العناية
شرح الهداية [بَابُ الْبُغَاةِ]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
(بَابُ الْبُغَاةِ) أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ عَنْ بَابِ الْمُرْتَدِّ
لِقِلَّةِ وُجُودِهِ، وَالْبُغَاةُ جَمْعُ بَاغٍ كَالْقُضَاةِ جَمْعُ
قَاضٍ،
(6/99)
(وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ دَعَاهُمْ
إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ) ؛ لِأَنَّ
عَلِيًّا فَعَلَ كَذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ قَبْلَ قِتَالِهِمْ،
وَلِأَنَّهُ أَهْوَنُ الْأَمْرَيْنِ. وَلَعَلَّ الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِهِ
فَيُبْدَأُ بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا
مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ
وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ) وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّ
أَهْلَ الْعَدْلِ لَوْ قَاتَلُوا مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَى الْعَوْدِ لَمْ
يَكُنْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ.
فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ
الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ (لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - فَعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ
مَمْدُودًا وَمَقْصُورًا: قَرْيَةٌ بِالْكُوفَةِ كَانَ بِهَا أَوَّلُ
تَحْكِيمِ الْخَوَارِجِ وَاجْتِمَاعُهُمْ بِسَبَبِ تَحْكِيمِ عَلِيٍّ أَبَا
مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مُعَاوِيَةَ قَائِلِينَ إنَّ الْقِتَالَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] الْآيَةَ. وَعَلَى تَرْكِ
الْقِتَالِ بِالتَّحْكِيمِ وَهُوَ كُفْرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
[المائدة: 44] وَذَلِكَ أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْفَذَ ابْنَ
عَبَّاسٍ لِيَكْشِفَ شُبْهَتَهُمْ وَيَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَوْدِ، فَلَمَّا
ذَكَرُوا شُبْهَتَهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
(6/101)
(وَلَا يَبْدَأُ بِقِتَالٍ حَتَّى
يَبْدَءُوهُ، فَإِنْ بَدَءُوهُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ)
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي
مُخْتَصَرِهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ
عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ إذَا تَعَسْكَرُوا
وَاجْتَمَعُوا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ
حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ إلَّا دَفْعًا وَهُمْ
مُسْلِمُونَ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ مُبِيحٌ
عِنْدَهُ. وَلَنَا أَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ
الِاجْتِمَاعُ وَالِامْتِنَاعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ
الْإِمَامُ حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ
فَيُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
هَذِهِ الْحَادِثَةُ لَيْسَتْ بِأَدْنَى مِنْ بَيْضِ حَمَامٍ، وَفِيهِ
التَّحْكِيمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}
[المائدة: 95] فَكَانَ تَحْكِيمُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
مُوَافِقًا لِلنَّصِّ فَأَلْزَمَهُمْ الْحُجَّةَ، فَتَابَ الْبَعْضُ
وَأَصَرَّ الْبَعْضُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
(6/102)
وَإِذَا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ
السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُمْ
وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً
دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ مِنْ لُزُومِ الْبَيْتِ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ عَدَمِ
الْإِمَامِ، أَمَّا إعَانَةُ الْإِمَامِ الْحَقِّ فَمِنْ الْوَاجِبِ عِنْدَ
الْغَنَاءِ وَالْقُدْرَةِ.
(فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَأُتْبِعَ
مُوَلِّيهِمْ) دَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَيْ لَا يَلْحَقُوا بِهِمْ (وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ
يُتْبَعْ مُوَلِّيهِمْ) لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ دُونَهُ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ
إذَا تَرَكُوهُ لَمْ يَبْقَ قَتْلُهُمْ دَفْعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
مِنْ لُزُومِ الْبَيْتِ) يُرِيدُ بِهِ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّ الْفِتْنَةَ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ وَيَقْعُدَ
فِي بَيْتِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ فَرَّ
مِنْ الْفِتْنَةِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ مِنْ النَّارِ» (مَحْمُولٌ
عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِمَامِ) أَمَّا إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ
مُجْتَمِعِينَ عَلَى إمَامٍ وَكَانُوا آمِنِينَ بِهِ وَالسُّبُلُ آمِنَةٌ
فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى
كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ نَصْرًا لِإِمَامِ
الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}
[الحجرات: 9] فَإِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ.
وَقَوْلُهُ (أُجْهِزَ وَأُتْبِعَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ،
(6/103)
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ
الْمُعْتَبَرَ دَلِيلُهُ لَا حَقِيقَتُهُ.
