البناية شرح الهداية

فصل في اللبس قال: لا يحل للرجال لبس الحرير ويحل للنساء؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن لبس الحرير والديباج، وقال: «إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل في اللبس]
[لبس الحرير للرجال]
م: (فصل في اللبس)
ش: هذا فصل في بيان أحكام اللبس.
م: (قال: لا يحل للرجال لبس الحرير ويحل للنساء) ش: قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": الحرير هو الإبريسم المصنوع يسمى الثوب المتخذ منه حريرا. وفي " جمع التفاريق ": الحرير ما كان مضمنا.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس الحرير والديباج، وقال: «إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة» ش: هنا حديثان: فالأول: أخرجه الجماعة عن حذيفة وعن البراء بن عازب. فحديث حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب ولا الفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» . وقد تقدم قريبا.
وحديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبع ونهانا عن سبع " وفيه: " وعن الديباج والحرير» .
والثاني: أخرجه البخاري ومسلم - رحمهما الله - عن نافع عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رأى حلة سيراء على باب المسجد فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك؟، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة ".
ثم جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها حلل فأعطى منها حلة لعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت ما قلت؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني لم أكسكها لتلبسها " فكساها عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخا له مشركا» انتهى.
وهذا الأخ كان أخا لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من أمه، صرح بذلك في الحديث عند " النسائي " قال: فكساها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخا له من أمه مشركا قيل: إن اسمه عثمان بن حكيم، فأما أخوه زيد بن الخطاب فإنه أسلم قبل عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.

(12/91)


وإنما حل للنساء بحديث آخر، وهو ما رواه عدة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، منهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خرج وبإحدى يديه حرير، وبالأخرى ذهب، وقال: هذان محرمان على ذكور أمتي، حلال لإناثهم ". ويروى " حل لإناثهم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه في الجمعة واللباس قوله: " ولا الديباج " أي ولا تلبسوا الديباج وهو اسم الثوب سداه ولحمته إبريسم، وقيل حرير غليظ.
قوله: " من لا خلاق له " أي من لا نصيب له.
قوله: " في صحفها " جمع صحفة وهي القصعة.
قوله: " حلة سيراء " بكسر السين المهملة وفتح الياء آخر الحروف والراء المخففة وبالمد، وهي التي تكون فيها خطوط. فهذه الأحاديث بعمومها تدل على حرمة لبس الحرير للرجال والنساء جميعا ولكن رخص للنساء بأحاديث أخر على ما يأتي.
وقال بعض الناس: يحل للرجال القباء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى وعليه قباء من حرير، وفي حديث مخرمة: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج ليلة وعليه قباء ديباج مزود بذهب فقال: " يا مخرمة هذا خبأته لك " فأعطاه إياه» . وأخرجه الطحاوي في " شرح معاني الآثار ".
قلنا: هذا منسوخ بما ذكرنا.
م: (وإنما حل للنساء بحديث آخر) ش: أي وإنما حل لبس الحرير للنساء م: (وهو ما رواه عدة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي الحديث الآخر ما رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، يدل على أن لبسه حلال للنساء فتكون الأحاديث المذكورة مخصوصة على ما يأتي.
وقال بعضهم: حرام للنساء أيضا لعموم النهي. وللعامة أحاديث عدة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (منهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج وبإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب وقال: هذان محرمان على ذكور أمتي، حلال لإناثهم» ويروى «حل لإناثهم» .)

(12/92)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه في اللباس، والنسائي في الزينة، وأحمد في " مسنده ".
وابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " صحيحه " عن عبد الله بن زرير الغافقي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله فقال: " إن هذين حرام على ذكور أمتي» .
زاد ابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «حل لإناثهم» .
واعلم أن حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا له وجهان: أحدهما: من جهة الليث، فاختلف عليه فيه، فرواه قتيبة عنه عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي أفلح الهمداني، عن عبد الله بن زرير أنه سمع علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هكذا أخرجه أبو داود والنسائي - رحمهما الله -، ورواه ابن المبارك عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن أبي الصعبة، عن رجل من همدان يقال له: أبو أفلح عن أبي زرير، هكذا أخرجه النسائي وقال: حديث ابن المبارك أولى بالصواب إلا قوله: عن " أفلح " فإن أبا أفلح أولى بالصواب.
الوجه الثاني من جهة أبي إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد العزيز بن أبي الصعبة عن أبي أفلح الهمداني، ورواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن هارون ومن جهته أخرجه النسائي وعبد الرحيم بن سليمان، ومن جهته أخرجه ابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال عن أبي الأفلح بالتعريف.
وذكر عبد الحق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أحكامه ": هذا الحديث من جهة النسائي، ونقل عن ابن المديني أنه قال فيه: حديث حسن ورجاله معروفون، وقال ابن القطان في كتابه: أبو أفلح مجهول، وعبد الله بن زرير مجهول الحال. وقال الشيخ في " الإمام ": وعبد الله بن زرير ذكره ابن سعد في " الطبقات " ووثقه وقال: توفي سنة إحدى وثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان.
ومن الصحابة الذين رووا حل الحرير للنساء: عمر بن الخطاب، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وزيد بن أرقم، وواثلة بن الأسقع وعقبة بن عامر الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فأخرجه البزار في " مسنده " وقال: حدثنا داود بن سليمان أبو سليمان المؤدب قال: حدثنا عمرو بن جرير، عن إسماعيل بن خالد

(12/93)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
، عن قيس بن أبي حازم، عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عليهم وفي إحدى يديه حرير وفي الأخرى ذهب فقال: " هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم» . وهذا الحديث لا نعلم رواه غير إسماعيل عن قيس عن عمر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أن عمرو بن جرير لين الحديث وقد احتمل حديثه. وقد روي هذا الكلام عن غير عمر ولا يعلم فيما روي عن ذلك حديثا ثابتا عند أهل النقل.
وأما حديث أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فأخرجه الترمذي والنسائي عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم» .
قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد في " مسنده "، وابن أبي شيبة في " مصنفه "، وقال ابن حبان في " صحيحه ": خبر سعيد بن أبي هند عن أبي موسى في هذا الباب معلول لا يصح.
وقال الدارقطني في كتاب " العلل ": وقد رواه أسامة بن زيد عن سعيد بن أبي هند عن أبي مرة مولى عقيل عن أبي موسى - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ورواه عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن سعيد بن أبي هند عن رجل عن أبي موسى قال: وهذا أشبه بالصواب؛ لأن سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى المقبري عن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ووهم في موضعين: في قوله: سعيد المقبري وإنما هو سعيد بن أبي هند، ورواه سويد بن عبد العزيز، عن عبيد الله عن سعيد بن أبي هند - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي تركه نافعا من الإسناد.
وأما حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه إسحاق بن راهويه والبزار وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم "، وابن أبي شيبة في " مصنفه "، والطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه " من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي إحدى يديه ثوب من حرير وفي الأخرى ذهب فقال: «إن هذين محرم على ذكور أمتي حل لإناثهم» .

(12/94)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما حديث عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: فأخرجه البزار - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " حدثنا إبراهيم بن زياد الصائع، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بنحوه سواء. ورواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه " عن إسماعيل بن مسلم به.
وأما حديث زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، ثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، أخبرنا بن أرقم: أخبرتني أنيسة بنت زيد عن أبيها قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذهب والحرير حل لإناث أمتي، حرام على ذكورها» .
وأما حديث واثلة بن الأسقع فأخرجه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه "، حدثنا إسماعيل بن قيراط، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، حدثتني أسماء بنت واثلة، عن أبيها: بنحو حديث زيد بن أرقم سواء.
وأما حديث عقبة بن عامر الجهني - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فأخرجه أبو سعيد بن يونس في " تاريخ مصر "، حدثنا أحمد بن حماد زغبة حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني الحسن بن ثوبان وعمرو بن الحارث، عن هشام بن أبي رقية، سمعت مسلمة بن مخلد - رَحِمَهُ اللَّهُ - سمعت عقبة بن عامر الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول بلفظ حديث زيد بن أرقم. انتهى.
ولما روى الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وقال: في الباب عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعقبة بن عامر، وأم هانئ، وأنس وحذيفة، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين، وعبد الله بن الزبير، وجابر، وابن ريحانة، وابن عمر، والبراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - انتهى.
فالجميع يكون سبعة عشر صحابيا وقد ذكرنا أحاديث ثمانية وهم: علي بن أبي طالب،

(12/95)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعمر بن الخطاب، وأبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وزيد بن أرقم، وواثلة بن الأسقع، وعقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. وبقي منهم تسعة أنفس وهم: أنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن الحصين، وعبد الله بن الزبير، وجابر بن عبد الله، وأبو ريحانة، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وأم هانئ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
وبعض الناس كره للنساء أيضا؛ لما حدث الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي بكرة، عن أبي داود عن شعبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الله - قال: أخبرني أبو ديسان قال: سمعت ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يخطب، يقول: يا أيها الناس لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» ، قال ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - من لا يلبسه في الآخرة لا يدخل الجنة، ومراده: أن الجواب منه الرجال دون النساء، وليس المراد منه العموم بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حل لإناثهم» .
فإن قلت: المحرم مع النسخ إذا اجتمعا يجعل المحرم متأخرا كيلا يلزم النسخ مرتين، وهنا لو تأخر قوله: " هذان حرامان " الحديث يلزمه النسخ مرتين في حق الإناث، فجعل قوله " حل لإناثهم " مقدما.
قلت: في قوله " إنما يلبسه " يحتمل أن يكون بيانا؛ لقوله: " حرامان على ذكور أمتي "؛ لأن هذا وعيد لا بيان حكم فيحمل عليه تعليلا للنسخ ".
ولأن قوله: " هذان " الحديث نص لبيان التفرقة في حق الحل والحرمة للذكور والإناث.
وقوله: " إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة " لبيان الوعيد في حق من لبس الحرير، فكانا كالظاهر، والنصح راجح على المظاهر، أو نقول: الدليل على أن يقتضي الحل للإناث متأخر، وهو استعمال الإناث من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير نكير وهذا آية قاطعة على تأخره وتكرار النسخ إذا كان بدليل غير ممتنع.
فإن قلت: وقع التعارض بين قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هذان حرامان " الحديث وبين نهيه عن لبس الحرير والديباج فلم تركتم العام بالخاص.
قلت: لما تعارضا وجعل التاريخ جعل كأنهما وردا معا. وإذا جعلا تعارضان يجعله الخاص بيانا للعام ولا يثبت العام في قدر ما يتناوله العام كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .

