الغرة
المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة كتاب البيع
مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن من اشترى شيئا لم يره فهو
جائز وله الخيار إذا رآه ومذهب الشافعي رحمه الله لا يصح العقد أصلا.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه:
الأول: ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بعت من
أمير المؤمنين عثمان مالا بالوادي أي بوادي القرى بمال له بخيبر فلما
تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خيفة أن يزاد في البيع فقد تبايعا
ما لم يكن بحضرتهما ولم ينكر عليهما أحد.
الثاني: ما رواه الطحاوي عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن أبي وقاص الليثي
قال: اشترى طلحة بن عبيد الله من عثمان بن عفان رضي الله عنهما مالا وكان
المال في الكوفة فقيل لعثمان إنك قد غبنت فقال: عثمان لي الخيار لأني بعت
ما لم أره وقيل مثل ذلك لطلحة فقال: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره فحكما
جبير بن مطعم فقضى أن الخيار لطلحة ولا خيار لعثمان وذلك بمحضر من الصحابة
ولم ينكر أحد.
الثالث: ما رواه الدارقطني عن مكحول ورفع الحديث إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه إن شاء أخذه وإن
شاء تركه" وذكر أن فيه ابن أبي مريم وهو متكلم فيه قلنا هذا طعن مبهم فلا
يقبل.
حجة الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الغرر" وبيع ما لم ير فيه
غرر لأنه ربما يوافقه وربما لا يوافقه فيكون داخلا تحت النهي.
(1/72)
والجواب عنه: أن الغرر ليندفع بالخيار فإنه
إذا لم يوافقه يرده.
الثاني: أن جواز البيع مشروط بالرضى لقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ} 1 والرضى بالشيء إنما يحصل إذا كان معلوما بجميع صفاته وإذا لم
يكن مرئيا لم يكن العلم بجميع الصفات حاصلا فلا يجوز بيع ما لم يكن مرئيا.
والجواب عنه: أن هذا البيع تجارة عن تراض لوجود الإيجاب والقبول منهما
بالتراضي والعلم إنما يشترط للزوم العقد دون انعقاده فاذا رضي بعد الرؤية
تم العقد وإلا لا يتم.
الثالث: أن بيع الغائب يفضي إلى الخصومة لأنه إن لم يوافق طبع المشتري
وأراد الفسخ له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في
الإسلام" ولو أراد البائع عدم الفسخ له ذلك لقوله تعالى: {أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} 2 فبناء على هذين الدليلين المتعارضين تقع بينهما المنازعة
وهي حرام لقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا} 3.
الجواب عنه: أن الجهالة بعدم الرؤية لا تفضي إلى الخصومة لأنه إذا لم
يوافقه يرده وليس للآخر أن يمتنع عن ذلك لأن خيار الرؤية ثابت للمشتري شرعا
وهما قد رضيا بذلك حيث باشر ذلك العقد فترتفع المنازعة كما في خيارالشرط
فصار كجهالة الوصف والمعاين المشار إليه.
مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أنه إذا حصل الإيجاب والقبول
لزم البيع والخيار لواحد من المتعاقدين والفسخ قبل الافتراق من المجلس وقال
الشافعي رحمه الله: لكل واحد منهما خيار المجلس.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه:
__________
1سورة النساء: الآية 29
2سورة المائدة: الآية 1
3سورة الأنفال: الاية 46
(1/73)
الأول: قوله تعالى: {أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} وهذا عقد فيلزم الوفاء به بظاهر الآية وفي الفسخ بخيار
المجلس نفي لزوم الوفاء به.
الثاني: ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" وفي رواية حتى
يقبضه ففيه دليل على أنه إذا وجد القبض جاز البيع ولو في مجلس العقد والبيع
لا يجوز بعد ثبوت الملك له وإذا ثبت له الملك لا يجوز إبطاله إلا برضاه
لقوله تعالى: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 1
الثالث: ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى
الله عليه وسلم في سفر فكنت على بكر صعب لعمر وكان يغلبني فيتقدم القوم
فيزجره عمر رضي الله عنه ويرده ثم تقدم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعمر:"بعنيه" فقال: هو لك يا رسول الله فقال: "بعنيه" فباعه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد الله بن
عمر فاصنع به ما شئت" أخرجه البخاري في باب ما لو اشترى شيئا فوهب من ساعته
قبل أن يتفرقا وفي هبة النبي صلى الله عليه وسلم قبل التفرق بالأبدان دليل
على أن البيع لازم بدون التفرق.
الرابع: أن في الفسخ بدون رضى الآخر إبطال حقه فلا يجوز إلا بإذنه.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما
لم يتفرقا" رواه مالك في الموطأ.
الجواب عنه: أن هذا الحديث منسوخ لأن مالكا رحمه الله رواه وترك العمل به
فقيل له فيه فقال: رأيت إجماع أهل المدينة على خلافه وإجماع التابعين على
مخالفة الخبر الواحد دل على انتساخه أو تقول الحديث محمول على خيار القبول
وفي الحديث إشارة إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة حقيقة وبعدها مجازا
والحمل على الحقيقة أولى والمراد بالتفرق تفرق الأقوال دون
__________
1سورة النساء: الآية 29
(1/74)
الأبدان وهو الواقع في الكتاب والسنة قال:
الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} 1
وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} 2 وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"افترقت اليهود والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة".
مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أنه إذا مات من له خيار الشرط
في البيع بطل خياره ولا ينتقل إلى ورثته وعند الشافعي رحمه الله ينتقل إلى
ورثته.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن المنافي لثبوت الخيار قائم وهو إبطال الملك
على الآخر بالفسخ في مدة الخيار بدون رضاه وأنه إضرار به وقد قال: النبي
صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وإنما يثبت للمورث
بالاشتراط ولم يشترط الخيار للوارث فلا يثبت ولا يمكن انتقال الخيار إلى
الوارث لأن الخيار مشيئة وإرادة وهما وصفان قد عدما بموته فلا يتصور
انتقالهما إليه.
حجة الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: كون الملك قابلا لهذا والفسخ صفة من صفات هذا الملك وهذه الصفة أمر
ينتفع به فيكون حقا وقد قال: صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالا أو حقا فهو
لورثته بعد موته".
الجواب عنه: أن المراد منه حق يمكن بقاؤه بعد موته والخيار قد بطل بموته
لكونه مشيئة قائمة بالميت فلا يتصور فيها الإنتقال: إلى الوارث.
الثاني: أجمعنا على أن خيار العيب للوارث ابتداء يورث فكذا خيار الشرط
والجامع القدرة على دفع الضرر.
__________
1سورة النساء: الآية 130
2سورة البيتة: الآية 4
(1/75)
والجواب عنه: أن خيار العيب يثبت لا بطريق
الإرث وذلك لأن المورث استحق المبيع سليما فكذا الوارث لأنه خليفته فأما
نفس الخيار فلا يورث.
مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن علة الربا في الأشياء
الستة الكيل مع الجنس أو الوزن مع الجنس وعند الشافعي رحمه الله الطعم مع
الجنس في المطعومات والثمنية مع الجنس في الأثمان.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الحنطة بالحنطة مثلا
بمثل والفضل ربا إلى آخر الحديث" وجه التمسك به أن هذا الحديث قد أوجب كون
المماثلة شرطا والمماثلة بين الشيئين باعتبار الصورة والمعنى في المعيار
والمعيار هو الكيل والوزن فسوى الذات والجنسية في الصورة والمعنى فيظهر
الفضل على ذلك فيتحقق الربا لأن الربا هو الفضل والمستحق في المعاوضة
الخالي عن العوض والذي يؤيد هذا أنه روي مكان قوله مثلا بمثل كيلا بكيل وفي
الذهب وزنا بوزن فدل على أن الكيل والوزن هو المؤثر في الربا مع الجنسية
وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين
ولا الصاع بالصاعين".
حجة الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء
بسواء" رتب النبي صلى الله عليه وسلم على وصف المطعومية وهذا الوصف يناسب
تحريم الربا لأن الطعام تتعلق به الحاجة الأصلية وبذلك القدر الزائد من مثل
هذا الشيء يقتضي تفويت ما تتعلق به الحاجة الأصلية وأنه يناسب المنع فإن
قالوا إنه يقتضي توسيع الطعام على الغير قلنا بذل الزائد يقتضي تفويته على
أن المصلحتين إذا تعارضتا فتقديم المالك أولى فثبت أنه وصف مناسب والحكم
المذكور عقيبه يقتضي كون الحرمة معللة به باتفاق العلماء على أن الحكم عقيب
الوصف المناسب معلل به.
الجواب عنه: أن في الحديث استثنى الحال بقوله سواء بسواء فالمراد منه
(1/76)
تساويهما في الكيل إذ المذكور في صدر
الكلام هو الطعام وهو عين واستثناء الحال من العين لا يجوز فلا بد من تقدير
شيء يصح به الاستثناء وهو عموم صدر الكلام في الأحوال أي لا تبيعوا في جميع
الأحوال من المساواة والمفاضلة والمجازفة إلا في حال المساواة والمراد
بالتساوي هو المساواة بالكيل بالإجماع فدل على أن الكيل هو العلة والوصف
المذكور وهو الطعم أو الثمنية ليس بمناسب فلا يصح التعليل به لأنه من أعظم
وجوه المنافع والسبيل في مثله التوسعة والإطلاق بأبلغ الوجوه لشدة الاحتياج
إليه دون الحرمة.
الثاني: أن العلة عند الإمامين إما الكيل أو الطعم والتعليل بالكيل لا يجوز
وإلا لكان ما ليس بمكيل غير ربا فيلزم التخصيص في قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" وذلك خلاف الأصل فثبت أن الكيل لا
يصلح علة فتعين الطعم للعلية.
الجواب: أن التخصيص حصل بنفس الحديث لما ذكرنا أن قوله إلا سواء بسواء حال
فيقتضي عموم الأحوال وتلك الأحوال لا تستقيم إلا فيما يدخل تحت الكيل دون
الطعم والتخصيص وإن كان على خلاف الأصل لكن ثبت بالدليل والقرينة وقد وجدت
القرينة.
مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن الجنس أو القدر بانفراده
يحرم النسأ وعند الشافعي رحمه الله لا يحرمه:
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في
النسيئة" وهذا نسيئة فيكون فيه الربا فيحرم لقوله تعالى: {وَحَرَّمَ
الرِّبا} 1 ولأنه قال: الربا من وجه ينظر إلى القدر أو الجنس والنقدية
أوجبت فضلا في المالية إذ النقد خير من النسيئة فيتحقق شبهة الربا وهي
ملحقة بالحقيقة احتياطا فيحرم وهذا لأن كل واحد من القدر أو الجنس جزء
العلة فيكون
__________
1سورة البقرة: الآية 275
(1/77)
لكل واحد منهما شبهة العلية فتحرم به شبهة
الربا وهي النسيئة إعمالا للدليل بقدر الإمكان.
حجة الشافعي رحمه الله: العمومات المقتضية بحل البيع للتجارة مطلقا كقوله
تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 1 وقوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 2 والقرآن أولى من الخبر.
الجواب عنه: قد خص من العمومات المذكورة حرمة الربا لقوله تعالى:
{وَحَرَّمَ الرِّبا} والعام إذا خص من البعض بنص يجوز تخصيص بعض أفراده
بخبر الواحد والقياس فيخص المتنازع بما ذكرنا من الأدلة.
مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يجوز بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل
يدا بيد وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن الرطب تمر لقوله صلى الله عليه وسلم حين
أهدى إليه الرطب: "أو كل تمر خيبر هكذا" وبيع التمر بمثله جائز لقوله صلى
الله عليه وسلم: "التمر بالتمر مثلا بمثل" ولأن الرطب لا يخلو إما أن يكون
تمرا أو لا فإن كان تمرا جاز البيع بآخر الحديث وهو قوله صلى الله عليه
وسلم: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم".
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن بيع الرطب
بالتمر: "أينقص إذا جف" فقيل نعم فقال عليه الصلاة والسلام: "لا إذن".
الجواب عنه: أن مدار هذا الحديث عن زيد بن عياش وهو ضعيف عند أهل النقل.
مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن من باع سيفا محلى بالفضة
بمائة درهم فصاعدا وحليته خمسون درهما ودفع من الثمن خمسين
__________
1 سورة النساء: الآية 29
2 سورة البقرة: الآية 275
(1/78)
درهما جاز البيع وتكون الفضة بمقابلة الفضة
والزائد بمقابلة السيف وهذا إذا كانت الفضة المقدرة ثمنا أزيد مما فيه كما
ذكرنا بأن تكون المقدرة مائة وإن كانت مثله أو أقل منه أو لا يدري لا يجوز
البيع وكذا لو باع قلادة فيها ذهب وجواهر بذهب أزيد مما في القلادة جاز
فيكون الذهب بمثله والزيادة بمقابلة الجواهر ومذهب الشافعي رحمه الله لا
يجوز.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن تصرف العاقل يحمل على الصحة وقد أمكن هنا
الحمل على الصحة بأن تكون الفضة والذهب بمثلها والباقي بمقابلة الباقي
والذي يؤيد هذا ما رواه الطحاوي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف المحلى بالفضة وعنه
عن ابن المبارك عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بأن يباع السيف المفضض بأكثر
مما فيه الفضة بالفضة والسيف بالفضل.
حجة الشافعي رحمه الله: ما روي عن حنش أنه كان مع فضالة بن عبيد الله في
غزاة قال: فصارت لي ولأصحابه قلادة فيها ذهب وورق وجوهر فأردت أن أشتريها
فسألت فضالة فقال: أنزع ذهبها فاجعله في كفة واجعل ذهبك في كفة لا تأخذ إلا
مثلا بمثل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر لا يأخذ إلا مثلا بمثل".
الجواب عنه: أن الأمر بالفضل من قول فضالة لا من قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو ليس بحجة عنده فقد يجوز أن يكون أمر بذلك على أن أن البيع لا
يجوز عنده في هذا الذهب حتى يفصل وقد يجوز أن يكون أمر بذلك لإحاطة علمه أن
تلك القلادة لا توصل إلي علم ما فيها من الذهب إلا بعد أن يفصل أو يكون ما
فيها من الذهب أكثر من الثمن والذي يؤيد هذا ما روي عن فضالة بن عبيد قال:
اشتريت يوم حنين قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخذف ففصلتها فوجدت فيها
أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا
تباع حتى تفصل".
مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يجوز بيع اللحم بالشاة
(1/79)
كيف ما كان وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز
كيف ما كان.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن المقتضي لجواز هذا البيع ثابت وهو النص
العام كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 1 وقوله تعالى: {إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 2 والمانع منتف وهو احتمال الربا لأن
علة الربا القدر مع الجنس كما مر وهو منتف هنا لأن اللحم موجود والحيوان
غير موجود.
حجة الشافعي رحمه الله: أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك فلا يزاد على
كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ونصنا خاص ونصكم عام والخاص مقدم على
العام.
الجواب عنه: أنه لا نسلم أن الخاص مقدم على العام عندنا بل العام عندنا
كالخاص على أن ما ذكرنا من العام قرآن فيقدم على خبركم.
مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لو اشترى شيئا بدراهم معينة أو
بدنانير معينة لا يتعينان حتى جاز للمشتري أن يمسك تلك الدراهم والدنانير
ويعطي مثلهما ولو هلكتا قبل التسليم لا ينفسخ العقد ويطالب بتسليم مثلهما
وعند الشافعي رحمه الله يتعينان.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن حكم الشرع في الأعيان أن البيع يتعلق به
وجوب ملكها لا وجودها فإن وجودها شرط البيع لنهي النبي صلى الله عليه وسلم
عن بيع ما ليس عند الإنسان لا حكمه وفي جانب الأثمان يتعلق به وجودها
ووجوبها معا حتى جاز الشراء بثمن ليس في ملك المشتري فلو صح التعيين انقلب
الحكم شرطا فلا يجوز.
حجة الشافعي رحمه الله: أن البيع وقع على الدنانير والدراهم المعينة
__________
1سورة البقرة: الآية 275
2سورة النساء: الآية 29
(1/80)
وهي أولى من المطلقة فلا يجوز إبدال ما هو
أولى بما ليس بأولى بدون رضى مالكه.
الجواب: أن التعيين لبيان المقدار لا غير إذ الثمن ثابت في الذمة بالدراهم
المطلقة.
مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه جواز بيع العقار قبل القبض ومذهب
الشافعي رحمه الله عدم جوازه.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن ركن البيع صدر من أهله في محله فيكون
المقتضي للجواز ثابتا والمانع منتف وهو عرف البيع وقوله تعالى: {إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 1.
حجة الشافعي رحمه الله: ما رواه حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "إذا ابتعت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه" وهو نص صريح
في المسألة.
الجواب: أن المراد بالحديث ما ينقل ويحول لأن الحديث معلول بفرض انفساخ
العقد على اعتبار الهلاك عملا بدلائل الجواز والهلاك في العقار غير جائز
والذي يؤيد هذا ما ذكر المنقول صريحا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من
ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه" وفي الصحيحين من "ابتاع طعاما فلا يبعه
حتى يكتاله".
مسألة: أهل الخلاف ذكروا ثلاث مسائل بمنع الرد فيها بالعيب عند أبي حنيفة
ولا يمنع عند الشافعي رضي الله عنهما.
أولهما: أن الزيادة المنفصلة المتولدة من الأصل بعد القبض يمنع رد الأصل
وحده بالعيب فيه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا
يمنع رده فيرد الأصل بكل الثمن ويقبض الولد وحده بلا ثمن.
__________
1سورة النساء: الآية 29
(1/81)
وثانيها: أن وطء الثيب يمنع الرد عند أبي
حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يمنعه.
وثالثهما: أنه إذا اشترى عبدين صفقة وقبض أحدهما ووجد بأحدهما عيبا فانه
يأخذهما أو يدعهما وليس له أن يأخذ السليم ويرد المعيب عند أبي حنيفة وعند
الشافعي رضي الله عنهما: له أن يرد المعيب خاصة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه في الأولى:
أنه لا سبيل إلى رد الزيادة مع الأصل لأن البيع لم يرد عليها قصدا فلا يرد
عليه الفسخ فلا سبيل إلى رد الأصل وحده لأنه لو سلمت الزيادة للمشتري بلا
ثمن تكون ربا وهو حرام.
وحجته في الثانية: أن الرد بالعيب فسخ العقد ودفعه من الأصل فيقع الوطء
الموجود فيه منه في محل غير مملوك وهو حرام فلا يجوز الرد بالعيب.
وحجته في الثالثة: أن الصفقة تتم بقبضها فتكون الزيادة تفريقا للصفقة قبل
التمام وهو منهي عنه وذكر صاحب الكتاب دليلا لأبي حنيفة عاما وهو أن الرد
ضرر وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" ثم قال:
نصنا خاص ونصكم عام والخاص مقدم على العام وهذا لا يرد على ما ذكرنا من
الدلائل على أن العام عندنا كالخاص.
حجة الشافعي رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالرد بالعيب وهذا
مطلق متناول لجميع العيوب وأيضا ترتيب جواز الرد على قيام العيب ترتيب
الحكم على وصف يناسبه فيدل على كونه معللا به فيعم الحكم لعموم العلة.
الجواب: أنه لا يمكن حمله على العام فانه لم يقض النبي صلى الله عليه وسلم
بالرد على العاقد بجميع العيوب بل الحديث يقتضي أنه قضى بالرد في عيب هو
ليس بعام ثم قوله المطلق يتناول جميع العيوب ليس بصحيح فإن المطلق متناول
لفرد غير معين وإنما المتناول للجميع العام والمطلق غير العام والرد وإن
كان معللا بالعيب لكن العلة إنما تعمل عند عدم المانع في السنة وقد وجد
المانع
(1/82)
إلا في المتنازع فيه وهو ما ذكرنا من
المعايب.
مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يجوز للمشتري أن يزيد للبايع في
الثمن بعد تمام البيع ويلتحق بأصل العقد ومذهب الشافعي رحمه الله أنه لا
يصح على اعتبار ابتداء الصلة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} 1 والتراضي بعد الفريضة إنما
يكون بالزيادة عليها فاذا جاز ذلك في المهر جاز في الثمن لعدم القائل
بالفصل ولأن للعاقدين ولاية دفع العقد بالكلية بالإقالة فأولى أن يكون لهما
ولاية التغيير وهما بالزيادة يغيران العقد من وصف مشروع إلى وصف مشروع وهو
كونه رابحا أو خاسرا أو عدلا فجاز لهما ذلك.
حجة الشافعي رحمه الله: لوصح هذا الإلحاق لصارت الزيادة جزءا من الثمن وهو
غير جائز لأن جعلها جزءا من الثمن إذا كان مع بقاء العقد الأول: لزم أن
يقال: إنه قد اشترى ملك نفسه لنفسه وهو محال وإن كان لا مع بقائه فهو أيضا
محال لأن الأصل في العقد الأول: البقاء ما لم يزل ولا مزيل إلا هذا الإلحاق
ويلزمه الدور وهو محال.
الجواب عنه: أنا نختار أن الزيادة جعلت جزءا من الثمن لكن مع بقاء ذات
العقد الأول: مع تغيير وصفه من كونه جائزا إلى كونه عدلا فهو مشروع فتصح
الزيادة وتلتحق بأصل العقد فكأن العقد وقع على هذا المقدار لأن وصف الشيء
يقوم به لا بوصفه وعلى اعتبار الإلتحاق لا يكون مشتريا ملك نفسه لنفسه ولا
تكون الزيادة عوضا عن ملكه.
