البناية شرح الهداية

كتاب الخنثى فصل في بيانه
قال: وإذا كان للمولود فرج وذكر فهو خنثى، فإن كان يبول من الذكر فهو غلام، وإن كان يبول من الفرج فهو أنثى «لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سئل عنه كيف يورث؟ فقال: " من حيث يبول» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب الخنثى]
[فصل في بيان الخنثى]
م: (كتاب الخنثى) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الخنثى. م: (فصل في بيانه)
م: (قال) ش: الأكمل: فإن قيل: الفصل إنما يذكر لقطع شيء من شيء آخر باعتبار نوع مغايرة بينهما، وهاهنا لم يتقدم شيء، فما وجه ذكر الفصل؟
قلت: كلامه في قوة أن يقال: هذا الكتاب فيه فصلان، فصل في بيان الخنثى، وفصل في أحكامه م: (وإذا كان للمولود فرج وذكر فهو خنثى) ش: أراد بالفرج هنا الحر، وهو قبل المرأة، وإلا فالفرج يطلق على قبل المرأة والرجل باتفاق أهل اللغة، كذا في " المغرب "، وفيه تركيب الخنث يدل على لين ونكس، وفيه المخنث وتخنيث في كلامه، وهو على وزن فعلى، وجمعه خناثى بالفتح كحبلى وحبالى.
م: (فإن كان يبول من الذكر فهو غلام، وإن كان يبول من الفرج فهو أنثى؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سئل عنه كيف يورث فقال: «من حيث يبول» ش: هذا الحديث رواه ابن عدي في " الكامل " من حديث أبي يوسف القاضي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن مولود ولد له قبل وذكر، من أين يورث؟ فقال: " من حيث يبول» .
ومن طريق ابن عدي رواه البيهقي في " المعرفة " في الفرائض وعده ابن عدي من منكرات الكلبي. وقال البيهقي: الكلبي لا يحتج به ورواه ابن الجوزي في " الموضوعات " من جهة ابن عدي وقال: البلاء فيه من الكلبي، انتهى.

(13/528)


وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله، ولأن البول من أي عضو كان فهو دلالة على أنه هو العضو الأصلي الصحيح، والآخر بمنزلة العيب. وإن بال منهما فالحكم للأسبق لأن ذلك دلالة أخرى على أنه هو العضو الأصلي. وإن كانا في السبق على السواء، فلا معتبر بالكثرة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: ينسب إلى أكثرهما بولا؛ أنه علامة قوة ذلك العضو وكونه عضوا أصليا. ولأن للأكثر حكم الكل في أصول الشرع فيترجح بالكثرة، وله: أن كثرة الخروج ليس يدل على القوة؛ لأنه قد يكون لاتساع في أحدهما وضيق في الآخر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أبو يوسف إمام مجتهد ثقة كيف يروي عن الكلبي مع علمه بأنه لا يحتج به، ولو لم يعلم أنه ثقة لما روى عنه.
وقد أيده أيضا ما روي م: (عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: فقال المصنف: وعن علي م: (مثله) ش: رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا الحسن بن كثير الأحمسي عن أبيه عن معاوية أنه أتي في خنثى فأرسلهم إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: يورث من حيث يبول، ورواه الشعبي نحوه، وروى عبد الرزاق في " مصنفه " عن سعيد بن المسيب نحوه، وزاد: فإن كانا في البول سواء فمن حيث سبق.
م: (ولأن البول من أي عضو كان فهو دلالة على أنه هو العضو الأصلي الصحيح، والآخر بمنزلة العيب) ش: وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الخنثى يورث من حيث يبول، وهكذا كان الحكم في الجاهلية، فقرره الشرع.
م: (وإن بال منهما فالحكم للأسبق؛ لأن ذلك دلالة أخرى على أنه هو العضو الأصلي، وإن كانا في السبق على السواء، فلا معتبر بالكثرة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أحد الوجهين، فكان خنثى مشكلا، فقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أدري.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (ينسب إلى أكثرهما بولا) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه وأحمد والأوزاعي والمزني م: (لأنه علامة قوة ذلك العضو وكونه عضوا أصليا. ولأن للأكثر حكم الكل في أصول الشرع، فيترجح بالكثرة) .
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن كثرة الخروج لا يدل على القوة؛ لأنه قد يكون لاتساع في أحدهما وضيق في الآخر) ش: ولما أخبر أبو يوسف أبا حنيفة - رحمهما الله - بجوابه قال أبو حنيفة: هل رأيت قاضيا يكيل البول بالأواني وتوقف أبو حنيفة في الجواب وقال: لا أدري، وهذا من علامة فقه الرجل في ورعه وعدم تخبطه في الجواب، فإنه استند عليه بطريق التمييز

(13/529)


وإن كان يخرج منهما على السواء فهو مشكل بالاتفاق؛ لأنه لا مرجح. قال: وإذا بلغ الخنثى وخرجت له لحية أو وصل إلى النساء فهو رجل، وكذا إذا احتلم كما يحتلم الرجل، أو كان له ثدي مستو؛ لأن هذا من علامة الذكران. ولو ظهر له ثدي كثدي المرأة أو نزل له لبن في ثديه أو حاض أو حبل أو أمكن الوصول إليه من الفرج فهو امرأة؛ لأن هذه من علامات النساء، وإن لم يظهر إحدى هذه العلامات فهو خنثى مشكل، وكذا إذا تعارضت هذه المعالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالدليل المعقول والمسموع، فتوقف كما قالوا جميعا عند استواء الكثرة: لا علم لنا بذلك.
وسئل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن مثله فقال: لا أدري، كذا في " المبسوط " و " الأسرار "، وإن استويا في الكثرة فهو مشكل عند الجمهور. وحكي عن علي والحسن أنهما قالا: يعد أضلاعه، فإن أضلاع المرأة أكثر من أضلاع الرجل.
وقال جابر بن زيد: يوقف إلى جانب حائط فإن بال عليه فهو رجل، وإن سلسل بين فخذيه فهي امرأة، وكلا القولين ليس بصحيح م: (وإن كان يخرج منهما على السواء فهو مشكل بالاتفاق؛ لأنه لا مرجح) ش: حتى يحكم بالترجيح.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا بلغ الخنثى) ش: يعني هذا الذي قلنا ما دام صغيرا، فإذا بلغ م: (وخرجت لحية أو وصل إلى النساء فهو رجل. وكذا إذا احتلم كما يحتلم الرجل أو كان له ثدي مستو؛ لأن هذه من علامات الذكران. ولو ظهر له ثدي كثدي المرأة أو نزل له لبن في ثديه أو حاض أو حبل أو أمكن الوصول إليه من الفرج فهو امرأة؛ لأن هذه من علامات النساء، وإن لم يظهر إحدى هذه العلامات فهو خنثى مشكل. وكذا إذا تعارضت هذه المعالم) ش: ولو كان شخص لا مهبل له بل له مخرج واحد فيهما بين المخرجين منه يبول ويتغوط، أو لا يخرج له لا قبل له ولا دبر، وإنما يتقيأ ما يأكله ويشربه. وحكي في بعض البلاد هذا، فهو في حكم الخنثى المشكل، كذا في المغني لابن قدامة. وفي " المحيط " وفي " المنتقى " قال: أبو يوسف وأبو حنيفة - رحمهما الله -: ما أدري ما أقول في هذا، والله أعلم.

