الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة

كتاب الشفعة
مسألة: الشفعة تستحق بالجوار عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله: لا شفعة بالجوار.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما رواه البخاري ومسلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بصقبه" ويروى بسقبه بالسين ومعناهما واحد وهو القرب وروي هذا التفسير مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قيل يا رسول الله ما سقبته قال: "شفعته" وقوله صلى الله عليه وسلم: "جار الدار أحق بالدار" ينتظر له إن كان غائبا غائبا إذا كان طريقهما واحدا رواه الترمدي وفي مسند أحمد رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جار الدار أحق بالدار من غيره" ولأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على استحقاق الشفعة بالجوار حتى قال علي وابن مسعود رضي الله عنهما: أنه قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة بالجوار وكتب عمر رضي الله عنه إلى شريح أن يقضي بالشفعة للجار الملازق.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لا يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة".
الجواب عنه: أن المراد به فلا شفعة لسبب الشركة في نفس المبيع أو حقه إذ المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم" يعني الشفعة لسبب الشركة في المبيع أو حقه فلا يلزم منه نفي الشفعة بالجوار.
مسألة: الشفعة بين الشركاء على عدد رؤوسهم وإن اختلفت أملاكهم عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله على قدر الأنصباء.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو الاتصال فيستوون في الاستحقاق ألا ترى أنه لو انفرد واحد منهم استحق كمال الشفعة وهذا آية كمال السبب.

(1/114)


حجة الشافعي رحمه الله: أن الشفعة من مرافق الملك فيكون على قدر الأملاك كالربح والغلة والثمرة.
الجواب عنه: أن الشفعة تملك ملك غير فلا يجعل من ثمرات ملكه بخلاف الربح والغلة والثمرة فإنها نماء الملك فيكون بعدد الملك.

(1/115)


كتاب الإجارة
مسألة: الإجارة لا تستحق بنفس العقد بل بشرط التعجيل أو بالتعجيل من غير شرط أو باستيفاء المعقود عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي يملك في الحال بنفس العقد.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن المبدل منافع الدار شهرا أو سنة وتلك المنافع لم تدخل في ملك المستأجر في الحال فوجب أن لا يخرج البدل عن ملكه في الحال وحاصله أن العقد ينعقد شيئا فشيئا على سبب حدوث المنافع والإجارة عقد معاوضة ومن قضيتها المساواة فمن ضرورة التراخي في جانب المنفعة التراخي في جانب البدل الآخر وإذا استوفى المنفعة ثبت الملك في الآخر لتحقيق التسوية وكذا إذا شرط التعجيل أو عجل لأن المساواة ثبتت حقا له وهو أبطله.
حجة الشافعي رحمه الله: أن المنافع المعدومة صارت موجودة حكما ضرورة تصحيح العقد فيجب الحكم فيما يقابله من البدل بنفس العقد.
الجواب عنه: أن الثابت بالضرورة يتقدر بقدرها والضرورة متحققة بجعله موجودا لتصحيح العقد ولا ضرورة في حق وجوب مقابله في الحال على أن الدار أقيمت مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها فلا ضرورة في جعل المنافع موجودة حكما.
مسألة: وما تلف بعمد الأجير المشترك كتخريق الثوب من دقه وغرق السفينة من مده مضمون عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا ضمان عليه.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن خرق الثوب ضرر حاصل بفعله فيلزمه الضمان والداخل تحت الإذن ما هو الداخل تحت العقد وهو العمل الصالح لأنه هو الوسيلة إلى الأثر دون العمل المقيد.

(1/116)


