الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة

كتاب الجهاد
مسألة: إذا أسلم الحربي في دار الحرب وأقام بها ولم يهاجر إلى دار الإسلام فقتله مسلم أو ذمي لا يجب عليه القصاص ولا الدية عند أبي حنيفة رضي الله عنه ويجب عليه الكفارة في الخطأ وقال: الشافعي رحمه الله يجب عليه القصاص في العمد والكفارة في الخطأ.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 1 فالله تعالى أوجب الكفارة بقتله ولم يبين القصاص والدية ولو كانا واجبين لبينهما وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "من أقام بين المشركين فلا دية له" ولأن العصمة المقومة إنما تثبت بدار الإسلام وهو قد أهدر عصمته بالمقام في دار الحرب فلا يجب بقتله القصاص والدية
حجة الشافعي رحمه الله: أنه قد قتل المسلم عمدا وعدوانا فيكون موجبا للقصاص لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} 2.
الجواب عنه: أن الآية مخصوصة بالإجماع ولهذا لو قتل الأب ابنه لا يقتص منه فيخص المتنازع فيه بما ذكرنا من الدليل.
مسألة: إذا استولى الكفار على أموال المسلمين وأحرزوها بدار الحرب ملكوها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لم يملكوها.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} 3 سماهم فقراء مع إضافة الأموال إليهم
__________
1سورة النساء: الآية 92
2سورة البقرة: الآية 178
3سورة الحشر: الآية 8

(1/168)


والفقير من لا مال له لا من بعدت يده عن المال ومن ضرورته ثبوت الملك لمن استولى على أموالهم من الكفار وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يوم الفتح يا رسول الله ألا ننزل دارك فقال: "وهل ترك لنا عقيل من منزل" وكان للنبي صلى الله عليه وسلم دار بمكة ورثها من خديجة رضي الله عنها فاستولى عليها عقيل وكان مشركا وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا أصاب بعيرا له في الغنيمة فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالثمن" وروى تميم عن طرفة أنه عليه الصلاة والسلام قال: في بعير أخذه المشركون فاشتراه رجل من المسلمين ثم جاء المالك الأول: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "إن شئت أخذته بالثمن" فلو بقي في ملك المالك القديم لكان له الأخذ بغير شيء.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 1 فينبغي أن لا يصير مال المسلم للكافر بالغلبة والاستيلاء عليه.
الحجة الثانية: أن المسلم خير من الكافر والمسلم إذا استولى على مال مسلم آخر لا يصير ملكا له فالكافر أولى.
الجواب عنه: أما الآية فمقتضاها نفي السبيل على نفس المسلم ونحن نقول بموجبه فإنه إذا استولى على نفسه يملكه ونحن نملكهم ولكن الأصل في الأموال عدم العصمة وإنما صار معصوما بالاحراز بدار الإسلام فإذا أحرزوها بدار الحرب زالت العصمة بزوال سببها فبقيت أموالا مباحة فتملك بالاستيلاء عليه وفيه وقع الغرق بين استيلاء المسلم والكافر وأن المسلم لم يحرزها إلى دار الحرب والحربي أحرزها فافترقا.
مسألة: الغزاة إذا غنموا غنيمة لا يقسمونها في دار الحرب بل يخرجونها إلى دار الإسلام فيقسمونها فيها عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال الشافعي
__________
1 سورة الساء: الآية 141.

(1/169)


رحمه الله يجوز قسمتها في دار الحرب حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما روى مكحول الشامي أنه عليه الصلاة والسلام ما قسم الغنيمة قط إلا في دار الإسلام وفي رواية أخرى أخر النبي صلى الله عليه وسلم القسمة إلى دار الإسلام مع طلب بعض الغانمين الغنيمة فلو جازت لما أخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب والقسمة بيع معنى فيدخل تحت النهي لأن الاستيلاء التام لا يثبت إلا بالاحراز بدار الإسلام لقدرتهم على التخليص مما دامت في دار الحرب لم يستحكم الملك
حجة الشافعي رحمه الله: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنيمة في دار الحرب
الجواب عنه: أن تلك المواضع التي قسم فيها النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة وإن كانت دار الحرب لكنها صارت دار الإسلام بظهور أحكامه فيها.
مسألة: العبد المحجور عليه الممنوع من القتال لا يصح أمانة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال الشافعي رحمه الله يصح أمانة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} 1 فانتفت قدرته على الأمان.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" والعبد من أدنى المسلمين فيصح أمانه.
الجواب عنه: أن المراد بالذمة الأمان المؤبد بأن يصير ذميا وهو صحيح من العبد فنحن نقول بموجبه وهذا لأن عقد الذمة خلف عن الإسلام فهو
__________
1 سورة النحل: الآية 75

