اللباب في الجمع بين السنة والكتاب

 (2 - كتاب الصَّلَاة)

قَالَ الله تَعَالَى: {أقِيمُوا الصَّلَاة} ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} . أَي فرضا مؤقتا.
(بَاب من ترك الصَّلَاة من غير عذر جاحدا لوُجُوبهَا كفر، وَإِن لم يكن جاحدا عصى)

لِأَن الصَّلَاة أحد الْأَركان الَّتِي بني (عَلَيْهَا الْإِسْلَام وَالزَّكَاة كَذَلِك) ، (وَقد أجمعنا أَن تَارِك الزَّكَاة غير جَاحد لوُجُوبهَا لم يكفر، فَكَذَا تَارِك الصَّلَاة / لم يكفر مَا لم يَتْرُكهَا جاحدا لوُجُوبهَا) .
فَإِن قيل: قَالَ عبد الله بن شَقِيق: " كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا يرَوْنَ شَيْئا

(1/155)


من الْأَعْمَال تَركه كفر إِلَّا الصَّلَاة ".
قيل لَهُ: هَذَا يحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون أَرَادَ بعض أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لكنه حذف الْمُضَاف وَأقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه وأعربه بإعرابه.
وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ جَمِيع أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، لَكِن الْجَواب عَنهُ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن هَذَا مَرْوِيّ بطرِيق الْآحَاد، وَالْإِجْمَاع الْمَرْوِيّ بطرِيق الْآحَاد لَيْسَ بِحجَّة عِنْد أَكثر النَّاس.
سلمنَا أَنه حجَّة، لَكِن الظَّاهِر أَنهم لم يحكموا بذلك إِلَّا اتبَاعا لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من ترك الصَّلَاة فقد كفر "، (وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام) : " بَين العَبْد وَبَين الْكفْر ترك الصَّلَاة ". فَلهَذَا كَانُوا لَا يطلقون على (ترك) شَيْء (من الْأَفْعَال أَنه كفر إِلَّا ترك) الصَّلَاة، وَالنَّبِيّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يقل ذَلِك إِلَّا على سَبِيل التَّغْلِيظ.
بِدَلِيل مَا روى التِّرْمِذِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من أَتَى حَائِضًا، أَو امْرَأَة فِي دبرهَا، أَو كَاهِنًا، فقد كفر بِمَا أنزل على مُحَمَّد [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".

(1/156)


قَالَ التِّرْمِذِيّ: " مَعْنَاهُ التَّغْلِيظ ". فَإِذا حمل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام على التَّغْلِيظ فَكَذَلِك قَول أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
(بَاب تَارِك الصَّلَاة تهاونا (بهَا) يحبس وَيضْرب حَتَّى يُصَلِّي وَلَا يقتل)

وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج أَرْكَان الْإِسْلَام، فَكَمَا لَا يقتل بترك مَا سوى الصَّلَاة، فَكَذَلِك لَا يقتل بترك الصَّلَاة.
فَأَما قَوْله تَعَالَى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم} ، فَلَا يَخْلُو من أَن يكون وجود هَذِه الْأَفْعَال مِنْهُم شرطا فِي زَوَال الْقَتْل عَنْهُم (أَو يكون) قبُول ذَلِك والانقياد لأمر الله تَعَالَى فِيهِ هُوَ الشَّرْط دون وجود الْفِعْل، وَمَعْلُوم أَن وجود التَّوْبَة من الشّرك شَرط لَا محَالة فِي زَوَال الْقَتْل (عَنْهُم) وَلَا خلاف أَنهم لَو قبلوا أَمر الله تَعَالَى فِي فعل الزَّكَاة وَالصَّلَاة / وَلم يكن الْوَقْت وَقت صَلَاة، وَلَا وَقت زَكَاة، أَنهم مُسلمُونَ، و (أَن) دِمَاءَهُمْ محظورة.

(1/157)


فَعلمنَا أَن شَرط زَوَال الْقَتْل عَنْهُم، قبولهم أوَامِر الله تَعَالَى وَالِاعْتِرَاف (بلزومها) دون فعل الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وَلِأَن إِخْرَاج الزَّكَاة لَا يلْزم بِنَفس الْإِسْلَام إِلَّا بعد حول، فَغير جَائِز أَن تكون الزَّكَاة شرطا فِي زَوَال الْقَتْل، وَكَذَلِكَ فعل الصَّلَاة لَيْسَ بِشَرْط فِيهِ، وَإِنَّمَا شَرطه قبُول هَذِه الْفَرَائِض والتزامها وَالِاعْتِرَاف بِوُجُوبِهَا، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ فعل الصَّلَاة وَالزَّكَاة من شَرط زَوَال الْقَتْل لما زَالَ عَمَّن أسلم فِي غير وَقت الصَّلَاة، وَعَمن لم يؤد زَكَاته مَعَ إِسْلَامه.
فَلَمَّا اتَّفقُوا على زَوَال الْقَتْل عَمَّن وَصفنَا بعد اعْتِقَاده الْإِيمَان وَلُزُوم شرائعه، ثَبت بذلك أَن فعل الصَّلَاة وَالزَّكَاة لَيْسَ من شَرَائِط زَوَال الْقَتْل، وَأَن شَرط زَوَاله إِظْهَار الْإِيمَان وَقبُول شرائعه.
أَلا ترى أَن قبُول الْإِيمَان والتزام شرائعه، لما كَانَ شرطا فِي ذَلِك لم يزل عَنهُ الْقَتْل عِنْد الْإِخْلَال بِبَعْض ذَلِك، وَقد كَانَت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم سبت ذَرَارِي مانعي الزَّكَاة، (وَقتلت مُقَاتلَتهمْ) ، وسموهم أهل الرِّدَّة، لأَنهم امْتَنعُوا من الْتِزَام الزَّكَاة وَقبُول وُجُوبهَا فَكَانُوا مرتدين، لِأَن من كفر بِآيَة (من الْقُرْآن) كفر بِهِ كُله، وعَلى ذَلِك أجْرى حكمهم أَبُو بكر الصّديق مَعَ سَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حِين قَاتلُوا. يدل على ذَلِك مَا روى معمر عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لما توفّي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ارْتَدَّت الْعَرَب كَافَّة ".
وروى ابْن الْمُبَارك عَن فضَالة، عَن الْحسن قَالَ: " لما قبض رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ارْتَدَّت الْعَرَب عَن الْإِسْلَام إِلَّا أهل الْمَدِينَة ". وأخبروا أَن ردتهم (من) جِهَة امتناعهم (من) أَدَاء الزَّكَاة، وَذَلِكَ عندنَا على أَنهم امْتَنعُوا من أَدَاء الزَّكَاة على (جِهَة) الرَّد لَهَا وَترك قبُولهَا، فسموا مرتدين من أجل ذَلِك، فالآية أوجبت قتل الْمُشْركين، وَمن دخل فِي الْإِسْلَام وَأقر بفروضه والتزمها فَهُوَ غير مُشْرك بالِاتِّفَاقِ.

(1/158)


فَإِن قيل: إِنَّمَا زَالَ عَنْهُم الْقَتْل بِشَرْطَيْنِ: /
(أَحدهمَا: التَّوْبَة) وَهِي الْإِيمَان وَقبُول شرائعه.
وَالثَّانِي: فعل الصَّلَاة وَأَدَاء الزَّكَاة.
قيل لَهُ: إِنَّمَا وَجب (بدءا) قتل (الْمُشرك) بقوله تَعَالَى: {اقْتُلُوا الْمُشْركين} ، فَمن زَالَت عَنهُ سمة الشّرك فقد وَجب زَوَال الْقَتْل عَنهُ وَيحْتَاج (فِي) إِيجَابه.
فَإِن قيل: هَذَا يُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال فَائِدَة ذكر الشَّرْطَيْنِ فِي الْآيَة.
قيل لَهُ: لَيْسَ الْأَمر على مَا ظَنَنْت، وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا جعل هَاتين (القربتين) من فعل الصَّلَاة وَأَدَاء الزَّكَاة شرطا فِي وجوب تخلية سبيلهم، وَذَلِكَ بعد ذكره الْقَتْل للْمُشْرِكين والحصر، فَإِذا زَالَ الْقَتْل بِزَوَال اسْم الشّرك فالحصر وَالْحَبْس بَاقٍ لترك الصَّلَاة وَمنع الزَّكَاة، لِأَن من منع الزَّكَاة وَترك الصَّلَاة عمدا وأصر عَلَيْهَا جَازَ للْإِمَام حَبسه، فَحِينَئِذٍ لَا يجب تخليته إِلَّا بعد فعل الصَّلَاة وَأَدَاء الزَّكَاة (فانتظمت) الْآيَة إِيجَاب قتل (الْمُشرك) وَحبس تَارِك الصَّلَاة ومانع الزَّكَاة.

(1/159)


وَيُؤَيّد هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: كفر بعد إِيمَان، وزنا بعد إِحْصَان، وَقتل نفس بِغَيْر حق " فَمَا لم يقم دَلِيل من كتاب الله تَعَالَى أَو سنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على وجوب الْقَتْل، وَإِلَّا لم يجز لأحد فعله. وَإِلَى هَذَا ذهب الزُّهْرِيّ رَحمَه الله.
(بَاب)

رُوِيَ عَن الإِمَام أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فِي آخر وَقت الظّهْر وَأول وَقت الْعَصْر ثَلَاث رِوَايَات.
إِحْدَاهَا: وَهِي الَّتِي اخْتَارَهَا الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله (أَنه) مَتى صَار ظلّ كل شَيْء مثله خرج وَقت الظّهْر وَدخل وَقت الْعَصْر.
وَالثَّانيَِة: وَهِي الَّتِي اخْتَارَهَا الْكَرْخِي رَحمَه الله أَنه إِذا صَار (الظل) أقل من قامتين (خرج وَقت الظّهْر وَلم يدْخل وَقت الْعَصْر، فَإِذا صَار الظل قامتين) دخل وَقت الْعَصْر.

