البناية
شرح الهداية [فصل في الأكل
والشرب]
م: (وهو يشتمل على فصول) ش: أي كتاب الكراهية يجتمع على فصول م: (منها) ش:
أي من الفصول م: (فصل في الأكل والشرب) ش: أي في بيان أحوال الأكل والشرب
م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تكره لحوم الأتن وألبانها) ش:
الأتن بضمتين، جمع أتان هي الحمارة وإنما خص الأتن مع كراهة لحم سائر
الحمير يستقيم، عطف الألبان عليه إذ اللبن لا يكون إلا من الأتان.
فقال الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبشر المريسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
لحوم الحمر الأهلية حرام وقد ذكرناه مستقصى في كتاب الذبائح فإذا ثبت حرمة
اللحم عندنا ثبت له حكم اللبن؛ لأنه متولد منه.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في شرح " الجامع الصغير ": اتفق
أصحابنا على أن الحمار إذا ذبح يطهر لحمه وأنه لا يؤكل، وأما شحمه فلا يؤكل
وهل ينتفع به في غير وجه الأكل اختلفت فيه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -،
فقال بعضهم: لا يحل كما لا يحل الأكل، وقال بعضهم بل ذلك جائز.
(12/66)
وأبوال الإبل. وقال أبو يوسف ومحمد -
رحمهما الله - لا بأس بأبوال الإبل. وتأويل قول أبي يوسف: أنه لا بأس بها
للتداوي. وقد بينا هذه الجملة فيما تقدم في الصلاة، والذبائح فلا نعيدها،
واللبن متولد من اللحم فأخذ حكمه.
قال: ولا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب، والفضة للرجال
والنساء لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الذي يشرب في إناء
الذهب والفضة: «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأبوال الإبل) ش: أي يكره أبوال الإبل أيضا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - م: (وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لا بأس بأبوال الإبل،
وتأويل قول أبي يوسف) ش: لأنه ذكر مطلقا في " الجامع الصغير " حيث قال محمد
عن يعقوب عن أبي حنيفة قال: أكره شرب أبوال الإبل وأكل لحم الفرس، وقال أبو
يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لا بأس بذلك كله.
قال المصنف: تأويل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه لا بأس بها
للتداوي) ش: لا مطلقا كما هو مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقد بينا
هذه الجملة فيما تقدم في الصلاة) ش: في كتاب الطهارات في فصل البئر م:
(والذبائح) ش: أي في كتاب الذبائح، وأراد به حكم لحوم الأتن م: (فلا
نعيدها) ش: أي من التكرار.
م: (واللبن متولد من اللحم فأخذ حكمه) ش: أي فيما لم يختلف ما هو المقصود
من كل واحد منهما، ولا بد من ذلك القيد وإلا يلزم نقضا على هذا الأصل لبن
الفرس على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية هذا الكتاب: جعل
شرب لبنه حلالا لما أن المقصود من تحريم لحمه تعليل آلة الفن ولا يوجد ذلك
في اللبن.
[الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب
والفضة]
م: (قال: ولا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة
للرجال والنساء) ش: أي قال القدوري " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " في " مختصره
": قبل: صورة الادهان المحرم أن يأخذ الإناء ويصب على رأسه، أما إذا أدخل
يده فيها وأخذ الدهن ثم صب على رأسه من اليد لا يكره ذلك في " الجامع " و "
الذخيرة " و " المحيط ".
وكذا لو دفع الطعام ووضعه على الخبز وأكله لأنه يحل لانقطاعه عن آنية الفضة
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الذي يشرب في إناء
الذهب والفضة: «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري
ومسلم - رحمهما الله - عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذي يشرب
في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» .
وفي لفظ لمسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «من يشرب في إناء ذهب أو فضة» وفي لفظ
له: «الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة» .
(12/67)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولم يذكر البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأكل ولا ذكر الذهب، أخرجه البخاري
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأشربة، ومسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أول
اللباس.
وأخرجه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن
يحيى بن محمد الجاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثنا زكريا بن إبراهيم بن عبد
الله بن مطيع عن أبيه عن ابن عمر نحوه، وزاد فيه: «آنية الذهب والفضة» أو
فيه شيء من ذلك، ويحيى الجاري فيه، فقال: أخرجاه في الطهارة.
وروى البخاري أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «كان حذيفة بالمدائن
فاستقى الماء وأتى دهقان بقدح فضة فرمى به فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته
فلم ينته، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهانا عن
الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: " هي لهم في الدنيا وهي
لكم في الآخرة» ".
وقال الخطابي: أصل الجرجرة هدير الفحل إذا اهتاج ويقال: جرجر الفحل إذا هدر
في شقشقته، ومثله جرجرة الرحى. وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الجرجرة
صوت يردده البعير في حنجرته ومعناه يرددها في بطنه.
وقال صاحب " العناية ": و " نار " منصوب على ما هو محفوظ من الثقات.
قلت: روى الزمخشري أيضا بالنصب في تابعه واقتصر عليه وقال: أي يرددها فيه
من حرز الفحل إذا ردد الصوت في حنجرته. انتهى. ذلك يجوز فيه الوجهان.
قال الخطابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي إعرابه وجهان: أحدهما: إن رفع
النار، أي كأنه يصوت في جهة بطنه نار جهنم، والوجه الآخر: أن ينصب النار،
أي كأنه يجرع في شربه نار جهنم: كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] انتهى.
قلت: التحقيق في إعراب هذا الحديث الذي قوله: الذي: مبتدأ موصول، وقوله:
يشرب من إناء الذهب: صلة، قوله: إنما يجرجر في بطنه نار جهنم: خبر المبتدأ،
وهي جملة وفيها العائد إلى الاسم للأول، ثم قوله: يجرجر سواء رفعت النار أو
نصبت على بناء الفاعل، ولكن معناه في النصب متعدد في الرفع لازم، ونار جهنم
في النصب تردد وفي الرفع متردد، والأصل هذا الفعل لازم، ولكن يتعدى في
النصب؛ لأنه يكون معنى يتجرع وهو من باب التضمين وفيه يصير اللازم متعديا،
فافهم.
وهكذا فسره الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في النصب بقوله: أي يرددها؛
لأنها حينئذ تتضمن جرجر معنى ردد، وردد متعد وإلا فأصله لازم لأنك تقول
جرجر الرحى إذا سمع منه
(12/68)
وأتي أبو هريرة بشراب في إناء فضة فلم
يقبله، وقال: نهانا عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وإذا ثبت هذا في الشراب، فكذا في الادهان ونحوه؛ لأنه في معناه، ولأنه تشبه
بزي المشركين وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين. وقال في " الجامع الصغير ":
يكره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صوت فتردد.
م: «وأتي أبو هريرة بشراب في إناء فضة فلم يقبله، وقال: نهانا عنه رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ش: هذا عن أبي هريرة - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - غير صحيح، وهو في الكتب الستة عن حذيفة - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: «استسقى
حذيفة فسقاه مجوسي في إناء من فضة فقال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا
تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا
ولكم في الآخرة» أخرجه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأشربة والأطعمة
واللباس، ومسلم في الأطعمة، وأبو داود والترمذي في الأشربة، وابن ماجه في
الأشربة واللباس، والنسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الزينة والوليمة.
م: (وإذا ثبت هذا) ش: أي عدم الجواز م: (في الشراب فكذا في الادهان ونحوه)
ش: أي فكذا ثبت عدم الجواز في الادهان ونحوه مثل التداوي يداوي فيه
والإسقاط والإنحار والاختتان م: (لأنه في معناه) ش: أي لأن الادهان في معنى
الشرب منه؛ لأن كل واحد استعمال للمحرم والمحرم الاستعمال بأي وجه كان.
م: (ولأنه تشبه بزي المشركين) ش: أي ولأن كل من الأكل والشرب والادهان
والتطيب في آنية الذهب والفضة، تشبيه بأفعال المشركين؛ لأنهم لا يستعملون
من الأشياء إلا في أواني الذهب والفضة، ولا سيما ملوك الروم والغجر.
م: (وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين) ش: المترف - بضم الميم وسكون التاء
المثناة من فوق وفتح الراء وفي آخره فاء -، وهو المنعم، يقال: أترفه أي
نعمه وأترفته النعمة أي أطغته، كذا في " الديوان ".
ومنه قوله سبحانه وتعالى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}
[الإسراء: 16] .
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تنعم المترفين أي الطاغين.
قال سبحانه وتعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ
الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] والإسراف المجاوزة عن الحد في استعمال الأشياء.