مسألة: مذهب أبي حنيفة رحمه الله:
إذا اشترى جارية أو ثوبا بألف درهم فقبضها ثم باعها من البايع بأقل مما
اشترى منه قبل
__________
1سورة النساء: الآية 24
(1/83)
نقد الثمن لا يجوز البيع الثاني: ومذهب
الشافعي رحمه الله أنه يجوز البيع الثاني.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه الدارقطني عن يونس بن أبي إسحاق عن
أمه العالية بنت أيفع قالت حججت أنا وأم حبيبة رضي الله عنها فدخلنا على
عائشة رضي الله عنها فقالت لها أم حبيبة يا أم المؤمنين كانت لي جارية وإني
بعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء وإنه أراد أن يبيعها
فابتعتها منه بست مائة درهم نقدا فقالت بئسما اشتريت بئسما اشتريت وأبلغي
زيد بن أرقم أنه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب
فلو كان جائزا لما قالت عائشة مثل ذلك الوعيد فإن قيل لعلها أنها قالت ذلك
لإرتكابه الحرام بالبيع بثمن مؤجل إلى العطاء وأنه فاسد لكونه بيعا إلى أجل
مجهول ففسد البيع الأول: لجهالة الأصل وفسد الثاني: لكونه بنى عليه قلت
إنما قالته لارتكابه المحرم وهو شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن
لأن البيع إلى العطاء جائز عند عائشة رضي الله عنها ذكره في المبسوط فذلك
الوعيد لا يكون لكونه بيعا إلى العطاء بل لكونه شراء ما باع بأقل مما باع
قبل نقد الثمن سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم إذ العقل لا يهتدي إلى
ذلك ولأن الثمن لم يدخل في ضمانه فإذا وصل إليه المبيع ووقعت المقاصة في
ستمائة وذلك الباقي بلا عوض فيكون ربا وهو حرام.
حجة الشافعي رحمه الله: العمومات وهو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 1.
والجواب عنه: أنا قد بينا أن فيه معنى الربا فيكون جوابنا بهذا النص على أن
الحديث نص خاص في الباب فلا يترك بعام مخصوص.
مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لو اشتري الثوب بالخمر
__________
1سورة البقر: الآية 275
(1/84)
يكون البيع فاسدا لا باطلا وكذا لو اشترى
الخمر بالثوب وعند الشافعي رحمه الله البيع باطل في الصورتين.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: فيما إذا اشترى الثوب بالخمر لأن المشتري إنما
قصد الثوب بالخمر لأنه هو المبيع وفيه إعزاز الثوب دون الخمر لأن الثمن
وسيلة فبقي ذكر الخمر معتبرا في تلك الثوب لا في نفس الخمر حتى فسدت
التسمية ووجدت قيمة الثوب دون الخمر وكذا إذا باع الخمر بالثوب يكون البيع
فاسدا لا بطالا لأنه يعتبر شراء الثوب بالخمر لكونه بيع مقايضة فيكون كل
واحد منهما ثمنا ومبيعا ولكن رجحنا في الخمر جهة الثمنية ترجيحا لجانب
الفساد على البطلان صونا لتصرف العاقل على البطلان بقدر الإمكان.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الإجماع ينعقد على أن هذا الييع منهي عنه فيكون
باطلا وأيضا أجمعنا على أنه لو قال: اشتريت هذا الخنزير بهذا الثوب يكون
البيع باطلا فكذا لو قال: اشتريت هذا الثوب بهذا الخنزير أيضا يكون باطلا
إذ لا تفاوت بين العقدين.
الجواب عنه: أن النهي عن الأفعال الشرعية لا يقتضي البطلان بل يقتضي أن
يكون مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه كما عرف في أصول الفقه وقد عملنا بموجب
النهي وقلنا بأن هذا البيع فاسد والنهي لا يقتضي البطلان فإن البيع وقت
النداء يوم الجمعة منهي عنه ومع ذلك يفيد الملك بالإجماع لكون النهي لمعنى
في غيره بخلاف النهي عن بيع الحر والخمر والخنزير بالدراهم وعن بيع
المضامين والملاقيح إذ النهي في هذه الأشياء مستعار عن النفي لعدم محلية
الحر وأخواته للبيع وما ذكره من الإجماع في الدليل ممنوع لما ذكرنا أن
البيع في الصورتين فاسد عندنا لا باطل.
مسألة: تصرفات الفضولي موقوفة عند أبي حنيفة رضي الله عنه على الاجازة وعند
الشافعي رحمه الله: باطلة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه الترمذي عن حكيم بن حزام أن
(1/85)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري
له أضحية بدينار فاشترى أضحية فربح بها دينارا ثم اشترى مكانه أخرى فجاء
بالأضحية والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحى بالشاة وتصدق
بالدينار وعن عروة البارقي قال: دفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم
دينارا لأشتري له شاة فاشتريت له شاتين فبعت إحداهما بدينار وجئت بالشاة
الأخرى والدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ما كان من أمره فقال
له: "بارك الله لك في صفقتك" فأجاز ما فعله ودعا له بالبركة وهو فضولي في
بيع الشاة الأول: ى لأنه اشتراها بالوكالة بمال الموكل فيكون ملك موكله فإن
قيل يجوز أن يكون وكيلا مطلقا لا فضوليا قلنا لم يوكله إلا في شراء أضحية
أو شاة فلا يكون وكيلا مطلقا وإنما تصدق بالدينار لأن قصده أن يصرف الأضحية
إلى الفقراء وهذا الدينار مستفاد منها فكره إمساكه ولأن تصرف الفضولي صدر
من أهله في محله ولا ضرر في انعقاده فينعقد
موقوفا حتى إذا رأى المالك فيه مصلحة أنفذه وإلا أبطله.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تبع ما ليس عندك"
فعلم أن بيع ملك الغير لا يجوز.
الجواب عنه: أن المراد بالنهي بيع المعدوم أو البيع البات ونحن نقول
بموجبه.
مسألة: إذا اشترى الكافر عبدا مسلما يجوز شراؤه عند أبي حنيفة رضي الله عنه
ويجبر على البيع من مسلم أو العتق وعند الشافعي رحمه الله لا يصح.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: العمومات وهي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ} 1 وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 2
ولأن الركن في التصرف صدر عن أهله في محله عن ولاية شرعية فيصح ويترتب عليه
حكمه
__________
1سورة البقرة: الآية 275
2سورة النساء: الآية 29
(1/86)
أما الركن فظاهر وأما المحل فلأن العبد
المسلم محل لملك الكافر كما لو أسلم وهو عبد الكافر أو ورثه الكافر وأما
الولاية فلأن الكافر مالك على التصرفات كلها ولكن يجبر على إزالة ملكه عنه
دفعا لضرر استخدام الكافر إياه والذل في الانتفاع لا بمجرد النسبة مع المنع
من الانتفاع بالبيع.
حجة الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 1 فلو جاز الشراء يكون للكافر عليه سبيل وهو منفي
بالنص.
الجواب عنه: أن هذا عام مخصوص وهو أنا أجمعنا أنه لو أسلم عبد الكافر لا
يزول عنه ملك الكافر مع بقاء الملك عليه وهذا سبيل عليه فيخص المتنازع
بالقياس عليه أو المراد بالسبيل الاستيلاء عليهم وقهرهم.
الثاني: أن العبودية ذلة والمالكية عزة فلو جاز كون المسلم عبدا للكافر
يلزم ذلة المسلم وعزة الكافر وذلك لا يجوز لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 2.