(12/96)


قال: إلا أن القليل عفو، وهو مقدار ثلاثة أصابع أو أربعة كالأعلام والمكفوف بالحرير لما روي أنه " - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة، أو أربعة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هذان حرامان " إشارة إلى حرمتين، فمن أين العموم؟.
قلت: المراد الجنس ولئن كان شخصا فغيره ملحق به بالدلالة.

[العلم في عرض الثوب]
م: (قال: إلا أن القليل عفو) ش: هذا استثناء من قوله: «لا يحل للرجال لبس الحرير» م: (وهو مقدار ثلاثة أصابع أو أربعة) ش: أي مقدار العفو ثلاثة أصابع أو أربعة أصابع، وفي الغنية عمامة طرفها قدر أربع أصابع أبريسم من أصابع عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فاللبس لسريد مرخص، وقال تاج الشريعة أخو حسام الدين الشهيد: المعتبر قدر أربع أصابع على هاهنا كما هي لا أصابع السلف، وقال الكرماني: أربع أصابع منشورة.
وقال الكرابيسي: هذا أولى. وقال الحلواني وأبو حامد - رحمهما الله -: لا يجمع.
وقال تاج الشريعة: مضمومة لا منشورة، وقال الأسبيجابي: في الغابرة كذلك، وقال محمد: لا يمنع في القلنسوة؛ لأن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رخص في العلم في عرض الثوب، وقال صاحب " المجتبى ": وهذا يدل على أن القليل في طوله يكره، وقال محمد في " السير الكبير ": العلم عفو أي مقدار كان.
م: (كالأعلام والمكفوف بالحرير) ش: والأعلام جمع علم الثوب، ويقال: ثوب مكفوف كف جيبه وأطراف كمه توشي من الديباج، م: (لما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن قتادة عن الشعبي، عن سويد بن غفلة أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خطب بالجابية فقال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع» .
وقال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يرفعه عن الشعبي غير قتادة، وهو مدلس، فأصله بلغه عنه. وقد رواه بيان، وداود بن أبي هند، وابن أبي السفر، عن الشعبي عن سويد بن غفلة، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوله: ورواه النسائي موقوفا.

(12/97)


أراد الأعلام، وعنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "
«أنه كان يلبس جبة مكفوفة بالحرير» . قال: ولا بأس بتوسده والنوم عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أراد الأعلام) ش: أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: إلا موضعين أصبعين أو ثلاث أو أربع الأعلام. والدليل عليه ما أخرجه الجماعة إلا الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: عن ابن عثمان النهدي قال: أتانا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحرير إلا هكذا وأشار بأصبعيه التي تليان الإبهام» . قال أبو عثمان فيما علمنا يعني: الأعلام، وزاد أبو داود وابن ماجه فيه إلا هكذا وهكذا أصبعين أو ثلاثة أو أربعة.
م: (وعنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: «أنه كان يلبس جبة مكفوفة بالحرير» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمر عن مولى بنت أبي بكر قال: قالت: رأيت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - في السوق وقد اشترى ثوبا شاميا فرأى فيه خيطا أحمر فرده فأتيت أسماء فذكرت ذلك لها فقالت: يا جارية ناوليني جبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخرجت لي جبة طاليسة كسروانية بها لبنة ديباج وفرجاها مكفوفان بالديباج فقالت: كانت هذه عند عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - حتى قبضت، فلما قبضت أخذتها، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبسها فنحن نغسلها للمرضى فيستشفى بها.
ورواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولفظه فأخرجت لي جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج.
ورواه البخاري في كتابه " الأدب المفرد " ولفظه ": أخرجت لي أسماء - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - جبة طيالسة عليها لبنة شبر من ديباج وأن فرجاها مكفوفان به، فقالت هذه جبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبسها للوفد وللجمعة.
قوله: " جبة طيالسة " والدليل عليه الرواية الأخرى.
وقوله: كسروانية " نسبة إلى كسرى وزيدت فيه النون على غير القياس.
قوله لها " لبسه " بضم اللام - ومن " الصحيح ": اللبسة حرمان القميص، وفي " العباب ": جريان القميص بالضم والتشديد، وهو فارسي معرب، وهو بالفارسية كسريون.

[توسد الحرير والنوم عليه]
م: (قال: ولا بأس بتوسده والنوم عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال القدوري: ولا بأس بتوسد الحرير، وهو أن يتخذه وسادة، أي مخدة، يقال: توسدت الشيء إذا جعلته تحت رأسك، والنوم عليه، إذا جعله فراشا ينام عليه أو يقعد.

(12/98)


وقالا: يكره وفي " الجامع الصغير ": ذكر قول محمد وحده، ولم يذكر قول أبي يوسف، وإنما ذكره القدوري وغيره من المشايخ. وكذا الاختلاف في ستر الحرير وتعليقه على الأبواب لهما: العمومات، ولأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقالا: يكره) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: يكره ذلك ويستوي فيه الرجل والمرأة بخلاف اللبس ذكره في " الخلاصة ".
وقالت الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأكثر أهل العلم: حرام للرجال دون النساء.
م: (وفي " الجامع الصغير " ذكر قول محمد وحده ولم يذكر قول أبي يوسف) ش: وصورته في " الجامع الصغير " محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة: أنه لا يكره ذلك كله، ولم يذكر فيه قول أبي يوسف كما ترى وهو من الخواص.
م: (وإنما ذكره القدوري وغيره من المشايخ) ش: ذكره الكرخي في " مختصره " قول أبي يوسف مع محمد - رحمهما الله - وتبعه القدوري على ذلك، وكذا ذكره أبو عاصم القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وذكره الفقيه أبو الليث قول أبي يوسف مع أبي حنيفة - رحمهما الله - في " شرح الجامع الصغير " م: (وكذا الاختلاف في ستر الحرير وتعليقه على الأبواب) ش: يعني لا بأس به عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد.
م: (العمومات) ش: أي عمومات الأحاديث التي مر ذكرها في تحريم الحرير؛ لأنها تشمل اللبس والتوسد والافتراش جميعا م: (ولأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام) ش: أي ولأن كل واحد من التوسد والنوم عليه من زينة الأكاسرة، وهو جمع كسرى بفتح الكاف وكسرها، وهو اسم كل من ملك فارس من العجم والجبابرة جمع جبار وهو المنكسر. والتشبه بهم حرام لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تشبه بقوم فهو منهم» .

(12/99)


وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إياكم وزي الأعاجم، وله ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جلس على مرفقة حرير» . وقد كان على بساط عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفقة حرير؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إياكم وزي الأعاجم) .
هذا الأثر رواه ابن حبان في " صحيحه " من حديث شعبة عن قتادة قال: سمعت أبا عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: أخبرنا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد: " أما بعد فتدثروا وارتدوا فتعلوا وارموا بالخفاف واقطعوا السراويلات وعليكم بلبس أبيكم، وإياكم والتعمم وزي العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتعددوا وأحسوا شنوا وأحلوا لغوا وارموا الأغراض وامشوا ما بينهما وانزوا الخيل على الخيل، وإن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهانا عن الحرير إلا هكذا " وضم أصبعه السبابة والوسطى» .
وأخرجه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شعب الإيمان " عن الحاكم بسنده عن الحارث بن أبي أسامة حدثنا أبو النصري، حدثنا شعبة بن سواد، وأخرجه مسلم في " صحيحه " بلفظ: «وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير» انتهى.
ولو استدل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - منها بحديث حذيفة لكان أولى، وهو ما أخرجه البخاري عن ابن أبي ليلى عن أبي حذيفة قال: «نهانا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل، وعن لبس الحرير والديباج وأن يجلس عليه» ، وهو من آداب البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولم أجد الحميدي ذكره، وذكره عبد الحق " في الجمع بين الصحيحين ". وهذا صريح في تحريم الجلوس عليه، فإذا كان الجلوس عليه حراما فالتوسد مثله.
قوله " معددا ": أي تشهد بعد الفسق والخصومة.
قوله: " أحسوا شنوا ": أحسوا من الشيء إذا أسدن حسوسه، وهو صيغة المبالغة.
وقوله: " وأحلوا لغوا ": من أحلولة الرسم إذا استوى بالأرض.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " جلس على مرفقة حرير ") ش: هذا لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصلا ولا ذكره أحد من أرباب النقل لا بسند صحيح ولا بسند ضعيف.
والمرافقة، بكسر الميم، وسادة الاتكاء.
حديث حذيفة الذي ذكرناه حديث صحيح يروي هذا.
م: (وقد كان على بساط عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفقة حرير) ش: هذا أخرجه

(12/100)


ولأن القليل من الملبوس مباح كالأعلام، فكذا القليل من اللبس والاستعمال، والجامع كونه نموذجا على ما عرف.
قال: ولا بأس بلبس الحرير والديباج في الحرب عندهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن سعد في " الطبقات " في ترجمة ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا سعد عن راشد مولى بني عامر قال: رأيت على فراش ابن عباس مرفقة من حرير.
أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا نسر بن أبي المقدام عن موزث بني زاودعة قال: دخل على عبد الله بن عباس وهو متكئ على مرفقة حرير وسعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عند رجليه وهو يقول له: انظر كيف يحدث عني فإنك حفظت عني كثيرا.
م: (ولأن القليل من الملبوس مباح كالأعلام، فكذا القليل من اللبس والاستعمال) ش: وهو التوسيد والافتراش؛ لأنه ليس باستعمال كامل م: (والجامع كونه نموذجا على ما عرف) ش: أي الجامع بين القيل من اللبس والقليل من الملبوس كونه نموذجا يريد به أن المستعمل يعلم بهذا المقدار وما وعد له في الآخرة منه ليرغب في تحصيل سبب توصله إليه، والنموذج بفتح النون معرب نموده، وكذا الأنموذج بفتح الهمزة، وفي العباب النموذج مثال الشيء الذي يعلم عليه وبغير الهمزة وهو الصواب.
فإن قيل: الجلوس على كرسي الفضة لا يحل ولا يحل افتراشه أيضا في الأصح وقد حل القليل منه وهو لبس الخاتم.
قلنا: ما أطلقنا القليل إلا ليكون أنموذجا، فإذا انقلب مقصودا يكون حراما كالخمر، وهذا لأن الحرير لباس أهل الجنة قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] ، فوجب إطلاق القليل منه، وهو العلم، والقليل من لبسه وهو الافتراش، ليكون أنموذجا إلى ذلك الكثير الكامل.
فأما الفضة فلا يكون لباسا في الدار الآخرة. وإنما يكون منها الكراسي ونحوها. فلو أطلقها لصار عينها مطلقا، وعين الشيء لا يصلح أنموذجا.
وفي " الحقائق ": وأكثر مشائخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أخذوا بقولهما؛ لأن مآله للتخير، ونقل فخر الإسلام عن " نوادر هشام " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: أكره ما يكره الديباج والإبريسم.
وفي " الفتاوى الصغرى ": ولا بأس سكة الحرير عند أبي حنيفة.