م: (وقال في " الجامع الصغير ": يكره) ش: حيث قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ
- عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كان يكره الأكل والشرب
والادهان في آنية الذهب، وكان لا يرى
(12/69)
ومراده التحريم، ويستوي فيه الرجال والنساء
لعموم النهي. وكذلك الأكل بملعقة الذهب، والفضة والاكتحال بميل الذهب
والفضة، وكذا ما أشبه ذلك كالمكحلة والمرآة وغيرهما لما ذكرنا، قال: ولا
بأس باستعمال آنية الرصاص والزجاج والبللور والعقيق. وقال الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره؛ لأنه في معنى الذهب والفضة في التفاخر به. قلنا:
ليس كذلك؛ لأنه ما كان من عادتهم التفاخر بغير الذهب والفضة،
. قال: ويجوز الشرب في الإناء المفضض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
والركوب في السرج المفضض والجلوس على الكرسي المفضض والسرير المفضض إذا كان
يتقي موضع الفضة ومعناه: يتقي موضع الفم، وقيل: هذا وموضع اليد في الأخذ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بأسا بالإناء المفضض م: (ومراده التحريم) ش: هذا كلام المصنف - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أي مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله يكره: كراهة التحريم؛
لأنه ثبت بالنص القاطع، م: (ويستوي فيه) ش: هذا كلام المصنف أي في الحكم
المذكور م: (الرجال والنساء لعموم النهي) ش: حيث لم يخص طائفة منهم.
م: (وكذلك الأكل بملعقة الذهب والفضة) ش: أي لا يجوز م: (والاكتحال) ش:
بالرفع أي وكذا لا يجوز الاكتحال م: (بميل الذهب والفضة وكذا ما أشبه ذلك
كالمكحلة والمرآة وغيرهما) ش: نحو المجمرة والملقط والمسقط، وكذا الركاب
واللجام والثغر والكرسي والسرير ونحوهم.
م: (لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله: ولأنه تشبه بزي المشركين م: (قال: ولا
بأس باستعمال آنية الرصاص والزجاج والبللور والعقيق. وقال الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره؛ لأنه في معنى الذهب والفضة في التفاخر به) ش: أي
بكل واحد من هذه الأشياء.
وقال الأقطع في " شرحه ": وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره؛ لأنه في
معنى الذهب والفضة من ذلك كأن نافس عينا بجنسه كالبللور.
م: (قلنا: ليس كذلك) ش: أي ليس كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م:
(لأنه) ش: أي الشأن م: (ما كان من عادتهم التفاخر بغير الذهب والفضة) ش: أي
من عادة المشركين أو المترفين والأصل في الأشياء الإباحة. قال الله سبحانه
وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:
29] وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] .
[الشرب في الإناء المفضض]
م: (قال: ويجوز الشرب في الإناء المفضض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ
-) ش: أي قال القدوري: والمفضض المرصع وبالفارسية سيم كوفته م: (والركوب في
السرج المفضض والجلوس على الكرسي المفضض والسرير المفضض إذا كان يتقي موضع
الفضة) ش: أي يجتنب موضع الفضة م: (ومعناه) ش: أي معنى قول القدوري -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يتقي موضع الفضة م: (يتقي موضع الفم) ش: عن الشرب من
الإناء المفضض م: (وقيل: هذا، وموضع اليد في الأخذ) ش: أي قبله يتقي
(12/70)
وفي السرير والسرج موضع الجلوس، وقال أبو
يوسف: يكره ذلك. وقول محمد: يروى مع أبي حنيفة ويروى مع أبي يوسف، وعلى هذا
الخلاف الإناء المضبب بالذهب والفضة والكرسي المضبب بهما،
وكذا إذا جعل ذلك في السيف والمشحذ وحلقة المرأة، أو جعل المصحف مذهبا، أو
مفضضا وكذا الاختلاف في اللجام والركاب والثفر إذا كان مفضضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موضع الفم وموضع اليد عند الأخذ، فعرفت أن هذا في موضع النصب على
المفعولية. وقوله وموضع اليد بالنصب عطف عليه.
م: (وفي السرير والسرج موضع الجلوس) ش: أي ويتقي في السرج والسرير موضع
الجلوس.
م: (وقال أبو يوسف: يكره ذلك) ش: وبه قالت الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
م: (وقول محمد يروى مع أبي حنيفة ويروى مع أبي يوسف) ش: يعني قوله مضطرب.
روى الإمام الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مع أبي حنيفة، وروى أبو
عامر العامري أنه مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعلى هذا الخلاف
الإناء المضبب بالذهب والفضة والكرسي المضبب بهما) ش: أي بالذهب والفضة،
يقال: بأن يضبب أي مشدد، وبالضبان جمع ضبة وهي حديد به الفريضة التي يضبب
بها ومنه يضبب استناصه بالفضة إذا شدها.
كذا في " المغرب " و " الذخيرة ": الضبة الذهب العريضة أو الفضة العريضة
يجعل على وجه الباب وما أشبه ذلك.
ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بالجلوس على الكرسي المضبب
والسرير المضبب إذا لم يقعد على موضع الذهب.
م: (وكذا إذا جعل ذلك) ش: وكذا الخلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا جعل التضبيب م: (في السيف والمشحذ) ش:
أي في المسن. وفي بعض النسخ: والمسجد، والمراد به سقف المسجد م: (وحلقة
المرأة) ش: والمراد من الحلقة التي تكون على خوال المرأة لا ما تأخذه
المرأة بيدها، فإن ذلك مكروه بالاتفاق م: (أو جعل المصحف مذهبا أو مفضضا)
ش: يجوز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ -، وبقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال الشافعي وأحمد في
تحلية المسجد والمصحف بالذهب والفضة: له وجهان، فذكر بعض أصحابه أنه يجوز
إعظاما ونصه أنه حرام.
م (وكذا الاختلاف) ش: يعني بين أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (في
اللجام والركاب والثفر) ش: بفتح الثاء المثلثة والفاء وفي آخره راء، وهو
الذي يجعل تحت ذنب الدابة م: (إذا كان مفضضا) ش: أي كل واحد منهما.
(12/71)
وكذا الثوب فيه كتابة بذهب أو فضة على هذا،
وهذا الاختلاف فيما يخلص، وأما التمويه الذي لا يخلص فلا بأس به بالإجماع.
لهما: أن مستعمل جزء من الإناء مستعمل جميع الأجزاء فيكره كما إذا استعمل
موضع الذهب والفضة. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن ذلك تابع ولا
معتبر بالتوابع فلا يكره كالجبة المكفوفة بالحرير، والعلم في الثوب، ومسمار
الذهب في الفص.
قال: ومن أرسل أجيرا له مجوسيا أو خادما فاشترى لحما فقال: اشتريته من
يهودي أو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا الثوب فيه كتابة بذهب أو فضة على هذا) ش: أي على الخلاف المذكور،
وكذا الخلاف إذا كان في نصل السكين فضة أو قبضة السيف قال أبو حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أخذ من السكين موضع الفضة يكره وإلا فلا، خلاف لأبي
يوسف والثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (وهذا الاختلاف فيما يخلص) ش: أي
يتميز من الآنية م: (وأما التمويه الذي لا يخلص) ش: بالإذابة فلا يتميز م:
(فلا بأس به بالإجماع) ش: أراد بالإجماع اتفاق أصحابنا - رَحِمَهُمُ
اللَّهُ - لأن فيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والتمويه هو التطلية
بماء الذهب أو الفضة وهو مصدر موهت السكين إذا طليته.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن مستعمل جزء من
الإناء مستعمل جميع الأجزاء فيكره كما إذا استعمل موضع الذهب والفضة) ش:
حيث يكره بالإجماع ولعموم النهي أيضا م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
إن ذلك تابع) ش: أي استعمال ذلك الجزء هو تابع إلى الاستعمال، قصد الجزء
الذي يلاقيه العضو وما سواه تبع في الاستعمال م: (ولا معتبر بالتوابع فلا
يكره كالجبة المكفوفة بالحرير، والعلم في الثوب، ومسمار الذهب في الفص) ش:
فصار كمن شرب من كفه وفي أصبعه خاتم فضة.
وحكي أن هذه المسألة وقعت في دار أبي جعفر الدرانقي بحضرة أبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وأئمة عصره فقالت الأئمة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يكره،
فقيل لأبي حنيفة: ما تقول؟ فقال: إن وضع فمه على الفضة يكره وإلا فلا، فقيل
له: ما الحجة فيه؟ فقال: رأيت لو كان في الأصبع خاتما من فضة فشرب من كفه
لا يكره، فوقف كلهم وتعجب أبو جعفر، كذا في " الجامع المحبوبي ".