حجة الشافعي رحمه الله: أن القصار لم يقصر في العمل والنقصان ليس من قبله إذ لا قدرة له في ذلك والأمر بالفعل كان مطلقا فينتظمه بنوعية المعيب والسليم كالأجير الواحد ومعين القصار.
الجواب عنه: أن المعين متبرع فلا يمكن تقييده بالصالح والأجير الواحد صارت منافعه مملكة للمستأجر بنفس تسليم النفس فإذا أجره بالتصرف في ملكه صح ويصير نائبا منابه فصار فعله منقولا إليه فكأنه فعل بنفسه فلهذا لا يضمنه.
مسألة: لا تجوز إجارة المشاع عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا من الشريك وقال: الشافعي رحمه الله إجارة المشاع جائزة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن شرط جواز الإجارة أن يكون الأجر مقابلا للتسليم وتسليم المشاع وحده لا يتصور فلا تجوز إجارته.
حجة الشافعي رحمه الله: لو أجر داره لرجلين جاز بالاتفاق مع أنه في الحقيقة أجر لكل واحد منهما النصف فعلم أن إجارة المشاع جائزة وتسليم المشاع صحيح بطريقة وهو المهايأة بأن يسكن هذا يوما وذاك يوما.
الجواب عنه: أن التسليم إلى رجلين يقع جملة ثم الشيوع بتفرق الملك فيما بينهما طارئ فلا يمنع الجواز وأما المهايأة فإنما تستحق حكما للعقد بواسطة الملك وحكم الشيء يعقبه والقدرة على التسليم شرط العقد وشرط الشيء يسبقه فبينهما منافاة.
مسألة: لا يجوز الاستئجار على الطاعات كالحج وغيره عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله في كل طاعة لا تتعين على الأجير.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه الترمذي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: إن آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا" وما رواه الطحاوي عن عبد الرحمن الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤا القرآن

(1/117)


ولاتأكلوا به" وما رواه ابن ماجة عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: علمت رجلا القرآن فأهدى لي قوسا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو أخذتها أخذت قوسا من نار" فرددتها.
حجة الشافعي رحمه الله ما روي أن نفرا من الصحابة رضي الله عنهم نزلوا على حي من أحياء العرب وكان سيدهم لدينا فسألوهم هل فيكم الراقي فرقى رجل من الصحابة بالفاتحة وشرط عليه قطيعا من الغنم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: "مايدريك أنها رقية خذوها واضربوا لي بسهم" وقال: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله".
الجواب عنه: من وجوه:
أحدهما أن القوم كانوا من أهل الحرب فجاز أخذ أموالهم بأي طريق كان.
والثاني: أن حق الضيف كان لازما ولم يضيفوهم وكان الأخذ من الضيافة.
الثالث: أن الرقية ليست بقربة محضة فجاز أخذ الأجرة عليها على أن المتأخرين من مشايخنا جوزو أخذ الأجرة على تعليم القرآن والله أعلم.

(1/118)


كتاب المأذون
مسألة: المولى إذا أذن للعبد في نوع من التجارة فهو مأذون في الجميع عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يصير مأذونا له إلا في ذلك النوع.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه
أن الإذن في الشرع فك الحجر والعبد بعد ذلك يتصرف بنفسه لأهليته لأنه بعد الرق بقي أهلا بلسانه الناطق وعقله المميز والحجر عن التصرف حق المولى فإذا أسقط المولي حقه وفك الحجر فعند ذلك يظهر مالكية العبد فلا يتخصص بنوع دون نوع كالمكاتب.
حجة الشافعي رضي الله عنه: أن الإذن من المولى توكيل وإنابة لا يستفيد الولاية إلا من جهة المولى ولهذا يملك حجره فيتخصص بما خصه لاحتمال أن يكون له بصيرة في نوع دون آخر كالمضارب.
الجواب عنه: أن تصرف الوكيل واقع لموكله حتى لا يكون له قضاء دينه من ذلك المال وحكم التصرف في المأذون وهو المالك له حتى كان له أن يصرفه إلى قضاء الدين والنفقة وما استغنى عنه فخلفه المولى فيه فافترقا وزوال الحجر غير متجزئ فإذا زال بالنسبة إلى شيء يزول مطلقا وحاصله أن التوكيل نيابة فلا تعم الوكالة إذا خصصها الموكل والإذن فك الحجر دون الإنابة فيعم.
مسألة: إذا رأى المولى عبده يبيع ويشتري فسكت ولم يمنعه عن ذلك يصير مأذونا في التجارة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يصير مأذونا بذلك.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن كل من رآه يظنه مأذونا فيعاقده فيتضرر به لو لم يكن مأذونا له ولو لم يكن المولى راضيا به لمنعه دفعا للضرر عن المسلمين والغرر فصار كسكوت الشفيع عند بيع الدار المشفوعة عن

(1/119)