والجواب عنه: أن الذل إنما هو في الاستخدام ونحن لا نجوز ذلك بل نجبره على
إزالة ملكه عنه بالبيع رعاية لعزة الإسلام ولأن الرق أثر الكفر لأنهم لما
استنكف الكفار عن عبادة الله تعالى جعلهم عبيد عبيده سبحانه فثبوته باعتبار
أثر الكفر لا باعتبار أنه مسلم ولو كان النص يجري على عمومه لكان ينبغي أن
لا يرث المسلم أصلا لأن الرقيق ذليل حيث يباع في الأسواق كالبهائم والمسلم
عزيز فلا يجوز إرقاقه وكان ينبغي أن لا يبقي رقيقا للكافر إذا أسلم عبده.
الثالث: أن الإجماع منعقد على أن الكافر لا يجوز له التزوج بالمسلمة
__________
1سورة النساء: الآية 141
2سورة المنافقون: الآية 8
(1/87)
فلا يجوز أن يشتري المسلم لأن الذل الحاصل
بملك اليمين أقوى من الذل الحاصل بملك النكاح فإذا لم يشرع الأدنى فبالأول:
ى أن لا يشرع الأعلى.
والجواب عنه: أن القياس فاسد لأن اتحاد الحكم شرط لصحة القياس ولم يوجد لأن
الثابت هنا مجرد نسبة الملك إلى الكافر والثابت بالنكاح الملك والنسبة فكان
أضر ولأنه لا فائدة في القول بجواز النكاح تم جبره على الطلاق فيكون عبثا
فلا يشرع بخلاف الشراء فانه وسيلة إلى الربح بالبيع فيكون مشروعا لكونه من
باب الإكتساب وأما ما ذكره أن هناك نصا خاصا فممنوع فانه لم ينص فيه بحرمة
البيع.
مسألة: بيع الكلب المعلم والحارس جائز عند أبي حنيفة رضي الله عنه وغير
جائز عند الشافعي رحمه الله.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع
الكلب إلا كلب صيد أو ماشية" وروى الطحاوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين
درهما وعنه عن عطاء قال: لا بأس بثمن الكلب وهو قد روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أن ثمن الكلب من السحت وفتوى الراوي بخلاف الرواية دال على ثبوت
النسخ عنده وعنه عن ابن شهاب أنه قال: إذا قتل الكلب فإنه تقوم قيمته فيغرم
الذي قتله فهذا الزهري يقول هذا وقد روي أن ثمن الكلب من السحت فدل على
ثبوت النسخ وعن إبراهيم لا بأس بثمن كلب الصيد وروى عن مالك رحمه الله أنه
أجاز بيع الكلب الضاري والزرع والماشية وعن عثمان رضي الله عنه أنه أجاز
بيع الكلب الضاري في المهر وجعل على قاتله عشرين من الإبل ولأنه مال منتفع
به حراسة واصطيادا قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ
مُكَلِّبِينَ} 1 فيحوز بيعه قياسا على الفهد والبازي لجامع دفع الحاجة إذ
الاحتياج إليه حاصل وجريان
__________
1سورة المائدة: الآية 4
(1/88)
الشح على أنه لا يوجد إلا بعوض فتمس الحاجة
إلى تجويز بيعه.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ثمن الكلب خبيث" فيكون
حراما لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 1.
الجواب: أن هذا الحديث محمول على أنه كان ذلك في ابتداء الإسلام قلعا لهم
عن اقتناء الكلاب كما كانت عادتهم وبهذا أمر بقتل الكلاب وغسل الإناء من
ولوغها سبعا ثم نسخ ذلك حين تركوا الاقتناء لأن كلب الصيد مخصوص عنه
بالحديث الذي روينا فنخص غيره قياسا عليه.
مسألة: لا يجوز بيع لبن النساء في قدح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند
الشافعي رحمه الله يجوز.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه جزء لآدمي والآدمي بجميع أجزائه مكرم قال
الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} 2 فيصان عن الابتذال بالبيع
ولا فرق في ظاهر الرواية بين لبن الحرة والأمة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه
يجوز بيع لبن الأمة لأنه يجوز بيع نفسها فكذا بيع جزئها وجه الظاهر أن الرق
حل في نفسها دون اللبن لأن الرق يختص بمحل القوة وهو الحي ولا حياة في
اللبن.
حجة الشاقعي رحمه الله: أنه منتفع به فيجوز بيعه لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ} 3.
الجواب عنه: أنه ليس كل منتفع به يجوز بيعه فإن الجزء منتفع به ولا يجوز
بيعه بل محل البيع النفس دون جزء الآدمي.
مسألة: إذا عقل الصبي كون البيع سالبا للملك جالبا للربح فأذن
__________
1سورة الأعراف: الآية 157
2سورة الإسراء: الآية 70
3سورة البقرة: الآية 275.
(1/89)
له الولي في تصرف البيع والشراء نفذ تصرفه
عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لاينفذ.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} 1
الآية أي اختبروا عقولهم وجربوا أحوالهم ومعرفتهم قبل البلوغ حتى إذا
تبينتم منهم رشدا أي هداية في التصرفات دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير
عن حد البلوغ ففي هذا النص دليل ظاهر على اختبار أحوالهم في التصرفات ولا
يحصل ذلك إلا بجواز تصرفهم فدلت الآية على جواز تصرفهم بإذن الولي ليختبر
به النقصان لاحتمال الوقوع في الخسران ولأن التصرف المشروع صدر من أهله في
محله عن ولاية شرعية فوجب تنفيذه.
ثم اعلم أن تصرفات الصبي على ثلاثة أقسام ما هو نفع محض كقبول الهبة فهو
جائز منه وإن لم يأذن الولي وما هو ضرر محض كالطلاق فهو غير جائز منه وإن
أذن الولي وما هو متردد بين النفع والضرر كالبيع والشراء فهو جائز بإذن
الولي.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الصبي المأذون من جهة الولي إما أن يكون له عقل
كامل أولا فإن كان له عقل كامل فلا يكون للولي عليه ولاية لأنه إذا كان
كامل العقل فشفقته على ماله أكثر من شفقة وليه عليه وتصرفه في ماله أصلح من
تصرف غيره فينقطع عنه تصرف الولي فيجوز تصرفه فان لم يأذن له الولي وليس
كذلك بالإجماع وإن لم يكن له عقل كامل لا تصح تصرفاته لأنه حينئذ يكون
تصرفه سببا لفساد ماله وهو لا يجو.
الجواب عنه: أنه قد حصل له أصل العقل ولكن لا بكمال بل فيه قصور فينجبر
برأي الولي فلا بد من إذنه.
__________
1سورة النساء: الآية 2
(1/90)
مسألة: إذا اختلف المتبايعان في مقدار
الثمن بعد هلاك المبيع لم يتحالف المتبايعان عند أبي حنيفة رحمه الله
والقول قول المشتري وعند الشافعي رحمه الله يتحالفان ويفسخ البيع علي قيمة
الهلاك.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب التحالف عند
قيام السلعة حيث قال: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا"
وذلك التحالف والتراد فيه لا يمكن إلا بعد قيام المبيع فلا يجري التحالف
بعد هلاكه ثم البائع يدعي زيادة الثمن والمشتري ينكره والقول قول المنكر مع
اليمين لقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"
وكذا المشتري ينكر دعوى البائع فيتحالفان.