وفي " المجتبى " قيل: الجلوس على سرير من ذهب أو فضة يجوز عند أبي حنيفة
وأبي يوسف - رحمهما الله - ويكره عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لاختلافهم
في الجلوس على الحرير، والصحيح أنه يكره بالاتفاق. وفي " العيون ": قال
محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا بأس بأن يكون في بيته شيء من الديباج لا
يقعد عليه ولا ينام، وأواني الذهب للتجمل لا يشرب فيها.
[أرسل أجيرا له فاشترى لحما فقال اشتريته من
يهودي أو نصراني أو مسلم]
م: (قال: ومن أرسل أجيرا له مجوسيا أو خادما فاشترى لحما فقال: اشتريته من
يهودي، أو
(12/72)
نصراني أو مسلم وسعه أكله؛ لأن قول الكافر
مقبول في المعاملات؛ لأنه خبر صحيح لصدوره عن عقل ودين يعتقد في حرمة
الكذب، والحاجة ماسة إلى قبوله لكثرة وقوع المعاملات. قال: وإن كان غير ذلك
لم يسعه أن يأكل منه، معناه: إذا كان ذبيحة غير الكتابي والمسلم؛ لأنه لما
قبل قوله في الحل أولى أن يقبل في الحرمة.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويجوز أن يقبل في الهدية والإذن قول العبد
والجارية والصبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نصراني أو مسلم وسعه أكله) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "
الجامع الصغير ": وفي بعض النسخ: وسعه أكله. م: (لأن قول الكافر مقبول في
المعاملات) ش: لأجل الضرورة، فإن المعاملات يكثر وقوعها بين الناس ولا يوجد
في كل خبر عدل يرجع إليه.
م: (لأنه خبر صحيح لصدوره عن عقل ودين يعتقد فيه حرمة الكذب والحاجة ماسة
إلى قبوله لكثرة وقوع المعاملات قال: وإن كان غير ذلك لم يسعه أن يأكل منه)
ش: أي غير ما قال: اشتريته من يهودي أو نصراني بأن قال: اشتريته من مجوسي
فلم يسعه الأكل حينئذ أشار إلى هذا المعنى بقوله م: (معناه) ش: أي معنى قول
محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن كان غير ذلك م: (إذا كان ذبيحة غير الكتابي
والمسلم؛ لأنه لما قبل قوله) ش: أي قول الأجير المجوسي م: (في الحل أولى أن
يقبل في الحرمة) ش: لوجوب الاحتياط في باب الحرمة.
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويجوز أن يقبل في الهدية والإذن قول العبد
والجارية والصبي) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعني إذا قال
العبد أو الصبي: أن هذا الشيء هدية أهداها مولاي أو أبي إليك، أو قال: أنا
مأذون في التجارة يعتمد على قوله في " الجامع الصغير " أي روى محمد في "
الجامع الصغير " عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: إذا جاءت
أمة رجل إلى رجل وقالت: بعثني مولاي إليك بهدية، قال: يسعه أن يأخذها.
انتهى.
وأصله أن خبر الواحد حجة في المعاملات لإجماع المسلمين على ذلك بالكتاب
والسنة.
فإن الله تعالى جعل خبر الواحد حجة في كتابه. قال الله تعالى: {وَجَاءَ
مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] وقال الله تعالى:
{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف:
19] .
وقد توارثنا السنة عن الصحابة والتابعين بذلك، وقال أبو نصر - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في " شرح القدوري ": وهو الذي ذكره استحسانا والقياس أن لا يقبل
لما لم يكن لهما قول صحيح، وإنما تركوا القياس للعادة الجارية، أنهم
ليقبلون قولهما في الهدية والإذن في سائر الأعصار من غير نكير، فإنهم لو
اعتبروا في ذلك خبر الحر البالغ لشق على الناس فجوزوا ذلك وقد قالوا: يجب
أن يعمل على ذلك بغلبة الظن في جواز من السامع في صفات المخبر فإذا رأى
العبد يبيع شيئا حتى يسأل عنه، فإذا ذكر أن مولاه أذن له في ذلك، وكان ثقة
فلا بأس بشرائه منه، وكذا إن
(12/73)
لأن الهدايا تبعث عادة على أيدي هؤلاء،
وكذا لا يمكنهم استصحاب الشهود على الإذن عند الضرب في الأرض والمبايعة في
السوق، فلو لم يقبل قولهم يؤدي إلى الحرج. وفي " الجامع الصغير ": إذا قالت
جارية لرجل بعثني مولاي إليك هدية وسعه أن يأخذها؛ لأنه لا فرق بين ما إذا
أخبرت بإهداء المولى غيرها أو نفسها لما قلنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: هذا أهداه إلي مولاي فإن كان أكبر رأيه أنه كاذب أو لم يكن له رأي لم
يتعرض لشيء منه؛ لأن الأصل أنه محجور عليه وهو الإذن صار فلا يجوز إثباته
بالشك.
وإنما قلنا: قول العبد إذا كان ثقة في الإذن؛ لأنه من أخبار المعاملات وهو
أضعف من أخبار الديانات.
فإذا قيل: قوله في أخبار الدين ففي أخبار المعاملات أولى. وقد قالوا في رجل
في يده شيء أخبر أنه لغيره وأنه وكله ببيعه أو وهبه له أو اشتراه منه فإن
كان مسلما ثقة صدق فيما قال: إن كان أكبر رأيه أنه صادق، وإن كان أكبر رأيه
أنه كاذب لم يصدق، وهذا إذا لم يعلم الملك لغير البائع إلا من جهة؛ لأن
الناس في سائر الأعصار يقبلون قول الوكلاء والدلالين من غير نكير. وعلى هذا
إذا علم أن الشيء لغير البائع له من جهة، اعتبر في جوازه غلبة الظن.
وقد قالوا فيمن باع شيئا ولم يخبر أن ذلك لغيره فلا بأس بأن يشتري منه
ويقبل قوله أنه له وإن كان غير ثقة إلا أن يكون مثله لا يملك مثل ذلك الشيء
وأوجب إلى أن يسترده منه ولا يتعرض بشراء أو لا غيره وإنما جاز الشراء؛ لأن
اليد والتصرف دليل الملك إلا أن يعلم غيره، ولأن الناس يشترون في سائر
الأعصار من الثقات وغير الثقات من غير نكير فدل على جوازه.
وأما إذا كان مثل ذلك الرجل لا يملك ذلك كالفقير يبيع جواهر قيمة وما أشبه
ذلك فإن الظاهر ينفي أن يكون مثل ذلك له ولم يدع وقاله من جهة الغير، فيرجع
إلى قوله، فكان الأولى الثمرة في ذلك.
م: (لأن الهدايا تبعث عادة على أيدي هؤلاء، وكذا لا يمكنهم) ش: أي العبد
والجارية والصبي م: (استصحاب الشهود على الإذن عند الضرب في الأرض) ش: أراد
به السفر م: (والمبايعة في السوق فلو لم يقبل قولهم يؤدي إلى الحرج) ش: وهو
مدفوع شرعا م: (وفي " الجامع الصغير " إذا قالت جارية لرجل بعثني مولاي
إليك هدية وسعه أن يأخذها؛ لأنه لا فرق بين ما إذا أخبرت بإهداء المولى
غيرها أو نفسها) ش: أي وبإهداء المولى نفسها م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى
قوله: فلو لم يقبل قولهم يؤدي إلى الحرج، وقيل: أشار به إلى قوله: لأن
الهدايا تبعث عادة على أيدي هؤلاء، وأتى برواية " الجامع الصغير " لأن
الهدية فيها نفس الجارية.
(12/74)
قال: ويقبل في المعاملات قول الفاسق، ولا
يقبل في الديانات إلا قول العدل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: ويقبل في المعاملات قول الفاسق ولا يقبل في الديانات إلا قول
العدل) ش: أي قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند الثلاثة - رَحِمَهُمُ
اللَّهُ - لا يقبل إلا القول العدل في المعاملات مثل البيع والشراء
والشهادات ونحوها.
والديانات: جمع ديانة وهي التي يتدين بها العبد من العبادات ونحوها، ومن
صورها أن يخبر رجل مسلم ثقة بنجاسة الماء فإنه لا يجوز له أن يتوضأ به، وإن
كان غير ثقة وغلب على ظنه صدقه فالأولى أن يتنزه وإن توضأ به جاز.
ومنها رجل تزوج امرأة فأخبرهما ثقة أن بينهما رضاعة فالأولى أن يفارقها؛
لأن شهادة الواحد لا تثبت بها الرضاعة ولكن يلزمه التنزه.
