اللباب
في الجمع بين السنة والكتاب بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله على آلائه ونعمائه، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده
لَا شريك لَهُ، شَهَادَة أدخرها ليَوْم لِقَائِه، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا
عَبده وَرَسُوله وَسيد أصفيائه، وَخَاتم رسله وأنبيائه، صلى الله عَلَيْهِ
وعَلى آله وأزواجه وَأَصْحَابه وخلفائه، وَرَضي الله عَن الْأَئِمَّة
المهديين من أمنائه.
وَبعد:
فَإِنِّي لما رَأَيْت أُنَاسًا يَأْخُذُونَ منا، ويسلبون علم الحَدِيث
عَنَّا، ويجعلون ذَلِك عَيْبا وطعنا (ويظهرون ذَلِك فِيمَا بَينهم، ويخفون
عَن النَّاس مينهم، ويريدون أَن يطفئوا نور الله بأفواههم، وَالله متم نوره
وَلَو كره الْكَافِرُونَ، إرغاما لَهُم، وتسفيها لآرائهم) (وينسبون
إِلَيْنَا خَاصَّة الْعَمَل بِالْقِيَاسِ، ويظهرون ذَلِك فِيمَا بَين
النَّاس، ويصرحون بِالرَّدِّ علينا وَلَا يكنون، وَلَا يراقبون الله فِيمَا
يَقُولُونَ) .
سلكت طَرِيقا يظْهر بهَا حسدهم وبغيهم، وَيبْطل بهَا قصدهم وسعيهم، وَذكرت
الْأَحَادِيث الَّتِي تمسك بهَا أَصْحَابنَا فِي مسَائِل الْخلاف، وسلكت
فِيهَا سَبِيل الْإِنْصَاف، (وعزيت الْأَحَادِيث إِلَى من خرجها، وأوردت من
طرقها أوضحها وأبهجها) ، ليظْهر لمن نظر فِيهَا وأنصف، أننا أَكثر النَّاس
انقيادا لكتاب الله تَعَالَى، وَأَشد اتبَاعا لحَدِيث رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، (وإننا لمحرزون قصبات السَّبق فِي سلوك طَرِيق الْحق) .
(1/37)
فألفت هَذَا الْكتاب، ووسمته باللباب فِي
الْجمع بَين السّنة وَالْكتاب، وَجَعَلته عدَّة ليَوْم الْحساب.
وَالله أسأَل أَن يصلح مني القَوْل وَالْعَمَل وَالنِّيَّة، وَلَا
يَجْعَلنِي مِمَّن يَمُوت على عصبية، ويسهل حفظه على ملتمسيه وينفع من نظر
فِيهِ.
(1/38)
((كتاب الطَّهَارَة))
قَالَ الله تَعَالَى: {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا} .
وَالطهُور هُوَ الطَّاهِر فِي نَفسه، (وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وسقاهم
رَبهم شرابًا طهُورا} ) ، (وَقَالَ تَعَالَى: {وَينزل عَلَيْكُم من
السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ} .
وَالطهُور يذكر وَيُرَاد بِهِ المطهر لغيره، وَمِنْه قَوْله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] لما سُئِلَ (عَن مَاء) الْبَحْر (فَقَالَ) : " هُوَ
الطّهُور مَاؤُهُ، (الْحل ميتتة) ".
(1/39)
(وَيذكر وَيُرَاد بِهِ الطَّاهِر لَا
المطهر، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا} ، وَقَوله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِن الصَّعِيد الطّيب طهُور "، " وَجعلت لي
الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا "، عِنْد من يعْتَقد أَن التَّيَمُّم لَا يرفع
الْحَدث. وَمِنْه قَول جرير:
( ... عَذَاب الثنايا ريقهن طهُور ... )
فَإِن قيل: لَو كَانَ الطّهُور هُنَا بِمَعْنى الطَّاهِر لم يكن لشراب أهل
الْجنَّة مزية على شراب أهل الدُّنْيَا، وَلم يكن لريق من وصفهن جرير
فَضِيلَة على غَيْرهنَّ.
قيل لَهُ: لَا يلْزم ذَلِك، لِأَن شراب أهل الدُّنْيَا مِنْهُ مَا هُوَ نجس
كَالْخمرِ، وَمِنْه مَا هُوَ مدنس بِمَا يلازمه من حرارة أَو برودة يحصل
مِنْهُمَا للشارب مضرَّة، وشراب أهل الْجنَّة ينزه عَن هَذِه الْأَشْيَاء.
قَالَ الله تَعَالَى فِي صفة خمر الْجنَّة: {لَا فِيهَا غول وَلَا هم
عَنْهَا ينزفون} ، فَلهَذَا وَصفه الله بِالطَّهَارَةِ.
والطاهر عبارَة عَن المنزه عَنَّا يستقذر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: (كَانَ)
ريقهن منزه عَمَّا يستقذر من دم يخرج من الْأَسْنَان فيختلط بِهِ، أَو من
رَائِحَة قبيحة تجاوره من أثر طَعَام يبْقى بَين الْأَسْنَان، أَو مَا
يعلوها من أبخرة تتصعد من الْمعدة عِنْد خلوها وَهُوَ الْمُسَمّى بالخلوف،
فَبِهَذَا ثبتَتْ فَضِيلَة ريقهن على ريق غَيْرهنَّ) .
(وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا} )
وَمِنْه قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " إِن الصَّعِيد الطّيب طهُور ".
(1/40)
وَكَونه مطهرا لغيره ثَبت بِالْإِجْمَاع
أَو بقوله تَعَالَى: {وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ} .
(فَإِن قيل: هَذَا الحَدِيث يدل على أَن الطّهُورِيَّة غير الطاهرية
فَالْحَدِيث حجَّة عَلَيْك.
قيل لَهُ: إِنَّمَا تمسكت بِهَذَا الحَدِيث من حَيْثُ إِنَّه أطلق اسْم
الطّهُور على مَا لَا يطهر غَيره، فَإِن عنْدك لَو نوى فِي التَّيَمُّم رفع
الْحَدث لم يَصح، وَلَو نوى اسْتِبَاحَة الصَّلَاة صَحَّ، فَدلَّ على أَن
التُّرَاب لَا يرفع (الْحَدث) وَلَا يزِيل وَحده الْخبث وَلَا معنى للطهور
إِلَّا كَونه يرفع الْحَدث ويزيل الْخبث) .
(بَاب إِذا اخْتَلَط المَاء بالسدر والخطمى والكافور فَهُوَ طهُور)
مَالك، عَن أم عَطِيَّة الْأَنْصَارِيَّة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا
قَالَت: دخل علينا
(1/41)
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
حِين توفيت ابْنَته فَقَالَ: " اغسلنها ثَلَاثًا، أَو خمْسا، أَو أَكثر من
ذَلِك إِن رأيتن ذَلِك، بِمَاء وَسدر، واجعلن فِي الْآخِرَة كافورا أَو
شَيْئا من كافور، فَإِذا فرغتن فآذنني "، قَالَت: فَلَمَّا فَرغْنَا آذناه
فأعطانا حقوه فَقَالَ: " أشعرنها إِيَّاه ".
قَالَ مَالك: " تَعْنِي بحقوه، إزَاره ".
البُخَارِيّ وَمُسلم، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ:
(بَيْنَمَا) رجل وَاقِف مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
بِعَرَفَة إِذْ وَقع من رَاحِلَته " فوقصته "، وَفِي رِوَايَة " فأقعصته "،
فَذكر للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: " اغسلوه بِمَاء وَسدر
وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ "، وَفِي رِوَايَة " فِي ثوبيه "، وَلَا تحنطوه،
وَلَا تخمروا رَأسه "، وَفِي رِوَايَة " وَلَا / تغطوا وَجهه وَلَا تقربوه
طيبا فَإِنَّهُ يبْعَث (يُلَبِّي) "، وَفِي رِوَايَة " وَهُوَ يُلَبِّي "،
وَفِي رِوَايَة " فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبدا "، وَفِي
رِوَايَة " فَإِن الله يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة ملبيا ".
وَجه التَّمَسُّك بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] أَمر بِالْغسْلِ بِالْمَاءِ والسدر، وَالْغسْل بِهِ لَا يتَصَوَّر
إِلَّا بِأحد شَيْئَيْنِ، إِمَّا بخلطه بِالْمَاءِ، أَو بِوَضْعِهِ على
الْجَسَد وصب المَاء عَلَيْهِ، وَكَيف مَا كَانَ فَلَا بُد من الِاخْتِلَاط
والتغير، فَلَو سلب الطّهُورِيَّة لما أَمر بِالْغسْلِ بِهِ، أَلا ترى أَن
التُّرَاب لما لم يسلب الطّهُورِيَّة أَمر بالتعفير بِهِ من ولوغ الْكَلْب،
ثمَّ إِنَّه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَمر بِجعْل الكافور فِي الْمرة
الْأَخِيرَة وَلم يَأْمر بعد ذَلِك بِالْغسْلِ بِالْمَاءِ القراح، فَدلَّ
على أَنه يجتزئ بِهِ.
(1/42)
وَيُؤَيّد هَذَا مَا روى أَبُو دَاوُد، عَن
رجل من بني سوأة، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، عَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] : " أَنه كَانَ يغسل رَأسه بالخطمى وَهُوَ جنب، (يجتزئ)
بذلك وَلَا يصب عَلَيْهِ المَاء ".
فَإِن قيل: فِي سَنَد هَذَا الحَدِيث رجل مَجْهُول، والمجهول غير مَقْبُول
الرِّوَايَة، قيل لَهُ: الْمُسلم عِنْد أَصْحَابنَا مَقْبُول الرِّوَايَة
مَا لم يظْهر فسقه، فَإِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قبل خبر
الْأَعرَابِي فِي رُؤْيَة الْهلَال بعد أَن عرفه مُسلما وَلم يسْأَل عَن
صفة زَائِدَة (على) الْإِسْلَام.
التِّرْمِذِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " جَاءَ
أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: " إِنِّي
رَأَيْت الْهلَال "، فَقَالَ: " أَتَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ...
أَتَشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله؟ "، قَالَ: " نعم "، قَالَ: يَا بِلَال
أذن فِي النَّاس أَن يَصُومُوا غَدا ".
فَإِنَّهُ قيل: يجوز أَن يكون النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نزل
عَلَيْهِ الْوَحْي بعدالته وتصديقه.
قيل لَهُ: الظَّاهِر أَن هَذَا لم يكن، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن
يكون نزل عَلَيْهِ الْوَحْي بعد أَن سَأَلَهُ عَن إِسْلَامه، أَو قبل أَن
(يسْأَل) عَنهُ.
لَا وَجه إِلَى الأول، لِأَنَّهُ حِين سَأَلَهُ عَن إِسْلَامه فَأَجَابَهُ
عمل بِمُوجب خَبره، ونادى بالصيام فِي ذَلِك الْمجْلس على مَا شهد بِهِ
ظَاهر الحَدِيث، وَالنَّبِيّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ إِذا نزل
عَلَيْهِ الْوَحْي عرف بِهِ من كَانَ عِنْده.
(1/43)
قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: "
وَلَقَد رَأَيْته ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي فِي الْيَوْم الشَّديد الْبرد
فَيفْصم عَنهُ وَإِن جَبينه يتفصد عرقا، إِلَى غير ذَلِك من الْأَحَادِيث
الدَّالَّة على تغير حَاله عِنْد نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] .
وَلَا وَجه إِلَى الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَو كَانَ عَالما بعدالته وَصدقه
قبل ذَلِك - مَعَ أَن الْعَدَالَة صفة زَائِدَة على الْإِسْلَام وَهِي
مرتبَة عَلَيْهِ وَيشْتَرط إظهارها - لم يسْأَله عَن إِسْلَامه، لِأَن
الْعلم بِالْعَدَالَةِ مَشْرُوط بِالْعلمِ بِالْإِسْلَامِ، فَلَمَّا
سَأَلَهُ عَن إِسْلَامه وَلم (يسْأَل) عَن عَدَالَته دلّ أَن ظُهُور
الْإِسْلَام هُوَ الْمُعْتَبر فِي قبُول الْخَبَر دون الْعَدَالَة.
فَإِن قيل: إِنَّمَا قبل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خَبره
لِأَنَّهُ أخبر بذلك حِين أسلم، وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت طَاهِرا من كل
فسق بِمَثَابَة من علم إِسْلَامه حِين / بُلُوغه، وَإِسْلَام من هَذَا
حَاله (عَدَالَة) ، فَإِذا تطاول أمره لم يعلم بَقَاؤُهُ على الْعَدَالَة.
قيل لَهُ: إِذا ثبتَتْ عَدَالَته عِنْد بُلُوغه وإسلامه فَالظَّاهِر
بَقَاؤُهَا إِلَى أَن يثبت مَا يغيرها، ثمَّ إِن الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَمر بالتثبت عِنْد مَجِيء الْفَاسِق بالنبأ بقوله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}
وَلم يَأْمر بالتثبت عِنْد مَجِيء مَشْهُور الْعَدَالَة وَلَا عِنْد مَجِيء
مستورها، فَمَا لم يقم دَلِيل من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع أَو اعْتِبَار
(صَحِيح) يُوجب رد خَبره وَإِلَّا وَجب قبُوله.
فَهَذَا نوع من أَنْوَاع الحَدِيث قبلناه، وأوجبنا الْعَمَل بِهِ،
وَتَركنَا الْقيَاس من
(1/44)
أَجله، وغيرنا لم يقبله وَعمل بِالْقِيَاسِ
مَعَ وجوده وَادّعى أَنه مُتبع للْحَدِيث دُوننَا، فَالله يحكم بَيْننَا
وَهُوَ خير الْحَاكِمين.
قلت: وَقد تضمن مَا استدللنا بِهِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من الْأَحَادِيث
ثَلَاث مسَائِل مُخْتَلف فِيهَا:
الأولى: أَن الْمحرم إِذا مَاتَ لَا يَنْقَطِع إِحْرَامه بِالْمَوْتِ بل
يبْقى أَثَره، وَهُوَ مَذْهَب الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَإِسْحَاق، اسْتِدْلَالا بالمحرم الَّذِي وَقع عَن رَاحِلَته فَمَاتَ.
وَذهب أَصْحَابنَا وَمَالك إِلَى أَن الْإِحْرَام يَنْقَطِع بِالْمَوْتِ
وَيفْعل بِالْمَيتِ الْمحرم مَا يفعل بِسَائِر الْمَوْتَى، اسْتِدْلَالا
بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُور وَهُوَ قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : "
إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث ". " الحَدِيث "،
وتقليدا لِابْنِ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا، (فَإِن ابْن عمر مَاتَ لَهُ
ابْن فِي الْجحْفَة وَهُوَ محرم فخمر رَأسه وَوَجهه وَقَالَ: " لَوْلَا
أَنا حرم لطيبناه " فَلم يقطع ابْن عمر أَن ابْنه بِمَنْزِلَة الموقوص
الَّذِي أخبر عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه يبْعَث يَوْم
الْقِيَامَة ملبيا، ثمَّ من مَاتَ بعد هَذَا الموقوص فِي حَال الْإِحْرَام
لَا يعلم هَل يقبل حجه، وَهل يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا أم لَا؟ وَلَا
يقطع على غير ذَلِك إِلَّا بِوَحْي فَافْتَرقَا) . ويجيبون عَن حَدِيث
الْمحرم أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] علق الحكم بعلة وَهِي
بَقَاء الْإِحْرَام فِي الْآخِرَة وَذَلِكَ لَا يعلم فِي غير هَذَا
الْمَيِّت فَلَا يجوز إِثْبَات الحكم مَعَ عدم الْعلم بِالْعِلَّةِ، وَلَا
عُمُوم فِي لفظ هَذَا الْخَبَر فَلَا دَلِيل فِيهِ.
(1/45)
الثَّانِيَة: أَنه لَا يجوز للْمحرمِ
تَغْطِيَة رَأسه وَلَا وَجهه، للروايتين المتقدمتين فِي حَدِيث الْمحرم.
الثَّالِثَة: إِذا شهد بِرُؤْيَة هِلَال رَمَضَان عدل وَاحِد وَجب
الصَّوْم، خلافًا للشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه، اسْتِدْلَالا بِحَدِيث
الْأَعرَابِي الَّذِي شهد بِرُؤْيَة الْهلَال. وَيُؤَيِّدهُ مَا روى أَبُو
دَاوُد عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " ترَاءى النَّاس
الْهلَال فَأخْبرت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنِّي رَأَيْته،
فصَام وَأمر النَّاس بصيامه ".
(ذكر مَا فِي الْحَدِيثين الْمَذْكُورين فِي أول الْبَاب من الْغَرِيب:)
الحقو - بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسرهَا وَبعدهَا قَاف سَاكِنة وواو
- قيل هُوَ المئزر، وَأَصله مشد الْإِزَار من الْإِنْسَان وهما الخاصرتان،
وَقيل طرفا الْوَرِكَيْنِ، ثمَّ سمي بِهِ
(1/46)
الْإِزَار للمجاورة. وأشعرنها إِيَّاه: أَي
اجعلنه يَلِي جَسدهَا والشعار (مَا) يَلِي الْجَسَد لِأَنَّهُ يَلِي شعر
الْإِنْسَان، والدثار مَا فَوق الشعار، وَمِنْه قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] : " الْأَنْصَار شعاري وَالنَّاس دثاري ". أَي أَنهم البطانة
والخاصة.
فَائِدَة: وَهَذِه الْبِنْت المتوفاة هِيَ زَيْنَب زَوْجَة أبي الْعَاصِ بن
الرّبيع، على الصَّحِيح، وَهِي أكبر بَنَاته، / وَأم كُلْثُوم توفيت وَهُوَ
غَائِب ببدر [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
وقصت: بقاف مَفْتُوحَة وصاد مُهْملَة مَفْتُوحَة وتاء التَّأْنِيث، أَي
صرعته فدقت عُنُقه. وأقعصته: بِهَمْزَة مَفْتُوحَة وقاف سَاكِنة وَعين
مُهْملَة (وصاد مُهْملَة) مفتوحتان وتاء التَّأْنِيث، أَي أماتته سَرِيعا.
(1/47)
(بَاب " المَاء الْمُسْتَعْمل نجس فِي
رِوَايَة ")
(ذكر مَشَايِخ بَلخ عَن أبي حنيفَة ثَلَاث رِوَايَات فِي المَاء
الْمُسْتَعْمل.
إِحْدَاهَا: أَنه نجس نَجَاسَة مُغَلّظَة (كالبول وَالْخمر) وَهِي رِوَايَة
الْحسن بن زِيَاد عَنهُ.
وَالثَّانيَِة: أَنه نجس نَجَاسَة خَفِيفَة وَهِي رِوَايَة أبي يُوسُف
عَنهُ.
وَالثَّالِثَة: أَنه طَاهِر غير طهُور، وَهِي رِوَايَة مُحَمَّد بن الْحسن
عَنهُ.
ومشايخ الْعرَاق رووا عَن أبي حنيفَة أَنه طَاهِر غير طهُور رِوَايَة
وَاحِدَة، واختارها الْمُحَقِّقُونَ من أَصْحَابنَا وَهِي القَوْل
الْأَشْهر الأقيس الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَجه الرِّوَايَة الأولى) : قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا
فاطهروا} فتسمية الْغسْل طَهَارَة يشْعر بالحكم باستقذار بدن الْمُحدث،
لِأَن الطَّهَارَة فِي اللُّغَة عبارَة عَن التَّنَزُّه عَمَّا يستقذر.
يُؤَيّد هَذَا قَوْله تَعَالَى {فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا} .
وروى مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] :
(1/48)
" لَا يغْتَسل أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم
وَهُوَ جنب ". وَفِي رِوَايَة قَالُوا: فَكيف نَفْعل يَا أَبَا هُرَيْرَة؟
قَالَ: " يتَنَاوَلهُ تناولا ".
فَثَبت بِهَذَا (أَن الْحَدث) معنى مُقَدّر فِي الْمحل يطْلب زَوَاله.
وَذَلِكَ الْمَعْنى مَانع من الصَّلَاة.
(وَقَوله) [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " سُبْحَانَ الله إِن الْمُسلم لَا
ينجس ".
(وَفِي رِوَايَة: إِن الْمُؤمن لَا ينجس) . مَعْنَاهُ أَن الْجنب لَا يصير
كَالْعَيْنِ النَّجِسَة بِحَيْثُ لَا يجوز مُجَالَسَته ومصافحته.
وَجه الرِّوَايَة الثَّانِيَة: أَن النَّاس اخْتلفُوا فِيهِ فَخفت
نَجَاسَته كَمَا خفت نَجَاسَة بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه.
(1/49)
وَجه الرِّوَايَة الثَّالِثَة: مَا روى
مُسلم عَن عون بن أبي جُحَيْفَة قَالَ: " أتيت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] بِمَكَّة وَهُوَ بِالْأَبْطح فِي قبَّة لَهُ حَمْرَاء من أَدَم،
قَالَ: فَخرج بِلَال بوضوئه فَمن نائل وناضح، قَالَ: فَخرج النَّبِي [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] عَلَيْهِ حلَّة حَمْرَاء، كَأَنِّي أنظر إِلَى بَيَاض
سَاقيه، فَتَوَضَّأ وَأذن بِلَال، وَقَالَ: فَجعلت أتتبع فَاه هَهُنَا
وَهَهُنَا يَقُول يَمِينا وَشمَالًا يَقُول حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على
الْفَلاح، قَالَ: ثمَّ ركزت لَهُ عنزة، فَتقدم فصلى الظّهْر رَكْعَتَيْنِ
يمر بَين يَدَيْهِ الْحمار وَالْكَلب لَا يمْنَع، ثمَّ صلى الْعَصْر
رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ لم يزل يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى
الْمَدِينَة ".
وَفِي رِوَايَة: " فَرَأَيْت بِلَالًا أخرج وضُوءًا فَرَأَيْت النَّاس
يبتدرون ذَلِك الْوضُوء. فَمن أصَاب مِنْهُ شَيْئا تمسح بِهِ وَمن لم يصب
مِنْهُ شَيْئا أَخذ من بَلل يَد صَاحبه ".