(13/530)


فصل في أحكامه قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأصل في الخنثى المشكل أن يؤخذ فيه بالأحوط والأوثق في أمور الدين، وأن لا يحكم بثبوت حكم وقع الشك في ثبوته. قال: وإذا وقف خلف الإمام قام بين صف الرجال والنساء لاحتمال أنه امرأة فلا يتخلل الرجال كي لا يفسد صلاتهم، ولا النساء لاحتمال أنه رجل فتفسد صلاته. فإن قام في صف النساء فأحب إلي أن يعيد صلاته، لاحتمال أنه رجل، وإن قام في صف الرجال فصلاته تامة ويعيد الذي عن يمينه وعن يساره، والذي خلفه بحذائه صلاتهم احتياطا، لاحتمال أنه امرأة. وقال: وأحب إلينا أن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل في بيان أحكام الخنثى]
م: (فصل في أحكامه) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الخنثى.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأصل في الخنثى المشكل) ش: وتذكير الضمير فيه للتغليب المذكور؛ لأن فيه جهة الذكورة وجهة الأنوثة، الأصل في الخنثى المشكل م: (أن يؤخذ فيه بالأحوط والأوثق في أمور الدين، وأن لا يحكم بثبوت حكم وقع الشك في ثبوته) ش: قال المشكل ولم يقل المشكلة؛ لأنه لما لم يعلم تذكيره وتأنيثه والأصل هو الذكر؛ لأن حواء - عَلَيْهَا السَّلَامُ - خلقت من ضلع آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (إذا وقف خلف الإمام قام بين صف الرجال والنساء، لاحتمال أنه امرأة، فلا يتخلل الرجال كي لا يفسد صلاتهم، ولا النساء لاحتمال أنه رجل فتفسد صلاته، فإن قام في صف النساء فأحب إلي أن يعيد صلاته، لاحتمال أنه رجل) ش: إنما قال: أحب إلي ولم يقل أوجب مع أن فيها جهة الفساد، وفي العبادات جهة الفساد راجحة، لما أن فساد الصلاة بجهة المحاذاة مختلف فيه وفي كونه رجلا أيضا، صار بمنزلة الشبهة، فلذلك قال: أحب إلي، أشار إليه في " المبسوط " وفي " الذخيرة "، هذا حال كونه مراهقا، فأما لو كان بالغا يجب الإعادة لترجيح جهة الفساد.
م: (وإن قام في صف الرجال فصلاته تامة، ويعيد الذي عن يمينه وعن يساره والذي خلفه بحذائه صلاتهم احتياطا لاحتمال أنه امرأة) ش: إنما قال: احتياطا لأن مبنى العبادة على الاحتياط، محاذاة المرأة الرجل في حقهم موهوم.
م: (وقال: وأحب إلينا) ش: لفظ قال هنا لم يقع في محله؛ لأنه إنما يذكر إما لمحمد وإما للقدوري، ولم يذكر هذه المسألة إلا في الأصل، وكذلك لم يقع في نسخة شيخي العلاء م: (أن

(13/531)


يصلي بقناع؛ لأنه يحتمل أنه امرأة، ويجلس في صلاته جلوس المرأة؛ لأنه إن كان رجلا فقد ترك سنة وهو جائز في الجملة، وإن كان امرأة فقد ارتكب مكروها؛ لأن الستر على النساء واجب ما أمكن. وإن صلى بغير قناع أمرته أن يعيد، لاحتمال أنه امرأة، وهو على الاستحباب، وإن لم يعد أجزأه، وتبتاع له أمة تختنه إن كان له مال؛ لأنه يباح لمملوكته النظر إليه رجلا كان أو امرأة، ويكره أن يختنه رجل؛ لأنه عساه أنثى، أو تختنه امرأة؛ لأنه لعله رجل، فكان الاحتياط لما قلنا. وإن لم يكن له مال ابتاع له الإمام أمة من بيت المال؛ لأنه أعد لنوائب المسلمين، فإذا ختنته باعها ورد ثمنها في بيت المال، لوقوع الاستغناء عنها. ويكره له في حياته لبس الحلي والحرير، وأن يتكشف قدام الرجال أو قدام النساء وأن يخلو به غير محرم من رجل أو امرأة، وأن يسافر من غير محرم من الرجال؛ توقيا عن احتمال المحرم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصلي بقناع؛ لأنه يحتمل أنه امرأة، ويجلس في صلاته جلوس المرأة) ش: وفسر السرخسي هذا بقوله: معناه أن يخرج رجليه من جانب ويفضي بإليته إلى الأرض؛ لأنه أقرب إلى التستر م: (لأنه إن كان رجلا فقد ترك سنة، وهو جائز في الجملة) ش: كما في حالة الضعف.
م: (وإن كان امرأة فقد ارتكب مكروها؛ لأن الستر على النساء واجب ما أمكن، وإن صلى بغير قناع أمرته أن يعيد) ش: أي صلاته م: (لاحتمال أنه امرأة، وهو على الاستحباب) ش: هذا قبل البلوغ، فأما بعد البلوغ تجب الإعادة م: (وإن لم يعد أجزأه) ش: لأنه ترك الاستحباب.
م: (وتبتاع له أمة تختنه إن كان له مال؛ لأنه يباح لمملوكته النظر إليه رجلا كان أو امرأة) ش: قال الكاكي: هذا التعليل يصح في حق الرجل، أما لا يصح في حق المرأة؛ لأن الأمة لا يباح لها النظر إلى مواضع العورة من سيدها مطلقا، وقال الكاكي فيه نظر؛ لأن ذلك في حالة الاحتياط لا في حالة العذر.
م: (ويكره أن يختنه رجل؛ لأنه عساه أنثى) ش: أي لعله أنثى م: (أو تختنه امرأة لعله رجل، فكان الاحتياط فيما قلنا) ش: أنه في شراء الأمة م: (وإن لم يكن له مال ابتاع له الإمام) ش: أي اشترى له من بيت المال م: (أمة من بيت المال؛ لأنه) ش: بيت المال م: (أعد لنوائب المسلمين، فإذا ختنته باعها ورد ثمنها في بيت المال لوقوع الاستغناء عنها) .
م: (ويكره له في حياته لبس الحلي والحرير) ش: وفي " النهاية ": وليس في قيد الحياة زيادة فائدة، لما أنه بعد الموت كذلك م: (وأن يتكشف قدام الرجال أو قدام النساء) ش: والمرأة بالانكشاف، وهو أن يكون في إزار واحد لأنه مواضع العورة؛ لأن ذلك لا يحل لغير الأنثى أيضا م: (وأن يخلو به غير محرم من رجل أو امرأة، وأن يسافر من غير محرم من الرجال توقيا من احتمال المحرم) ش: أي عن ارتكابه.