كذا في " شرح الأقطع "، والحاصل إنما يحصل الخبر فيه حجة أربعة أقسام:
أحدها: أحكام الشرع التي هي فروع الدين وهي نوعان: عبادات فخبر الواحد
العدل فيها صحة مع اشتراط الضبط والعقل والعقوبات. فقد روي في " الأمالي "
عن أبي يوسف أن خبر الواحد فيها حجة أيضا وهو اختيار الجصاص - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكون حجة.
والقسم الثاني: حقوق العباد الذي فيها إلزام محض ويشترك فيها أهل المال فلا
يثبت بخبر الواحد بل يشترط فيها العدد والعدالة والأهلية وتعيين لفظة
الشهادة.
فمن القسم الأول: الشهادة على رؤية الهلال كرمضان إذا كان بالسماء علة.
ومن القسم الثاني: في الشهادة على هلال الفطر لأن فيه حق العباد ولأن فيه
منفعة لهم، ومن ذلك الإخبار بحرمة الرضاع في ذلك النكاح أو ملك اليمين؛
لأنه يبتنى على زوال الملك أي ملك المنفعة بخلاف طهارة الماء ونجاسته، وحل
الطعام والشراب وحرمته فإنه من القسم الأول فإن الحل لا يبتنى ثمة على زوال
الملك ضرورة.
والقسم الثالث: حقوق العباد الذي ليس فيه إلزام كالوكالة للمضاربات والإذن
للعبد والشراء من الوكلاء والملاك، فخبر الواحد فيها حجة إذا كان مميزا
عدلا كان أو غير عدل صبيا كان أو بالغا، كافرا أو مسلما.
والقسم الرابع من حقوق العباد: ما فيه إلزام من وجه دون وجه، كعزل الوكيل
وحجر العبد المأذون، وفيه إلزام؛ لأنه يلزم العهدة على الوكيل بعد العزل،
ويلزم فساد العقد بعد الحجر، وفيه عدم الإلزام أيضا؛ لأن الموكل أو المولى
فيصرف في حقه، فصار كالإذن.
(12/75)
ووجه الفرق أن المعاملات يكثر وجودها فيما
بين أجناس الناس، فلو شرطنا شرطا زائدا يؤدي إلى الحرج فيقبل قول الواحد
فيها عدلا كان أو فاسقا، كافرا كان أو مسلما، عبدا كان أو حرا، ذكرا كان أو
أنثى، دفعا للحرج، أما الديانات فلا يكثر وقوعها حسب وقوع المعاملات، فجاز
أن يشترط فيها زيادة شرط فلا يقبل فيها إلا قول المسلم العدل؛ لأن الفاسق
متهم والكافر لا يلتزم الحكم فليس له أن يلزم المسلم بخلاف المعاملات؛ لأن
الكافر لا يمكنه المقام في ديارنا إلا بالمعاملة، ولا يتهيأ به المعاملة
إلا بعد قبول قوله فيها، فكان فيه ضرورة فيقبل، ولا يقبل فيها قول المستور.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يشترط في هذا القسم أحد شطري
الشهادة، إما العدد أو العدالة خلافا لهما حتى إذا أخبر واحد فضولي فاسق أن
مولاه حجر عليه، أو موكله عزله، ثبت الحجر والعزل عندهما خلافا لأبي حنيفة.
م: (ووجه الفرق) ش: بين الفصلين أحدهما بقوله: قول الفاسق في المعاملات.
والآخر اشتراط العدالة في الديانات. م: (أن المعاملات يكثر وجودها فيما بين
أجناس الناس) ش: في المسلم الصالح والمسلم الفاسق والذمي والمستأمن والذكر
والأنثى والحر والعبد م: (فلو شرطنا شرطا زائدا يؤدي إلى الحرج) ش: والحرج
مدفوع الشرط الزائد اشتراط العدالة فقبل فحينئذ م: (فيقبل قول الواحد فيها)
ش: أي في المعاملات م: (عدلا كان أو فاسقا، كافرا كان أو مسلما، عبدا كان
أو حرا، ذكرا كان أو أنثى، دفعا للحرج) ش: أي قيل ذلك لأجل الدفع للحرج،
فباعتبار العدالة فيه حرج عظيم، ألا ترى أن في سائر الأعصار يقبلون أقوال
الدلالين والمنادين والسماسرة، ويرجعون إلى أقوالهم وإن كانت السلعة
لغيرهم.
م: (أما الديانات فلا يكثر وقوعها حسب وقوع المعاملات) ش: أي قدر وقوع
المعاملات، أراد أن الديانات بالنسبة إلى المعاملات قليلة م: (فجاز أن
يشترط فيها) ش: أي في الديانات م: (زيادة شرط) ش: وهي العدالة م: (فلا يقبل
فيها إلا قول المسلم العدل؛ لأن الفاسق متهم والكافر لا يلتزم الحكم فليس
له أن يلزم المسلم) ش: لأن في قبول قوله إلزام المسلم فلا يجوز. م: (بخلاف
المعاملات؛ لأن الكافر لا يمكنه المقام في ديارنا) ش: أي لا يمكنه الإقامة
في دار الإسلام سواء كان ذميا أو حربيا م: (إلا بالمعاملة) ش: لأن المعاش
لا يكون إلا بها.
م: (ولا يتهيأ له المعاملة) ش: أي ولا يتيسر للكافر المعاملة م: (إلا بعد
قبول قوله فيها) ش: أي في المعاملة م: (فكان فيه ضرورة فيقبل) ش: أي فوجد
في قبول قوله ضرورة. وضرورة مرفوع؛ لأنه اسم كان، وهي تامة فلا يحتاج إلى
خبر م: (ولا يقبل فيها قول المستور) ش: أي في الديانات وهو الذي لا يعلم ما
حاله ولم يظهر عدالته ولا فسقه.
(12/76)
في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: أنه يقبل قوله فيها جريا على مذهبه أنه يجوز القضاء به، وفي
ظاهر الرواية: هو والفاسق سواء حتى يعتبر فيهما أكبر الرأي. قال: ويقبل
فيها قول العبد والحر، والأمة، إذا كانوا عدولا؛ لأن عند العدالة الصدق
راجح، والقبول لرجحانه فمن المعاملات ما ذكرناه ومنها التوكيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقبل قوله
فيها) ش: أي قول المستور في الديانات م: (جريا على مذهبه أنه يجوز القضاء
به) ش: أي لأجل الجري على مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز
القضاء بقول المستور.
وقال شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - السرخسي في " أصوله ": وروى الحسن -
رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة أنه بمنزلة العدل في رواية الأخبار لثبوت
العدالة له ظاهرا بالحديث المروي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «المسلمون عدول بعضهم على
بعض» .
ولهذا جوز أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - القضاء بشهادة المستور فيما ثبت
بالشبهات إذا لم يطعن الخصم. قال: ولكن ما ذكره في الاستحسان أصح في زماننا
فإن الفسق غالب في أهل هذا الزمان فلا تعتمد رواية المستور ما لم يبين
عدالته، كما لا تعتمد شهادته في القضاء قبل أن يظهر عدالته.
م: (وفي ظاهر الرواية: هو والفاسق سواء حتى يعتبر فيهما) ش: أي في المستور
والفاسق: م: (أكبر الرأي) ش: فإن كان غالب الرأي صدقهما يقبل قولهما وإلا
فلا، مثلا إذا أخبر بنجاسة الماء يحكم فيه بأكبر الرأي.
م: (قال: ويقبل فيها قول الحر والعبد والأمة إذا كانوا عدولا) ش: أي قال
القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وليس في النسخ الصحيحة لفظة قال، أي يقبل في
الديانات قول العبد إلى آخره م: (لأن عند العدالة الصدق راجح) ش: الصدق
منصوب؛ لأنه اسم إن فافهم.
م: (والقبول لرجحانه) ش: أي قبول قول واحد من المذكورين لكونه مرجحا
بالعدالة.
م: (فمن المعاملات ما ذكرناه) ش: أراد به الهدية والإذن م: (ومنها) ش: أي
ومن المعاملات م: (التوكيل) ش: بأن قال وكلني فلان فإنه يقبل قوله وإذا كان
مميزا سواء كان عدلا أو غير عدل صبيا كان أو بالغا، كافرا كان أو مسلما كما
ذكرناه.