(1/160)


وَالثَّالِثَة: وَهِي أظهرها أَنه إِذا صَار الظل (مثلَيْهِ) خرج وَقت الظّهْر وَدخل وَقت الْعَصْر.
وَجه الرِّوَايَة الأولى: مَا روى التِّرْمِذِيّ: عَن نَافِع (بن جُبَير) بن مطعم قَالَ: أَخْبرنِي ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " أمني / جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد الْبَيْت مرَّتَيْنِ، (فصلى الظّهْر) فِي الأولى مِنْهُمَا حِين كَانَ الْفَيْء مثل الشرَاك، ثمَّ (صلى الْعَصْر) حِين (صَار ظلّ كل شَيْء مثله) ، ثمَّ صلى الْمغرب حِين وَجَبت الشَّمْس وَأفْطر الصَّائِم، ثمَّ صلى الْعشَاء حِين غَابَ الشَّفق، ثمَّ صلى الْفجْر حِين برق الْفجْر وَحرم الطَّعَام على الصَّائِم.
وَصلى الْمرة الثَّانِيَة الظّهْر حِين صَار ظلّ كل شَيْء مثله (لوقت) الْعَصْر بالْأَمْس، ثمَّ صلى الْعَصْر حِين (صَار) ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، ثمَّ صلى الْمغرب (لوقته) الأول، ثمَّ صلى الْعشَاء (الْآخِرَة) حِين ذهب ثلث اللَّيْل، ثمَّ صلى

(1/161)


الصُّبْح حِين أسفرت الأَرْض ثمَّ الْتفت إِلَيّ جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد هَذَا وَقت الْأَنْبِيَاء من قبلك، وَالْوَقْت فِيمَا (بَين هذَيْن) .
وَجه الرِّوَايَة الثَّانِيَة: هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه، لِأَنَّهُ قَالَ: " صلى الظّهْر حِين صَار ظلّ كل شَيْء مثله (لوقت) الْعَصْر بالْأَمْس "، وَالْمَفْهُوم من هَذَا أَنه شرع فِي الصَّلَاة بعد أَن صَار ظلّ كل شَيْء مثله، كَقَوْلِه: " ثمَّ صلى الْمغرب حِين وَجَبت الشَّمْس وَصلى الْفجْر حِين برق الْفجْر ". وَالْمَفْهُوم من هَذَا كُله إِنَّمَا هُوَ الشُّرُوع بعد هَذِه الْأَوْقَات. وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالمعلوم أَن فعل الصَّلَاة فِي الْغَالِب لَا يسْتَغْرق مَا بَين الْمثل والمثلين، وَفِي هَذَا دلَالَة على أَن وَقت الظّهْر فَوق الْمثل دون المثلين.
وَجه الرِّوَايَة الْأَخِيرَة: مَا روى البُخَارِيّ وَغَيره، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " مثلكُمْ وَمثل أهل الْكِتَابَيْنِ كَمثل رجل اسْتَأْجر أجراء فَقَالَ: من يعْمل من غدْوَة إِلَى نصف النَّهَار على قِيرَاط، فَعمِلت الْيَهُود، ثمَّ قَالَ: من يعْمل من نصف النَّهَار إِلَى صَلَاة الْعَصْر على قِيرَاط (فَعمِلت) النَّصَارَى، ثمَّ قَالَ: من يعْمل من الْعَصْر إِلَى أَن تغيب الشَّمْس على قيراطين، فَأنْتم هم، فَغضِبت الْيَهُود النَّصَارَى وَقَالُوا: مَا لنا أَكثر عملا وَأَقل أجرا، قَالَ الله تَعَالَى: فَهَل نقصتكم من حقكم؟ فَقَالُوا: لَا، فَقَالَ: (ذَلِك) فضلي أوتيه من أَشَاء ".
وَعنهُ: عَن أبي مُوسَى، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " مثل الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى، كَمثل رجل اسْتَأْجر قوما يعْملُونَ عملا يَوْمًا إِلَى اللَّيْل / على أجر مَعْلُوم، فعملوا (لَهُ) إِلَى نصف النَّهَار، فَقَالُوا لَا حَاجَة لنا إِلَى أجرك الَّذِي شرطت لنا وَمَا

(1/162)


عَملنَا بَاطِل، فَقَالَ (لَهُم) : لَا تَفعلُوا، أكملوا بَقِيَّة عَمَلكُمْ وخذوا أجركُم كَامِلا، فَأَبَوا وَتركُوا، واستأجر آخَرين بعدهمْ فَقَالَ: أكملوا بَقِيَّة (يومكم) هَذَا وَلكم الَّذِي شرطت لَهُم من الْأجر، فعملوا حَتَّى إِذا كَانَ (حِين) صَلَاة الْعَصْر، قَالُوا: لَك مَا عَملنَا بَاطِل، وَلَك الْأجر الَّذِي جعلت لنا فِيهِ، فَقَالَ: أكملوا بَقِيَّة عَمَلكُمْ فَإِنَّمَا بَقِي من النَّهَار شَيْء يسير، فَأَبَوا، فاستأجر قوما (أَن) يعملوا لَهُ بَقِيَّة يومهم (فعملوا بَقِيَّة يومهم) حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس، واستكملوا أجر الْفَرِيقَيْنِ (كليهمَا) ، فَذَلِك مثلهم وَمثل مَا قبلوا من هَذَا النُّور ".
فهذان الحديثان يدلان على أَن وَقت الظّهْر أمد من وَقت الْعَصْر، وَمَتى قُلْنَا (بِأَنَّهُ) ، يَمْتَد إِلَى أَن يصير ظلّ كل شَيْء مثله، كَانَ وَقت الْعَصْر (أمد) .
فَإِن قيل: وَنحن نقُول بِمُوجب هذَيْن الْحَدِيثين، فَإِن وَقت الْعَصْر لَا يدْخل حَتَّى يمْضِي جُزْء من السَّاعَة الْعَاشِرَة، فعلى هَذَا يكون وَقت الظّهْر أمد من وَقت الْعَصْر.
قيل لَهُ: الْجَواب عَن هَذَا أَن النَّصَارَى قَالَت: نَحن أَكثر عملا من الْمُسلمين، وأقرهم الله تَعَالَى على ذَلِك حَيْثُ قَالَ: " فَهَل نقصتكم، قَالُوا: لَا ... " الحَدِيث. وَكَثْرَة الْعَمَل لَا تظهر فِي ذَلِك الْجُزْء الَّذِي يمْضِي من السَّاعَة الْعَاشِرَة، وَلَا يكَاد يُقَال إِذا صَار (الظل) مثله بَقِي من النَّهَار شَيْء يسير، فَلَا بُد من مُضِيّ زمَان منضبط يظْهر فِيهِ تفَاوت الْعَمَل لِلْعَامِلِ، وَيُطلق على مَا بَقِي من النَّهَار (بعده شَيْء يسير) ، وَأَقل ذَلِك سَاعَة.

(1/163)


(بَاب آخر وَقت الْمغرب إِذا غَابَ الشَّفق)

التِّرْمِذِيّ: عَن (سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة) ، عَن أَبِيه قَالَ: " أَتَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رجل فَسَأَلَهُ عَن مَوَاقِيت الصَّلَاة فَقَالَ: أقِم مَعنا إِن شَاءَ الله، فَأمر بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاة حِين طلع الْفجْر، ثمَّ أمره فَأَقَامَ حِين زَالَت الشَّمْس فصلى الظّهْر، ثمَّ أمره فَأَقَامَ فصلى الْعَصْر وَالشَّمْس (بَيْضَاء نقية) ، ثمَّ أمره بالمغرب (حِين وَقع) / حَاجِب الشَّمْس، ثمَّ (أمره) بالعشاء فَأَقَامَ حِين غَابَ الشَّفق، (ثمَّ أَمر) من الْغَد فنور بِالْفَجْرِ (ثمَّ أَمر) بِالظّهْرِ فأبرد وأنعم أَن يبرد، ثمَّ أمره بالعصر (فأقامها) وَالشَّمْس آخر وَقتهَا فَوق مَا كَانَت، ثمَّ أمره فَأخر الْمغرب إِلَى قبل أَن يغيب الشَّفق، ثمَّ أمره بالعشاء فَأَقَامَ حِين ذهب ثلث اللَّيْل، ثمَّ قَالَ: أَيْن السَّائِل عَن مَوَاقِيت

(1/164)


الصَّلَاة؟ (فَقَالَ) الرجل: (أَنا) فَقَالَ: مَوَاقِيت الصَّلَاة (كَمَا) بَين هذَيْن ".
وَأخرجه مُسلم عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ بِأَلْفَاظ قريبَة من هَذَا. وَإِلَى هَذَا ذهب الثَّوْريّ وَأحمد وَإِسْحَاق.
قَالَ الْبَغَوِيّ: " وَهَذَا هُوَ الْأَصَح، لِأَن آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه صلاهَا فِي وَقْتَيْنِ ".
(بَاب)

رُوِيَ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَن الشَّفق هُوَ الْبيَاض بعد الْحمرَة، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه الْحمرَة.
وَجه الرِّوَايَة الأولى: قَوْله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس إِلَى غسق اللَّيْل} . مَالك: عَن دَاوُد بن الْحصين قَالَ: أَخْبرنِي مخبر أَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ يَقُول: " دلوك الشَّمْس إِذا فَاء الْفَيْء، وغسق اللَّيْل اجْتِمَاع اللَّيْل وظلمته ". وروى مثل الرِّوَايَة الأولى: عَن أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ مَذْهَب عمر ومعاذ وَأنس رَضِي الله عَنْهُم، وَإِلَيْهِ ذهب عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْأَوْزَاعِيّ.
وَرُوِيَ مثل الرِّوَايَة الثَّانِيَة: عَن ابْن عَبَّاس وَعبادَة بن الصَّامِت وَشَدَّاد بن أَوْس رَضِي الله عَنْهُم.