(13/532)


وإن أحرم وقد راهق، قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا علم لي في لباسه؛ لأنه إن كان ذكرا يكره له لبس المخيط، وإن كان أنثى يكره له تركه. وقال محمد يلبس لباس المرأة؛ لأن ترك لبس المخيط وهو امرأة أفحش من لبسه وهو رجل، ولا شيء عليه؛ لأنه لم يبلغ. ومن حلف بطلاق أو عتاق إن كان أول ولد تلدينه غلاما فولدت خنثى لم يقع حتى يستبين أمر الخنثى؛ لأن الخنث لا يثبت بالشك. ولو قال: كل عبد لي حر، أو قال: كل أمة لي حرة وله مملوك خنثى لم يعتق حتى يستبين أمره لما قلنا. وإن قال القولين جميعا عتق للتيقن بأحد الوصفين؛ لأنه ليس بمهمل. وإن قال الخنثى: أنا رجل أو أنا امرأة لم يقبل قوله إذا كان مشكلا؛ لأنه دعوى يخالف قضية الدليل. وإن لم يكن مشكلا ينبغي أن يقبل قوله؛ لأنه أعلم بحاله من غيره. وإن مات قبل أن يستبين أمره لم يغسله رجل ولا امرأة؛ لأن حل الغسل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن أحرم وقد راهق، قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا علم لي في لباسه؛ لأنه إن كان ذكرا يكره له لبس المخيط، وإن كان أنثى يكره له تركه) ش: إنما قال ذلك لاشتباه حاله وعدم مرجح.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلبس لباس المرأة؛ لأن ترك لبس المخيط وهو امرأة أفحش من لبسه وهو رجل ولا شيء عليه؛ لأنه لم يبلغ) ش: فلا يكون جناية.
م: (ومن حلف بطلاق أو عتاق إن كان أول ولد تلدينه غلاما) ش: فهو حر م: (فولدت خنثى لم يقع شيء حتى يستبين أمر الخنثى؛ لأن الخنث لا يثبت بالشك، ولو قال: كل عبد لي حر، أو قال: كل أمة لي حرة وله مملوك خنثى لم يعتق حتى يستبين أمره لما قلنا) ش: أي لأن الخنث لا يثبت بالشك م: (وإن قال القولين جميعا عتق) ش: يعني إذا قال: كل عبد لي حر، وكل أمة لي حرة عتق المملوكة الخنثى م: (للتيقن بأحد الوصفين) ش: لا فرق أن يكون ذكرا في الواقع أو أنثى، فأيا ما كان يعتق بأحد اليمينين م: (لأنه ليس بمهمل) ش: يعني أنه في الواقع ليس بخال عن أحد الحالين.
م: (وإن قال الخنثى أنا رجل أو قال أنا امرأة لم يقبل قوله إذا كان مشكلا؛ لأنه دعوى يخالف قضية الدليل) ش: لأنه يقتضي بقاء الإشكال، وهو لا يعلم في ذلك من نفسه خلاف ما يعلم به غيره. حاصله: أنه مجازف فيما يخبر به عن نفسه، فإنه لم يعلم من ذلك إلا ما يعلم غيره.
م: (وإن لم يكن مشكلا ينبغي أن يقبل قوله؛ لأنه أعلم بحاله من غيره) ش: وقال الأترازي: في هذا التعليل نظر؛ لأنه إنما يكون مشكلا إذا ظهرت فيه إحدى العلامات، فبعد ظهورها يحكم بأنه ذكر أو أنثى فلا حاجة إلى قول الخنثى بعد ذلك. انتهى. قيل: إنما قال: ينبغي أن يقبل بلفظ ينبغي؛ لأن حكمه غير مذكور فلم يتيقن به.
م: (وإن مات) ش: أي الخنثى م: (قبل أن يستبين أمره لم يغسله رجل ولا امرأة لأن حل الغسل

(13/533)


غير ثابت بين الرجال والنساء، فيتوقى لاحتمال الحرمة، وييمم بالصعيد لتعذر الغسل. ولا يحضر إن كان مراهقا غسل رجل ولا امرأة لاحتمال أنه ذكر أو أنثى، وإن سجى قبره فهو أحب؛ لأنه إن كان أنثى يقيم واجبا، وإن كان ذكرا فالتسجية لا تضره. وإذا مات فصلي عليه وعلى رجل وامرأة وضع الرجل مما يلي الإمام، والخنثى خلفه، والمرأة خلف الخنثى فيؤخر عن الرجل لاحتمال أنه امرأة، ويقدم على المرأة لاحتمال أنه رجل. ولو دفن مع رجل في قبر واحد من عذر جعل الخنثى خلف الرجل لاحتمال أنه امرأة، ويجعل بينهما حاجز من صعيد، وإن كان مع امرأة قدم الخنثى لاحتمال أنه رجل. وإن كان يجعل على السرير نعش المرأة فهو أحب إلي لاحتمال أنه عورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غير ثابت بين الرجال والنساء) ش: أي غسل الرجل امرأته وعكسه غير ثابت في الشرع م: (فيتوقى لاحتمال الحرمة) ش: فإن النظر إلى العورة حرام، والحرمة لم تكشف بالموت، فتعذر غسله لانعدام من يغتسله، فصار بمنزلة من تعذر غسله لانعدام ما يغسل به م: (وييمم بالصعيد لتعذر الغسل) ش: ويتيمم مع الخرقة، إن يممه الأجنبي، وبغيرها إن كان ذا رحم محرم من الميت ينظر المتيمم إلى وجهه، ويعوض وجهه عن ذراعيه لاحتمال أن يكون امرأة.
م: (ولا يحضر) ش: أي الخنثى م: (إن كان مراهقا غسل رجل ولا امرأة لاحتمال أنه ذكر أو أنثى، وإن سجي قبره فهو أحب؛ لأنه إن كان أنثى يقيم واجبا، وإن كان ذكرا فالتسجية لا تضره. وإذا مات فصلي عليه وعلى رجل وامرأة وضع الرجل مما يلي الإمام والخنثى خلفه والمرأة خلف الخنثى فيؤخر عن الرجال، لاحتمال أنه امرأة، ويقدم على المرأة لاحتمال أنه رجل) .
م: (ولو دفن مع رجل في قبر واحد من عذر جعل الخنثى خلف الرجل لاحتمال أنه امرأة، ويجعل بينهما حاجز من صعيد، وإن كان مع امرأة قدم الخنثى لاحتمال أنه رجل، وإن كان يجعل على السرير نعش المرأة فهو أحب إلي لاحتمال أنه عورة) ش: والنعش شبه المحفة، مشبك مطبق على المرأة إذا وضعت على الجنازة.
وفي " الذخيرة ": وإن حمل الخنثى مقلوبا فهو أحب إلي، ومعنى المقلوب: أنه إذا كان للجنازة قوائم تقلب وتجعل القوائم التي أسفل الجنازة أعلاها، ثم عمل عليه؛ لأنه لا بد وأن يلقى عليه ثوب.
فإذا جعلت الجنازة مقلوبة يلقى الثوب على القوائم , فيكون أستر له مما حمل على ظاهر الجنازة، وإن لم يكن لها قوائم وضع على ظاهر الجنازة ووضع عليه النعش فيكون أستر له , فإن كان امرأة فهو السنة وإن كان رجلا فالنعش لا يضره.