(12/77)
ومن الديانات: الإخبار بنجاسة الماء، حتى
إذا أخبره مسلم مرضي لم يتوضأ به ويتيمم، ولو كان المخبر فاسقا أو مستورا
تحرى، فإن كان أكبر رأيه أنه صادق يتيمم ولا يتوضأ به، وإن أراق الماء ثم
تيمم كان أحوط. ومع العدالة يسقط احتمال الكذب، فلا معنى للاحتياط
بالإراقة، أما التحري فمجرد ظن ولو كان أكبر رأيه أنه كاذب يتوضأ به ولا
يتيمم لترجح جانب الكذب بالتحري، وهذا جواب الحكم، فأما في الاحتياط يتيمم
بعد الوضوء لما قلنا، ومنها: الحل والحرمة إذا لم يكن فيه زوال الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الإخبار بنجاسة الماء]
م: (ومن الديانات: الإخبار بنجاسة الماء، حتى إذا أخبره مسلم مرضي لم يتوضأ
به ويتيمم) ش: أي لم يتوضأ بذلك الماء بل يتيمم لوجود العمل بأخباره في باب
الدين م: (ولو كان المخبر) ش: بنجاسة الماء م: (فاسقا أو مستورا تحرى، فإن
كان أكبر رأيه أنه صادق يتيمم ولا يتوضأ به) ش: لأن غلبة الظن دليل شرعي م:
(وإن أراق الماء ثم تيمم كان أحوط) ش: أي أفضل وأشد للاحتياط؛ لأنه إذا
تيمم في الصورة المذكورة وكان المخبر في نفس الأمر كاذبا، يكون متيمما مع
وجود الماء، فإذا أراقه كان عادما للماء فيكون تيممه على الوجه المشروع.
م: (ومع العدالة يسقط احتمال الكذب فلا معنى للاحتياط بالإراقة) ش: لأن
الأمر الذي ذكرناه ينعدم عند العدالة فلأجل هذا لا تبقى فائدة في الاحتياط
بإراقة الماء.
م: (أما التحري فمجرد ظن ولو كان أكبر رأيه أنه كاذب يتوضأ به ولا يتيمم
لترجح جانب الكذب بالتحري) ش: لأن للخبر جانبان جانب الصدق وجانب الكذب،
وقد يترجح جانب الكذب بتحري المخبر له.
فإن قلت: ينبغي أن يتيمم أيضا للاحتياط وللتعارض بين خبر الفاسق والتحري
كما في سؤر الحمار يجمع بينهما لتعارض الأدلة.
قلت: النص حكم بالتوقف في خبر الفاسق والأمر بالتيمم هنا عمل بخبره من وجه
فكان خلاف النص، ولما بقي التوقف في خبره بقي أصل الطهارة فلا حاجة إلى ضم
التيمم.
م: (وهذا جواب الحكم) ش: أي المذكور من قولنا: يتوضأ به ولا يتيمم جواب
الحكم.
م: (فأما في الاحتياط يتيمم بعد الوضوء لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: أما
التحري فمجرد ظن.
فإن قلت: لم يترجح أحد الوجهين؟
قلت: قيل: الأصل الطهارة.
م: (ومنها) ش: أي ومن الديانات م: (الحل والحرمة إذا لم يكن فيه زوال
الملك) ش: يعني
(12/78)
وفيها تفاصيل وتفريعات ذكرناها في " كفاية
المنتهى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقبل في الحل والحرمة خبر الواحد إذا لم يكن فيه زوال الملك كما إذا قال:
هذا الطعام أو هذا الشراب حلال أو حرام، فإذا تضمن زوال الملك لا يقبل إلا
بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، كما إذا أخبر امرأة أو رجل عدل أن الزوجين
ارتضعا من امرأة واحدة لا تثبت الحرمة؛ لأن ثبوتها زوال ملك المتعة، فيشترط
العدد والعدالة جميعا، فإذا كان كذلك فلا يجب التفريق ولا يقبل خبرها إلا
على قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن
يقبل خبر المرضعة فقط.
وفي " فتاوى قاضي خان " و " الكافي ": والأفضل أن يتنزه؛ لأن شهادة الواحد
حجة في التنزيه، فشهادة رجل عدل بالطلاق البائن أو الثلاث فالحاكم يحول
بينهما.
وإن كان لا يقتضي زوال الملك كذلك هنا.
فإن قلت: قد تقدم من قوله؛ لأنه لما قيل له: إن قول المجوسي في الحل
والحرمة يقبل وهو يدل على أن العدالة في الخبر بالحل والحرمة غير شرط فكان
كلامه متناقضا.
قلت: ذاك كان ضامنا وكم من شيء ثبت ضمنا لا يثبت قصدا، فلا يتناقض؛ لأن
المراد هنا ما كان قصديا.
م: (وفيها) ش: أي وفي " أخبار الديانات " وغيرها م: (تفاصيل) ش: يعني في كل
مسألة منها تفصيلا في البيان م: (وتفريعات) ش: للمسائل مثل مسألة أن الماء
نجس، ومثل مسألة أن هذا اللحم ذبيحة مجوسي ومثل مسألة رؤية الهلال في رمضان
أو الفطر ومثل مسألة أن الزوجين ارتضعا من واحدة ونحو ذلك.
م: (ذكرناها في " كفاية المنتهى ") ش: أي ذكرنا تلك التفاصيل والتفريعات في
الكتاب الموسوم " بكفاية المنتهى ".
ومن جملة التفريعات: ما لو اشترى مسلم لحما فأخبره مسلم ثقة أنه ذبيحة
مجوسي يكره له بيعه وأكله؛ لأنه أخبره بحرمة العين وهو خبر ديني فتمت الحجة
بخبر الواحد، وتبقى العين مملوكة متقومة؛ لأن نقض الملك لا يجوز بخبر
الواحد وحرمة الأكل تنفصل عن زوال الملك كالدهن النجس.
وكالمباح له الطعام إذ نهي من أكله يحرم عليه الأكل بدون زوال الملك فهذا
الاعتبار يوجب الحرمة لكن الحل في هذا العين ثبت بسببه الملك لا بسبب
الإباحة كما في النكاح. فإذا اجتمع ما يوجب الحل وما يوجب الحرمة أثبتنا
أمرا بين أمرين وهو الكراهة، بخلاف النكاح فإذا أثبتنا فيه
(12/79)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التنزه لا غير لما قلنا أن الحرمة لا تنفصل عن زوال الملك.
وفي " المحيط ": رجل دخل على قوم من المسلمين يأكلون ويشربون فدعوه إليهم،
فقال مسلم قد عرفه ثقة: هذا اللحم ذبيحة مجوسي وهذا الشراب خالطه خمر، فقال
الذي دعاه: ليس الأمر كما قال بل هو حلال، فإنه ينظر في حالهم، فإن كانوا
عدولا، لا يلتفت إلى قول المخبر بالحرمة؛ لأن خبر الواحد لا يعارض خبر
الجماعة، فإن خبر الواحد حجة في الديانات والأحكام، وخبر الواحد ليس بحجة
في الأحكام، ولأن الظاهر من حال المسلمين التحرز عن ذبيحة المجوسي وعن
مخالطة خمر، فيكون خبر الواحد في معارضة خبرهم خبرا مستنكرا فلا يقبل، وإن
كانوا متهمين فإنه يؤخذ بقول المخبر ولا يسعه التناول؛ لأن خبر الواحد
باعتبار حاله مستقيم صالح، ولا معتبر بخبرهم في حكم العمل به لفسقهم.
وإن كان في القوم رجلان ثقتان أخذ بقولهم؛ لأن خبر الواحد لا يعارض خبرهم،
فإن كان فيهم واحد ثقة يعمل فيه بأكثر رأيه، فإن لم يكن له رأي واستوت
الحالات عنه فلا بأس بأن يأكل ويشرب ويتوضأ.
فإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان أخذ بقولهما لاستواء الحر والعبد في
الخبر الديني.
ولو أخبره بأحد الأمرين عبد ثقة وبالآخر ثقة عمل فيه بأكثر الرأي للمعارضة
بين الحر والعبد فيصار إلى الترجيح بأكبر الرأي.
وإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان وبالأمر الآخر حران ثقتان يأخذ بقول
الحرين؛ لأن الحجة تتم بقولهما دون المملوكين فعند التعارض بترجح قول
الحرين. وإن أخبره بأحد الأمرين ثلاثة عبيد ثقات وبالأمر الآخر مملوكان
ثقتان يأخذ بقول العبيد.
وكذلك إن أخبره بأحد الأمرين رجل وامرأتان وبالآخر رجلان يأخذ بقول رجل
وامرأتان.