(1/165)


(بَاب الْوتر وَاجِب وَوَقته وَقت الْعشَاء)

التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه: عَن خَارِجَة بن حذافة الْعَدوي رَضِي الله عَنهُ قَالَ: خرج علينا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: " إِن الله (قد) (أمدكم) بِصَلَاة، وَهِي خير لكم من حمر النعم، وَهِي الْوتر، فَجَعلهَا (فِيمَا) بَين الْعشَاء إِلَى طُلُوع الْفجْر ".
قَالَ التِّرْمِذِيّ: " حَدِيث ابْن حذافة (حَدِيث) غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث (يزِيد بن أبي حبيب) .
فَإِن قيل: قَالَ الْخطابِيّ " (قَوْله) (أمدكم) بِصَلَاة، يدل على أَنَّهَا غير لَازِمَة (لَهُم، وَلَو كَانَت وَاجِبَة لخرج الْكَلَام على صِيغَة الْإِيجَاب فَقَالَ: ألزمكم / وَفرض عَلَيْكُم) وَنَحْو ذَلِك ".

(1/166)


قيل لَهُ: فقد روى الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث بِسَنَدِهِ عَن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن رجل من أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (أَنه سمع رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) يَقُول: " إِن الله قد زادكم صَلَاة فصلوها (مَا) بَين الْعشَاء إِلَى طُلُوع الصُّبْح، الْوتر، الْوتر "، أَلا وَإنَّهُ أَبُو بصرة الْغِفَارِيّ رَضِي الله عَنهُ، فأبدل مَوضِع قَوْله (فِي حَدِيث ابْن حذافة، " فَجَعلهَا " فصلوها، (وَهَذَا أَمر) وَالْأَمر للْوُجُوب، وأبدل مَوضِع قَوْله) : (إِن الله قد أمدكم) ، " إِن الله قد زادكم "، (وَالْأَصْل فِي الزِّيَادَة أَن تكون) من جنس الْمَزِيد عَلَيْهِ، وَلِأَن الزِّيَادَة إِنَّمَا تتَصَوَّر على المقدرات وَهِي الصَّلَوَات الْوَاجِبَات.
وروى التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه: عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " يَا أهل الْقُرْآن أوتروا، فَإِن الله وتر يجب الْوتر ". قَالَ التِّرْمِذِيّ: " حَدِيث عَليّ حَدِيث حسن ".
فَقَوله: " أوتروا "، أَمر وَالْأَمر للْوُجُوب.
وروى البُخَارِيّ وَمُسلم: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " اجعلوا آخر صَلَاتكُمْ (بِاللَّيْلِ) وترا ". وَهَذَا أَمر وَالْأَمر للْوُجُوب. وعنهما: عَن

(1/167)


ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " بَادرُوا الصُّبْح بالوتر ". وَهَذَا أَمر وَالْأَمر للْوُجُوب.
وروى التِّرْمِذِيّ: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من نَام عَن الْوتر أَو نَسيَه فَليصل إِذا ذكره أَو اسْتَيْقَظَ ".
وَهَذَا أَمر بِالْقضَاءِ وَالْأَمر للْوُجُوب، وَمَتى وَجب قَضَاؤُهُ وَجب أَدَاؤُهُ، (وَلِهَذَا) أَوجَبْنَا الْقَضَاء بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا ".

(1/168)


وروى أَبُو دَاوُد: عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا، الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا، (الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا) ".
فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عبيد الله بن عبد الله الْعَتكِي الْمروزِي، وَقد وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: صَالح الحَدِيث.
وَهَذَا / والتهديد غَالِبا إِنَّمَا يكون فِي الْوَاجِبَات.
فَإِن قيل: فقد روى (طَلْحَة بن عبيد الله) رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ للأعرابي: " خمس صلوَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، (فَقَالَ) : فَهَل عَليّ غَيْرهنَّ؟ (قَالَ) : لَا إِلَّا أَن تطوع ".
قيل لَهُ: يحْتَمل أَن يكون قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام قبل إخْبَاره عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بقوله: " إِن الله قد زادكم صَلَاة "، وَصَارَ هَذَا نَظِير قَوْله تَعَالَى:

(1/169)


{قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ} مَعَ قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أكل كل ذِي نَاب من السبَاع حرَام ". وَهَذَا هُوَ الْجَواب عَن صلَاته [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْوتر على الرَّاحِلَة.
مَالك: " إِنَّه بلغه أَن رجلا سَأَلَ عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن الْوتر أواجب هُوَ؟ فَقَالَ عبد الله بن عمر: قد أوتر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وأوتر الْمُسلمُونَ، فَجعل الرجل يردد عَلَيْهِ وَعبد الله بن عمر يَقُول: أوتر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وأوتر الْمُسلمُونَ ".
وَفِي هَذَا دلَالَة ظَاهِرَة على أَن الْوتر وَاجِب، لِأَن جَوَابه أَن يَقُول لَهُ لَا أَو نعم، فَلَمَّا أعرض عَن جَوَابه وَعرض بقوله: " أوتر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وأوتر الْمُسلمُونَ " فهمنا أَنه أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَام أَن فعل الْوتر صَار سَبِيلا للْمُسلمين "، فَمن تَركه دخل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} . فَإِن قيل: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " ثَلَاث كتبن عَليّ (وهم) لكم سنة الْوتر وَالضُّحَى والأضحى. وَقَالَ تَعَالَى: {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} . وَمَتى (أَوجَبْنَا) الْوتر صَارَت الصَّلَوَات سِتا والست لَا وسطى لَهَا، لِأَن الْوُسْطَى هِيَ الفردة المتخللة بَين عددين متساويين.

(1/170)


قيل لَهُ: أما الحَدِيث فَيَقْتَضِي أَن يكون مَجْمُوع الثَّلَاث أَو تَحْقِيق الثَّلَاث سنة لنا لَا أَن يكون كل فَرد مِنْهَا سنة، وَأما الْآيَة فَهِيَ مُعَارضَة بقوله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل} . وزلف جمع زلفة، وَهِي قِطْعَة من اللَّيْل، وَأدنى الْجمع الْمُنكر ثَلَاث (فَكَانَ النَّص أمرا بِإِقَامَة الصَّلَاة فِي طرفِي النَّهَار وَقطع ثَلَاث من اللَّيْل) فَيكون شغل ثَلَاث قطع من اللَّيْل بِالصَّلَاةِ وَاجِبا، وَيلْزم مِنْهُ / أَن تكون الصَّلَوَات الْوَاجِبَات بِاللَّيْلِ ثَلَاثًا، وَلَا تكون الصَّلَوَات (الْوَاجِبَة) بِاللَّيْلِ ثَلَاثًا إِلَّا إِذا كَانَت صَلَاة الْوتر وَاجِبَة، فَيلْزم وُجُوبهَا.
فَهَذِهِ مَسْأَلَة استدللنا عَلَيْهَا بسبعة أَحَادِيث صِحَاح، وَأثر صَحِيح، وَالْكل سَالم عَن الْمعَارض.
(ذكر مَا فِي الحَدِيث الأول من الْغَرِيب:)

حمر النعم: بتسكين الْمِيم جمع أَحْمَر وَالنعَم وَاحِد الْأَنْعَام وَهِي الْبَهَائِم، وَأكْثر مَا يَقع هَذَا الِاسْم على الْإِبِل، وَالْإِبِل الْحمر أعز أَمْوَال الْعَرَب، فَأخْبر أَنَّهَا خير من الْأَمْوَال النفيسة، وَالله أعلم.
(بَاب الْوتر ثَلَاث رَكْعَات موصولات)

التِّرْمِذِيّ: عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يُوتر بِثَلَاث يقْرَأ فِيهِنَّ (تسع) سور من الْمفصل، يقْرَأ فِي كل رَكْعَة بِثَلَاث سور آخِرهنَّ قل هُوَ الله أحد ".

(1/171)


النَّسَائِيّ: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " صَلَاة الْمغرب وتر النَّهَار فأوتروا صَلَاة اللَّيْل ".
الطَّحَاوِيّ: عَن عبد الرَّحْمَن بن (يزِيد) عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: " الْوتر ثَلَاث كوتر النَّهَار صَلَاة الْمغرب ".
فَإِن قيل: فقد روى البُخَارِيّ وَمُسلم: عَن أبي مجلز - لَاحق بن حميد - قَالَ: " سَأَلت ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن الْوتر فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: رَكْعَة من آخر اللَّيْل. قَالَ: وَسَأَلت ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ: سَمِعت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " رَكْعَة من آخر اللَّيْل "
وروى مَالك: عَن عَائِشَة زوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يُصَلِّي من اللَّيْل إِحْدَى عشرَة رَكْعَة يُوتر مِنْهَا بِوَاحِدَة، فَإِذا فرغ اضْطجع على شقَّه الْأَيْمن ".
قيل لَهُ: فقد روى البُخَارِيّ وَمُسلم: عَن أبي سَلمَة أَنه سَأَلَ عَائِشَة زوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَيفَ كَانَت صَلَاة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي رَمَضَان فَقَالَت: " مَا كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يزِيد فِي رَمَضَان وَلَا فِي غَيره على إِحْدَى عشرَة رَكْعَة، يُصَلِّي أَرْبعا فَلَا تسْأَل عَن

(1/172)