طلب الشفعة فإنه دليل الرضى فتبطل شفعته دفعا للغرر فكذا هنا.
حجة الشافعي رحمه الله: يحتمل أن يكون الرضى ويحتمل أن يكون السخط ويحتمل أن يكون للتوقف والحياء فلا يثبت الإذن بالشك.
الجواب عنه: أن ترجيح جانب الرضى على غيره بالعرف دفعا للضرر عن المسلمين كما ذكرنا.
مسألة: ديون العبد المأذون إذا كانت واجبة بالتجارة تتعلق برقبته فيباع فيها للغرماء عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يباع.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن كون هذا للدين ظاهر في حق المولى بدليل أن العبد يطالب به في الحال فيتعلق برقبته استيفاء لدين الاستهلاك والجامع دفع الضرر عن الناس والمولى قد رضي بذلك حين أذن له في التجارة.
حجة الشافعي رحمه الله: أن رقبة العبد كانت مملوكة للمولى والأصل في الثابت بقاؤه فوجب الحكم ببقائها على ملك المالك فلا يجوز بيعها بدون إذن المالك كما في سائر الأملاك.
الجواب عنه: أن سبب الدين وهو التجارة داخلة تحت الإذن وتعلق الدين برقبته استيفاء حامل على المعاملة فمن هذا الوجه صلح غرضا للمولى فيكون راضيا به فجاز بيعه بخلاف سائر الأملاك فإنه لا يجوز بيعها بدون رضاه.

(1/120)


كتاب الهبة
مسألة: إذا وهب الرجل هبة لأجنبي بلا عوض فقبض وتسلم فله الرجوع عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم.
وقال: الشافعي رحمه الله: لا رجوع فيها.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله عليه الصلاة والسلام: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب عليها" أي ما لم يعوض عنها وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت الهبة لذوي رحم محرم لم يرجع فيها ولو كانت لأجنبي فله الرجوع" وروى الطحاوي عن الأسود عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "من وهب هبة لذوي رحم محرم جازت ومن وهب هبة لغير ذوي رحم محرم فهو أحق بها ما لم يثب" وهكذا نقل عن علي رضي الله عنه.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرجع الواهب في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده" وقوله صلى الله عليه وسلم: " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه".
الجواب عنه: أن المراد بالحديث الأول: نفي الرجوع على سبيل الاستقلال ونحن نقول بموجبه فانه لا يصح الرجوع عندنا إلا بالتراضي أو بقضاء القاضي إلا الوالد فإن له حق التملك في مال ولده عند الحاجة من غير رضى الولد ويسمى ذلك رجوعا نظرا إلى الظاهر أو المراد به الكراهة وهي ثابتة عندنا ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالكلب العائد في قيئه لاستقباحه في المرؤة إذ فعل الكلب لا يوصف بالصحة والفساد وإنما يوصف بالقبح طبعا وعادة لاستقذاره فلا يدل على عدم الجواز في الحكم.
مسألة: لا يجوز هبة المشاع فيما يقسم عند أبي حنيفة رضي الله عنه

(1/121)


ولا يفيد الملك قبل القسمة وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله يجوز.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تصح الهبة إلا محوزة مقسومة مقبوضة" ولأن القبض شرط في الهبة والمشاع لا يقبل القبض إلا بضم غيره وذلك غير موهوب ولأن في تجويزه إلزامه شيئا لم يلتزمه وهو القسمة ولهذا امتنع جوازه قبل القبض لئلا يلزم التسليم.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه" والاستثناء من النفي إثبات ولأن المشاع قابل للقبض بطريقه وهو المهايأة والمناوبة.
الجواب عنه: أن دليلنا صريح ودليلكم غير صريح فيترجح على دليلكم والمهايأة تلزم فيما لم يتبرع به وهو المنفعة والهبة لاقت العين.
__________
1سورة المائدة: الآية 1.

(1/122)


