البناية شرح الهداية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب أدب القاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب أدب القاضي]
[شروط تولى القضاء]
م: (كتاب أدب القاضي)
ش: أي هذا كتاب في بيان أدب القاضي. والأدب الخصال الحميدة، سيمت به لأنها تدعو إلى الخيرات والحسنات، من الأدب بسكون الدال، وهو الدعاء.
قال طرفة الشاعر:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر
والأدب فاعل من أدب يأدب أدبا، إذا دعا، وسمي الأدب أدبا؛ لأنه يدعو الناس إلى المحامد. وعن أبي يزيد: الأدب يقع على رياضة محمودة، فيخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل.
والمراد من أدب القاضي هو الخصال المدعو إليها، والقضاء يستعمل في أشياء، ويراد به في الشرع الإلزام، وقيل: القضاء الحكم.
وقال ابن أبي قتيبة: القضاء يجيء لمعان مختلفة كلها تعود إلى واحد أصله الحتم والفراغ عن الأمر، وبه يجري ألفاظ القرآن.
وفي الشرع يراد به الإلزام، وفصل الخصومات وقطع المنازعات، وسمي حكما لما فيه من منع الظالم عن المظلوم، وأصله قضاي؛ لأنه من قضيت، إلا أن الياء لما جاءت بعد الألف همزت، كرداء أصله رداي. ولما كان وضع القضاء لفصل الخصومات، وتنفيذ الأحكام، وأكثر الخصومات يقع في البياعات والديون، ذكر بعدها كتاب القضاء لمساس الحاجة إلى القضاء.
وفي الزاد القضاء فريضة محكمة وشرعة متبعة، وعبادة شريفة لأجل ذلك أثبت الله تعالى لآدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الخلافة بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] (البقرة: الآية 30) ولداود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص: 26] (ص: الآية 26) ، وبه أمر كل نبي مرسل حتى خاتم الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، ثم القضاء مشروع بالكتاب كما ذكرنا، وبالسنة لما روي أنه عليه أفضل الصلاة والسلام قال: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ، فله أجر، وإن أصاب فله أجران» ،

(9/3)


قال: ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى شرائط الشهادة ويكون من أهل الاجتهاد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث معاذ لما بعثه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظاهر وبالإجماع، وهو ظاهر وبالمعقول وهو أن في القضاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع الظلم عن المظلوم، ودفع التهارج، وقطع المنازعات، وفصل الخصومات، والكل حسن عقلا وهو فرض كفاية بالإجماع، وإن لم يصلح للقضاء إلا واحد، تعين عليه ووجب عليه بالإجماع.

م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى) ش: بفتح اللام اسم مفعول من التولية، وإنما قال: المولى ولم يقل: المتولي ليكون فيه دلالة على تولية غيره إياه بدون طلبه م: (شرائط الشهادة) ش: وهي الإسلام، والعقل، والبلوغ، والعدالة؛ لأن مبنى القضاء على حكم الشهادة م: (ويكون) ش: بالنصب عطفا على قوله حتى يجتمع م: (من أهل الاجتهاد) ش: الصحيح عندنا أن هذا شرط الأولوية، لا شرط الجواز، وقيل شرط الجواز وإليه مال صاحب شرح الأقطع.
وفي " وجيز الشافعية "، لا بد للقضاء من صفات، وهو أن يكون ذكرا حرا، مجتهدا، بصيرا عدلا، فلا يجوز قضاء المرأة، والأعمى، والصبي، والفاسق، والجاهل، والمقلد انتهى.
وقد ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل أن المقلد لا يجوز أن يكون قاضيا. وذكر الخصاف: ما يدل على جوازه، لأنه قال: القاضي يقضي باجتهاد نفسه إذا كان له رأي، فإن لم يكن له رأي، وسأل فقيها، أخذ بقوله.
والدليل على أن الاجتهاد ليس بشرط الجواز ما أخرجه أبو داود عن شريك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن سماك عن حنش «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قال: "بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن قاضيا، فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء، فقال: إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال: فما زلت قاضيا، وما شككت في قضاء بعد» ، ورواه

(9/4)


أما الأول، فلأن حكم القضاء يستقى من حكم الشهادة؛ لأن كل واحد منهما من باب الولاية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعلي لم يكن حينئذ من أهل الاجتهاد، وقال الأستروشني في "فصوله ": قال بعضهم إذا كان صوابه أكثر من خطأه حل له الاجتهاد، وقاله البستي في "أصوله ". قال بعض أصحابنا: إذا كان عالما في مسألة تعرف حقيقتها، ولا يخفى عليه دقيقتها يكون من أهل الاجتهاد في تلك المسألة، وأما المجتهد الذي ذكره أهل الأصول، فهو أن يكون عالما بالنصوص من الكتاب والسنة مما يتعلق به الأحكام الشرعية، ولا يشترط أن يكون عالما بجميع ما في الكتاب والسنة، وهذا عزيز، والرخصة في ذلك أن يكون بحال يمكنه طلب الحادثة الواقعة من النصوص التي تتعلق بها الأحكام، ويشترط أيضا أن يكون عالما بوجوه العمل بالكتاب والسنة والإجماع على ما عرف في أصول الفقه، وإذا بلغ الرجل هذا الحد يصير مجتهدا، ويجب عليه العمل باجتهاده، ويحرم عليه تقليد غيره، كذا في الميزان.
وقال صدر الإسلام البزدوي في "أصوله "، وأهل الاجتهاد من يكون عالما بالكتاب ناسخه ومنسوخه، وعالما بالسنن ناسخها ومنسوخها، وعالما بمعاني الكتاب والسنن التي هي أقيسة. وإلى هذا أشار محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الحدود، وبعضهم قالوا: يجب أيضا أن يكون عالما بعرف بلده وكلامهم ولغتهم من الصريح والكناية، والصحيح أن أهل الاجتهاد في مسائل الفقه، من يكون عالما بدلائل الفقه، وهي الكتاب والسنة وإجماع الأمة، والقياس، إلى هنا لفظ صدر الإسلام.
وأما المفتي فقد قال صدر الإسلام البزدوي في أصوله: أجمع الفقهاء والعلماء، أن المفتي يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، فإنه لا يقدر أن يفتي الناس إذا لم يكن من أهل الاجتهاد، فإنه يحتاج إلى الاجتهاد لا محالة، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، لا يحل له أن يفتي إلا بطريق الحكاية، فيحكي ما يحفظ من أقوال الفقهاء، ولا يحل له أن يفتي فيما لا يحفظ فيه قولا من أقوال المتقدمين، إلى هنا لفظ صدر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (أما الأول) ش: يعني اشتراط شرائط الشهادة وقد ذكرناها م: (فلأن حكم القضاء يستقى) ش: أي يستفاد، وهكذا وقع في نسخة شيخي بلفظ يستفاد في الكتاب. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يستقى من حكم الشهادة، أي يؤخذ ويستنبط ويستخرج ويستفاد بطريق ترشيح الاستعارة، لمشابهة العلم بالماء، إذ به حياة الأرواح، كما أن بالماء حياة الأشياء م: (من حكم الشهادة لأن كل واحد منهما) ش: لأنه مبنى القضاء على الشهادة كما مر م: (من باب الولاية) ش: إذ كل واحد منهما تنفيذ القول على الغير، ولأن كل واحد منهما إلزام، فالشهادة ملزمة على القاضي والقضاء ملزم على الخصم.

(9/5)


فكل من كان أهلا للشهادة يكون أهلا للقضاء، وما يشترط لأهلية الشهادة يشترط لأهلية القضاء. والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح، إلا أنه لا ينبغي أن يقلد كما في حكم الشاهدة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته، ولو قبل جاز عندنا ولو كان القاضي عدلا، ففسق بأخذ الرشوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فكل من كان أهلا للشهادة يكون أهلا للقضاء) ش: هذا نتيجة ما قبله من الكلام، وكذلك قوله م: (وما يشترط لأهلية الشهادة يشترط لأهلية القضاء) ش: بل اشتراطها في القضاء أولى؛ لأن القضاء ولاية عامة م: (والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح) ش: أي تقليده م: (إلا أنه لا ينبغي أن يقلد كما في حكم الشهادة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته، ولو قبل جاز عندنا) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد - رحمهما الله -: لا يصح تقليده، وبه قال بعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قلت: الصواب معهم، ولا سيما قضاة هذا الزمان. وقال أصبغ المالكي: يصح، ولكن يجب عزله.
وفي " وسيط الغزالي ": اجتماع هذه الشرائط من الاجتهاد والعدالة وغيرهما مستعذر في عصرنا بخلو العصر عن المجتهد والولي، فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة وإن كان جاهلا فاسقا.
وفي " خلاصة الفتاوى ": واختلفت الروايات في تقليد الفاسق للقضاء، والأصح أنه يصح التقليد، ولا ينعزل بالفسق، ثم قال، قال في " المحيط ": يستحق العزل عند عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلا إذا شرط في التقليد أنه متى جاء ينعزل. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينعزل، والإمام يصير إماما مع الفسق، ولا ينعزل بالفسق بلا خلاف، إلى هنا لفظ الخلاصة.
وفي " نوادر هشام "، قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو فسق القاضي ثم تاب، فهو على قضائه، وحكي عن الكرخي: أنه ينعزل بفسقه، وعن علي المرازي صاحب أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنه ينعزل القاضي بفسقه، ولا ينعزل الخليفة بفسقه إلى هنا لفظ كتاب " الأجناس " وقال فيه أيضا:
وفي " أدب القاضي " للحسن بن زياد: وفي قاضي خان مكث وهو تقي، ثم فسق بعد ذلك وارتشى، وقد كان قضى بقضايا، قيل أن يفسق، وبقضايا بعد ما فسق أبطل كل قضية قضى بها، بعد ما فسق، وأنفذت القضايا التي قضى بها قبل أن يفسق.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو أن قاضيا قضى بين الناس زمانا، وأنفذ قضايا كثيرة، ثم علم أنه فاسق مرتش، لم يزل منذ ولي على ذلك، ينبغي للقاضي الذي يختصمون إليه أن تبطل كل قضية قضى بها ذلك القاضي إلى هنا لفظ الأجناس.
م: (ولو كان القاضي عدلا، ففسق بأخذ الرشوة) ش: الرشوة بكسر الراء وضم الراء لغة فيه

(9/6)