(وَلَا يُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا يُقَسَّمُ لَهُمْ مَالٌ) لِقَوْلِ
عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ: وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ
وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَهُوَ الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَوْلُهُ
فِي الْأَسِيرِ تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ
كَانَتْ يَقْتُلُ الْإِمَامُ الْأَسِيرَ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِمَا
ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ النَّفْسَ
وَالْمَالَ
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحِهِمْ إنْ احْتَاجَ
الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَالْكُرَاعُ
عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. لَهُ أَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ
الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ. وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا قَسَّمَ
السِّلَاحَ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالْبَصْرَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَيُقَالُ أَجْهَزْت عَلَى الْجَرِيحِ إذَا أَسْرَعْت قَتْلَهُ وَتَمَّمْت
عَلَيْهِ
(قَوْلُهُ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ) هُوَ مَقُولُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - (وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ) أَيْ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ، أَلَا
تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلُوهُ
قِسْمَةَ ذَلِكَ فَقَالَ: فَإِذَا قُسِمَتْ فَلِمَنْ تَكُونُ عَائِشَةُ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَالْقُدْوَةُ اسْمٌ لِلِاقْتِدَاءِ
كَالْأُسْوَةِ اسْمٌ لِلِائْتِسَاءِ، يُقَالُ فُلَانٌ قُدْوَةٌ: أَيْ
يُقْتَدَى بِهِ (قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ، إلَى قَوْلِهِ
وَيَحْبِسُهُمْ إلَى قَوْلِهِ دَفْعًا لِلشَّرِّ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُمْ
مُسْلِمُونَ) مَعْطُوفٌ عَلَى
(6/104)
وَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحَاجَةِ لَا
لِلتَّمْلِيكِ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ
الْعَادِلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَفِي مَالِ الْبَاغِي أَوْلَى وَالْمَعْنَى
فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَعْلَى.
(وَيَحْبِسُ الْإِمَامُ أَمْوَالَهُمْ فَلَا يَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ وَلَا
يُقَسِّمُهَا حَتَّى يَتُوبُوا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ) أَمَّا عَدَمُ
الْقِسْمَةِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ. وَأَمَّا الْحَبْسُ فَلِدَفْعِ شَرِّهِمْ
بِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَلِهَذَا يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَا
يَحْتَاجُ إلَيْهَا، إلَّا أَنَّهُ يَبِيعُ الْكُرَاعَ؛ لِأَنَّ حَبْسَ
الثَّمَنِ أَنْظَرُ وَأَيْسَرُ، وَأَمَّا الرَّدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ
فَلِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَلَا اسْتِغْنَامَ فِيهَا.
قَالَ: (وَمَا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبُوا
عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ لَمْ يَأْخُذْهُ الْإِمَامُ
ثَانِيًا) ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْحِمَايَةِ
وَلَمْ يَحْمِهِمْ (فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ أَجْزَأَ مَنْ
أُخِذَ مِنْهُ) لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ (وَإِنْ لَمْ
يَكُونُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى أَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعِيدُوا ذَلِكَ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ
إلَى مُسْتَحِقِّهِ. قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: قَالُوا الْإِعَادَةُ
عَلَيْهِمْ فِي الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَاتِلَةٌ فَكَانُوا مَصَارِفَ،
وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَفِي الْعُشْرِ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ،
فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي
الزَّكَاةِ. وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ
يَحْمِيهِمْ فِيهِ؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ.
(وَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَهُمَا مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ ثُمَّ
ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ
لِإِمَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَوْلِهِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وَقَوْلُهُ (أَمَّا عَدَمُ الْقِسْمَةِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى
قَوْلِ عَلِيٍّ: وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَقَوْلُهُ
(6/105)
الْعَدْلِ حِينَ الْقَتْلِ فَلَمْ
يَنْعَقِدْ مُوجِبًا كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
(وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ
رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ عَمْدًا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الْمِصْرِ
فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى
أَهْلِهِ أَحْكَامُهُمْ وَأُزْعِجُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ لَمْ
تَنْقَطِعْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ.
(وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ بَاغِيًا فَإِنَّهُ
يَرِثُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْبَاغِي وَقَالَ قَدْ كُنْت عَلَى حَقٍّ
وَأَنَا الْآنَ عَلَى حَقٍّ وَرِثَهُ، وَإِنْ قَالَ قَتَلْته وَأَنَا
أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا
يَرِثُ الْبَاغِي فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ
لَا يَضْمَنُ وَلَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ دَفْعًا
لِشَرِّهِمْ، وَالْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ
عِنْدَنَا وَيَأْثَمُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ
يَجِبُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ، وَقَدْ
أَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا. لَهُ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا
أَوْ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً فَيَجِبُ الضَّمَانُ اعْتِبَارًا بِمَا
قَبْلَ الْمَنَعَةِ. وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ.
