الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة

كتاب الصوم
مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن صوم رمضان يجوز بالنية من الليل وهو الأول: ى وإن لم ينو حتى الصبح أجزأته النية إلى ما قبل نصف النهار وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز إلا بالنية من الليل.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه:
الأول: ما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا "أن أذن في الناس أن من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم" قاله يوم عاشوراء وكان يومئذ فرضا عليهم بدليل ما روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراء فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر قال الطحاوي: ففي أمر النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بصومه بعد ما أصبحوا دليل على أن من كان في يوم عليه صومه بعينه يجزئه نيته قبل نصف النهار
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال: "ألا من أكل فلا يأكلن بقية يومه ومن لم يأكل فليصم" وكان ذلك في رمضان.
الثالث: عموم قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1.
الرابع: إشارة قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 2 وكلمة ثم للتراخي ومن ضرورته وقوع النية في النهار.
حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه.
__________
1سورة البقرة: الآية 185
2سورة البقرة: الآية 187

(1/61)


الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل".
الجواب عنه: أنه محمول على نفي الفضيلة والكمال إذ الحقيقة غير مرادة لوجود صوم النفل بدون النية من الليل بالاتفاق فيحمل على صوم لا يكون متعينا كقضاء رمضان وصوم الكفارات عملا بالدلائل.
الثاني: قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 1 والنية من الليل مسارعة فتجب من الليل إذا ثبت الوجوب ثبت الاشتراط لعدم القائل بالفصل.
الجواب عنه: الليل ليس بمحل الصوم فلا تجب المسارعة قبل دخول الوقت.
الثالث: أن هذا الصوم لا يخلوا إما أن يكون منويا أو غير منوي وكلا القسمين باطل فبطل هذا الصوم وذلك لأنه إذا كان منويا والنية قصد وتعلق الصوم والقصد بالماضي محال فيكون بعضه منويا وبعضه غير منوي وهو غير متجزء فلا يكون الكل منويا وكذا إذا لم يكن منويا أصلا إذ الصوم عمل لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال الصوم" والعمل لا يصح إلا بالنية لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "الأعمال بالنيات" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا عمل لمن لا نية له" فظهر أن هذا الصوم غير جائز.
الجواب: أن هذا الصوم منوي لكنه ركن واحد ممتد والنية لتعيينه لله وقد وجدت في الأكثر والأقل تابع له فيسترجع بالكثرة جانب الوجود فكأنه وجدت النية في الجميع حكما.
الرابع: أن الصوم بنية من الليل أفضل بالإجماع فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد ينوي من الليل لأن أفضل الخلائق لا يترك أفضل الأعمال فتجب
__________
1سورة آلا عمران: الآية 133

(1/62)


متابعته علينا لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} 1.
الجواب عنه: أن المتابعة هو الإتيان بالصفة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتي بها على سبيل الأول: وية دون الوجوب فنحن نتبعه كذلك.
مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن صوم رمضان يتأدى بمطلق النية وبنية النفل وبنية واجب آخر ومذهب الشافعي رحمه الله لا يتأدى إلا بتعيين النية أنه من رمضان.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه
أن الفرض يتعين في هذا الوقت وغيره غير مشروع فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا انسلخ شعبان فلا صوم إلا صوم رمضان" فلا يحتاج إلى التعيين فيصاب بمطلق النية ومع الخطأ في الوصف لوجود أهل النية.
حجة الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: أنه إذا لم ينو الصوم من رمضان فلا يحصل له من صوم رمضان قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 2 فلا يدل أنه قصده من رمضان فلا يحصل له صوم رمضان لقوله صلى الله عليه وسلم: {ليس للمرء من عمله إلا ما نوى} .
الجواب عنه: أنه قد سعى بأصل النية وتعيين الشارع لا يكون أقل من تعيين العبد.
الثاني: أن تعيين النية أفضل بالاتفاق فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى به لما ذكرنا أن أفضل الخلائق لا يترك أفضل الأعمال فيجب علينا الاتباع لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} 3 وإذا ثبت الوجوب ثبت الاشتراط.
__________
1سورة الأنعام: الآية 535.
2سورة النجم: الآية 39
3سورة الأنعام: الآية 153.