أو غيره لا ينعزل ويستحق العزل، وهذا هو ظاهر المذهب وعليه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقال الشافعي: الفاسق لا يجوز قضاؤه، كما لا تقبل شهادته عنده. وعن علمائنا الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في "النوادر" أنه لا يجوز قضاؤه، وقال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح، ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق؛ لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يكن راضيا بتقليده دونها، وهل يصلح الفاسق مفتيا؟ قيل لا، لأنه من أمور الدين وخبره غير مقبول في الديانات، وقيل يصلح؛ لأنه يجتهد الفاسق حذرا عن النسبة إلى الخطأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مأخوذة من الرشا بالمد، فإن نازح البئر لا يتصل إليه إلا به، فلذلك الإنسان لا يتوصل إلى مقصوده الحرام إلا بها والرشوة على أربعة أوجه:
منها ما هو حرام للآخذ والمعطي، وهو الرشوة في تقليد القضاء، فإنه لا يصير قاضيا بالرشوة بالإجماع سواء كان قضاؤه بحق أم بغير حق، ومنها ما يأخذه القاضي على القضاء، وهو حرام من الجانبين أيضا، ولا ينفذ قضاؤه بحق أو بغير حق، ومنها ما يدفعها لخوف على نفسه أو ماله فهذا حرام على الآخذ لا الدافع، ومنها ما لو دفعها ليستوي أمره عند السلطان حل الدفع، ولا يحل الأخذ، فلو أراد الآخذ أن يحل، يستأجر الدافع الآخذ يوما إلى الليل بما يريد أن يدفع إليه فإنه يجوز هذه الإجارة، ثم المستأجر إن شاء استعمله في هذا العمل، وإن شاء استعمله في غيره. كذا في " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ - و " أدب القاضي " للصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أو غيره) ش: أي أو في غير أخذ الرشوة كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك من المعاصي م: (لا ينعزل ويستحق العزل، وهذا هو ظاهر المذهب، وعليه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: أي علماء بخارى وسمرقند - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال الشافعي: الفاسق لا يجوز قضاؤه كما لا تقبل شهادته عنده) ش: أي: عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعن علمائنا الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (في " النوادر ": أنه لا يجوز قضاؤه) ش: أي قضاء الفاسق، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح، ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق؛ لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يكن راضيا بتقليده دونها) ش: أي دون العدالة م: (وهل يصلح الفاسق مفتيا قيل: لا) ش: أي لا يصلح م: (لأنه) ش: أي لأن الإفتاء م: (من أمور الدين وخبره غير مقبول في الديانات) ش: لأن مبناه على الأمانة والاحتراز عن الجناية، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - م: (وقيل يصلح لأنه) ش: أي لأن المفتي م: (يجتهد الفاسق) ش: كل الجهد في إصابة الحق م: (حذرا عن النسبة إلى الخطأ) ش: وقال أبو العباس الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخر

(9/7)


وأما الثاني، فالصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية، فأما تقليد الجاهل، فصحيح عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو يقول: إن الأمر بالقضاء يستدعي القدرة عليه، ولا قدرة دون العلم، ولنا أنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحق إلى مستحقيه، وينبغي للمقلد أن يختار من هو الأقدر والأولى؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أدب القاضي من كتاب " الأجناس "، للفقيه إذا كان فاسقا، هل يجوز أن يستفتى منه فيه كلام بين المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
ذكر محمد بن شجاع - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "نوادره " سمعت بشر بن غياث - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: أرى الحجر على ثلاثة، قاض فاسق، وطبيب جاهل، ومكار مفلس. وقال محمد بن شجاع - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قول نفسه: لا بأس بأن يستفتى من الفقيه الفاسق؛ لأنه يكره أن يخطئه الفقهاء، فيجيب بما هو الصواب.
م: (وأما الثاني) ش: أي الشرط الثاني في الولي، وهو شرط الاجتهاد، وقد مر الكلام فيه، ولكن نتكلم في حل المتن م: (فالصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية) ش: والمجتهد أحب من غيره م: (فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبقوله قال مالك وأحمد - رحمهما الله - م: (وهو) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يقول: إن الأمر بالقضاء يستعدي القدرة عليه) ش: لأنه مأمور بالقضاء بالحق، ولا أمر بلا قدرة، ولا قدرة بلا علم، وهو معنى قوله م: (ولا قدرة دون العلم) ش: لأن الجاهل يخبط خبط العشو، ولا يميز بين الحق والباطل م: (ولنا أنه) ش: أي أن الجاهل م: (يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحق إلى مستحقه) ش: وفي بعض النسخ إلى المستحق.
فإن قلت: روى أبو داود عن ابن بريدة عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «القضاة ثلاثة، اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به، وجار في الحكم، فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق، فقضى بين الناس على جهل، فهو في النار» . وقيل له: الحديث محمول على الجاهل الذي يعمل بجهله ولا يرجع إلى الغير.
م: (وينبغي للمقلد) ش: بكسر اللام م: (أن يختار من هو الأقدر) ش: على القضاء م: (والأولى) ش: لعلمه ودينه وأمانته، م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قلد إنسانا عملا، وفي رعيته من هو أولى منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» روى الحاكم -

(9/8)


وفي حد الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه، وحاصله أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه، وقيل أن يكون مع ذلك صاحب قريحة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مستدركه " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استعمل رجلا على عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» . وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "معجمه " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ولي من أمور المسلمين شيئا فاستعمل عليهم رجلا، وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب الله وسنة رسوله، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» .
وروى أبو يعلى الموصلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في "مسنده "، عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس وعلم أن في العشرة من هو أفطن منه، فقد غش الله ورسوله وجماعة المسلمين» . فانظر إلى ملوك زماننا هذا، كيف يولون قضاة ونوابا، مع علمهم أن في رعيتهم من هو أفضل منهم وأعلم وأدين، وغالب توليتهم بالرشاء والبواطيل.
وقد روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الراشي والمرتشي.» وروى الخصاف من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لعن الله الراشي والمرتشي، والرائش ملعون، والراشي المعطي، والمرتشي الآخذ، والرائش الذي يسعى بينهما ليسوي أمره» .
م: (وفي حد الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه) ش: أي في أصول الفقه لفخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره في باب معرفة المجتهدين، وقد ذكرنا فيما مضى في هذا الباب مما فيه الكفاية م: (وحاصله) ش: أي حاصل ما قيل في حد الاجتهاد م: (أن يكون) ش: أي الذي يدعي الاجتهاد م: (صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب) ش: أي أو يكون صاحب م: (فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه، وقيل: أن يكون مع ذلك صاحب قريحة) ش: قال صاحب "الجمهرة ": القريحة خالص الطبيعة، ومنه اشتقاق القراح، وهو الخالص الذي لم يمزج بغيره من السبخ، وغيره في "تهذيب الديوان ": قريحة البئر أول

(9/9)


يعرف بها عادات الناس؛ لأن من الأحكام ما يبتني عليها.
قال: ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أنه يؤدي فرضه، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تقلدوه وكفى بهم قدوة ولأنه فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف. قال: ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مائها، والقريحة الطبيعة، ومنه يقال لفلان قريحة جيدة براه استنباط العلم، وهي على وزن فعيلة بمعنى مفعولة اسم للبئر من قرحتها، إذا حفرتها ثم سموا الماء بذلك لملابسته بينهما، ثم قالوا فلان حسن القريحة، إذا ابتدع شعرا أو خطبة أجاد فيهما، فاستعاروها للطبع، وهو من مستعار المجاز؛ لأن أصل القرح الجرح والشق ومنه القارح، وهو الفرس الذي قرح نابه أي شق.
م: (يعرف بها) ش: أي بالقريحة م: (عادات الناس؛ لأن من الأحكام ما يبتني عليها) ش: أي على العادات، لأن العرف قد يغلب على القياس، كما في الاستصناع جوزوا بخلاف القياس.

م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أنه يؤدي فرضه) ش: أي فرض القضاء وهو الحق، لأن القضاء بالحق فرض أمر به الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - م: (لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تقلدوه) ش: أي القضاء، وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - "تقلد القضاء من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ".
روى البيهقي أيضا أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال، وروى ابن سعد في "الطبقات " عن نافع لما استعمل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على القضاء فرض له رزقا م: (وكفى بهم قدوة) ش: أي كفى بالصحابة أسوة.
قال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القدوة الأسوة، يقال فلان قدوة يقتدى به، وقد يضم فيقال لي بك قدوة وقدوه م: (ولأنه) ش: أي ولأن القضاء م: (فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف) ش: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض.
فإن قيل: قوله فرض كفاية يوجب أن الدخول فيه مستحب كما في صلاة الجنازة وغيرهما قلنا: نعم، لكن فيه خطر عظيم، وأمر مخوف، لا يسلم في بحره كل سائح، فبالنظر إلى كونه فرض كفاية وبالنظر إلى كونه متضمنا أمرا مخوفا يكره، فقلنا لعدم البأس.
م: (قال:) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويكره الدخول فيه) ش: أي في القضاء م: (لمن يخاف العجز عنه) ش: أي عن القضاء وكره بعض العلماء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أو بعض السلف -

(9/10)


ولا يأمن على نفسه الحيف فيه، كيلا يصير شرطا لمباشرته القبيح. وكره بعضهم الدخول فيه مختارا، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من جعل على القضاء فكأنما ذبح بغير سكين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الدخول فيه سواء، وثقوا بأنفسهم أو خافوا عليها العجز عنه، وفسروا الكراهة هنا بعدم الجواز.
فقال الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": ومنهم من قال: لا يجوز الدخول فيه إلا مكرها.
ألا ترى أن أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دعي إلى القضاء ثلاث مرات فأبى حتى ضرب في كل مرة ثلاثين سوطا، فلما كان في المرة الثالثة، قال: حتى أستشر أصحابي، فاستشار أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو تقلدت لنفعت الناس، فنظر إليه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر المغضب وقال: أرأيت لو أمرت أن أعبر البحر سباحة أكنت أقدر عليه، وكأني بك قاضيا، ويروى أنه قال: أراك أن تبتلى بالقضاء، وكذا دعي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى القضاء فأبى حتى قيد وحبس فاضطر ثم تقلد.
م: (ولا يأمن على نفسه الحيف فيه؛ كيلا يصير شرطا) ش: أي كيلا يصير الدخول في القضاء وسيلة م: (لمباشرته القبيح) ش: وهو الحيف في القضاء، وإنما عين بلفظ الشرط لأنه أكثر ما يقع من الحيف إنما هو بالميل إلى حطام الدنيا بأخذ الرشاء، وفي الغالب يكون ذلك مشروطا بمقدار معين مثل أن يقول: لي على فلان أو له علي مطالبته بكذا، فإن قضيت لي فلك كذا.
م: (وكره بعضهم الدخول فيه) ش: أي في القضاء حال كونه م: (مختارا لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من جعل على القضاء فكأنما ذبح بغير سكين» ش: هذا الحديث رواه أصحاب السنن الأربعة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين» :. ورواه الحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مستدركه " وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. رواه ابن عدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الكامل " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استقضى فقد ذبح بغير سكين» وروي: "ذبح بسكين" وذكر الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": وجه التشبيه أن السكين تؤثر