[لبس الحرير والديباج في الحرب]
م: (قال: ولا بأس بلبس الحرير والديباج في الحرب عندهما) ش: أي قال القدوري: وقد مر

(12/101)


لما روى الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رخص في لبس الحرير، والديباج في الحرب» . ولأن فيه ضرورة، فإن الخالص منه أدفع لمعرة السلاح وأهيب في عين العدو لبريقه، قال: ويكره عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه لا فصل فيما رويناه. والضرورة اندفعت بالمخلوط وهو الذي لحمته حرير، وسداه غير ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تفسير الحرير والديباج، قوله: عندهما، أي عند أبي يوسف ومحمد م: «لما روى الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رخص في لبس الحرير والديباج في الحرب ") » ش: هذا لم يثبت عن الشعبي واسمه عامر بن شراحبيل، وهو من التابعين الكبار، ونسبه إلى شعب جبل باليمن ذو شعبي وكان مولده بست سنين مضت من خلافة عثمان ومات سنة خمس ومائة وهو ابن سبع وسبعين سنة. لكن روى ابن عدي في " الكامل " من حديث بقية عن عيسى بن إبراهيم بن طهمان الهاشمي، عن موسى بن حبيب، عن الحكم بن عمير، وكان من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لباس الحرير عند القتال» .
وأعله عبد الحق في " أحكامه " بعيسى هذا، وقال: إنه ضعيف عندهم. بل متروك.
وقال ابن القطان في كتابه: وبقية لا يحتج به وعيسى ضعيف وموسى بن أبي حبيب ضعيف أيضا، وروى ابن سعد في " الطبقات " في ترجمة عبد الرحمن بن عوف، أخبرنا القاسم بن مالك المزني عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال: " كان المسلمون يلبسون الحرير في الحرب ".
م: (ولأن فيه ضرورة) ش: أي في لبس الحرير في الحرب م: (فإن الخالص منه أدفع لمعرة السلاح) ش: أي شدته وقيل المعرة المار الأدي مفعله من العرر وهو الحرب أو من عره إذا ألطخه بالمعرة وهو السرقين وهو بضم العين المهملة وتشديد الواو.
وفي " العباب " المعرة والعرا البعر والسرحين وسلخ الطير. م: (وأهيب في عين العدو لبريقه) ش: ولمعانه، وبقولهما قال ابن الماجشون المالكي. ورخص ابن القاسم المالكي الأعلام منه في أرض العدو.
م: (قال: ويكره عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه لا فصل فيما رويناه) ش: أراد به قوله: هذان حرامان على ذكور أمتي يعني أنه عام ولم يفصل بين الحرب وغيره.
م: (والضرورة اندفعت بالمخلوط وهو الذي لحمته حرر وسداه غير ذلك) ش: فلا حاجة إلى

(12/102)


والمحظور لا يستباح إلا بالضرورة. وما رواه محمول على المخلوط.
قال: ولا بأس بلبس ما سداه حرير ولحمته غير حرير كالقطن والخز في الحرب وغيره؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يلبسون الخز، والخز مسدى بالحرير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المصير إلى الحرير الخالص والمخلوط، وإن كان حريرا في الحكم فيه شبه العزل فكان دون الحرير الخالص، والضرورة اندفعت بالأدنى فلا يصار إلى الأعلى.
والبريق يكون بظاهره واللحمة يكون على الظاهر وبه تندفع معرة السلاح م: (والمحظور لا يستباح إلا بالضرورة) ش: أي الحرام لا يباح إلا عند الضرورة، ولا ضرورة هنا لأنها تندفع بالمخلوط كما ذكرنا.
م: (وما رواه محمول على المخلوط) ش: هذا جواب عما روياه من حديث الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وإنما حمل على المخلوط توفيقا بين الدليلين هذا الذي ما فيه الشراح ولكن الجواب عنه أنه غير صحيح ولا ثابت أصلا نعم يجاب بما ذكروا من حديث الحكم بن عمير وأثر الحسن عن تقدير صحتهما، وبقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال أكثر أهل العلم.

[ما سداه حرير ولحمته غير حرير كالقطن والخز لبسه في الحرب وغيره]
م: (قال: ولا بأس بلبس ما سداه حرير ولحمته غير حرير كالقطن والخز في الحرب وغيره) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": والخز - بفتح الخاء وتشديد الزاي المعجمتين - وهو صوف حيوان من الماء.
وقال تاج الشريعة: الخز ثوب سداه حرير ولحمته شعر حيوان يكون في الماء.
وقيل: الخز مسديا بالحرير كما قاله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وهذا الحكم لا خلاف فيه لأحد من الأئمة م: (لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يلبسون الخز، والخز مسدى بالحرير) ش: فيه آثار منها ما رواه البخاري في كتابه " الأدب المفرد " في القراءة خلف الإمام: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة عن قتادة، عن زرارة قال: رأيت عمران بن الحصين يلبس الخز، ومنها ما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه ". حدثنا إسماعيل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابن علية عن يحيى بن أبي إسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رأيت على أنس بن مالك مطرف خز. ورواه عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري، قال: رأيت على أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جبة خز وكساء خز وأنا أطوف بالبيت مع سعيد بن جبير.
ومن طريق عبد الرزاق رواه البيهقي في " شعب الإيمان "، ومنها ما رواه ابن أبي شيبة أيضا: حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: رأيت حسين بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعليه كساء خز.

(12/103)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه البزار في " معجمه " حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمامي، حدثنا المطلب بن زياد - عن السدي - قال: رأيت الحسين بن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وعليه عمامة خز وقد أخرج شعره من تحت العامة.
ومنها: ما أخرجه الحاكم في " مستدركه " عن سفيان عن عمرو بن دينار سمع صفوان بن عبد الله بن صفوان - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: استأذن سعد على ابن عامر وتحته مرافق من حرير فأمر بها فرفعت، فدخل سعد وعليه مطرف خز فقال له ابن عامر: استأذنت علي وتحتي مرافق من حرير فأمرت به فرفعت فقال له: نعم الرجل أنت يا ابن عامر. وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولم يخرجاه.
ومنها: ما أخرجه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبد الله بن عمر العمري، أخبرني وهب بن كيسان قال: رأيت ستة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبسون الخز: سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
ومنها: ما أخرجه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الشعب " عن عبد السلام بن حرب، عن مالك بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يلبس الخز، وقال: إنما يكره المصمت من الحرير.
ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة: حدثنا أبو داود الطيالسي عن عمران القطان، أخبرني عمار قال: رأيت على أبي قتادة مطرف خز، ورأيت على أبي هريرة مطرف خز، ورأيت على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما لا أحصي.
ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضا: حدثنا علي بن مسهر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الشيباني، ورأيت على عبيد بن أبي أوفى مطرف خز، ورواه ابن سعد في " الطبقات ": أخبرنا عبد الحميد بن عبد الرحمن الحمامي عن أبي سعد البقال قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى وعليه برنس خز.
ومنها: ما أخرجه بن أبي شيبة أيضا، حدثنا وكيع عن عيينة بن عبد الرحمن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبيه قال: كان لأبي بكرة مطرف خز سداه حرير فكان يلبسه، ورواه ابن سعد في " الطبقات "، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا عيينة بن عبد الرحمن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبيه.
ومنها: ما أخرجه الطبراني في " معجمه "، حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا زيد

(12/104)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن أحزم، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن يونس عن عمار بن أبي عمار قال: رأيت زيد بن ثابت وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأبا هريرة، وأبا قتادة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يلبسون مطارف الخز، ذكره في ترجمة أبي قتادة واسمه الحارث بن ربعي.
ومنها: ما أخرجه البيهقي في " الشعب " عن عبد الله بن محمد بن أسماء قال: حدثني جويرية بن أسماء عن نافع أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان ربما يلبس المطرف الخز ثمنه خمسمائة درهم.
ومنها: ما أخرجه إسحاق بن راهوية في " مسنده " أخبرنا الفضل بن موسى، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن، قال: رأيت السائب بن يزيد وهو ابن أربع وسبعين سنة وكان جدلا معتدلا، وكان عليه كساء خز وجبة خز وقطيفة خز ملتحفا بها.
ومنها: ما أخرجه إسحاق أيضا. أخبرنا العقل بن دكين الملائي، حدثنا قطر بن خليفة مولى عمرو بن حريث قال: رأيت على عمرو بن حريث - رَحِمَهُ اللَّهُ - مطرف خز.
ومنها: ما أخرجه النسائي في كتاب " الكنى "، أخبرنا أحمد بن علي بن سعيد، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا محمد بن يزيد، أخبرنا أبو بلج جارية - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: رأيت أنا رجلا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه مطرف خز.
ومنها: ما أخرجه ابن سعد في " الطبقات "، أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت البناني: أن عائذ بن عمرو كان يلبس الخز.
ومنها: ما أخرجه الطبراني في كتاب " مسند الشاميين "، حدثنا يحيى بن عبد الباقي، حدثنا إدريس بن أبي الرباب - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حدثنا رديح بن عطية، حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة قال: رأيت أبا أبي بن أم حرام، وأخبرني أنه صلى إلى القبلتين مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه كساء خز، وابن أم حرام اسمه: عبد الله وهو ابن امرأة عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
أخبرنا الواقدي ومنها: خبر رواه فيه أيضا، حدثنا موسى بن عيسى بن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا أبي، حدثنا بقية عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: أدركت رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقال له: الأفطس؛ فرأيت عليه ثوب خز.
ومنها: ما أخرجه ابن سعد في " الطبقات " في ترجمة عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. أخبرنا الواقدي، حدثنا ابن أبي سبرة عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى حدثني الأعرج عن محمد بن ربيعة بن الحارث - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: رأيت على عثمان بن عفان - رضي الله