حسنهنَّ وطولهن ثمَّ يُصَلِّي أَرْبعا فَلَا تسْأَل عَن حسنهنَّ وطولهن ثمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا، قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: فَقلت / يَا رَسُول الله أتنام قبل أَن توتر؟ قَالَ: إِن عَيْني تنامان وَلَا ينَام قلبِي ". فَأخْبرت أَن صلَاته بِاللَّيْلِ كَانَت على هَذِه (الصّفة) ، فطريق التَّوْفِيق بَين هَذِه الْأَحَادِيث أَن نقُول: كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يُوتر بِرَكْعَة وَيَأْمُر بهَا، وَلَكِن كَانَ آخر الْأَمريْنِ مِنْهُ الْوتر بِثَلَاث.
يدل على ذَلِك مَا روى الطَّحَاوِيّ: عَن أبي (خالدة) قَالَ: " سَأَلت أَبَا الْعَالِيَة عَن الْوتر فَقَالَ: علمنَا أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أَو علمونا - الْوتر مثل صَلَاة الْمغرب غير أَنا نَقْرَأ فِي الثَّالِثَة، هَذَا وتر اللَّيْل وَهَذَا وتر النَّهَار وَعنهُ: عَن ربيع الْمُؤَذّن عَن ابْن وهب (عَن ابْن أبي الزِّنَاد) عَن أَبِيه، قَالَ: " (أثبت عمر بن عبد الْعَزِيز) الْوتر بِالْمَدِينَةِ بقول الْفُقَهَاء ثَلَاثًا لَا يسلم إِلَّا فِي آخِرهنَّ ".
(بَاب ويقنت فِي الْوتر فِي جَمِيع السّنة)

التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد: وَاللَّفْظ لَهُ، عَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ:

(1/173)


" عَلمنِي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَلِمَات أقولهن فِي الْوتر، قَالَ (ابْن جواس) : - وَهُوَ أَبُو عَاصِم بن أَحْمد بن جواس الْحَنَفِيّ الْكُوفِي شيخ مُسلم وَأبي دَاوُد - فِي قنوت الْوتر: اللَّهُمَّ اهدني فِيمَن هديت، وَعَافنِي فِيمَن عافيت، وتولني فِيمَن توليت، وَبَارك لي فِيمَا أَعْطَيْت، وقني شَرّ مَا قضيت، إِنَّك تقضي وَلَا يقْضى عَلَيْك، وَإنَّهُ لَا يذل من واليت، تَبَارَكت وَتَعَالَيْت ".
قَالَ التِّرْمِذِيّ: " حَدِيث حسن، وَلَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، من حَدِيث أبي الْحَوْرَاء السَّعْدِيّ واسْمه ربيعَة بن شَيبَان، وَلَا نَعْرِف عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الْقُنُوت شَيْئا أحسن من هَذَا، وَهُوَ مَذْهَب ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَبِه قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَإِسْحَاق ". وَتَخْصِيص الْقُنُوت فِي الْوتر بِالنِّصْفِ الْأَخير من رَمَضَان رُوِيَ عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
كَذَا ذكره ابْن شَدَّاد فِي دَلَائِل الْأَحْكَام، وَذكر الطَّحَاوِيّ أَنه لم يقل بِهَذَا القَوْل (أحد) إِلَّا الشَّافِعِي وَاللَّيْث رَضِي الله عَنْهُمَا.

(1/174)


(بَاب يقنت فِي الْوتر قبل الرُّكُوع)

النَّسَائِيّ: عَن أبي بن كَعْب أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يُوتر بِثَلَاث رَكْعَات، يقْرَأ فِي الأولى بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى وَفِي الثَّانِيَة بقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَة بقل هُوَ الله أحد، / ويقنت قبل الرُّكُوع، فَإِذا فرغ قَالَ عِنْد فَرَاغه: " سُبْحَانَ الْملك القدوس ثَلَاثًا يُطِيل فِي آخِرهنَّ ". وَهُوَ اخْتِيَار ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ.
(بَاب إِذا أَرَادَ (أَن يقنت) كبر وَرفع يَدَيْهِ)

الطَّحَاوِيّ: عَن سُلَيْمَان بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن أبي يُوسُف، عَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ، عَن طَلْحَة بن مصرف، عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ رَحْمَة الله عَلَيْهِ قَالَ: " ترفع الْأَيْدِي فِي سبع مَوَاطِن، فِي افْتِتَاح الصَّلَاة، وَفِي التَّكْبِير للقنوت فِي الْوتر، وَفِي الْعِيدَيْنِ، وَعند استلام الْحجر، وعَلى الصَّفَا والمروة، وبجمع وعرفات، وَعند المقامين عِنْد الْجَمْرَتَيْن ". وَهَذَا لَا تعرف مشروعيته إِلَّا بالتوقيف، فَالظَّاهِر أَنه قَالَه عَن تَوْقِيف من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم، فَثَبت بِهَذَا الْأَثر مَشْرُوعِيَّة التَّكْبِير فِي الْقُنُوت وَرفع الْيَدَيْنِ لَهُ،، وَمَا ذكره الْمُزنِيّ رَحمَه الله من أَن أَبَا حنيفَة

(1/175)


رَضِي الله عَنهُ زَاد تَكْبِيرَة فِي الْقُنُوت لم يثبت بهَا سنة وَلَا دلّ عَلَيْهَا قِيَاس خطأ، لأَنا قد بَينا دلَالَة السّنة عَلَيْهَا. وَأما دلَالَة الْقيَاس: فَهُوَ أَن التَّكْبِير شرع للفصل وَحَال الْقُنُوت مُخَالف لحَال الْقِرَاءَة فَوَجَبَ أَن يكبر للفصل بَين الْحَالين كَمَا يكبر للفصل بَين الرُّكُوع وَالسُّجُود (بل) أولى، لِأَن هَيْئَة الرُّكُوع مُخَالفَة لهيئة السُّجُود حسا فَكَانَت مستغنية عَن الْفَصْل، وَالْقِرَاءَة ذكر، والقنوت ذكر، فَيحْتَاج إِلَى الْفَصْل لِئَلَّا يلتبس الْقُرْآن بِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا وَقع الِاتِّفَاق على أَن الإستعاذة لَا يجْهر بهَا، فَإِذا شرع الْفَصْل بِالتَّكْبِيرِ فِيمَا لَا يلتبس فشرعه فِيمَا يلتبس أولى وَالله أعلم.
(بَاب لَا يشرع الْقُنُوت فِي صَلَاة غير الْوتر)

مُسلم: عَن مُحَمَّد قَالَ: قلت لأنس رَضِي الله عَنهُ: " هَل قنت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي صَلَاة الصُّبْح؟ قَالَ: نعم بعد الرُّكُوع يَسِيرا. وَفِي رِوَايَة: قنت شهرا بعد الرُّكُوع يَدْعُو على بني عصية ".
الطَّحَاوِيّ: عَن عبد الله قَالَ: " قنت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] شهرا يَدْعُو على عصية وذكوان، فَلَمَّا ظهر عَلَيْهِم ترك الْقُنُوت، وَكَانَ ابْن مَسْعُود لَا يقنت فِي صَلَاة الْغَدَاة ".

(1/176)


التِّرْمِذِيّ: عَن أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ / قَالَ: " قلت لأبي يَا أَبَت لقد صليت خلف (رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] و) أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم هَا هُنَا بِالْكُوفَةِ نَحوا من خمس سِنِين أكانوا يقنتون؟ قَالَ: أَي بني مُحدث "، حَدِيث حسن صَحِيح.
فقد أخبر عَن الْخُلَفَاء الرَّاشِدين أَنهم كَانُوا لَا يقنتون، وَأَن الْقُنُوت مُحدث، وَهَذَا دَلِيل على (أَن) الحَدِيث الَّذِي ذكره الدَّارَقُطْنِيّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " مَا زَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يقنت فِي صَلَاة الْغَدَاة حَتَّى فَارق الدُّنْيَا " ضَعِيف، وَإِن

(1/177)


ظهر لَهُ وَجه صِحَة قُلْنَا: مَعْنَاهُ مَا زَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يُطِيل (الْقيام) فِي صَلَاة الْغَدَاة حَتَّى فَارق الدُّنْيَا، فَإِن طول الْقيام يُسمى قنوتا، وَهَذَا مَذْهَب ابْن عمر أَيْضا، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن الْمُبَارك.
وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: لَا يقنت فِي الصُّبْح إِلَّا إِذا نزلت (بِالْمُسْلِمين) نازلة.
(بَاب إِذا أوتر ثمَّ نَام ثمَّ قَامَ لَا ينْتَقض وتره)

التِّرْمِذِيّ: عَن قيس بن طلق بن عَليّ عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " لَا وتران فِي لَيْلَة ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب وَبِه يَقُول مَالك بن أنس وَابْن الْمُبَارك وَأحمد ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " وَهَذَا أصح - يَعْنِي أَن الْوتر لَا ينْتَقض - لِأَنَّهُ قد رُوِيَ من غير وَجه أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد صلى بعد الْوتر رَكْعَتَيْنِ ".