(9/11)


والصحيح أن الدخول فيه رخصة طمعا في إقامة العدل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الظاهر والباطن جميعا، والذبح بغير سكين، ذبح بطريق الخنق والفم ونحو ذلك، فإنه يؤثر في الباطن، والقضاء لا يؤثر في الظاهر، فإنه في ظاهره جاه وفي باطنه هلاك.
وكان شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لا ينبغي لأحد أن يزدري هذا اللفظ كيلا يصيبه ما أصاب ذلك القاضي، فقد حكي أن قاضيا روى له هذا الحديث، فازدراه وقال: كيف يكون هذا، ثم دعا في مجلسه من يسوي شعره، فجعل الحلاق يحلق بعض الشعر من تحت ذقنه، إذ هو عطس فأصابه الموسي، وألقى رأسه بين يديه.
وقد جاء في التحذير عنه آثار، وقد اجتنبه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فصبر على الضرب واجتنبه كثير من السلف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقيد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نيفا وثلاثين يوما أو نيفا وأربعين يوما، حتى تقلده هذا كله ليس بموجود في بعض النسخ، وروايته موجودة في نسخة شيخي العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فلذلك استدركه وكتبه على الحاشية، وشرحه مضى عن قريب.
والذي ضرب أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على تركه القضاء، هو أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين، وكان الذي قلد القضاء لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الرشيد ثم عزله [ ... ] .
وقد جاء في التحذير، أي عن الدخول في القضاء، آثار أي أخبار كثيرة منها حديث أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه مسلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» ومنها حديث ابن أبي بريدة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القضاة ثلاثة» ... " الحديث، ومنها حديث رواه ابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "صحيحه" عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره» .
م: (والصحيح أن الدخول فيه) ش: أي في القضاء م: (رخصة طمعا في إقامة العدل) ش: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عدل ساعة خير من عبادة سنة".» وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من نور عن يمين

(9/12)


والترك عزيمة، فلعله يخطئ ظنه ولا يوفق له، أو لا يعينه عليه غيره ولا بد من الإعانة، إلا إذا كان هو الأصل للقضاء دون غيره، فحينئذ يفترض عليه التقلد صيانة لحقوق العباد وإخلاء للعالم عن الفساد.
قال: وينبغي أن لا يطلب الولاية ولا يسألها لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من طلب القضاء، وكل إلى نفسه، ومن أجبر عليه، نزل ملك عليه يسدده» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرحمن، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا» م: (والترك) ش: أي ترك القضاء م: (عزيمة) ش: من العزم، وهو الجد والصبر م: (فلعله يخطئ ظنه ولا يوفق له) ش: يعني أنه أراد أن يقضي بالحق في الابتداء في ظنه ثم لا يقدر عليه م: (أو لا يعينه عليه غيره ولا بد من الإعانة) ش: أي على القضاء بالحق أنه ربما لا يمكنه القضاء في الأمر إلا بإعانة غيره عليه، ولعل غيره لا يعينه عليه م: (إلا إذا كان هو الأصل للقضاء دون غيره، فحينئذ يفترض عليه التقلد صيانة لحقوق العباد وإخلاء للعالم عن الفساد) ش: هذا بلا خلاف بين الفقهاء كصلاة الجنازة إذا تعين واحد لإقامتها يفترض، ومعنى إخلاء العالم عن الفساد في الحدود والقصاص، وقيد بقوله: " إذا كان هو الأهل للقضاء" يعني وحده؛ لأنه إذا كان في البلد قوم يصلحون للقضاء، فامتنع كل واحد منهم عن الدخول فيه، أثموا إن كان السلطان، بحيث لا يفصل بينهم، وإلا فلا، ولو امتنع الكل حتى قلد جاهل، اشتركوا في الإثم لأدائه إلى تضييع أحكام الله تعالى.

[حكم طلب تولى القضاء]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وينبغي أن لا يطلب الولاية ولا يسألها) ش: أي لا يطلب ولاية القضاء بقلبه ولا يسألها بلسانه م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من طلب القضاء وكل إلى نفسه، ومن أجبر عليه نزل ملك عليه يسدده» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل القضاء وكل إلى نفسه» ... " الحديث، ولفظة أبي داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «من طلب القضاء» ، كما في رواية المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزاد عليه قوله: «واستعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله ملكا يسدده.» ولفظ الترمذي: «من ابتغى القضاء وسأل شفعا وكل إلى نفسه، ومن أجبر عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده» قوله: و"كل" على صيغة المبني للمجهول، بتخفيف الكاف، أي فوض أمره إليها، ومن فوض أمره إلى نفسه، كان

(9/13)


ولأن من طلبه يعتمد على نفسه فيحرم، ومن أجبر عليه يتوكل على ربه فيلهم، ثم يجوز التقلد من السلطان الجائر كما يجوز من العادل؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تقلدوا من معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحق كان بيد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في نوبته، والتابعين تقلدوه من الحجاج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مخذولا غيره مرشد إلى الصواب، لكون النفس أمارة بالسوء، قوله يسدده أي يلهمه الرشد ويوفقه للصواب.
م: (ولأن من طلبه) ش: أي القضاء م: (يعتمد على نفسه) ش: من الورع والعلم والفطنة، فيصير معجبا، فلا يلهم الرشد، ويحرم التوفيق، وهو معنى قوله: م: (فيحرم ومن أجبر عليه يتوكل على ربه) ش: ومن يتوكل على الله فهو حسبه م: (فيلهم) أي الرشد والصواب م: (ثم يجوز التقلد) ش: أي تقليد القضاء م: (من السلطان الجائر كما يجوز من العادل؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تقلدوا) ش: أي القضاء م: (من معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: ابن أبي سفيان لما انفرد بالإمرة وخالف عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (والحق) ش: أي والحال أن الحق م: (كان بيد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في نوبته) ش: أي في خلافته؛ لأن الخلافة كانت له بعد عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالنص، وقيد بقوله: "في نوبته" احترازا عن مذهب الروافض، فإنهم يقولون الحق مع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، في جميع نوب الخلفاء، في نوبة أبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومع أولاده بعد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعند أهل السنة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان باغيا في نوبة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبعده إلى زمان ترك أمير المؤمنين حسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الخلافة إليه فانعقد الإجماع على خلافة معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعده م: (والتابعين) ش: بالنصب عطفا على قوله؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (تقلدوه) ش: أي القضاء م: (من الحجاج) ش: ابن يوسف الثقفي عامل عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان، ومات في رمضان أو شوال سنة خمسة وتسعين، وعمره ثلاث أو أربع وخمسون سنة.
ولما سمع الحسن البصري بموته سجد، يعني شكرا لله تعالى، وقال: اللهم إنك قد أمته، فأمت عنا سننه. وعن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا أنه قال: لو جاءت كل أمة بخبثها، وجئنا به لغلبناهم، وظلمه مشهور.
وتولى أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - القضاء بالشام، ولما مات وكان معاوية يستشيره، واستشاره فيمن يولي بعده، فأشار إليه بفضالة بن عبيدة الأنصاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فولاه الشام بعده.
وقال البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "تاريخه الوسيط" بإسناده إلى أبي إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -

(9/14)


وهو كان جائرا، إلا إذا كان لا يمكنه من القضاء بحق؛ لأن المقصود لا يحصل بالتقلد، بخلاف ما إذا كان يمكنه.
قال ومن قلد القضاء يسلم إليه عن ديوان القاضي الذي كان قبله، وهو الخرائط التي فيها السجلات وغيرها؛ لأنها وضعت فيها لتكون حجة عند الحاجة، لتجعل في يد من له ولاية القضاء، ثم إن كان البياض من بيت المال فظاهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: كان أبو بريدة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الكوفة، فعزله الحجاج وجعل أخاه مكانه، وقال في موضع آخر حدثنا الحسن بن رافع حدثنا ضمرة قال: استقضى الحجاج أبا بردة بن أبي موسى، وأجلس معه سعيد بن جبير، ثم قتل سعيد بن جبير، ومات الحجاج بعده بستة أشهر، ولم يقتل بعده أحدا.
وفي " تاريخ أصفهان " للحافظ أبي نعيم، في باب العين المهملة: عبد الله بن أبي مريم الأموي ولي القضاء بأصبهان للحجاج، ثم عزله الحجاج، فأقام محبوسا بواسط، فلما هلك الحجاج رجع إلى أصبهان ومات بها.
م: (وهو) ش: أي الحجاج م: (كان جائرا) ش: أي ظالما شديد الظلم مشهورا م: (إلا إذا كان) ش: استثنى من قوله يجوز التقليد من السلطان الجائر إلا إذا كان م: (لا يمكنه من القضاء بحق) ش: أي إلا إذا كان السلطان الجائر لا يمكنه من التمكين من الحكم بحق م: (لأن المقصود) ش: وهو العمل بحق م: (لا يحصل بالتقلد) ش: من السلطان الجائر م: (بخلاف ما إذا كان يمكنه) ش: حيث يجوز له التقليد منه، والضمير فيما كان يرجع إلى السلطان ويمكنه من التمكن.