(12/105)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى عنه - مطرف خز ثمنه مائتي درهم.
ومنها: ما أخرجه أبو داود وفي " سننه " من حديث عبد الله بن سعد الدشتكي عن أبيه قال: رأيت رجلا ببخارى على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء وقال: كسانيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وذكره عبد الحق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أحكامه " من جهة أبي داود وسكت عنه. وتعقبه ابن القطان فقال: وعبد الله بن سعد وأبوه والرجل الذي ادعى الصحبة كلهم لا يعرفون، أما سعد ولد عبد الله: فلا يعرف روى عنه غير ابنه عبد الله هذا الحديث الواحد.
وأما ابنه عبد الله: فقال روى عنه جماعة وله ابن يقال له عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي مروزي، صدوق، وله ابن اسمه أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو شيخ لأبي داود، يروى عنه هذا الحديث. الأحاديث المرفوعة: أخرجه أبو داود في " سننه " عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير، وسدا الثوب فلا بأس به» ، وخصيف بن عبد الرحمن - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضعفه غير واحد.
فإن قلت: أخرج أبو داود أيضا في " سننه " عن عطية بن قيس، عن عبد الرحمن بن غنم حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير» ، وذكر كلاما، قال: «يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» .
وذكره البخاري في " صحيحه " تعليقا فقال: في " كتاب الأشربة ": وقال هشام بن عمار - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حدثنا صدقة بن خالد عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس عن عبد الرحمن بن غنم به.
قيل: ورواه البرقاني والإسماعيلي في " صحيحيهما المخرجين على الصحيح " بهذا الإسناد.

(12/106)


ولأن الثوب إنما يصير ثوبا بالنسج، والنسج باللحمة فكانت هي المعتبرة دون السدى.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أكره ثوب القز يكون القز بين الفرو والظهارة، ولا أرى بحشو القز بأسا؛ لأن الثوب ملبوس، والحشو غير ملبوس. قال: وما كان لحمته حريرا وسداه غير حرير لا بأس به في الحرب للضرورة. قال: ويكره في غيره لانعدامها، والاعتبار للحمه على ما بينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال عبد الحق في " أحكامه ": وقد روي هذا بوجهين «يستحلون الحر» بحاء مهملة وراء مهملة، وقال: وهو الزنا، وروي بخاء وزاي قال: والأول هو الصواب.
وقال الأصمعي: الحر بكسر الحاء وتخفيف الراء المهملتين، وأصله الفرج فيقتصر في الواحد ويستوي في الجمع.
وقالوا: إخراج فإن كانت رواية المهملتين صحيحة فلا كلام، وإن كانت غيرها فالجواب: أنه محمول على ما كان سداه خزا ولحمته حرير فهذا حرام؛ لأن الاعتبار للحمة.
والذي ذكر في " الآثار " ما كان سداه حريرا ولحمته على ما قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والخز سدى بالحرير وهو الذي يباح لبسه فافهم.
م: (ولأن الثوب إنما يصير ثوبا بالنسج، والنسج باللحمة فكانت هي المعتبرة دون السدي) ش: لأن الشيء إذا تعلق وجوده بعلة ذات وصفين يضاف إلى آخرهما وجودا. وقال في تعليل هذه المسألة: أن السدى يصير مستورا باللحمة، فكان بمنزلة الحشو، بخلاف ما لو كانت لحمته من الحرير؛ لأن اللحمة تكون على ظاهر الثوب ترى وتشاهد ويلاقي الحشوة فكان تدينا باللبس، هذا نقل عن الإمام أبي منصور الماتريدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وهذه النكتة تقتضي أن السداء إذا كان ظاهرا كالعتابي يكره لبسه. وهذه النكتة الأولى تقتضي إباحة العتابي ونحوه.

[لبس ما كان لحمته حريرا وسداه غير حرير]
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أكره ثوب القز يكون القز بين الفرو والظهارة) ش: بكسر الظاء، وهو ضد البطانة بكسر الباء، والقز اسم للحرير التي تصنعها دود القز.
وفي " العباب ": القز من الإبريسم يعرب، وقال ابن دريد عربي م: (ولا أرى بحشو القز بأسا؛ لأن الثوب ملبوس والحشو غير ملبوس) ش: أراد بالحشو الذي يحشى بي الظهارة والبطانة.
م: (قال: وما كان لحمته حريرا وسداه غير حرير) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": قوله: غير حرير مثل القطن ونحوه.
م: (لا بأس به في الحرب) ش: أي فلا بأس بلبسه في الحرب م: (للضرورة. قال: ويكره في غيره لانعدامها) ش: أي في غير الحرب لانعدام الضرورة م: (والاعتبار للحمه على ما بينا) ش: أراد به قوله: لأن الثوب إنما يصير ثوبا بالنسج باللحمة.

(12/107)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الذخيرة ": ذكر هشام - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لم يرد باللباس المرتفع جدا، وقال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم وعليه رداء قيمته أربعة آلاف درهم، ودخل عليه رجل من أصحابه وعليه رداء آخر فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى آثار نعمته عليه» .
وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان يرتدي برداء قيمته أربعمائة دينار، وأباح الله سبحانه وتعالى الزينة بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] .
قيل لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أليس أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كان يلبس قميصا كان عليه كذا وكذا رقعة؟ قال: ذلك كالحكمة وهو أمير المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلو لبس ثيابا نفيسة أو اتخذ لنفسه ألوانا من الطعام لعماله وحشمه يقتدوا به في ذلك، وربما لا يكون لهم فيأخذوه ظلما، فاختار ذلك لهذه المصلحة.
وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره للرجال لبس الثوب المعصفر والمزعفر، وقيل لا بأس به.
وذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " السير الكبير ": لا بأس أن ينقش بيته ويتجمل بالثياب الفاخرة والأواني، ثم لا يجعله كأستار الكعبة ولكن يؤزر بإزار، وعند الثلاثة بالإبريسم: لا يجوز إلا في أستار الكعبة، والستر الذي فيه صور الحيوان.
وعن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان للحاجة لا بأس به كستر على الباب وكذا لو كانت الصورة صغيرة لا تبدو للناظر، يجوز التجمل بالأواني من الذهب والفضة بشرط أن لا يريد التفاخر والتكابر؛ لأن فيه إظهار نعم الله تعالى ولا يكره النكتة من الحرير.
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره، وبه قال مالك: واختلف في عصب الخراج بالحرير. وقيل: لا يحل استعمال منطقة وفي وسطها ديباج، وقيل: يحل إذا لم يبلغها عرضها قدر أصابع، كذا في " المجتبى ".
وفي " القنية ": قال القاضي عبد الجبار: أما العمامة الطويلة ولبس الثياب الواسعة يباح في حق الفقهاء الذين هم أعلام الهدى دون النساء.

(12/108)


قال: ولا يجوز للرجال التحلي بالذهب لما روينا. قال: ولا بالفضة؛ لأنها في معناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[التحلي بالذهب للرجال]
م: (قال: ولا يجوز للرجال التحلي بالذهب) ش: أي قال القدوري في " مختصره " م: (لما روينا) ش: أشار به إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذان حرامان على ذكور أمتي» . ومن الناس من أباح التختم بالذهب لما روى الطحاوي في " شرح الآثار " بإسناده إلى محمد بن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - «قال: رأيت في يد البراء - رَحِمَهُ اللَّهُ - خاتما من ذهب فقيل له: يقال: قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسنة، وقال: " البس ما كساك الله - عز وجل - ورسوله» .
وحديث الطحاوي أيضا بإسناده إلى مصعب بن سعد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: رأيت في يد طلحة بن عبد الله خاتما من ذهب، وحدث الطحاوي بإسناده، ورأيت في يد صهيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خاتما من ذهب، ورأيت في يد سعد خاتما من ذهب. وحديث الطحاوي أيضا بإسناده إلى يحيى بن سعيد بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قيل: وفي يده خاتم من ذهب، ولأن النهي عن استعمال الذهب والفضة والشرب في آنية الذهب والفضة سواء، ثم لإجازة التختم بالفضة دل على جواز التختم بالذهب لعلة وجه قول العامة.
فحدث البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الصحيح " مسندا إلى نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذا خاتما من ذهب، جعل فصه مما يلي باطن كفه، ونقش فيه محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم اتخذوها رمى به وقال: لا ألبسه أبدا. ثم اتخذ خاتما من فضة، فاتخذ الناس خواتم الفضة ". قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فلبس الخاتم بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان حتى وقع من عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بئر أريس» .
وروى الطحاوي أيضا بإسناده إلى البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن خاتم الذهب» ورواه أيضا بإسناد إلى عمران بن الحصين وإلى أبي هريرة قالا: «نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن خاتم الذهب» ، والترجيح للمحرم وما رووا كان قبل النهي ولباس التختم بخاتم الذهب والترجيح للمحرم بالذهب على التختم بالفضة فاسد، فإن جواز التختم بالفضة عرف بالنص أو يكون نموذجا وهي تندفع بالفضة فبقي الذهب على الحرمة.
م: (قال: ولا بالفضة) ش: أي ولا يجوز للرجال التحلي بالفضة م: (لأنها في معناه) ش: أي

(12/109)


