الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة

كتاب أدب القاضي
مسألة: لا يجوز القضاء بالبينة على الغائب عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يجوز.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "يا علي لا تقض لأحد الخصمين مالم تسمع كلام الآخر".
حجة الشافعي رحمه الله: أن الحق قد ظهر عند القاضي بشهادة الرجلين فيجب القضاء لقوله عليه الصلاة والسلام: "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وأيضا قال صلى الله عليه وسلم: "لمعاذ حين أرسله إلى اليمن اقض بالظاهر".
الجواب عنه: أن الحق لا يظهر إلا إذا أسلم الشهود من المعارض فلو كان الخصم حاضرا ربما يخرجهم أو يأتي بشهود على خلاف ما ادعاه عليه فلا بد من حضوره.
مسألة: قضاء القاضي في العقود والفسوخ ينفذ ظاهرا وباطنا عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله ينفذ ظاهرا لا باطنا وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وصورته لو ادعى رجل على امرأة نكاحا وأقام على ذلك شاهدي زور ولم يعرف القاضي بذلك فحكم بالنكاح على ظن صدق الشاهدين نفذ قضاؤه ظاهرا وباطنا ويحل له وطؤها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وكذا في الطلاق وعند الشافعي رحمه الله لا يحل له وطؤها ولا يقع الطلاق.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما روي أن رجلا ادعى بين يدي علي رضي الله عنه بالنكاح فقالت المرأة يا أمير المؤمنين ليس بيننا نكاح وإن كان لابد فزوجني منه فقال علي رضي الله عنه: شاهداك زوجاك ولم يجبها إلى إنشاء النكاح وكان بمحضر من الصحابة من غير نكير فحل محل الإجماع

(1/182)


ولأنه إذا لم ينفذ القضاء باطنا تكون امرأة لواحد في الباطن وفي الظاهر لآخر وهو باطل.
حجة الشافعي رحمه الله من وجهين:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم لتختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فكأنما قضيت له بقطعة من نار" فلو نفذ القضاء باطنا لما قال: ذلك.
الجواب عنه: أن هذا الحديث ورد في الأموال المرسلة بدليلها روي أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث درست فقضى لأحدهما فقال الآخر حقي يا رسول الله وذكر الحديث ونحن نقول بموجبه في الأموال المرسلة إذ الخلاف في الفسوخ والعقود دون الأموال المرسلة.
الثاني: أن القول بنفوذ القضاء باطنا يفضي إلى بطلان العصمة في الأموال والضياع والعقار والنساء والعبيد فلا يكون هذا الحكم لائقا لأحكام الشريعة.
الجواب عنه: أن هذا لازم عليكم أيضا لأنكم قائلون بنفوذ القضاء ظاهرا وهو يفضي إلى أمر شنيع مما ذكرنا وهو كون المرأة الواحدة بين رجلين ومذهبنا في غير العقود والفسوخ كمذهبكم فكل ما يرد علينا يرد عليكم والجواب كالجواب.
مسألة: إذا عرض اليمين على المنكر فنكل جاز للقاضي أن يحكم عليه بالنكول عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وعلي وعثمان وابن عمر وابن عباس وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله لا يجوز الحكم بالنكول.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما روي أن امرأة جاءت إلى عمر رضي الله عنه فادعت على زوجها أنه قال: لها حبلك على غاربك فحلفه عمر بالله ما أردت الطلاق فنكل فقضى عليه بالفرقة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه

(1/183)


اشترى من إنسان شيئا فادعى على البائع عيبا فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه فحلفه عثمان بالله ما بعته وبه عيب فكتمه فنكل فقضى عليه بالرد وكذا نقل عن علي وابن عباس وشريح رضي الله عنهم.
حجة الشافعي رحمه الله: أن النكول لا يدل على صدق المدعي لاحتمال أن يكون المدعى عليه متوقفا لا يعرف أن دعواه صحيحة أو كاذبة فيجب عليه التوقف فلا يدل على صدق دعواه.
الجواب عنه: قد ترجح جانب كونه ناكلا أو مقرا بالامتناع عن اليمين الواحب عليه بعد العرض.
مسألة: إذا تنازع الخارج وذو اليد في الملك المطلق وأقاما البينة فبينة الخارج أولى عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله بينة ذي اليد أولى.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: الخارج أكثر إثباتا وإظهارا لأنه قد رد ما تثبته بينة ذي اليد إذ اليد دليل مطلق الملك فكان الملك ظاهرا لذي اليد من وجه وظهوره من وجه يمنع كون بينة ذي اليد مظهرة له من ذلك الوجه لاستحالة إظهار الظاهر وبينة الخارج مظهرة من كل وجه فكانت أكثر إظهارا فكان القضاء بها واجبا لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقض بالظاهر".
حجة الشافعي رحمه الله: أن بينة ذي اليد ساوت بينة الخارج في الإثبات فترجح بينة ذي اليد باليد التي هي دليل الملك بالضرورة.
الجواب عنه: أنه لا نسلم المساواة بين البينتين في الإثبات بل بينة الخارج أكثر إثباتا لما ذكرنا فترجح على بينة ذي اليد.
مسألة: إذا أقام المدعي شاهدا واحدا ولم يجد شاهدا آخر فإن القاضي لا يحلف المدعي على ما ادعاه ولا يقضي بحلفه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله يحلفه فإذا حلف
يقضي له بما ادعاه.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ

(1/184)


رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" قسم والقسمة تنافي الشركة وجعل جنس الأيمان على المنكرين وليس وراء الجنس شيء.
حجة الشافعي رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين وهذا صريح في المسألة.
الجواب عنه: أن هذا الحديث منقطع ذكره الترمذي والطحاوي وهما أخذا على مسلم في تصحيحه وإن سلم صحته فهو خبر الواحد ورد على مخالفة الكتاب والسنة المشهورة فيكون العمل بالكتاب والسنة المشهورة أولى.
__________
1سورة البقرة: الآية 282.

(1/185)


كتاب الشهادات
مسألة: المحدود في القذف لا تقبل شهادته وإن تاب عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله: تقبل شهادته إذا تاب.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} 1 وبعد التوبة داخل في الأبد والاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} 2 يصرف إلى ما يليه وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3 أو هو منقطع بمعنى لكن كما عرف في موضعه.
حجة الشافعي رضي الله عنه: من وجهين الأول: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 4 والمحدود في القذف بعد التوبة عدل فيكون مقبول الشهادة.
الجواب عنه: أن المراد بهذه الآية غير المحدود في القذف جمعا بين الدليلين.
الثاني: أن الكفر أقبح من القذف والكافر إذا تاب وأسلم تقبل شهادته والمحدود إذا تاب أولى بقبول شهادته.
الجواب عنه: أن المانع من رد شهادة الكافر الكفر وقد زال بالإسلام وأما المحدود فقد ردت شهادته على التأبيد جزاء على جريمته فلا تقبل شهادته وإن تاب.
مسألة: شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة عند أبي حنيفة رضي
__________
1سروة النور: الآية 4.
2سورة البقرة: الاية 160.
3سورة الحشر: الآية 19.
4 سورة الطلاق: الآية 2.

(1/186)


الله عنه. وعند الشافعي رحمه الله غير مقبولة.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديا بشهادة اليهود وما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا قبلوا عقد الذمة فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" وللمسليمن أن يشهد بعضهم على بعض فكذا أهل الذمة.
حجة الشافعي رحمه الله من وجهين:
أحدهما: الكافر خائن والخائن لا تقبل شهادته لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا شهادة للخائن"
الجواب عنه: أنه خائن في حق أهل الإسلام فلا تقبل شهادته عليهم لا في حق من يوافقه في الاعتقاد.
ثانيها: أن الكافر فاسق والفاسق لا تقبل شهادته لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1.
الجواب عنه: أنه فاسق بالنسبة إلى أهل الإسلام أما بالنسبة إلى أهل ملته إن كان يجتنب محظور دينه يكون عدلا إذ الكذب محظور في الأديان كلها.
مسألة: لا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال الشافعي رحمه الله تعالى تقبل.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا شهادة لمتهم" وأحد الزوجين متهم في شهادته للآخر وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقبل شهادة الوالد لولده ولا الزوج لزوجته".
حجة الشافعي رحمه الله: ما روى أن فاطمة رضي الله عنها ادعت فدكا
__________
1 سورةالحجرات: الآية 6.

(1/187)


بين يدي أبي بكر رضي الله عنه واستشهدت عليا رضي الله عنه وأم أيمن وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليها أحد.
الجواب عنه: أن أبا بكر رضي الله عنه لم يحكم بتلك الشهادة ورد دعوى إرثها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" وكان علي رضي الله عنه يعلم أن شهادة الزوج لا تقبل لكنه إحترز عن إيحاشها بالامتناع والدليل عليه أن عليا رضي الله عنه لما ولى الخلافة لم يتعرض لأخذ أرض فدك بل أجرى الحكم فيها على ما كان في زمن الخلفاء قبله.
مسألة: تقبل في الولادة والبكارة والعيوب بالنساء في موضع لايطلع عليه الرجال شهادة امرأة واحدة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا بد من شهادة الأربع منهن.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه" والجمع المحلى باللام يراد به الجنس فيتناول الأقل وهو الواحد عند تعذر الكل.
حجة الشافعي رحمه الله: أن قول الواحدة محل التهمة فلا تقبل.
الجواب عنه: الموجود في هذه الصورة ليس بشهادة ولهذا لا يشترط لفظ الشهادة وخبر الواحد في الديانات مقبول.