م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن قلد القضاء يسلم إليه ديوان القاضي الذي كان قبله، وهو الخرائط التي فيها السجلات) ش: وفي المغرب الديوان الجديدة من دون الكتب، أو أجمعها لأنها قطع من القراطيس مجموعة. ويروى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أول من دون الدواوين، أي رتب الجراية للولاة والقضاء، وأصله بدون تشديد الواو فعوض من إحدى الواوين، لأنه يجمع على دواوين. ولو كانت الياء أصلية لقالوا دياوين.
وفسر المصنف الديوان بقوله وهو الخرائط، جمع خريطة. قال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعامة من الأدم وغيره بشرح علي فيها، والسجلات جمع سجل، وهو كتاب الحكم، وقد سجل عليه القاضي م: (وغيرها) ش: أي غير السجلات من المحاضر والصكوك، وكتاب نصب الأوصياء، وتقدير النفقات، والقيم في أموال الوقف م: (لأنها) ش: أي السجلات وغيرها م: (وضعت فيها) ش: أي في الخرائط م: (لتكون حجة عند الحاجة، فتجعل في يد من له ولاية القضاء) ش: وهو القاضي المولى؛ لأنه يحتاج إلى معرفة ما فيها، فكان له أخذها.
م: (ثم إن كان البياض) ش: الذي كتب عليه السجلات ونحوها م: (من بيت المال فظاهر) ش: أي يجبر المعزول على دفعه؛ لأن ذلك إنما كان في يده لعمله وقد صار العمل لغيره، فلا

(9/15)


وكذا إذا كان من مال الخصوم في الصحيح؛ لأنهم وضعوها في يده لعمله وقد انتقل إلى المولى، وكذا إذا كان من مال القاضي هو الصحيح؛ لأنه اتخذه تدينا لا تمولا، ويبعث أمينين ليقبضاها بحضرة المعزول أو أمينه ويسألانه شيئا فشيئا، ويجعلان كل نوع فيها في خريطة كيلا يشتبه على المولى وهذا السؤال لكشف الحال لا للإلزام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يترك في يده، أي وكذا يجعل في يد من له ولاية القضاء م: (وكذا إذا كان) ش: أي البياض م: (من مال الخصوم) ش: لأنه وضع عنده لصيانة حقوق الناس تدينا لا تمولا (في الصحيح) احترز به عما قال المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذا كان البياض من ماله أو من مال الخصوم لا يجبر على الدفع لأنه ملكه أو وهب له، وفي الصحيح يجبر م: (لأنهم وضعوها في يده لعمله وقد انتقل إلى المولَّى) ش: بتشديد اللام المفتوحة.
م: (وكذا) ش: أي يجبر على الدفع م: (إذا كان) ش: أي البياض م: (من مال القاضي هو الصحيح) ش: احترز به عن مثل ما مضى في الصورة الأولى م: (لأنه) ش: أي لأن القاضي المعزول م: (اتخذه تدينا) ش: أي وضع عندهم بطريق الديانة والأمانة م: (لا تمولا) ش: أي ما وضع عنده من حيث أن يتمول به م: (ويبعث) ش: أي القاضي الجديد المولَّى اثنين م: (أمينين ليقبضاها) ش: أي الخرائط التي فيها السجلات وغيرها، والواحد يكفي والاثنان أحوط م: (بحضرة) ش: القاضي م: (المعزول أو أمينه) ش: أي الأمين من جهة المعزول.
م: (ويسألانه) ش: أي يسألان المعزول م: (شيئا فشيئا) ش: يعني واحدا بعد واحد م: (ويجعلان كل نوع فيها في خريطة) ش: وينسخ الأوصياء في خريطة، وكل نوع في خريطة؛ لأن هذه النسخ كانت في خريطة تحت يد المعزول، فلا يشتبه عليه شيء من ذلك متى احتاج إليه بخلاف المولَّى؛ لأنه لا علم له بذلك، فيجعل كل نوع في خريطة م: (كيلا يشتبه على المولى) ش: شيء منها، أي من هذه السجلات وغيرها.
م: (وهذا السؤال) ش: أي سؤال أحوال الديوان والمحبوسين وسبب الحبس م: (لكشف الحال لا للإلزام) ش: لأن قول المعزول ليس بحجة لالتحاقه بالعزل بواحد من الرعايا، ومتى قبضا ذلك، يختمان ذلك احترازا عن الزيادة والنقصان، وهذا ينبغي أن يكون في حق كل قاض. كذا في " المحيط " وفي " أدب القاضي " للصدر الشهيد.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل: والسؤال يعني الاستعلام، يتعدى إلى المفعول الثاني بغير، وهنا قال: يسألانه شيئا فشيئا بدون عن، وأجيب بأن انتصاب شيئا بعامل مضمر يدل عليه قوله: يسألان، تقديره يسألانه عن أحوال السجلات وكيفياتها، أي يسألان شيئا فشيئا عنها.
ونقل الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - جميع ما قاله شيخه الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم قال: وليس بشيء؛ لأن الكلام في الثاني كالكلام في الأول، والأولى أن يجعل حالا، بمعنى مفصلا كما في

(9/16)


قال: وينظر في حال المحبوسين؛ لأنه نصب ناظرا فمن اعترف بحق ألزمه إياه؛ لأن الإقرار ملزم.
ومن أنكر لم يقبل قول المعزول عليه إلا ببينة؛ لأنه بالعزل التحق بالرعايا، وشهادة الفرد ليست بحجة. لا سيما إذا كانت على فعل نفسه فإن لم تقم بينة، لم يعجل بتخليته حتى ينادي عليه وينظر في أمره؛ لأن فعل القاضي المعزول حق ظاهر، فلا يعجل كيلا يؤدي إلى إبطال حق الغير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: بينت له حسابه بابا بابا انتهى. إنما قال بمعنى مفصلا؛ لأن من شرط الحال، أن يكون من المشتقات.

[وظائف القاضي]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وينظر في حال المحبوسين) ش: أي ينظر القاضي الجديد في حال المحبوسين. وفي بعض النسخ في حال المحتبسين م: (لأنه) ش: أي لأن القاضي الجديد م: (نصب ناظرا) ش: لأمور المسلمين م: (فمن اعترف بحق ألزمه إياه؛ لأن الإقرار ملزم، ومن أنكر لم يقبل قول المعزول) ش: أي القاضي المعزول م: (عليه إلا ببينة؛ لأنه) ش: أي لأن المعزول م: (بالعزل التحق بالرعايا، وشهادة الفرد ليست بحجة لا سيما إذا كانت) ش: أي شهادته على تأويل الأخبار م: (على فعل نفسه) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: يقبل قوله بعد العزل، كما قبل العزل، لأنه أمين الشرع، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقبل قوله قبل العزل إلا بحجة.
م: (فإن لم تقم بينه لم يعجل) ش: القاضي م: (بتخليته حتى ينادي عليه) ش: وصفته أن يأمر كل يوم إذا جلس مناديا ينادي في محلته، [من] كان يطلب فلان ابن فلان المحبوس الفلاني بحق فليحضر، ينادي كذلك أياما، فإذا حضر أحد وادعى عليه، وهو على جحوده، ابتدأ الحكم بينهم، فلا يقبل قول المعزول. وإن لم يحضر خصم أخذ منه كفيلا بنفسه، ولعله محبوس بحق غائب، وقد قامت عليه إمارة، وهو حبس القاضي المعزول.
فصل قسمة الميراث عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث يؤخذ الكفيل هناك عنده، على ما يجيء؛ لأن في مسألة الميراث، الحق ظاهر لهذا الوارث وفي ثبوت حق الآخر شك، فلا يجوز تأخيره، كموهوم، أما هناك الحق ثابت، فيحمل فعل القاضي على الصلاح، ولكنه مجهول فلا يكون أخذ الكفالة لموهوم، وقيل: أخذ الكفيل هنا على الخلاف أيضا. وفي " المحيط ": الصحيح أن أخذ الكفيل هاهنا بالاتفاق.
م: (وينظر في أمره لأن فعل القاضي المعزول حق ظاهر) ش: أي من حيث الظاهر م: (فلا يعجل كيلا يؤدي إلى إبطال حق الغير) ش: أي لا يعجل القاضي بإطلاق المحبوس، بل يتأنى وينادي على المحبوس أياما في مجلسه من كان يطلب فلان بن فلان الفلاني المحبوس بحق، فليحضر.

(9/17)


وينظر في الودائع وارتفاع الوقوف، فيعمل فيه على ما تقوم به البينة، أو يعترف به من هو في يده، لأن كل ذلك حجة، ولا يقبل قول المعزول لما بيناه إلا أن يعترف الذي هو في يده، أن المعزول سلمها إليه، فيقبل قوله فيها، لأنه ثبت بإقراره، أن اليد كانت للقاضي، فيصبح إقرار القاضي، كأنه في يده في الحال، إلا إذا بدأ بالإقرار لغيره، ثم أقر بتسليم القاضي، فيسلم ما في يده إلى المقر له الأول لسبق حقه، ويضمن قيمته للقاضي بإقراره الثاني ويسلم إلى المقر له من جهة القاضي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو داود الناصحي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: "في أدب القاضي " للخصاف: فإن قال واحد من المحبوسين: حبست بغير حق، ولم يحضر له خصم، تأنى القاضي، ونادى أياما، فإن لم يحضر له خصم أطلقه وأخذ منه كفيلا بنفسه ويطلقه، فإن قال: لا كفيل لي، أو لا أعطي كفيلا فإنه لا يجب عليه شيء نادى عليه شهرا ثم تركه، لأن الحق لم يثبت عليه، فلا يلزمه إعطاء الكفيل وإنما طلبه القاضي به احتياطا، فإذا لم يعطه، وجب عليه أن يحتاط بنوع آخر، فينادي عليه شهرا، فإذا مضت المدة أطلق عنه، كذا قاله الإمام الناصحي.
م: (وينظر في الودائع وارتفاع الوقوف) ش: أي التي وضعها المعزول في أيدي الأمناء م: (فيعمل فيه على ما تقوم به البينة أو يعترف به من هو في يده؛ لأن كل ذلك) ش: أي كل واحد من قيام البينة، واعتراف من هو في يده م: (حجة ولا يقبل قول المعزول لما بيناه) ش: إشارة إلى قوله، لأنه بالعزل التحق بالرعايا إلى آخره م: (إلا أن يعترف الذي هو في يده أن المعزول سلمها إليه فيقبل قوله فيها) ش: أي يقبل قول المعزول حينئذ فيها، أي في الودائع وارتفاع الأوقات م: (لأنه ثبت بإقراره) ش: أي بإقرار ذي اليد م: (أن اليد كانت للقاضي) ش: المعزول م: (فيصح إقرار القاضي) ش: المعزول به.
م: (كأنه في يده في الحال) ش: ولو كانت بيده عيانا، صح إقراره به، فكذا إذا كان بيد مودعه؛ لأن يد المودع كيد المودع م: (إلا إذا بدأ) ش: استثناء من قوله فيقبل، أي إلا إذا بدأ به ذوي اليد م: (بالإقرار لغيره، ثم أقر بتسليم القاضي) ش: إلى الغير من أقر له القاضي م: (فيسلم ما في يده إلى المقر له الأول لسبق حقه) ش: أي يسبق حق المقر له الأول، وهو الذي أقر له ذو اليد م: (ويضمن) ش: أي ذو اليد م: (قيمته للقاضي وبإقراره الثاني ويسلم إلى المقر له من جهة القاضي) ش:.
وقال الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حاصل ذلك أن المسألة على أربعة أوجه: إما أن يقول دفعه إلى المعزول، وقال هو لفلان بن فلان، أو قال دفعه إلى المعزول ولا أدري لمن هو، وأنكر ما قوله المعزول أو قال دفعه إلى المعزول، وهو لفلان آخر.
ففي الوجه الأول والثاني يقبل قول المعزول والمال للمقر له؛ لأن المال وصل إلى يده من

(9/18)


قال: ويجلس للحكم جلوسا ظاهرا في المسجد كيلا يشتبه مكانه على الغرباء وبعض المقيمين، والمسجد والجامع أولى؛ لأنه أشهر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره الجلوس في المسجد للقضاء؛ لأنه يحضره المشرك وهو نجس بالنص والحائض وهي ممنوعة عن دخوله. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى والحكم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جهة المعزول، فكان المال في يد المعزول معنى، ومن في يده المال إذا أقر لإنسان يقبل فكذا هذا وفي الوجه الثالث: القول لصاحب اليد.
وفي الوجه الرابع المسألة على وجهين، أما إن بدأ صاحب اليد وقال دفعه إلى المعزول، وهو لفلان آخر، أو بدأ بالإقرار فقال هو المال لفلان ابن فلان غير الذي أقر له المعزول له، ثم قال دفعه إلى المعزول، ففي الوجه الأول: القول قول المعزول ويؤمر بالدفع إلى من أقر له المعزول وفي الوجه الثاني يؤمر بالدفع إلى من أقر له، ويضمن مثله إن كان من ذوات الأمثال، أو قيمته للمعزول ثم يسلمه المعزول إلى من أقر له.