والحاصل في جنس هذه المسائل: أن خبر المملوك والحر في الأمر الديني على
السواء بعد الاستواء في العدالة، فيطلب الترجيح أولى من حيث العدد، وإن
استوى العدد أن يطلب الترجيح لكونه حجة في الأحكام في الجملة، فإذا استويا،
طلب الترجيح من حيث التحري، فعلى هذا إذا كان المخبر بأحد الأمرين من أربعة
من الأحرار، وبالأمر الآخر حرين يؤخذ بقول الأربعة انتهى.
ومن التفاصيل ما ذكره الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكافي ":
إذا حضر المسافر الصلاة ولم يجد ماء إلا في إناء وأخبره رجل أنه قذر وهو
عند مسلم مرضي لم يتوضأ به،
(12/80)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذلك إذا كان المخبر عبدا أو امرأة حرة أو أمة.
فإن كان المخبر غير ثقة أو كان لا يدري أنه ثقة أو غير ثقة نظر فيه، فإن
كان أكبر رأيه أنه صادق تيمم ولم يتوضأ به، وإن كان عنده غير صادق توضأ ولم
يلتفت إلى قوله وأجزأه ذلك ولا يتيمم.
ألا ترى أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حين ورد حياض
ماء المدينة فقال عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لرجل من أهل
الماء: أخبرنا عن السباع أتردكم هذا؟ فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ - لا تخبرنا عن شيء نكره أن يخبر، ولولا أنه عد خبره خبرا ما نهى،
فإن كان الذي أخبره بنجاسته رجل من أهل الذمة لم يقبل قوله، وإذا وقع في
قلبه أنه صادق فأحب إلي أن تهريق الماء ثم يتيمم ويصلي فإن توضأ به وصلى
أجزأه؛ لأن هذا شيء من الدين ولا يلزم به الحجة فيه إلا بمسلم.
وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان.
ومنها: رجل تزوج امرأة فجاء مسلم ثقة فأخبرهما أنهما ارتضعا من امرأة واحدة
فأحب إلي أن تنزه منها فطلقها ويعطيها نصف الصداق إن لم يكن دخل بها، وأحب
إلي أن لها أن لا يأخذ منه صداقا وإن تنزه منه إن كان لم يدخل بها وإن
أقاما على نكاحهما لم يحرم ذلك عليهما.
ومنها رجل اشترى جارية فأخبره عدل ثقة أنها حرة لأبوين أو أنها أخته من
الرضاعة فإن تنزه عن وطئها فهذا أفضل وإن لم يفعل ذلك واسع له.
وإنما فارق هذا ما قاله في الوضوء والطعام؛ لأن جميع ذلك يحل بغير ملك. ألا
ترى أن رجلا لو قال لرجل كل طعامي هذا أو توضأ بمائي هذا أو اشربه وسعه أن
يفعل ذلك.
ولو قال: جاريتي هذه فقد أذنت لك فيها، أو قال له تلك حرة في نفسها لم يحل
له الوطء حتى يتزوج الحرة أو يملك الأمة.
ومنها: اشترى رجل طعاما أو جارية أو ملك ذلك بهبة أو ميراث أو وصية فجاء
مسلم ثقة فشهد أن هذا الفلان الفلاني غصبه منه البائع أو الواهب أو الميت
فأوجب إلينا أن يتنزه عن أكله وشربه ووطئ الجارية، وإن لم يتنزه كان في
سعة.
وكذلك طعام أو شراب في يد رجل أذن له في أكله وشربه، وقال له مسلم ثقة هذا
غصب في يديه من فلان والذي في يديه يكذبه ويزعم أنه له وهو متهم غير ثقة،
فأحب إلينا أن يتنزه
(12/81)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه فإن أكله أو شربه أو توضأ به كان في سعة، وإن لم يجد وضوء غيره وهو في
سفر توضأ ولم يتيمم.
ومنها: أن رجلا مسلما شهد عند رجل أن هذه الجارية التي في يد فلان المقر له
بالرق أمة لفلان غصبها، والذي في يده يجحد ذلك وهو غير مأمون فأحب إلي أن
يشتريها، وإن اشتراها ووطئها فهو في سعة من ذلك؛ لأن هذا أخبر في موضع
المنازعة فوجب الإجشان منه ديانة لا قضاء، ولو أخبره أنها حرة الأصل، وإنها
كانت أمة لهذا الذي في يديه فأعتقها، والذي أخبره بذلك مسلم ثقة فأحب إلي
أن لا يفعل.
وإن كانت الجارية لرجل فأخذها رجل آخر فأراد بيعها لم ينبغ لمن عرفها
الأولى أن يشتريها من هذا حتى يعلم أنها قد خرجت من ملكه إلى ملك وهذا الذي
في يده بشراء أو هبة أو صدقة أو يعلم أنه قد وكله بيعها، وإن قال الذي هو
في يديه: إني قد اشتريتها منه أو وهبها أو تصدق بها علي أو وكلني ببيعها،
فإن كان القائل لذلك عدلا فلا بأس أن يصدقه على ذلك ويشتريها منه.
وكذلك إن وهبها له أو تصدق بها عليه حل له قبولها أو وطئها وإن كان غير ثقة
إلا أن أكبر رأيه فيه أنه صادق، فكذلك أيضا، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم
يقع له أن يتعرض لشيء من ذلك.
1 -
وكذلك الطعام والشراب في جميع ذلك، وكذلك لو لم يعلم أن ذلك الشيء لغير
الذي هو في يده حتى أخبره الذي هو في يديه أنه لغيره، وإن وكله ببيعه أو
تصدق به عليه أو وهبه أو اشتراه.
فإن كان مسلما ثقة صدقه فيما قاله وإن كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق فيه
صدقه أيضا، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب فيه لم يقبل ذلك ولم يشتره. وإن كان
لم يخبره أن ذلك الشيء لفلان فلا بأس بشرائه وقبوله منه. وإن كان غير ثقة
إلا أن يكون مثله لا يملك مثل ذلك فأوجب له أن يشتريه منه ولا يتعرض له
بشراء ولا غيره، وإن اشترى وهو لا يعلم أنه لغيره أو أخبره أنه له وجوز أن
يكون في سعة من شرائه وقبوله التنزه عنه أفضل.
فإن كان الذي أتى به عبدا أو امرأة لم يسع له أن يشتريه ولا يقبله حتى
يسأله عن ذلك، فإن ذكر له أن مولاه قد أذن له فيه وهو ثقة مأذون فلا بأس
بشرائه منه وقبوله، وإن كان أكبر رأيه أنه صادق فيما قاله صدقه بقوله، وإن
كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يتعرض لشيء من ذلك، وإن كان لا رأي له فيه لم
يتعرض لشيء من ذلك.
(12/82)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذا الغلام الذي لم يبلغ حرا كان أو مملوكا فيه بحر أنه أذن له ببيعه أو
أن فلانا أرسل إليه معه هدية أو صدقة فإن أكبر رأيه أنه صادق، وسعه أن
يصدقه عن مولاه، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ أن يقبل منه شيئا.
وكذلك الفقير إذا أتاه عبد أو أمة يصدقه من مولاه.
ولو أن رجلا علم أنها جارية لرجل يدعيها ثم رآها في يدي آخر يبيعها ويزعم
أنها كانت في يدي فلان وذلك كان يدعيها أنها له وكانت مقرة له بالرق غير
أنها كانت لي وإنما أمرتها بذلك لأمر خصته وصدقته الجارية بذلك والرجل ثقة
مسلم فلا بأس بشرائها منه.
وإن كان عنده كاذب فيما قال لم يبلغ له أن يشتريها منه ولا يقبلها ولو لم
يقل هذا، ولكنه قال: ظلمني وغصبني فأخذها لم تسع له أن يتعرض له بشراء ولا
قبول؛ لأنه خبره متى وقع في موضع المنازعة كان دعوى، والعدالة غير مرعية في
باب الدعوى والخصومات.
وإن قال: إنه كان غصبني وظلمني ثم رجع عن ظلمه فأقر لي بها ودفعها إلي فإن
كان عنده أنه ثقة مأمون فلا بأس بتصديقه؛ لأنه أخبر عن انقطاع المنازعة،
وإن قال: خاصمته إلى القاضي فقضى لي بها ببينة أقمتها عليه أو ينكر له عن
اليمين، فكذلك إن كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق وإن كان أكبر رأيه أنه
كاذب لم يشترها منه.