(13/534)


ويكفن كما تكفن الجارية، وهو أحب إلي، يعني: يكفن في خمسة أثواب؛ لأنه إذا كان أنثى فقد أقيمت سنة، وإن كان ذكرا فقد زادوا على الثلاثة ولا بأس بذلك، ولو مات أبوه وخلف ابنا وخنثى فالمال بينهما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أثلاثا، للابن سهمان وللخنثى سهم، وهو أنثى عنده في الميراث، إلا أن يتبين غير ذلك. وقالا: للخنثى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى، وهو قول الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. واختلفا في قياس قوله، قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المال بينهما على اثني عشر سهما، للابن سبعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويكفن كما تكفن الجارية وهو أحب إلي، يعني يكفن في خمسة أثواب؛ لأنه إذا كان أنثى فقد أقيمت سنة، وإن كان ذكرا فقد زادوا على الثلاثة، ولا بأس بذلك) ش: لأن عدد الكفن يعتبر بعدد الثياب حال الحياة، فالزيادة على الثلاثة في الكفن للرجل غير ضار كما في حال الحياة، فإن للرجل أن يلبس حال حياته أزيد من الثلاثة.
م: (ولو مات أبوه) ش: أي أبو الخنثى م: (وخلف ابنا وخنثى فالمال بينهما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أثلاثا، للابن سهمان وللخنثى سهم، وهو) ش: أي الخنثى م: (أنثى عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (في الميراث) ش: وبه قال الشعبي، كذا ذكره بعضهم م: (إلا أن يتبين غير ذلك) ش: هذا استثناء من قوله: وهو أنثى عنده في الميراث، يعني وهو بأن يظهر فيه إحدى علامات الذكورية بلا تعارض، فحينئذ يعتبر ذكرا.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (للخنثى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى وهو قول الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وذكر القدوري قول محمد مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذلك ذكر أبو النصر البغدادي قول محمد مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكذلك ذكره المصنف، وكذلك في عامة الكتب ذكروا قول محمد مع أبي يوسف خيفة. وقال الكاكي: ذكر في عامة كتب أصحابنا أن للخنثى المشكل أقل النصيبين، يعني سواء الحالتين عند أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أولا، وعليه الفتوى، وهو قول عامة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
وقال أبو يوسف آخرا: له نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى، وهو قول أحمد وابن أبي ليلى والثوري وشريك والحسن بن صالح وأهل المدينة وأهل مكة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. وقال الشافعي وأبو ثور وداود وابن جرير - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعطى له اليقين، وهو ميراث أنثى ويوقف الباقي إلى أن يتبين الأمر، ويصطلحوا. وفيه قول آخر للشافعي شاذ.
م: (واختلفا في قياس قوله) ش: أي على ترجيح قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المال بينهما) ش: أي بين الابن والخنثى م: (على اثني عشر سهما للابن سبعة

(13/535)


وللخنثى خمسة. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المال بينهما على سبعة، للابن أربعة وللخنثى ثلاثة؛ لأن الابن يستحق كل الميراث عند الانفراد، والخنثى ثلاثة الأرباع، فعند الاجتماع يقسم بينهما على قدر حقيهما، هذا يضرب بثلاثة، وذلك يضرب بأربعة، فيكون سبعة. لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الخنثى لو كان ذكرا يكون المال بينهما نصفين، وإن كان أنثى يكون المال بينهما أثلاثا احتجنا إلى حساب له نصف وثلث وأقل ذلك ستة، ففي حال يكون المال بينهما نصفين لكل واحد ثلاثة، وفي حال يكون أثلاثا للخنثى سهمان وللابن أربعة فسهمان للخنثى ثابتان بيقين، ووقع الشك في السهم الزائد فينتصف، فيكون له سهمان ونصف فانكسر، فيضعف ليزول الكسر، فصار الحساب من اثني عشر للخنثى خمسة وللابن سبعة. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحاجة هاهنا إلى إثبات المال ابتداء والأقل وهو ميراث الأنثى متيقن به، وفيما زاد عليه شك فأثبتنا المتيقن قصرا عليه؛ لأن المال لا يجب بالشك، وصار كما إذا كان الشك في وجوب المال بسبب آخر، فإنه يؤخذ فيه بالمتيقن، كذا هذا، إلا أن يكون نصيبه الأقل لو قدرناه ذكرا فحينئذ يعطى نصيب الابن في تلك الصورة لكونه متيقنا به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وللخنثى خمسة. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المال بينهما على سبعة، للابن أربعة وللخنثى ثلاثة؛ لأن الابن يستحق كل الميراث عند الانفراد، والخنثى) ش: يستحق م: (ثلاثة الأرباع، فعند الاجتماع يقسم بينهما على قدر حقيهما، هذا يضرب بثلاثة وذاك يضرب بأربعة، فيكون سبعة. ولمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الخنثى لو كان ذكرا يكون المال بينهما نصفين وإن كان أنثى يكون المال بينهما أثلاثا احتجنا إلى حساب له نصف وثلث، وأقل ذلك ستة، ففي حال يكون المال بينهما نصفين لكل واحد ثلاثة، وفي حال يكون أثلاثا للخنثى سهمان وللابن أربعة، فسهمان للخنثى ثابتان) ش: باتفاق م: (بيقين، ووقع الشك في السهم الزائد، فينتصف فيكون له سهمان ونصف، فانكسر فيضعف ليزول الكسر، فصار الحساب من اثني عشر، للخنثى خمسة وللابن سبعة) .
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الحاجة هاهنا إلى إثبات المال ابتداء) ش: لأنه لا بد من بيان سبب استحقاقه بالذكورة أو الأنوثة، ولا شيء منهما معلوم، وإثبات المال ابتداء بدون سبب متحقق غير مشروع، فلا بد من البناء على المتيقن م: (والأقل وهو ميراث الأنثى متيقن به، وفيما زاد عليه شك فأثبتنا المتيقن به قصرا عليه؛ لأن المال لا يجب بالشك، وصار كما إذا كان الشك في وجوب المال بسبب آخر) ش: كما في مسألة المفقود م: (فإنه يؤخذ فيه بالمتيقن، كذا هذا، إلا أن يكون نصيبه الأقل) ش: هذا استثناء من قوله: فأوجبنا المتيقن قصرا عليه، يعني أوجبنا للخنثى ميراث الأنثى للمتيقن وما تجاوزنا عنه بإثبات الزيادة؛ لأن المال لا يجب بالشك، إلا أن نصيبه الأقل م: (لو قدرناه ذكرا، فحينئذ يعطى نصيب الابن في تلك الصورة لكونه متيقنا به) .