وَفِي رِوَايَة: " يمر من وَرَائِهَا الْمَرْأَة وَالْحمار ".
قلت: فَهَذَا الحَدِيث دَلِيل على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل، إِن
كَانَ مَا أخرجه بِلَال
(1/50)
غسالة أَعْضَاء رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ، والأغلب أَنَّهَا كَانَت غسالة أَعْضَائِهِ وَإِلَّا لما
فعل بهَا الصَّحَابَة (مَا فعلوا، لِأَن) مَا يفضل من وضوئِهِ فِي
الْإِنَاء مثل مَا يفضل من وضوئِهِ من الْبِئْر، فلولا كَانَ الَّذِي أخرجه
بِلَال فضل وضوئِهِ لما فعلوا بِهِ مَا فعلوا، وَمَا ثَبت فِي حق النَّبِي
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (يثبت) فِي حق غَيره إِلَّا أَن يقوم دَلِيل على
تَخْصِيصه بِهِ.
وَأما مَا يدل على أَنه غير طهُور، خلافًا لمَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي
قَوْله الْقَدِيم فَذَلِك ترك الْأَوَّلين بجمعه ليتوضأ بِهِ مرّة بعد
أُخْرَى عِنْد فقد المَاء مَعَ قلَّة الْمِيَاه فِي الْحجاز،
وَاخْتِلَافهمْ فِيمَا إِذا وجد (مَا لَا يَكْفِيهِ) من المَاء لحدثه هَل
يجب اسْتِعْمَاله أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ.
(بَاب (الْوضُوء بالنبيذ))
كَانَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول: إِذا ألقِي فِي المَاء
تُمَيْرَات تستحلب (عذوبة) المَاء حَتَّى صَار حلوا رَقِيقا (يسيل على
الْأَعْضَاء) جَازَ الْوضُوء بِهِ عِنْد عدم المَاء محتجا فِي ذَلِك بِمَا
روى:
(1/51)
التِّرْمِذِيّ عَن أبي فَزَارَة رَاشد بن
كيسَان، عَن أبي زيد مولى عَمْرو بن حُرَيْث، عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله
عَنهُ قَالَ: " سَأَلَني النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَمن طَرِيق
أبي دَاوُد أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ لَهُ لَيْلَة
الْجِنّ: " مَا فِي إداوتك، قلت: نَبِيذ، قَالَ: تَمْرَة طيبَة وَمَاء
طهُور، قَالَ: فَتَوَضَّأ مِنْهُ ".
فَإِن قيل: قَالَ التِّرْمِذِيّ: " أَبُو زيد رجل مَجْهُول عِنْد أهل
الْعلم ".
قيل لَهُ: قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ: أَبُو زيد مولى
عَمْرو بن حُرَيْث
(1/52)
روى عَنهُ رَاشد بن كيسَان وَأَبُو روق
وَهَذَا يُخرجهُ عَن حد الْجَهَالَة، وَأما اسْمه فَلم يعرف، فَيجوز أَن
يكون أَرَادَ التِّرْمِذِيّ أَنه مَجْهُول الِاسْم.
فَإِن قيل: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: أَبُو فَزَارَة فِي حَدِيث ابْن
مَسْعُود رجل مَجْهُول، وَذكر البُخَارِيّ أَبَا فَزَارَة الْعَبْسِي رَاشد
بن كيسَان، وَأَبا فَزَارَة الْعَبْسِي غير مُسَمّى، فجعلهما اثْنَيْنِ.
قيل لَهُ: قد صرح التِّرْمِذِيّ بِأَنَّهُ رَاشد بن كيسَان، وَأخْبر أَن
أَبَا زيد رجل مَجْهُول، فَلَو كَانَ أَبُو فَزَارَة مَجْهُولا لذكره، وَقد
وَافق تَصْرِيح التِّرْمِذِيّ بِالتَّسْمِيَةِ تَصْرِيح البُخَارِيّ،
فَثَبت أَنه رَاشد بن كيسَان الْعَبْسِي (الْكُوفِي وانتفى أَن يكون غَيره
وَرَاشِد بن كيسَان (الْعَبْسِي)) / (ثِقَة) روى عَنهُ الثَّوْريّ وجعفر بن
برْقَان وَجَرِير بن حَازِم وَإِسْرَائِيل وَشريك. هَكَذَا ذكر ابْن
الْعَرَبِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ.
فَإِن قيل: " صَحَّ عَن عبد الله أَنه قَالَ (لم) أكن مَعَ النَّبِي [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] لَيْلَة الْجِنّ ".
قيل لَهُ: يجوز أَن يكون صَحبه فِي بعض اللَّيْلَة واستوقفه فِي الْبَاقِي.
(1/53)
وروى الدَّارَقُطْنِيّ، عَن عَليّ بن أبي
طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " لَا بَأْس بِالْوضُوءِ بالنبيذ ".
وَعنهُ، عَن (يحيى بن أبي كثير) ، عَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: " النَّبِيذ
وضوء من لم يجد غَيره " فَهَذِهِ الْمَسْأَلَة قد اسْتدلَّ فِيهَا بِهَذَا
الحَدِيث الَّذِي قد أَكثر النَّاس الطعْن فِيهِ وَترك الْقيَاس من أَجله
وَوَافَقَهُ على ذَلِك سُفْيَان الثَّوْريّ. هَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيّ
وَوَافَقَهُ أَيْضا عِكْرِمَة وسبقهم بِهَذَا القَوْل عَليّ بن أبي طَالب
رَضِي الله عَنهُ، فَمن أتبع لحَدِيث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] من هَذَا الإِمَام، ثمَّ إِنَّه رَجَعَ عَن هَذَا القَوْل إِلَى مَا
رَآهُ الْأَكْثَرُونَ، وَهَذَا دَلِيل على أَنه كَانَ رَضِي الله عَنهُ لَا
يَقُول قولا بِرَأْي نَفسه بل يتبع الدَّلِيل حَيْثُ كَانَ.
(1/54)
(بَاب إِذا اسْتعْملت الْمَرْأَة من إِنَاء
(وخلت) بِهِ جَازَ للرجل اسْتِعْمَاله)
أَبُو دَاوُد عَن أم حبية الجهنية قَالَت: " اخْتلفت يَدي وَيَد رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الْوضُوء من إِنَاء وَاحِد ".
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد عَن حميد الْحِمْيَرِي، قَالَ: لقِيت رجلا
صحب النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَربع سِنِين كَمَا صَحبه أَبُو
هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " نهى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] أَن تَغْتَسِل الْمَرْأَة بِفضل الرجل، أَو يغْتَسل الرجل بِفضل
الْمَرْأَة ". زَاد مُسَدّد: " وليغترفا جَمِيعًا ".
قيل لَهُ: فقد روى التِّرْمِذِيّ، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
قَالَ: " اغْتسل بعض أَزوَاج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي
جَفْنَة فَأَرَادَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يتَوَضَّأ
مِنْهُ، فَقَالَت:
(1/55)
يَا رَسُول الله إِنِّي كنت جنبا، قَالَ: "
إِن المَاء لَا يجنب ". (" قَالَ أَبُو عِيسَى ":) هَذَا حَدِيث (حسن)
صَحِيح.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إِشَارَة إِلَى تقدم حَدِيث النَّهْي، لِأَنَّهَا
قَالَت إِنِّي كنت جنبا، أَي فَلَا تستعمله، وَهَذَا إِنَّمَا يكون بعد
علمهَا بِأَن الْمَرْأَة إِذا اسْتعْملت من مَاء وَبَقِي مِنْهُ شَيْء أَنه
لَا يجوز للرجل اسْتِعْمَاله، يُؤَيّد هَذَا حَدِيث بَرِيرَة، قَالَت
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " وَدخل عَلَيْهَا رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] والبرمة تَفُور بِلَحْم فَقرب إِلَيْهِ خبز وأدم من أَدَم
الْبَيْت، فَقَالَ: ألم أر برمة فِيهَا لحم؟ قَالُوا: بلَى يَا رَسُول الله
وَلَكِن ذَاك لحم تصدق بِهِ على بَرِيرَة، وَأَنت لَا تَأْكُل الصَّدَقَة،
فَقَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة وَهُوَ لنا مِنْهَا هَدِيَّة ".
فالمفهوم من هَذَا كالمفهوم من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا.
(ذكر مَا فِي الحَدِيث من الْغَرِيب:)
قَوْله: " إِن المَاء لَا يجنب "، الْجَنَابَة: الْبعد، فَمَعْنَى الحَدِيث
أَن المَاء لَا يصير بِهَذَا / الْفِعْل إِلَى حَالَة يجْتَنب فَلَا
يسْتَعْمل.
(1/56)
(بَاب سُؤْر الْهِرَّة مَكْرُوه فِي
رِوَايَة)
مَالك: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " أكل كل ذِي نَاب من السبَاع حرَام ".
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " السنور سبع ".
التِّرْمِذِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " يغسل الْإِنَاء إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب
سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَإِذا ولغت فِيهِ الْهِرَّة غسل
مرّة ". حَدِيث حسن صَحِيح. قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: " ويؤثر كَرَاهَة
سؤرها عَن سعيد بن الْمسيب، وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَالْحسن الْبَصْرِيّ،
وَعَطَاء، وَمُجاهد، وَيحيى بن سعيد، رَضِي الله عَنْهُم ". وَالْكَرَاهَة
كَرَاهَة تَنْزِيه لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " إِنَّهَا لَيست
(1/57)
بِنَجس إِنَّمَا هِيَ من الطوافين
عَلَيْكُم أَو الطوافات ".
(بَاب سُؤْر الْبَغْل (وَالْحمار) مَشْكُوك فِي طهوريته، وَقيل فِي
طَهَارَته)
مَالك: عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] نهى عَن مُتْعَة النِّسَاء يَوْم خَيْبَر، وَعَن أكل
لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة ".
وَصَحَّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] أَمر عَام خَيْبَر مناديا يُنَادي أَن الله وَرَسُوله ينهيانكم عَن
لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة فَإِنَّهَا رِجْس ". وَهَذِه الْعبارَة
(1/58)
تسْتَعْمل فِي النَّجَاسَات، قَالَ الله
تَعَالَى: {أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس} . وَهَذَا يَقْتَضِي
نَجَاسَة سؤره. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه
قَالَ: " مَا نهى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن أكل لُحُوم
الْحمر الْأَهْلِيَّة إِلَّا من أجل أَنَّهَا ظهر "، وَقَالَ بَعضهم: "
إِنَّمَا نهى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَنْهَا لِأَنَّهَا حمر
كَانَت تَأْكُل الْعذرَة "، فَلَمَّا وَقع الِاخْتِلَاف فِي عِلّة
التَّحْرِيم وَلم يتَرَجَّح الْبَعْض على الْبَعْض توقف الإِمَام رَضِي
الله عَنهُ فَلم يحكم فِيهِ بِطَهَارَة وَلَا نَجَاسَة. وَهَذَا دَلِيل على
علمه وورعه.
فَإِن قيل: فقد روى جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] سُئِلَ أيتوضأ بِمَا أفضلت الْحمر قَالَ: " نعم
وَبِمَا أفضلت السبَاع كلهَا ". وَهَذَا يَقْتَضِي طَهَارَة سؤره.
(1/59)
قيل لَهُ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ دَاوُد
بن الْحصين، عَن جَابر. وَلم يلقه فضعف الِاحْتِجَاج بِهِ.
فَإِن قيل: فقد رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن (إِبْرَاهِيم بن) أبي يحيى، عَن
دَاوُد بن الْحصين، عَن أَبِيه، عَن جَابر. (وَإِبْرَاهِيم بن أبي يحيى)
عِنْد الشَّافِعِي ثِقَة.
قيل لَهُ: فلاحتمال صِحَّته جعل بعض أَصْحَابنَا الشَّك فِي طهوريته لَا
فِي طَهَارَته، وَقد وَافَقنَا أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ فِي
إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ، / وَأَصَح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ أَنه
نجس، وبمثل مَا حكمنَا بِهِ فِي سُؤْر الْحمار حكم عبد الله بن مسلمة من
أَصْحَاب مَالك رَحمَه الله فِي الدَّجَاج والأوز يَأْكُل الْعذرَة فيشرب
المَاء من الْإِنَاء أَنه مَشْكُوك فِيهِ فَيجمع بَينه وَبَين التَّيَمُّم،
وَكَذَا قَالَ ابْن شهَاب رَحمَه الله فِي مَاء ولغَ فِيهِ الْكَلْب هُوَ
مَاء وَفِي النَّفس مِنْهُ شَيْء يتَوَضَّأ (بِهِ) وَيتَيَمَّم. فمذهبنا
وسط بَين المذهبين وَخيَار الْأُمُور أوساطها.
(بَاب كل مَا تَيَقّن أَو غلب على الظَّن وُصُول النَّجَاسَة إِلَيْهِ حرم
اسْتِعْمَاله)
مُسلم: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم ثمَّ
يغْتَسل مِنْهُ ".
(1/60)
وَفِي لفظ أبي دَاوُد " ثمَّ يغْتَسل فِيهِ
". وَفِي لفظ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ " ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ ".
(وَجه التَّمَسُّك بِهَذَا الحَدِيث:)
إِن مُطلق النَّهْي يَقْتَضِي وجوب الِامْتِنَاع لَا سِيمَا وَقد أكد بنُون
التَّأْكِيد، وَحَدِيث " بِئْر بضَاعَة " حسن، وَمَا روينَاهُ صَحِيح فَلَا
يُعَارض بِهِ بل يُعَارضهُ ... ... .
(1/61)
(مَا) روى مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي
الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا
اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا
ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده ".
أَو (نقُول) يحْتَمل أَن يكون سُؤَالهمْ عَن الْبِئْر، وَجَوَابه عَلَيْهِ
السَّلَام كَانَ بعد إِخْرَاج النَّجَاسَة من الْبِئْر مَعَ المَاء،
لِأَنَّهُ لَا يُمكن حمل الحَدِيث على حَال بَقَاء النَّجَاسَة، لِأَن
ماءها يتَغَيَّر لَا محَالة بِكَثْرَة الْإِلْقَاء فِيهَا وَقلة
الْإِخْرَاج مِنْهَا، مَعَ أَن المَاء ينجس (بالتغيير) بِلَا خلاف.
وَفَائِدَة سُؤَالهمْ أَن الْحَال أشكلت عَلَيْهِم من حَيْثُ بَقَاء
النَّجَاسَة فِي طين الْبِئْر وحيطانها، فَبين لَهُم النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] أَن ذَلِك لَا يُؤثر فِيمَا طَرَأَ من المَاء (لَا أَنه)
لَا ينجس بمنجس، وَهَذَا مثل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن الْمُسلم
لَا ينجس ".
(1/62)
وَحَدِيث الْقلَّتَيْنِ مَدَاره (أما) على
مطعون فِيهِ، أَو مُضْطَرب فِي رِوَايَته، فَروِيَ: (" قُلَّتَيْنِ ":
وَرُوِيَ) : " قُلَّتَيْنِ، أَو ثَلَاثًا "، وَرُوِيَ: " أَرْبَعُونَ قلَّة
"، وَرُوِيَ: " أَرْبَعُونَ غربا "، وعَلى كَثْرَة طرقه لم يُخرجهُ من شَرط
الصِّحَّة، وَرُوِيَ مَوْقُوفا على أبي هُرَيْرَة (وعَلى ابْن عمر) رَضِي
الله عَنْهُمَا، وَإِن صَحَّ فَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن.
أَحدهمَا: أَن الْقلَّة مَجْهُولَة الْقدر مُحْتَملَة لمعان، قَالَ
مُحَمَّد بن إِسْحَاق: هِيَ الجرة، والقلة الَّتِي يستقى فِيهَا. قَالَ فِي
الصِّحَاح: " والقلة أَعلَى الْجَبَل وَقلة كل شَيْء أَعْلَاهُ، وَرَأس
الْإِنْسَان قلَّة، وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ:
(عجائب تبدي الشيب فِي قلَّة الطِّفْل ... )
فَلَا يسوغ لأحد تخصيصها بِشَيْء مِمَّا ذكرنَا إِلَّا بِدَلِيل، فَإِن
سَاغَ لغيرنا حملهَا على قلال هجر، سَاغَ لنا أَن نحملها على أَعلَى مَا
قيل فِيهَا إِذْ قد (سيق لبَيَان) أَنه لَا ينجس لكثرته فتقديره بِهِ أنسب
لِأَنَّهُ كَالْمَاءِ الْجَارِي / معنى (ليُوَافق) معنى الْآثَار.
(1/63)
الْوَجْه الثَّانِي: أَن حَدِيث مُسلم
الَّذِي روينَاهُ فِي أول هَذَا الْبَاب (رَاوِيه) أَبُو هُرَيْرَة وإسلامه
مُتَأَخّر، وَحَدِيث الْقلَّتَيْنِ رِوَايَة ابْن عمر وإسلامه مُتَقَدم،
والمتأخر ينْسَخ الْمُتَقَدّم، فَإِن لم يكن النّسخ متحققا فَهُوَ مُحْتَمل
فَكَانَ الْأَخْذ بحديثنا أحوط.
واستفدنا من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ أَن سُؤْر سِبَاع الْبَهَائِم نجس
لِأَنَّهُ ( [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) سُئِلَ عَن المَاء يكون فِي
الفلاة وَمَا ينوبه من السبَاع وَالدَّوَاب، فَقَالَ: " إِذا بلغ المَاء
قُلَّتَيْنِ لم يحمل الْخبث " فلولا أَن أسآرها نَجِسَة لما صَحَّ هَذَا
الْجَواب بِذكر الْخبث.
(بَاب الْمَنِيّ نجس يجب غسله إِذا كَانَ رطبا ويكتفى بفركه إِذا كَانَ
يَابسا)
مَالك: عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، عَن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن
حَاطِب، أَنه اعْتَمر مَعَ عمر بن الْخطاب فِي ركب فيهم عَمْرو بن
الْعَاصِ، وَأَن عمر بن الْخطاب
(1/64)
رَضِي الله عَنهُ عرس بِبَعْض الطّرق
قَرِيبا من بعض الْمِيَاه، فَاحْتَلَمَ عمر وَقد كَاد (أَن) يصبح فَلم يجد
مَعَ الركب مَاء، فَركب حَتَّى جَاءَ المَاء فَجعل يغسل مَا رأى من ذَلِك
الِاحْتِلَام حَتَّى أَسْفر، فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن الْعَاصِ: أَصبَحت
ومعنا ثِيَاب فدع ثَوْبك (يغسل) فَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ:
" وَاعجَبا لَك يَا ابْن الْعَاصِ لَئِن كنت تَجِد ثيابًا أفكل النَّاس يجد
ثيابًا، وَالله لَو فعلتها لكَانَتْ سنة، بل أغسل مَا رَأَيْت وأنضح مَا لم
أر ". وَقد وَافَقنَا مَالك بن أنس رَضِي الله عَنهُ.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: "
الْمَنِيّ بِمَنْزِلَة المخاط فأمطه عَنْك وَلَو بإذخرة ".
قيل لَهُ: " إِنَّمَا شبهه بِهِ فِي لزوجته وَقلة تداخله فِي الثَّوْب
وَلِهَذَا أمره بإماطته، لِأَنَّهُ إِذا أماطه عَنهُ ذهب أَكْثَره وَبَقِي
الْقَلِيل مِنْهُ، مَعَ أَنه أمره بإماطته وَالْأَمر للْوُجُوب، وَمن
يَقُول بِأَنَّهُ طَاهِر لَا يُوجب إِزَالَته.
البُخَارِيّ: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ: " كنت أغسل
الْجَنَابَة من
(1/65)
ثوب النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
فَيخرج إِلَى الصَّلَاة وَإِن بقع المَاء فِي ثَوْبه ".
مُسلم: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كنت أفرك الْمَنِيّ من
ثوب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَيصَلي فِيهِ ". وَلم يرو عَن
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِيمَا علمنَا أَنه صلى مَعَه. فَإِن
قيل: قَالَ الله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء بشرا} سَمَّاهُ
مَاء وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة لَيْسَ بِمَاء، فَدلَّ أَنه أَرَادَ بِهِ
التَّشْبِيه فِي الحكم، وَمن حكم المَاء أَن يكون طَاهِرا.
قيل لَهُ: إِن تَسْمِيَته مَاء لَا يدل على طَهَارَته، فَإِن الله تَعَالَى
سمى مني الدَّوَابّ مَاء بقوله: {وَالله خلق كل دَابَّة من مَاء} . وَلَا
يدل ذَلِك على طَهَارَة مَاء كل الْحَيَوَان.
(1/66)
(بَاب الأبوال / كلهَا نَجِسَة)
البُخَارِيّ وَمُسلم وَاللَّفْظ (لَهُ) عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله
عَنْهُمَا قَالَ: " مر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على قبرين
فَقَالَ: إنَّهُمَا ليعذبان، وَمَا يعذبان فِي كَبِير، أما هَذَا فَكَانَ
لَا يستنزه من الْبَوْل، وَفِي رِوَايَة " من بَوْله " وَأما هَذَا فَكَانَ
يمشي بالنميمة ثمَّ دَعَا بعسيب رطب فشقه بِاثْنَيْنِ، ثمَّ غرس على هَذَا
وَاحِدًا، وعَلى هَذَا وَاحِدًا، وَقَالَ: لَعَلَّه يُخَفف عَنْهُمَا مَا
لم ييبسا ". وَإِذا كَانَ بَوْل الْآدَمِيّ نجسا مَعَ كَونه مكرما فبول
غَيره أَحْرَى أَن يكون نجسا.
فَإِن قيل: روى التِّرْمِذِيّ: " عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَن
نَاسا من
(1/67)
عرينة قدمُوا الْمَدِينَة فاجتووها فبعثهم
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي إبل الصَّدَقَة وَقَالَ: اشربوا
من أَلْبَانهَا وَأَبْوَالهَا ".