(1/188)


كتاب العتاق
مسألة: إذا ملك الإنسان أخاه بالشراء أو الهبة وغيرهما عتق عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وكذا كل ذي رحم محرم وإن لم يكن من الولادة وعند الشافعي رحمه الله لا يعتق عليه.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} 1 وفي الاسترقاق قطع الرحم وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه" وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله وجدت أخي يباع في السوق فاشتريته لأعتقه قال صلى الله عليه وسلم: "قد أعتقه الله عليك" وقد روى هذا عن عمر وابن مسعود وعطاء بن أبي رباح وهو قول الحسن وجابر والشعبي والزهري رضي الله عنهم.
حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 2 وإذا اشترى أخاه فهو من كسبه فيكون ملكا له.
الجواب عنه: أن المراد بالآية الكريمة أن للنفس ثواب ما كسبت من الأعمال الصالحة وعليها إثم ما اكتسبت من الأعمال السيئة ولو كان عاما في المعنى الذي ذكره فهو قد خص عنه البعض فإنه لو اشترى أباه أو أمه أو ابنه أو بنته يعتق عليه بالإجماع ولا يصير ملكا له فيخص الأخ بالحديث الذي روينا.
مسألة: إذا قال: الإنسان لغلام لا يولد مثله لمثله هذا ابني عتق عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يعتق عليه وهو قول صاحبيه.
__________
1سورة محمد: الآية 22.
2 سورة البقرة" الآية 286.

(1/189)


حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه لما تعذر العمل بالحقيقة وله مجاز متعين وجب العمل به إذ الإعمال أولى من الإلغاء فصار كأنه قال: هذا أخي من حين ملكته إذ البنوة ملتزم للحرية.
حجة الشافعي رحمه الله أنه كان العبد ملكا له والأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان وهذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه على طريق الشفقة أو الإعتاق فيكون في الإعتاق شك وهو لا يعارض اليقين.
الجواب عنه: أن قوله هذا ابني إخبار فيقتضي صدق الحرية حقيقة أو مجازا وتعذرت الحقيقة وتعين المجاز ولا يحتمل إرادة الشفقة بصيغة الإخبار ولهذا لو قال: بصيغة النداء بأن قال: يا ابني قلنا يحتمل الإكرام والشفقة ولا يعتق.
مسألة: إذا أعتق إحدى أمتيه ثم وطئ إحداهما لا تتعين الأخرى للعتق عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله تتعين وهو قول صاحبيه.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الملك قائم بالموطوءة لأن إيقاع العتق في المنكرة والموطوءة معينة والمنكرة غيرها فكان له وطؤها فلا يجعل بيانا.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الواحدة صارت حرة بإعتاقه والتي وطئها ليست بحرة إجماعا فتعينت الأخرى للعتق.
الجواب عنه: أن العتق لم ينزل في الواحدة قبل البيان فبقي الاحتمال في الكل.
مسألة: بيع المدبر المطلق لا يجوز عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يجوز.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "المدبر لا يباع ولا يوهب ولا يورث وهو حر من الثلث".
حجة الشافعي رحمه الله: أن المدبر مملوك فيجوز بيعه أما بيان أنه

(1/190)


مملوك فإن المدبرة يجوز وطؤها وحل الوطء لا يكون إلا بملك النكاح أو بملك اليمين والنكاح منتف فيتعين ملك اليمين فإذا كان الملك باقيا جاز بيعه لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 1.
الجواب عنه: سلمنا أنه مملوك لكنه انعقد سبب حريته في الحال لأن الحرية تثبت بعد الموت لبطلان أهليته فتعين جعله سببا في الحال فصار كأم الولد فإنها وإن كانت مملوكة جاز وطؤها ولكن لا يجوز بيعها لما ذكرنا.
مسألة: إذا قال: إنسان لأمته أول ولد تلدينه فهو حر فولدت ولدا ميتا ثم آخر حيا عتق الحي عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يعتق وهو قول صاحبيه.
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه جعل عتق المولود أولا حرا والحرية لا تصلح إلا في الحي فيتقيد به وكأنه قال: أول ولد حي تلدينه فهو حر.
حجة الشافعي رحمه الله: أن الحي مولود ثان والجزاء عتق أول ولد والشرط ولادة أول ولد فلا يكون الثاني شرطا عينه ولا عتق الثاني: جزاء عينه.
الجواب عنه: أن المطلق يجوز تقييده بدلالة من جهة المتكلم ومن جهة سياق الكلام وقد وجدت فإن الحرية لا تتصور إلا في الحي فيتقيد به والله أعلم.
__________
1سورة البقرة: الآية 275.