(1/63)


الجواب عنه: ما مر أن الاتباع هو الإتيان بالصفة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتى بها على صفة الأول: وية دون الوجوب فكذا في حقنا
الثالث: أن الصوم بتعيين النية صحيح بالاتفاق وبلا تعيين مختلف فيه فتعيين النية أقرب إلى الاحتياط فيجب لقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
الجواب أن هذا الدليل يقتضي وجوب رعاية موضع الخلاف فيجب على الشافعي أن يتوضأ مما يخرج عن غير السبيلين كالدم وعن القهقهة في الصلاة ولا يأكل متروك التسمية عامدا إلى غير ذلك من مواضع الخلاف ولكن هو غير قائل بالوجوب فكذا نحن نقول بان الأول: ى مراعاة موضع الخلاف.
مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن من رأى هلال رمضان وحده فشهد عند القاضي فرد شهادته ثم أفطر بالوقاع فعليه القضاء دون الكفارة ومذهب الشافعي رحمه الله أن عليه القضاء والكفارة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن القاضي رد شهادته بدليل شرعي وهو تهمة الغلط لأن تفرده بالرؤية مع تساوي كافة الناس في النظر والمنظر والجو والالتماس يورث تهمة الغلط وهذه الكفارة تندرئ بالشبهات ولأن عدم وجوب الصوم على غيره دليل على أن هذا اليوم ليس من رمضان في حق الكافة وكذا في حقه لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا شهركم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "صومكم يوم تصومون" فجعل الشهر مضافا إلى الكافة لا إلى واحد بعينه فلا تثبت الرمضانية إلا بوجوب الصوم على الكل فإذا لم تثبت الرمضانية قطعا لا تجب الكفارة.
حجة الشافعي رحمه الله: أنه أفطر ورمضان حقيقة لتيقنه أنه من رمضان
__________
1سورة البقرة: الآية 185

(1/64)


لوجوب ما يوجب التيقن وهو الرؤية وتيقنه لا يتغير لشك غيره ولهذا أمر بالصوم فيه فتلزمه الكفارة بإفساده.
الجواب عنه: أنه لما رد القاضي شهادته صار مكذبا شرعا فالتحق بالعدم على أن شبهة التخيل باقية في حقه لبعد المسافة ودقة المرئ فتحمل أنه رأى الخيال فلم يتحقق التيقن في حقه أيضا والقضاء محتاط في إيجابه دون الكفارة.
مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أنه إذا أفاق المجنون في بعض شهر رمضان فعليه صوم ما بقي وقضاء ما مضى ومذهب الشافعي رحمه الله أنه ليس عليه قضاء ما مضى.
حجة أبي حنيفة رحمه الله: أن السبب وهو شهود الشهر قد وجد قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1 والمراد به شهود بعض الشهر إذ لولا ذلك لكان السبب شهود جميع الشهر فيقع الصوم في شوال فينعقد سببا لوجوب القضاء إذ لا حرج في ذلك بخلاف المستوعب لأنه يحرج في ذلك وخلاف الصبي إذا بلغ لأنه عتد فيحرج الصبي الإيجاب عليه ولأن المجنون مريض فيجب عليه القضاء إذا أفاق لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
حجة الشافعي رحمه الله: أن القضاء إنما يجب في موضع تجب فيه نية الأداء والمجنون لم تجب عليه الأداء فلا يجب عليه القضاء لأنه مبني عليه ولا يجوز نقضه بقضاء ما فات من الصوم في زمان الحيض لأن ذلك ورد على خلاف القياس فلا يمكن إيراده نقضا على ما ثبت على وفق القياس.
والجواب عنه: أن القضاء إذا كان بسبب جديد لا يكون مبنيا على الأداء وإن كان سبب الأداء فيكفي فيه وجود السبب وعدم الحرج كما في النائم والمغمى عليه إذا لم يزد على يوم وليلة
__________
1سورة البقرة الآية 185
2سورة البقرة الآية 184

(1/65)


مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أنه لو أفطر صائم في رمضان متعمدا بالأكل والشرب يجب عليه القضاء والكفارة ومذهب الشافعي رحمه الله أنه لا تلزمه الكفارة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما رواه الدارقطني عن عامر بن سعد عن أبيه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطرت يوما من رمضان متعمدا قال: "أعتق رقبة أو صم شهرين متتابعين أو أطعم ستين مسكينا" وكذا روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله إني أفطرت في رمضان فقال عليه الصلاة والسلام: "من غير سفر ولا مرض" قال: نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة" فهذا بإطلاقة يوجب الكفارة بالإفطار وإن كان بالأكل أو الشرب على أن بعض الرواة قال: إن الرجل قال: شربت في رمضان وهو الأصح عن أبي داود وقال: علي رضي الله عنه: إنما الأكل والشرب والجماع ولأن الكفارة إنما وجبت بالجماع لهتك حرمة الصوم بالإفطار وقد تحقق ذلك على الكمال بالأكل والشرب وهذا لأن الله تعالى أباح الأكل والشرب والجماع إلى أن يتبين الفجر ثم قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} 1 أي احفظوها عن هذه المفطرات الثلاث إلى الليل فصار الإمساك عن هذه المفطرات ركنا للصوم فإذا وجبت الكفارة بفوت الإمساك عن الجماع فكذا بفوت الإمساك عن الأكل والشرب للاستواء في الركنية.
حجة الشافعي رحمه الله: أن أبا حنيفة رضي الله عنه يسلم أنه لو أفطر أولا بأكل الطين أو ابتلاع الحجر ثم أكل الطعام أو شرب الماء لا تجب عليه الكفارة وكذا لو ابتدأ بأكل الخبز وشرب الماء لا تجب عليه الكفارة لأنه لا تفاوت في الأكل بين أن يأكل الطين ويبلع الحجر ثم يأكل الطعام ويشرب الماء وبين أن يأكل الطعام ويشرب ابتداء.
__________
1سورة البقرة: الآية 187

(1/66)


الجواب عنه: أن هذا قياس مع الفارق وهو أنه إذا أفطر أولا بأكل الطين أو ابتلاع الحجر لم يبق صائما لقوله صلى الله عليه وسلم: "الفطر مما يدخل" والكفارة إنما تجب إذا أكل أو شرب وهو صائم بخلاف ما لو ابتدأ بالأكل والشرب لوجود الجناية على الصوم ثم قال: إن الجماع أقوى في الأثر لوجوب الكفارة من الأكل والشرب من وجوه:
الأول: أنه إذا اشتد الجوع يجوز أكل مال الغير بقدر الحاجة ولو اشتد شهوة الجماع لا يجوز قضاؤه من الحرام.
والثاني: أنه إذا اشتد الجوع والعطش يجوز له الإفطار ولو اشتد الشبق لا يجوز له الإفطار بالمباشرة فعلم أن الجماع في رمضان أشد إفطارا من الأكل والشرب.
الثالث: أن المحرم بالحج أو العمرة يجوز له الأكل والشرب ولا يجوز له الجماع.
والرابع: أنه لو أكل أو شرب الحرام لا يحد ولو جامع الحرام يحد.
والجواب عنه: أن التفاوت بين الجماع وبين الأكل والشرب في هذه الأشياء لا يوجب التفاوت في وجوب الكفارة لوجود المساواة في الركنية فإنا نعلم قطعا أن عين الجماع ليس بجناية لوقوعه في محل مملوك وإنما الجناية بالفطر لهتك حرمة رمضان بإفساد صومه والجماع آلته وذلك المعنى موجود في الإفطار بالأكل والشرب ولا يتفاوت الحكم بتفاوت الآلة فإن القصاص يجب بالقتل العمد سواء كان بالسيف أو السكين أو السهم.
مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه إذا أفطر بالجماع مرارا في رمضان فعليه كفارة واحدة وتتداخل الكفارات إذا كان قبل أداء الكفازة.
ومذهب الشافعي أنه لا تتداخل الكفارات بل تجب لكل جماع كفارة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الكفارة إنما تجب في الإفطار الأول: عقوبة على هتك حرمة الشهر فإذا تكرر منه الهتك قبل أداء الكفارة حصل

(1/67)


المقصود وهو الانزجار بكفار ة واحدة فيتمكن شبهة فوات المقصود في الثاني: ة فتتداخلان كما لو زنى مرارا أو شرب الخمر مرارا فانه يكتفي بحد واحد بخلاف ما لو كفر للأولى ثم أفطر ثانيا لعدم حصول المقصود وهو الانزجار بالأول: ى فصار كما لو زنى فحد ثم زنى.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الإفطار الأول: بالوقاع موجب للكفارة بالإجماع والثاني أولى أن يكون موجبا لها لأن الأول: كان ذنبا بلا إصرار والثاني: ذنب مع إصرار فإذا كان الذنب بدون الاصرار موجبا للكفارة فمع الإصرار أولى.
الجواب عنه: أن الثاني: إن وجد بعد أداء الكفارة عن الأول: ى فهو عندنا أيضا موجب للكفارة لعدم حصول المقصود بالأول: وإن وجد قبله فيكتفي بكفارة واحدة كما مر من معنى التداخل.
مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وأصحابه أنه لو نذر بصوم يوم النحر صح نذره لكنه أفطر وقضى وعند الشافعي رحمه الله لا يصح نذره.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أنه نذر بصوم مشروع بأصله إذ النهي لغيره فإذا نذر به يجب الوفاء لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} 1 ويوفون بالنذر وقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى" لكنه يفطر احترازا عن المعصية المجاورة ثم يقضي اسقاطا للواجب وفيه عمل بأصله حيث جوزنا النذر وأسقطنا وصفه حيث قلنا بالإفطار والقضاء وإن صام فيه يخرج عن العهدة لأنه أدى كما التزم.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الصوم في يوم العيد حرام بالإجماع فلا يصح النذر به لأنه لا يصح النذر في معصية الله.
__________
1سورة الحج: الآية 29

