم استقرار مال الكتابة، أي ولأن المكاتب م: (لو عجز نفسه سقط) ش: أي بدل الكتاب م: (ولا يمكن إثباته على الوجه في ذمة الكفيل) ش: دليل آخر على المدعي وهو عدم صحة الكفالة ببدل الكتابة، ويدل على هذا الوجه، أي إثبات عقد الكفالة مع سقوط بدل الكتابة بتعجيز النفس في ذمة الكفيل لا يمكن م: (وإثباته مطلقا) ش: أي وإثبات دين الكتابة مطلقا م: (ينافي معنى الضم) ش: الذي هو ركن الكفالة.
وفي " المبسوط ": ولو أثبتناه مطلقا على الكفيل كنا أوجبناه في ذمة الكفيل أكثر ما هو واجب في ذمة الأصيل، وذا لا يجوز إذ يجب على الكفيل بالصفة التي تجب على الأصيل تحقيقا لمعنى الضم م: (لأن من شرطه) ش: أي من شرط الضم م: (الاتحاد) ش: في صفة الواجب بالكفالة تحقيقا لمعنى الضم والمطلق غير المقيد.
م: (وبدل السعاية كمال الكتابة عند أبي حنيفة) ش: يعني أن الكفالة ببدل الكتابة لا تجوز، فكذلك لا تجوز ببدل السعاية م: (لأنه) ش: أي لأن المستسعى، م: (كالمكاتب عنده) ش: أي عند أبي حنيفة في عدم قبول الشهادة وتزوج المرأتين والحدود وغيرها، لكن على اعتبار النكتة الأولى، وهو قوله: لأنه ثبت مع المنافي ... إلى آخره، لا على اعتبار النكتة الثانية؛ لأن المستسعى لا يسقط عنه بدل السعاية بتعجيز النفس، والله أعلم.

(8/484)