م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويجلس) ش: أي القاضي م: (للحكم جلوسا ظاهرا في المسجد كيلا يشتبه مكانه على الغرباء) ش: جمع غريب م: (وبعض المقيمين) ش: الذين ليس لهم اختلاط بالقضاء م: (والمسجد والجامع أولى؛ لأنه أشهر) ش: المواضع.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذا كان الجامع في وسط البلدة، ولو كان في طرف البلدة، يختار مسجدا في وسط البلدة، كيلا يلحق الناس مشقة الذهاب إلى طرف البلدة ويختار مسجد السوق لأنه أشهر، وفي " المبسوط ": أحب إلي أن يقضي حيث تقام جماعة الناس، يعني في المسجد الجامع أو غيره من مساجد الجماعات، لأن ذلك عن التهمة أبعد.
وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وفي " وجيز الشافعية " - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: ويكره أن يتخذ المسجد مجلسا للقضاء، وقال في " خلاصة الفتاوى ": وأفضل ما يجلس في المسجد الجامع، وفي مسجد حيه أو بيته لا بأس به عندنا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره الجلوس في المسجد للقضاء لأنه) ش: أي لأن القاضي م: (يحضره المشرك) ش: للدعوى م: (وهو نجس بالنص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] : (التوبة: الآية 28) ، م: (والحائض) ش: أي ويحضره الحائض م: (وهي) ش: أي الحائض م: (ممنوعة عن دخوله) ش: أي دخول المسجد م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى والحكم» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، ورواه مسلم ليس فيه "الحكم"، رواه في الطهارة من حديث أنس مطولا، وفي آخره: «إنما هي لذكر الله تعالى» أي المساجد.

(9/19)


وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يفصل الخصومة في معتكفه، وكذا الخلفاء الراشدون كانوا يجلسون في المساجد لفصل الخصومات؛ ولأن القضاء عبادة فيجوز إقامتها في المسجد، كالصلاة، ونجاسة المشرك في اعتقاده لا في ظاهره، فلا يمنع من دخوله، والحائض تخبر بحالها، فيخرج القاضي إليها أو إلى باب المسجد، أو يبعث من يفصل بينها وبين خصمها، كما إذا كانت الخصومة في الدابة. ولو جلس في داره لا بأس به، ويأذن للناس بالدخول فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يفصل الخصومة في معتكفه) ش: فيه أحاديث منها ما خرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد في قصة اللعان «أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا؟ إلى أن قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد» . ومنها ما أخرجه الطبراني في معجمه من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة إذ أتى رجل فتخطى الناس حتى قرب إليه، فقال: يا رسول الله أقم علي الحد، الحديث وفيه: "فاجلدوه مائة جلدة ولم يكن تزوج» .
م: (وكذا الخلفاء الراشدون كانوا يجلسون في المسجد لفصل الخصومات) ش: هذا حديث غريب. وفي "صحيح البخاري " في باب من قضى ولاعن في المسجد، ولاعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في المسجد عن منبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقضى شريح والشعبي ويحيى بن معمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في المسجد.
م: (ولأن القضاء عبادة، فيجوز إقامتها في المسجد كالصلاة ونجاسة المشرك في اعتقاده) ش: هذا جواب عن دليل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتقريره نجاسة المشرك في اعتقاده الباطن، فإنه ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل للوفود في المسجد م: (لا في ظاهره) ش: أي لا نجاسة في ظاهره م: (فلا يمنع من دخوله) ش: إذ لا يصيب الأرض منه شيء م: (والحائض تخبر بحالها، فيخرج القاضي إليها أو إلى باب المسجد، أو يبعث) ش: أي القاضي م: (من يفصل بينها) ش: أي بين الحائض م: (وبين خصمها، كما إذا كانت الخصومة في الدابة) ش: فإن قيل: يجوز أن تكون الحائض غير مسلمة لا تعتقد حرمة الدخول في المسجد، فتخبر عن حالها، قلنا: الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، فلا بأس بدخولها.
م: (ولو جلس) ش: أي القاضي م: (في داره لا بأس به) ش: ذكر هذا تفريعا على ما تقدم.
وقال شمس الأئمة السرخسي: وإن اختار أن يجلس في داره، فله ذلك بشرط أن لا يمنع أحدا من الدخول عليه؛ لأن لكل أحد حقا في مجلسه م: (ويأذن للناس بالدخول فيها) ش: أي في

(9/20)


ويجلس معه من كان يجلس قبل ذلك؛ لأن في جلوسه وحده تهمة.

قال: ولا يقبل هدية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
داره م: (ويجلس معه من كان يجلس) ش: معه م: (قيل ذلك لأن جلوسه وحده تهمة) ش: أي تهمة الظلم والرشوة.
وقد روي أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما كان يحكم حتى يحضر أربعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ويستحب أن يحضر مجلسه جماعة من الفقهاء، ويشاورهم، لما روي أن الخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -[الذين] كانوا يحضرون عبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حق، قال أحمد: يحضر مجلس الفقهاء من كل مذهب ويشاورهم فيما يشكل عليه.

[قبول الهدية للقاضي]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يقبل) ش: أي القاضي م: (هدية) ش: الأصل في هذا الباب ما قاله في " المبسوط ": الهدية في الشرع منه وبه، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم الشيء الهدية» [....] " وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الهدية تذهب وحر الصدر» أي غشه، والوعد يوقظ له البغض في الصدر. وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تهادوا تحابوا» ولكن بهذا في حق من لم يتعين العمل من أعمال المسلمين، فأما من تعين لذلك كالقاضي والوالي، فعليه التحرز عن قبول الهدية خصوصا ممن كان لا يهدي قبل ذلك، إذ هو نوع من الرشوة والسحت. وعن مسروق قال: القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت، وإذا أخذت الرشوة، فقد بلغت به الكفر.
وروى البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده عن أبي حميد الساعدي قال: «استعمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا من الأزد يقال له ابن الأسد على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر أيهدى له أم لا؟!» واستعمل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقدم بمال، فقال: من أين لك هذا؟، قال: تناتجت الخيول، وتلاحقت الهدايا، فقال: أي عدو الله هل قعدت في بيتك فتنظر أيهدى إليك أم لا؟ فأخذ ذلك منه، وجعله في بيت المال، فعرفنا أن قبول الهدية من الرشوة إذا كانت بهذه الصفة، فلا يقبل الحاكم الهدية.

(9/21)


إلا من ذي رحم محرم، أو ممن جرت عادته قبل القضاء بمهاداته؛ لأن الأول صلة الرحم، والثاني ليس للقضاء، بل جرى على العادة، وفيما وراء ذلك يصير آكلا بقضائه حتى لو كانت للقريب خصومة لا يقبل هديته، وكذا إذا زاد المهدي على المعتاد أو كانت له خصومة؛ لأنه لأجل القضاء فيتحاماه، ولا يحضر دعوة إلا أن تكون عامة؛ لأن الخاصة لأجل القضاء فيتهم بالإجابة بخلاف العامة، ويدخل في هذا الجواب قريبه وهو قولهما. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجيبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلا من ذي رحم، أو ممن جرت عادته قبل القضاء) ش: أي قبل أن يصير المهدى إليه قاضيا م: (بمهاداته؛ لأن الأول صلة الرحم، والثاني ليس للقضاء، بل جرى على العادة، وفيما وراء ذلك) ش: أي فيما وراء الأول والثاني م: (يصير آكلا بقضائه) ش: والأكل للقضاء حرام وسحت م: (حتى لو كانت للقريب خصومة، لا يقبل هديته) ش:.
م: (وكذا إذا زاد المهدي على المعتاد، أو كانت له خصومة، لأنه لأجل القضاء فيتحاماه) ش: أي يحترز عنه ولا يأخذه، ثم إذا أخذ الهدية ممن لا يجوز الأخذ منه، اختلف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فيه، قيل يضعها في بيت المال كما مر من قضية عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه. وعامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قالوا: يردها على أربابها إن عرف المهدي، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه آخر أشار إليه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " السير الكبير "، وإن لم يعرف المهدي أو كان بعيدا حتى تعذر الرد عليها، حكمها حكم اللقطة، يضعها في بيت المال لأنه أخذها لعمله، وفي عمله نائب عن المسلمين، فكانت الهدايا من حيث المعنى للمسلمين.
م: (ولا يحضر) ش: أي القاضي م: (دعوة إلا أن تكون عامة) ش: وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره ": ولا تجب الدعوة الخاصة للقرابة، ويجيء هذه الآن م: (لأن الخاصة) ش: أي الدعوة الخاصة تكون م: (لأجل القضاء، فيتهم بالإجابة بخلاف العامة) ش: أي الدعوة العامة، فإنها لا تكون للقضاء.
قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو علي النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دعوة العامة عرس وختان، وما سوى ذلك خاصة، وقيل في الحد الفاصل إذا جاوز العشرة فهي عامة، ويجيء الآن ما قاله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويدخل في هذا الجواب) ش: أي إطلاق قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا يحضر دعوة الخاصة م: (قريبه) ش: أي قريب القاضي م: (وهو قولهما) ش: أي قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجيبه) ش: أي القاضي يجيب قريبه في الدعوى الخاصة. وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجيب دعوة الخاصة لقريبه بلا خلاف؛ لأن إجابة دعوته صلة

(9/22)