قيل: كَانَ ذَلِك رخصَة بِدَلِيل مَا روى البُخَارِيّ عَن أنس بن مَالك
رَضِي الله عَنهُ أَن نَاسا من عرينة اجتووا الْمَدِينَة، فَرخص لَهُم
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يَأْتُوا إبل الصَّدَقَة ... "
الحَدِيث ". وَيُؤَيّد مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا روى:
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " استنزهوا من الْبَوْل فَإِن عَامَّة
عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ ".
(1/68)
(ذكر مَا فِي الْحَدِيثين الْأَوَّلين من
الْغَرِيب:
)
العسيب من الجريد: مَا لم ينْبت عَلَيْهِ الخوص (وَمَا نبت عَلَيْهِ الخوص)
فَهُوَ السعف.
وَقَوله: " وَمَا يعذبان فِي كَبِير " أَي: لَيْسَ بكبير يشق على فَاعله
التَّنَزُّه مِنْهُ، وَترك النميمة سهل، وَقيل: لَيْسَ بكبير عنْدكُمْ
وَهُوَ عِنْد الله كَبِير.
وَقَوله: " اجتووها " أَي: استوخموها.
(بَاب الأرواث نَجِسَة)
التِّرْمِذِيّ: عَن إِسْرَائِيل، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن
عبد الله قَالَ: خرج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لِحَاجَتِهِ
فَقَالَ: التمس لي ثَلَاثَة أَحْجَار، فَأَتَيْته بحجرين وروثة، فَأخذ
الحجرين وَألقى الروثة وَقَالَ: " إِنَّهَا رِجْس ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " أصح شَيْء عِنْدِي فِي هَذَا حَدِيث إِسْرَائِيل
يَعْنِي هَذَا لِأَنَّهُ أثبت وأحفظ لحَدِيث أبي إِسْحَاق من غَيره ".
(بَاب لبن الْميتَة لَيْسَ بِنَجس)
قَالَ الله تَعَالَى: (نسقيكم مِمَّا فِي بطونها من بَين فرث وَدم لَبَنًا
خَالِصا سائغا
(1/69)
للشاربين} . وَجه التَّمَسُّك بِهَذِهِ
الْآيَة من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: عُمُوم اللَّفْظ فِي إِبَاحَة اللَّبن من غير فرق بَين مَا
(يُؤْخَذ) من حَيّ أَو ميت.
وَالثَّانِي: (إخْبَاره) أَنه خَارج من بَين فرث وَدم، وَحكم بِطَهَارَتِهِ
مَعَ ذَلِك (إِذْ) كَانَ ذَلِك الْموضع مَوضِع الْخلقَة، فَثَبت أَن
اللَّبن لَا (ينجس) بِنَجَاسَة مَوضِع الْخلقَة وَهُوَ / ضرع الْميتَة،
كَمَا لَا ينجس بمجاورته الفرث وَالدَّم.
(بَاب مَا لَيْسَ لَهُ دم جَار إِذا مَاتَ فِي المَاء لَا يُنجسهُ)
لِأَن قَول الله تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاء للنَّاس} فِيهِ دلَالَة ظَاهِرَة
على طَهَارَة الْعَسَل، وَمَعْلُوم أَنه لَا يَخْلُو من النَّحْل الْمَيِّت
فِيهِ وفراخه فِيهِ، وَقد حكم الله تَعَالَى بِطَهَارَتِهِ، وَأخْبر عَمَّا
فِيهِ من الشِّفَاء للنَّاس.
فَدلَّ ذَلِك أَن مَا لَا دم (لَهُ) لَا يفْسد مَا يَمُوت فِيهِ.
مُسلم: عَن عبد الله بن جُبَير بن مطعم قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة
رَضِي الله
(1/70)
عَنهُ يَقُول: قَالَ رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا وَقع الذُّبَاب فِي شراب أحدكُم فليغمسه ثمَّ
لينزعه فَإِن فِي أحد جناحيه دَاء وَفِي الآخر شِفَاء ".
وَأخرج البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ
أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا وَقع الذُّبَاب
فِي إِنَاء أحدكُم فامقلوه، فَإِن فِي أحد جناحيه دَاء وَفِي الآخر دَوَاء،
وَأَنه يَتَّقِي بجناحه الَّذِي فِيهِ الدَّاء، فليغمسه كُله ".
(بَاب شعر الْميتَة ووبرها وصوفها وريشها وعظمها وعصبها طَاهِر)
البُخَارِيّ وَمُسلم: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " تصدق
على مولاة لميمونة بِشَاة فَمَاتَتْ فَمر بهَا رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: هلا أَخَذْتُم إهابها فدبغتموه فانتفعتم بِهِ،
فَقَالُوا: إِنَّهَا ميتَة، قَالَ: إِنَّمَا حرم أكلهَا ".
فَفِي هَذَا دَلِيل على أَن مَا عدا الْمَأْكُول من أَجزَاء الْميتَة لَا
يحرم الِانْتِفَاع بِهِ، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " هلا انتفعتم بجلدها
" لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَنه لَا يجوز الِانْتِفَاع بِغَيْرِهِ،
لِأَنَّهُ خرج مخرج الْغَالِب، مَعَ أَن الْجلد اسْم للصوف وَمَا هُوَ
مُتَّصِل بِهِ، وَلِأَن هَذِه الْأَشْيَاء لَا حَيَاة فِيهَا، وَلِهَذَا
لَا تتألم بِالْقطعِ فَلَا يحلهَا الْمَوْت فَلَا تنجس.
فَإِن قيل: قَوْله تَعَالَى: {قَالَ من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم} يدل
على أَن
(1/71)
الْعظم فِيهِ حَيَاة، فيحله حكم الْمَوْت
(بِمَوْت) الأَصْل فَيكون ميتَة. قيل لَهُ: هَذَا لَا يدل على سبق
الْحَيَاة فِي الْعظم، كَمَا لَا يدل قَوْله تَعَالَى: {ويحيي الأَرْض بعد
مَوتهَا} على سبق الْحَيَاة فِي الأَرْض.
(بَاب تجوز إِزَالَة النَّجَاسَة بِمَا سوى المَاء من الْمَائِعَات
الطاهرة)
البُخَارِيّ: عَن مُجَاهِد قَالَ: قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: "
مَا كَانَ لإحدانا إِلَّا ثوب وَاحِد تحيض فِيهِ، فَإِذا أَصَابَهُ شَيْء
من دم قَالَت بريقها فمصعته بظفرها ". ذكره البُخَارِيّ فِي بَاب هَل تصلي
الْمَرْأَة فِي ثوب حَاضَت فِيهِ.
أَبُو دَاوُد: عَن مُجَاهِد قَالَ: قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: "
مَا كَانَ لإحدانا إِلَّا ثوب وَاحِد فِيهِ تحيض، فَإِن أَصَابَهُ شَيْء من
دم بلته بريقها ثمَّ قصعته (بريقها) ". وَهَذَا يشْعر بتكرار إِزَالَة
الدَّم بالريق من الثَّوْب الْوَاحِد، فَلَو كَانَ / دلكه بالريق لَا يطهره
لَكَانَ بالدلك (تَكْثِير) ، وَمَعَ الْكَثْرَة لَا عَفْو بِلَا خلاف.
وَعنهُ: عَن بكار بن يحيى قَالَ: حَدَّثتنِي جدتي، قَالَت: " دخلت على أم
سَلمَة فسألتها امْرَأَة من قُرَيْش عَن الصَّلَاة فِي ثوب الْحَائِض،
فَقَالَت أم سَلمَة: قد كَانَ يصيبنا الْحيض على عهد رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] فتلبث إحدانا أَيَّام (حَيْضهَا) ، ثمَّ تطهر
(1/72)
فتنظر الثَّوْب الَّذِي كَانَت تقلب فِيهِ،
فَإِن أَصَابَهُ دم غسلناه وصلينا فِيهِ، وَإِن لم يكن أَصَابَهُ شَيْء
تَرَكْنَاهُ، وَلم يمنعنا ذَلِك أَن نصلي فِيهِ ".
فَقَوْل أم سَلمَة " غسلناه " إِمَّا (أَن) نحمله على الْغسْل الَّتِي حكته
عَائِشَة، أَو نجريه على عُمُومه فَإِن لفظ الْغسْل غير مُخْتَصّ
بِالْمَاءِ.
فَإِن قيل: بل نحمله على مَا روى التِّرْمِذِيّ: عَن أَسمَاء بنت أبي بكر
رَضِي الله عَنْهُمَا أَن امْرَأَة سَأَلت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] عَن الثَّوْب يُصِيبهُ الدَّم من الْحَيْضَة، فَقَالَ رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " حتيه ثمَّ اقرصيه بِالْمَاءِ ثمَّ رشيه
وَصلي فِيهِ ".
قيل: هَذَا الحَدِيث خرج مخرج الْغَالِب لَا مخرج الشَّرْط، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} . وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن
المَاء أَكثر وجودا من غَيره، أَو نقُول تَخْصِيص الشَّيْء بِالذكر لَا يدل
على نفي الحكم عَمَّا عداهُ.
(ذكر مَا فِي هَذِه الْأَحَادِيث من الْغَرِيب:)
المصع: بميم مَفْتُوحَة وصاد مُهْملَة سَاكِنة وَعين مُهْملَة، أَصله
الضَّرْب بِالسَّيْفِ، والمماصعة: الْمُقَاتلَة، وقدا استعملته هُنَا فِي
الحك بالظفر والمعالجة بِهِ لاستخراج الدَّم بذلك من الثَّوْب.
(1/73)
والقصع: الدَّلْك، وَمِنْه قصع القملة،
والحت: الحك، والقرص: الدَّلْك، وَقيل: التقريض بالإبهام مثل القرص.
(بَاب جلد الْميتَة يطهر بالدباغ)
مُسلم: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا دبغ الإهاب فقد طهر ". فَهَذَا الحَدِيث
عَام فِي الْمَأْكُول وَغَيره، واستثني من عُمُومه الْآدَمِيّ تكريما لَهُ،
وَالْخِنْزِير لنجاسة عينه.
قَالَ الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله: " وَقد رَأينَا أَصْحَاب رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] لما أَسْلمُوا لم يَأْمُرهُم النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] بطرح نعَالهمْ وخفافهم وأنطاعهم الَّتِي كَانُوا يتخذونها
فِي حَال جاهليتهم، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك من ميتَة أَو ذَبِيحَة،
وذبيحتهم حِينَئِذٍ إِنَّمَا كَانَت ذَبِيحَة أهل الْأَوْثَان، فَلَمَّا لم
يَأْمُرهُم بطرح ذَلِك وَترك الِانْتِفَاع بِهِ، ثَبت أَن ذَلِك قد كَانَ
خرج من حكم الْميتَة ونجاستها بالدباغ إِلَى حكم سَائِر الْأَمْتِعَة
وطهارتها، وَكَذَلِكَ كَانُوا مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
إِذا افتتحوا بَلَدا من بِلَاد الْمُشْركين لَا يَأْمُرهُم بِأَن يتحاموا
(خفافهم)
(1/74)
(ونعالهم) وأنطاعهم وَسَائِر جُلُودهمْ،
وَكَانَ لَا يمنعهُم / من أَخذ شَيْء من ذَلِك ".
فَإِن قيل: فقد روى عبد الله بن عكيم أَنه قَالَ: " أَتَانَا كتاب رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قبل وَفَاته بِشَهْر يَقُول: كنت رخصت لكم
فِي جُلُود الْميتَة، فَإِذا جَاءَكُم كتابي فَلَا تنتفعوا من الْميتَة
بإهاب وَلَا عصب ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه،،
(1/75)
وَأحمد بن حَنْبَل رَحمَه الله فِي مُسْنده
وَقَالَ: إِسْنَاد جيد.
قيل لَهُ: قَالَت الْأَئِمَّة كل حَدِيث نسب إِلَى كتاب وَلم يذكر حامله
فَهُوَ مُرْسل، وَالْجَلد قبل الدّباغ يُسمى إهابا، وَبعده أديما وسختيانا،
وتقييده بِشَهْر قبل وَفَاته لَا يدل على نسخ حَدِيث ابْن عَبَّاس، لجَوَاز
أَن يكون قد سَمعه قبل وَفَاته بِأَقَلّ من ذَلِك.
(بَاب كل مَا طهر جلده بالدباغ (طهر) بالذكاة)
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مر بِشَاة قد نفقت، فَقَالَ: " أَلا استمتعتم
بجلدها، قَالُوا: يَا رَسُول الله إِنَّهَا ميتَة، قَالَ: إِن دباغها
ذكاتها ".
فقد أَقَامَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الدّباغ مقَام الذَّكَاة،
فَدلَّ أَن الذَّكَاة تقوم مقَام الدّباغ.
(ذكر غَرِيب هَذَا الحَدِيث:)
" نفقت الدَّابَّة تنْفق نفوقا، أَي مَاتَت، ونفق البيع نفَاقًا بِالْفَتْح
أَي راج، والنفاق بِالْكَسْرِ فعل الْمُنَافِق، والنفق: سرب فِي الأَرْض
لَهُ مخلص إِلَى مَكَان، والنافقاء إِحْدَى جحرة اليربوع يكتمها وَيظْهر
غَيرهَا، وَمِنْه اشتقاق الْمُنَافِق " وَيُقَال دبغ فلَان إهابه، يدبغه
دبغا ودباغة ودباغا، (والدباغ) أَيْضا مَا يدبغ بِهِ.
(1/76)
(بَاب إِذا تخمر الْعصير أُبِيح تخليله)
قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّا لَا نضيع أجر المصلحين} .
فَإِن قيل: فِي التَّخْلِيل اقتراب الْخمر وَقد قَالَ الله تَعَالَى:
{فَاجْتَنبُوهُ} ، وَقد نهى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن
يتَّخذ الْخمر خلا، وَلما نزلت آيَة التَّحْرِيم كَانَ عِنْد أبي طَلْحَة
الْأنْصَارِيّ خمور لأيتام فَقَالَ: يَا رَسُول الله (أنخللها) ؟ قَالَ:
لَا، وَأمره بإراقتها " وَلَو كَانَ التَّخْلِيل مُبَاحا لما نَهَاهُ لِأَن
فِيهِ حفظ أَمْوَال الْيَتَامَى.
قيل لَهُ: الاقتراب لإعدام الْفساد غير مَمْنُوع عَنهُ، كالاقتراب للإراقة،
وَأما الحَدِيث الأول فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد النَّهْي عَن وضع الْخمر
على الموائد مَكَان الْخلّ، كَقَوْلِه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : "
إيَّاكُمْ أَن تَتَّخِذُوا ظُهُور (دوابكم) مَنَابِر ". أَي لَا تستعملوها
اسْتِعْمَال المنابر.
وَفَائِدَة هَذَا النَّهْي بعد اسْتِقْرَار التَّحْرِيم اندفاع وهم من
يتَوَهَّم أَنه يجوز أَن
(1/77)
(يؤتدم) بهَا كصنيع أهل الْكتاب، وَأَن
الْمحرم لَيْسَ إِلَّا السكر مِنْهَا كَمَا هُوَ مُعْتَقد أهل الْكتاب،
وَلِهَذَا قَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " حرمت الْخمر لعينها "،
وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد " لَا تخللوها ".
فَإِن كَانَ المُرَاد الْمَعْنى الأول فَلَا دلَالَة فِيهِ على حُرْمَة
التَّخْلِيل /.
وَإِن كَانَ المُرَاد الْمَعْنى الثَّانِي وَجب أَن يحرم نقلهَا من الظل
إِلَى الشَّمْس وَبِالْعَكْسِ، لِأَنَّهُ تَخْلِيل، فَإِن اتفقنا على
جَوَازه جَازَ غَيره، وَتعين أَن يكون المُرَاد هُوَ الْمَعْنى الأول.
وَأما حَدِيث أبي طَلْحَة فَمَحْمُول على أَنه كَانَ فِي ابْتِدَاء
التَّحْرِيم حِين كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يُبَالغ فِي
أَمر الْخمر زجرا لَهُم، وقلعا عَن الْعَادة المألوفة، وخمور الْأَيْتَام
يَوْمئِذٍ كَانَت جَائِزَة الإراقة، وَلَيْسَت بأموال فِي حق الْمُسلمين،
وكافل الْيَتِيم إِنَّمَا يجب عَلَيْهِ حفظ مَا كَانَ مَالا، لَا حفظ مَا
لَيْسَ بِمَال، ثمَّ وَإِن كَانَ فِيهِ مفْسدَة لَكِنَّهَا خَاصَّة، فَيجوز
ارتكابها لمصْلحَة عَامَّة، كَمَا إِذا تترس الْكفَّار بصبيان الْمُسلمين
وذراريهم فَإنَّا لَا نكف بِسَبَب ذَلِك عَن قِتَالهمْ.
(بَاب وَإِذا تخللت (الْخمر) طهرت)
مُسلم: عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
سَأَلَ أَهله الْأدم، فَقَالُوا: مَا عندنَا إِلَّا (خل) ، فَدَعَا بِهِ
فَجعل يَأْكُل (بِهِ) وَيَقُول: " نعم (الْأدم) الْخلّ ".
(1/78)
وَفِي رِوَايَة: " قَالَ جَابر فَمَا زلت
أحب الْخلّ مُنْذُ سَمعتهَا من نَبِي الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
وَهَذَا خل وَالنَّفس تستطيبه فَيكون طيبا، وَالطّيب طَاهِر حَلَال، قَالَ
الله تَعَالَى: {كلوا من الطَّيِّبَات} ، وَلِأَن صِفَات الْخمر قد
تَغَيَّرت إِلَى صِفَات الْخلّ، وَالْكَلَام على هَذَا التَّقْدِير
فَوَجَبَ أَن يكون حَلَالا كَمَا إِذا تخللت بِنَفسِهَا.
(بَاب إِذا يَبِسَتْ الأَرْض طهرت)
أَبُو دَاوُد: عَن حَمْزَة بن عبد الله بن عمر قَالَ: قَالَ ابْن عمر: "
كنت (أَبيت) فِي الْمَسْجِد على عهد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
وَكنت (فَتى) شَابًّا عزبا، وَكَانَت الْكلاب تبول وَتقبل وتدبر فِي
الْمَسْجِد، وَلم يَكُونُوا يرشون شَيْئا من ذَلِك ".
فَإِن قيل: قَالَ الْخطابِيّ: " وَهَذَا الحَدِيث صَحِيح وَلكنه يحْتَمل
على أَن الْكلاب كَانَت تبول فِي مواطنها وَتقبل وتدبر فِي الْمَسْجِد ".
قيل لَهُ: فَانْظُر إِلَى هَذَا التعصب الْمَحْض الَّذِي غلب عَلَيْهِ حِين
رأى حَدِيثا صَحِيحا دَالا على خلاف مذْهبه، فأوله بِهَذَا التَّأْوِيل
الواهي الَّذِي لَا مُسْتَند لَهُ، وغفل عَن آخر الحَدِيث، فَإِذا كَانَت
تبول فِي مواطنها فَأَي فَائِدَة فِي هَذَا الْإِخْبَار، وَأي فَائِدَة
(1/79)
فِي قَوْله: " وَكَانُوا لَا يرشون شَيْئا
من ذَلِك ". وَإِذا (كَانَ) دأبها الإقبال والإدبار فِيهِ فَمَا الْمَانِع
لَهَا من الْبَوْل فِيهِ، أعقلها وأدبها أم ربط الْحفاظ على منافذها.
(بَاب إِذا أصَاب الأَرْض نَجَاسَة مائعة وَهِي صلبة مستوية قلب أَعْلَاهَا
حَتَّى يصير أَسْفَلهَا، لِأَنَّهُ الطَّرِيق الْمُمكن فِي تطهيرها)
فَإِن قيل: قد صَحَّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن أَعْرَابِيًا
دخل الْمَسْجِد - وَرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] جَالس - فصلى
رَكْعَتَيْنِ ثمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومحمدا وَلَا ترحم مَعنا
أحدا "، / فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لقد) تحجرت
وَاسِعًا، ثمَّ لم يلبث أَن بَال فِي نَاحيَة الْمَسْجِد، فأسرع النَّاس
إِلَيْهِ فنهاهم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَقَالَ: إِنَّمَا
بعثتم ميسرين وَلم تبعثوا معسرين، صبوا عَلَيْهِ سجلا من مَاء (أَو قَالَ
ذنوبا من مَاء) .
قيل لَهُ: فقد روى أَبُو دَاوُد، عَن عبد الله بن معقل بن مقرن قَالَ: "
صلى أَعْرَابِي مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، بِهَذِهِ
الْقِصَّة، وَقَالَ يَعْنِي النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " خُذُوا
مَا بَال عَلَيْهِ من التُّرَاب فألقوه وأهريقوا على مَكَانَهُ مَاء ".
فَإِن قيل: هَذَا حَدِيث مُرْسل، لِأَن عبد الله بن معقل لم يدْرك النَّبِي
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
(1/80)
قيل لَهُ: الْمَرَاسِيل حجَّة يجب الْعَمَل
بهَا والمرسل: مَا انْقَطع إِسْنَاده فأخل فِيهِ بِبَعْض رُوَاته. (وَإِلَى
هَذَا) ذهب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن
الْبَصْرِيّ والصدر الأول كلهم وَسَائِر أَصْحَاب الحَدِيث من
الْمُتَقَدِّمين.
قَالَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ فِي أُصُوله: " قَالَ مُحَمَّد
بن جرير الطَّبَرِيّ: إِنْكَار الْمُرْسل بِدعَة ظَهرت بعد المئتين، وَيدل
على ذَلِك إِجْمَاع النَّاس على نقل الْمُرْسل إِلَى الْيَوْم، وَلَا
فَائِدَة فِي نَقله وَرِوَايَته والاشتغال بِهِ إِلَّا الْعَمَل بِمُوجبِه،
وبهذه الطَّرِيقَة أثبتنا الْعَمَل بأخبار الْآحَاد المسندة ".
فَإِن قيل: هَذَا يبطل بأخبار الضُّعَفَاء والمتروكين، فَإِنَّهَا تروى
وتكتب وتنقل فِي الْكتب وَمَعَ ذَلِك لَا يجب الْعَمَل بمتضمنها.