قال: إلا بالخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن التحلي بالفضة في معنى التحلي بالذهب م: (قال: إلا بالخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة) ش: هذا استثناء من قوله: " ولا يجوز للرجال إلخ) أي إلا التختم بالخاتم، والمنطق بالمنطقة بكسر الميم وهي التي تسمى بالحياصة.
واتخاذ حلية السيف قوله: من الفضة بيان فللثلاثة المذكورة. أما الخاتم من الفضة فلما رواه الأئمة الستة في كتبهم عن ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ خاتما من فضة له فص حبشي ونقش فيه محمد رسول الله» ورواه الأئمة الثلاثة أيضا إلا ابن ماجه، عن قتادة، عن أنس: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يكتب إلى بعض الأعاجم، فقيل: إنهم لا يقرءون كتابا إلا بخاتم، فاتخذ خاتما من فضة ونقش فيه محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان في يده حتى قبض، وفي يد أبي بكر حتى قبض، وفي يد عمر حتى قبض، وفي يد عثمان حتى سقط منه في بئر أريس. ثم أمر به فنزحت فلم يقدر عليه» وقد ذكر الآن حديث ابن عمر فيه.
وأما المنطقة من الفضة فلما روى الواقدي في كتاب " المغازي ": حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله عن عمر بن الحكم - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: «ما علمنا أحدا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين أغاروا على الذهب يوم أحد فأخذوا ما أخذوا من الذهب بقي معه من ذلك شيء رجع حيث غشينا المشركون إلا رجلين أحدهما: عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح جاء بمنطقة وجدها في العسكر فيها خمسون دينارا شدها على حقويه تحت ثيابه. وعباد بن بشر - رَحِمَهُ اللَّهُ - جاء بصرة فيها ثلاثة عشر مثقالا فنفلهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك ولم يخمسه» فإن هذا لا يدل على إباحة المنطقة؛ لأنه لا يجوز أن يكون هذا نظير ما أعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الديباج الذي أهدي له، ونظير ما أعطى عليا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حريرا، وأمره أن يقطعه خمرا للفواطم الأربع.
والخمر جمع خمار وهي ما تغطي المرأة بها رأسها، والفواطم: جمع فاطمة، وهي أم علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - واسمها فاطمة، وفاطمة الزهراء، وفاطمة بنت حمزة، وفاطمة بنت عتبة بن ربيعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ -.
قلت: هذا احتمال، والأصل أن يكون قد أعطاه للاستعمال ولئن سلمنا بقول الراوي شدها على حقويه يدل على إباحة استعمالها، وذلك لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه هكذا، ولم ينكر عليه، إذ لو كان حراما لأنكره عليه، على أن الشيخ أبا الفتح ابن سيد الناس المعمري ذكر في كتاب " عيون

(12/110)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأثر ": وقال: كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منطقة من أديم مبشور حلقها وإبزيمها وطرفيها فضة.
وأما حلية السيف فلما روى أبو داود، والترمذي في الجهاد، والنسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الزينة، عن جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: كانت قبيعة سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضة» .
وفي لفظ للنسائي: «كان نعل سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبيعة سيفه فضة، وما بين ذلك حلق، وفضة» .
وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث حسن غريب، وهكذا رواه همام عن قتادة، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبعضهم رواه عن قتادة عن أنس، وبعضهم رواه عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كانت قبيعة سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فضة» .
وحديث همام الذي أشار إليه هو عند النسائي، أخرجه عن عمرو بن عاصم، عن همام، وجرير، عن قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال النسائي: هذا حديث منكر، والصواب قتادة عن سعيد مرسلا، وما رواه عن همام غير عاصم بن عمرو. انتهى.
وهذا المرسل الذي أشار إليه أخرجه أبو داود، والنسائي، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: كانت فتذكرة.
وقال عبد الحق في " أحكامه ": الذي أسنده ثقة، وهو جرير بن حازم. انتهى.
وقال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " علله ": هذا حديث قد اختلف فيه على قتادة، فرواه جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان حلية سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فضة» وكذلك رواه عمرو بن عاصم، عن همام، عن قتادة، عن أنس، ورواه هشام الدستوائي، ورواه نضر بن طريف، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، أخي الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرسلا. انتهى.
وأخرج الترمذي أيضا عن طالب بن حجير، عن هود بن عبد الله بن سعد عن جده مزيدة العصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح، وعلى سيفه ذهب وفضة.» وقال: حديث حسن غريب.

(12/111)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال ابن القطان في كتابه: وإنما حسنه الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يقبل المسانيد على عادته في ذلك، وهو عند ابن القطان ضعيف لا حسن، فإن هود بن عبد الله بن سعيد بصري، لا مزيد فيه على ما في الإسناد من رواية عن جده، ورواية طالب بن حجير عنه، فهو مجهول الحال.
وطالب بن حجير أبو حجير كذلك، وإن كان روى عنه أكثر من واحد، وسئل عنه الذاريان فقالا: شيخ ليس من أهل العلم، وإنما هو صاحب رواية، وقال الذهبي في " ميزانه ": صدق ابن القطان في تضعيفه لهذا الحديث فإنه منكر، فيه طالب بن حجير عنه، فهو مجهول الحال، وطالب من قال: حلية سيف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذهبا.
وأخرج الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه " عن محمد بن حماد، حدثنا أبو الحكم، «حدثني مرزوق الصيقل: أنه صقل سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذا الفقار، وكانت له قبيعة من فضة وحلقة من فضة» .
وأخرجه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه الكبرى "، وقال الذهبي في " مختصره ": إسناده ضعيف.
وأخرج عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " من الجهاد «عن جعفر بن محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رأيت سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائمته من فضة، ونعله من فضة، وبين ذلك حلق من فضة، وهو عند هؤلاء - يعني بني العباس -» .
وأخرج البخاري في " صحيحه " عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: كان سيف ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محلا بفضة، وكان سيف عروة محلى بفضة. وأخرج البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن المسعودي قال: رأيت في بيت القاسم بن عبد الرحمن سيفا قيعته من فضة، فقلت: سيف من هذا؟ قال: سيف عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
وأخرج البيهقي أيضا عن عثمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر: أنه تقلد سيف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم قتل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وكان محلى، قلت: كما كانت حليته؟ قال: أربعمائة.
قوله: بئر أريس بفتح الهمزة، وكسر الراء بعدها ياء آخر الحروف، وسين مهملة، وهي بئر مشهورة في المدينة.

(12/112)


تحقيقا لمعنى النموذج، والفضة أغنت عن الذهب، إذ هما من جنس واحد، كيف وقد جاء في إباحة ذلك آثار.
وفي " الجامع الصغير ": ولا يتختم إلا بالفضة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: مبشورة من بشرت الأديم أبشره وأبشره إذا أبشرت بشرته. وقال ابن السكيت: بشر الأديم وهو أن يوجه باطنه بعنوة.
قوله: كان نعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفتح النون وسكون العين المهملة، وفي آخره لام وهو ما يكون في أسفله حفنة من حديد، أو فضة.
قوله: قبيعة بفتح القاف، وكسر الباء الموحدة، وهو ما على مقبض السيف من فضة أو حديد م: (تحقيقا لمعنى النموذج) ش: أي لأجل التحقيق بمعنى النموذج، وقد فسرنا معناه عن قريب.
م: (والفضة أغنت عن الذهب) ش: لأن الضرورة إذا اندفعت بالأدنى لا يصار إلى الأعلى كما قدمناه.
م: (إذ هما) ش: أي الذهب والفضة م: (من جنس واحد) ش: جعل كونهما من جنس واحد علة للاستغناء بالفضة عن الذهب، والجنسية بينهما في " التحية " كذا لا في الذات م: (كيف وقد جاء في إباحة ذلك آثار) ش: يعني كيف لا يستغنى بالفضة عن الذهب، والحال أنه قد جاء في إباحة التختم بالفضة، أخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقد ذكرناها الآن مفصلة.
فإن قلت: كما جاء بالفضة جاء أيضا بالذهب على ما رواه الترمذي الذي ذكرناه آنفا؟.
قلت: قد ذكرنا أنه منكر لا يعمل به.
فإن قلت: قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الآية عامة تقتضي جواز ذلك، وأخبار الآحاد كيف تعارضها؟.
قلت: أخبار التحريم بالذهب، والفضة للرجال مشهورة صحيحة تلقتها الأمة بالقبول، فجاز التقييد بها.

[التختم بالحجر والحديد والصفر]
م: (وفي " الجامع الصغير ": ولا يتختم إلا بالفضة) ش: إنما أتى بلفظ أداة الحصر فيه. وصورته محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لا يتختم إلا بالفضة، وكان لا يرى بأسا بالفص، يكون فيه الحجر فيه مسمار ذهب انتهى. وهي من الخواص.

(12/113)


وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام، «ورأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رجل خاتم صفر، فقال: " ما لي أجد منك رائحة الأصنام ". ورأى على آخر خاتم حديد " فقال: " ما لي أرى عليك حلية أهل النار» . ومن الناس من أطلق في الحجر الذي يقال له: يشب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي المذكور في " الجامع الصغير " م: (نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام) ش: لأنه ذكر فيه بكلمة الحصر فينحصر الجواز في الفضة. والصفر بضم الصاد، وقال أبو عبيد: بكسرها، وهو الذي يتخذ منه الأواني.
م: «ورأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رجل خاتم صفر، فقال: " ما لي أجد منك رائحة الأصنام» ش: أخرجه أبو داود في كتاب " الخاتم "، والترمذي في " اللباس "، والنسائي في " الزينة " عن زيد بن الخباب، عن عبد الله بن مسلم السلمي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه خاتم من حديد، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار، ثم جاءه وعليه خاتم من شبه، فقال: ما لي أرى منك ريح الأصنام، قال: يا رسول الله من أي شيء اتخذه؟ قال: " اتخذه من ورق لا تتمنه مثقالا» .
زاد الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثم جاءه وعليه خاتم من ذهب، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة، وقال: صفر موضع شبه، وقال: حديث غريب.
وعبد الله بن مسلم يكنى أبا طيبة، رواه أحمد، والبزار، وأبو يعلى الموصلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسانيدهم "، وابن حبان في " صحيحه "، وذكر فيه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - زيادة الترمذي دون الباقين.
م: (ورأى على آخر خاتم حديد، فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل النار» ش: هذا ليس كذلك، بل هو رجل واحد كما هو في الحديث.
م: (ومن الناس من أطلق في الحجر الذي يقال له: يشب) ش: أي: ومن العلماء منهم شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جواز استعمال الخاتم من الحجر الذي يقال له: يشب بفتح الياء آخر الحروف، وسكون الشين المعجمة، وفي آخره باء موحدة، ويقال له: يشم أيضا بالميم عوض الباء.