الجواب عنه: أن المشتري بعد قبض المبيع لا يدعي شيئا لأن المبيع سالم له
لكن بقي دعوى البائع في زيادة الثمن والمشتري ينكره فيكتفي بحلفه.
مسألة: أهل الخلاف يذكرون ثلاث مسائل في كتاب السلم.
الأولى قال: أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز بيع السلم في الحيوان ولا في
منقطع الجنس وقت العقد ولا يجوز إلا مؤجلا وقال: الشافعي رحمه الله يجوز
السلم في المسائل الثلاث.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه في الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
السلم في الحيوان ولأنه بعد ذكر الأوصاف يبقى فيه تفاوت فاحش في المعاني
الباطنية فيقضي إلى المنازعة فلا يجوز.
وفي الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: "لاتسلفوا في الثمار حتى يبدو
صلاحها" وجه التمسك به أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد به النهي عن بيعها
لأن ذلك الجواز فيه ثابت بشرط القطع فعرف أن المراد به النهي عن بيعها
سلما.
وفي الثالثة: قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "من أسلم في شيء فليسلم إلى
أجل معلوم" رواه الجماعة ولأنه شرع رخصة دفعا لحاجة
(1/91)
المفلس فلا بد من الأجل ليقدر على التحصيل.
حجة الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 1.
الجواب عنه: أن هذا العام مخصوص منه البعض بقوله تعالى: {وَحَرَّمَ
الرِّبا} فيجوز تخصيص المتنازع فيه بما ذكرنا من الدلائل.
الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 2.
الجواب عنه: قد خص منه البعض أيضا فانه لا يجوز الربا وإن وجد التراضي بين
المتعاقدين فيخص المتنازع فيه بما مر من دليلنا.
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال المسلم إلا بطيب من نفسه"
والجواب عنه: كما مر وأن الربا لا يحل وإن كان من طيب نفس المتعاقدين.
الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم رخص في المسلم وهذا يتناول جميع أنواع
السلم إما لعموم القضية أو لأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية
فيعم الحكم بعموم العلية.
والجواب: أن الألف واللام فيه للعهد دون الاستغراق والمعهود هو المعلوم
بقوله عليه أفضل الصلاة والسلام "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم
إلى أجل معلوم" فلا يصح التمسك بعمومه لعدم عمومه ولئن سلم أنه عام لكنه قد
خص منه ما لم يكن إلى أجل معلوم فيخص المتنازع بما ذكرناه من الدليل ولهذا
قال: الخصم إنما يصح السلم
__________
1 سورة البقرة: الآية 275
2 سورة النساء: الآية 29
(1/92)
بإيجاب وقبول ممن له البيع إلى أجل معلوم
فتضبط الصفة كثيرا لوجود موصوف مقدور التسليم عند الحلول بعوض مسلم في
المجلس فلما شرط هو هذه الشرائط مع أن الحديث عام ليس فيه هذه الشرائط جاز
لغيره أن يشترط شروطا أخرى بما عنده من الأدلة.
(1/93)
كتاب الرهن
مسألة: لا يجوز رهن المشاع عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه
الله يجوز.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 فهذا
النص يقتضي أن لا يكون الرهن إلا مقبوضا والمشاع لا يمكن قبضه فلا يكون
محلا للرهن.
حجة الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} 2 ورهن المشاع عقد فيجب الوفاء به ومن ضرورته صحة رهن
المشاع.
الجواب: أن الآية التي ذكرناها خاصة في باب الرهن وما ذكرتم من الاية عامة
وقد خص منها العقود الفاسدة فإنه لا يجب الوفاء فيها فيخص المتنازع بالدليل
المذكور.
الثاني: أن المقصود من الآيتين أنه إذا لم يؤد الراهن الدين يبيع المرتهن
الرهن ويستوفي دينه من ثمنه والمشاع يجوز بيعه فبقي بهذا المقصود فيجوز
رهنه.
والجواب: أن الاستيفاء بالبيع من أحكام جواز الرهن وهو مشروط بالقبض بالنص
الذي ذكرنا وهو لا يتصور في المشاع فيكون هذا التعليل في مقابلة النص فلا
يقبل.
مسألة: لا يجوز للراهن أن ينتفع بالرهن بالركوب والاستخدام وشرب
__________
1سورة البقرة: الآية 283
2سورة المائدة: الآية 1
(1/94)
اللبن بدون رضى المرتهن ويكون جميع الزوائد
رهنا مع الأصل عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله له
الانتفاع بالركوب وشرب اللبن.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 ولو
تمكن الراهن من الانتفاع بالرهن بدون رضى المرتهن لا يبقى مقبوضا إذا
الانتفاع لا يمكن إلا بالاسترداد منه وحكم الرهن الحبس الدائم بالدين.
حجة الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: أن منافع الرهن مال لأن الطبع يميل إليها ولا يجوز استيفاؤها لغير
الراهن بالإجماع فلو لم يمكن استيفاؤها للراهن كان ذلك إضاعة وذلك لا يجوز
لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
والجواب: إنما الرهن الذي هو عين كاللبن والتمر والصوف يمكن بقاؤه أو بقاء
قيمته فيكون رهنا مع الأصل فيأخذه الراهن بعد أداء الدين فلا يكون إضاعة
وما ليس بعين كالمنافع فيمكنه الانتفاع باذن المرتهن ولو لم يأذن له فهي
أعراض ليس لها بقاء فلا تكون من الأموال ولئن سلمنا أنها من الأموال لكن
الراهن رضي بتعطيلها حيث حبسه بالدين.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "الرهن مركوب محلوب وعلى من ركبه نفقته
له غنمه وعليه غرمه" والاستدلال به من وجوه:
الأول: أن الحديث دل على أن الرهن قد يكون مركوبا ومحلوبا وليس ذلك لغير
الراهن فتعين أن يكون ذلك للراهن.
الثاني: أنه قال: "على من ركبه نفقته" أثبت فيه جواز الركوب ولم يثبت لغير
الراهن فوجب ثبوته له.
__________
1سورة اليقرة: الآية 283
(1/95)
الثالث: قوله "له غنمه وعليه غرمه" هذا
الضمير لا يمكن رجوعه إليه.
والجواب عنه: أن هذا الحديث موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه ولو كان
مرفوعا فقد روى يحيى بن معين أن أبا هريرة رضي الله عنه أفتى بخلافه وذلك
يوجب قدحا في الرواية لأن عمل الراوي بخلافه دليل على نسخه إذ لا يجوز له
الخلاف ما لم يتبين له نسخه أو يحمل الحديث على أنه يجوز ذلك للمرتهن في
ابتداء الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل دين جر نفعا فهو
حرام" فلم يتعين كونه محلوبا ومركوبا لغير الراهن ولو سلم صحة الحديث وعدم
نسخه وأن المراد به الراهن لكنا نقول إنه خبر الواحد في مقابلة الآية وهو
قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 فلا يصح التمسك به إذ يحمل على أنه
يجوز له ذلك برضى المرتهن.
الثالث: أن الراهن يملك رقبة الرهن وملك الرقبة يكون سببا لجواز الانتفاع
فيجوز له ذلك.
الجواب عنه: أنه لما تعلق حق المرتهن استيفاء لدينه لا يجوز الانتفاع به
ولو اعتقه لنفذ عتقه عند أبي حنيفة رضي الله عنه ويؤخذ منه قيمته ويجعل
رهنا مكانه وعند الشافعي رحمه الله لا ينفذ عتقه.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عتق إلا فيما
يملكه ابن آدم" والاستثناء من النفي إثبات فوجب أن يجوز العتق فيما يكون
مملوكا للإنسان والرهن مملوك للراهن بالإجماع فيصح إعتاقه.