قيل لَهُ: هَذَا بَاطِل، لِأَن أَكثر المتورعين والفضلاء لَا يروون عَن
الضُّعَفَاء، وَقد رُوِيَ عَن مَالك رَحمَه الله أَنه سَأَلَهُ عبد
الرَّزَّاق (أَن) يحدثه بِحَدِيث فَقَالَ: قد رويته وَلَا أحَدثك بِهِ،
وَسَأَلَهُ مُسلم بن خَالِد الزنْجِي أَن يحدثه بِهِ فَقَالَ: لَو كنت
مُحدثا بِهِ لحدثته، وَلَكِنِّي لَا أحدث بِهِ لِأَن رَاوِيه لم يكن
(عندنَا) بذلك، وَقَالَ شُعْبَة: لِأَن أزني (أحب إِلَيّ من أَن) أحدث
بِحَدِيث عَن أبان بن أبي عَيَّاش، وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَئِمَّة إِذا
ثَبت عِنْدهم تَضْعِيف / رجل رموا بحَديثه، إِلَّا آحادا من الْمُحدثين لم
يثبت بهم حجَّة، وَلِأَن خبر الضَّعِيف إِذا رُوِيَ فَأكْثر الْعلمَاء يبين
ضعفه ويقرن بِهِ مَا يُوجب رده، فَيجوز لذَلِك.
(1/81)
(وَلَيْسَ) كَذَلِك الْخَبَر الْمُرْسل،
فَلم نر أحدا من الْعلمَاء روى حَدِيثا مُرْسلا، وَذكر أَنه لَا يُؤْخَذ
بِهِ لِأَنَّهُ مُرْسل.
فَهَذَا نوع آخر من أَنْوَاع الحَدِيث قبلناه وأوجبنا الْعَمَل بِهِ،
وَتَركنَا الْقيَاس من أَجله، وغيرنا مِمَّن ادّعى (اتِّبَاع) الحَدِيث ترك
الْعَمَل بِهِ، وَعمل بِالْقِيَاسِ عِنْد وجوده، وَمن ترك الْعَمَل بالمرسل
فقد ترك أَكثر أَحَادِيث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
قَالَ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ: " وَلَو تتبعت أَخْبَار الْفُقَهَاء
السَّبْعَة وَسَائِر أهل الْمَدِينَة والشاميين والكوفيين، لوجدت (أئمتهم)
كلهم قد أرْسلُوا الحَدِيث ".
ثمَّ هَذَا عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ مُسْنده من أَكثر مسانيد
الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، وَقد ثَبت بِخَبَرِهِ أَنه لم يسمع من
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَّا نَحوا من سَبْعَة أَحَادِيث.
ثمَّ نقُول: قد أَمر فِي هَذَا الحَدِيث بِأخذ التُّرَاب الَّذِي أَصَابَهُ
الْبَوْل وإلقائه وصب المَاء عَلَيْهِ، وَقد ذكره بِحرف الْوَاو، فَإِن
كَانَ أَمر بصب المَاء عَلَيْهِ أَولا ثمَّ بِأخذ التُّرَاب ففائدة الصب
ذهَاب رَائِحَة الْبَوْل، وَإِن كَانَ أَمر بِأخذ التُّرَاب أَولا ثمَّ بصب
المَاء فَيحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَنه (أَمر) بصب المَاء على مَكَانَهُ، لاحْتِمَال أَن يكون بَقِي
شَيْء من التُّرَاب الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوْل، فَيكون الصب مطهرا لَهُ،
لِأَن الأَرْض قد أثيرت فالماء يستتبع النَّجَاسَة (وينسفل) بهَا، أَو يكون
الْأَمر بالصب (تعبدا) .
وَأما الحَدِيث الأول إِن سلمنَا صِحَة الِاحْتِجَاج بِهِ دون غَيره
فَنَقُول: إِنَّمَا اكْتفى
(1/82)
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بصب
المَاء، لِأَن أَرض الْمَسْجِد كَانَت رخوة تربة، يدل على هَذَا مَا روى
البُخَارِيّ وَغَيره عَن سهل بن سعد قَالَ: " جَاءَ رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] بَيت فَاطِمَة فَلم يجد عليا فِي الْبَيْت، فَقَالَ: أَيْن
ابْن عمك؟ فَقَالَت: كَانَ بيني وَبَينه / شَيْء فغاضبني فَخرج فَلم يقل
عِنْدِي، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لإِنْسَان: انْظُر
أَيْن هُوَ، فجَاء فَقَالَ: يَا رَسُول الله هُوَ فِي الْمَسْجِد، فجَاء
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهُوَ مُضْطَجع قد سقط رِدَاؤُهُ
عَن شقَّه وأصابه تُرَاب فَجعل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
يمسحه عَنهُ وَيَقُول: قُم أَبَا تُرَاب (قُم أَبَا تُرَاب) ".
وَالْأَرْض إِذا كَانَت رخوة فصب عَلَيْهَا المَاء انسفل بهَا وَبَقِي وَجه
الأَرْض طَاهِرا.
(ذكر مَا فِي هذَيْن الْحَدِيثين من الْغَرِيب:)
الْحجر: الْمَنْع، يَقُول لقد ضيقت من رَحْمَة الله تَعَالَى مَا وَسعه
ومنعت مِنْهَا مَا أَبَاحَهُ. والسجل: بسين مُهْملَة مَفْتُوحَة وجيم
سَاكِنة هُوَ الدَّلْو الْكَبِيرَة إِذا كَانَ فِيهَا مَاء قل أَو كثر،
وَهُوَ مُذَكّر، وَلَا يُقَال سجل إِذا لم يكن فِيهِ مَاء.
والذنُوب: بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة هِيَ الدَّلْو إِذا كَانَت ملأى،
وَقيل يكون فِيهَا قريب من الْمَلأ، يذكر وَيُؤَنث.
وَمَعْقِل: هُوَ بِالْقَافِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي " الْإِكْمَال " وَصرح
بِهِ فِي " الِاسْتِيعَاب "
(1/83)
فِي بَاب معقل بِفَتْح الْمِيم وَكسر
الْقَاف، وَقَالَ: " يكنى أَبَا عمْرَة وَذكر أَنه كَانَ لَهُ إخْوَة
وَكَانُوا كلهم سَبْعَة وصحبوا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
(بَاب يغسل الثَّوْب من بَوْل الْغُلَام وَالْجَارِيَة كَمَا يغسل من
سَائِر النَّجَاسَات)
فَإِن قيل: فقد روى البُخَارِيّ عَن أم قيس بنت مُحصن أَنَّهَا أَتَت
بِابْن لَهَا صَغِير لم يَأْكُل الطَّعَام إِلَى رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ، فأجلسه رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي حجره
فَبَال عَلَيْهِ فَدَعَا بِمَاء فنضحه وَلم يغسلهُ.
وَفِي لفظ التِّرْمِذِيّ: " فَدَعَا بِمَاء فرشه عَلَيْهِ ".
قيل لَهُ: النَّضْح قد يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل، وَكَذَلِكَ الرش.
أما الأول (فَيدل عَلَيْهِ) مَا روى: أَبُو دَاوُد عَن الْمِقْدَاد بن
الْأسود أَن
(1/84)
عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أمره
أَن يسْأَل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن الرجل إِذا دنا من
أَهله / فَخرج مِنْهُ الْمَذْي مَاذَا عَلَيْهِ، قَالَ عَليّ: فَإِن
عِنْدِي ابْنَته وَأَنا أستحي أَن أسأله، قَالَ الْمِقْدَاد: فَسَأَلت
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن ذَلِك، فَقَالَ: " إِذا وجد
أحدكُم ذَلِك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصَّلَاة ".
وَالَّذِي يدل على أَنه أُرِيد بالنضح هَهُنَا الْغسْل مَا روى مُسلم: عَن
عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كنت رجلا مذاء فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأَل
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لمَكَان ابْنَته مني، فَأمرت
الْمِقْدَاد بن الْأسود فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ ".
والقضية وَاحِدَة والراوي عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
وَاحِد.
وَمِمَّا يدل على أَن النَّضْح يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل مَا روى
التِّرْمِذِيّ: عَن سهل بن حنيف قَالَ: " كنت ألْقى من الْمَذْي شدَّة،
وَكنت أَكثر مِنْهُ الِاغْتِسَال، فَسَأَلت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] فَقَالَ: إِنَّمَا يجزئك من ذَلِك الْوضُوء، قلت: يَا رَسُول الله
فَكيف بِمَا يُصِيب ثوبي مِنْهُ، فَقَالَ: يَكْفِيك أَن تَأْخُذ كفا من
مَاء فتنضح بِهِ من ثَوْبك حَيْثُ ترى أَنه أَصَابَهُ ".
وَأما (أَن) الرش يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل، فقد صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس
رَضِي الله عَنهُ (أَنه) لما حكى وضوء رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] " أَخذ غرفَة من مَاء فرش على رجله الْيُمْنَى
(1/85)
(حَتَّى) غسلهَا ". فالرش (أَرَادَ بِهِ)
هُنَا صب المَاء قَلِيلا قَلِيلا، فَهَذَا محمل حَدِيث التِّرْمِذِيّ.
وَمِمَّا يدل على أَن النَّضْح يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل (وَكَذَلِكَ
الرش يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل) قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث
أَسمَاء: " تَحْتَهُ، ثمَّ تقرصه بِالْمَاءِ، ثمَّ تنضحه، ثمَّ تصلي فِيهِ
". هَذَا من طَرِيق البُخَارِيّ وَمُسلم، وَمن طَرِيق التِّرْمِذِيّ: "
حتيه، ثمَّ اقرصيه (بِالْمَاءِ) ، ثمَّ رشيه وَصلي فِيهِ ".
فالحت: الحك، والقرص أَن تقبض على مَوضِع النَّجَاسَة بالأصبع وتغمزه غمزا
جيدا وتدلكه حَتَّى ينْحل مَا تشربه (من الدَّم) وَالْمرَاد بالنضح (هُنَا)
الْغسْل، قَالَه الْبَغَوِيّ، وَقَالَ مَوضِع " تنضحه " ثمَّ رشيه، فَدلَّ
(أَن الرش) هُنَا الْغسْل.
فَلَمَّا ثَبت أَن النَّضْح والرش يذكران وَيُرَاد بهما الْغسْل وَجب حمل /
قَول الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ " فنضحه وَلم يغسلهُ "، على أَنه أسَال
المَاء عَلَيْهِ وَلم يعركه لِأَنَّهُ يحْتَمل " أَنه " صب المَاء عَلَيْهِ
قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى تقاطر وسال، وَمَتى حصلت الإسالة حصل الْغسْل.
(1/86)
فَإِن قيل: فَلم فرق النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] بَين بوليهما فِي صفة الْغسْل.
قيل لَهُ: لِأَن بَوْل الْغُلَام مثل المَاء، وَبَوْل الْجَارِيَة ثخين
أصفر يلتصق بِالْمحل، فَقَالَ: " ينضح بَوْل الْغُلَام "، أَي يسيل المَاء
عَلَيْهِ من غير عَرك لسرعة زَوَاله، كَمَا أَمر بالنضح على الثَّوْب
الَّذِي أَصَابَهُ الْمَذْي، وَقَالَ: " يغسل بَوْل الْجَارِيَة "، أَي يصب
المَاء عَلَيْهِ ويعرك لبطء زَوَاله، كَمَا أَمر بِهِ فِي غسل الثَّوْب من
دم الْحيض بقوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " (حتيه) ، ثمَّ اقرصيه
(بِالْمَاءِ) "، ووافقنا سُفْيَان الثَّوْريّ رَحمَه الله وسبقنا بِهَذَا
القَوْل إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ رَضِي الله عَنهُ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: " وَإِنَّمَا فرق النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] بَين بَوْل الْغُلَام وَالْجَارِيَة (فَأمر) بِالْغسْلِ من بولها
والرش من بَوْله، لِأَن يَقع بَوْله فِي مَوضِع وَاحِد، وبولها يَقع فِي
مَوَاضِع، فَقَالَ: " يغسل " أَي: يتتبع ".
(ذكر غَرِيب حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ.)
الْمَذْي: وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وياء
مُخَفّفَة وَقد تشدد لُغَة.
(1/87)
(بَاب إِذا ولغَ الْكَلْب فِي الْإِنَاء
اسْتحبَّ غسله سبعا ويكتفى بِالثلَاثِ)
أما الِاسْتِحْبَاب فَلَمَّا ذَكرْنَاهُ فِي (آخر) بَاب سُؤْر الْهِرَّة
وَأما الِاكْتِفَاء بِالثلَاثِ،
فَلَمَّا روى الطَّحَاوِيّ: عَن (إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق) ، عَن أبي نعيم،
عَن عبد السَّلَام بن حَرْب، (عَن عبد الْملك، عَن عَطاء) ، عَن أبي
هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ فِي الْإِنَاء تلغ فِيهِ الهر أَو الْكَلْب،
يغسل ثَلَاث مَرَّات. وَأَبُو هُرَيْرَة أحد رُوَاة السَّبع، والراوي مَتى
عمل بِخِلَاف رِوَايَته كَانَ عمله دَلِيلا على نسخ الحَدِيث أَو
تَخْصِيصه، لِأَن الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ لَا يجوز أَن يتَعَمَّد
مُخَالفَة النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، لِأَن مُخَالفَته فسق،
وَالصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم منزهون عَن ذَلِك، فَيحمل ترك
اسْتِعْمَاله للْخَبَر على أَنه قد علم نسخه، أَو تَخْصِيصه، أَو علم
بِدلَالَة الْحَال أَن مُرَاد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] النّدب
فِيمَا وَرَاء الثَّلَاث.
/ فَإِن قيل: يجوز أَن يكون تَركه سَهوا، أَو غَلطا، أَو نِسْيَانا، أَو
لتأويل غير صَحِيح بِسَبَب مَا ظَنّه دَلِيلا مَعَ أَنه لَيْسَ بِدَلِيل،
أَو لِأَنَّهُ رأى غَيره أولى مِنْهُ مِمَّا لَو بلغنَا
(1/88)
لم (نقدمه) عَلَيْهِ.
قيل لَهُ: مُخَالفَته لظَاهِر مَا رَوَاهُ متحققة، وَمَا ذَكرْنَاهُ فِي
الْعذر لَهُ أليق بِمنْصب الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ نقُول:
روى مُسلم: عَن ابْن مُغفل: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
أَمر بقتل الْكلاب، ثمَّ قَالَ: مَا لَهُم وَلها، فَرخص فِي كلب الصَّيْد
وكلب الْغنم، وَقَالَ: إِذا ولغَ الْكَلْب فِي الْإِنَاء فاغسلوه سبع
مَرَّات، وَالثَّامِنَة عفروه بِالتُّرَابِ ".
فَالْأَمْر بِالْغسْلِ إِن رَجَعَ إِلَى الْكَلْب المرخص فِي اتِّخَاذه
عَارضه قَول الله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم} ، وَلم
يَأْمر بِغسْل مَا أَصَابَهُ فَمه.
وَإِن رَجَعَ إِلَى الْكَلْب الْمَأْمُور بقتْله، فقد أَمر فِي هَذَا
الحَدِيث بِالْغسْلِ ثَمَان مَرَّات وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة
(بِالْغسْلِ) سبع مَرَّات، فَمَا كَانَ الْجَواب عَن الْمرة الثَّامِنَة
فَهُوَ جَوَاب لنا عَن الزِّيَادَة على الثَّلَاث.
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: " وَقد ضعف مَالك رَحمَه الله غسل الْإِنَاء من
ولوغ الْكَلْب لما تلوناه من الْآيَة، وَقيل لاخْتِلَاف الرِّوَايَات
فِيهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: يغسل الْإِنَاء من ولوغ
الْكَلْب ثَلَاثًا أَو خمْسا أَو سبعا ".
(1/89)
فَإِن قيل: هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ عبد
الْوَهَّاب بن الضَّحَّاك، عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وهما ضعيفان.
قيل: الطعْن الْمُبْهم لَا يكون جرحا عِنْد الْفُقَهَاء، لِأَن بَاب
الشَّهَادَة أضيق من بَاب رِوَايَة الْأَخْبَار، والطعن الْمُبْهم من
الْمُدعى عَلَيْهِ لَا يكون جرحا، وَلَا يمْتَنع الْعَمَل بِالشَّهَادَةِ
لأجل الطعْن الْمُبْهم، فَلِأَن لَا يخرج الحَدِيث بالطعن الْمُبْهم من أَن
يكون حجَّة أولى.
وَهَذِه الْعَادة الظَّاهِرَة أَن الْإِنْسَان إِذا لحقه من غَيره مَا
يسوؤه طعن فِيهِ طَعنا مُبْهما إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى.
(ذكر مَا فِي الحَدِيث من الْغَرِيب:)
الولوغ للسباع كالشرب لبني آدم، وَقد يسْتَعْمل الشّرْب للسباع وَلَا
يسْتَعْمل الولوغ فِي بني آدم.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " الولوغ: بِضَم الْوَاو، إِذا شرب قَلِيلا، وَإِذا
أَكثر (فَهُوَ) بِفَتْحِهَا ". وعفروه: مرغوه.
(1/90)
(/ بَاب " إِذا (أَصَابَت) (الْخُف)
نَجَاسَة لَهَا جرم فجفت فدلكه بِالْأَرْضِ جَازَ ")
أَبُو دَاوُد: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا وطئ أحدكُم بنعله الْأَذَى فَإِن
التُّرَاب لَهُ طهُور ".
وَفِي رِوَايَة: " إِذا وطئ الْأَذَى بخفيه فطهورهما التُّرَاب ".
وَفِي الحَدِيث الأول رجل مَجْهُول، والْحَدِيث الثَّانِي: من رِوَايَة
مُحَمَّد بن عجلَان، وَقد وَثَّقَهُ غير وَاحِد وَتكلم فِيهِ غير وَاحِد،
وَالْجرْح (مقدم) على التَّعْدِيل.
وَهَذَا نوع آخر من أَنْوَاع الحَدِيث، جَوَّزنَا الْعَمَل بِهِ، وَتَركنَا
الْقيَاس من أَجله (حَيْثُ لم يُعَارضهُ غَيره) . وَقد قَالَ بِمثل
قَوْلنَا جمَاعَة، مِنْهُم الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ:
(1/91)
" يجْزِيه أَن يمسح القذر من نَعله أَو خفه
(بِالتُّرَابِ) وَيُصلي فِيهِ ". وَرُوِيَ مثل ذَلِك عَن عُرْوَة بن
الزبير، وَكَانَ النَّخعِيّ يمسح النَّعْل أَو الْخُف يكون فِيهِ السرقين
عِنْد بَاب الْمَسْجِد، وَيُصلي بالقوم.
(وَقَالَ) أَبُو ثَوْر: " إِذا مسح ذَلِك حَتَّى لَا يجد لَهُ ريحًا وَلَا
أثرا رَجَوْت أَن يجْزِيه ". وَقد ترك الْعَمَل بِهَذَا الحَدِيث قوم،
وتأولوه على مَا إِذا كَانَت النَّجَاسَة يابسة فوطئ عَلَيْهَا، وَعمل
بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ تَأْوِيل ضَعِيف، وَالله بِنَا وبمن تَأَوَّلَه لطيف.
(بَاب إِذا وَقع فِي الْبِئْر حَيَوَان فَمَاتَ مَاذَا حكمه؟)
الطَّحَاوِيّ: عَن صَالح بن عبد الرَّحْمَن، عَن سعيد بن مَنْصُور، عَن
هشيم، عَن مَنْصُور، عَن عَطاء، " أَن حَبَشِيًّا وَقع فِي بِئْر زَمْزَم
فَمَاتَ، فَأمر ابْن الزبير فنزح مَاؤُهَا، فَجعل المَاء لَا يَنْقَطِع،
فَنظر فَإِذا عين تجْرِي من قبل الْحجر الْأسود، فَقَالَ ابْن الزبير:
حسبكم ".
وَبِه: عَن أبي بكرَة، عَن أبي عَامر الْعَقدي، عَن سُفْيَان، عَن
زَكَرِيَّا، عَن الشّعبِيّ، فِي الطير والسنور وَنَحْوهمَا يَقع فِي
الْبِئْر، قَالَ: " ينْزح مِنْهَا أَرْبَعُونَ دلوا ". وَعنهُ: عَن صَالح
بن عبد الرَّحْمَن، عَن سعيد بن مَنْصُور، عَن هشيم،
(1/92)
عَن عبد الله بن سُبْرَة الْهَمدَانِي، عَن
الشّعبِيّ، قَالَ: " يدلى مِنْهَا سَبْعُونَ (دلوا) ".
وَبِه: عَن هشيم، عَن مُغيرَة بن مقسم (أبي هِشَام) الضَّبِّيّ، عَن
إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فِي الْبِئْر يَقع فِيهَا جرذ أَو سنور فَيَمُوت،
قَالَ: " (يدلى) مِنْهَا أَرْبَعُونَ دلوا ". وَعنهُ: عَن عَطاء، عَن
ميسرَة وزاذان، عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ (قَالَ) : " إِذا سَقَطت
الْفَأْرَة أَو الدَّابَّة / فِي الْبِئْر فانزحها حَتَّى يَغْلِبك المَاء
".
وَعنهُ: عَن (حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان) أَنه قَالَ فِي دجَاجَة وَقعت فِي
بِئْر فَمَاتَتْ، قَالَ: " ينْزح مِنْهَا قدر أَرْبَعِينَ دلوا، أَو خمسين
دلوا، ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهَا ".
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: " وروى قُتَيْبَة بن سعيد و (أَبُو مُصعب) ، عَن
مَالك فِي الْفَأْرَة تَمُوت فِي الْبِئْر، قَالَ: تنزف كلهَا.
(1/93)
وروى ابْن أبي أويس عَنهُ: " ينزف مِنْهَا
سَبْعُونَ دلوا ".
فقد حكم من حكينا قَوْله من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بِنَجَاسَة مَاء
الْآبَار وتطهيرها، بِمَا روينَا عَنْهُم، وَلم ينْقل عَن غَيرهم خِلَافه،
فقلدناهم وَتَركنَا الْقيَاس من أجل مَا رُوِيَ عَنْهُم، وَهَذِه
الْمَسْأَلَة أكبر شَهَادَة لنا فِي أَنا أقل النَّاس عملا بِالْقِيَاسِ.