(13/536)


وهو أن تكون الورثة زوجا وأما وأختا لأب وأم وهي خنثى، أو امرأة وأخوين لأم وأختا لأب وأم وهي خنثى فعندنا في الأولى للزوج النصف، وللأم الثلث والباقي للخنثى، وفي الثانية للمرأة الربع وللأخوين لأم الثلث والباقي للخنثى؛ لأنه أقل النصيبين فيهما، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأشار إلى صورته بقوله: م: (وهو أن تكون الورثة زوجا وأما وأختا لأب وأم وهي خنثى) ش: هذه صورة للزوج النصف وللأم الثلث، فلو قدرنا الخنثى أنثى يكون لها النصف فتؤول المسألة إلى ثمانية. ولو قدرناه ذكرا يكون الباقي من الستة وهو السدس، فيعطى له؛ لأنه أقل من النصف.
وصورة أخرى أشار إليها بقوله: م: (أو امرأة) ش: أي أو ترك امرأة م: (وأخوين لأم وأختا لأب وأم وهي خنثى) ش: أصل المسألة من اثني عشر، فللمرأة الربع وللأخوين لأم الثلث فلو قدرنا الخنثى ذكرا يكون له الباقي وهو الخمسة، ولو قدرناه أنثى يكون لها النصف وهي ستة تؤول المسألة إلى ثلاثة عشر فتعطى الخمسة؛ لأنها أقل من الستة.
وأشار إلى ما يعطى في الصورة الأولى بقوله: م: (فعندنا في الأولى) ش: أي في صورة الأول م: (للزوج النصف وللأم الثلث، والباقي للخنثى) ش: وقد بيناه الآن م: (وفي الثانية) ش: أي في الصورة الثانية م: (للمرأة الربع وللأخوين لأم الثلث والباقي للخنثى؛ لأنه أقل النصيبين فيهما) ش: وهو سواء الحالتين م: (والله أعلم) .

(13/537)


مسائل شتى
قال: وإذا قرئ على الأخرس كتاب وصيته فقيل له: أنشهد عليك بما في هذا الكتاب فأومأ برأسه، أي نعم، أو كتب فإذا جاء من ذلك ما يعرف أنه إقرار فهو جائز، ولا يجوز ذلك في الذي يعتقل لسانه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز في الوجهين؛ لأن المجوز إنما هو العجز، وقد شمل الفصلين. ولا فرق بين الأصلي والعارض كالوحشي والمتوحش من الأهلي في حق الذكاة. والفرق لأصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أن الإشارة إنما تعتبر إذا صارت معهودة معلومة، وذلك في الأخرس دون المعتقل لسانه، حتى لو امتد ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[مسائل متفرقة من كل باب]
[قرئ على الأخرس كتاب وصيته فقيل له أنشهد عليك بما في هذا الكتاب فأومأ برأسه أي نعم]
م: (مسائل شتى) ش: أي هذه مسائل شتى، أي متفرقة من كل باب.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإذا قرئ على الأخرس كتاب وصيته فقيل له: أنشهد عليك بما في هذا الكتاب فأومأ برأسه، أي نعم، أو كتب) ش: أي أو كتب الأخرس نعم م: (فإذا جاء من ذلك) ش: الإيماء والكتابة والخط والعقد، وذلك أربعة الإيماء والكتابة والخط والعقد جاز.
أو بالخط وبالعقد عقد الأصابع على رسم المهندسين م: (ما يعرف أنه إقرار فهو جائز) ش: يحكم بجواز وصيته، ولا يعلم فيه خلاف م: (ولا يجوز ذلك في الذي يعتقل لسانه) ش: بضم الياء وفتح القاف على صيغة المجهول، يقال: اعتقل لسانه إذا حبس عن الكلام ولم يقدر، وبه قال الثوري وأحمد والأوزاعي.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز في الوجهين) ش: أي في الإشارة والكتابة، وبه قال ابن المنذر م: (لأن المجوز إنما هو العجز وقد شمل الفصلين) ش: أي الأخرس والعقل م: (ولا فرق بين الأصلي والعارض) ش: أي لا فرق بين العجز الأصلي والعجز العارض م: (كالوحشي والمتوحش من الأهلي) ش: أي من الحيوان الأهلي م: (في حق الذكاة) ش: بالذال المعجمة، أي في الذكاة الاضطرارية.
م: (والفرق) ش: أي بين الأصلي والعارضي م: (لأصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أن الإشارة إنما تعتبر) ش: وتقوم مقام النطق في حق الأخرس م: (إذا صارت معهودة معلومة، وذلك في الأخرس دون المعتقل لسانه) ش: لاحتمال أن يزول ما به من المرض، فيطلق لسانه، فلم تقم إشارته أو كتابته مقام العبارة؛ لأن عجزه عارض على شرف الزوال م: (حتى لو امتد ذلك) ش: أي اعتقاله.

(13/538)


وصارت له إشارات معلومة، قالوا: هو بمنزلة الأخرس، ولأن التفريط جاء من قبله حيث أخر الوصية إلى هذا الوقت، أما الأخرس فلا تفريط منه، ولأن العارضي على شرف الزوال دون الأصلي، فلا ينقاسان وفي الآبدة عرفناه بالنص. قال: وإذا كان الأخرس يكتب كتابا أو يومئ إيماء يعرف به، فإنه يجوز نكاحه وطلاقه وعتاقه وبيعه وشراؤه، ويقتص له ومنه ولا يحد له. أما الكتابة فلأنها ممن نأى بمنزلة الخطاب ممن دنا. ألا ترى أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أدى واجب التبليغ مرة بالعبارة وتارة بالكتابة إلى الغيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال التمرتاشى: حده سنة م: (وصارت له إشارات معلومة، قالوا) ش: أي المشايخ م (هذا بمنزلة الأخرس) ش: وحكى الحاكم عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: إن دامت العقلة إلى وقت الموت يجوز إقراره بالإشارة، ويجوز الإشهاد عليه؛ لأنه عجز عن النطق بمعنى لا يرجى زواله، فكان كالأخرس، قالوا: وعليه الفتوى، كذا ذكره المحبوبي.
م: (ولأن التفريط جاء من قبله حيث أخر الوصية إلى هذا الوقت، أما الأخرس فلا تفريط منه، ولأن العارضي على شرف الزوال دون الأصلي، فلا ينقاسان) ش: أي لا يقبلان القياس، بخلاف الصغيرة والآيسة؛ لأن امتداد الطهر وارتفاع الحيض على شرف الزوال دون الصغر والإياس.
م: (وفي الآبدة) ش: من أبدت البهيمة أبد وتأبد، أي توحشت، والجمع الأوابد، وهو جواب عن قول الشافعي كالوحشي والمتوحش م: (عرفناه بالنص) ش: وقال تاج الشريعة: الضمير في عرفته عائدا إلى عدم العرف بين الوحش الأهلي والمتوحش من الأهلي في حق المذكورة، والنص هو ما رواه ابن خديج «أن بعيرا من أهل الصدقات ند فرماه رجل بسهم فقتله فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن لها أوابد كأوابد الوحش، فإذا فعلت شيئا من ذلك فافعلوا بها كما فعلتم بهذا ثم كلوه» .
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كان الأخرس يكتب كتابا أو يومئ إيماء يعرف به، فإنه يجوز نكاحه وطلاقه وعتاقه وبيعه وشراؤه ويقتص له) ش: إذا قتل م: (منه) ش: أي ويقتص له إذا قتل من له القصاص فيه م: (ولا يحد له) ش: أي إذا كان الأخرس مقذوفا.
م: (أما الكتابة فلأنها ممن نأى) ش: أي ممن بعد م: (بمنزلة الخطاب ممن دنا) ش: أي قرب؛ لأن الكتابة جعلت مقام العبارة في حق الغائب للعجز عن النطق باللسان، والعجز في حق الأخرس ألزم، ثم أوضح ذلك بقوله: م: (ألا ترى أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أدى واجب التبليغ مرة بالعبارة، وتارة بالكتابة إلى الغيب) ش: ففي " الصحيحين " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -

(13/539)


والمجوز في حق الغائب العجز، وهو في حق الأخرس أظهر وألزم، ثم الكتاب على ثلاث مراتب مستبين مرسوم، وهو بمنزلة النطق في الغائب والحاضر على ما قالوا، ومستبين غير مرسوم كالكتابة على الجدار وأوراق الأشجار. وينوي فيه؛ لأنه بمنزلة صريح الكتابة فلا بد من النية، وغير مستبين كالكتابة على الهواء والماء، وهو بمنزلة كلام غير مسموع فلا يثبت به الحكم. وأما الإشارة فجعلت حجة في حق الأخرس في حق هذه الأحكام للحاجة إلى ذلك؛ لأنها من حقوق العباد، ولا تختص بلفظ دون لفظ، وقد تثبت بدون اللفظ والقصاص حق العبد أيضا، ولا حاجة إلى الحدود؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه مع دحية الكلبي» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ... الحديث بطوله مشهور. وكتب إلى بكر بن وائل، رواه ابن حبان في " صحيحه " عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكتب إلى يهود خيبر، رواه أبو نعيم في " دلائل النبوة " من حديث ابن عباس.
م: (والمجوز في حق الغائب العجز، وهو) ش: أي العجز م: (في حق الأخرس أظهر وألزم، ثم الكتابة على ثلاث مرات مستبين) ش: أي بين م: (مرسوم) ش: أي معنون بالعنوان، والعنوان أن يكتب في صدره من فلان إلى فلان م: (وهو بمنزلة النطق في الغائب والحاضر على ما قالوا) ش: أي المشايخ.
م: (ومستبين غير مرسوم كالكتابة على الجدار وأوراق الأشجار، وينوى فيه) ش: على صيغة المجهول بالتشديد، أي يطلب منه النية فيه م: (لأنه بمنزلة صريح الكتابة) ش: أي بمنزلة كتابة قوله أنت بائن م: (فلا بد من النية) .
م: (وغير مستبين كالكتابة على الهواء والماء، وهو بمنزلة كلام غير مسموع، فلا يثبت به الحكم. وأما الإشارة فجعلت حجة في حق الأخرس في حق هذه الأحكام) ش: أي النكاح والطلاق، والبيع والشراء م: (للحاجة إلى ذلك؛ لأنها من حقوق العباد، ولا يختص بلفظ دون لفظ) ش: يعني هذه التصرفات من النكاح ونحوه لا يتعلق بلفظ خاص، بل يثبت بألفاظ كثيرة، ويثبت بلفظ دون لفظ، أي كما ثبت بالعربي يثبت بالفارسي وغيره م: (وقد ثبت بدون اللفظ) ش: يعني بفعل، يدل على اللفظ كالتعاطي.
م: (والقصاص حق العبد أيضا) ش: أي الثابت في حق العبد، فيثبت بإشارته م: (ولا حاجة إلى الحدود) ش: أي لا حاجة إلى التوسعة في الحدود.

(13/540)


لأنها حق الله تعالى. ولأنها تندرئ بالشبهات، ولعله كان مصدقا للقاذف، فلا يحد للشبهة، ولا يحد أيضا بالإشارة في القذف لانعدام القذف صريحا وهو الشرط، ثم الفرق بين الحدود والقصاص أن الحد لا يثبت ببيان فيه شبهة، ألا ترى أنهم لو شهدوا بالوطء، الحرام أو أقر بالوطء الحرام لا يجب الحد. ولو شهدوا بالقتل المطلق أو أقر بمطلق القتل يجب القصاص، وإن لم يوجد لفظ التعمد وهذا لأن القصاص فيه معنى العوضية؛ لأنه شرع جابرا فجاز أن يثبت مع الشبهة كسائر المعاوضات التي هي حق العبد. أما الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر، وليس فيها معنى العوضية، فلا تثبت مع الشبهة لعدم الحاجة. وذكر في كتاب الإقرار أن الكتاب من الغائب ليس بحجة في قصاص يجب عليه ويحتمل أن يكون الجواب هنا كذلك، فيكون فيهما روايتان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنها حق لله تعالى، ولأنها تندرئ بالشبهات، ولعله كان مصدقا للقاذف، فلا يحد للشبهة ولا يحد أيضا بالإشارة في القذف؛ لانعدام القذف صريحا وهو الشرط) ش: أي التصريح هو الشرط كما مر في الحدود.
م: (ثم الفرق بين الحدود والقصاص أن الحد لا يثبت ببيان فيه شبهة، ألا ترى أنهم) ش: أي أن الشأن م: (لو شهدوا بالوطء الحرام أو أقر بالوطء الحرام لا يجب الحد) ش: وإن كان مطلق الحرمة ينصرف إلى الزمان لاحتمال أنه وطئ امرأته في حال الحيض، أو وطئ أمته المجوسية، ولهذا لا يجب الحد بقوله بالحرام زاده.
م: (ولو شهدوا بالقتل المطلق أو أقر بمطلق القتل يجب القصاص، وإن لم يوجد لفظ التعمد، وهذا) ش: أي التصريح بالعمد م: (لأن القصاص فيه معنى العوضية) ش: لأنه يستوفي كل واحد منهما نفس الآخر م: (لأنه) ش: أي لأن القصاص م: (شرع جابرا فجاز أن يثبت مع الشبهة كسائر المعاوضات التي هي حق العبد، أما الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر، وليس فيها معنى العوضية فلا تثبت مع الشبهة لعدم الحاجة. وذكر في كتاب الإقرار) ش: من الأصل م: (أن الكتاب من الغائب ليس بحجة في قصاص يجب عليه، ويحتمل أن يكون الجواب هنا) ش: أي في الأخرس م: (كذلك) ش: أي لا يكون حجة م: (فيكون فيهما) ش: أي في الأخرس والغائب عن الأخرس م: (روايتان) ش: وفي نسخة الأترازي: فيكون فيها بإفراد الضمير، وقال: أي في مسألة الأخرس على رواية كتاب " الجامع الصغير ": يجب عليه القصاص بالكتابة وعلى اعتبار رواية كتاب " الإقرار " في الغائب: لا يجب على الأخرس القصاص بالكتابة.
ثم قال: وقال بعضهم في شرحه: فيهما تضمير التثنية، أي في الأخرس والغائب عن الأخرس، فذاك ليس بشيء؛ لأنه لم يثبت الروايتان في الغائب، بل فيه رواية كتاب " الإقرار "