(1/170)


يمنزلة الدعوى إليه فيصح منه بخلاف الأمان المؤقت والحديث لا يدل عليه.
مسألة: كان الخمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم سهم لله ورسوله وكان يشتري به السلاح وسهم لذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم وسهم للمساكين وسهم لليتامى وسهم لأبناء السبيل وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سقط سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى فيأخذون بالفقر دون القرابة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله سهم النبي صلى الله عليه وسلم يدفع إلى الإمام وسهم ذوي القربى باق لهم.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: إجماع الصحابة على عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فإنهم قسموا خمس الغنيمة على ثلاثة أسهم ولم يعطوا ذوي القربى شيئا لقربهم بل لفقرهم مع أنهم شاهدوا قسمة النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا تأويل الآية وكان ذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير فحل محل الإجماع فلو كان سهمهم باقيا لما منعوهم وهذا لأن المراد بالقربى قربى النصرة دون القرابة بدليل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر فأعطى بني هاشم وبني المطلب ولم يعط بني عبد شمس ولا بني نوفل شيئا فقال عثمان وهو من بني عبد شمس وجبير بن مطعم وهو من بني نوفل يا رسول الله إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك الذي وضعك الله فيهم ولكن نحن وبنو المطلب منك في القرابة سواء فما بالك أعطيتهم وحرمتنا فقال عليه الصلاة والسلام: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام لم يزالوا معي" وشبك بين أصابعه فجعل عليه الصلاة والسلام علة الاستحقاق النصرة والصحبة دون نفس القرابة وإلا لما أعطى البعض ومنع الآخرين ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم لم تبق بعد وفاته فلا يبقى الاستحقاق ويدخل فقراء ذوي القربى والأصناف الثلاثة وقد روت أم هانئ هذا المعنى مرفوعا فقال عليه الصلاة والسلام: "سهم ذوي القربى لهم في حياتي وليس لهم بعد وفاتي" وكذا سهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بعد وفاته إذ غيره ليس في معناه من كل وجه.

(1/171)


حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} 1 وهذا نص صريح في المسألة.
الجواب عنه: أن المراد بالقربى قربى النصرة لا قربى القرابة بما ذكرنا من الدليل وقد زالت النصرة بعد وفاته.
مسألة: إذا أسلم الذمي أو مات بعد وجوب الجزية بمرور الحول سقطت عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا تسقط.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا جزية على مسلم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" وروي أن ذميا طولب بالجزية في زمن عمر رضي الله عنه فأسلم فقيل إنك أسلمت تعوذا فقال: إن أسلمت تعوذا فإن الإسلام يتعوذ به فأخبر عمر بذلك فقال: صدق وأسقط عنه الجزية ولأن الجزية وجبت عقوبة على الكفر وهي تسقط بالإسلام.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الجزية وجبت على العصمة والأمن فيما مضى لأن ماله كان في معرض التلف فحصلت له الصيانة بقبول الجزية وقد وصل إليه العوض فلا تسقط عنه للعوض بالإسلام والموت.
الجواب عنه: أن هذا قياس في مقابلة النص والآثار فلا يقبل.
__________
1 سورة الأنفال: الآية 41

(1/172)


