الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة

كتاب الحدود
مسألة: الزنا الموجب للحد لا يظهر إلا بالإقرار أربع مرات في أربعة مجالس عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يظهر بالإقرار مرة واحدة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: حديث ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر إقامة الحد عليه إلى أن تم الإقرار منه أربع مرات في أربعة مجالس فلو ظهر دونها لما أخرها ولأن ظهور الزنا بالشهادة فارق ظهور غيره حتى اشترط أربعة شهداء بالنص وبالإجماع فكذا الإقرار يشترط فيه أن يكون أربعة مرات لظهوره به إعظاما لأمر الزنا وتحقيقا لمعنى الستر ودرء الحد بقدر الإمكان
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها" قالها حين اتهم رجل امرأته بالزنا فقد علق النبي صلى الله عليه وسلم الرجم بمطلق الاعتراف من غير اشتراط الأربع.
الجواب عنه: أنه إن كان هذا الحديث متقدما على حديث ماعز كان منسوخا به وإن كان متأخرا انصرف إلى الاعتراف المعهود في هذا الباب وهو الإقرار أربع مرات ولأنه كان معهودا فيما بينهم بدليل قول أبي بكر رضي الله عنه لماعز اتق الله في الرابع: ة فإنها موجبة قال: أبو بردة رضي الله عنه كنا نقول لو لم يقل الرابع: ة لما رجمه ولأن ذلك الحديث ساكت عن اشتراط الأربع وحديث ماعز صريح فيه فيكون أولى.
مسألة: المولى لا يملك إقامة الحد على مملوكه إلا بإذن الإمام عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يملك ذلك في الجلد.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: إجماع الصحابة كابن عباس وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهم مرفوعا عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع إلى الإمام الفيء والجمعة والحدود والصدقات" ولأن الحد خالص حق

(1/161)


الله ولأن المقصد منه إخلاء العالم عن الفساد ولأجل هذا لا يسقط بإسقاط العباد فيستوفيه من هو نائب الشرع وهو الإمام أو من أمره الإمام به
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" وهذا صريح وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها فإن عادت فليبعها ولو بضفير".
الجواب عنه: أمر المولى بإقامة الحدود مقتضاه الوجوب وهو منفي بالإجماع فكان متروك الظاهر فيحمل علي ما إذا أذن له الإمام بذلك أو يحمل على الاقامة تسبيبا بالمرافعة إلى من له ولاية الإقامة أو على التعزيز بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "فان عادت فليبعها ولو بضفير" والبيع ليس بحد بالإجماع.
مسألة: المرأة العاقلة إذا مكنت المجنون وطاوعته فزنا بها فلا حد عليه ولا عليها عند أبي جنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله الحد عليها.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن فعل الزنى إنما يتحقق حقيقة من الرجل لأنه هو الأصل ولهذا سمي واطئا والمرأة إنما هي محل لفعله ولهذا سميت موطوءة والزنا فعل من هو يؤجر على تركه ويأثم على فعله والمجنون ليس بمخاطب فلا يوصف فعله بالزنا فلا يتعلق الحد عليه فاذا امتنع في حقه امتنع في حق المرأة لأنها تبع له.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الزنا من المرأة ليس إلا التمكين ولا يتفاوت التمكين من العاقل موجبا ليحد فكذا التمكين من المجنون.
الجواب عنه: أن الزنا لا يتحقق بين الرجل والمرأة لكن الأصل فيه الرجل لما ذكرنا فإذا امتنع في حقه الحد لكونه غير مخاطب امتنع في حقها تبعا.
مسألة: إذا استأجر امرأة ليطأها فوطئها لا حد عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال الشافعي رحمه الله: الحد.

(1/162)


حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه وطء فيه شبهة ملك لأنها قابلة بالنكاح وقد انضاف التمليك إليها بالاستئجار فيورث شبهة ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المال مهر البغي والحدود تدرأ بالشبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرأوا الحدود بالشبهات" وقد روي أن امرأة استسقت راعيا فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها ففعلت فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فدرأ عنها الحد وقال: ذلك مهرها أفتى بالحكم ونبه على العلة.
حجة الشافعي رحمه الله: أن هذا الوطء زنا محض قبل عقد الإجارة لا شبهة فيه فينبغي أن لا يتفاوت هذا الوطء قبل الإجارة وبعده والزنا المحض موجب للحد.
الجواب عنه: أن الشبهة قد طرأت بعد عقد الإجارة لما ذكرنا فيورث الشبهة بعده لا قبله.

(1/163)


كتاب السرقة
مسألة: إذا سرق رجل مقدار نصاب السرقة وقطعت يده وهلك المسروق لا يضمن السارق عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يضمن.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} 1 جعل القطع جميع الجزاء فلو ضمن صار الجميع بعضا وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه".
حجة الشافعي رحمه الله: أن الإجماع انعقد على قطع يده فيلزمه الضمان أيضا لأنه أخذ مال غيره بغير إذنه بغير حق فيجب عليه رده إذا كان باقيا ورد قيمته إذا كان هالكا لقوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترده"
الجواب عنه: أن التمسك بالكتاب أقوى والحديث الذي رويناه صريح في الباب فلا يعارضه ما ليس بصريح.
مسألة: لا قطع على النباش عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله عليه القطع.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع على المختفي" وهو النباش بلغة أهل المدينة وروي أن عليا رضي الله عنه أتى بنباش فعزره ولم يقطع يده ووافقه ابن عباس رضي الله عنهما.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "من نبش قطعناه" وهذا نص صريح في الباب.
__________
1 سورة المائدة: الآية 38