وإن كانت خاصة كالهدية. والخاصة ما لو علم المضيف أن القاضي لا يحضرها لا يتخذها. قال: ويشهد الجنازة، ويعود المريض؛ لأن ذلك من حقوق المسلمين. قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «للمسلم على المسلم ستة حقوق» ، وعد منها هذين، ولا يضيف أحد الخصمين دون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للرحم، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحضر الولائم لغير الخصم، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحضر الخاصة ويحضر العامة إن شاء. وتركها أفضل، إن كانت وليمة النكاح، ولغير النكاح كره ذكره في " الجواهر " وفي " الحلية ": اختلف أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فيمن ولي أمرا من أمور المسلمين، كالقضاة والأئمة، في حضور الولائم على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كغيرهم، والثاني: أنه سقط فرض الإجابة، والثالث: أنه إن كان مرتزقا لم يحضر وإلا يحضر م: (وإن كانت خاصة) ش: واصل بما قبله أي وإن كانت الدعوة خاصة يجيبه لقريبه م: (كالهدية) ش: أي كما في الهدية، حيث يجوز له أخذها من قريبه. ثم أشار إلى تعريف الدعوة الخاصة بقوله: م: (والخاصة ما لو علم المضيف أن القاضي لا يحضرها لا يتخذها) ش: إيضاح ذلك أن صاحب الدعوة إن كان بحال لو علم أن القاضي لا يحضر، لا يمتنع من اتخاذ الدعوة، فإن القاضي لا يجيب هذه الدعوة، فهذه دعوة عامة. وإن كان بحال لو علم صاحب الدعوة أنه لو اتخذ الدعوة لا يحضرها القاضي، يمتنع ولا يتخذ الدعوة، فهذه دعوة خاصة، فلا يجيبها القاضي؛ لأنها اتخذت له. فإذا حضرها كان آكلا بقضائه. وذكر صدر الإسلام وأبو اليسر - رحمهما الله -: إذا كانت الدعوة عامة، والمضيف خصم، فينبغي أن لا يجيب القاضي دعوة، وإن كانت عامة لأنه يؤدي إلى إيذاء الآخر وإلى التهمة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره": م: (ويشهد) ش: أي القاضي م: (الجنازة، ويعود المريض؛ لأن ذلك) ش: أي المذكور من شهود الجنازة وعيادة المريض م: (من حقوق المسلمين) ش: لأنه أمر مندوب إليه، وليس فيه تهمة أيضا.
م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: ("للمسلم على المسلم ستة حقوق ") ش: الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حق المسلم على المسلم ست، قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما هن؟ قال: إذا لقيته فسلم، وإذا دعاك فأجب، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه» وفي رواية أخرى عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس يجب للمسلم على أخيه؛ رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض واتباع الجنائز» م: (وعد منها) ش: أي من الست م: (هذين) ش: وهما شهادة الجنازة وعيادة المريض. م: (ولا يضيف أحد الخصمين دون

(9/23)


خصمه، لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن ذلك، ولأن فيه تهمة.
قال: وإذا حضرا سوى بينهما في الجلوس والإقبال؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بينهم في المجلس والإشارة والنظر» ولا يسار أحدهما ولا يشير إليه ولا يلقنه حجة للتهمة، ولأن فيه مكسرة لقلب الآخر فيترك حقه. ولا يضحك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خصمه، لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن ذلك) ش: الحديث رواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في معجمه "الأوسط" عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر» م: (ولأن فيه تهمة) ش: أي تهمة الميل.

[تسوية القاضي بين الخصمين]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا حضرا) ش: أي الخصمان م: (سوى بينهما في الجلوس والإقبال) ش: أراد بالإقبال تسوية النظر من الجانبين. وكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وسو بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، والمستحب باتفاق أهل العلم أن يجلسهما بين يديه، ولا يجلس أحدهما على يساره والآخر على يمينه؛ لأن لليمين فضلا على اليسار.
وفي " المغني " و " النوازل " و" الفتاوى الكبرى ": تخاصم السلطان مع رجل فجلس السلطان مع القاضي في مجلسه، ينبغي للقاضي أن يقوم من مقامه ويجلس خصم السلطان فيه، ويقعد هو على الأرض، ثم يقضي بينهما حتى لا يكون مفضلا أحدهما، وهذه المسألة تدل على أن القاضي يصلح قاضيا على السلطان الذي قلده، والدليل عليه قصة علي عند شريح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن شريحا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قام عن مجلسه وأجلس عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مجلسه، وقال المرغيناني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وينبغي للخصمين أن يجثوا بين يدي القاضي ولا يتربعان ولا يقعيان ولو فعلا ذلك منعهما القاضي تعظيما للحكم كما يجلس المتعلم بين يدي العالم تعظيما للعلم، ويقف أعوان القاضي بين يديه، ليكون أهيب في أعين الناظرين.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بينهم في المجلس والإشارة والنظر» الحديث رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده " - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتلى بالقضاء بين المسلمين، فلسوا بينهم في المجلس والإشارة والنظر ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الآخر» .
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يسار أحدهما) ش: يعني لا يتكلم مع أحدهما سرا م: (ولا يشير إليه) ش: لا بالرأس ولا بالعين ولا بالحاجب، وكل ذلك منهي شرعا م: (ولا يلقنه حجة للتهمة) ش: أي تهمة الميل، ولأن فيه إعانة لأحد الخصمين، وكسر قلب الآخر، وهو معنى قوله م: (ولأن فيه مكسرة لقلب الآخر) ش: المكسرة بفتح الميم مصدر ميمي بمعنى الكسر م: (فيترك حقه) ش: لأنه يتجنب عن طلب حقه فيترك حقه م: (ولا يضحك) ش: أي القاضي

(9/24)


في وجه أحدهما لأنه يجترئ على خصمه ولا يمازحهم ولا واحدا منهما؛ لأنه يذهب بمهابة القضاء. قال: ويكره تلقين الشاهد. ومعناه أن يقول له: أتشهد بكذا وكذا، وهذا لأنه إعانة لأحد الخصمين فيكره كتلقين الخصم. واستحسنه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير موضع التهمة؛ لأن الشاهد قد يحصر لمهابة المجلس، فكان تلقينه إحياء للحق بمنزلة الأشخاص والتكفيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (في وجه أحدهما) ش: أي أحد الخصمين م: (لأنه يجترئ على خصمه) ش: بسبب ضحك القاضي في وجهه م: (ولا يمازحهم) ش: في الاختصام م: (ولا واحدا منهما) ش: أي ولا يمازح واحدا من الأخصام م: (لأنه) ش: لأن مزح القاضي م: (يذهب بمهابة القضاء) ش: ولهذا قالوا: ينبغي أن يكون القاضي عبوسا، متواضعا في أفعاله، وفي " الجواهر ": يستحب أن يكون فيه عبوسة من غير غضب.
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ويكره تلقين الشاهد ومعناه) ش: أي معنى ما قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من كراهته تلقين الشاهد م: (أن يقول له:) ش: أي أن يقول القاضي للشاهد: م: (أتشهد بكذا وكذا، وهذا لأنه إعانة لأحد الخصمين فيكره كتلقين الخصم) ش: حيث يكره م: (واستحسنه) ش: أي تقليد الشاهد م: (أبو يوسف في غير موضع التهمة؛ لأن الشاهد قد يحصر) ش: أي ينحبس لسانه عن البيان م: (لمهابة المجلس فكان تلقينه إحياء للحق) ش: وقيد بقوله في غير موضع التهمة، لأن في موضع التهمة لا يجوز ذلك، مثل أن يدعي المدعي ألفا وخمسمائة، والمدعى عليه ينكر خمسمائة، وشهد الشاهد بالألف، فالقاضي إن قال يحتمل أنه إبراء لخمسمائة، واستفاد الشاهد، علما بذلك، ووقف في شهادته كما في وقف القاضي، فهذا لا يجوز بالاتفاق، وتأخير قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يشير إلى اختيار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (بمنزلة الأشخاص) ش: وهو إرسال شخص فليحضر خصمه، ويقال شخص من بلد إلى بلد شخوصا، أي يذهب من حد منع وأشخصه غيره م: (والتكفيل) ش: وهو أخذ الكفيل لأحد الخصمين لأنه لم يكن ذلك من جنس إعانة أحد الخصمين.

(9/25)


فصل في الحبس قال: وإذا ثبت الحق عند القاضي، وطلب صاحب الحق حبس غريمه لم يعجل بحبسه، وأمره بدفع ما عليه؛ لأن الحبس جزاء المماطلة فلا بد من ظهورها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل في الحبس]
[الحبس جزاء المماطلة]
م: (فصل في الحبس) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الحبس، ولما كان الحبس من أنواع حكم القاضي، ذكره في فصل على حدة، وهو مشروع بالكتاب، وهو قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] (المائدة الآية 33) ، فإن المراد به المجلس، وبالسنة وهو ما روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس رجلا بالتهمة» ، غير أنه لم يكن في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - سجن وكان يحبس في المسجد أو الدهليز حيث أمكن، ولما كان زمن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحدث السجن بناه من قصب وسماه فقيه اللصوص، فبنى سجنا من مدر فسماه محبسا.
ثم قال الأترازي: كيسا مكيسا بنيت بعد نافع محبسا بابا حصينا، وأمينا كيسا رواه الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الفائق ". والمحبس موضع التجنيس، وهو التذليل والكيس حسن الثاني في الأمور، والمكيس منسوب إلى الكيس المعروف به قوله، وأمينا أي ونصف أمينها بعين السجان كذا في "الفائق ".
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يكن سجن حتى اشترى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دارا بالمدينة بأربعة آلاف درهم واتخذه محبسا.
م: (قال: وإذا ثبت الحق عند القاضي، وطلب صاحب الحق حبس غريمه لم يعجل بحبسه، وأمره بدفع ما عليه؛ لأن الحبس جزاء المماطلة، فلا بد من ظهورها) ش: أي ظهور المماطلة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مطل الغني ظلم» فاستحق الحبس، والمال غير مقدر في حق الحبس يحبس في الدراهم وما دونه؛ لأن مانع ذلك ظلم، فيجازى به والمحبوس في الدين لا يخرج لمجيء رمضان، والفطر والأضحى والجمعة، وصلاة مكتوبة، وحجة فريضة، وحضور جنازة بعض أهله، وموت والده وولده إذا كان ثمة من يكفنه ويغسله، بخلاف ما إذا لم يكن؛ لأنه لزم القيام حينئذ بحق الوالدين.
وقيل: يخرج بكفيله لجنازة الوالدين والأجداد والجدات والأولاد وفي غيرهم لا، وعليه الفتوى. وإن مرض وله خادم لا يخرج، وإلا يخرج لأنه ربما يموت بسببه، وهو ليس بمستحق عليه، ولو احتاج إلى الجماع، دخلت عليه زوجته وجاريته، فيطأهما حيث لا يطلع عليه أحد، وقيل: الوطء ليس من أصول الحوائج، فيجوز أن يمنع بخلاف الطعام. ولا يمنع من دخول أهله وجيرانه عليه، يشاورهم في قضاء الدين، ويمنعون من طول المكث عنده.