(1/178)


(بَاب يسْتَحبّ الْإِسْفَار بِالْفَجْرِ)

التِّرْمِذِيّ: عَن رَافع بن خديج قَالَ: سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " أسفروا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أعظم لِلْأجرِ ". وَفِي لفظ أبي دَاوُد: " أَصْبحُوا بالصبح فَإِنَّهُ أعظم لأجوركم، أَو أعظم لِلْأجرِ ". قَالَ التِّرْمِذِيّ: " هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح ".
فَإِن قيل: قَالَ الْبَغَوِيّ: وَهَذَا حَدِيث حسن، لكنه يُعَارضهُ حَدِيث زيد بن ثَابت قَالَ: " تسحرنا مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ثمَّ قمنا إِلَى الصَّلَاة - قَالَ الرَّاوِي عَن زيد - قلت: كم كَانَ قدر ذَلِك؟ قَالَ: قدر خمسين آيَة ".
قيل لَهُ: لَو كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا يفعل إِلَّا الْأَفْضَل لجَاز أَن يكون مُعَارضا، وَلَكِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد يتْرك الْأَفْضَل أَحْيَانًا (إِمَّا) بَيَانا للْجُوَاز، أَو لسَبَب يعرض / لَهُ، فَيجوز أَن يكون النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عجل الصَّلَاة ذَلِك الْيَوْم لسَبَب عرض لَهُ، ثمَّ إِنَّه يحْتَمل

(1/179)


أَن يكون بعيد فراغهم من (السّحُور) بلحظة يسيرَة طلع (الْفجْر، ثمَّ) مَكَثُوا بعد ذَلِك قدر قِرَاءَة خمسين آيَة مرتلة، ثمَّ دخل بعد ذَلِك فِي الصَّلَاة، وَكَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يُطِيل الْقِرَاءَة فِيهَا مَا لَا يُطِيل فِي غَيرهَا، فَإِذا (ذهب) بعد طُلُوع الْفجْر مِقْدَار (قِرَاءَة خمسين آيَة مرتلة وَمِقْدَار) مكثه فِي الصَّلَاة أَسْفر جدا.
فَإِن قيل: صَحَّ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " إِن كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ليُصَلِّي الصُّبْح فَيَنْصَرِف النِّسَاء متلفعات بمروطهن مَا يعرفن من الْغَلَس ".
قيل لَهُ: روى الطَّحَاوِيّ: عَن القعْنبِي، عَن عِيسَى بن يُونُس، (عَن الْأَعْمَش) ، عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " مَا اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على شَيْء مَا اجْتَمعُوا على التَّنْوِير ". وَهَذَا لَا يكون إِلَّا بعد ثُبُوت (نسخ) التغليس عِنْدهم. وَعنهُ: عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " صلى (بِنَا) أَبُو بكر صَلَاة الصُّبْح فَقَرَأَ بِسُورَة آل عمرَان، فَقَالُوا: كَادَت الشَّمْس تطلع، فَقَالَ: لَو طلعت لم تجدنا غافلين ".
فَهَذَا أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ قد دخل فِيهَا فِي غير وَقت الإصفار، ثمَّ مد الْقِرَاءَة حَتَّى خيف عَلَيْهِ طُلُوع الشَّمْس بِحَضْرَة الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، وَقرب عَهدهم برَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَلم يُنكر عَلَيْهِ مُنكر، فَدلَّ على متابعتهم لَهُ.

(1/180)


وَعنهُ: عَن السايب بن يزِيد قَالَ: " صليت خلف عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ الصُّبْح فَقَرَأَ فِيهَا بالبقرة فَلَمَّا انصرفوا (استشرفوا) ، الشَّمْس، فَقَالُوا: (مَا طلعت) ، فَقَالَ: لَو طلعت لم تجدنا غافلين ". فَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يدْخل فِيهَا بِغَلَس، وَيخرج مِنْهَا بتنوير، وَكَذَلِكَ كتب إِلَى عماله. وَإِلَى هَذَا ذهب سُفْيَان الثَّوْريّ.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ (عَن) ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " الْوَقْت الأول رضوَان الله وَالْوَقْت الآخر عَفْو الله ".
قيل لَهُ: هَذَا حَدِيث يرويهِ يَعْقُوب بن الْوَلِيد عَن الْعمريّ وهما ضعيفان، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: / " لَا أعرف شَيْئا يثبت فِي أَوْقَات الصَّلَاة، أَولهَا (أَو أوسطها

(1/181)


أَو آخرهَا) ، يَعْنِي الرضْوَان وَالْعَفو ". وَإِن صَحَّ فَنَقُول: الْعَفو هُوَ الْفضل قَالَ الله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو} .
(ذكر مَا فِي حَدِيث التغليس من الْغَرِيب)
:
متلفعات: أَي مشتملات، والمروط هِيَ الأردية الواسعة، أَي أكسيتهن، الْوَاحِد مرط بِكَسْر الْمِيم، والغلس: ظلمَة آخر اللَّيْل، كالغبش، وَقيل: الغبش قبل الْغَلَس.
(بَاب يسْتَحبّ الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ فِي الصَّيف وتقديمها فِي الشتَاء)

البُخَارِيّ: عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أبردوا بِالظّهْرِ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم ".
التِّرْمِذِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا اشْتَدَّ الْحر فأبردوا عَن الصَّلَاة فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم ".

(1/182)


قَالَ أَبُو عِيسَى: " هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَقد اخْتَار بعض أهل الْعلم تَأْخِير صَلَاة الظّهْر فِي شدَّة الْحر، وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق ".
وَقَالَ أَبُو عِيسَى: " معنى من ذهب إِلَى تَأْخِير الصَّلَاة فِي شدَّة الْحر أولى وأشبه بالاتباع، وَأما مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي من أَن الرُّخْصَة لمن ينتاب من الْبعد للْمَشَقَّة على النَّاس، فَإِن فِي حَدِيث أبي ذَر مَا يدل على خلاف مَا قَالَ الشَّافِعِي ".
التِّرْمِذِيّ: عَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ فِي سفر وَمَعَهُ بِلَال، فَأَرَادَ أَن يُقيم، فَقَالَ: أبرد، ثمَّ أَرَادَ أَن يُقيم فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : أبرد فِي الظّهْر، حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول، ثمَّ أَقَامَ فصلى، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : إِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم فأبردوا عَن الصَّلَاة ". حَدِيث حسن (صَحِيح) .
فَلَو كَانَ الْأَمر على مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي لم يكن للإبراد (فِي ذَلِك الْوَقْت) معنى لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي السّفر وَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ (أَن) ينتابوا من الْبعد.
فَإِن قيل: لَعَلَّ مَنَازِلهمْ كَانَت فِي السّفر مُتَفَرِّقَة بعيدَة بَعْضهَا من بعض على عَادَة (الْمُسَافِرين) فِي النُّزُول، والمسافة الْيَسِيرَة فِي الْبَريَّة فِيمَا يرجع إِلَى مشقة الْحر أعظم مشقة من الْمنَازل الْبَعِيدَة فِي الْحَضَر.

(1/183)


قيل لَهُ: قد ذكر التِّرْمِذِيّ / أَنهم كَانُوا مُجْتَمعين. وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيّ: " وَقد كَانُوا مُجْتَمعين وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ أَمر بالإبراد ". (وَكَلَام) هذَيْن الْإِمَامَيْنِ صَحِيح، لِأَن بِلَالًا أَرَادَ أَن يُقيم الصَّلَاة مرَّتَيْنِ وَرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَأْمُرهُ بالإبراد، وَالْإِقَامَة إِنَّمَا هِيَ لإعلام الْحَاضِرين، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا أَنه قَالَ: " حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول "، وَلم يقل حَتَّى مشينا فِيهِ.
(بَاب يسْتَحبّ تَأْخِير الْعَصْر مَا لم يتَغَيَّر قرص الشَّمْس)

البُخَارِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ، ويجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر، ثمَّ يعرج الَّذين باتوا فِيكُم، فيسألهم رَبهم (وَهُوَ أعلم بهم) ، (كَيفَ) تركْتُم عبَادي؟ فَيَقُولُونَ تركناهم وهم يصلونَ وأتيناهم وهم يصلونَ ". وَفِي هَذَا دَلِيل على أَنه يسْتَحبّ فعلهمَا فِي آخر الْوَقْت (حِين) تعرج الْمَلَائِكَة. أَبُو دَاوُد: عَن عَليّ بن شَيبَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قدمنَا على رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْمَدِينَة فَكَانَ يُؤَخر الْعَصْر مَا دَامَت الشَّمْس بَيْضَاء نقية ".

(1/184)


التِّرْمِذِيّ: عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَشد تعجيلا لِلظهْرِ مِنْكُم، وَأَنْتُم أَشد تعجيلا للعصر مِنْهُ ".
فَإِن قيل: فقد روى مُسلم: عَن أنس رَضِي الله عَنهُ (قَالَ) : " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس مُرْتَفعَة حَيَّة، فَيذْهب الذَّاهِب إِلَى العوالي (فيأتيهم) وَالشَّمْس مُرْتَفعَة ".
قيل لَهُ: (قيل) إِن العوالي أدناها من الْمَدِينَة ثَلَاثَة أَمْيَال، وأبعدها ثَمَانِيَة أَمْيَال، وَلم يذكر فِي (الحَدِيث) إِلَّا إتْيَان العوالي، وَإِذا وصل الْإِنْسَان إِلَى (أول) أدناها صدق عَلَيْهِ أَنه أَتَى العوالي، وَهَذَا مِقْدَار يُمكن سيره إِذا صلى الْعَصْر فِي وسط وَقتهَا.
الطَّحَاوِيّ: عَن الحكم بن أبان، عَن عِكْرِمَة قَالَ: " كُنَّا مَعَ أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ فِي جَنَازَة فَلم يصل الْعَصْر، (وَسكت حَتَّى راجعناه مرَارًا، فَلم يصل الْعَصْر) حَتَّى رَأينَا الشَّمْس على (رَأس) أطول جبل بِالْمَدِينَةِ ".