(1/191)


خاتمة
وقد انتهت ترجمة الكتاب ولنختم بذكر بيان القضاة والعدول والأحياء والأموات مفتقرون إلى تقليد الإمام الأعظم والمجتهد المقدم أبي حنيفة رضي الله عنه في عامة أحوالهم.
أما القاضي فإنه ينعزل عند الشافعي رحمه الله بمجرد الفسق فيلزمه على مذهبه عصمة القاضي عن المعاصي ما دام قاضيا وإلا ينعزل ولم يوجد قط قاض على هذا باقيا على القضاء في مذهبه فإذا انعزل لم تنفذ أحكامه وتصرفاته فيجب عليه إظهار فسقه وتجديد توليته وإلا يلزم من المفسدة ما لا يخفى أو تقليد الإمام أبي حنيفة فإنه عنده لا ينعزل بالفسق.
وأما العدول فلأن أبا حنيفة رضي الله عنه يثبت العدالة بظاهر الإسلام وأما الشافعي رحمه الله فقد شرط اجتناب الكبائر ظاهرا وباطنا والتزكية كذلك وأي عدل أو قاض لم يلم بمعصية ولأن الشركة التي تتعاطاها العدول فاسدة على غير مذهب أبي حنيفة فالتناول منها قادح في العدالة فكيف تنعقد عقود المسلمين بشهادتهم عندهم والعدالة شرط في انعقاد النكاح عندهم فيحتاجون إلى تقليد أبي حنيفة رضي الله عنه.
وأما بيان احتياج الأموات فإنهم يحتاجون إلى مدد الأحياء باهداء ثواب القراءة إليهم وذلك لا يصل إليهم عند غير أبي حنيفة رضي الله عنه فلا يحصل لهم الخلاص من العقوبات والوصول إلى الدرجات إلا بتقليد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.
وأما بيان احتياج كافة الناس فمن وجوه:
الأول: أن تارك صلاة واحدة عندهم يقتل إما حدا وإما كفرا فيجب حينئذ قتل أكثر العالم إذ المواظبون على الصلوات أقل من التاركين في كل وقت خصوصا النساء فإن أكثرهن لم تصل في العمر إلا نادرا فسكوت

(1/192)


القضاة عن العامة والأزواج عن نسائهم فيه ما فيه وفي القول الذي يكفر تارك الصلاة يشكل بقاء الأنكحة مع تاركات الصلاة فاقامتهن معهم فيه من العسر ما لا يقاس عليه فيجب عليهم تقليد أبي حنيفة رضي الله عنه.
الثاني: أن البياعات والمعاملات التي تباشرها العبيد والصغار من الغلمان وعامة الأحوال مشكلة عندهم فيجب عليهم أن لا يرسلوا في حوائجهم إلا العقلاء البالغين وأيضا لم يتعارف الناس البيع بالإيجاب والقبول بل يباشرون البياعات بالتعاطي وذلك غير جائز عندهم.
الثالث: أن مذهبهم من ترك تشديدة من الفاتحة لا تجوز صلاته وذلك يعسر على أكثر العوام فلا تجوز صلاة القراء خلفهم ولا يجوز للعامة إلا بتقليد أبي حنيفة رضي الله عنه في جواز الصلاة بما تيسر من القرآن.
الرابع: أنه يشترط عندهم قران النية باللسان والقلب ولم يمكن ذلك لمثل الجنيد وأبي يزيد في العمر إلا نادرا.
الخامس: أن شرط الخروج عن عهدة الزكاة أن تفرق إلى ثلاثة من كل صنف من الأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} آلآية ولم يتفق ذلك لأحد في العمر.
السادس: أن النفقة عندهم على الموسر مدان وعلى المعسر مد ولم يتفق ذلك على مذهبهم لأحد منهم.
السابع: أن الحمامات اتي تسخن بالنجاسات والأقراص التي تخبز بالزبل والفخارات التي تعجن بالأرواث كلها مشكلة على مذهبهم.
الثامن: أن بيع الروث والجلة لا يجوز عندهم مع أنهم يباشرونه.
التاسع: أن الملبوسات التي يتناولها الجمهور من السنجاب والسمور والقاقم وسائر أصنافها غير طاهرة عندهم لأن شعر الميتة نجسة عندهم.
العاشر أن بيع الباقلاء والفول الأخضر والجوز واللوز في قشورها

(1/193)


مشكل عندهم مع أنهم لا يحترزون عن أمثالها وهذه قطرة من بحار المسائل التي يحتاج الناس إلى تقليد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه فيها تركناها مخافة التطويل فالناس كلهم كما قال الشافعي عيال على أبي حنيفة في الفقه فيكون تقليده أذقع للحرج عنهم والله أعلم.

(1/194)