(9/26)


وهذا إذا ثبت الحق بإقراره؛ لأنه لم يعرف كونه مماطلا في أول الوهلة فلعله طمع في الإمهال، فلم يستصحب المال، فإذا امتنع بعد ذلك حبسه لظهور مطله، أما إذا ثبت بالبينة حبسه كما ثبت لظهور المطل بإنكاره. قال: فإن امتنع حبسه في كل دين لزمه بدلا عن مال حصل في يده كثمن المبيع أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي ترك القاضي عجلته بحبس الغريم م: (إذا ثبت الحق بإقراره؛ لأنه لم يعرف كونه مماطلا في أول الوهلة) ش: يقال: لقيته أول وهلة، أي أول شيء م: (فلعله طمع في الإمهال، فلم يستصحب المال، فإذا امتنع بعد ذلك حبسه لظهور مطله، أما إذا ثبت بالبينة حبسه كما ثبت لظهور المطل بإنكاره) ش: وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": وعلى قول الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في البينة أيضا، لا يحبسه في أول الوهلة.
وقال في " الأجناس ": قال في كفالة الأصل: قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ينبغي للإمام أن يحبس في الديون قرضا كان أو غصبا أو ثمن مبيع أو مهر، لكن لا يحبسه في أول ما يقدم إليه، ويقال له: قم فأرضه فإن عاد إليه حبسه، وهو قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله.
وقال الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والصواب عندي أن لا يحبسه حتى يقول له: ألك مال، ويستحلفه على ذلك، فإن أقر أن له مالا حبسه، وإن قال: لا مال لي، قال للطالب: أثبت أن له مالا حتى أحبسه، وهو مذهب بعض القضاة. ثم اعلم إذا ثبت إعسار المديون لا يجوز حبسه بلا خلاف ولا بلازمته، بل يمهل إلا أن يوسر. قال عز وجل: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] (البقرة: الآية 280) ، وعندنا لا يحبس، ولكن للغريم ملازمته ولا يمنعه من الكسب، وهل يلزمه الكسب وإجارة نفسه ليصرف الأجرة والكسب إلى رب الدين عندنا والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا، وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يلزمه، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان ممن يعتاد إجارة نفسه لزمه به، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه: وعليه عمل القضاة لظهور المماطلة، وفي وجه: يبيع ماله الظاهر، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - أما لو امتنع من أداء الدين يحبس بلا خلاف.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن امتنع) ش: أي الغريم م: (حبسه في كل دين لزمه عن مال حصل في يده كثمن المبيع أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة) ش: ولكنه إنما يحبسه إذا طلب المدعي ذلك.
وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": ولا يحبسه عندنا في الإقرار والبينة إلا عند طلب المدعي.
وقال شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحبسه من غير طلبه.

(9/27)


لأنه إذا حصل المال في يده ثبت غناه به وإقدامه على التزامه باختياره دليل يساره إذ هو لا يلتزم إلا ما يقدر على أدائه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الذخيرة " لو قال المديون بعد ثبوت الدين: أنا معسر، أو قال: موسر، ولا بينة له، فالقول للمديون مع يمينه، وهو رواية أصحابنا واختيار الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه؛ لأن الأصل الفقر.
وعن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: إن كان في كل دين أصله مال، كثمن المبيع والقرض، فالقول للمدعي، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه وفي كل دين لا يقابله مال، كالمهر وبدل الخلع، وما أشبه ذلك، فالقول للمديون، إليه أشار محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب النكاح، وفي مسألة ادعاء المرأة نفقة الموسرين، وزعم الزوج أنه معسر، فقال: القول للزوج، وقال بعضهم: كل دين لزمه بسبب معاقدته واختياره، فالقول لرب الدين، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه لأن اختيار لزومه بالعقد دليل اليسار.
م: (لأنه) ش: استدلال لما ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لقوله: حبسه لكل دين ... إلخ أي لأن الغريم م: (إذا حصل المال) ش: أي المال الذي هو ثمن المبيع ونحوه من أي جهة كان م: (في يده ثبت غناه به) ش: وزواله عن الملك محتمل، والثابت لا يترك بالمحتمل. والأصل في ذلك أن الأصل في الإنسان الفقر والغنى حادث، فوجب استصحاب المال حتى يعلم حدوث ما يخالفه، وما كان بدلا عن مال، فقد علم حصول الغنى به، فسقط حكم الأصل. ووجب استصحاب الغنى حتى يعلم زواله، فلهذا لم يصدق في الاعتبار، وصار امتناعه ظلما، فحبس لأجله.
م: (وإقدامه على التزامه) ش: بعقد كالمهر والكفالة م: (باختياره دليل يساره إذ هو) ش: أي لأنه م: (لا يلتزم إلا ما يقدر على أدائه) ش: فإذا ادعى الإعسار يريد إسقاطها عن نفسه، فلا يقبل قوله ويحبس، وهو الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وشرحه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، [و] هو رواية ابن سماعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يحبس في ذلك ولا يقبل قوله في الإعسار.
وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أصحابنا: أنه يحبس فيما إذا كان بدلا عن مال حصل في يده خاصة، ولا يحبس فيما سوى ذلك، لأن الحبس عقوبة تستحق بالامتناع مع الغنى، فلا يجوز إثابتها بالظاهر، كسائر العقوبات.
وحاصل المذهب عندنا: أن القاضي لا يسأل المدعي المال إلا إذا ادعى المديون الإعسار، فحينئذ يسأل. فإن قال المدعي: إنه معسر، خلى سبيله، وإن قال: إنه موسر، وقال المديون: إني

(9/28)


والمراد بالمهر معجله دون مؤجله.
قال: ولا يحبسه فيما سوى ذلك إذا قال: إني فقير إلا أن يثبت غريمه أن له مالا فيحبسه، لأنه لم توجد دلالة اليسار، فيكون القول قول من عليه الدين، وعلى المدعي إثبات غناه، ويروى أن القول لمن عليه الدين في جميع ذلك لأن الأصل هو العسرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معسر، ففيه اختلاف المشايخ، ورأي الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القول قول المديون لأنه متمسك بالأصل. وقيل: إن كان الدين وجب عليه بدلا عن مال، كثمن متاع، أو بدل. قرض، فالقول قول المدعي، وإن كان بدلا عما ليس بمال، كالمهر ونحوه، فالقول قول المدعى عليه. ونسب الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا القول في " أدب القاضي " إلى أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله.
ومن العلماء من قال: يحكم في الزاي، إن تزيا بزي الفقر، كان المقول قول المديون، وإن تزيا بزي الأغنياء، كان القول قول الطالب؛ لأن ذلك علامة ودليل إلا في حق العلوية والفقهاء، فإنهم يتكلفون في لباسهم، حتى لا يذهب ماء وجههم مع حاجتهم، فلا يكون الزي دليلا وعلما على اليسار في حقهم، فإن كان المطلوب ادعى الفقراء، وادعى الطالب أنه غير زيه، وقد كان عليه زي الأغنياء قبل أن يحضر مجلس القاضي فإن القاضي يسأل البينة، فإن أقام البينة على أنه كان عليه زي الأغنياء قبل ذلك، سمع منه البينة، ويجعل القول قوله، وإن لم يمكنه إقامة البينة، يحكم بزيه في الحال، ويجعل القول قول المطلوب، كذا في " شرح آداب القاضي ".
م: (والمراد بالمهر معجله دون مؤجله) ش: لأن العادة جارية بتسليم المعجل، فكان الإقدام على النكاح دليلا على القدرة، والوفاء بالمعجل، فلا يقبل قوله أنه معسر. قال فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا في المعجل، أما إذا طلبت المرأة المؤجل بعد ما بنى بها، فإن القول قول الزوج أنه عسر؛ لأنه لا دلالة هاهنا على القدرة منه على آدابه؛ فأما في النفقة، فإن القول قول الزوج أنه معسر في تقدير النفقة.

[أقام المدعي بينة على يساره وأقام المديون بينة على إعساره]
م: (قال: ولا يحسبه فيما سوى ذلك) ش: أي فيما سوى المذكور كضمان المتلف والغصب وأرش الجناية. م: (إذا قال: إني فقير، إلا أن يثبت غريمه أن له مالا فيحبسه؛ لأنه لم توجد دلالة اليسار، فيكون القول قول من عليه الدين، وعلى المدعي إثبات غناه، ويروى أن القول لمن عليه الدين في جميع ذلك لأن الأصل هو العسرة) ش: أي في ثمن المبيع والمهر وغير ذلك.
وفي " الذخيرة ": إذا أقام المدعي بينة على يساره، وأقام المديون بينة على إعساره، فبينة رب الدين أولى، لأن شهود المديون شهدوا بشيء لم يعرفوه.

(9/29)


ويروى أن القول له إلا فيما بدله مال. وفي النفقة القول قول الزوج أنه معسر، وفي إعتاق العبد المشترك القول للمعتق. والمسألتان تؤديان القولين الأخيرين، والتخريج على ما قاله في الكتاب إنه ليس بدين مطلق، بل هو صلة حتى تسقط النفقة بالموت على الاتفاق، وكذا عند أبي حنيفة ضمان الإعتاق، ثم فيما كان القول قول المدعي، إن له مالا أو ثبت ذلك بالبينة فيما كان القول قول من عليه، يحبسه شهرين أو ثلاثة، ثم يسأل عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويروى) ش: عن الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه نسبه إلى أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقد مر بيانه م: (أن القول له) ش: أي لمن عليه الدين م: (إلا فيما بدله مال) ش: يعني القول فيما بدله مال للمدعي م: (وفي النفقة القول قول الزوج إنه معسر) ش: يعني إذا ادعت المرأة على زوجها أنه موسر، وادعت نفقة الموسرين، وزعم الزوج أنه معسر، وعليه نفقة المعسرين، فالقول قول الزوج.
م: (وفي إعتاق العبد المشترك القول للمعتق) ش: يعني إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد.
وزعم أنه معسر، كان القول قوله م: (والمسألتان) ش: وهما مسألة النفقة ومسألة إعتاق العبد المشترك م: (تؤيدان القولين الأخيرين) ش: وبعض النسخ الأخير، وأراد بالقولين الأخيرين قوله ويروى أن القول لمن عليه الدين في جميع ذلك، ويروى أن القول له إلا فيما بدله مال.
م: (والتخريج) ش: أي تخريج مسألة الإنفاق والإعتاق م: (على ما قاله في الكتاب) ش: أي على ما قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره "، حيث القول المدعي في كل دين التزمه بعقد مع وجود الالتزام، لم يكن القول للمدعي في المسألتين، فأجاب عنه وقال م: (إنه) ش: أي أن النفقة على تأويل الإنفاق م: (ليس بدين مطلق، بل هو صلة حتى تسقط النفقة بالموت على الاتفاق) ش: فلو كان دينا مطلقا لم يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء م: (وكذا) ش: أي ولكذا ليس بدين مطلق م: (عند أبي حنيفة ضمان الإعتاق) ش: فإن المريض إذا أعتق في مرض موته عبدا مشتركا، لا يجب عليه الضمان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلما كان كذلك، لم ترد هاتان المسألتان بقضاء القول الأول، وهو قوله حبسه في كل دين ... إلى آخره؛ لأن المراد بالدين هو المطلق منه، إذ به يحصل الاستدلال على القدرة.
م: (ثم فيما كان القول قول المدعي إن له مالا أو ثبت ذلك بالبينة فيما كان القول قول من عليه يحبسه) ش: أي الحاكم م: (شهرين أو ثلاثة ثم يسأل) ش: جيرانه وأهل الخبرة م: (عنه) ش: عن يساره وإعساره، وهذا التقدير رواية محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في