(1/164)


الجواب عنه: أن هذا الحديث غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل هو موقوف على معاوية بن مرة لم يرفعه أحد وقيل هو من كلام زياد بن أبيه ذكره في خطبته ولئن سلمت صحته فهو محمول على السياسة بدليل أن فيه "من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه ومن نبش دفناه حيا ومن نقب نقبنا عن كبده" ومعلوم أن هذه الأحكام غير مشروعة إلا سياسة ثم إنه متروك الظاهر لأنه علق فيه بالقطع بمجرد النبش وبالإجماع ليس كذلك فإن نبش ولم يأخذ لا يقطع والله أعلم.
مسألة: رجل سرق شيئا وحكم القاضي عليه بالقطع ثم إن المالك وهب المسروق من السارق قبل القطع وسلمه إليه سقط القطع عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يسقط.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن القضاء يحتاج إلى الإمضاء والإمضاء في باب الحدود من القضاء وكان ما حدث قبل الإمضاء كالحادث قبل القضاء ولو ملكها السارق قبل القضاء لا يقطع لأن الإنسان لا يقطع بملكه فكذا إذا ملك قبل الإمضاء.
حجة الشافعي رحمه الله: ما روي أن صفوان كان نائما في المسجد متوسدا رداءه فجاءه سارق فسرقه فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده فأخرج ليقطع فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صفوان كأنه شق عليك يا رسول الله هو له صدقة وفي رواية وهبته منه فقال صلى الله عليه وسلم: "أفلا كان قبل أن تأتيني به" وأمر بقطعه.
الجواب عنه: أن الهبة لا تثبت قبل القبول والقبض ثم أنه حكاية حال فلا عموم له.
مسألة: السارق في المرة الأول: ى تقطع يده اليمنى وفي الثانية رجله اليسرى وفي الثالثة لا يقطع منه شيء بل يعزر ويخلد في الحبس حتى يتوب ويظهر عليه سيما الصالحين عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله تقطع في الثالث: ة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى.

(1/165)


حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما روي أن عليا رضي الله عنه استشار الصحابة رضي الله عنهم في هذه الحادثة فقال بعضهم تقطع يده اليسرى فقال: بم يستنجي وقال بعضهم رجله اليمنى فقال لهم فبم يمشي ثم قال: إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يأكل بها ويستنجي بها ولا رجلا يمشي عليها وبهذا حاج بقية الصحابة فغلبهم فدرأ عنه الحد فحل محل الإجماع ولأن المستحق عليه التأديب وفيما ذكره إهلاك معنى بتفويت منفعة البطش والمشي عليه.
حجة الشافعي رحمه الله: أن المرة الثالثة موجبة للقطع لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 وقد أمكن قطع اليسرى فيجب القطع ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من سرق فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه وإن عاد فاقطعوه".
الجواب عنه: أن الأمر في الآية لا يقتضي التكرار وعرف القطع في المرة الثاني: ة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والحديث طعن فيه الطحاوي وغيره من نقلة الحديث وعلى تقدير الصحة يحمل على السياسة بدليل آخر الحديث فإن عاد فاقتلوه فإن القتل غير مشروع في السرقة فيحمل على أنه كان ذلك في الابتداء حين كان القتل مشروعا.
مسألة: إذا صال الجمل أو البقر الهائج على إنسان فقتله المصول عليه دفعا عن نفسه لزمه الضمان عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يلزمه شيء.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن هذه الدابة معصومة لحق المالك لا لاحترامها لذاتها فإنها خلقت محلا للتناول والابتذال فبقيت عصمتها ما دام حق مالكها باقيا وحقه لا يسقط بجناية الدابة بل يثبت له إباحة إتلافها
__________
1 سورة المائد: الآية 38

(1/166)


لإبقاء مهجته عند صولتها عليه بالقيمة كتناول طعام غيره حالة المخمصة رعاية للحقين.
حجة الشافعي رحمه الله: أن دفع ضرر هذا الجمل أو البقر لازم عليه فيكون مأمورا بقتله وإلا يستحق العقاب بإلقاء نفسه إلى التهلكة وإذا لزم عليه فعله لا يجب عليه ضمانه.
الجواب عنه: أن ما ذكرتم منقوض بتناول مال غيره حال المخمصة فإنه إذا اضطر ولم يجد ما يدفع جوعه إلا هذا الجمل أو البقر فإنه مأمور بقتله وأكله لئلا يستحق العقاب بإلقاء نفسه إلى التهلكة ومع هذا يلزم عليه الضمان بالإجماع رعاية لحق المالك فإن قيل مالك الجمل لو أراد قتل إنسان لدفع القتل عن نفسه لا يجب عليه شيء فكذا إذا صال جمله لا يجب عليه الضمان بقتله لأن الجمل ليس بأعز من مالكه فإذا لم يضمن بقتل مالكه فبقتل ملكه أولى قلنا المالك إذا قصد قتله فقد أبيح قتله ووجد منه إبطال العصمة فلا يضمن وأما فعل البهيمة فلا يبطل عصمة مالكه فافترقا.

(1/167)