(1/185)


(بَاب يسْتَحبّ تَعْجِيل الْمغرب)

أَبُو دَاوُد: عَن مرْثَد بن عبد الله قَالَ: " قدم علينا أَبُو أَيُّوب غازيا، وَعقبَة بن عَامر يَوْمئِذٍ / على مصر، (فَأخر الْمغرب) فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو أَيُّوب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: مَا هَذِه الصَّلَاة يَا عقبَة؟ فَقَالَ لَهُ: شغلنا، فَقَالَ: أما سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: لَا تزَال أمتِي بِخَير أَو قَالَ على الْفطْرَة مَا لم يؤخروا الْمغرب إِلَى أَن تشتبك النُّجُوم ".
(بَاب يسْتَحبّ تَأْخِير الْعشَاء إِلَى مَا قبل ثلث اللَّيْل)

البُخَارِيّ: قَالَ: " سُئِلَ أنس رَضِي الله عَنهُ هَل اصْطنع رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خَاتمًا؟ (قَالَ) : نعم، أخر الصَّلَاة ذَات لَيْلَة إِلَى شطر اللَّيْل صَلَاة الْعشَاء (الْآخِرَة) ، فَلَمَّا صلى أقبل بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِن النَّاس قد صلوا ورقدوا، وَإِنَّكُمْ

(1/186)


(لن) تزالوا فِي صَلَاة مَا انتظرتم الصَّلَاة، وَكَأَنِّي أنظر إِلَى وبيص خَاتمه ".
التِّرْمِذِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم أَن يؤخروا الْعشَاء إِلَى ثلث اللَّيْل أَو نصفه ". حَدِيث حسن صَحِيح.
وَمن طَرِيق أبي دَاوُد: " وَلَوْلَا ضعف الضَّعِيف وسقم السقيم لأخرت هَذِه الصَّلَاة إِلَى شطر اللَّيْل ".
فَإِن قيل: روى التِّرْمِذِيّ: عَن أم فَرْوَة - وَكَانَت بَايَعت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- (قَالَت: سُئِلَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) أَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ: " الصَّلَاة لأوّل وَقتهَا ". قيل لَهُ: هَذَا حَدِيث (يرويهِ) الْقَاسِم بن غَنَّام، وَهُوَ سيئ الْحِفْظ، ضَعِيف النَّقْل، وَلم يدْرك أم فَرْوَة، وَفِي سَنَده اضْطِرَاب، وَالصَّحِيح أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله

(1/187)


عَنهُ سَأَلَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَي الْعَمَل أحب إِلَى الله؟ قَالَ: الصَّلَاة على وَقتهَا ".
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: " على مواقيتها ". واستحباب تَأْخِير الْعشَاء اخْتِيَار الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ، فطوبى لمن وافقهم وَاتبع مَا ثَبت عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَإِنَّهَا أَحَادِيث لَا تقبل تَأْوِيلا وَلَا نجد على نسخهَا دَلِيلا.
(ذكر مَا فِي حَدِيث البُخَارِيّ (من الْغَرِيب) :)

وبيص خَاتمه: بباء مُعْجمَة بِوَاحِدَة مَكْسُورَة وياء سَاكِنة وصاد مُهْملَة، بريق خَاتمه، يُقَال مِنْهُ بص الشَّيْء يبص بصيصا، ووبص يبص وبيصا.
(بَاب لَا تجوز الصَّلَاة فِي ثَلَاثَة أَوْقَات)

مُسلم: عَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] / (ينهانا) أَن نصلي فِيهِنَّ، أَو نقبر فِيهِنَّ مَوتَانا، حِين تطلع

(1/188)


الشَّمْس بازغة حَتَّى ترْتَفع، وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى تميل الشَّمْس، وَحين تضيف للغروب حَتَّى تغرب ".
(ذكر مَا فِيهِ من الْغَرِيب:)

(الظهيرة) : الهاجرة وَهُوَ نصف النَّهَار، نقبر: ندفن، يُقَال قَبره إِذا دَفنه، وأقبره إِذا جعل لَهُ قبرا يوارى فِيهِ. قَالَ الله تَعَالَى: {ثمَّ أَمَاتَهُ فأقبره} ، هَذَا هُوَ الأَصْل، وَقد حمل أَصْحَابنَا قبر الْأَمْوَات على الصَّلَاة عَلَيْهِم. وَإِلَى (هَذَا) الْحمل ذهب ابْن الْمُبَارك رَحمَه الله.
(بَاب يكره التَّنَفُّل بعد الْفجْر وَبعد الْعَصْر)

البُخَارِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " شهد عِنْدِي رجال مرضيون، وأرضاهم عِنْدِي عمر، أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نهى عَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح حَتَّى تشرق الشَّمْس، وَبعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس ".

(1/189)


فَإِن قيل: روى التِّرْمِذِيّ وَغَيره، عَن جَابر بن يزِيد بن الْأسود، عَن أَبِيه رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " شهِدت مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حجَّته، فَصليت مَعَه صَلَاة الْفجْر فِي مَسْجِد الْخيف وَأَنا غُلَام شَاب، فَلَمَّا قضى صلَاته (إِذا) هُوَ برجلَيْن فِي (آخر) الْقَوْم لم يصليا مَعَه، فَقَالَ (رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) : عَليّ بهما، (فَأتي) بهما ترْعد فرائصهما فَقَالَ: مَا منعكما أَن تصليا مَعنا (قَالَا) : يَا رَسُول الله قد صلينَا فِي رحالنا، قَالَ: (لَا) تفعلا إِذا صليتما فِي رحالكما ثمَّ أتيتما مَسْجِد جمَاعَة فَصَليَا مَعَهم فَإِنَّهَا لَكمَا نَافِلَة ". قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ: عَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]

(1/190)


يَقُول: " لَا يصلين أحد بعد الصُّبْح إِلَى طُلُوع الشَّمْس، وَلَا بعد الْعَصْر إِلَى أَن تغرب (الشَّمْس) إِلَّا بِمَكَّة ".
قيل لَهُ: أما الحَدِيث الأول: فَهُوَ أَمر، وَمَا روينَاهُ من الحَدِيث (فَهُوَ) نهي، وَالنَّهْي مقدم على الْأَمر لِأَنَّهُ أحوط.
وَيحْتَمل النّسخ أَيْضا لما روى الطَّحَاوِيّ: عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: قَالَ: " إِن صليت فِي أهلك ثمَّ أدْركْت الصَّلَاة فصلها إِلَّا الصُّبْح وَالْمغْرب، فَإِنَّهُمَا لَا يعادان فِي يَوْم ".
فَهَذَا ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ أخبر أَن الصُّبْح لَا يُعَاد، فلولا علمه بنسخ حَدِيث الرجلَيْن، (أَو أَن) النَّهْي مقدم على الْأَمر، وَإِلَّا لما قَالَ ذَلِك. وَحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ لَا يَصح.
فَإِن قيل: روى أَبُو دَاوُد: عَن مُجَاهِد، عَن أبي الْخَلِيل، عَن أبي قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَنه كره / الصَّلَاة نصف النَّهَار إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة، وَقَالَ: إِن جَهَنَّم تسجر إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة ".
قيل لَهُ: هَذَا حَدِيث مُنْقَطع، لِأَن أَبَا الْخَلِيل لم يسمع من أبي قَتَادَة، فَلَا يُعَارض الْمسند الْمُتَّصِل.

(1/191)


فَإِن قيل: فقد روى البُخَارِيّ: عَن هِشَام قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: (ابْن أُخْتِي) مَا ترك نَبِي الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] السَّجْدَتَيْنِ بعد الْعَصْر عِنْدِي قطّ ".
وَعنهُ: عَنْهَا قَالَت: " رَكْعَتَانِ لم يكن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يدعهما سرا (وَلَا عَلَانيَة) رَكْعَتَانِ قبل (صَلَاة) الصُّبْح، وركعتان بعد الْعَصْر ".
قيل: فقد روى البُخَارِيّ: عَن أبي التياح قَالَ: سَمِعت حمْرَان بن أبان يحدث عَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِنَّكُم (لتصلون) صَلَاة لقد صَحِبنَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصليهَا، وَلَقَد نهى عَنْهَا، يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر ". فقد تعَارض فعله وَنَهْيه عَاما وخاصا، فَيحْتَمل أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مُخْتَصًّا بِهِ، كَمَا أَنه كَانَ يواصل وَنهى عَن الْوِصَال شَفَقَة على أمته.
يُؤَيّد ذَلِك مَا روى البُخَارِيّ عَنْهَا قَالَت: " وَكَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (يُصَلِّيهمَا، وَلَا يُصَلِّيهمَا) فِي الْمَسْجِد مَخَافَة أَن يثقل على أمته، وَكَانَ يحب أَن يُخَفف عَنْهُم ".
وَيُؤَيّد مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا روى التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِنَّمَا صلى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر، لِأَنَّهُ أَتَاهُ مَال فَشَغلهُ عَن الرَّكْعَتَيْنِ بعد الظّهْر (فصلاهما) بعد الْعَصْر، (ثمَّ لم يعد لَهما) ".