(ذكر مَا فِي هَذِه الْآثَار من الْغَرِيب:)
نزحت الْبِئْر نزحا: استقيت ماءها كُله، وبئر نزوح: قَليلَة المَاء، والنزح
بِالتَّحْرِيكِ: (الْبِئْر) (الَّتِي) نزح أَكثر مَائِهَا، ونزحت الدَّار
نزوحا: بَعدت، ونزفت مَاء الْبِئْر نزفا: إِذا نزحته كُله، ونزفت هِيَ،
يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى. وَحكى الْفراء: أنزفت الْبِئْر أَي ذهب
مَاؤُهَا، وَقَالَ أَبُو عبيد: نزفت عبرته بِالْكَسْرِ وأنزفها صَاحبهَا.
قَالَ العجاج:
(" وأنزف الْعبْرَة من لَاقَى العبر " ... )
(بَاب الِاسْتِنْجَاء سنة فَإِذا تجَاوز الْخَارِج الْمخْرج وَجب)
أَبُو دَاوُد: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " من
(1/94)
اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن وَمن لَا
فَلَا حرج، وَمن استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن وَمن لَا فَلَا حرج، وَمن
أكل فَمَا تخَلّل فليلفظ وَمَا لاك بِلِسَانِهِ فليبتلع، من فعل فقد أحسن
وَمن لَا فَلَا حرج، وَمن أَتَى الْغَائِط فليستتر، فَإِن لم يجد إِلَّا
أَن يجد كثيبا من رمل فليستدبره، فَإِن الشَّيْطَان يلْعَب بمقاعد (ابْن)
آدم، من فعل فقد (أحسن) وَمن لَا فَلَا حرج ".
فَإِن قيل: " فقد أَمر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بالاستنجاء
بِثَلَاثَة أَحْجَار وَنهى أَن يستنجى بِأَقَلّ مِنْهَا ".
قيل لَهُ: مَا روينَاهُ من الحَدِيث إِن جَعَلْنَاهُ أمرا بِاسْتِعْمَال
ثَلَاثَة أَحْجَار حملا للمطلق على الْمُقَيد الَّذِي رويتموه، فقد نفى
الْحَرج (عَن تَاركه) ، فَانْتفى وجوب الِاسْتِجْمَار بِثَلَاثَة أَحْجَار،
وَتبين أَن النَّهْي الْوَارِد / لتأكيد الِاسْتِحْبَاب، وَالْأَمر
للنَّدْب لَا للْإِيجَاب.
وَإِن أجرينا الْمُطلق على إِطْلَاقه فَيكون أمرا بِمَا يصدق عَلَيْهِ لفظ
الإيتار، وَأَقل مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الإيتار مسحة وَاحِدَة، وَقد نفى
الْحَرج عَن تاركها، وَمن ضَرُورَته نفي الْإِيجَاب.
وَيُؤَيّد هَذَا أَنه لَو استنجى بِيَمِينِهِ جَازَ مَعَ أَنه مَنْهِيّ
عَنهُ فِي الحَدِيث، فَوَجَبَ أَنه
(1/95)
إِذا ترك التَّثْلِيث فِي الْأَحْجَار يجوز
وَإِن كَانَ مَنْهِيّا عَنهُ.
فَإِن قيل: قد فهمنا أَن النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ (كَانَ)
إِكْرَاما (لَهَا) فَتَركه لَا يُؤثر فِي جَوَاز الِاسْتِنْجَاء (باليسار)
.
قيل لَهُ: وَقد فهمنا أَن الْأَمر بالتثليث فِي الْأَحْجَار كَانَ (ليحصل)
النَّقَاء، أَو التقليل للنَّجَاسَة، فَإِذا حصل النَّقَاء أَو التقليل
وَجب أَن يجتزئ بالاستنجاء. وَمِمَّا يدل على عدم وجوب اسْتِعْمَال
ثَلَاثَة أَحْجَار، مَا روينَاهُ من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ
فِي بَاب نَجَاسَة الأدواث.
(بَاب لَا يجوز اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي الْخَلَاء وَلَا فِي الفضاء)
(لما روى) البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَاللَّفْظ لَهُ:
عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا أتيتم الْغَائِط فَلَا تستقبلوا
الْقبْلَة وَلَا تستدبروها، وَلَكِن شرقوا أَو غربوا. قَالَ أَبُو أَيُّوب:
فقدمنا الشَّام فَوَجَدنَا مراحيض قد بنيت مُسْتَقْبل الْقبْلَة فننحرف
عَنْهَا ونستغفر الله تَعَالَى ".
(1/96)
فَإِن قيل: فقد روى التِّرْمِذِيّ: عَن
جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " نهى النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] أَن نستقبل الْقبْلَة ببول فرأيته قبل أَن يقبض بعام
يستقبلها ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " حَدِيث حسن غَرِيب ".
وروى البُخَارِيّ: عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لقد
ارتقيت يَوْمًا على ظهر بَيت لنا فَرَأَيْت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] على لبنتين مُسْتَقْبل بَيت الْمُقَدّس لِحَاجَتِهِ ".
قيل لَهُ: يحْتَمل أَن يكون (هَذَا كَانَ) لعذر، وَالْحمل على هَذَا أولى
من القَوْل بالنسخ، وَمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَكثر تَعْظِيمًا للْقبْلَة.
وَأما استدبار الْقبْلَة فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: "
إِنَّمَا الرُّخْصَة من النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي استدبار
الْقبْلَة بغائط أَو بَوْل، أما (اسْتِقْبَال الْقبْلَة) فَلَا يستقبلها.
قَالَ
(1/97)
التِّرْمِذِيّ: / " كَأَنَّهُ لم ير فِي
الصَّحرَاء وَلَا فِي (الكنف) أَن يسْتَقْبل الْقبْلَة ".
(بَاب اسْتِعْمَال المَاء أَو التُّرَاب للمحدث شَرط فِي صِحَة الصَّلَاة)
لما روى مُسلم: عَن مُصعب بن سعد، قَالَ: " دخل عبد الله بن عمر على ابْن
عَامر يعودهُ، وَهُوَ مَرِيض، فَقَالَ: أَلا تَدْعُو لي يَا ابْن عمر،
فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: لَا
تقبل صَلَاة بِغَيْر طهُور وَلَا صَدَقَة من غلُول ".
فَإِن قيل: فقد قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا
أَمرتكُم بِأَمْر فاتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم ".
قيل لَهُ: (وَلَو كَانَت الصَّلَاة بِغَيْر طَهَارَة وَاجِبَة على فَاقِد
الطّهُور فَإِذا صلى) فقد أَتَى بِمَا وَجب عَلَيْهِ الْإِتْيَان بِهِ،
فَلَا تجب عَلَيْهِ الْإِعَادَة، وَلَكِن هَذَا (الحَدِيث)
(1/98)
مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ المستطاع
قربَة، (والقربة) مَا يرضاها الله ويقبلها، وَقد أخبر أَنه لَا يقبل
الصَّلَاة بِغَيْر طهُور.
فَإِن قيل: " وَقد أخبر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن الله
لَا يقبل صَلَاة حَائِض بِغَيْر خمار ". وَقد جوزتم الصَّلَاة مَعَ كشف
الْعَوْرَة عِنْد الْعَجز عَن السّتْر وأوجبتموها، وأوجبتم على الْمُسَافِر
الْإِمْسَاك إِذا قدم فِي أثْنَاء النَّهَار فِي رَمَضَان.
قيل لَهُ: الْحَدث معنى قَائِم بِذَات الْمَرْء، يحصل لَهُ بِهِ نقص يخرج
بِهِ من أَن يكون صَالحا لخدمة الرب، فَإِنَّهُ إِذا أحدث صدق عَلَيْهِ
أَنه لَيْسَ بطاهر، وَعدم طَهَارَة الْمَرْء نقص فِي ذَاته، وَهَذَا وصف
لَا يَزُول إِلَّا بِاسْتِعْمَال المَاء أَو التُّرَاب، وَعدم السّتْر لَا
يُوجب نقصا فِي الذَّات بِالنّظرِ إِلَى الله تَعَالَى، فَإِن الله
تَعَالَى لَا يحجبنا عَنهُ شَيْء، فَعلمنَا أَن السّتْر إِنَّمَا وَجب لأجل
عباد الله تَعَالَى، والتطهير وَجب ليَكُون العَبْد فِي حَال الْخدمَة على:
أكمل الْأَحْوَال، إِذْ لَا فرق بَين الْمُحدث والمتوضئ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الْعباد، فَلَا يلْزم من تَجْوِيز الصَّلَاة مَعَ الْكَشْف تجويزها
مَعَ الْحَدث، والإمساك إِنَّمَا وَجب على القادم من السّفر مُرَاعَاة
لحُرْمَة الشَّهْر، وَلِهَذَا قَالُوا (يسْتَحبّ) للحائض أَن تَأْكُل فِي
خُفْيَة.
واستفدنا من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا يقبل الله صَلَاة حَائِض
إِلَّا بخمار " أَن رَأس الْمَرْأَة عَورَة دون وَجههَا، وَالْمرَاد
بالحائض الْبَالِغ، وَالله أعلم.
(1/99)
(بَاب النِّيَّة فِي الطهارتين الصُّغْرَى
والكبرى سنة وَلَيْسَت بواجبة)
/ مُسلم: عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت للنَّبِي [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] : " يَا رَسُول الله إِنِّي امْرَأَة أَشد ضفر
رَأْسِي أفأنقضه لغسل الْجَنَابَة؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا يَكْفِيك أَن
تحثي على رَأسك ثَلَاث حثيات ثمَّ تفيضين المَاء عَلَيْك فتطهرين ".
فَلَمَّا زَاد على الْجَواب علمنَا أَنه أَرَادَ تعليمها صفة الْغسْل
المجزئ، فَلَو كَانَت النِّيَّة شرطا لبينها.
فَإِن قيل: لَعَلَّهَا كَانَت عَالِمَة بِهِ من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام:
" إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا (لامرئ) مَا نوى ".
قيل لَهُ: هَذَا الِاحْتِمَال لَا يعول عَلَيْهِ، حَتَّى نعلم أَن حَدِيث
الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ كَانَ مُتَقَدما على حَدِيث أم سَلمَة، وَلَا
سَبِيل إِلَى هَذَا.
ثمَّ نقُول: هَذَا الِاحْتِمَال إِنَّمَا بنيته على اعتقادك أَن حَدِيث
الْأَعْمَال (بِالنِّيَّاتِ) دَال على اشْتِرَاط النِّيَّة، وَلَيْسَ كَمَا
تخيلته، (فَإِن) مَعْنَاهُ " إِنَّمَا ثَوَاب الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ،
وَإِنَّمَا لامرئ ثَوَاب مَا نوى ".
(1/100)
فَإِن قيل: بل مَعْنَاهُ " إِنَّمَا صِحَة
الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ".
قيل لَهُ: مَا أضمرناه مُتَّفق على إِرَادَته فَإِن من نفى الصِّحَّة نفى
الثَّوَاب، وَمَا أضمرته مُخْتَلف فِيهِ فَإِن من أضمر الثَّوَاب لم ينف
الصِّحَّة، وإضمار مَا اتّفق عَلَيْهِ أولى من إِضْمَار مَا اخْتلف فِيهِ.
سلمنَا أَن حَدِيث الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ يدل على اشْتِرَاط النِّيَّة
وَلَكِن فِي الْأَعْمَال الَّتِي هِيَ عبَادَة، وَمعنى الْعِبَادَة لَا
يُمكن تحَققه فِيمَا وَقع شرطا للصَّلَاة، لِأَن الْعِبَادَة فِي اللُّغَة:
" التذلل "، وَفِي الشَّرْع: " مَا يَأْتِيهِ العَبْد تذللا وتخشعا لله
تَعَالَى على مُخَالفَة الْهوى تَعْظِيمًا "، وَلِأَن أصل الْفِعْل لَا
دَلِيل على وُجُوبه إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {فاغسلوه} وَهُوَ من
الْأَوَامِر الَّتِي يطْلب بهَا حُصُول الْمَأْمُور بِهِ فَحسب، كالأمر
بِغسْل النَّجَاسَة، وَستر الْعَوْرَة، وَأَدَاء الْأَمَانَة، ورد المغضوب.
وَلَيْسَ الْأَمر بِغسْل النَّجَاسَة من بَاب الْأَمر بِالتّرْكِ. بل من
بَاب الْأَمر بِالْفِعْلِ، قَالَ الله تَعَالَى: {وثيابك فطهر} .
وَقد وَافَقنَا فِيمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ الثَّوْريّ، وَالْأَوْزَاعِيّ،
رحمهمَا الله تَعَالَى.
(ذكر مَا فِي حَدِيث أم سَلمَة من الْغَرِيب:)
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ: " ضفر، فقرأه النَّاس
بِإِسْكَان الْفَاء وَإِنَّمَا هُوَ بِفَتْحِهَا، لِأَنَّهُ بِالسُّكُونِ
مصدر من ضفر يضفر ضفرا، وبالفتح هُوَ الشَّيْء المضفور كالشعر وَغَيره،
والضفر هُوَ نسج خصل الشّعْر وَإِدْخَال بَعْضهَا فِي بعض معرضة، وَمِنْه
قيل للحبال المفتولة العراض: ضفائر " /.
(1/101)
(بَاب التَّسْمِيَة سنة وَلَيْسَت بواجبة)
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا مس طهوره سمى الله تَعَالَى، ثمَّ
يفرغ المَاء على يَدَيْهِ ".
فَإِن قيل: روى أَبُو دَاوُد: عَن يَعْقُوب بن سَلمَة، عَن أَبِيه، عَن أبي
هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] : " لَا صَلَاة لمن لَا وضوء لَهُ وَلَا وضوء لمن لم يسم الله ".
قيل لَهُ: " حكى الْأَثْرَم عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه قَالَ: لَيْسَ فِي
هَذَا حَدِيث يثبت، وَقَالَ أَيْضا: لَا أعلم فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثا
لَهُ إِسْنَاد جيد ".
وَقَالَ البُخَارِيّ: " لَا يعرف لسَلمَة سَماع من أبي هُرَيْرَة، وَلَا
ليعقوب سَماع من أَبِيه ". وَمَعْنَاهُ (لَا كَمَال للْوُضُوء وَلَا
فَضِيلَة لَهُ) .
(1/102)
(بَاب لَا يُجزئ فِي مسح الرَّأْس إِلَّا
مِقْدَار الناصية أَو ربع الرَّأْس)
مُسلم: عَن الْمُغيرَة رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] تَوَضَّأ وَمسح بناصيته وعَلى الْعِمَامَة وعَلى
الْخُفَّيْنِ ".
وروى أَبُو دَاوُد: عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " رَأَيْت رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تَوَضَّأ وَعَلِيهِ عِمَامَة قطرية، فَأدْخل
يَده تَحت الْعِمَامَة وَمسح مقدم رَأسه وَلم ينْقض الْعِمَامَة ".
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا " أَنه كَانَ إِذا
مسح رَأسه رفع القلنسوة وَمسح مقدم رَأسه ".
(ذكر مَا فِي الْحَدِيثين من الْغَرِيب:)
الناصية: (أحد) النواصي، وَهِي مَا بَين النزعتين، وهما الْبيَاض الَّذِي
انحسر عَن الشّعْر من جَانِبي مقدم الرَّأْس، وَهِي دون الرّبع. ذكره فِي
الصِّحَاح.
قطرية: بقاف مَكْسُورَة وطاء مُهْملَة (سَاكِنة) وَرَاء مَكْسُورَة وياء
منقوطة بِاثْنَتَيْنِ من تحتهَا مَفْتُوحَة مُشَدّدَة: ثِيَاب حمر لَهَا
أَعْلَام فِيهَا بعض الخشونة منسوبة إِلَى قطر، مَوضِع بَين عمان وَسيف
الْبَحْر. قَالَه الْأَزْهَرِي رَحمَه الله.
(1/103)
(بَاب (لَا يسن التَّثْلِيث فِي مسح
الرَّأْس))
التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد: عَن (أبي حَيَّة) قَالَ: " رَأَيْت عليا
رَضِي الله عَنهُ تَوَضَّأ فَغسل كفيه حَتَّى أنقاهما، ثمَّ تمضمض
ثَلَاثًا، واستنشق ثَلَاثًا، وَغسل وَجهه ثَلَاثًا، وذراعيه ثَلَاثًا، /
وَمسح بِرَأْسِهِ مرّة، ثمَّ غسل قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ
قَالَ: فَأخذ فضل وضوئِهِ فشربه وَهُوَ قَائِم، ثمَّ قَالَ: أَحْبَبْت أَن
أريكم كَيفَ كَانَ طهُور رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: " وَأَحَادِيث عُثْمَان الصِّحَاح كلهَا تدل على أَن
مسح الرَّأْس
(1/104)
(مرّة) وَاحِدَة ".
قلت: وَقد استفدنا من هَذَا الحَدِيث جَوَاز الشّرْب قَائِما.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: " إِنَّمَا نهى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
عَن الشّرْب قَائِما من فِي السقاء، قَالُوا: لِأَنَّهُ ينتنه ".
(بَاب الأذنان تمسحان بالبلة الَّتِي تبقى على الْيَد من مسح الرَّأْس)
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن مُجَاهِد عَن ابْن
عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " الأذنان من
الرَّأْس ".
(1/105)
قَالَ أَبُو عِيسَى: " وَالْعَمَل على
هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] ، وَمن بعدهمْ أَن الْأُذُنَيْنِ من الرَّأْس، وَبِه يَقُول
سُفْيَان الثَّوْريّ وَأحمد وَإِسْحَاق رَحِمهم الله تَعَالَى ".
(بَاب تَخْلِيل اللِّحْيَة مُسْتَحبّ وَلَيْسَ بِسنة)
التِّرْمِذِيّ: عَن حسان بن بِلَال قَالَ: " رَأَيْت عمار بن يَاسر
تَوَضَّأ فخلل لحيته فَقيل لَهُ، أَو فَقلت لَهُ: أتخلل لحيتك؟ فَقَالَ:
وَمَا يَمْنعنِي وَقد رَأَيْت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يخلل
لحيته ".
فالإنكار على عمار بن يَاسر دَلِيل على أَن هَذَا الْأَمر كَانَ متروكا
عِنْدهم، وَلِأَن أَكثر من حكى وضوء رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
لم يحكه.
وروى أَبُو دَاوُد: عَن أنس رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ إِذا تَوَضَّأ أَخذ كفا من مَاء فَأدْخلهُ تَحت حنكه
فخلل بِهِ لحيته، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا أَمرنِي رَبِّي ". وَهَذَا يدل على
أَنه كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ.
(ذكر مَا فِي هذَيْن الْحَدِيثين من الْغَرِيب:)
يخلل: أَي يدْخل يَده فِي خلل لحيته وَهِي الْفروج الَّتِي بَين الشّعْر،
وَمِنْه فلَان خَلِيل أَي مخالل حبه فرج جِسْمه حَتَّى يبلغ إِلَى قلبه،
وَمِنْه الْخلال.
(1/106)
(بَاب التَّرْتِيب لَيْسَ بِشَرْط فِي
الْوضُوء وَلَا فِي التَّيَمُّم)
لقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى
الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} . / (عقب) الْقيام إِلَى
الصَّلَاة بِغسْل مَجْمُوع الْأَعْضَاء، لِأَنَّهُ عطف بَعْضهَا على بعض
بِحرف الْوَاو، وَهِي لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب، وَلَا يُمكن التَّعْبِير
عَنْهَا مفصلة إِلَّا بِذكر اسْم كل وَاحِد مِنْهَا، فَوَقع ذكر الأول من
ضَرُورَة التَّفْصِيل، وَنَظِيره قَول الْقَائِل: " (إِذا) دخلت السُّوق
فاشتر الْخبز وَاللَّحم والفاكهة "، فَإِن ذَلِك لَا يَقْتَضِي تَقْدِيم
مَا بَدَأَ بِهِ، ثمَّ التَّرْتِيب وَقع فِي الْآيَة لبَيَان أَن أَعْضَاء
الْوضُوء انقسمت إِلَى مَكْشُوف غَالِبا وَهُوَ الْوَجْه وَالْيَدَانِ،
وَإِلَى مَا يتَّخذ لَهُ سَاتِر على حياله وَهُوَ الرَّأْس وَالرجلَانِ،
فَكَانَت الْبدَاءَة بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ أولى، لتعرضهما للتلويث،
وَالْوَجْه أشرفهما، فَلذَلِك قدم كَمَا قدمت الْيَمين على الْيَسَار، ثمَّ
قدم الرَّأْس على الرجلَيْن لِأَنَّهُ أشرف المستورين. وَيُؤَيّد هَذَا مَا
روى أَبُو دَاوُد: عَن عمار بن يَاسر قَالَ: " بَعَثَنِي رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي حَاجَة فأجنبت، فَلم أجد المَاء، فتمرغت بالصعيد
كَمَا تتمرغ الدَّابَّة، ثمَّ أتيت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
فَذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّمَا يَكْفِيك أَن تصنع هَكَذَا، فَضرب
بيدَيْهِ على الأَرْض فنفضهما ثمَّ ضرب بِشمَالِهِ على يَمِينه، وبيمينه
على شِمَاله إِلَى الْكَفَّيْنِ، ثمَّ مسح وَجهه ". وَأخرجه البُخَارِيّ
بِأَلْفَاظ قريبَة من هَذَا.
فقد ترك رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] التَّرْتِيب فِي
التَّيَمُّم، وَمَتى سقط اشْتِرَاطه فِي التَّيَمُّم سقط فِي الْوضُوء،
إِذْ لَا قَائِل بِالْفرقِ.
(1/107)
وروى الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عَليّ رَضِي
الله عَنهُ أَنه قَالَ: " مَا أُبَالِي إِذا أتممت وضوئي بِأَيّ أعضائي
بدأت ". وَقد وَافَقنَا مَالك رَحمَه الله فِي ذَلِك.