وكذلك في جميع هذه الوجوه إن قال: قضى لي القاضي عليه فأخذها منه ودفعها
إلي، أو قال: قضى لي بها فأخذها من منزله أو بغير إذنه؛ لأنه أخبر عن
انقطاع المنازعة، وإن كان قضى لي بها فجحد في قضائه فأخذها منه لم يسع له
أن يشتريها منه؛ لأنه أخبر عن قيام المنازعة وإنما هذا بمنزلة قوله
اشتريتها منه ونقدته ثمنها ثم أخذتها بغير أمره من منزله فهذا لا بأس
بشرائها منه إذا كان عنده أنه صادق في قوله.
وإن قال: اشتريتها منه ونقدته الثمن فجحد في الشراء وأخذتها من منزله بغير
إذنه لم يسع له أن يشتريها منه، ولو قال: اشتريتها من فلان وقبضتها بأمره
ونقدته الثمن وكان ثقة عنده بأمرها جاز الشراء منه.
ولو قال له رجل آخر: إن فلانا قد جحد هذا الشراء وزعم أنه لم يبع بهذا شيئا
والذي قال هذا أيضا ثقة مأمون لم يبلغ له أن يتعرض لشيء من ذلك بشراء ولا
بغيره.
وكذلك إن كان الذي أخبره الخبر الثاني غير ثقة إلا أن أكبر رأيه أنه صادق،
وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب، وإن كان غير ثقة فلا بأس بشرائها منه وقبولها.
(12/83)
قال: ومن دعي إلى وليمة أو طعام، فوجد ثمة
لعبا أو غناء فلا بأس بأن يقعد ويأكل قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
ابتليت بهذا مرة فصبرت، وهذا لأن إجابة الدعوة سنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن كان جميعا غير ثقة وأكبر رأيه أن الثاني صادق لم يتعرض لشيء من ذلك؛
لأن هذا من أمر الدين وعليه أمور الناس ولو لم يعلم في هذا إلا بشاهدين
لضاق الأمر على الناس.
ألا ترى أن تاجرا لو قدم بلدا بجواز أو طعام أو ثياب فقال: أنا مضارب فلان
أو قال: أنا شريكه، وسع للناس أن يشتروا منه ذلك، وكذلك العبد يقدم على بلد
للتجارة ويدعي أن مولاه أذن له في التجارة.
قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكذلك سمعت أبا حنيفة يقول في المأذون،
وهذه الجملة كلها من " الكافي " للحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[يدعى إلى الوليمة والطعام فيجد ثمة اللعب
والغناء]
م: (قال: ومن دعي إلى وليمة) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": والوليمة
طعام الزفاف م: (أو طعام) ش: هذا أمر في عطف العام على الخاص؛ لأن الطعام
أعم من أن يكون وليمة أو غيرها. والوليمة خاص وهو طعام العرس كما ذكرنا.
والوكرة طعام البناء، والحرس طعام الولادة وما يطعمه النفساء بعينها حرسه.
والأعزاز طعام الختان، والبعيصة طعام القادم من سفره وعلى كل طعام صنع له
دعواه حاربة وماربة جميعا، والدعوة الخاصة البقري والعامة الجعلي والأجيلي.
م: (فوجد ثمة) ش: أي هناك م: (لعبا أو غناء) ش: بكسر الغين المعجمة وبالمد
يثبت بالألف، والغني بالكسر، والفضل ضد الفقر يثبت بالياء، ومنه قول ابن
زيد في المقصور والممدود ورأي الغني يدعو المغني للملاهي والغناء م: (فلا
بأس بأن يقعد ويأكل وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابتليت بهذا مرة
فصبرت) .
ش: وروي في " الجامع الصغير " محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في الرجل يدعى إلى الوليمة والطعام فيجد ثمة اللعب والغناء قال:
لا بأس بأن يقعد فيأكل منها.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ابتليت بهذا مرة إلى آخره، وهذه من
الخواص، وذلك لأن الطعام حلال وإجابة الدعوة سنة والحرام غير ذلك، فلا تترك
السنة لأجل حرام اقترن بها وهو في غيرها على ما يجيء الآن.
م: (وهذا) ش: أي جواز القعود هناك والأكل فيه م: (لأن إجابة الدعوة سنة) ش:
سواء كانت وليمة أو غيرها، وبه قال أحمد ومالك - رحمهما الله - في رواية،
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إجابة وليمة العرس واجبة وغيرها
مستحبة، وبقه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية:
(12/84)
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
«من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم غير الوليمة من الدعوات فالإجابة إليها مستحبة عندنا والشافعي. وعند
أحمد ومالك: جائزة غير مستحبة، وأما دعوة يقصد بها قصدا مذموما من التطاول
وابتغاء المحمدة والشكر وما أشبه ذلك فليس ينبغي إجابتها، لاسيما أهل
العلم؛ لأن في الإجابة إذلال أنفسهم قبل وما وضع أحد يده في قصعة غيره إلا
ذل له.
م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من لم يجب الدعوة فقد عصى
أبا القاسم» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم، بأثم منه ولكن لفظه: «من لم يجب
الدعوة فقد عصى الله ورسوله» . أخرجه في (كتاب النكاح) عن ثابت بن عياض عن
الأعرج - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شر الطعام طعام
الوليمة؛ يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد
عصى الله ورسوله» . هكذا رواه مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - مرفوعا، ورواه
البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه موقوفا من حديث ابن شهاب عن الأعرج -
رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول:
«شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليها الأغنياء، ويترك الفقراء، ومن لم يجب
الدعوة فقد عصى الله ورسوله» أخرجه البخاري وابن ماجه - رحمهما الله - في "
كتاب النكاح " وأبو داود في الأطعمة، والنسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في
الوليمة، ولكنه موقوف في حكم المرفوع.
حديث آخر رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأطعمة: حدثنا مسدد بن
مسرهد عن درست بن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله، ومن دخل على
غير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا» . وأبان بن طارق: قال أبو زرعة: هو شيخ
مجهول، وقال ابن عدي: لا يعرف إلا بهذا الحديث ولا الحديث إلا به.
ودرست بن زياد أيضا لا يحتج بحديثه، وقيل: هو درست بن حمزة، وقيل: بل هما
اثنان ضعيفان. قاله المنذري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لكن رواه أبو يعلى
الموصلي في " مسنده ": حدثنا زهير حدثنا يونس بن محمد، حدثنا عبد الله بن
عمر عن نافع - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعي أحدكم إلى
وليمة فليجبها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» .
(12/85)
فلا يتركها لما اقترنت به من البدعة من
غيره كصلاة الجنازة واجبة الإقامة، وإن حضرتها نياحة، فإن قدر على المنع
منعهم وإن لم يقدر يصبر، وهذا إذا لم يكن مقتدى به، فإن كان مقتدى ولم يقدر
على منعهم يخرج ولا يقعد؛ لأن في ذلك شين الدين وفتح باب المعصية على
المسلمين. والمحكي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الكتاب كان قبل أن
يصير مقتدى به، ولو كان ذلك على المائدة لا ينبغي له أن يقعد وإن لم يكن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فلا يتركها) ش: أي إجابة الدعوة م: (لما اقترنت به من البدعة من غيره)
ش: كان حق الترتيب أن يقول: لما اقترن بها من البدعة من غيرها، المعنى: أنه
لا يترك السنة لأجل حرام اقترن بها وهو في غيرها. والضمير في اقترنت يرجع
إلى الدعوة والذي في به وغيرها يرجع إلى ما في قوله وكله من بيانته.
م: (كصلاة الجنازة واجبة الإقامة، وإن حضرتها نياحة) ش: فلا يترك لأجل
النياحة التي في غيرها، لا يقال قياس السنة على الواجب وهو غير مستقيم فإنه
لا يلزم من يحمل المحظور لإقامة الواجب يحمل المحظور لإقامة السنة؛ لأننا
نقول: هذه سنة في قوة الواجب لورود الوعيد على تاركها كما ذكرنا في
الأحاديث المذكورة، ويجوز أن يقال: وجه التشبيه اقتران العبادة بالبدعة مع
قطع النظر على صفة تلك العبادة.
م: (فإن قدر على المنع منعهم) ش: بأن كان صاحب شوكة أو ذا جاه أو عالما
مقتدى مسموع الكلمة فإنه يجب عليه منعهم؛ لأن إزالة المنكر واجبة م: (وإن
لم يقدر يصبر) ش: أي وإن لم يقدر على منعهم فإن كان ضعيف الحال غير مسموع
الكلمة يصير ولا يخرج لما قلنا م: (وهذا) ش: أي الصبر م: (إذا لم يكن مقتدى
به) ش: لأنه لأبويه له م: (فإن كان مقتدى) ش: أي فإن كان مقتدى م: (ولم
يقدر على منعهم) ش: بسبب استيلاء المظلمة على المجلس م: (يخرج ولا يقعد؛
لأن في ذلك شين الدين) ش: أي قبحا للدين م: (وفتح باب المعصية على
المسلمين) ش: لأن الناس ينعقدون به ويجلسون مجالس اللعب والغناء والفسق،
فإذا منعوا يحتجون بحضور المقتدى، ففيه مفسدة عظيمة م (والمحكي عن أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الكتاب كان قبل أن يصير مقتدى به) ش: هذا
جواب عما يقال: إنكم قلتم: إنه إذا كان مقتدى ولم يقدر على منعهم يخرج.
