الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة

كتاب الوكالة
مسألة: الوكيل بالبيع يجوز بيعه بالقليل والكثير عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز بنقصان فاحش وهو قول صاحبيه رحمهما الله.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن التوكيل بالبيع مطلق فيجري على إطلاقه في غير موضع التهمة والبيع بالغبن بيع ربما يرغب فيه عند سآمة المالك عن السلعة واحتياجه إلي الثمن فيدخل تحت التوكيل.
حجة الشافعي رحمه الله: أن البيع بالغبن ضرر والظاهر أن الموكل لا يرضى بذلك فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" على أن مطلق الأمر يتقيد بالمتعارف وهو البيع بمثل القيمة فلا يدخل البيع بالغين تحت مطلق التوكيل لأنه غير متعارف ولهذا لو وكله بشراء الجمد فإن يتقيد بزمان الحاجة إليه أو وكله بشراء الفحم فإنه يتقيد بزمان الشتاء.
الجواب عنه: أن البيع بالغبن متعارف عند شدة الحاجة إلى الثمن والتبرم من الغبن كما ذكرنا ومسألة: التوكيل بشراء الجمد والفحم وتقييدهما بزمان الحاجة ممنوع على قول أبي حنيفة رضي الله عنه والموكل قد رضي برأي الوكيل حيث أطلق له الوكالة بالبيع فلو كان غرضه التقييد لما أطلقه.
مسألة: الوكيل بالخصومة لو أقر على موكله في مجلس القاضي جاز إقراره عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز إقراره عليه.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} 1 فالظاهر من حال المسلم أن يوكله بالخصومة بمعني المنازعة
__________
1سورة الأنفال: الآية 46

(1/104)


والإنكار والمنازعة عند ظهور الحق لكونه مهجورا شرعا لجواز أن لا يكون الإنكار والمنازعة عند ظهور الحق مملوكا له والتمليك ربما لا يملكه الإنسان حرام فيحمل على الجواب الحق إقرارا كان أو إنكارا بطريق إطلاق السبب على المسبب فالجواب الحق قد يكون عنده الإقرار فلا يحل له الإنكار فجاز إقراره كما جاز إنكاره إذا كان محقا فيه فيملك مطلق الجواب دون الإنكار بعينه.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الوكيل مأمور بالخصومة وهي منازعة فالإقرار ضده لأنه مسالمة والأمر بالشيء لا يتناول ضده فصار كما لو وكله في باب الحدود والقصاص فإنه لا يملك الإقرار فيه فكذا في غيره.
والجواب عنه: ما مر من أن الخصومة مهجورة شرعا فلا يجوز التوكيل به فيراد به مطلق الجواب ولا يكون الإقرار ضدا له وأما في الحدود والقصاص فإن كان الموكل هو المدعي فأقر عليه وكيله بما يسقط الحد نفذ إقراره عليه وإن كان الموكل هو المدعى عليه فقد قام المانع من تنفيذ إقرار الوكيل عليه وهو الشبهة المتمكنة فيه والحدود تندرئ بالشبهات.
مسألة: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا برضى الخصم إلا أن يكون الموكل مريضا أو غائبا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا وقال الشافعي رحمه الل: يجوز التوكيل من غير رضى الخصم.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الجواب مستحق على الخصم ولهذا يكلف بالحضور عند القاضي للجواب والناس متفاوتون في الخصومة قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم لتخصمون لدي لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض" فيمكن أن يلحقه الضرر بدعوى الوكيل لكونه عالما بالحيل والتزوير فيتوقف على رضاه.
حجة الشافعي رحمه الله: أنه يجوز ذلك في حق المريض والمرأة المخدرة مطلقا فكذا في غيرهما
والجامع التوسل به إلى تحصيل المقصود.

(1/105)


الجواب عنه: أن الجواب غير مستحق على المريض والمسافر ولأن فيهما من الضرورة ما لا يخفى وكذا في المرأة المخدرة لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق بحق لحيائها فيلزم توكيلها.

(1/106)


كتاب الاقرار
مسألة: إذا أقر الرجل في مرض موته بديون وعليه دين في صحته أو بديون لزمته في مرضه بأسباب معلومة فديون الصحة المعروفة الأسباب تقدم على الديون التي لزمته في المرض بإقراره عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله دين الصحة ودين المرض يستويان.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الحقوق إذا احتمعت في مال الميت يقدم الأقوى كالتجهيز يقدم على الدين والوصية والميراث ودين الصحة أقوى لأنه ظهر بإقراره في وقت لم يتعلق بماله حق أصلا ولم يرد عليه نوع حجر ولهذا صح إعتاقه وهبته من جميع المال وفي المرض ورد عليه نوع حجر ولهذا لا ينفذ تصرفه إلا في الثلث فكان الأقوى أولى.
حجة الشافعي رحمه الله: أن إقرار المريض في مرض الموت أقرب إلى الصدق لأنه آخر عهده من الدنيا وأول عهده من الآخرة فيكون خوفه أكثر ويكون أبعد من الكذب فإذا لم يكن الإقرار في حالة المرض أولى فلا أقل من أن يكون مساويا.
الجواب عنه: أن الإقرار لا يعتبر دليلا إذا كان فيه إبطال حق الغير وفي إقرار المريض ذلك لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء ولهذا منع من التبرع إلا بقدر الثلث وفي حالة الصحة لم يتعلق حقهم بالمال لقدرته على الاكتساب فافترق حال الصحة والمرض.
مسألة: إذا أقر المريض لوارثه بالعين أو لدين لا يصح إلا أن يصدقه بقية الورثة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله يصح.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث ولا إقرار له بالدين" ولأنه تعلق حق الورثة بماله في مرضه ولهذا يمنع من التبرع على الوارث أصلا وفي تخصيص البعض به إبطال حق الباقين