(12/114)


لأنه ليس بحجر، إذ ليس له ثقل الحجر. وإطلاق الجواب في الكتاب يدل على تحريمه.
قال: والتختم بالذهب على الرجال حرام، لما روينا. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: نهى عن التختم بالذهب "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال شمس الأئمة في " شرح الجامع الصغير ": ثم الظاهر لفظ الكتاب، كره بعض مشائخنا التختم باليشب، والأصح أنه لا بأس به، وإن مراده كراهة التختم بالذهب، والحديد على ما ورد به الأثر أنه زي أهل النار، قلنا: يشب ونحوه فلا بأس بالتختم به كالعقيق «. وقد ورد الأثر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتختم بالعقيق وقال: " تختموا به فإنه مبارك ".» م: (لأنه) ش: أي لأن اليشب م: (ليس بحجر إذ ليس له ثقل الحجر) ش: وفيه نظر لأنه لا يلزم من خفته أن لا يكون حجرا، فإن العقيق أيضا خفيف مع أنه من أنواع الحجر.
م: (وإطلاق الجواب في الكتاب) ش: أي في " الجامع الصغير " م: (يدل على تحريمه ") ش: أي تحريم اليشب؛ لأنه قد يتخذ منه الصنم، فيؤخذ منه ريح الأصنام وهو المعول عليه في النهي على تحريم الصفر، على ما وقعت الإشارة النبوية إليه.
وفي " الأجناس ": لا بأس للرجل أن يتخذ خاتما من فضة فصه منه، وإن جعل فصه من جزع أو عقيق أو فيروز، أو ياقوت أو زمرد، فلا بأس إن نقش عليه اسمه، واسم أبيه، أو ما بدا له كقوله: ربي الله، أو نعم القادر الله فلا بأس.
وقال بعضهم: نقش الخاتم بالعربية يكره، وبغير العربية لا بأس به، وقد صح أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقش على خاتمه ثلاثة أسطر: " محمد " سطر، و " رسول " سطر، و " الله " سطر. وفي " السمة ": ولا ينبغي أن ينقش فيه مثال المناف أو طير.

[التختم بالذهب على الرجال]
م: (قال: والتختم بالذهب على الرجال حرام لما روينا) ش: أشار به إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذان حرامان» الحديث.
م: (وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن التختم بالذهب» ش: هذا الحديث رواه الجماعة إلا البخاري، من حديث عبد الله بن حنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التختم بالذهب، وعن لباس القسي، والمعصفر، وعن القراءة في الركوع، والسجود» .

(12/115)


ولأن الأصل فيه التحريم، والإباحة ضرورة الختم أو النموذج، وقد اندفعت بالأدنى وهو الفضة، والحلقة هي المعتبرة؛ لأن قوام الخاتم بها، ولا معتبر بالفص حتى يجوز أن يكون من حجر، ويجعل الفص إلى باطن كفه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه الأربعة أيضا عن هبيرة بن يريم عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التختم بالذهب، وعن القسي، وعن الميثرة الحمراء» وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ورواه ابن حبان في " صحيحه "، وأخرج مسلم أيضا عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن خاتم الذهب» .
وأخرج البخاري ومسلم - رحمهما الله - أيضا عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبع، ونهانا عن سبع، وفيه: نهانا عن خواتيم، أو عن التختم بالذهب» .
قوله: القسي: بفتح القاف، وكسر السين، وتشديد الياء، وهو ثوب رقيق النسج منسوب إلى قرية بأرض مصر تسمى قسا، والمسرة مسرة السرج، وفي " العباب ": وهو غير مهجورة لأنها من الوباثرة، والجمع مباثر، ومواثر.
م: (ولأن الأصل فيه التحريم) ش: أي في استعمال الذهب، والأولى أن يقال في كل واحد من الذهب والفضة؛ لأن كليهما حرام للرجال، إلا ما استثنى منه الخاتم من الفضة؛ لأجل الضرورة، أشار إليه بقوله: م: (والإباحة ضرورة الختم) ش: أي إباحة استعمال الفضة في الخاتم لضرورة التختم م: (أو النموذج) ش: أي لأجل النموذج م: (وقد اندفعت) ش: أي الضرورة م: (بالأدنى وهو الفضة) ش: فلا يصار إلى الأعلى فبقي الذهب على حكم التحريم. وذكر المحبوبي أنهم قالوا: إن قصد به التزين يكره، وإلا فلا.
م: (والحلقة هي المعتبرة لأن قوام الخاتم بها) ش: أي بالحلقة م: (ولا معتبر بالفص حتى يجوز أن يكون من حجر) ش: أي حجر كان على ما ذكرنا من " الأجناس ".
وفي " الدراية ": وحلقة العظم والحديد والنحاس وفي المنطقة لا يكره.
م: (ويجعل الفص إلى باطن كفه) ش: لا إلى ظاهره لما روى مسلم من حديث الزهري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «اتخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتما من فضة في يمينه فيه فص حبشي كان يجعل

(12/116)


بخلاف النسوان؛ لأنه تزين في حقهن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فصه مما يلي كفه» .

م: (بخلاف النسوان؛ لأنه تزين في حقهن) ش: لأنه ذكر أنه لضرورة التختم، وذلك لا يكون إلا في الرجال. وفي النساء ليس للضرورة بل هو زينة لهن، فيجعل فصه إلى ظاهر الكف، ولم يذكر هل تتختم في اليمين أو في اليسار.
فقال في " الأجناس ": وينبغي أن يلبس خاتمه في خنصره اليسرى ولا يلبس في اليمين ولا في غير خنصره اليسرى من أصابعه. وسوى الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير " بين اليمين واليسار.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو الحق؛ لأنه اختلفت الروايات عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك.
وروي في " السنن " بإسناده إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتختم في يمينه» .
وروى أيضا بإسناده إلى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتختم في يساره وكان فصه في باطن كفه» .
وروى أصحاب " السنن " بإسناده إلى محمد بن إسحاق قال: رأيت على الصلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب خاتما في خنصره اليمنى فقلت: ما هذا؟ قلت: " رأيت ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لبس خاتمه هكذا، وجعل فصه على ظهرها، ولا يخال ابن عباس إلا قد كان يذكر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبس خاتمه كذلك ".
وما قال بعضهم: إن التختم في اليمين من علامات أهل البغي، ليس بشيء؛ لأن النقل الصحيح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينفي ذلك. انتهى كلامه.
قلت: الحق أن اليسار أفضل لما روى مسلم في صحيحه من حديث ثابت عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كأني أنظر إلى وميض خاتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأومأ بيساره» وفي لفظ: «وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى» نعم وقد ثبت أيضا في " الصحيح ": «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تختم في اليمين، ولكن استقر الأمر على اليسار» .

(12/117)


وإنما يتختم القاضي والسلطان لحاجته إلى الختم، فأما غيرهما فالأصل أن يترك لعدم الحاجة إليه.
قال: ولا بأس بمسمار الذهب يجعل في حجر الفص أي في ثقبه؛ لأنه تابع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " من حديث سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تختم خاتما من ذهب في يده اليمنى على خنصره ثم رجع إلى البيت فرماه فما لبسه، ثم تختم خاتما من ورق فجعله في يساره، وأن أبا بكر وعمر وعليا والحسن والحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يتختمون في يسارهم» .
وذكر في " جامع قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وما قال للنعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتخذه في اليمين ولا تزده على مثقال كان في ابتداء الإسلام ثم صار من علامات أهل البغي لقسمة الحكمين.
م: (وإنما يتختم القاضي والسلطان لحاجته إلى الختم فأما غيرهما فالأصل أن يترك لعدم الحاجة إليه) ش: قال الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير ": ثم التختم إنما يكون سنة إذا كان له حاجة إلى التختم بأن يكون سلطانا أو قاض، أما إذا لم يكن محتاجا إلى التختم فالترك أفضل. انتهى.
وقال قوم: كره لبس الخاتم لغير السلطان أو القاضي لما روي عن أبي ريحانة أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لبوس الخاتم إلا لذي سلطان» .
قلنا: المراد من النهي التنزيه على تقدير صحة الحديث، وروي أن كثيرا من الصحابة تختموا.

م: (قال: ولا بأس بمسمار الذهب يجعل في حجر الفص أي في ثقبه) ش: قال في " الجامع الصغير ": والحجر - بضم الجيم وسكون الحاء المهملة - وقد فسرناه بالثقب وهو بالفارسية، سوارخ "، والمراد الفض الذي يجعل فيه الفص.
قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي لا بأس بأن يسمر للفص بمسمار الذهب ليحفظ به، والمسمار في الأصل كالوتد من الحديد، يقال: سمر الباب أي أوثقه بالمسمار م: (لأنه تابع) ش: أي لأن مسمار الذهب تابع فصار كالمستهلك، أو كالأسنان المتخذة من الذهب على حواشي خاتم الفضة، فإن الناس يجوزونه من غير نكير ويلبسون ذلك الخواتيم.

(12/118)


كالعلم في الثوب فلا يعد لابسا له.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا تشد الأسنان بالذهب وتشد بالفضة، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بالذهب أيضا. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قول كل منهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كالعلم في الثوب فلا يعد لابسا له) ش: فإن العلم في الثوب تابع للثوب، قوله " لا يعد لابسا " لا يجوز أن يرجع إلى مسمار الذهب ويجوز أن يرجع إلى العلم ويجوز أن يرجع إلى الجميع فافهم.