كتاب الوديعة
مسألة: إذا أودع إنسان شيئا عند صبي فأتلفه فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال الشافعي رحمه الله: عليه ضمان.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه
قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ...." ولأنه بالإيداع عند الصبي سلطه على ماله والظاهر من حاله الإتلاف لقصور عقله فيكون عن رضاه فلا يجب الضمان.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الإتلاف لو كان قبل الإيداع وجب عليه الضمان فكذا بعد الإيداع لأن قول المودع أحفظ هذا المال لو لم يكن مانعا من الإتلاف لا يكون أقل من عدم الرضى به فيضمن.
الجواب عنه: بالفرق وهو أنه قبل الإيداع غير مسلط على الإتلاف من جهته وبعده مسلط عليه فافترقا.
مسألة: إذا سافر المودع بالوديعة فتلفت لايضمنها عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا إذا كان الطريق مخوفا أو كان المالك نهاه عن المسافرة بها أما إذا لم ينهه عن ذلك ولم تكن المخاطرة في الطريق ظاهرة لم يضمن وقال: الشافعي رحمه الله يضمنها مطلقا.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن المودع أتى ما أمره المالك به فلا يجب عليه الضمان لأنه أمره بالحفظ مطلقا وعند المسافرة لا يمكنه حفظها إلا بالمسافرة بها إذ لا يمكنه أن يودع عند آخر وكان مأذونا له فيها والمفازة محل للحفظ إذا كان الطريق آمنا ولهذا يملكه الأب والوصي في مال الصبي.
حجة الشافعي رحمه الله: مأمور المودع مأمور بحفظ كامل والسفر ليس فيه حفظ كامل فلا يكون مأذونا فيه فيجب عليه الضمان بالسفر.
الجواب عنه: أنه يمنع أن السفر ليس فيه حفظ كامل لأنه ربما لا يجد في

(1/123)


البلد من يعتمد عليه في الحفظ وهو مضطر إلى السفر وكان المالك عالما بذلك عادة فيكون مأذونا دلالة فلا يضمن.
مسألة: المودع إذا خالف وتعدى في الوديعة بأن كانت دابة فركبها أو ثوبا فلبسه ثم أزال التعدي وعاد إلى الوفاق لا يلزمه الضمان بالهلاك عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله: يضمن.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الأمر بالحفظ باق بعد الخلاف لأنه مطلق عن الوقت غير موقت فيكون باقيا فإذا عاد إلى الوفاق يكون آتيا بما أمره به المودع من الحفظ في جميع الأزمان فلا يلزمه الضمان.
حجة الشافعي رحمه الله: وقت الخيانة لزمه الضمان والأصل في الثابت البقاء فوجب أن يبقى ذلك الوجوب بعد العود إلى الوفاق.
الجواب عنه: أن الموجب للضمان هو الخيانة وقد زالت بالعود إلى الوفاق فيزول الضمان ولأنا نعارضه بالمثل وهو أن الضمان لم يكن واجبا قبل الخيانة والأصل في الثابت بقاؤه فبقي على ما كان من عدم لزوم الضمان.
مسألة: إسلام الصبي العاقل صحيح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله: لا يصح.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن عليا رضي الله عنه أسلم وهو ابن ثمان سنين وروى الخلال وهو ابن عشر سنين وقد صحح النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه وافتخر علي رضي الله عنه بذلك وتمدح به حيث قال:
سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيرا ما بلغت أوان حلمي
فلو لم يكن إيمانه صحيحا لما افتخر به النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أتى بحقيقة الإيمان وهو التصديق والإقرار والحقائق لا يمكن ردها خصوصا الإيمان الذي لا يمكن الرد وقد جوزنا منه ما هو نفع محض كقبول الهبة فلأن يجوز

(1/124)


ما فيه سعادة أبدية ونجاة عقباوية سرمدية فهي من أجل المنافع وعاجله أولى
حجة الشافعي رحمه الله: لوكان الإيمان صحيحا من الصبي لكان واجبا عليه ولو كان واجبا عليه لما جوز الشرع تركه إذ ترك إسلام من وجب عليه كفر والشارع لم يجز له التقرير على الكفر فعلم أن إسلام الصبي لا يصح وقد قيل إن عليا رضي الله عنه كان وقت إسلامه بالغا ابن خمس عشرة سنة.
الجواب عنه: أنه لا نسلم أنه يلزم من الجواز الوجوب فإن أردتم أنه لا يجب عليه بمعنى أنه لا يأثم بتركه ولا يجب عليه الإيمان فمسلم ولكن لا يلزمه منه عدم الجواز والقبول إذا أتى به فإن المسافر إذا صام من رمضان يقع عن الفرض مع أنه لا يجب إتيانه في الحال ولا يأثم بتركه وإن ادعيت أنه لا وجوب عليه أصلا فهو ممنوع على ما اختاره الشيخ أبو منصور رحمه الله ونقله مذهبا لأهل السنة والجماعة وقد صح أن أول من أسلم من الصبيان علي رضي الله عنه فلا يصح دعوى أنه أسلم بعد البلوغ.

(1/125)