(1/192)


وَالَّذِي اجْتمع عَلَيْهِ أَكثر أهل الْعلم كَرَاهِيَة الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس وَبعد الصُّبْح حَتَّى تطلع (الشَّمْس) .
وروى الطَّحَاوِيّ: " أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ كَانَ يضْرب الرجل إِذا رَآهُ يُصَلِّي بعد الْعَصْر حَتَّى ينْصَرف من صلَاته ".
(ذكر مَا فِي الحَدِيث الثَّانِي من الْغَرِيب:)

ترْعد: ترجف. فرائص: جمع فريصة وَهِي (اللحمة) بَين الْجنب والكتف الَّتِي لَا تزَال ترْعد من الدَّابَّة.
(بَاب إِذا صلى رَكْعَة من الصُّبْح ثمَّ طلعت الشَّمْس أمسك عَن الصَّلَاة حَتَّى ترْتَفع ثمَّ يُتمهَا وَتَكون نَافِلَة)

مُسلم: عَن (عبد الله بن عَمْرو) رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " وَقت صَلَاة الصُّبْح من طُلُوع الْفجْر مَا لم تطلع الشَّمْس، فَإِذا طلعت (الشَّمْس) فَأمْسك عَن الصَّلَاة فَإِنَّهَا تطلع بَين قَرْني شَيْطَان " /.
فَإِن قيل: هَذَا يُعَارضهُ مَا روى البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ،

(1/193)


قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا أدْرك أحدكُم (سَجْدَة) من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَإِذا أدْرك سَجْدَة (من صَلَاة) الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فليتم صلَاته ".
قيل لَهُ: الْحَال لَا يَخْلُو من أحد أَمريْن: إِمَّا أَن نجعلهما متعارضين فَيسْقط الِاحْتِجَاج بهما، وَيسلم حَدِيث عقبَة بن عَامر عَن الْمعَارض، أَو يعْمل بهما بِحَسب الْإِمْكَان.
وَلَا شكّ أَن الثَّانِي أولى، وَوجه الْعَمَل بهما أَن يمسك عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس، ثمَّ يُتمهَا نَافِلَة، وَيكون التَّقْدِير: من أدْرك سَجْدَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس ثمَّ طلعت فَلَا يقطع صلَاته، بل يمسك عَنْهَا، فَإِذا ارْتَفَعت الشَّمْس فليتم صلَاته وَتَكون لَهُ نَافِلَة.
أَلا ترى أَن من صلى فِي بَيته ثمَّ أدْرك الْجَمَاعَة فَإِنَّهُ يدْخل مَعَ الْجَمَاعَة فِي تِلْكَ الصَّلَاة بنية تِلْكَ الصَّلَاة، وَتَكون لَهُ نَافِلَة. فَإِن قيل: روى البُخَارِيّ (وَغَيره) عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح، وَمن أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك الْعَصْر ".
وَأَنت (قد) عملت بِهَذَا الحَدِيث فِي الْعَصْر فَوَجَبَ أَن تعْمل بِهِ فِي الصُّبْح.

(1/194)


قيل لَهُ: أما فِي صَلَاة الْعَصْر فعملنا بِهِ لِأَنَّهُ لم يُعَارضهُ غَيره، فَإِنَّهُ لم يرد عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " فَإِذا غربت الشَّمْس فَأمْسك عَن الصَّلَاة ". وَفِي صَلَاة الصُّبْح عَارضه غَيره وَهُوَ مَا روينَاهُ آنِفا، أَو نقُول يحْتَمل أَن يكون المُرَاد: " من أدْرك وَقت رَكْعَة من صَلَاة الْعَصْر (فقد أدْرك وَقت الْعَصْر) ، وَمن أدْرك وَقت رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح فقد أدْرك (وَقت) الصُّبْح ". فَيكون الحَدِيث واردا فِيمَن أسلم أَو بلغ أَو طهر وَقد بَقِي من الْوَقْت قدر مَا يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَة فَإِنَّهُ يلْزمه الْقَضَاء، وَهَذَا أولى مَا حمل عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث.
(ذكر مَا مر من الْغَرِيب.)

(بَاب يكره أَن يتَنَفَّل بعد طُلُوع الْفجْر بِأَكْثَرَ من رَكْعَتي الْفجْر)

مُسلم: عَن حَفْصَة زوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا طلع الْفجْر لَا يُصَلِّي / إِلَّا رَكْعَتَيْنِ خفيفتين ".

(1/195)


(بَاب وَلَا يتَنَفَّل قبل صَلَاة الْمغرب لما فِيهِ من تَأْخِير الْمغرب)

فَإِن قيل: روى البُخَارِيّ: وَغَيره، عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ الْمُؤَذّن إِذا أذن قَامَ نَاس من أَصْحَاب النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يبتدرون السَّوَارِي، حَتَّى يخرج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وهم كَذَلِك يصلونَ رَكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب، وَلم يكن بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة شَيْء ".
قيل لَهُ: قَالَ التِّرْمِذِيّ: " وَقد اخْتلف أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الصَّلَاة قبل الْمغرب، فَلم ير بَعضهم الصَّلَاة قبل الْمغرب ".
وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ: " وَلم يَفْعَله أحد بعدهمْ وأظن (الَّذِي) منع مِنْهُ، الْمُبَادرَة إِلَى صَلَاة الْمغرب ".
وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: إِنَّهَا بِدعَة، وَقَالَ غَيره: صَلَاة الرَّكْعَتَيْنِ بعد غرُوب الشَّمْس كَانَ فِي أول الْإِسْلَام ليعرف بِهِ خُرُوج الْوَقْت الْمنْهِي عَنهُ، ثمَّ أمروا بعد ذَلِك بتعجيل الْمغرب.
وروى أَبُو دَاوُد: عَن طَاوس قَالَ: سُئِلَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ عَن الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب فَقَالَ: " مَا رَأَيْت أحدا على عهد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يُصَلِّيهمَا ".

(1/196)


(بَاب من فَاتَتْهُ صَلَاة الْفجْر حَتَّى طلعت الشَّمْس، لَا يُصليهَا حَتَّى ترْتَفع)

مُسلم: عَن أبي قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث لَيْلَة التَّعْرِيس قَالَ: " فَمَال رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن الطَّرِيق فَوضع رَأسه ثمَّ قَالَ: احْفَظُوا علينا صَلَاتنَا، فَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَالشَّمْس فِي ظَهره، قَالَ: فقمنا فزعين، ثمَّ قَالَ: اركبوا، فَرَكبْنَا فسرنا حَتَّى ارْتَفَعت الشَّمْس، ثمَّ دَعَا بميضأة كَانَت معي فِيهَا شَيْء من مَاء، فَتَوَضَّأ مِنْهَا دون وضوئِهِ، قَالَ: وَبَقِي فِيهَا شَيْء من مَاء، ثمَّ قَالَ لأبي قَتَادَة: " احفظ علينا ميضأتك فسيكون لَهَا نبأ، ثمَّ أذن بِلَال رَضِي الله عَنهُ فصلى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رَكْعَتَيْنِ ثمَّ صلى الْغَدَاة ".
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن من فَاتَتْهُ صَلَاة الصُّبْح مَعَ سنتها قَضَاهَا مَعهَا.
(ذكر مَا فِي هَذَا الحَدِيث من الْغَرِيب:)

الميضأة: بميم مَكْسُورَة وياء سَاكِنة وضاد مُعْجمَة بعْدهَا ألف وهاء، مفعلة من الْوضُوء وَهِي المطهرة يتَوَضَّأ بهَا. والتعريس: / نزُول آخر اللَّيْل للاستراحة، والموضع معرس.
(بَاب يجب التَّرْتِيب فِي قَضَاء الْفَوَائِت)

التِّرْمِذِيّ: عَن أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: قَالَ عبد الله: " إِن

(1/197)


الْمُشْركين شغلوا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن أَربع صلوَات يَوْم الخَنْدَق، حَتَّى ذهب من اللَّيْل مَا شَاءَ الله، فَأمر بِلَالًا فَأذن ثمَّ (أَقَامَ) فصلى الظّهْر، ثمَّ (أَقَامَ) فصلى الْعَصْر، ثمَّ أَقَامَ فصلى الْمغرب، ثمَّ أَقَامَ فصلى الْعشَاء ".
وَعنهُ: عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ (قَالَ) يَوْم الخَنْدَق وَجعل يسب كفار قُرَيْش قَالَ: " يَا رَسُول الله مَا كدت أُصَلِّي الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (إِن صليتها) قَالَ: فنزلنا بطحان، فَتَوَضَّأ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فتوضأنا، فصلى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بَعْدَمَا غربت الشَّمْس، ثمَّ صلى بعْدهَا الْمغرب ". (أخرجه مُسلم) .
وَقد صَحَّ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا، وتلا قَوْله تَعَالَى: {وأقم الصَّلَاة لذكري} " (أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه) .

(1/198)


وَهَذَا دَلِيل على أَن المُرَاد قَضَاء الْفَائِتَة عِنْد الذّكر، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّرْتِيب فِي الْفَوَائِت، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مَأْمُورا بِفعل الْفَائِتَة عِنْد الذّكر، وَذَلِكَ قد يكون فِي وَقت صَلَاة، فَهُوَ مَنْهِيّ لَا محَالة عَن فعل صَلَاة الْوَقْت فِي تِلْكَ الْحَال، فَأوجب ذَلِك فَسَاد صَلَاة الْوَقْت إِن قدمهَا على الْفَائِتَة، لِأَن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد حَتَّى تقوم الدّلَالَة على غَيره، وَلِأَنَّهُ لما صلى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مُرَتبا وَجب التَّرْتِيب لقَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَلِأَن فرض الصَّلَاة مُجمل فِي الْكتاب وَالتَّرْتِيب وصف من أَوْصَاف الصَّلَاة، وَفعله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا ورد على وَجه الْبَيَان فَهُوَ على الْوُجُوب.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ: عَن (عبيد الله) الْعمريّ عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من نسي صَلَاة فَذكرهَا وَهُوَ مَعَ الإِمَام فَإِذا فرغ مِنْهَا قضى الَّتِي فَاتَتْهُ ثمَّ أعَاد الَّتِي مَعَ الإِمَام ".

(1/199)


فَإِن قيل: أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه فَهُوَ حَدِيث مُنْقَطع وَحَدِيث / ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ الصَّحِيح أَنه مَوْقُوف ثمَّ إِنَّه معَارض بِمَا روى الدَّارَقُطْنِيّ، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا نسي أحدكُم صَلَاة فَذكرهَا وَهُوَ فِي صَلَاة (مَكْتُوبَة) فليبدأ بِالَّتِي هُوَ فِيهَا، فَإِذا فرغ مِنْهَا صلى الَّتِي نسى ".
قيل لَهُ: أما حَدِيث أبي عُبَيْدَة فرواته ثِقَات: فَلَا يضرّهُ الِانْقِطَاع، وَقد عضده الحَدِيث الَّذِي بعده، وَأما حَدِيث ابْن عمر فَإِن صَحَّ أَنه من قَول النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَهُوَ الْمَطْلُوب، وَإِن كَانَ من قَول ابْن عمر فَهُوَ أَحَق أَن يتبع، وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ مَقْطُوع ضَعِيف يرويهِ بَقِيَّة بن الْوَلِيد، عَن عمر بن أبي عمر، عَن مَكْحُول.