وَقَالَ ابْن شَدَّاد فِي دَلَائِل الْأَحْكَام لَهُ: " وَذهب
الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنه سنة حَتَّى لَو عكس صَحَّ وضوءه ".
وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا،
وَقَالَ بِهِ من التَّابِعين سعيد بن الْمسيب، وَعَطَاء، وَالنَّخَعِيّ،
وَإِلَيْهِ ذهب الْأَوْزَاعِيّ، وَالثَّوْري، رَحِمهم الله تَعَالَى "
(بَاب الْخَارِج النَّجس من غير السَّبِيلَيْنِ ينْقض الْوضُوء)
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن ابْن جريج عَن (أَبِيه) قَالَ: قَالَ رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا قاء أحدكُم أَو قلس أَو وجد مذيا
وَهُوَ فِي الصَّلَاة فلينصرف، وليتوضأ، وليبن على صلَاته / مَا لم
يتَكَلَّم ".
(1/108)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " قَالَ لنا أَبُو
بكر سَمِعت مُحَمَّد بن يحيى يَقُول: هَذَا هُوَ الصَّحِيح عَن ابْن جريج
وَهُوَ مُرْسل ".
وروى التِّرْمِذِيّ: من طَرِيق حُسَيْن الْمعلم عَن أبي الدَّرْدَاء: " أَن
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قاء فَتَوَضَّأ، فَلَقِيت ثَوْبَان فِي
مَسْجِد دمشق، فَذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: صدق، أَنا صببت لَهُ وضوءه ".
قَالَ الْأَثْرَم: " قلت لِأَحْمَد بن حَنْبَل، قد اضْطَرَبُوا فِي هَذَا
الحَدِيث، فَقَالَ: حُسَيْن الْمعلم يجوده ".
فَإِن قيل: إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ غسل فَمه من الْقَيْء (وزهومته) .
قيل: لَهُ: الْمَفْهُوم من (إِطْلَاق) لفظ الْوضُوء عِنْد أهل الشَّرْع
إِنَّمَا هُوَ الْوضُوء الشَّرْعِيّ، وَغسل الْفَم من الْقَيْء وَمن
اللَّبن يُسمى مضمضة.
(1/109)
وروى تَمِيم الدَّارِيّ رَضِي الله عَنهُ
أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " الْوضُوء من كل دم سَائل
".
هَذَا الحَدِيث يرويهِ عَن تَمِيم الدَّارِيّ عمر بن عبد الْعَزِيز وَلم
يلقه، وَيَرْوِيه عَن عمر بن عبد الْعَزِيز يزِيد بن خَالِد، و (يزِيد) بن
مُحَمَّد وهما مَجْهُولَانِ، إِلَّا أَن عدم لَقِي الرَّاوِي من حدث عَنهُ
بِمَنْزِلَة الْإِرْسَال، والمرسل مَقْبُول عندنَا. والجهالة غير مَانِعَة
من الْقبُول على مَا مر.
(روى) مَالك: عَن نَافِع: " أَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ
إِذا رعف انْصَرف فَتَوَضَّأ ثمَّ رَجَعَ فَبنى وَلم يتَكَلَّم ".
فَإِن قيل: رُوِيَ أَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ عصر بثرة فَخرج مِنْهَا
دم وَلم يتَوَضَّأ ".
(1/110)
قيل لَهُ: وَكَذَلِكَ نقُول فَإِن هَذَا
مخرج وَلَيْسَ بِخَارِج فَلَا ينْتَقض الْوضُوء. وروى مَالك: عَن يزِيد بن
عبد الله بن قسيط اللَّيْثِيّ، " أَنه رأى سعيد بن الْمسيب رعف وَهُوَ
يُصَلِّي فَأتى حجرَة أم سَلمَة زوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
فَتَوَضَّأ ثمَّ رَجَعَ فَبنى على مَا قد صلى ".
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد: فِي سنَنه عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ
قَالَ: " خرجنَا مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي غَزْوَة
ذَات الرّقاع، فَأصَاب رجل امْرَأَة رجل من الْمُشْركين، فَحلف أَن لَا
أَنْتَهِي حَتَّى أهريق دَمًا فِي أَصْحَاب مُحَمَّد، فَخرج يتبع أَثَره،
وَنزل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: هَل من رجل يكلؤنا
فَانْتدبَ رجل من الْمُهَاجِرين وَقَامَ (رجل) من الْأَنْصَار وَقَالَ:
(كونا) بِفَم الشّعب، / فَلَمَّا خرج الرّجلَانِ إِلَى فَم الشّعب اضْطجع
الْمُهَاجِرِي، وَقَامَ الْأنْصَارِيّ يُصَلِّي، فَأتى الرجل فَلَمَّا رأى
شخصه (عرف) أَنه ربيئة (الْقَوْم) ، فَرَمَاهُ بِسَهْم فَوَضعه فِيهِ
فَنَزَعَهُ حَتَّى رَمَاه بِثَلَاثَة أسْهم، ثمَّ ركع ثمَّ سجد ثمَّ أنبه
صَاحبه، فَلَمَّا عرف أَنهم قد نذروا بِهِ هرب، فَلَمَّا
(1/111)
رأى الْمُهَاجِرِي مَا بِالْأَنْصَارِيِّ
من الدِّمَاء قَالَ: سُبْحَانَ الله (هلا) أنبهتني أول (مَا) رمى، قَالَ:
كنت فِي سُورَة أقرؤها فَلم أحب أَن أقطعها ".
قَالُوا: فقد مضى فِي صلَاته وَلَو كَانَ خُرُوج الدَّم ينْقض (الْوضُوء)
لما مضى فِي صلَاته.
قيل: هَذَا لَا يَصح الِاسْتِدْلَال بِهِ، فَإِن الدَّم حِين خرج أصَاب
بدنه وثوبه، فَيَنْبَغِي أَن يخرج من الصَّلَاة وَلم يخرج، (فَلَمَّا لم
يدل) مضيه فِي الصَّلَاة على جَوَاز الصَّلَاة مَعَ النَّجَاسَة، كَذَلِك
لَا يدل مضيه فِيهَا على أَن خُرُوج الدَّم لَا ينْقض الْوضُوء. قَالَ
الْخطابِيّ: " وَتَقْدِير خُرُوج الدَّم زرقا بِحَيْثُ (لَا يلوث) شَيْئا
بعيد ".
فَإِن قيل: إِصَابَة الدَّم شَيْئا من بدنه أَو ثِيَابه يشك فِيهِ ويشك فِي
أَنه يسير يتَحَمَّل فِي الصَّلَاة، أَو كثير لَا يتَحَمَّل فِي الصَّلَاة،
وَأما خُرُوجه فَإِنَّهُ يحس بِهِ لِأَنَّهُ خَارج من بدنه.
قيل لَهُ: هَذِه مُكَابَرَة، كَيفَ يحصل هَذَا الشَّك وَقد قَالَ جَابر
رَضِي الله عَنهُ: " فَلَمَّا رأى الْمُهَاجِرِي مَا بِالْأَنْصَارِيِّ من
الدِّمَاء "، والمهاجري قد رَآهُ بِاللَّيْلِ، وهاله مَا رأى من الدِّمَاء
بِبدنِهِ وثيابه، لِأَنَّهُ قَالَ: " مَا بِالْأَنْصَارِيِّ من الدِّمَاء
"، وَلم يقل مَا بِالْأَرْضِ، وَالدَّم المهول فِي اللَّيْل لَا يكون
يَسِيرا، كَيفَ وَقد جمع الدَّم فَقَالَ: " مَا بِالْأَنْصَارِيِّ من
الدِّمَاء "، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد أَصَابَهُ بِثَلَاثَة أسْهم،
وَالظَّاهِر أَنَّهَا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، ثمَّ إِن هَذَا فعل وَاحِد من
الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، وَلَعَلَّه كَانَ مذهبا لَهُ أَو كَانَ
غير عَالم بِحكمِهِ.
(1/112)
قَالَ الْخطابِيّ: " أَكثر الْفُقَهَاء على
انْتِقَاض الْوضُوء بسيلان الدَّم، وَقَول الشَّافِعِي قوي فِي الْقيَاس،
ومذاهبهم أقوى فِي الِاتِّبَاع ".
وَقد وَافَقنَا على هَذِه الْمَسْأَلَة سُفْيَان الثَّوْريّ، وَابْن
الْمُبَارك، وَأحمد، وَإِسْحَاق رَحِمهم الله.
(ذكر مَا فِي الْأَحَادِيث من الْغَرِيب:)
" القلس: / الْقَيْء: والقلس حَبل عَظِيم من لِيف أَو خوص من قلوس السفن ".
" هراق المَاء، يهريقه بِفَتْح الْهَاء لِأَن أَصله أراق (يريق) وَالشَّيْء
(مهراق) ومهراق بِالتَّحْرِيكِ أَيْضا ".
" كلأه الله كلاءة بِالْكَسْرِ: أَي حفظه وحرسه، فَقَوله من يكلؤنا: أَي
يحفظنا ويحرسنا، وَمِنْه الكلاء بِالْمدِّ وَالتَّشْدِيد للموضع الَّذِي
تحفظ (فِيهِ) السفن، وَمنع بيع الكالئ بالكالئ: أَي النَّسِيئَة
بِالنَّسِيئَةِ، لِأَن صَاحب الدّين يرقب (مَتى) يحل دينه، وكلئت الأَرْض،
وأكلأت فَهِيَ مكلئة، أَي ذَات عشب، والكلأ العشب، رطبه ويابسه ".
" والشعب: بِالْكَسْرِ الطَّرِيق فِي الْجَبَل، وَالْجمع: الشعاب، والشعب:
بِالْفَتْح الْقَبِيلَة الْعَظِيمَة الَّتِي تنْسب إِلَيْهَا الْقَبَائِل،
وَهُوَ أَبُو الْقَبَائِل الَّتِي ينسبون (إِلَيْهِ) ،
(1/113)
والشعب أَيْضا جبل بِالْيمن، وَإِلَيْهِ
ينْسب عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ، وشعبت الشَّيْء: فرقته، وشعبته: جمعته،
من االأضداد، والشعوبية: فرقة لَا تفضل الْعَرَب على الْعَجم ". وربيئة:
وَهُوَ برَاء مَفْتُوحَة وباء مُعْجمَة بِوَاحِدَة مَكْسُورَة وياء ممدودة
بعْدهَا همزَة وهاء، وَهُوَ الطليعة للْقَوْم، وَجمعه: ربايا، ذكره
الْجَوْهَرِي.
(بَاب النّوم لَا ينْقض الْوضُوء إِلَّا فِي حَالَة استرخاء المفاصل)
أَبُو دَاوُد: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ " أَن رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يسْجد وينام وينفخ (ثمَّ يقوم) فَيصَلي وَلَا
يتَوَضَّأ، فَقلت لَهُ: صليت وَلم تتوضأ وَقد نمت، فَقَالَ: إِنَّمَا
الْوضُوء على من نَام مُضْطَجعا ". وَفِي رِوَايَة: فَإِنَّهُ إِذا اضْطجع
استرخت مفاصله ".
وروى أَحْمد بن حَنْبَل أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: "
لَيْسَ على من نَام سَاجِدا وضوء حَتَّى يضطجع، فَإِنَّهُ إِذا اضْطجع
استرخت مفاصله ".
(1/114)
فَإِن قيل: فِي سَنَده يزِيد الدالاني.
قيل لَهُ: سُئِلَ عَنهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فَقَالَ صَدُوق ثِقَة،
وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل وَابْن معِين وَأَبُو عبد الرَّحْمَن
النَّسَائِيّ: " لَيْسَ بِهِ بَأْس ".
فَإِن قيل: روى أَبُو دَاوُد: عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ
قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : / وكاء السه العينان
فَمن نَام فَليَتَوَضَّأ ".
قيل لَهُ: فِي سَنَده بَقِيَّة بن الْوَلِيد، والوضين بن عَطاء، وَفِيهِمَا
مقَال، وَقد وَافَقنَا على هَذِه الْمَسْأَلَة سُفْيَان الثَّوْريّ، وَعبد
الله بن الْمُبَارك، وَأحمد بن حَنْبَل رَحِمهم الله.
(1/115)
(ذكر مَا فِي هَذِه الْأَحَادِيث من
الْغَرِيب:)
" الْوضُوء: بِالْفَتْح، المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ، وبالضم الْمصدر،
والوضاءة: الْحسن والنظافة، تَقول: وضوء الرجل: أَي صَار وضيئا، وتوضأت
للصَّلَاة، وَلَا تَقول توضيت. والوكاء: هُوَ الْخَيط الَّذِي يرْبط بِهِ
فَم الرَّقَبَة، (والسه: حَلقَة الدبر) ".
(بَاب القهقهة تنقض الْوضُوء)
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي: " أَن أعمى تردى فِي
بِئْر وَالنَّبِيّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ،
فَضَحِك بعض من كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ،
فَأمر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من كَانَ ضحك مِنْهُم أَن يُعِيد
الْوضُوء وَالصَّلَاة جَمِيعًا ".
فَإِن قيل: هَذَا الحَدِيث مُرْسل، أرْسلهُ أَبُو الْعَالِيَة الريَاحي،
وَقد قيل إِنَّه كَانَ لَا يُبَالِي من أَيْن كَانَ يَأْخُذ الحَدِيث،
وَقَالَ ابْن عدي: " إِنَّمَا قيل فِي أبي الْعَالِيَة مَا قيل لهَذَا
الحَدِيث وَإِلَّا فسائر أَحَادِيثه صَالِحَة ".
قيل لَهُ: روى الْبَيْهَقِيّ: عَن ابْن شهَاب أَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] أَمر رجلا ضحك فِي الصَّلَاة أَن يُعِيد الْوضُوء
وَالصَّلَاة ". قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ: " لم نقبله لِأَنَّهُ
مُرْسل " فَلم يذكر فِيهِ (عِلّة) سوى الْإِرْسَال، فَدلَّ على صِحَة
إرْسَاله. وَأما أَبُو الْعَالِيَة
(1/116)
فَهُوَ عدل ثِقَة وَقد اتّفق على إرْسَال
هَذَا الحَدِيث معمر، وَأَبُو عوَانَة، وَسَعِيد بن أبي عرُوبَة، وَسَعِيد
بن أبي بشير، فَرَوَوْه عَن قَتَادَة، عَن أبي الْعَالِيَة، وتابعهم
عَلَيْهِ ابْن أبي الذَّيَّال، وَهَؤُلَاء خمس ثِقَات، فَإِن صَحَّ عَن أبي
الْعَالِيَة أَنه كَانَ لَا يُبَالِي من أَيْن (أَخذ) الحَدِيث، قُلْنَا
لكنه إِذا أرسل الحَدِيث لَا يُرْسِلهُ إِلَّا عَمَّن تقبل رِوَايَته،
لِأَن الْمَقْصُود من رِوَايَة الحَدِيث لَيْسَ إِلَّا التَّبْلِيغ عَن
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وخاصة إِذا تضمن حكما شَرْعِيًّا،
فَإِذا أرسل الحَدِيث وَلم يذكر من أرْسلهُ عَنهُ مَعَ علمه أَو ظَنّه
بِعَدَمِ عَدَالَته، كَانَ غاشا للْمُسلمين، وتاركا لنصيحتهم، فَتسقط
عَدَالَته، وَيدخل فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من غش فَلَيْسَ منا ".
وَقد ثبتَتْ / عَدَالَته، وَرَوَاهُ الثِّقَات عَنهُ مُرْسلا فَدلَّ على
أَنه أرْسلهُ عَن عدل، وَلِأَن الْمُرْسل شَاهد على الرَّسُول [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] بِإِضَافَة الْخَبَر إِلَيْهِ، فَلَو لم يكن ثَابتا عَنهُ
بطرِيق تقَارب الْعلم لما أرْسلهُ، ولكان أسْندهُ لتَكون الْعهْدَة على
غَيره، وَهَذِه عَادَة غير مدفوعة أَن من قوي ظَنّه بِوُجُود شَيْء أعرض
عَن إِسْنَاده. فَهَذِهِ مَسْأَلَة تفرد بهَا أَصْحَابنَا اتبَاعا لهَذَا
الحَدِيث، وَتركُوا الْقيَاس من أَجله، وَهَذِه شَهَادَة ظَاهِرَة لَهُم
أَنهم يقدمُونَ الحَدِيث على الْقيَاس، وهم أتبع للْحَدِيث من سَائِر
النَّاس.
(1/117)
(بَاب لمس الْمَرْأَة لَيْسَ بناقض
للْوُضُوء)
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن عَائِشَة رَضِي الله
عَنْهَا قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يتَوَضَّأ
ثمَّ يقبل بَعْدَمَا يتَوَضَّأ ثمَّ يُصَلِّي وَلَا يتَوَضَّأ ".
وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ سمع هَذَا الحَدِيث من أَبِيه، وَوَصله بعائشة
من طَرِيق مُعَاوِيَة بن هِشَام، وَأَبوهُ: يزِيد بن شريك التَّيْمِيّ، تيم
الربَاب، ثِقَة.
وروى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كنت أَنَام بَين يَدي
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي قبلته فَإِذا سجد غمز رجْلي
فقبضتها وَإِذا قَامَ بسطتها ". قَالَت: " والبيوت يَوْمئِذٍ لَيْسَ لَهَا
مصابيح ". ذكر هَذَا (البُخَارِيّ وَمُسلم) وَالنَّسَائِيّ فِي بَاب
الرُّخْصَة فِي لمس الْمَرْأَة.
(1/118)
وَأما قَوْله تَعَالَى: {أَو لامستم
النِّسَاء} فَفِيهِ قراءتان: الْمَدّ وَالْقصر، وَالْمدّ عَلَيْهِ أَكثر
الْقُرَّاء، وَالْمُلَامَسَة المفاعلة، وَالْأَصْل أَن تكون بَين
شَخْصَيْنِ فَيحمل على المجامعة.
قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: " إِن الله حييّ كريم كنى باللمس عَن
الْجِمَاع ". وَقد صَحَّ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] دَعَا
لَهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ علمه الْكتاب "، وَدُعَاء النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] مستجاب، فيكاد الْعَاقِل يقطع بِمَا فسره من الْقُرْآن أَن
يكون مُرَاد الله تَعَالَى، وَالْوَاجِب أَن تحمل الْآيَة على مَا فسره
ابْن عَبَّاس، لِأَن الظَّاهِر أَن (الْحَكِيم) إِذا بَين الطَّهَارَة
الصُّغْرَى وَالطَّهَارَة الْكُبْرَى حَال وجود المَاء أَن يبينهما حَال
عدم المَاء، لِأَن بِالنَّاسِ حَاجَة إِلَى بَيَان ذَلِك، فَلَو حملت
الْآيَة على الْجِمَاع كَانَ النَّص بَيَانا شافيا للطهارتين جَمِيعًا حَال
عدم المَاء (لفا) لما (سبقه) من الْبَيَان الشافي لَهما حَال وجود المَاء،
فَوَجَبَ أَن يحمل عَلَيْهِ دفعا لحَاجَة الْعباد، لَا أَن يحمل / على حدث
بعد حدث فَتكون الْآيَة بَيَانا للطَّهَارَة الصُّغْرَى مرَّتَيْنِ،
وإهمالا للطَّهَارَة الْكُبْرَى حَال عدم المَاء، مَعَ أَن الْعقل لَا
يَهْتَدِي إِلَى قِيَاس الطَّهَارَة الْكُبْرَى على الطَّهَارَة
الصُّغْرَى.
فَإِن قيل: لَيْسَ من اللَّازِم أَن تشْتَمل الْآيَة على (جَمِيع)
الْأَحْكَام فِي بَاب وَاحِد حَتَّى لَا يشذ عَنْهَا شَيْء، بل يتَوَلَّى
الْكتاب بَعْضهَا وَالسّنة بَعْضهَا، أَلا ترى أَن
(1/119)
عمار بن يَاسر كَانَ يتمعك فِي التُّرَاب
لجنابة أَصَابَته، فَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " يَكْفِيك ضربتان
ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ ". فَكَانَ تيَمّم الْجنب متلقى من
هَذَا الحَدِيث.
قيل لَهُ: عمار بن يَاسر لم يستفد من النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
إِلَّا كَيْفيَّة التَّيَمُّم، وَأما أصل شَرعه ففهمه من الْآيَة وَلِهَذَا
تمعك فِي التُّرَاب.
وَيُؤَيّد مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا روى الطَّحَاوِيّ: عَن يحيى بن سعيد،
عَن عميرَة، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت: " فقدت النَّبِي
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ذَات لَيْلَة فَظَنَنْت أَنه أَتَى جَارِيَته،
فالتمسته بيَدي، فَوَقَعت يَدي على صُدُور قَدَمَيْهِ وَهُوَ ساجد يَقُول:
" اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ برضاك من سخطك، وَأَعُوذ بعفوك من عقابك، لَا
أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك ". وَفِي الصَّحِيح: "
أَن يَدهَا وَقعت على أَخْمص قَدَمَيْهِ وَهُوَ ساجد "، والأخمص مَا دخل من
بَاطِن الْقدَم، وَهَذَا فِي الْأَغْلَب لَا يكون مَسْتُورا سِيمَا فِي
(حَال) السُّجُود. وَهَذِه الْمَسْأَلَة قد وَافَقنَا عَلَيْهَا الْحسن،
وَالثَّوْري، وسبقنا بالْقَوْل بذلك عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ،
وَإِلَى هَذَا ذهب عَطاء وَطَاوُس رحمهمَا الله.
(بَاب مس الذّكر لَا ينْقض الْوضُوء)
التِّرْمِذِيّ: عَن قيس بن طلق بن عَليّ - هُوَ الْحَنَفِيّ - عَن أَبِيه،
عَن
(1/120)
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه
قَالَ: " وَهل هُوَ إِلَّا مُضْغَة مِنْهُ (أَو بضعَة) (مِنْهُ) ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " وَهَذَا أحسن (شَيْء) رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب ".