وقد ذكر في الكتاب - أي في " الجامع الصغير ": أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - ابتلي بمرة وصبر ولم يخرج ذلك الجواب أن ذلك قبل أن يصير أبو
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مقتدى فإنه في ذلك الوقت ما كان يقتدى به فلا
يصير حجة.
م: (ولو كان ذلك) ش: أي اللعب والغناء م: (على المائدة لا ينبغي له أن يقعد
وإن لم يكن
(12/86)
مقتدى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا
تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] .
وهذا كله بعد الحضور، ولو علم قبل الحضور لا يحضر؛ لأنه لم يلزمه حق الدعوة
بخلاف ما إذا هجم عليه؛ لأنه قد لزمه ودلت المسألة على أن الملاهي كلها
حرام حتى التغني بضرب القضيب,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مقتدى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] ش: لأنه إذا كان على المائدة وقعد
يكون قاعدا مع الظالمين، وكذا إذا كان على المائدة قوم يغتابون لا يقعد؛
لأن الغيبة أشد من اللهو. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«الغيبة أشد من الزنا» .
م: (وهذا كله بعد الحضور) ش: أي هذا الذي ذكرناه كله إذا كان بعد الحضور
والدخول في المنزل م: (ولو علم قبل الحضور لا يحضر؛ لأنه لم يلزمه حق
الدعوة) ش: لأن إجابتها إنما تلزم إذا كانت على وجه السنة وسواء كان مقتدى
أو لا، وبه قالت الثلاثة.
وعن أبي حفص الكبير: إن كان مما لا يحترم ولا يترك المعصية لأجله فترك
الإجابة أولى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كثر سواد
قوم فمنهم» . وإن كان محترما ويتركون المعصية لأجله يحضر.
م: (بخلاف ما إذا هجم عليه) ش: أي بغتة غير عالم بذلك حين دعي إلى الوليمة
م: (لأنه قد لزمه) ش: بحضوره فتعذر فيه لعدم علمه م: (ودلت المسألة على أن
الملاهي كلها حرام) ش: لأن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أطلق اسم اللعب
والغناء بقوله: فوجد ثمة اللعب والغناء، واللعب وهو اللهو حرام بالنص؛
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لهو المؤمن باطل إلا في
ثلاث: تأديبه فرسه، وفي رواية ملاعبته فرسه، ورميه عن قوسه، وملاعبته مع
أهله» .
وهذا الذي ذكرناه ليس من هذه الثلاثة فيكون باطلا. م: (حتى التغني بضرب
القضيب) ش:
(12/87)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال تاج الشريعة: عنى به قصب الحارس، أراد أن التحريم لا يختص بالمزامير،
وإن الضرب بالقصب والتغني مع ذلك حرام أيضا.
قلت: أهل الحجاز ومصر يضربون بالقصب كثيرا، وأما أهل الحجاز فإنهم يأخذون
قصبتين طويلتين طول كل واحدة قدر باع في غلظ إبهام فحين يضربون بعضها ببعض
ويغنون به ولا يحسن كل واحد منهم أن يفعل ذلك؛ لأنه يحتاج في ذلك إلى معرفة
مواقع الضرب بعضهما ببعض مع علمه بالأصول.
وعند أهل الروم نوع من ذلك ولكن بغير هذه الصفة، وهو أنهم يأخذون أربع قطع
خشبات بطول قدر شبر في غلظ أصبعين، وهي منحوتة مصقولة، فيأخذ المغني منهم
من الرجال والنساء كل قضيب في يد ويحركها ويضرب بعضها ببعض بأصول، ويسمى
بالفارسية جهارباره "، والكل حرام بالنص.
ثم قال بعض المشائخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: دلت المسألة على أن مجرد
الغناء والاستماع إليه معصية، لما روى صدر الشهيد في الكراهية في كتاب "
الواقعات " عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«استماع الملاهي معصية، والجلوس عليها فسق، والتلذذ بها من الكفر» . وإنما
قال ذلك على وجه التشديد.
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن صوت اللهو والغناء ينبت
النفاق في القلب كما ينبت النبات بالماء.
وروي في " فردوس الأخبار " عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه
قال: " احذروا الغناء، فإنه من قبل إبليس، وهو شرك عند الله، ولا يغني إلا
الشيطان " فلهذا قال مشائخنا: استماع القرآن بالألحان معصية، والتالي
والسامع آثمان.
وقال بعضهم: إذا كان يغني بشد نظم القوافي، أو يدفع الوحشة عن نفسه فلا بأس
به.
وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والمكروه إذا كان على
سبيل اللهو، بحديث عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أنه كان من
صغار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وكان يغني في مرضه وكان
لا يفعل ذلك تلهيا ولكن يدفع الوسواس عن نفسه.
(12/88)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - جميع ذلك مكروه عند علمائنا؛ لقوله
سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}
[لقمان: 6] جاء في التفسير: أن المراد به الغناء.
وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أنه كان ينشد الأشعار
المباحة وهي التي فيها الموعظة والحكمة ولا بأس بإنشاد هذه الأشعار، ولو
كان في الشعر صفة امرأة إن كانت بعينها وهي حية يكره، وإن كانت ميتة لا
يكره، وإن كانت غير معينة لا يكره.
كذا في " الذخيرة "، وفي " فتاوى قاضي خان " و " جامع المحبوبي ": وعند
الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: قراءة القرآن بالألحان حرام، وفصل
الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في ذلك فقال: إن كان الألحان
لا يغير الحروف عن موضعها ونظمها جاز، وإن كانت تغير لا يجوز، وكذا قال
مشائخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأنه يباح السماع ولكن ترد شهادة القوال
والرقاص.
وفي " التتمة ": ومن السحت ما يأخذ الشاعر على الشعر والضحك للناس أو
السخرية منهم ويحدث بمغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وأصحابه، لا سيما بأحاديث العجم مثل الرستم وأسفنديار، وما تأخذه المغنية
والنائحة والكاهنة، والواشمة، والواشرة، والمقامر، والمتوسط لعقد النكاح،
والقواد، والمصلح بين المتشاحنين، وثمن الخمر والمسكر، وعسب التيس، وثمن
جلود الميتات قبل الذبائح، ومهر البغي، وأجر الحجام بشرط. والشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - جوز أجر الحجام، ولكن قال الآبي: وإن ينزه وأصحاب جميع
المحارف ولا يعلم فيه خلاف.
وفي " الأجناس " قال في كتاب الكراهية: لما سألت أبا يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ - عن الدف أنكره في غير العرس، مثل المرأة في منزلها والصبي. قال:
فلا أكرهه وأنا الذي يحسب منه اللعب الفاحش والغناء فإني أكرهه، ولو بنى
الرجل بامرأته ينبغي أن يولم، والوليمة حسنة، ويدعو الجيران والأصدقاء،
ويصنع لهم طعاما ويذبح لهم، ولا بأس أن يكون ليلة العرس دف يضرب به يشتهر
ذلك ويعلن به النكاح، وينبغي للرجل أن يجيب، وإن لم يفعل فهو آثم، وإن كان
صائما أجاب ودعا، وإن كان غير صائم أكل، ولا بأس يدعو يومئذ ومن الغد وبعد
الغد ثم انقطع العرس.
وفيه أيضا نقل عن كتاب الكراهية - إملاء -: كره للرجل أن يدع دعوة جاره
وقريبه إذا كانت عندهم العيدان والمزامير، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: أحبه إلى أن لا يجيبهم وليس لهؤلاء حرمة الدعوة.
(12/89)
وكذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
ابتليت؛ لأن الابتلاء بالمحرم يكون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: وإن كان ذلك في جانب المنزل وأنت في جانب؟ قال: أحب إلي أن لا يجيبهم.
م: (وكذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابتليت) ش: هذا معطوف على
قوله: ودلت المسألة. وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابتليت على
أن الملاهي كلها حرام م: (لأن الابتلاء بالمحرم يكون) ش: يعني في المباح لا
يقول ابتليته. والله أعلم.
(12/90)
|