(13/541)


ويحتمل أن يكون مفارقا لذلك؛ لأنه يمكن الوصول إلى نطق الغائب في الجملة لقيام أهلية النطق، ولا كذلك الأخرس لتعذر الوصول إلى النطق للآفة المانعة، ودلت المسألة على أن الإشارة معتبرة وإن كان قادرا على الكتابة. بخلاف ما توهمه بعض أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنه لا تعتبر الإشارة مع القدرة على الكتابة؛ لأنه حجة ضرورية، ولا ضرورة؛ لأنه جمع هاهنا بينهما فقال: أشار أو كتب وإنما استويا لأن كل واحد منهما حجة ضرورية، وفي الكتابة زيادة بيان لم يوجد في الإشارة، وفي الإشارة زيادة أمر لم يوجد في الكتابة لما أنه أقرب إلى النطق من آثار الأقلام فاستويا. وكذلك الذي صمت يوما أو يومين بعارض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فحسب، ولا يجب عليه القصاص بالكتابة.
قلت: أراد بقوله وقال بعضهم في شرحه، هو الكاكي، وفي بقية ما قاله نظر لا يخفى.
م: (ويحتمل أن يكون مفارقا لذلك؛ لأنه يمكن الوصول إلى نطق الغائب في الجملة لقيام أهلية النطق، ولا كذلك الأخرس لتعذر الوصول إلى النطق للآفة المانعة، ودلت المسألة) ش: أي قوله: وإذا قرئ على الأخرس فأومأ برأسه، أي نعم، أو كتب م: (على أن الإشارة معتبرة، وإن كان قادرا على الكتابة، بخلاف ما توهمه بعض أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنه لا تعتبر الإشارة مع القدرة على الكتابة؛ لأنه) ش: أي الإشارة على تأويل المذكور، أو على تأويل نقل الإشارة م: (حجة ضرورية، ولا ضرورة) ش: مع وجود الكتابة م: (لأنه) ش: أي لأن محمدا م: (جمع هاهنا) ش: في الكتابة م: (بينهما) ش: أي في " الجامع الصغير " بين الإشارة والكتابة.
م (فقال: أشار أو كتب) ش: وهذا دليل على أن الإشارة معتبرة، وإن كان قادرا على الكتابة. وقال الأترازي: ولنا في دعوى الجمع بينهما؛ لأنه قال في " الجامع الصغير ": وإذا كان الأخرس يكتب أو يومئ كلمة أو لأحد الشبهين لا للجمع، على أنا نقول: قال في الأصل: وإن كان الأخرس لا يكتب، وكانت له إشارة عرف في نكاحه وطلاقه وشرائه وبيعه فهو جائز، فيعلم من إشارة رواية الأصل أن الإشارة من الأخرس لا تعتبر مع القدرة على الكتابة لأنه بين حكم إشارة الأخرس بشرط أن لا يكتب.
قلت: في نظره نظر لا يخفى.
م: (وإنما استويا) ش: أي الكتابة والإشارة م: (لأن كل واحد منهما حجة ضرورية، وفي الكتابة زيادة بيان لم يوجد في الإشارة، وفي الإشارة زيادة أمر لم يوجد في الكتابة لما أنه أقرب إلى النطق من آثار الأقلام فاستويا، وكذلك الذي صمت يوما أو يومين بعارض) ش: عطفا على قوله: ولا يجوز ذلك في الذي يعتقل لسانه، أي صمت يوما أو يومين بعارض من العوارض، فأشار

(13/542)


لما بينا في المعتقل لسانه أن آلة النطق قائمة، وقيل: هذا تفسير لمعتقل اللسان. قال: وإذا كانت الغنم مذبوحة وفيها ميتة، فإن كانت المذبوحة أكثر تحرى فيها وأكل، وإن كانت الميتة أكثر أو كانا نصفين لم يأكل وهذا إذا كانت الحالة حالة الاختيار، أما في حالة الضرورة يحل له التناول في جميع ذلك؛ لأن الميتة المتيقنة تحل له في حالة الضرورة فالتي تحتمل أن تكون ذكية أولى، غير أنه يتحرى؛ لأنه طريق يوصله إلى الذكية في الجملة فلا يتركه من غير ضرورة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز الأكل في حالة الاختيار، وإن كانت المذبوحة أكثر؛ لأن التحري دليل ضروري، فلا يصار إليه من غير ضرورة، ولا ضرورة؛ لأن الحالة حالة الاختيار. ولنا: أن الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة. ألا ترى أن أسواق المسلمين لا تخلو عن المحرم والمسروق والمغصوب، ومع ذلك يباح التناول اعتمادا على الغالب، وهذا لأن القليل لا يمكن الاحتراز عنه، ولا يستطاع الامتناع منه، فسقط اعتباره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
برأسه أو كتب لا يجوز أن يقوم مقام إقراره.
وقال الكاكي: إنه في بعض النسخ: صمت، والمصمت هو الله تعالى م: (لما بينا في المعتقل لسانه أن آلة النطق قائمة وقيل: هذا تفسير لمعتقل اللسان) ش: كذا قال فخر الإسلام البزدوي في شرح " الجامع الصغير " حيث قال: فيه وهو تأويل ما سبق ذكره في الذي اعتقل لسانه.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كانت الغنم مذبوحة وفيها ميتة، فإن كانت المذبوحة أكثر تحرى فيها وأكل، وإن كانت الميتة أكثر أو كانا نصفين لم يأكل) ش: هذا لفظ " الجامع "، وقال المصنف: م: (وهذا إذا كانت الحالة حالة الاختيار، أما في حالة الضرورة يحل له التناول في جميع ذلك؛ لأن الميتة المتيقنة تحل في حالة الضرورة، فالتي تحمل أن تكون ذكية أولى، غير أنه يتحرى؛ لأنه طريق يوصله إلى الذكية في الجملة فلا يتركه) ش: أي التحري م: (من غير ضرورة) .
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز الأكل في حالة الاختيار، وإن كانت المذبوحة أكثر؛ لأن التحري دليل ضروري فلا يصار إليه من غير ضرورة، ولا ضرورة لأن الحالة حالة الاختيار ولنا: أن الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة) ش: فكما أن في حالة الضرورة تباح الميتة، فكذلك يباح التناول عند غلبة الحلال على الحرام؛ لأن للغالب حكم الكل؛ لأن القليل لا يمكن الاحتراز عنه، وكل قليل لا يمكن الاحتراز عنه فهو عفو كما في النجاسة القليلة.
م: (ألا ترى أن أسواق المسلمين لا تخلو عن المحرم والمسروق والمغصوب، ومع ذلك يباح التناول اعتمادا على الغالب، وهذا لأن القليل لا يمكن الاحتراز عنه، ولا يستطاع الامتناع منه، فسقط اعتباره