(1/107)


بخلاف الإقرار به للأجنبي لأنه غير متهم فيه.
حجة الشافعي رحمه الله: أن دلالة الإقرار على الصدق في مرض الموت أكثر من دلالته عليه في الصحة فإذا صح الإقرار في حالة الصحة ففي حال المرض أولى.
الجواب عنه: بالفرق بين الحالين في عدم تعلق حق الغير بماله في حال الصحة وتعلقه في حالة المرض.
مسألة: العارية أمانة إن هلكت من غير تعد لا يضمن عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو مروي عن علي وابن مسعود وشريح والحسن وإبراهيم النخعي والثوري رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله يضمن.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس على المستعير غير المغل ضمان" المغل الخائن فإذا لم يخن لم يضمن
حجة الشافعي رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: "على اليد ما أخذت حتى ترد" وبعد الهلاك يتعذر الرد صورة فيلزمه الرد معنى بلزوم الضمان.
الجواب عنه: أن المراد منه الأخذ بغير إذن المالك غصبا ولهذا لو أخذ على سبيل الوديعة لا يجب عليه الضمان بالهلاك بالإجماع فعلم أن المراد منه الأخذ غصبا دون الأخذ عارية.

(1/108)


كتاب الغصب
مسألة: لو غصب رجل عبدا من آخر فأبق العبد فضمنه المالك قيمته ملكه الغاصب عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يملكه.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن المالك ملك ببدل العبد والبدل قابل للنقل من ملك إلى ملك فيملكه الغاصب دفعا للضرر عنه كي لا يجتمع البدل والمبدل عنه في ملك رجل واحد وهو المالك.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الغصب عدوان محض فلا يصلح سببا لذلك كمال المدبر.
الجواب عنه: أن أداء الضمان مشروع يصلح سببا للملك بخلاف المدبرلأنه غير قابل للنقل من ملك إلى ملك فافترقا.
مسألة: لو قطع رجل يدي عبد إنسان أو فقأ عينيه فالولي بالخيار إن شاء دفع عبده إلى الجاني وأخذ قيمته وإن شاء أمسكه ولا شيء له في النقصان عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله يضمنه كل القيمة ويمسك الجثة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه
أن مالك العبد ملك بدله بتمامه فوجب أن يخرج العبد من ملكه وإلا لزم الجمع بين البدل والمبدل عنه وهو محال.
حجة الشافعي رحمه الله: أن العبد كان في ملك مالكه والأصل في كل شيء بقاؤه على ما كان والضمان بمقابلة الدين فيبقى العبد في ملك مالكه الأول.
الجواب عنه: أن العبد فيه معنى المالية ومعنى الآدمية فوقعنا على الشبيهين منهما فبالنظر إلى الآدمية يجب الضمان بإداء الغائب لا غير كما في

(1/109)


الحر وبالنظر إلى المالية ليس له أن يأخذ كل بدل العين مع إمساك الجثة كما ليس له ذلك في المال بأن خرق ثوب إنسان خرقا فاحشا فإنه يأخذ القيمة ويدفع الثوب إلى الخارق وليس له أن يمسك الثوب ويأخذ القيمة بالتمام.
مسألة: ثمرة البستان المغصوب أمانة في يد الغاصب إذا هلكت لا ضمان عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا أن يتعدى فيها أو يطلبها مالكها فيمنعها وقال: الشافعي رحمه الله مضمونة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن سبب الضمان الغصب وهو عبارة عن إزالة اليد المحقة وإثبات اليد المبطلة ويد المالك لم تكن ثابتة على الزيادة حتى يزيلها الغاصب.
حجة الشافعي رحمه الله: أن المقصود من ذلك البستان الثمرة فيكون غصبه غصبا للثمرة والمغصوب مضمون لا محالة.
الجواب عنه: أنه لا نسلم أن غصب البستان غصب الثمرة إذ البستان موجود والثمرة معدومة لا يتصور الغصب في المعدوم.
مسألة: لا يضمن الغاصب منافع ما غصبه إلا أن ينقص باستعماله فيغرم النقصان عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يضمنها.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: إجماع الصحابة رضي الله عنهم أنهم حكموا في ولد المغرور بالقيمة والعقر ولم يحكموا بضمان المتعة ولو كان الضمان واجبا لحكموا به وروي أن رجلا استحق ناقة فقضى له النبي صلى الله عليه وسلم بها ولم ينقل أنه قضى بوجوب الأجر ولأن المنافع لا يمكن غصبها وإتلافها لأنه لا بقاء لها.
حجة الشافعي رحمه الله: أن المنافع أموال متقومة حتى تضمن بالنقود وكذا بالغصوب لأن الغاصب منع المالك من الانتفاع فيضمن بقدر ما منعه من الانتفاع لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ

(1/110)


مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 1.
الجواب عنه: أنه يمنع كون المنافع أموالا وإنما تتقوم في ضمن العقد بالتراضي لقيام العين مقامها كما عرف في موضعه والنص يقتضي أن يكون الضمان بالمثل ولا يمكن المماثلة بين الأعيان والمنافع لأن المنافع أعراض لا بقاء لها والأعيان باقية فلا مماثلة بينهما فلا يمكن إيجاب العين بمقابلة المنفعة.
مسألة: إذا غصب رجل حنطة من آخر فطحنها زال ملك المالك عنها وملكها الغاصب وضمن مثل تلك الحنطة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لاينقطع حق المالك.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الغاصب أحدث صنعة متقومة صيرت حق المالك بها هالكا من وجه ولهذا تبدل الاسم وفات معظم المقاصد وحقه في الصنعة قائم من كل وجه فيترجح على الأصل الذي هو فائت من وجه.
حجة الشافعي رحمه الله: أن العين باقية فتبقى على ملك المالك إذ الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان عليه وتتبعه الصفة.
الجواب عنه: لا نسلم أن الأصل باق من كل وجه بل هو هالك من وجه كما مر وفيما قلنا رعاية للجانبين فإن حق المالك ينجبر بأخذ المثل وحق الغاصب يضيع في الصفة بلا جابر فالمصير إلى ما قلنا أولى.
مسألة: إذا غصب ساحة فبنى عليها انقطع حق المالك ولزمه قيمتها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله له أن يخرب البناء ويأخذها.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن فيما ذهب إليه الخصم إضرار بالغاصب ينقض بنائه من غير خلف وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة
__________
1سورة البقرة الآية 194.

(1/111)


فكان أولى فصار كما خاط بالخيط المغصوب بطن ولده أو أدخل اللوح المغصوب في سفينة.
حجة الشافعي رحمه الله أن عين المالك باق وهو غير راض بزوال ملكه فله أخذه.
الجواب عنه: أن هذا منقوض فيما إذا خيط بطن إنسان بالخيط المغصوب فإنه ليس له شق البطن وأخذ الخيط وإن كان عين ملكه باقيا فكما لا يجوز له أخذ الخيط لدفع الضرر من النفس فكذا ليس له أخذ الساحة لدفع الضرر عن المال قال عليه الصلاة والسلام: "حرمة مال المؤمن المسلم كحرمة دمه"
مسألة: إذا غصب رجل جارية إنسان وهي حبلى فما نقصت بالولادة فهو في ضمان الغاصب فإن كان في قيمة الولد وفاؤه جبر النقصان بالولد وسقط ضمانه عن الغاصب عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا ينجبر النقصان بالولد.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن سبب الزيادة والنقصان واحد وهو الولادة فلا يعد نقصانا فلا يوجب ضمانا كما لو غصب جارية فهزلت ثم سمنت أو سقطت أسنانها ثم نبتت.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الولد ملك المالك فلا يصلح جابرا للملك نفسه كما إذا هلك الولد قبل الرد وصار كما إذا جز صوف شاة أو قطع قوائم شجر غيره.
الجواب عنه: أن سبب النقصان ها هنا القطع والجز وسبب الزيادة النمو فلم يتحد سبب الزيادة والنقصان وفيما نحن بصدده اتحد سبب الزيادة والنقصان فافترقا.
مسألة: إذا أتلف المسلم خمر الذمي يضمن عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يضمن.

(1/112)


حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن تقوم الخمر باق في حق أهل الذمة إذ الخمر لهم كالخل لنا ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون وإذا بقي التقوم فقد يكون إتلاف مال متقوم فيجب الضمان لقول علي رضي الله عنه: إنما بذلوا الجزية ليكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا ويجب الضمان بإتلاف مال متقوم لنا فكذا بإتلاف مالهم.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم في حق أهل الذمة: "لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين" والخمر في حق المسلم غير مضمون فكذا لا يكون مضمونا في حق الذمي.
الجواب عنه: أن المسلم يعتقد حرمته ومأمور باجتنابه عنه فلا يكون في حقه متقوما بخلاف الذمي فإنه يعتقد إباحته ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون ولهذا لو باع الذمي الخمر لذمي جاز بيعه فانه غير ممنوع عن تمليك الخمر وتملكه بخلاف المسلم فافترقا.

(1/113)