(1/68)


الجواب أنه نذر بما هو مشروع بأصله وإن كانت المعصية تجاوره فعلا لا قولا.
مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أنه من شرع في الصوم التطوع أو الصلاة التطوع يجب عليه إتمامه فان أفسده يجب عليه القضاء ومذهب الشافعي رحمه الله أنه لا قضاء عليه.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه مالك عن ابن شهاب أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدي لهما طعام فأفطرتا فدخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدرنا لنسأله فبدرتني حفصة بالكلام وكانت بنت أبيها سباقة وقالت يا رسول الله إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين فأهدي لنا طعام فأفطرنا فقال رسول الله صلى الله عليه ورسلم: "اقضيا مكانه يوما آخر" ولأن المؤدى قربة وعمل فتجب صيانته عن الإبطال بالمعني فيه لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 1 وإذا وجب المضي وجب القضاء بإفساده.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الإجماع منعقد على أن الشرع جوز له ترك الصوم والصلاة المتطوع فيهما بجملة الأجزاء فاذا جاز له الترك بجملة الأجزاء فكذا جاز له ترك بعض الأجزاء.
الجواب عنه: أنه قبل الشروع لم يؤد شيئا فجاز له تركه أما بعد الشروع فقد أدى بعض القربة فيجب حفظه باتمامه والقضاء بافساده.
__________
1سورة محمد: الآية 33

(1/69)


كتاب الحج
مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وأصحابه أن القرآن أفضل من الإفراد ومذهب الشافعي رحمه الله أن الإفراد أفضل.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بقول: "بوادي العقيق أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة" وما رواه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بالبيداء وإنه رديف أبي طلحة يهل بالحج والعمرة جميعا وما رواه مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا رضي اله عنهما وعثمان ينهى عن المتعة والجمع بينهما فلما رأى علي رضي الله عنه ذلك أهل بهما لبيك بحجة وعمرة وقال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد ولأن فيه جمعا بين العبادتين فأشبه الصوم والاعتكاف والحراسة في سبيل الله وصلاة الليل.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "القرآن رخصة" والرخصة دون العزيمة ولأن في الإفراد زيادة التلبية والسفر والحلق.
الجواب عنه: أن المقصود بما روي نفي قول الجاهلية أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور على أن قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} 1 محمول على الإحرام بهما من دويرة أهله فكان القران عزيمة لا رخصة والتلبية غير محصورة والسفر غير مقصود والحلق خروج عن العبادة فلا ترجيح بما ذكر.
مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم: أن القارن يطوف
__________
1 سورة البقرة: الآية 196

(1/70)


طوافين ويسعى سعيين وعند الشافعي رحمه الله يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما رواه الطحاوي عن أبي النضر قال: أهللت بالحج فأدركت عليا فقلت له إني أهللت بالحج أفأستطيع أن أضيف إليه عمرة قال: لو كنت أهللت بالعمرة ثم أردت أن تضم إليها الحج ضممته قال: قلت كيف أصنع إذا أردت ذلك قال: تصب عليك أداوة ماء ثم تحرم بهما وتطوف لكل واحد منهما طوافا وعنه عن علي وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما قال: القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين وعنه عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين وما رواه الدارقطني عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا فطاف طوافين وسعى سعيين ولما طاف صبي بن معبد طوافين وسعى سعيين قال: له عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك ولأن القرآن ضم عبادة إلى عبادة وذلك إنما يتحقق بأداء عمل لكل واحد على الكمال وذلك بطوافين وسعيين.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" ولأن مبنى القرآن على التداخل حتى أكتفي بتلبية واحدة وسفر وحلق واحد فكذلك في الأركان.
والجواب عنه: أن معنى ما رواه دخلت وقت العمرة في وقت الحج لا أفعالها في أفعاله عملا بالدليلين والقرآن عبادة مقصودة فلا تداخل فيها والسفر للتوسل والتلبية للتحرم والحلق للتحلل فليست هذه الأشياء بمقاصد بخلاف الأركان.

(1/71)