(13/543)


دفعا للحرج كقليل النجاسة وقليل الانكشاف من العورة، بخلاف ما إذا كانا نصفين أو كانت الميتة أغلب؛ لأنه لا ضرورة فيه، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دفعا للحرج كقليل النجاسة. وقليل الانكشاف من العورة، بخلاف ما إذا كانا نصفين، أو كانت الميتة أغلب؛ لأنه لا ضرورة فيه، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب) ش: فلا توكل التحري، بخلاف الثياب النجسة، فإنه يتحرى فيها، وإن كان الطاهر والنجس نصفين عندنا، وبه قال الشافعي، وفي الأواني النجسة: لا يتحرى إلا إذا كانت الغلبة للطاهر.
وقال الشافعي: يتحرى في التنصيف وفي الغلبة. وقال أحمد والمزني وأبو ثور: لا يتحرى في الأواني أصلا، ويتيمم ويصلي، واختلفت الرواية عن أحمد في جواب إراقة ماء الأواني قبل التيمم. وقال ابن الماجشون المالكي: لا يتحرى، ولكنه يتوضأ بأحدهما ويصلي ثم يتوضأ بالآخر ويعيد الصلاة التي صلاها. والله أعلم بالصواب.
1 -

(13/544)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا آخر ما انتهيت من تأليف كتاب " البناية في شرح الهداية " في العشرين من شهر الله المحرم الحرام عام خمسين وثمانمائة بالقاهرة المحروسة في مدرسة البدرية تجاه كسامة، بالقرب من الجامع الأزهر، فنسأل الله من فضله ولطفه قبول ذلك وإلقاء الإنصاف في قلب من ينظر فيه، بحيث إنه إذا اطلع على محاسنه يترحم على مؤلفه وإذا اطلع على عيب من العيوب التي لا يخلو عنها زلل القلم وخمود الذهن بأنواع من الألم يبادر إلى إصلاحه وستر عيبه.
وأما الحاسد فإنه لا يصدر منه إلا الإنكار واطلاع الناس على العثرات، وما وقع فيه من الإسقاطات خصوصا كان جمعي لهذا الشرح في زمن تأخر فيه من يستحق التقديم، وتقدم فيه من يستحق التأخير من الفجرة العظام والجهلة اللئام، وتراكب الهموم والأحزان حتى من الأصدقاء والإخوان، وخصوصا كنت في سن الذي ناهز التسعين من ضعف البصر، وغالب الكتابة في الليالي، وليس بعجيب أن يسلم شخص من السهو والنسيان، وهو في هذه الحالات، ولكن هذا يكون من الكرامات ببركة أدعية مشايخي الذين أخذت عنهم وهم أصحاب الكرامات بظهورها للأفراد والجماعات.
وكان السبب في تأليف هذا الشرح أن شخصا من الفضلاء المستعربين من أبناء العجم قريبا، سألني قراءة كتاب " الهداية " فأجبته بذلك فقال: ما أقرأ إلا من أول كتاب " المضاربة " فقلت: نعم، ثم شرعت في شرح درسه أولا بأول وكتبت مجلدا في شرح كتاب المضاربة إلى كتاب القسمة وكان ابتدائي فيه في غرة صفر من سنة سبعة عشر وثمانمائة من الهجرة وكان فراغي منه في نهار الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة ثم شرعت في شرح كتاب القسمة عقيب فراغي من شرح كتاب المضاربة أي كتاب القسمة، وأتممته في سلخ رجب الأصم من سنة سبعة عشر وثمانمائة ثم تمادى الحال من هذا التاريخ إلى سنة سبعة وثلاثين وثمانمائة.
ثم شرعت في شرح الكتاب من أوله لباب الطهارة وفرغت منه ليلة الأربعاء السادس عشر من جمادى الآخر من سنة سبعة وثلاثين.
ثم كتبت " الجزء الثاني " وفرغت منه في السادس عشر من رمضان المعظم من السنة المذكورة.
ثم شرعت في " الثالث " وفرغت منه نهار الجمعة قبل الزوال الثالث والعشرين من شوال من سنة ثمانية وثلاثين.

(13/545)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم شرعت في " الجزء الرابع " وفرغت منه في الثالث عشر من شوال من سنة سبعة وأربعين وثمانمائة.
ثم شرعت في " الجزء الخامس " وفرغت منه في اليوم الثاني من ربيع الآخر من سنة ثمانية وأربعين وثمانمائة.
ثم شرعت في " الجزء السادس " وفرغت منه في نهار الخميس الثاني عشر من شهر شوال من السنة المذكورة.
ثم شرعت في " الجزء السابع " وفرغت منه في يوم الأربعاء السادس عشر من شعبان من سنة تسع وأربعين وثمانمائة.
وأما " الثامن والتاسع والعاشر " فقد ذكرناه؛ والذي ينظر فيه يعرف مقدار الخلو من الصيف سنين عديدة، ويعرف مقدار التكميل والإتمام مدة لطيفة كل ذلك بنظر الله وتوفيقه، فنسأل الله تعالى خاتمة الخير والاجتناب عن الشر، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
ورأيت في آخر شرح قوام الدين الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: هذا آخر ما انتهيت إليه من تأليف " معراج الدراية في شرح الهداية " الحادي والعشرين من محرم سنة خمس وأربعين وسبعمائة، ورأيت بخط الإمام العالم العلامة قوام الدين شارح " الهداية " في آخر شرحه يقول العبد الضعيف أبو حنيفة قوام الدين أمير كاتب ابن أمير عمر العهد الغازي الأبعاني: هذا آخر " غاية البيان " نادرة الزمان في آخر الأوان في شرح كتاب " الهداية ".
ثم قال بخطه أيضا: وكان افتتاح شرحنا بالقاهرة غرة شهر ربيع الآخر من سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، وبعضه عمل بالعراق وإزاه في زمن السلطان أبي سعيد - نور الله مرقده، وبرد مضجعه - وأكثره عمل ببغداد وكراماته معدودة، وآخره بدمشق إلى أن ختم في السابع عشر من ذي القعدة يوم الخميس أول يوم من آذار سنة سبع وأربعين وسبعمائة، وكان جميع مدة الشرح ستة وعشرين سنة وسبعة أشهر وسبعة عشر يوما.
والحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد وآله أجمعين. غفر الله لكاتبه وللناظر فيه وللقارئ فيه ولمن رأى فيه خللا وأصلحه ولمن دعا لكاتبه بالمغفرة وجميع المسلمين. آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، آمين.

(13/546)