وَقد رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَنهم لم يرَوا من
مس الذّكر وضُوءًا، فَمن الصَّحَابَة عَليّ بن أبي طَالب، وَابْن مَسْعُود،
وعمار بن يَاسر، وَأَبُو الدَّرْدَاء، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان، وَغَيرهم،
وَمن التَّابِعين / سعيد بن الْمسيب، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَإِلَيْهِ ذهب
الثَّوْريّ رَحمَه الله.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ عَن بسرة بنت صَفْوَان أَنَّهَا سَمِعت رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " (إِذا مس أحدكُم) ذكره فَليَتَوَضَّأ
".
(1/121)
قيل (لَهُ: فقد) روى الطَّحَاوِيّ: عَن
عَبَّاس بن عبد الْعَظِيم الْعَنْبَري، قَالَ: سَمِعت عَليّ بن
الْمَدِينِيّ يَقُول: " حَدِيث ملازم هَذَا - يَعْنِي حَدِيث قيس بن طلق -
أحسن من حَدِيث بسرة ". وَكَانَ ربيعَة يَقُول: " وَيحكم مثل هَذَا يَأْخُذ
بِهِ أحد، وَيعْمل بِحَدِيث بسرة، وَالله لَو أَن بسرة شهِدت على هَذَا
النَّعْل مَا قبلت شهادتها، إِنَّمَا قوام الدّين بِالصَّلَاةِ، وقوام
الصَّلَاة بالطهور، فَلم يكن فِي صحابة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] من (يُقيم هَذَا) الدّين إِلَّا بسرة ".
ولعمري إِنَّه (صَادِق) فِيمَا قَالَ، لِأَن هَذَا حكم (يتَعَلَّق)
بِالرِّجَالِ، فَكيف تخْتَص بروايته امْرَأَة؛ هَذِه تُهْمَة توجب
التَّوَقُّف، وَقبُول الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم خبر عَائِشَة رَضِي
الله عَنْهَا فِي التقاء الختانين لَا يُنَاقض مَا قُلْنَاهُ، لِأَنَّهُ
حكم مُشْتَرك بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَحَدِيث التقاء الختانين ثَبت
فِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة، و (عَكسه) عَن عُثْمَان، وَحَدِيث
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم كَانَ مرجحا لَا مثبتا. فَإِن قيل: إِن طلقا
قدم على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي ابْتِدَاء الْهِجْرَة،
وَالْمَسْجِد على عَرِيش، وحديثنا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة وَقد أسلم سنة
سِتّ من الْهِجْرَة، فَكَانَ حديثنا مُتَأَخِّرًا، وَالْأَخْذ بآخر
الْأَمريْنِ وَاجِب، لِأَنَّهُ نَاسخ.
(1/122)
قيل لَهُ: روى أَبُو دَاوُد عَن قيس بن طلق
عَن أَبِيه قَالَ: " قدمنَا على نَبِي الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
(فَجَاءَهُ) رجل كَأَنَّهُ بدوي فَقَالَ: يَا نَبِي الله مَا ترى فِي مس
الرجل ذكره بَعْدَمَا يتَوَضَّأ، قَالَ: هَل هُوَ إِلَّا مُضْغَة (مِنْهُ)
أَو بضعَة (مِنْهُ) ". فَفِي قَوْله: " مَا ترى فِي مس الرجل ذكره
بَعْدَمَا يتَوَضَّأ "، دلَالَة على أَنه كَانَ بلغه أَن النَّبِي [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] شرع فِيهِ الْوضُوء، فَأَرَادَ أَن يستيقن ذَلِك،
وَإِلَّا فالمستقر عِنْدهم أَن الْأَحْدَاث إِنَّمَا كَانَت من الْخَارِج
النَّجس، وَإِلَّا فالعقل لَا يَهْتَدِي إِلَى أَن مس الذّكر يُنَاسب نقض
الْوضُوء، فعلى هَذَا يكون حديثنا هُوَ آخر الْأَمريْنِ، وَيكون أَبُو
هُرَيْرَة قد سَمعه / من بعض الصَّحَابَة ثمَّ أرْسلهُ، أَو نقُول:
الْمَشْهُور فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث بسرة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ،
وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ فَلَا نسلم صِحَّته، وَدَعوى
النّسخ إِنَّمَا تصح بعد ثُبُوت الصِّحَّة.
(1/123)
(بَاب لَيْسَ فِي أكل لُحُوم الْإِبِل
وضوء)
إِلَى هَذَا ذهب عَامَّة الْعلمَاء، وحملوا الْأَمر بِالْوضُوءِ مِنْهَا
على غسل الْيَد، فَإِنَّهُ يُسمى وضُوءًا كَمَا قَالَ: " الْوضُوء قبل
الطَّعَام يَنْفِي الْفقر وَبعده يَنْفِي اللمم ".
وَالْمعْنَى فِيهِ أَن لحم الْجَزُور بالحجاز لَهُ زفر عَظِيم دون لحم
الْغنم، وَلَو أَرَادَ الْوضُوء للصَّلَاة (لقَالَ) كَمَا قَالَ: " من
جَامع وَلم يمن فَليَتَوَضَّأ كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة، وَيغسل ذكره ".
وَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ الْوضُوء للصَّلَاة، وَلكنه يحْتَمل أَن يكون
أَمر بِالْوضُوءِ (مِنْهُ) (ابْتِدَاء) ، ثمَّ أَمر بِالْوضُوءِ مِمَّا
مسته النَّار مُطلقًا، وَقد كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] ترك الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار.
(1/124)
(ذكر الْغَرِيب مِمَّا استشهدنا بِهِ:)
اللمم: صغائر الذُّنُوب، وَيُقَال: هُوَ مقاربة الْمعْصِيَة من غير مواقعة،
واللمم أَيْضا طرف من الْجُنُون.
(بَاب لَيْسَ على الْمَرْأَة أَن تنقض ضفائرها فِي غسل جَنَابَة وَلَا حيض)
لما روينَا فِي بَاب النِّيَّة من حَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا.
فَإِن قيل: أم سَلمَة إِنَّمَا سَأَلته عَن غسل الْجَنَابَة، وَغسل
(الْمَحِيض) غَيره، وَقد أَمر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِنَقْض
شعرهَا فِيهِ.
البُخَارِيّ وَغَيره عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت: خرجنَا
(موافين) لهِلَال ذِي الْحجَّة، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] : من أحب أَن يهل بِعُمْرَة فليهل، (فَإِنِّي لَوْلَا) أَنِّي أهديت
لأهللت بِعُمْرَة، (فَأهل بَعضهم بِعُمْرَة) وَأهل بَعضهم بِحَجّ، وَكنت
أَنا مِمَّن أهل بِعُمْرَة، فأدركني يَوْم عَرَفَة وَأَنا حَائِض، فشكوت
إِلَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: دعِي عمرتك وانقضي
رَأسك وامتشطي وَأَهلي بِحَجّ.
قيل لَهُ: الْجَنَابَة وَالْحيض حكمهمَا وَاحِد، لِأَن الْحَائِض مَتى
انْقَطع دَمهَا صَارَت
(1/125)
كالجنب، فَالْأَمْر الْوَارِد فِي
الْجَنَابَة وَارِد فِي الْحيض، وَأمر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
بِنَقْض رَأسهَا والامتشاط إِنَّمَا كَانَ لِتَقضي تفثها، وتزيل شعثها، لَا
أَنه شَرط فِي رفع حدثها.
(بَاب الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فرضان فِي الْغسْل)
قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} .
التِّرْمِذِيّ: عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يقرئنا الْقُرْآن على كل حَال مَا لم يكن جنبا
". وَهَذَا حَدِيث صَحِيح، فلولا أَن الْجَنَابَة (حلت) الْفَم لما حرم
(عَلَيْهِ) قِرَاءَة الْقُرْآن.
وَعنهُ: عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، عَن
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " تَحت كل شَعْرَة جَنَابَة
فَاغْسِلُوا الشّعْر وأنقوا الْبشرَة ". وَفِي الْأنف شعر وَفِي الْفَم
بشرة.
(1/126)
فَإِن قيل: هَذَا حَدِيث يرويهِ الْحَارِث
بن وجيه بِالْجِيم وَالْيَاء المنقوطة بِاثْنَتَيْنِ من تحتهَا وَيُقَال
بِوَاحِدَة، وَهُوَ شيخ لَيْسَ بِذَاكَ.
قيل لَهُ: هَذَا كَلَام مُبْهَم، وَقد سبق أَن الْجرْح الْمُبْهم لَا
يقْدَح.
وروى التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] (أَنه قَالَ) : " لَا يقْرَأ الْجنب وَالْحَائِض
شَيْئا من الْقُرْآن ".
(1/127)
وَقد روى أَبُو دَاوُد: عَن زَاذَان عَن
عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: "
من ترك مَوضِع شَعْرَة من الْجَنَابَة لم يصبهَا المَاء فعل بِهِ كَذَا
وَكَذَا (من النَّار) "، قَالَ (عَليّ) : فَمن ثمَّ عاديت رَأْسِي، (فَمن
ثمَّ عاديت رَأْسِي، ثَلَاثًا) . وَكَانَ يجز شعره.
فَإِن قيل: هَذَا حَدِيث يرويهِ (مُوسَى بن) إِسْمَاعِيل، عَن حَمَّاد، عَن
عَطاء بن السَّائِب، وَعَطَاء بن السَّائِب خلط فِي آخر عمره.
قيل لَهُ: عَطاء عدل ثِقَة، وَقد صَحَّ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَته،
وتخليطه فِي آخر عمره لَا يمْنَع صِحَة حَدِيثه، مَا لم يثبت أَن هَذَا
الحَدِيث إِنَّمَا حدث بِهِ فِي وَقت اخْتِلَاطه. (ثمَّ) هَذَا حَدِيث
صَحِيح الْإِسْنَاد والمتن، وَلم يروه أحد بطرِيق أوضح من هَذَا حَتَّى
يظْهر لنا (تخليطه) .
فَإِن قيل: وزاذان محطوط الرُّتْبَة عِنْدهم.
قيل لَهُ: وَهَذَا طعن مُبْهَم وَأَنه غير قَادِح.
(1/128)
وَقد روى الدَّارَقُطْنِيّ: عَن ابْن
سِيرِين قَالَ: " أَمر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بالاستنشاق /
من الْجَنَابَة ".
وَعنهُ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا نسي الْمَضْمَضَة
وَالِاسْتِنْشَاق إِن كَانَ جنبا أعَاد الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق
واستأنف الصَّلَاة ". وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن عَرَفَة، وَإِلَى هَذَا ذهب
الثَّوْريّ رَحمَه الله تَعَالَى.
(بَاب لَا يسن بعد الْغسْل وضوء)
التِّرْمِذِيّ: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ لَا يتَوَضَّأ بعد الْغسْل ".
(بَاب لَا يحل للْجنب وَلَا للحائض دُخُول الْمَسْجِد)
لما روى أَبُو دَاوُد: عَن أفلت، عَن جسرة بنت دجَاجَة، عَن عَائِشَة
(1/129)
رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " جَاءَ رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ووجوه بيُوت أَصْحَابه شارعة فِي
الْمَسْجِد فَقَالَ: وجهوا هَذِه الْبيُوت عَن الْمَسْجِد، ثمَّ دخل
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَلم يصنع الْقَوْم شَيْئا رَجَاء أَن
ينزل فيهم رخصَة، فَخرج رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَيْهِم
فَقَالَ: وجهوا هَذِه الْبيُوت عَن الْمَسْجِد، فَإِنِّي لَا أحل
الْمَسْجِد لحائض وَلَا جنب ".
فَإِن قيل: قَالَ الْخطابِيّ: " وضعفوا هَذَا الحَدِيث وَقَالُوا (رَاوِيه)
أفلت وَهُوَ مَجْهُول ".
قيل لَهُ: قَالَ الْحَافِظ عبد الْعَظِيم: " وَفِيمَا حَكَاهُ الْخطابِيّ
نظر، فَإِنَّهُ أفلت بن خَليفَة، وَيُقَال فليت بن خَليفَة العامري،
وَيُقَال الذهلي، (وكنيته) أَبُو حسان، حَدِيثه فِي الْكُوفِيّين، روى
عَنهُ سُفْيَان الثَّوْريّ وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد، وَقَالَ أَحْمد بن
حَنْبَل: " مَا أرى بِهِ بَأْسا "، وَسُئِلَ عَنهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ
فَقَالَ: " شيخ "، وَحكى البُخَارِيّ أَنه سمع من جسرة بنت دجَاجَة، قَالَ:
وَعِنْدهَا عجائب ".
(1/130)
(بَاب مُدَّة الْمسْح للْمُسَافِر ثَلَاثَة
أَيَّام (ولياليهن وللمقيم يَوْم وَلَيْلَة)
مُسلم: عَن شُرَيْح قَالَ: " سَأَلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن
الْمسْح على الْخُفَّيْنِ فَقَالَت: عَلَيْك بِابْن أبي طَالب (فسله)
فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافر مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: جعل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن للْمُسَافِر وَيَوْما وَلَيْلَة للمقيم ".
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد: عَن (أبي بن عمَارَة) - وَكَانَ قد صلى
مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى الْقبْلَتَيْنِ - أَنه
قَالَ: " يَا رَسُول الله أَمسَح على الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
يَوْمًا، قَالَ: ويومين، / قَالَ: ثَلَاثَة، قَالَ: نعم وَمَا شِئْت ".
وَفِي رِوَايَة: " حَتَّى بلغ سبعا، قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] : نعم مَا بدا لَك ".
قيل لَهُ: قَالَ أَبُو دَاوُد: " وَقد اخْتلف فِي إِسْنَاده، وَلَيْسَ
بِالْقَوِيّ ". وَقَالَ
(1/131)
أَحْمد بن حَنْبَل: " رِجَاله لَا
يعْرفُونَ ". وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هَذَا إِسْنَاد لَا يثبت ".
وَقَالَ يحيى بن معِين: " إِسْنَاده مُضْطَرب ". وَقَالَ البُخَارِيّ: "
(حَدِيث) مَجْهُول لَا يَصح ".
(بَاب لَا يُجزئ الْمسْح إِلَّا على ظَاهر الْخُف (وَلَا يجب) مسح
الْأَسْفَل)
أَبُو دواد: عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَو كَانَ الدّين
بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَل الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من أَعْلَاهُ، وَقد
رَأَيْت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يمسح على ظَاهر خفيه ".
ابْن مَاجَه: عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " مر رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] بِرَجُل يتَوَضَّأ وَيغسل (خفيه) ، فَقَالَ بِيَدِهِ
كَأَنَّهُ يَدْفَعهُ، إِنَّمَا أمرت بِالْمَسْحِ هَكَذَا (أَطْرَاف)
الْأَصَابِع إِلَى السَّاق (وخطط بالأصابع) ".
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضِي الله
عَنهُ قَالَ: " وضأت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي غزَاة تَبُوك،
فَمسح أَعلَى الْخُف وأسفله ".
(1/132)
قيل لَهُ: قَالَ التِّرْمِذِيّ: " هَذَا
حَدِيث مَعْلُول، لم يسْندهُ عَن ثَوْر بن يزِيد غير الْوَلِيد بن مُسلم،
وَقَالَ: سَأَلت أَبَا زرْعَة ومحمدا عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَا: لَيْسَ
بِصَحِيح ". وَإِن صَحَّ فنحمله على الِاسْتِحْبَاب لَا على الْإِيجَاب،
وَإِلَى هَذَا ذهب الثَّوْريّ وَأحمد وَدَاوُد وَالْأَوْزَاعِيّ رَحِمهم
الله.
(بَاب لَا يشْتَرط إِكْمَال الطَّهَارَة قبل لبس الْخُف)
لِأَن الْخُف مَانع حُلُول الْحَدث بالقدم، فيراعى كَمَال الطَّهَارَة وَقت
الْمَنْع، (وَهُوَ) وَقت الْحَدث.
فَإِن قيل: صَحَّ عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ:
" كنت مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي سفر فَأَهْوَيْت لأنزع
خفيه فَقَالَ: دعهما فَإِنِّي أدخلتهما طاهرتين " وروى أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ: عَن أبي بكرَة رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] رخص للْمُسَافِر / ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن، وللمقيم
يَوْمًا وَلَيْلَة، إِذا تطهر فَلبس خفيه أَن يمسح عَلَيْهِمَا ". فعقب
(إنْشَاء) اللّبْس للطَّهَارَة، وَهَذَا ظَاهر فِي تَكْمِيل الطَّهَارَة
قبل
(1/133)
اللّبْس، فَلَو غسل إِحْدَى رجلَيْهِ
وأدخلها الْخُف، ثمَّ غسل الْأُخْرَى وأدخلها الْخُف، لَا يجوز الْمسْح
(عَلَيْهِمَا) ، لِأَنَّهُ لم يلبس الْخُفَّيْنِ عقيب الطَّهَارَة.
قيل لَهُ: اسْتِدَامَة اللّبْس كابتدائه، ثمَّ إِنَّه يَصح أَن يُقَال: دخل
النَّاس الْبَلَد راكبين، وَلَا يلْزم اقتران كل وَاحِد مِنْهُم لدُخُول
الآخر.
فَإِن قيل: لَو نزل اسْتِدَامَة اللّبْس بِمَنْزِلَة ابْتِدَائه، لما جَازَ
الْمسْح على الْخُف بعد حَدثهُ، إِذْ يصير دَوَامه بِمَنْزِلَة ابْتِدَاء
(لبسه) على الْحَدث.
قيل لَهُ: لَا يُمكن هَهُنَا، لِأَنَّهُ يكون رَافعا للرخصة من أَصْلهَا
فَلم يغْتَفر، وَاخْتَارَ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ الْمُزنِيّ وَأَبُو ثَوْر
وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذر رَحِمهم الله.
(بَاب يجوز الْمسْح على الجوربين (إِذا كَانَا ثخينين) وَإِن لم يَكُونَا
مجلدين على القَوْل الآخر من قولي الإِمَام رَضِي الله عَنهُ)
التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد: عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضِي الله
عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تَوَضَّأ وَمسح على
الجوربين ".
(1/134)
(بَاب يجوز الْمسْح على الجرموق)
أَبُو دَاوُد: عَن أبي عبد الرَّحْمَن أَنه شهد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف
يسْأَل بِلَالًا عَن وضوء رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ:
" كَانَ يخرج يقْضِي حَاجته، فآتيه بِالْمَاءِ فيتوضأ وَيمْسَح على
عمَامَته وموقيه ".
قَالَ الْجَوْهَرِي: " والموق: الَّذِي يلبس فَوق الْخُف، فَارسي مُعرب ".
وَإِلَى هَذَا ذهب الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق
وَاخْتَارَهُ الْمُزنِيّ رَحِمهم الله تَعَالَى.
(بَاب لَا يجوز الْمسْح على الْعِمَامَة)
أَبُو دَاوُد: عَن مُحَمَّد بن عمار بن يَاسر قَالَ: " سَأَلت جَابر بن عبد
الله رَضِي الله عَنهُ عَن الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: السّنة يَا
ابْن أخي، وَسَأَلته عَن الْمسْح على
(1/135)
الْعِمَامَة، فَقَالَ: أمس الشّعْر "،
فَأَما مسح النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على الْعِمَامَة مَعَ
الناصية فَكَانَ اتِّفَاقًا (هَكَذَا) قَالَ الطَّحَاوِيّ وَغَيره.
(بَاب يجب الْمسْح على الجبائر)
/ ابْن مَاجَه: عَن زيد بن عَليّ، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عَليّ بن أبي
طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " انْكَسَرت إِحْدَى زندي، فَسَأَلت
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَأمرنِي أَن أَمسَح على الجبائر ".
(1/136)
(بَاب التَّيَمُّم قَائِم مقَام الْوضُوء
مَا دَامَ المَاء مَعْدُوما)
التِّرْمِذِيّ: وَأَبُو دَاوُد وَاللَّفْظ لَهُ: عَن أبي ذَر أَن رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " يَا أَبَا ذَر إِن الصَّعِيد
الطّيب طهُور وَإِن لم تَجِد المَاء عشر سِنِين، فَإِذا وجدت المَاء (فأمسه
جِلْدك) "، وَفِي رِوَايَة: " الصَّعِيد وضوء الْمُسلم وَلَو إِلَى عشر
سِنِين فَإِذا وجدت المَاء (فأمسه) جِلْدك فَإِن ذَلِك خير ".
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث (حسن) صَحِيح. وَإِلَى هَذَا ذهب الْحسن
الْبَصْرِيّ، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَالثَّوْري، وَدَاوُد، والمزني رَحِمهم
الله.
(قلت) وَقد استفدنا من هَذَا الحَدِيث أَن الْمُتَيَمم إِذا قدر على
اسْتِعْمَال المَاء بَطل تيَمّمه، وَإِن كَانَ فِي الصَّلَاة، لِأَنَّهُ
أمره بِاسْتِعْمَالِهِ إِذا وجده وَإِلَى هَذَا ذهب (ابْن الْمسيب)
وَالثَّوْري (وَأحمد بن حَنْبَل فِي رِوَايَة، وَاخْتَارَ ذَلِك الْمُزنِيّ
وَأَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج رَحِمهم الله تَعَالَى.
فَإِن قيل: هَذَا الْأَمر المُرَاد مِنْهُ الِاسْتِحْبَاب لَا الْإِيجَاب
بِدَلِيل قَوْله: " فَإِن ذَلِك خير "، وَهَذَا أفعل التَّفْضِيل.
(1/137)
قيل لَهُ: الْأَمر مطلقه يدل على
الْوُجُوب، وَهَذِه الْقَرِينَة لَا تصلح أَن تكون صارفة لَهُ عَن مُوجبه،
لِأَن هَذَا اللَّفْظ قد ورد وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ التَّفْضِيل،
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أَصْحَاب الْجنَّة يَوْمئِذٍ خير مُسْتَقرًّا
وَأحسن مقيلا} ، وَقَوله تَعَالَى: {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ}
، على مَذْهَب أهل الْعلم) .