[شد الأسنان بالذهب الفضة]
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا تشد الأسنان بالذهب وتشد بالفضة) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": أراد بالأسنان المتعلقة م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي المذكور هو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بالذهب أيضا وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قول كل منهما) ش: أي مثل قول كل واحد من أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - البزدوي: قول أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما أشار إليه في " الجامع ". وروي عنه في " الإملاء " مثل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قوله الآخر الذي رجع إليه.
وذكر في " الأمالي " عن أبي حنيفة: أنه لم ير بالذهب بأسا أيضا، وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": قال بشر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الأشربة من " الإملاء ": ولو أن رجلا تحركت ثنيته ولم تسقط فخاف سقوطها فشدها بذهب أو فضة لم يكن به بأس في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وفي قول أبي يوسف: وليس هذا يشبه المسمار في الفص، ثم قال الكرخي فيه: فإن سقطت ثنية رجل فإن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان يكره أن يعيدها ويشد بفضة أو ذهب، ويقول: هي كسن ميتة أخذها فشدها مكانها ولكن يأخذ من شاة زكية يشدها مكانها.
وخالفه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: لا بأس أن يشد ثنيته في موضعها ولا يشد منه بسن ميت استحسن ذلك، وبينهما فصل وإن لم يحضر ذلك، ثم قال الكرخي: وقال بشر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي يوسف في " نوادر أبي يوسف ": قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بشدها بالفضة ما لم تقع فإن وقعت فلا خير أن يشدها يذهب ولا فضة، فإذا لم يقع فإنه يكره الذهب وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم رجع أبو يوسف وقال: لا بأس أن يشدها بالذهب. وقال: سوغه في موضع آخر من " نوادره "، قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا بأس به؛ لأنه ليس بحلية، فلا بأس أن يشدها إذا وقعت، ولا بأس أن يعيد إذنه، انتهى.

(12/119)


لهما: «أن عرفجة بن أسعد الكناني " أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن فأمره النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بأن يتخذ أنفا من ذهب» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ونقل في " الأجناس " في كتاب الكراهية: أما لو قطع قطعة من الأذن محيطة والتأمت تترك بحالها ولا تقلع.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: «أن عرفجة بن أسعد الكناني أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن فأمره النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بأن يتخذ أنفا من الذهب» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود في الخاتم، والترمذي في اللباس والنسائي في الزينة، عن أبي الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن جده عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتخذ أنفا من ذهب» .
هكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن أبي الأشهب به، ورواه أيضا عن إسماعيل ابن علية عن أبي الأشهب به، ورواه أيضا عن يزيد بن هارون عن أبي الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة عن عرفجة بنحوه، وزاد: قال يزيد: فقلت لأبي الأشهب: أدرك عبد الرحمن بن طرفة جده عرفجة؟ قال: نعم.
وأخرج الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن علي بن هاشم بن البريد عن أبي الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة عن عرفجة قال: أصيب أنفي، فذكره، وعن محمد بن يزيد الواسطي عن أبي الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن عرفجة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نحوه. وقال: حديث حسن وإنما نعرفه من حديث حسن، وإنما نعرفه من حديث عبد الرحمن بن طرفة، ورواه عنه أبو الأشهب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، ورواه أحمد في " مسنده "، وابن حبان في " صحيحه "، عن أبي الوليد الطيالسي حدثنا أبو الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة أن جده عرفجة.
ورواه أبو داود الطيالسي في " مسنده "، حدثنا أبو الأشهب جعفر بن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه فقال ابن القطان في كتابه: وهذا حديث لا يصح، فإنه من رواية أبي الأشهب - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختلف [فيه] قال: أكثره يقول عنه، عن عبد الرحمن بن طرفة بن عرفجة، عن جده، وابن علية يقول عنه، عن عبد الرحمن بن نافع عن أبيه عن عرفجة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال: فعلى: طريقة المحدثين ينبغي أن تكون رواية الأكثرين منقطعة فإنها معنعنة. وقد زاد فيها ابن علية واحدا.
قلت: حسن الترمذي رواية الحديث وصححه ابن حبان وكفى بها حجة على أنه قد روى

(12/120)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في هذا الباب أحاديث وأخبار غير ذلك.
منها: ما أخرجه الطبراني في " معجمه الأوسط "، حدثنا موسى بن زكريا، حدثنا شيبان بن فروخ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حدثنا أبو الربيع السمان، عن هشام بن عروة عن أبيه، «عن عبد الله بن عمر: أن أباه سقطت ثنيته فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يشدها بذهب» وقال: لم يروه عن هشام - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ابن عروة إلا أبو الربيع السمان.
ومنها: ما أخرجه ابن قانع في " معجم الصحابة ": حدثنا محمد بن الفضل بن جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حدثنا إسماعيل بن علية ذرارة، حدثنا عاصم بن عمارة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول قال: «انقدت ثنيتي يوم أحد فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أتخذ ثنية من ذهب» .
وفي " الأخبار ": ما رواه الطبراني في " معجمه " حدثنا يزيد بن هارون القزاز، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا محمد بن سعدان عن أبيه قال: رأيت أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يطوف به بنوه حول الكعبة على سواعدهم، وقد شدوا أسنانه بذهب.
ومنها: ما رواه في " مسند " أحمد عن واقد بن عبد الله التميمي عمن رأى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه " ضببت أسنانه بذهب " وليس من رواية أحمد.
ومنها: ما رواه النسائي في كتاب " الكنى "، حدثنا النفيلي، حدثنا هشيم، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن أبو سهيل مولى موسى بن طلحة قال: رأيت موسى بن طلحة بن عبيد الله قد شد أسنانه بذهب.
ومنها: ما رواه ابن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الطبقات " في ترجمة عبد الملك بن مروان: أخبرنا حجاج عن ابن جريج أن ابن شهاب الزهري سئل عن شد الأسنان؟ فقال: لا بأس به، قد شد عبد الملك بن مروان أسنانه بالذهب.
قوله: يوم الكلاب - بضم الكاف وتخفيف اللام -: وهو اسم واد بين الكوفة البصرة، كانت فيه وقعة عظيمة للعرب.

(12/121)


ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأصل فيه التحريم، والإباحة للضرورة وقد اندفعت بالفضة وهي الأدنى، فبقي الذهب على التحريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الجوهري: الكلاب اسم ما كانت عنده وقعة، وللعرب فيها أشعار كثيرة، منها قول امرئ القيس بن حجر الكندي:
وقد طوقت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وأعلم أنني عما قليل ... سأنشب في شبا طرف وباب
كما لاقى أبي حجر وجدي ... ولا أنسى ثقيلا بالكلاب
الإياب الرجوع، قوله: سأنشب أي سأتعلق، وشبا - بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة - وهو حد كل شيء.
وقال شيوخ منهم عدس بن سعد وسفيان الذي ورد الكلاب، وقال الفرزدق: هما أن كلاب ابن عمي اللذان مالك للملوك وفك الأغلال، وقال الأخطل:
وأخوهما السفاح كما خيلة ... حتى وردن حتى الكلاب نهالا
[وفي هذا المحل سقط من نسخة المؤلف روح الله روحه]
يخرجن من ثغر الكلاب عليهم ... حب السباع تبادر الأشبالا
وقال في " ديوانه ": أحد عميه أبو حسن قاتل شرحبيل بن الحارث بن عمر آكل المرار يوم الكلاب الأول والآخر: روكس بن الغدوكس والسفاح وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير سمي به؛ لأنه لما دنى من الكلاب عمد إلى جرار أصحابه وسعفها وسفح ماءها، وقال: ما لكم إلا القوم فقاتلوا أو دعوا، قوله جبى الكلاب - بكسر الجيم وفتح الباء الموحدة - وهو مادة من جبه إذا جمعته، والنهار العطاش، والأوشال جمع وشل - بفتح الواو والشين المعجمة - هو الماء في الجبل ينحدر انحدارا ضعيفا.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأصل فيه التحريم) ش: لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرامان على ذكور أمتي» وهذا عام على قبوله راجح على الخاص المختلف في قبوله، ولعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خص عرفجة بذلك كما خص الزبير بن العوام - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بلبس الحرير لحكة كانت به.
م: (والإباحة للضرورة وقد اندفعت بالفضة وهي الأدنى) ش: فلا يصار إلى الأعلى م: (فبقي الذهب على التحريم) ش: لاندفاع الضرورة بدونه.

(12/122)


والضرورة فيما روي لم تندفع في الأنف دونه حيث أنتن. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير؛ لأن التحريم لما ثبت في حق الذكور وحرم اللبس، حرم الإلباس كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها.
قال: وتكره الخرقة التي تحمل فيمسح بها العرق؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والضرورة فيما روي لم تندفع في الأنف دونه حيث أنتن) ش: يعني لما كانت الإباحة للضرورة، والضرورة لم تندفع في حديث عرفجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دونه، أي دون الذهب؛ لأنه أنتن، فلذلك أمره بالذهب.
ومسألة الأنف على الاتفاق إذا أنتن أو خيف ذلك. وأما تضبيب الأسنان فتحال عن هذا القدر.
وقال تاج الشريعة: يعني أن الضرورة لم تندفع بالفضة؛ لما روي من النتن ولو كان كذلك فأبو حنيفة يجوز ذلك أيضا، هكذا أشار إليه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " السير الكبير ".
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير) ش: أي قال القدوري في " مختصره ": وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز تحلية الصبيان، وعن بعض الصحابة: لا يجوز كما قلنا. وكذا عندنا: يكره أن يخضب يده أو رجليه بالحناء من غير حاجة، كما يكره للرجل.
وفي " فتاوى العتابي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في " الدراية ": وعن الثلاثة: لا بأس بتحلية الصبي م: (لأن التحريم لما ثبت في حق الذكور وحرم اللبس، حرم الإلباس كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها) ش: وهذا ظاهر. وفي شرح " الأقطع ": لأن الصبي يجوز أن يعرف ما يجوز في الشريعة دون ما لا يجوز ليألف ذلك، أما ترى إنما يمنعهم من شرب الخمر ويأخذهم بالصوم الصلاة ليألفوا ذلك. وكذلك يمنعهم لبس الحرير والذهب ليألفوا ذلك.