(9/30)


فالحبس لظهور ظلمه في الحال، وإنما يحبسه مدة ليظهر ماله لو كان يخفيه فلا بد من أن تمتد المدة ليفيد هذه الفائدة، فقدره بما ذكره، ويروى غير ذلك من التقدير بشهر أو أربعة إلى ستة أشهر، والصحيح أن التقدير مفوض إلى رأي القاضي لاختلاف أحوال الأشخاص فيه. قال: فإن لم يظهر له مال خلى سبيله، يعني بعد مضي المدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كتاب الحوالة، والكفالة، وروى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن التقدير فيه بأربعة أشهر، على قياس مدة الإيلاء. وذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن التقدير فيه بشهر.
وقال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": ثم قال: والحاصل أنه ليس فيه مضي وقت مقدر، بل الأمر مفوض إلى رأي القاضي، فإن مضى أربعة أشهر، ووقع له أنه متعنت، يستديم حبسه، وإن كان دون ذلك، بأن كان شهرين أو شهرا أو دونه ووقع أنه عاجز لا مال له، أطلقه من السجن.
وقال شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما قال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أوفق الأقاويل، وقال الناصحي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " تهذيب أدب القاضي ": قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يحبسه شهرين أو ثلاثة، وعلى رواية محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قر وفيه أربعة أشهر، وعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ستة أشهر، ثم قال: وهو موقوف على رأي القاضي.
م: (فالحبس لظهور ظلمه في الحال) ش: وفي بعض النسخ لظهور مظلمة م: (وإنما يحبسه مدة ليظهر ماله لو كان يخفيه فلا بد من أن تمتد المدة ليفيد هذه الفائدة) ش: أراد بهذه ظهور ماله لو كان [يخفيه] م: (فقدره بما ذكره) ش: أي قدر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما ذكره من الحبس أنه شهران أو ثلاثة م: (ويروى غير ذلك) ش: أي غير الشهرين أو الثلاثة م: (من التقدير بشهر أو أربعة) ش: أشهر م: (إلى ستة أشهر) ش: وقد مر ذلك كله، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والصحيح أن التقدير) ش: في مدة الحبس م: (مفوض إلى رأي القاضي لاختلاف أحوال الأشخاص فيه) ش: أي من الحبس لأن بعض الناس، يضجر بالحبس في مدة قليلة ما لا يضجر آخر في مدة كثيرة. وبه قال الشافعي، وأحمد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقال ابن الماجشون المالكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحبس في القليل أكثر من نصف الشهر، وفي الكثير يبلغ أربعة أشهر، وفيما بين ذلك الشهرين ونحوهما بالنسبة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن لم يظهر له) ش: أي الغريم م: (مال خلى سبيله) ش: ولا يحول بينه وبين غرمائه، قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يعني بعد مضي المدة لأنه استحق النظرة) ش: بكسر الظاء م: (إلى الميسرة، فيكون حبسه بعد ذلك ظلما. ولو قامت البينة

(9/31)


لأنه استحق النظرة إلى الميسرة فيكون حبسه بعد ذلك ظلما، ولو قامت البينة على إفلاسه قبل المدة تقبل في رواية ولا تقبل في رواية، وعلى الثانية عامة المشايخ. قال في الكتاب: خلي سبيله ولا يحول بينه وبين غرمائه، وهذا كلام في الملازمة وسنذكره في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى. قال وفي " الجامع الصغير " رجل أقر عند القاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على إفلاسه قبل المدة) ش: أي المدة التي رآها القاضي برائة، أو بعد مضي المدة التي اختارها بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كشهر أو شهرين أو أربعة أشهر على ما تقدم م: (تقبل) ش: أي م: (البينة في رواية) ش: وبه قال الشافعي، وأحمد - رحمهما الله - م: (ولا تقبل في رواية) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعلى الثانية) ش: أي الرواية الثانية م: (عامة المشايخ) ش:. وقال الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": هو الصحيح، وفي " الذخيرة ": لو أخبره عن إعساره قبل الحبس واحد عدل أو اثنان، أو شهد بذلك شاهدان، فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان، في رواية: لا يحبسه وبه يفتي الفضلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول إسماعيل ابن حماد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهكذا قال نصر بن يحيى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الإسكاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعامة مشايخ ما وراء النهر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يحبسه ولا تقبل هذه البينة؛ لأنه بينة على النفي، إلا إذ تأيدت بمؤيده بعد مضي المدة تأيدت.
وقال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سؤال القاضي عن المحبوس بعد حبسه احتياط، وليس بواجب، ولو طلب يمين الطالب عنه لا يعرف أنه معدم، يحلف، فإن نكل أطلقه، وإن حلف أبد الحبس.
وقال أبو القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كيفية الشهادة: أن يقول: أشهد أنه مفلس، لا نعلم له مالا سوى كسوته التي عليه، وثياب ليله، وقد اختبرنا أمره سرا وعلانية.
م: (قال في الكتاب) ش: أي وقول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (خلى سبيله ولا يحول بينه وبين غرمائه، وهذا كلام في الملازمة) ش: يعني المنع عن ملازمة المديون بعد إخراجه من الحبس في الملازمة هل للطالب ذلك أم لا؟ م: (وسنذكره في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى) ش: أي المنع في باب الحجر بسبب الدين عند قوله، ولا يحول بينه وبين غرماء بعد خروجه من الحبس، يلازمونه ... إلى آخره والمراد من الملازمة الطواف معه، أي طاف حتى يأخذ وأفضل كسبه لا المطالبة.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وفي " الجامع الصغير " رجل أقر عند القاضي

(9/32)


بدين فإنه يحبسه ثم يسأل عنه، فإن كان موسرا أبد حبسه، وإن كان معسرا خلى سبيله، ومراده إذا أقر عند غير القاضي أو عنده مرة وظهرت مماطلته، والحبس أولا ومدته قد بيناه فلا نعيده. قال: ويحبس الرجل في نفقة زوجته لأنه ظالم بالامتناع ولا يحبس الوالد في دين ولده، لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بدين فإنه يحبسه ثم يسأل عنه، فإن كان موسرا أبد حبسه، وإن كان معسرا خلى سبيله) ش: إنما ذكر رواية الجامع الصغير دفعا لتوهم التناقض بين روايته ورواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا لأنه روى لفظ القدوري في أول الفصل بقوله، وإذا ثبت الحق عند القاضي، وطلب صاحب الحق حبس غريمه، لم يعجل بحبسه، ثم قال: وهذا إذا ثبت الحق بإقراره.
ولفظ " الجامع الصغير " يدل على جواز الحبس متصلا بالإقرار، وبينهما وهم التناقض، فدفع هذا الوهم بقوله م: (ومراده) ش: يعني مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا أقر عند غير القاضي أو عنده مرة وظهرت مماطلته) ش:. قال الأترازي يعني مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا ثبت الحق بالإقرار، ثم ثبتت المماطلة، فترافعا إلى القاضي فحينئذ يحبسه لا بمجرد الإقرار، فاندفع ذلك الوهم.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: معنى المسألة إذا كان جاحدا، فأقر عنده، وظهر القاضي جحوده عند غيره، ومماطلته، أو ظهر له مماطلته بعدما أقر عنده، فحينئذ يحبسه، فأما إذا أقر مرة فلا يحبسه.
م: (والحبس أولا ومدته قد بيناه فلا نعيده) ش: أي الحبس المذكور أولا قبل السؤال في " الجامع الصغير " في قوله: يحبسه، ثم يسأل عنه، قد بينا ذلك قبل هذا في رواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنده يحبسه شهرين أو ثلاثة، ثم يسأل عنه، وبينا مدة الحبس أيضا مع الاختلاف المذكور فيها فلا حاجة إلى الإعادة، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وروي والحبس ومدته بالنصب فيهما.
قلت: إعراب الرفع أن قوله: و"الحبس" مبتدأ أولا نصب على الظرف، ومدته عطف على المبتدأ، وقوله: وقد بيناه، خبر المبتدأ.
وأما وجه النصب، فعلى تقدير بينا الحبس، ومدته بالنصب أيضا عطفا عليه، وقوله: قد بيناه مفسر لذلك المقدر.
م: (قال: ويحبس الرجل في نفقة زوجته؛ لأنه ظالم بالامتناع) ش: وفي أكثر النسخ. قال، أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويحبس الرجل إلى آخره؛ لأنه ظالم فيحبس وإن كان مقدار النفقة يسيرا، بأن كان درهما أو دنقا م: (ولا يحبس الوالد في دين ولده لأنه) ش: أي لأن الحبس م: (نوع

(9/33)


نوع عقوبة فلا يستحقه الولد على الوالد كالحدود والقصاص إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه، لأن فيه إحياء لولده، ولأنه لا يتدارك لسقوطها بمضي الزمان، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عقوبة فلا يستحق الولد على الوالد، كالحدود والقصاص) ش: فإن الوالد لا يؤاخذ بهما لأجل ولده م: (إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه) ش: أي على ولده؛ لأن فيه إهلاكه، وفي الإنفاق عليه إحياءه، وهو معنى قوله م: (لأن فيه) ش: أي في الإنفاق عليه م: (إحياء لولده، ولأنه) ش: أي ولأن الإنفاق م: (لا يتدارك لسقوطها) ش: أي لسقوط نفقة الولد م: (بمضي الزمان، والله أعلم بالصواب) ش: أي الزمان، بخلاف الدين حيث لا يسقط بمضي الزمان، فافترقا في هذا الحاكم، فيفترقان في حق الحبس.

(9/34)