حجة الشافعي رحمه الله أن إعتاق الراهن يكون سببا لزوال حق المرتهن عن
الرهن وهو ضرر في حقه فلا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار
في الإسلام".
__________
1سورة البقرة: الآية 283
(1/96)
الجواب عنه: أن ضرر المرتهن يندفع بأخذ
الدين من الراهن إن كان الدين حالا أو يأخذ قيمته وجعلها رهنا مكانه إن كان
الدين مؤجلا وإن كان معسرا سعى العبد في قيمته وقضى به الدين فلا يتضرر
وأما القول بعدم العتق فأضرارها على العبد بحيث لا يندفع ضرره أصلا والذي
ذكرناه أولى.
مسألة: الرهن مضمون عند أبي حنيفة رضي الله عنه بأقل من قيمته ومن الدين
فإن هلك في يد المرتهن وكان قيمة الرهن والدين سواء كان المرتهن مستوفيا
لدينه حكما وإن كانت قيمة الرهن أكثر فالفضل أمانة وإن كانت أقل سقط من
الدين بقدره ورجع بالفضل وعند الشافعي رحمه الله الرهن كله أمانة إذا هلك
في يد المرتهن لا يسقط شيء من الدين.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه الطحاوي عن عطاء بن أبي رباح أن رجلا
ارتهن فرسا فمات الفرس في يد المرتهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"سقط حقك" وعنه أيضا أن الأئمة الثقات الفقهاء رفعوا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "الرهن بما فيه" وهو مروي عن عمر وعلي وعبد الله بن
مسعود وجماعة من الفقهاءالذين ينتهي إلى قولهم مثل سعيد بن المسيب وعروة بن
الزبير والقاسم بن محمد وأبي بكر بن عبد الرحمن وخالد بن زيد والحسن البصري
وشريح وعطاء رضي الله عنهم أجمعين.
حجة الشافعي رحمه الله: أنه لم يوجد في هذا الدين الإبراء ولا الاستيفاء
فلا يسقط أما أنه لم يوجد فيه الإبراء فظاهر وكذا لم يوجد فيه الاستيفاءلأن
هذا الرهن لو كانت جارية لم يحل للمرتهن وطؤها حال الحياة ولايجب عليه
تكفينها بعد الموت فإذا لم يوجد الإبراء ولا الاستيفاء وجب أن يبقى الدين
كما كان لأن الأصل في الثابت البقاء.
الجواب عنه: أن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء والرهن وثيقة لجانب الاستيفاء
فيثبت الاستيفاء ثبوت ملك اليد والحبس من وجه ويتقرر بالهلاك ولكن
الاستيفاء يقع بالمالكية وأما العين فأمانة ولهذا كانت نفقة
(1/97)
المرهون على الراهن في حياته وكفنه عليه
بعد مماته ولأن ما ذكرنا من الأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين لا يترك
بهذا التعليل.
مسألة: إذا خلل الخمر بإلقاء شيء فيها كالملح وغيره يحل ذلك الخل ويطهر عند
أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يحل ولا يطهر.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "نعم الإدام الخل"
مطلقا فيتناول خل الخمر بالتخليل وغيره وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير
خلكم خل خمركم" مطلقا فيتناول التخليل ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد
المحرم عن الخمر وهو الإسكار ويثبت الصفة النافعة له وهي تسكين الصفراء
وكسر الشهوة والتغذي به والإصلاح مباح وكذا الصالح النافع للمصالح اعتبارا
بالمخلل وبدباغة جلد الميتة.
حجة الشافعي رحمه الله من وجهين:
الأول: أن الله تعالى أمر باجتناب الخمر بقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} 1
وفي التخليل اقتراب من الخمر فيحرم.
الجواب عنه: أن الاقتراب المنهي عنه هو الاقتراب للشراء والبيع وغيرهما مما
فيه إعزازه وأما الاقتراب لإزالة الوصف المفسد منه فيجوز كالاقتراب للاراقة
والتخليل أولى من الإراقة لما فيه من إحراز مال يصير به حلالا منتفعا به.
الثاني: أن أبا طلحة رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تحليل
خمر اليتامى فأمره باراقتها فلو كان التخليل جائزا لأمره به في حق اليتامى
الجواب عنه: أن هذا محمول على أنه كان في ابتداء التحريم حين كان النبي صلى
الله عليه وسلم يبالغ في إزالة الخمر وإراقتها زجرا لهم وقلعا عن العادة
المألوفة بها
__________
1سورة الأنعام: الآية 153
(1/98)
كما أمر بقتل الكلاب وغسل الإناء عند
ولوغها سبعا وخمور الأيتام يومئذ كانت جائزة الإراقة لأنها ليست بمال في حق
المسلمين وكافل اليتيم إنما يجب عليه حفظ المال وارتكاب أمر جائز وإن كان
فيه مفسدة خاصة يجوز ارتكابها لمصلحة عامة كما إذا تترس الكفار بصبيان
المسلمين وأسراهم فأنا لا نلتفت إلى ذلك ولا نكف عن القتال.
مسألة: إذا اشترى رجل متاعا فأفلس ولا يقدر على أداء الثمن لا ينفسخ البيع
عند أبي حينفة رضي الله عنه بل البائع أسوة الغرماء فيه وعند الشافعي رحمه
الله فسخ البيع وأخذ المتاع.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات المشتري
مفلسا فوجد البائع متاعه بعينه فهو أسوة الغرماء" وقوله صلى الله عليه
وسلم: "أيما رجل باع سلعة فأدركها عند رجل قد أفلس فهو ماله بين غرمائه".
فان قيل في إسناده ابن عياش وهو ضعيف فيكون مرسلا قلنا قد وثقه أحمد وإن
كان مرسلا فهو حجة عندنا وقد احتج به الجصاص وأسنده.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "من وجد عين ماله عند رجل
قد أفلس فهو أحق به ممن سواه".
الجواب عنه: أن المراد به الوديعة والعارية وأمثالهما دون المبيع ولهذا
قال: من وجد عين ماله وهو الوديعة والعارية وأما المبيع فلم يبق بالبيع من
أمواله حقيقة وكان حمل الكلام على الحقيقة أولى.
مسألة: قال: أبو حنيفة رضي الله عنه لا يحجر على الحر البالغ السفيه وتصرفه
في ماله جائز وإن كان مبذرا لماله قال: الشافعي رحمه الله يحجر على السفيه
المضيع لماله ويمنع عن التصرف فيه.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ
(1/99)
الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} 1 الآية
قد أثبت للسفيه ولاية المداينة وما روي أن حبان بن منقذ كان يغبن في
البياعات فأتي أهله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبوا حجره فنهاه النبي
صلى الله عليه وسلم عن البيع فقال: يا رسول الله لا صبر لي عن البيع قال
عليه الصلاة والسلام: "إذا بعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام" فقد
أطلق في البيع ولم يحجره ولأنه حر مخاطب عاقل قد تصرف في خالص حقه فلا يححر
عليه لأن في سلب ولايته إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم وهو أشد ضررا من
التبذير فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى بخلاف ما لو كان في الحجر دفع ضرر
عام كالحجر على الطبيب الجاهل والمفتي الماجن والمكاري المفلس.