كتاب الصيد
مسألة: إذا ترك الذابح التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا يحل أكلها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يحل.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: الكتاب وهو قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه} 1 والسنة هي قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فإنك سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" علل الحرمة بترك التسمية عمدا وإنما الخلاف بينهم في الترك ناسيا.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2 دل النص على أن المحرم من المطعومات هذه الأربعة ومتروك التسمية ليس منها فيحل.
الجواب عنه: أن متروك التسمية من قبيل الميتة كذبيحة المجوس وأيضا قد زيد على هذه الأربعة أشياء كثيرة كأكل لحم الحمر والبغال والكلب والأسد وغيرها من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير بالدلائل الدالة عليه فكذا يزاد عليها متروك التسمية عامدا ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أوحي إليه في ذلك الوقت إلا تحريم الأربعة المذكورة ثم أوحي إليه تحريم غيرها بعده
مسألة: إذا أرسل الصياد كلبه المعلم إلى الصيد وذكر اسم الله تعالى عليه فمات بأخذه ولم يأكل منه الكلب شيئا يؤكل بالاتفاق وإن أكل منه
__________
1سورة الأنعام: الآية 121
2سورة الأنعام: الآية 145

(1/173)


شيئا لا يؤكل عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يؤكل.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} 1 فالنص نطق باشتراط التعليم وكذا حديث عدي إذا أرسلت كلبك المعلم وتعليم الكلب لا يتحقق إلا بترك الأكل من الصيد فإذا أكل منه دل على أنه غير معلم فلا يجوز أكل ما بقي منه وقد صرح في هذا الحديث بهذا المعنى حيث قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه فلا تأكل لأنه أمسك على نفسه" وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} 2 فإذا أكل منه شيئا لم يمسك لصاحبه بل لنفسه فلا يحل.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة الخشني: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل" فقال: يا رسول الله أو يحل ولو أكل منه فقال صلى الله عليه وسلم "يحل" هذا نص صريح في المسألة.
الجواب عنه: هذا الحديث ليس بمشهور فلا يعارض الكتاب والحديث الذي رويناه
مسألة: أكل لحم الخيل مكروه عند أبي حنيفة رضي الله عنه واختلف المشايخ في أنه كراهية تحريم أو تنزيه وعند الشافعي رحمه الله غير مكروه وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} 3 ثم قسم الامتنان في قسمين في نوعين أحدهما الأنعام وبين وجه المنة فيها بثلاثة أنواع اللبن والأكل والحمل وثانيهما الخيل والبغال والحمير وبين وجه المنة فيها في الركوب والزينة فمن جعل القسمين
__________
1 سورة المائدة: الآية 4.
2سورة المائدة: الآية 2
3سورة النحل: الآية 8

(1/174)


واحدا فقد أخل بالتركيب الفصيح وهذا لأن الأكل من أعلى المنافع والحكيم لا يترك الإمتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها ولأنه آلة إرهاب الكفار ونصرة الإسلام فيكره أكله احتراما له ولهذا يصرف له بسهم في الغنيمة أو سهمين ولأن في إباحة أكله تقليل الة الجهاد فلا يباح.
حجة الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 1 ولحم الخيل ليس من هذه الأربعة فيحل.
جوابه ما مر وهو أنه في وقت نزول هذه الآية لم تكن المحرمات غيرها.
الثاني: أن لحم الفرس من الطيبات فيحل بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 2.
الجواب عنه: أن المراد بالطيبات ما يكون حلالا لا كل ما تستطيب النفس فلا يمكن الاستدلال به على أكل لحم الخيل ولو سلم ذلك فهو عام وقد خص عنه بعض ما تستطيبه النفس كالخمر فيجوز تخصيص الشارع فيه بما ذكرنا من الدلائل.
الثالث: أن الخيل بعد الذبح من الطيبات فيحل لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} 3.
الجواب عنه: ما مر.
الرابع: أنه روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن فرسا ذبح على
__________
1سورة الأنعام: الآية 145
2سورة المائدة: الآية 4
3سورة المائدة: الآية 3

(1/175)


عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب عنه: أن هذا خبر واحد مخالف لما ذكرنا من الآية.
الخامس: ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى يوم خيبر عن لحم الحمر وأذن في لحوم الخيل".
الجواب عنه: أن هذا الحديث معارض ما روى خالد بن الوليد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لحم الخيل والبغال" فإذا تعارضا فالترجيح للمحرم.
مسألة: من نحر ناقة أو ذبح بقرة فوجد في بطنها جنينا ميتا لم يؤكل عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يؤكل وهو قول محمد وأبي يوسف رحمهما الله.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 1 والجنين ميتة فلا يحل أكله وقوله {وَالْمُنْخَنِقَةُ} 2 وهو الحيوان الذي يموت بانقطاع النفس والجنين كذلك وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 3 والجنين لم يذكر اسم الله عليه وقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} والجنين لم يذك.
حجة الشافعي رحمه الله: ما روي أن جماعة من الصحابة قالوا يا رسول الله إنا ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أفنلقيه أم نأكله فقال: "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه"
الجواب عنه: أن هذا خبر واحد ورد على مخالفة ما ذكرنا من الآيات والتمسك بالقرآن أولى.
مسألة: الأضحية واجبة على الأغنياء المقيمين عند أبي حنيفة رضي الله
__________
1 سورة المائدة: الآية 3.
2 المائدة: الآية 3.
3 سورة الأنعام: الآية 121

(1/176)


عنه وقال الشافعي رحمه الله ليس هي واجبة بل هي سنة مؤكدة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1 قيل المراد بالصلاة العيد وبالنحر الأضحية فقد أمر بهما وهو للوجوب وقوله صلى الله عليه وسلم: "ضحوا فإنها سنة أبيكم" أمر ومقتضاه الوجوب وتسميته سنة في شريعة إبراهيم عليه السلام أما في شريعتنا فواجبة لقوله صلى الله عليه وسلم: "على أهل كل بيت كل عام أضحية" وكلمة على الإيجاب وقوله صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" ومثل هذا الوعيد لا يكون إلا بترك الواجب.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث كتبن علي ولم تكتب عليكم الضحى والأضحى والوتر" فدل على عدم الوجوب.
الجواب عنه: أن التمسك بالكتاب والسنن المستفيضة أولى على أن المراد بقوله لم تكتب عليكم نفي الفريضة أي لم تفرض عليكم ولا يلزم من نفي الفريضة نفي الوجوب للفرق بينهما.
__________
1 سورة الكوثر: الآية2

(1/177)


كتاب الأيمان
مسألة: اليمين وهي الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه لا يوجب الكفارة عند أبي حنيفة وأصحابه وهو قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ويأثم فيها صاحبها وعند الشافعي يوجب ويأثم فيها صاحبها.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الكبائر لا كفارة فيهن الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وقتل النفس بغير حق واليمين الفاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم" وفي رواية "اليمين الغموس تدع الديار بلاقع" أي خرابا خاليات عن الأهل بشؤم اليمين الكاذبة وقال ابن عباس رضي الله عنهما كنا نعد اليمين الغموس من الكبائر التي لا كفارة فيهن وقوله كنا إشارة إلى الصحابة وهو حكاية الإجماع.
حجة الشافعي رحمه الله من وجهين: أحدهما: قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} الآية دل النص على أن من حلف بالله كاذبا يجب عليه الكفارة فإذا حلف بالله على أمر ماض كاذبا عمدا يجب فيه الكفارة.
الجواب عنه: أن المراد بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} 1 اليمين المنعقدة واليمين الغموس ليس بمنعقدة وهذا لأن اليمين تعقد للبر وهو لا يتصور في الغموس والنص إنما أوجب الكفارة في المنعقدة دون الغموس.
الثاني: أن اليمين الكاذبة في المستقبل موجبة للكفارة في المستقبل اتفاقا فكذا في الماضي لجامع أنه وجد في الصورتين هتك حرمة اسم الله تعالى بالاستشهاد به كاذبا.
__________
1 سورة المائدة: الآية 89

(1/178)


الجواب عنه: أن اليمين المنعقدة مشروعة فتصلح سببا للكفارة واليمين الغموس حرام محض فلا تصلح موجبا للكفارة ولا يجوز قياس الحرام على المشروع.
مسألة: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يجوز.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه" ذكر الكفارة بكلمة ثم وهي للتراخي فلا يجوز التقديم ولأن سبب وجوب الكفارة الحنث دون اليمين فلا يجوز أداء الكفارة قبله كما لا يجوز أداء الصلاة قبل الوقت.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ويأت الذي هو خير" فإذا صحت الروايتان خيرنا فجوزنا التقديم والتأخير.
الجواب عنه: أن الواو لمطلق الجمع دون الترتيب وكلمة ثم نص على الترتيب فيكون أولى وحمل الواو عليه على أنا لو لم نحمله على التقديم يلزم إلغاء الأمر فإن التقديم ليس بواجب إجماعا وحقيقته في الأمر للوجوب.
مسألة: من نذر أن يذبح ولده صح نذره ووجب عليه ذبح شاة ويخرج عن العهدة بذلك عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول محمد رحمه الله وقول صدور الصحابة مثل علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهموقول الشافعي رحمه الله لا يصح وهو قول أبي يوسف رحمه الله
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: النصوص الموجبة للوفاء بالنذور كقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} 1 {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"
__________
1سورة الإنسان: الآية 7.
2سورة الحج: الآية 29.