(بَاب إِذا خَافَ من الْبرد أَن يقْتله أَو يمرضه جَازَ لَهُ التَّيَمُّم)
أَبُو دَاوُد: عَن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " احْتَلَمت
فِي لَيْلَة بَارِدَة فِي غزَاة ذَات السلَاسِل، فَأَشْفَقت إِن اغْتَسَلت
أَن أهلك، فَتَيَمَّمت ثمَّ صليت بِأَصْحَابِي الصُّبْح، فَذكرُوا ذَلِك
لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقَالَ: يَا عَمْرو صليت
بِأَصْحَابِك وَأَنت جنب؟ ، فَأَخْبَرته بِالَّذِي مَنَعَنِي من
الِاغْتِسَال، وَقلت إِنِّي سَمِعت الله يَقُول: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم
إِن الله كَانَ بكم رحِيما} ، فَضَحِك رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] وَلم يقل شَيْئا ". /.
(1/138)
(بَاب إِذا خَافَ إِن اشْتغل بِالْوضُوءِ
فَاتَتْهُ صَلَاة الْجِنَازَة تيَمّم)
رَأَيْت فِي كتاب التَّحْقِيق لأبي الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ، عَن ابْن
عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: " إِذا فجئتك الْجِنَازَة وَأَنت على غير وضوء
فَتَيَمم ".
(بَاب يجوز التَّيَمُّم بِكُل مَا (كَانَ) من جنس الأَرْض)
قَالَ الله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} . والصعيد: مَا تصعد من
الأَرْض، فَيتَنَاوَل الْحجر والمدر وَسَائِر أَجزَاء الأَرْض. قَالَ
ثَعْلَب: الصَّعِيد: وَجه الأَرْض، وَهَكَذَا قَالَ الْخَلِيل وَابْن
الْأَعرَابِي.
فَإِن قيل: قَالَ الله تَعَالَى: {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} .
وحرف " من " للتَّبْعِيض، فَلَا بُد من نقل التُّرَاب إِلَى الْأَعْضَاء.
(1/139)
قيل لَهُ: حرف " من " قد اسْتعْمل لابتداء
الْغَايَة، بِمَعْنى أَنه من وَقت الضَّرْب يمسح لَا قبله، وَيدل عَلَيْهِ
أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نفخ فِي يَدَيْهِ بعد أَن ضربهما
على الأَرْض.
وَقد روى البُخَارِيّ: عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ:
قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَعْطَيْت خمْسا لم
يُعْطهنَّ أحد من الْأَنْبِيَاء قبلي: نصرت بِالرُّعْبِ مسيرَة شهر، وَجعلت
لي الأَرْض (مَسْجِدا وَطهُورًا) ، (فأيما) رجل من أمتِي أَدْرَكته
الصَّلَاة فَليصل ".
وَمن طَرِيق مُسلم: " فأيما رجل أَدْرَكته الصَّلَاة فَليصل حَيْثُ كَانَ
". وَمُقْتَضى هَذَا أَن كل مَوضِع جَازَت عَلَيْهِ الصَّلَاة من الأَرْض
وَهُوَ بَاقٍ على أصل الْخلقَة جَازَ التَّيَمُّم بِهِ.
(بَاب التَّيَمُّم ضربتان: ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين)
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ (عَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ) أَنه قَالَ: " التَّيَمُّم ضربتان: ضَرْبَة للْوَجْه
وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين ".
(1/140)
فَإِن قيل: ذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ
أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ سُئِلَ عَن التَّيَمُّم فَقَالَ: " إِن
الله تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابه حِين ذكر الْوضُوء: {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى
الْمرَافِق} ، وَقَالَ فِي التَّيَمُّم: {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ} ،
وَقَالَ: وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا ".
وَمعنى هَذَا الْكَلَام أَن الله تَعَالَى حدد الْوضُوء إِلَى الْمرْفقين،
فوقفنا عِنْد تحديده، وَأطلق القَوْل فِي الْيَدَيْنِ / فِي التَّيَمُّم،
فَحملت على ظَاهر مُطلق اسْم الْيَد وَهُوَ الكفان، كَمَا فَعَلْنَاهُ فِي
السّرقَة.
قيل لَهُ: الْيَد مَتى أطلقت فهم مِنْهَا الْجَارِحَة الْمَخْصُوصَة من
رُؤُوس الأنامل إِلَى الْإِبِط، وَقطع يَد السَّارِق من الزند إِنَّمَا عرف
بِالسنةِ، فَكَانَ حمل الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّم على الْيَدَيْنِ فِي
الْوضُوء أولى، لِأَن التَّيَمُّم بدل (عَن) الْوضُوء، كَيفَ وَقد بَين
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ذَلِك بِمَا روينَاهُ.
(بَاب لَا يجب أَن يجمع بَين التَّيَمُّم وَبَين الْغسْل)
لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أَمر بِالتَّيَمُّمِ عِنْد عدم الْقُدْرَة
على اسْتِعْمَال المَاء.
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد: عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ
قَالَ: " خرجنَا فِي سفر فَأصَاب رجلا منا حجر فَشَجَّهُ فِي رَأسه، ثمَّ
احْتَلَمَ، فَسَأَلَهُ أَصْحَابه
(1/141)
فَقَالَ: هَل (تَجِدُونَ) لي رخصَة فِي
التَّيَمُّم؟ فَقَالُوا مَا نجد لَك رخصَة وَأَنت (تقدر على المَاء) ،
فاغتسل فَمَاتَ، فَلَمَّا قدمنَا على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
أخبر بذلك فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله، أَلا سَأَلُوا إِذا لم
يعلمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاء العي السُّؤَال، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَن
يتَيَمَّم ويعصر أَو يعصب - شكّ مُوسَى - على جرحه خرقَة ثمَّ يمسح
عَلَيْهَا وَيغسل سَائِر جسده ".
قيل لَهُ: التَّيَمُّم بدل، وَالْجمع بَين الْبَدَل وَالْأَصْل لَا يجب،
كَالصَّوْمِ وَالْعِتْق فِي الْكَفَّارَة، وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ لم
يجمع بَينه وَبَين التَّيَمُّم، فَلَو أَوجَبْنَا التَّيَمُّم مَعَ الْغسْل
وَالْمسح كَانَ الحَدِيث واردا على خلاف مُقْتَضى الْكتاب وَالسّنة،
فَوَجَبَ حمله على الِاسْتِحْبَاب، إِذْ قد ورد مثل هَذَا اللَّفْظ
وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الْإِيجَاب، كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام لأم
سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا: " إِنَّمَا يَكْفِيك أَن تحثي على رَأسك ثَلَاث
حثيات " وَإِلَى هَذَا ذهب مَالك رَحمَه الله وَهُوَ إِمَام الْأَئِمَّة
فِي الحَدِيث.
(بَاب أقل الْحيض ثَلَاثَة أَيَّام وَأَكْثَره عشرَة أَيَّام)
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " أدنى الْحيض ثَلَاثَة
وأقصاه عشرَة ". وَعنهُ قَالَ: " الْحيض ثَلَاث وَأَرْبع وَخمْس وست وَسبع
وثمان وتسع وَعشر ".
وَقَالَ وَكِيع: / الْحيض ثَلَاث إِلَى عشر فَمَا زَاد فَهُوَ اسْتِحَاضَة
"، وَهَذَا لَا يعرف بِالرَّأْيِ فَدلَّ على أَنه تَوْقِيف.
فَإِن قيل: إِن أَحْمد بن حَنْبَل أنكر هَذَا الحَدِيث.
قيل لَهُ: سُفْيَان الثَّوْريّ لم يُنكره وَعمل بِهِ، فَإِن
الدَّارَقُطْنِيّ روى (عَن
(1/142)
عبد الْعَزِيز بن أبي عُثْمَان الرَّازِيّ)
عَن سُفْيَان قَالَ: " أقل الْحيض ثَلَاث وَأَكْثَره عشر ". وَصَحَّ من
طَرِيق الدَّرَاورْدِي، عَن (عبيد الله بن عمر) ، عَن ثَابت، عَن أنس.
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: " الْحيض ثَلَاث عشرَة ".
(بَاب الصُّفْرَة والكدرة فِي أَيَّام الْحيض حيض)
قَالَ البُخَارِيّ: وَكن نسَاء يبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَة رَضِي الله
عَنْهَا بالدرجة فِيهَا الكرسف فِيهِ الصُّفْرَة، فَتَقول: لَا تعجلن
حَتَّى تَرين الْقِصَّة الْبَيْضَاء ".
فَإِن قيل: روى البُخَارِيّ عَن أم عَطِيَّة وَكَانَت بَايَعت النَّبِي
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَت: " كُنَّا لَا نعد الكدرة والصفرة شَيْئا
".
قيل لَهُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَقَالَ: " قَالَت كُنَّا لَا نعد الكدرة
والصفرة بعد الطُّهْر شَيْئا ".
(1/143)
(ذكر مَا فِي هذَيْن الأثرين من
الْغَرِيب:)
الدرجَة: بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء، عَن أبي عَمْرو
تَأْنِيث درج، وَهُوَ السفط الصَّغِير تضع فِيهِ الْمَرْأَة طيبها وحليها.
والقصة الْبَيْضَاء: بِفَتْح الْقَاف وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وتشديدها
قيل هِيَ كِنَايَة عَن النَّقَاء، وَهُوَ مَاء أَبيض يظْهر عِنْد ارْتِفَاع
الْحيض، وَقيل هِيَ القطنة الَّتِي تتحمل فَتخرج بَيْضَاء، وَقَالَ مَالك:
المُرَاد بالقصة الْبَيْضَاء الطُّهْر، والكرسف: الْقطن.
(بَاب الْحَامِل لَا تحيض)
أَبُو دَاوُد: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاس: " لَا تُوطأ
حَامِل حَتَّى تضع وَلَا غير ذَات حمل حَتَّى تحيض حَيْضَة ".
(وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] منع من وَطْء الْحَامِل وغيا حُرْمَة وَطْء الحايل إِلَى وجود
الْحيض فلولا أَن الْحيض علم على عدم الْحَبل وَإِلَّا لخلا النَّهْي عَن
الْفَائِدَة وَإِذا كَانَ علما على عدم الْحَبل / دلّ على أَنه لَا يُجَامع
الْحَبل، وَيُؤَيِّدهُ) مَا روى الدَّارَقُطْنِيّ، عَن عَائِشَة رَضِي الله
عَنْهَا فِي الْحَامِل ترى الدَّم قَالَت: " الْحَامِل لَا تحيض ".
(1/144)
(بَاب أقل سنّ تحيض فِيهِ الْمَرْأَة تسع
سِنِين)
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عباد بن عباد المهلبي قَالَ: " أدْركْت فِينَا
(يَعْنِي) المهالبة امْرَأَة صَارَت جدة وَهِي بنت ثَمَانِي عشرَة سنة،
ولدت لتسْع سِنِين ابْنة، فَولدت ابْنَتهَا (لتسْع سِنِين) أَيْضا،
فَصَارَت جدة وَهِي بنت ثَمَانِي عشرَة سنة.
(بَاب لَا يجوز مُبَاشرَة الْحَائِض فِيمَا بَين السُّرَّة إِلَى
الرّكْبَة)
البُخَارِيّ: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كَانَت إحدانا
إِذا كَانَت حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن
يُبَاشِرهَا، أمرهَا أَن تتزر فِي فَور حَيْضهَا ثمَّ يُبَاشِرهَا، قَالَت:
وَأَيكُمْ يملك إربه كَمَا كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
يملك إربه ". وَإِلَى هَذَا ذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف
رَحِمهم الله.
(ذكر مَا فِي هَذَا الحَدِيث من الْغَرِيب)
:
فَور حَيْضهَا: بفاء مَفْتُوحَة وواو سَاكِنة وَرَاء، وَهُوَ معظمه وأوله،
وَرُوِيَ فِي
(1/145)
فَوْج (حَيْضهَا) بفاء وجيم، قَالَ
الْخطابِيّ: ومعناهما وَاحِد، وَقَوْلها " إربه " قَالَ أَيْضا رُوِيَ على
وَجْهَيْن: أَحدهمَا بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَالثَّانِي
بفتحهما جَمِيعًا.
قَالَ: ومعناهما وَاحِد وَهُوَ وطر النَّفس وحاجتها، يُقَال: لفُلَان
عِنْدِي حَاجَة، وإرب، وأرب، وإربة ".
(بَاب إِذا وطئ الْحَائِض اسْتغْفر الله وَلَا شَيْء عَلَيْهِ)
لِأَنَّهُ مرتكب مَنْهِيّا عَنهُ، وَلم يرد فِيهِ كَفَّارَة، وَلَا هُوَ
فِي معنى مَا وَردت فِيهِ الْكَفَّارَة.
فَإِن قيل: فقد روى التِّرْمِذِيّ: عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله
عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الرجل يَقع على
امْرَأَته وَهِي حَائِض قَالَ: " يتَصَدَّق بِنصْف دِينَار ".
قيل لَهُ: هَذَا الحَدِيث مُضْطَرب فِي إِسْنَاده (وَمَتنه) .
أما فِي (إِسْنَاده) : فَإِنَّهُ رُوِيَ / مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا ومرسلا.
وَأما مَتنه فَروِيَ " بِدِينَار أَو نصف دِينَار "، وَرُوِيَ " بِدِينَار
فَإِن لم يجد فبنصف دِينَار " وَرُوِيَ " يتَصَدَّق بِخمْس دِينَار "،
وَرُوِيَ فِيهِ التَّفْرِقَة بَين الدَّم الْأَحْمَر والأصفر، وَإِلَى
هَذَا ذهب مَالك وَالثَّوْري رحمهمَا الله.
(1/146)
(بَاب إِذا انْقَطع دم الْحَائِض لأكْثر
مُدَّة الْحيض جَازَ وَطْؤُهَا قبل أَن تَغْتَسِل (لِأَنَّهَا طهرت))
فَإِن قيل: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} مَعْنَاهُ
حَتَّى يَنْقَطِع دمهن، فَإِذا تطهرن (مَعْنَاهُ) : فَإِذا اغْتَسَلْنَ.
قيل لَهُ: (قَوْله تَعَالَى) : {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} غَايَة، وَمَا
بعد الْغَايَة يُخَالف (مَا) قبلهَا وَإِلَّا لم تكن غَايَة، وَقد وجدت
الْغَايَة إِذْ هِيَ انْقِطَاع دَمهَا - على قِرَاءَة التَّخْفِيف -
(فَيحل) وَطْؤُهَا، لِأَن النَّهْي انْتَهَت غَايَته.
وَإِلَى هَذَا ذهب مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَطَاوُس، وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة
أَكثر الْقُرَّاء السَّبْعَة. وَقَوله: " فَإِذا تطهرن فأتوهن " مَحْمُول
على الِاسْتِحْبَاب، بِمَعْنى أَنه يسْتَحبّ لَهُ أَلا يَطَأهَا حَتَّى
تَغْتَسِل.
وَأما قِرَاءَة التَّشْدِيد فظاهرها يَقْتَضِي حُرْمَة الْوَطْء قبل
الْغسْل، فَالْوَاجِب حِينَئِذٍ
(1/147)
أَن نجْعَل الْقِرَاءَتَيْن (كآيتين) ،
ونحمل قِرَاءَة التَّخْفِيف على انْقِطَاع الدَّم بعد أَكثر أَيَّام
الْحيض، وَقِرَاءَة التَّشْدِيد على انْقِطَاع الدَّم قبل أَكثر أَيَّام
الْحيض، أَو نحمل التَّطْهِير على غسل الْفرج كَمَا قَالَ دَاوُد.
(بَاب وَطْء الْمُسْتَحَاضَة حَلَال)
التِّرْمِذِيّ: عَن عدي بن ثَابت، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ (فِي) الْمُسْتَحَاضَة: " تدع الصَّلَاة
أَيَّام أقرائها الَّتِي كَانَت تحيض فِيهَا ثمَّ تَغْتَسِل وتتوضأ عِنْد
كل صَلَاة، وتصوم وَتصلي ". وَإِذا جَازَ الصَّوْم وَالصَّلَاة جَازَ
الْوَطْء بنتيجة الْإِجْمَاع.
أَبُو دَاوُد: عَن عِكْرِمَة قَالَ: " كَانَت أم حَبِيبَة تستحاض، وَكَانَ
زَوجهَا يَغْشَاهَا. وَعنهُ: عَن حمْنَة بنت جحش " أَنَّهَا كَانَت
مُسْتَحَاضَة أَو تستحاض وَكَانَ زَوجهَا يُجَامِعهَا ".
(1/148)
(بَاب الْمُسْتَحَاضَة تتوضأ لوقت كل
صَلَاة وَتصلي بذلك (الْوضُوء) مَا شَاءَت من الْفَرَائِض / والنوافل
فَإِذا خرج الْوَقْت بَطل وضوءها)
الطَّحَاوِيّ: عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أَن
فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش أَتَت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
فَقَالَت: يَا رَسُول الله إِنِّي استحاض وَلَا يَنْقَطِع عني الدَّم،
فَأمرهَا أَن تدع الصَّلَاة أَيَّام أقرائها ثمَّ تَغْتَسِل وتتوضأ لكل
صَلَاة ".
فَظَاهر (هَذَا) الحَدِيث مَتْرُوك، لِأَن من ألزمها الْوضُوء لكل صَلَاة،
خصّه بِكُل صَلَاة هِيَ فرض، وَلم يلْزمهَا الْوضُوء لكل نَافِلَة، فَصَارَ
تَقْدِير الْكَلَام: " وتتوضأ لكل صَلَاة فرض "، وَنحن نضمر " تتوضأ لوقت
كل صَلَاة "، لِأَن اللَّام تستعار للْوَقْت، قَالَ الله تَعَالَى: {أقِم
الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} ، أَي لوقت دلوكها، وَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] : " إِن للصَّلَاة أَولا وآخرا "، وَيُقَال: آتِيك لصَلَاة الظّهْر،
أَي لوَقْتهَا، وتذكر الصَّلَاة (ويضمر لَهَا) الْوَقْت، قَالَ عَلَيْهِ
السَّلَام لأسامة بن زيد: " الصَّلَاة
(1/149)
أمامك ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: "
أَيْنَمَا أدركتني الصَّلَاة ".
وَلِأَن ذهَاب الْوَقْت عهد مُبْطلًا للطَّهَارَة، (كذهاب مُدَّة الْمسْح،
وَالْخُرُوج من الصَّلَاة لم يعْهَد مُبْطلًا للطَّهَارَة) ، فَكَانَ مَا
ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أولى، وَقد وَافَقنَا أَحْمد بن حَنْبَل، رَحمَه الله
فِي هَذَا.
فَائِدَة: المستحاضات على عهد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خمس:
الأولى: حمْنَة (بنت جحش) أُخْت زَيْنَب بنت جحش زوج النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] .
الثَّانِيَة: أُخْتهَا أم حَبِيبَة، وَيُقَال أم حبيب.
وَالثَّالِثَة: فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش القرشية الأَسدِية.
الرَّابِعَة: سهلة بنت سُهَيْل القرشية العامرية.
الْخَامِسَة: سَوْدَة بنت زَمعَة زوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
وَلم يَصح أَن زَيْنَب بنت جحش استحيضت، وَالله أعلم.
(1/150)
(بَاب أَكثر مُدَّة النّفاس أَرْبَعُونَ
يَوْمًا)
التِّرْمِذِيّ: عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " (كَانَت
النُّفَسَاء تجْلِس) على عهد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَكُنَّا نطلي وُجُوهنَا بالورس من الكلف ".
وَهَذَا حَدِيث رَوَاهُ عَليّ بن عبد الْأَعْلَى و (أَبُو سهل) عَنهُ، وهما
ثقتان، وَيَرْوِيه (أَبُو سهل) هَذَا - وَهُوَ كثير بن زِيَاد - عَن مسَّة
الْأَزْدِيَّة.
قَالَ الْخطابِيّ: " حَدِيث مسَّة أثنى عَلَيْهِ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل
".
أَبُو دَاوُد: عَن الْأَزْدِيَّة، وَهِي مسَّة، قَالَت: " حججْت فَدخلت على
/
(1/151)
أم سَلمَة فَقلت: يَا أم الْمُؤمنِينَ إِن
سَمُرَة بن جُنْدُب يَأْمر النِّسَاء يقضين صَلَاة الْمَحِيض، فَقَالَت:
لَا يقضين، كَانَت الْمَرْأَة من نسَاء النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
تقعد فِي النّفاس أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يأمرها النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] بِقَضَاء صَلَاة النّفاس ".
وَإِلَى هَذَا ذهب أَكثر أهل الْعلم وَرَأَوا أَن أَكثر مُدَّة النّفاس
أَرْبَعُونَ يَوْمًا.
وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَابْن عَبَّاس وَأنس رَضِي الله عَنْهُم وَهُوَ
مَذْهَب سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق رَحْمَة
الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.
فَإِن قيل: فَمن جعل مُدَّة النّفاس أَكثر من هَذَا وَأسْقط عَنْهَا
الصَّلَاة وَالصِّيَام وَحرم على الزَّوْج وَطأهَا، (أَله) دَلِيل شَرْعِي
من كتاب أَو سنة أَو قِيَاس؟
قيل لَهُ: لَا نعلم شَيْئا من ذَلِك، إِلَّا أَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: "
عندنَا (امْرَأَة) ترى النّفاس شَهْرَيْن ".
(ذكر مَا (جَاءَ) فِي هَذَا الحَدِيث من الْغَرِيب:)
النُّفَسَاء: اسْم الوالدة، يُقَال نفست بِضَم النُّون وَكسر الْفَاء،
وَفتح النُّون وَكسر الْفَاء. والورس: نَبَات يزرع بِالْيمن زرعا، وَلَا
يكون بِغَيْر الْيمن نَبَاته، مثل
(1/152)
السمسم، فَإِذا جف (تفتتت) خرائطه (فينتفض)
مِنْهُ الورس، أَحْمَر، يزرع سنة فيقيم فِي الأَرْض عشر (سِنِين) ، ينْبت
ويثمر وأجوده حَدِيثه. قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ.
وَقَالَ فِي الصِّحَاح: " والورس: نبت أصفر يكون بِالْيمن تتَّخذ مِنْهُ
(الغمرة) للْوَجْه، تَقول أورس الْمَكَان فَهُوَ وارس وَلَا يُقَال مورس "،
والكلف: لمع سود تكون فِي الْوَجْه.
(1/153)
صفحة فارغة
(1/154)
|