قَوْلُهُ (وَأُزْعِجُوا) يَعْنِي أُقْلِعَ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْمِصْرِ
(قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ قَبْلَ إجْرَاءِ أَحْكَامِهِمْ عَلَى أَهْلِهِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ أَنَا
عَلَى الْحَقِّ وَفِي الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ أَنَا عَلَى الْبَاطِلِ
وَقَوْلُهُ (رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ) قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتْ
الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانُوا مُتَوَافِرِينَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
(6/106)
وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ
فَاسِدٍ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ
الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ كَمَا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ
وَتَأْوِيلِهِمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ
الْإِلْزَامِ أَوْ الِالْتِزَامِ، وَلَا الْتِزَامَ لِاعْتِقَادِ
الْإِبَاحَةِ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَلَا إلْزَامَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ
لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ، وَالْوِلَايَةُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْمَنَعَةِ
وَعِنْدَ عَدَمِ التَّأْوِيلِ ثَبَتَ الِالْتِزَامُ اعْتِقَادًا، بِخِلَافِ
الْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنَعَةَ فِي حَقِّ الشَّارِعِ، إذَا ثَبَتَ
هَذَا فَنَقُولُ: قَتْلُ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ قَتْلٌ بِحَقٍّ فَلَا
يَمْنَعُ الْإِرْثَ. وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَتْلِ
الْبَاغِي الْعَادِلَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ
فِي حَقِّ الدَّفْعِ وَالْحَاجَةُ هَاهُنَا إلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ
فَلَا يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ. وَلَهُمَا
فِيهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ الْحِرْمَانِ أَيْضًا، إذْ
الْقَرَابَةُ سَبَبُ الْإِرْثِ فَيُعْتَبَرُ الْفَاسِدُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ
مِنْ شَرْطِهِ بَقَاءَهُ عَلَى دِيَانَتِهِ، فَإِذَا قَالَ: كُنْت عَلَى
الْبَاطِلِ لَمْ يُوجَدْ الدَّافِعُ فَوَجَبَ الضَّمَانُ.
قَالَ (وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي
عَسَاكِرِهِمْ) ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (وَلَيْسَ
بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ
مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ بَأْسٌ) ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ
لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ بَيْعُ نَفْسِ السِّلَاحِ لَا
بَيْعُ مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلُّ
فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلُّ
مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ. قَوْلُهُ (وَلَا
الْتِزَامَ لِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْبَاغِيَ اعْتَقَدَ
إبَاحَةَ أَمْوَالِ الْعَادِلِ بِأَنَّ الْعَادِلَ عَصَى اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُوجَبِ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا فِيهِ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَتْلِ الْبَاغِي الْعَادِلِ.
وَقَوْلُهُ (فَيُعْتَبَرُ الْفَاسِدُ) أَيْ يُعْتَبَرُ التَّأْوِيلُ
الْفَاسِدُ فِي دَفْعِ الْحِرْمَانِ.
وَقَوْلُهُ (لَمْ يُوجَدْ الدَّافِعُ) أَيْ التَّأْوِيلُ الدَّافِعُ
لِلضَّمَانِ.
[بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ]
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ) تَقْيِيدُهُ بِالْكُوفَةِ
بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْبُغَاةَ خَرَجُوا فِيهَا أَوَّلًا وَإِلَّا
فَالْحُكْمُ فِي غَيْرِهَا كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا بِالصَّنْعَةِ) بِهِ يُرِيدُ الْحَدِيدَ، لِأَنَّهُ
إنَّمَا يَصِيرُ سِلَاحًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ
(6/107)
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ
الْمَعَازِفِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ، وَعَلَى هَذَا الْخَمْرُ
مَعَ الْعِنَبِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَعَازِفِ) قِيلَ جَمْعُ مِعْزَفٍ
ضَرْبٌ مِنْ الطَّنَابِيرِ يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْيَمِينِ (وَلَا يُكْرَهُ
بَيْعُ الْخَشَبِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مِعْزَفًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ مَعَ الْعِنَبِ) أَيْ لَا
يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي
حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ كَرَاهَةِ بَيْعِ السِّلَاحِ
مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَعَدَمِ كَرَاهَةِ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ
يَتَّخِذُهُ خَمْرًا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ،
وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
(6/108)
|