(1/179)


وقد نذر بالذبح ها هنا فيجب عليه الوفاء بقدر الإمكان بذبح الشاة بدلا عن ذبح الولد استدلالا بقصة الخليل عليه السلام فانه خرج عن العهدة بذبح الشاة عما أمره بذبح الولد بدليل قوله تعالى: حكاية عن إسماعيل عليه السلام {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} 1 حيث أخبره بقوله {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} 2وخرج بذبح الشاة عن العهدة بدليل قوله {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} 3 وهذا لأن في الآية تقديما وتأخيرا فان أئمة التفسير أجمعوا على أن تقدير الآية والله أعلم {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ, وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ , قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} 4 أي بذبح الفداء فعلم أنه صار بتحقيق الفعل في الشاة آتيا بما التزمه من ذبح الولد وإنما يكون كذلك أن لو كان النذر بذبح الولد التزاما لذبح الشاة قال أبو بكر الرازي قد تضمن الأمر بذبح الولد إيجاب شاة في العاقبة فلما صار موجب هذا اللفظ إيجاب شاة في العاقبة وشريعة إبراهيم عليه السلام وقد أمر الله تعالى باتباعه بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} 5 دل على أن من نذر بذبح ولد ففداؤه ذبح شاة وروى أن امرأة نذرت بذبح ولدها في زمن مروان بن الحكم فجمع فقهاء الصحابة رضي الله عنهم وسألهم وفيهم ابن عمر فقال: إن الله تعالى أمر بالوفاء بالعهد فقالت أتأمرني بقتل ولدي وإن الله حرم قتل النفس وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه المسألة: فأفتى بذبح مائة بدنة ثم أتيا إلى مسروق وكان جالسا في المسجد وقال للسائل سل ذلك الشيخ فسأله فقال: أرى عليك ذبح شاة فعاد إلى ابن عباس فقال له أرى عليك مثل ذلك وكأن غرض ابن عباس أن يعلم مذهب ابن مسعود من مسروق وعن القاسم بن محمد قال: كنت عند ابن عباس فجاءته امرأة فقالت إني نذرت أن أنحر ولدي فقال:
__________
1سورة الصافات: الآية 1. 1
2سورةى الصافات: الآية 102
3صورة الصافات: الآية 105
4سورة الصافات: الآية107.
5سورة النحل: الآية 123

(1/180)


لا تنحري ولدك وكفري عن يمينك فقال رجل عند ابن عباس لا وفاء لنذر فيه معصية الله فقال ابن عباس: قال: الله تعالى: في الظهار ما سمعت وأوجب فيه ما ذكره فهؤلاء الصحابة مع اختلافهم في موجب النذر كان اتفاقهم على صحة النذر فمن أنكر ذلك فقد خالف الإجماع.
حجة الشافعي رحمه الله: أن النذر بذبح الولد معصية والنذر بالمعصية باطل لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية الله تعالى".
الجواب عنه: إنا قد بينا أنه صار عبارة عن إيجاب الشاة بذكر ذبح الولد وذبح الشاة قربة فيصح النذر به وبه خرج الجواب عما حكى الإمام فخر الدين الرازي حيث قال: أجاب السلطان الأعظم بهاء الدين عن كلام الحنفية وهو في غاية الحسن وهو أن ذبح الولد في حق الخليل عليه السلام كان بأمر الله وفي مسألتنا ذبح الولد على خلاف أمر الله وهو حرام فلا تقاس هذه الصورة قلنا ذبح الولد صار عبارة عن ذبح الشاة فلا يكون حراما فيجوز القياس عليه.

(1/181)