[الخرقة التي تحمل فيمسح بها العرق]
م: (قال: وتكره الخرقة التي تحمل فيمسح بها العرق) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وصورته محمد عن يعقوب: عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كان يكره هذه الخرقة التي يمسح بها العرق وهذه من الخواص.
قال فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": وكذلك الخرقة التي يمسح بها الوضوء محدثة بدعة يجب أن تكره لأنها لم تكن في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أحد من الصحابة والتابعين قبل ذلك وإنما كانوا يتمسحون بأطراف أرديتهم.
وقد قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الآثار ": وأخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد عن إبراهيم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في الرجل يتوضأ ويمسح وجهه بالثوب، قال: لا بأس، ثم

(12/123)


لأنه نوع تجبر وتكبر. قال: وكذا التي يمسح بها الوضوء أو يتمخط بها وقيل: إذا كان عن حاجة لا يكره وهو الصحيح، وإنما يكره إذا كان عن تكبر وتجبر وصار كالتربع في الجلوس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: أرأيت لو اغتسل بالماء البارد في ليلة باردة أيقوم حتى يجف قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وبه نأخذ ولا نرى بذلك بأسا، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لأنه نوع تجبر وتكبر) ش: لأنه يشبه زي العجم فيكره، وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير "، وكان الفقيه أبو جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إنما يكره ذلك إذا كان شيئا نفيسا؛ لأن في ذلك فخر أو تكبر، وأما إذا لم تكن الخرقة نفيسة فلا بأس؛ لأنه لا يكون فيه كبر.
م: (قال: وكذا التي يمسح بها الوضوء) ش: أي وكذا تكره الخرقة التي يمسح بها الوضوء بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به م: (أو يتمخط بها) ش: أي بالخرقة م: (وقيل: إذا كان عن حاجة لا يكره) ش: أي حمل الخرقة واستعمال المنديل عقيب الوضوء إذا كان عن ضرورة التنشيف لا يكره م: (وهو الصحيح) ش: أي هذا القول هو الصحيح.
وكذا قال في " جامع قاضي خان " و " المحبوبي "، وذلك لأن المسلمين قد استعملوا في عامة البلدان مناديل الوضوء، كيف وقد روى الترمذي في " جامعه ": حديث سفيان بن وكيع، قال حدثنا عبد الله بن وهب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن زيد بن حباب عن أبي معاذ عن الزهري، عن عروة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرقة ينشف بها بعد الوضوء» .
ثم قال: وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ليس بالقائم، ولا يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب شيء.
ثم قال أبو عيسى: وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء، ومن كره فإنما كرهه من قبل أنه قيل: إن الوضوء يوزن، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والزهري - رحمهما الله - وقال الزهري: إنما أكره المنديل بعد الوضوء فإن الوضوء يوزن.
م: (وإنما يكره إذا كان عن تكبر وتجبر وصار كالتربع في الجلوس) ش: فإن كان يفعله تجبرا أو

(12/124)


قال: ولا بأس بأن يربط الرجل في أصبعه أو خاتمه الخيط للحاجة ويسمى ذلك الرتم والرتيمة، وكان ذلك من عادة العرب، قال قائلهم:
لا ينفعنك اليوم إن هممت بهم ... كثرة ما توصي وتعقاد الرتم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تكبرا فيكره، وأن يفعله للضرورة والحاجة فلا يكره.
وقد روى أبو داود مسندا إلى جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس» . وكذلك الاتكاء إن كان تكبرا يكره، وإن كان لضرورة فلا.

م: (قال: ولا بأس بأن يربط الرجل في أصبعه أو خاتمه الخيط للحاجة) ش: هذه من خواص " الجامع الصغير " صورتها فيه محمد عن يعقوب، عن أبي حنيفة: أنه كان لا يرى بأسا بربط الرجل في أصبعه الخيط أو في خاتمه للحاجة انتهى.
وذلك لأنه لو كره إنما يكره لكونه عبثا وهذا ليس بعبث؛ لأنه تعلق به ضرب فائدة وهو التأكيد في رعاية حق المسلمين ليكون ذلك أقرب للذكر وأبعد عن النسيان والتقصير، فلما كان كذلك لم يكن به بأس. م: (ويسمى ذلك الرتم والرتيمة) ش: أي ويسمى ذلك الخيط الذي يعقد على الأصبع للتذكرة الرتم - بفتح الراء وفتح التاء المثناة من فوق وفي آخره ميم - وهو الجمع رتمة - بالفتحات أيضا - وكذلك سمي رتيمة - بالياء آخر الحروف بع الميم - ويجمع على رتائم، يقال: أرتمت الرجل إرتاما، إذا عقدت في أصبعه خيطا يستذكره حاجة، كذا قال أبو عبيد في " غريب المسند ".
وقال ابن دريد في " الجمهرة ": والرتمة شيء كان يفعله أهل الجاهلية كان الرجل إذا أراد سفرا عمدا إلى شجرتين متقاربتين فعقد غصنين منهما، فإذا رجع من سفره فإذا كان الغصان بحالهما علم أنه لم يخن في أهله، وإن كانا منحلين ظن بأهله ظن السوء يقال ارتمت رتمت إذا فعلت ذلك.
م: (وكان ذلك من عادة العرب) ش: أي ربط الخيط على الأصبع للتذكرة كان من عادة العرب، م: (قال قائلهم) ش: أي قائل العرب، قال الكاكي: قائل شعر الكتاب ابن السكيت وليس كذلك بن قائلة من العرب، وإنما استشهد به ابن السكيت:
م:
(لا ينفعنك اليوم إن هممت بهم ... كثرة ما توصي وتعقاد الرتم)

(12/125)


وقد روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر بعض أصحابه بذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استدل أبو عبيد بهذا البيت على أن الرتم. والرتيمة هو الخيط الذي يعقد على الإصبع للتذكرة كما قد ذكره الآن.
وقال ابن السكيت: الرتم شجرة ثم أنشد هذا البيت ثم قال: كان الرجل إذا أراد سفرا عمد إلى هذه الشجرة فعقد بعض أغصانها ببعض فإذا رجع من سفره وأصابها على تلك الحالة قال: لم تخن امرأتي، وإن أصابه قد انحل قال: خانتني امرأتي.
ومعنى البيت: هل منعتك أن همت امرأتك أن تخونك وصيتك لها وإقامتك من يحفظها وبعقادك الشجرة، قوله إن هممت بهم أي بشيء تريده، يعني أنها إن كانت عفيفة حفظت نفسها وإن لم يكن كذلك لا حيلة فيها. كذا قال أبو محمد يوسف بن الحسن بن عبيد الله السيرافي كتاب " الربيع شرح الاصطلاح ".
وقوله: بعقاد الرتم، التعقاد - بفتح التاء - مصدر بمعنى على وزن التفعال كالمتعلقات والتشهاد، وهو مضاف إلى الرتم، والرتم مجرور بالإضافة، ثم البيت المذكور مروي عن الثقات.
هل ينفعنك بلفظ هل الاستفهامية وهو القياس؛ لأن الأصل في نون التأكيد أن لا يدخل النفي. والفقهاء يردونه بحرف النفي كما في رواية المصنف كذلك وقال بعضهم: بالغ الإنكار فيه.
قلت: لا مجال للإنكار في ذلك؛ لأن حرف التوكيد قد يدخل النفي أيضا في الشعر كما في قول العمر بن مولت:
فلا إيجاره الدنيا بها بلحيتها
فهذه نون التوكيد بعد لا النافية.
ثم اعلم أن قوله: إن هممت بتاء التأنيث في رواية الثقاة، وقد رواه بعضهم همت بتاء الخطاب المذكر وحذف أحد الميمين وهمت على لغة من يقول: ظلت من ظللت، ومست من مست وأحست من أحسست. قال الشاعر:
أحسنت إليه سوس
أي أحسن به.
م: (وقد روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر بعض أصحابه بذلك) ش: أي بالرتم يعني عقد الخيط في الأصبع للتذكرة، ولم يثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بذلك ولكنه قد روي فيه أحاديث كلها ضعيفة.
منها: ما رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " من حديث سالم بن عبد الأعلى عن نافع

(12/126)


ولأنه ليس بعبث لما فيه من الغرض الصحيح، وهو التذكر عند النسيان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أشفق من الحاجة أن ينساها ربط في أصبعه خيطا ليذكرها» ، ورواه ابن عدي في " الكامل "، والعقيلي في " الضعفاء "، وابن حبان أيضا في " الضعفاء " وأسند ابن عدي عن ابن معين والبخاري والنسائي: في سالم هذا أنه متروك، وأسنده العقيلي عن البخاري فقط، وقال ابن حبان: كان سالم هذا يضع الحديث، لا يحل كتب حديثه ولا الرواية عنه.
وقال الترمذي في " علله الكبرى ": سألت البخاري عن هذا الحديث: يقال: سالم بن عبد الأعلى، ويقال سالم بن غيلان منكر الحديث. وقال ابن أبي حاتم في " علله ": سألت أبي عن هذا الحديث قال: حديث باطل، وسالم هذا ضعيف وهذا منه.
ومنها ما رواه الطبراني في " معجمه الأوسط " عن بشر بن إبراهيم الأنصاري: حدثنا الأوزاعي عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد الحاجة أوثق في خاتمه خيطا» .
ورواه ابن عدي في " الكامل "، وأعله ببشر هذا، وقال: إنه عندي ممن يضع الحديث.
ومنها ما رواه الطبراني في " معجمه " عن غياث بن إبراهيم الكوفي، حدثنا عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن سعيد المقبري، عن رافع بن خديج - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربط في أصبعه خيطا، فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: " شيء أستذكر به» .
وذكر ابن الجوزي في " الموضوعات " الأحاديث الثلاثة، ونقل في الأول كلام ابن حبان في سالم، ونقل في الثاني كلام ابن عدي في بشر، ونقل في الثالث عن السعدي وابن حبان في غياث هذا أنه كان يضع الحديث، وعن أحمد والبخاري: أنه متروك الحديث.
فإن قلت: أخرج ابن عدي في " الكامل " عن بشر بن حسين الأصبهاني، عن الزبير بن عدي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حول خاتمه أو عمامته أو علق خيطا لتذكره، فقد أشرك بالله، إن الله هو يذكر الحاجات» .
قلت: هذا أيضا حديث ضعيف؛ لأن ابن عدي أعله ببشر بن الحسين فإذن ليس الدليل إلا ما ذكره بقوله م: (ولأنه ليس بعبث لما فيه من الغرض الصحيح، وهو التذكر عند النسيان) ش: والفعل إذا تعلق بغرض صحيح لا يكره ولا يمنع، وقد جرت بذلك عادة الناس من غير نكير والله أعلم.

(12/127)