حجة الشافعي رحمه الله: أن السفيه يضيع ماله فيما لا فائدة فيه فيحجر عليه
نظرا له لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} 2.
الجواب عنه: أن جمهور المفسرين قالوا هذا خطاب لكل من يملك مالا أن يعطي
ماله لأحد من السفهاء قريب أو أجنبي رجل أو امرأة بعلمه أنه يضيعه فيما لا
ينبغي ولهذا قال: أموالكم والأصل في الكلام الحقيقة ولم يقل أموالهم وهو
محمول على أول البلوغ إلى حد يصير به جدا فهو خمس وعشرون سنة لأنه إذا بلغ
هذا الحد لابد له من حصول رشد بزوال أثر الصبا عنه.
مسألة: الصلح على الإنكار جائز عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر
وعلي وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله: باطل.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} 3
__________
1سورة البقرة: الآية 282.
2سورة النساء: الآية 128.
3سورة النساء: الآية 128.
(1/100)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل صلح جائز
فيما بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا" وما روى ابن عمر رضي
الله عنهما أنه قال: ردوا الخصوم كي يصطلحوا فإن فصل القضايا يورث بينكم
الضغائن وما روى أن أعرابيا جاء إلى عثمان رضي الله عنه فقال: إن بني عمك
عدوا على إبلي وقتلوا أولادها وأكلوا ألبانها فصالحه عثمان على إبل بمثل
إبله من غير نكير
حجة الشافعي رحمه الله: الحديث الذي روينا وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"كل صلح جائز إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما" وجه الاستدلال به أن المدعي
إذا كان كاذبا فقد أخذ حراما وإن كان صادقا فقد حرم هذا الصلح حلالا لأنه
ادعى الكل ثم أخذ البعض وحرم النصف الباقي
الجواب عنه: أن ترك الحق أو دفع المال جائز لدفع الخصومة عن نفسه وافتداء
اليمين وقد روي عن حذيفة بن اليمان أن رجلا ادعى عليه حقا فقال: خذ عشرة
ولا تحلفني فأبى فقال: خذ عشرين ولا تحلفني فأبى إلى أربعين وهذا صلح مع
إنكار فلو لم يجز لم يفعله الصحابي ولأن الأصل في الأموال مباحة والحرمة
لحق الغير فإذا رضى قد ارتفع المحرم فلا يكون في الصلح على الإنكار تحريم
الحلال ولا تحليل الحرام على أن المراد بالحديث أحل حراما لعينه كالخمر أو
حرم حلالا لعينه كالعسل والسكر وغيرهما ثم لو سلمنا الخبر فهو من الآحاد
فلم يترك به القرآن وهو قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .
مسألة: المحال عليه إذا مات مفلسا من غير قضاء الدين عاد الدين إلى ذمة
المحيل عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وعثمان وشريح رضي الله عنهم
وقال: الشافعي رحمه الله لا يعود.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لصاحب الحق اليد
واللسان" ودين المحال عليه كان على المحيل وإنما رضي بانتقاله إلى المحال
عليه بشرط سلامة حقه إليه إذ هو المقصود من الحوالة وإذا لم يسلم له فسخت
الحوالة فيرجع الدين إلى ذمة المديون ولأن عثمان رضي الله عنه
(1/101)
قضى بعود الدين إلى ذمة المحيل وسئل عمر
رضي الله عنه عن هذه المسألة فقال: يعود الدين إلى ذمة المحيل لا توى على
مال امرئ مسلم فقد روي ذلك مرفوعا ومثله عن شريح من غير نكير.
وحجة الشافعي رحمه الله: أن البراءة قد حصلت مطلقة بالحولة فإذا برئت الذمة
مرة فوجب أن لا تصير مشعولة مرة أخرى لأن الأصل في الأمر بقاؤه على ما كان.
الجواب عنه: أن البراءة كانت مقيدة بسلامة حقه لأن المقصود من الحوالة وصول
حق صاحب الدين إليه فإذا مات مفلسا لم يحصل مقصوده والحوالة قابلة للفسخ
فتنفسخ فصار كوصف السلامة في المبيع.
مسألة: إذا مات الرجل وهو مفلس فتكفل رجل عنه للغرماء لا يصح عند أبي حنيفة
رضي الله عنه في حق أحكام الدنيا فلا يطالب به ولا يحبس بل يكون متبرعا في
إسقاط دين الميت وعند الشافعي رحمه الله يصح فيطالب به في الدنيا.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة
والميت لم تبق له ذمة فلا يمكن الضم إليها ولأنه كفل بدين ساقط لأن الدين
هو القصد حقيقة ولهذا يوصف بالوجوب لكنه في الحكم مال لم يؤل إليه وقد عجز
الميت بنفسه وبخلفه ففاتت عاقبة الإستيفاء فيسقط ضرورة فإذا سقط لا تلزم
الكفالة عنه.
حجة الشافعي رحمه الله: ما روى أنه صلى الله عليه وسلم أتى بجنازة رجل من
الأنصار ليصلي عليه فقال: "هل على صاحبكم دين" قالوا نعم ديناران فقال:
أترك لهما وفاء قالوا لا قال: "صلوا على صاحبكم" فقال: أبو قتادة هما علي
يا رسول الله فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه.
الجواب عنه: يحتمل أن يكون أبو قتادة قال: ذلك وعدا بالتبرع بالأداء ولهذا
لما أدى قال له صلى الله عليه وسلم: "الآن بردت جلده" ولا نزاع في أحكام
الآخرة
(1/102)
فقد أمكن تصحيحه في حق أحكام الآخرة حتى لا
يبقى للغريم أن يطالبه بالدين في الاخرة وصححناه في حقها لأن الدين لا يسقط
بالموت في أحكام الآخرة والخلاف إنما هو في أحكام الدنيا ولا دلالة في
الحديث عليه فإن التبرع بأداء الدين جائز من غير أن يثبت عليه ولا كلام
فيه.
مسألة: الكفالة بنفس من عليه الدين تصح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول
عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وجرير بن عبد الله وأبي بن كعب وعمران بن
الحصين والأشعث بن قيس رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله لا تصح.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم" من
غير فصل بين النفس والمال وهذا يفيد مشروعية الكفالة ينوعيه إذ الزعيم هو
الكفيل وجاء في تأويل قوله تعالى: في سورة يوسف عليه السلام {لَنْ
أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ} 1 قال: ابن
عباس رضي الله عنهما موثقا أي كفيلا بنفس الأخ المبعوث منهم وقال: الله
تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 2 والكفالة بالنفس عقد فيجب الوفاء به وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم".
حجة الشافعي رحمه الله: أن الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص باطلة فكذا في
الأموال والجامع أن إحضار الشخص لا قدرة له عليه.
الجواب عنه: أنه يقدر علي تسليمه بطريقة أن يعلم الطالب مكانه فيخلي بينه
وبينه أو يستعين بأعوان القاضي والحاجة ماسة إليه فلا مانع من الجواز على
أنه تصح الكفالة بنفس من عليه الحد فلا يجوز القياس عليه وإن لم يصح بنفس
الحد ولو سلم القياس فهو مردود بمقابلة ما ذكرنا من القرآن والحديث وأفعال
الصحابة رضي الله عنهم والله أعلم.
__________
1سورة يوسف: الاية 66.
2سورة المائدة: الاية 1.
(1/103)
|