(1/200)


(بَاب صَلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر)

التِّرْمِذِيّ: عَن سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " صَلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر ". هَذَا حَدِيث حسن.
وَعنهُ: عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " صَلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر ". قَالَ أَبُو عِيسَى: " هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
فَإِن قيل: فقد جَاءَ فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " حَافظُوا على الصَّلَوَات وَصَلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر " (فَدلَّ) على أَنَّهَا غَيرهَا.
قيل لَهُ: يجوز أَن تكون مُسَمَّاة بالوسطى وَالْعصر فَذكرهَا هَهُنَا باسميها.

(1/201)


(بَاب لَا يسن الترجيع فِي الْأَذَان)

أَبُو دَاوُد: عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ فِي قصَّة الْأَذَان، قَالَ: فجَاء عبد الله بن زيد من الْأَنْصَار وَقَالَ فِيهِ: " واستقبل الْقبْلَة فَقَالَ: الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح، حَيّ على الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله. ثمَّ أمْهل (هنيَّة) ثمَّ قَامَ فَقَالَ مثلهَا، إِلَّا أَنه زَاد بَعْدَمَا قَالَ حَيّ على الْفَلاح: قد قَامَت الصَّلَاة، قد قَامَت الصَّلَاة ".
فَإِن قيل: / فقد روى أَبُو دَاوُد: عَن (ابْن محيريز) ، عَن أبي مَحْذُورَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " ألْقى عَليّ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] التأذين هُوَ بِنَفسِهِ فَقَالَ: قل: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، مرَّتَيْنِ (مرَّتَيْنِ) "، ثمَّ قَالَ: ارْجع فَمد (من) صَوْتك أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، اشْهَدْ أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح، حَيّ على الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله.
قيل لَهُ: لما علم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَبَا مَحْذُورَة الْأَذَان كَانَ كَافِرًا، أَو كَانَ عقيب إِسْلَامه، بِدَلِيل مَا ذكر مُسلم فِي حَدِيثه ثمَّ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قُم فَأذن

(1/202)


بِالصَّلَاةِ، فَقُمْت وَلَا شَيْء أكره إِلَيّ من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَلَا مِمَّا يَأْمُرنِي بِهِ ".
" فَلَمَّا لقنه الْأَذَان أعَاد عَلَيْهِ كلمة الشَّهَادَة، وكررها حَتَّى تثبت ويحفظها ويكررها على أَصْحَابه الْمُشْركين، فَإِنَّهُم كَانُوا ينفرون مِنْهَا خلاف نفورهم من غَيرهَا، فظنها أَبُو مَحْذُورَة من الْأَذَان "، وَلِأَن حَال التَّلْقِين يردد الْإِنْسَان على من يلقنه حَتَّى يَأْتِي بِهِ على وَجهه.
وَإِلَى هَذَا ذهب أَحْمد بن حَنْبَل، وَحكى الْخطابِيّ قَالَ: " وَقد قيل لِأَحْمَد بن حَنْبَل - وَكَانَ يَأْخُذ بِأَذَان بِلَال -: (أَلَيْسَ) أَذَان أبي مَحْذُورَة بعد أَذَان بِلَال، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ بالأحدث فالأحدث من أَمر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقَالَ: أَلَيْسَ لما عَاد إِلَى الْمَدِينَة أقرّ بِلَالًا على أَذَانه ".
(بَاب الْإِقَامَة مثل الْأَذَان، إِلَّا أَنه يزِيد فِيهَا بعد الْفَلاح: قد قَامَت الصَّلَاة مرَّتَيْنِ)

أَبُو دَاوُد: عَن ابْن محيريز أَن أَبَا مَحْذُورَة حَدثهُ: أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] علمه

(1/203)


الْأَذَان تسع عشرَة كلمة، وَالْإِقَامَة (سبع) عشرَة كلمة، الْأَذَان: الله أكبر الله أكبر (الله أكبر الله أكبر) ، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، (أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله،) ، حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح، حَيّ على الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله. وَالْإِقَامَة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، / أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح، حَيّ على الْفَلاح، قد قَامَت الصَّلَاة، قد قَامَت الصَّلَاة، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله ".
وَيدل على مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَيْضا مَا تقدم من حَدِيث (عبد الله بن زيد) (فَإِنَّهُ) قَالَ: " ثمَّ أمْهل (هنيَّة) ثمَّ قَالَ مثلهَا، إِلَّا أَنه زَاد (بعد) مَا قَالَ حَيّ على الْفَلاح، قد قَامَت الصَّلَاة قد قَامَت الصَّلَاة ".
وروى التِّرْمِذِيّ: عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، عَن عبد الله بن زيد قَالَ: " كَانَ أَذَان رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] شفعا شفعا فِي الْأَذَان وَالْإِقَامَة ".

(1/204)


فَإِن قيل: فقد روى البُخَارِيّ وَغَيره عَن أنس رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " أَمر بِلَال أَن يشفع الْأَذَان وَأَن يُوتر الْإِقَامَة ". (وَحَدِيث التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، عَن عبد الله بن زيد وَلم يلقه فَكَانَ مُرْسلا وَلَا حجَّة فِي الْمَرَاسِيل، وَقد روى ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ: " أَن الْأَذَان على عهد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ وَالْإِقَامَة مرّة مرّة، وَإِذا انْتهى الْمُؤَذّن إِلَى قَوْله قد قَامَت الصَّلَاة قَالَهَا مرَّتَيْنِ ".
وروى ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " من أذن ثِنْتَيْ عشر سنة وَجَبت لَهُ الْجنَّة وَكتب لَهُ بِكُل أَذَان سِتُّونَ حَسَنَة وَبِكُل إِقَامَة ثَلَاثُونَ حَسَنَة ". وَهَذَا يدل على أَن الْإِقَامَة على الشّطْر من الْأَذَان (وَكَانَ الْأَذَان) بِمَكَّة وَالْمَدينَة فِي أَوْلَاد أبي مَحْذُورَة وهم على إِفْرَاد الْإِقَامَة حَتَّى استولى المصريون على الْحجاز فِي سنة

(1/205)


اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلاثمائة فغيروا الْإِقَامَة. فَكيف وَقد صَار إِلَى مَذْهَبنَا أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وجماهير الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَمن الْأَئِمَّة مَالك وَإِسْحَاق الْحَنْظَلِي وَأحمد بن حَنْبَل وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة وعلماء الْأَمْصَار كلهم، وَلَيْسَ مَعكُمْ فِي مذهبكم إِلَّا سُفْيَان وَابْن الْمُبَارك، وَقد أمرنَا بِاتِّبَاع الْأَعْظَم فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم ". سِيمَا فِيهَا هُوَ من شَعَائِر الْإِسْلَام.
قيل لَهُ: أما حَدِيث البُخَارِيّ فَلَيْسَ) فِيهِ ذكر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَلَا يكون فِيهِ حجَّة لاحْتِمَال أَن يكون الْأَمر من غَيره.
فَإِن قيل: قَالَ الْخطابِيّ: " وَقد زعم بعض أهل الْعلم أَن الْآمِر بذلك إِنَّمَا هُوَ (أَبُو بكر وَعمر) ، قَالَ: وَهَذَا تَأْوِيل فَاسد لِأَن بِلَالًا لحق بِالشَّام بعد موت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (واستخلف) سعد الْقرظ على الْأَذَان فِي مَسْجِد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
قيل لَهُ:
(وَكم من عائب قولا صَحِيحا ... وآفته من الْفَهم السقيم)

إِنَّمَا يفْسد هَذَا التَّأْوِيل إِذا ثَبت أَن بِلَالًا لحق بِالشَّام عقيب وَفَاة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، قبل أَن يسْتَخْلف أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ، وَأَنه لما عَاد إِلَى الْمَدِينَة لم يكن بهَا أحد من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَحِينَئِذٍ يفْسد التَّأْوِيل وَإِلَّا فَيحْتَمل أَنه أَمر بذلك بعد أَن اسْتخْلف

(1/206)


أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ لحق بِالشَّام بعد ذَلِك، أَو أمره بذلك بعض الْخُلَفَاء بعد أَن رَجَعَ من الشَّام وَقدم الْمَدِينَة.
فَإِن ثَبت أَن الْآمِر بذلك كَانَ هُوَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَيحْتَمل قَوْله أَن يشفع الْأَذَان بالصوت، فَيَأْتِي بصوتين صَوْتَيْنِ، ويفرد الْإِقَامَة فَيَأْتِي بِصَوْت صَوت.
وروى أَبُو دَاوُد: عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ لِبلَال: " إِذا أَذِنت فترسل وَإِذا أَقمت فأحدر ". والترسل: (الترتيل) ، والحدر، الْإِسْرَاع. فالمفهوم من حَدِيث بِلَال وَحَدِيث جَابر هَذَا أَن الْأَذَان يَنْبَغِي أَن يكون أمد وَأَرْفَع صَوتا من الْإِقَامَة، وَأَن الْأَذَان / يفصل بَين كَلِمَاته دون الْإِقَامَة، وَإِلَى هَذَا ذهب سُفْيَان الثَّوْريّ رَضِي الله عَنهُ.
(ذكر الْغَرِيب:)

حَيّ على الصَّلَاة: مَعْنَاهُ هَلُمَّ وَأَقْبل، وَفتحت الْيَاء لسكونها (وَسُكُون) مَا قبلهَا (كَمَا فِي) لَيْت وَلَعَلَّ. والفلاح: الْفَوْز والبقاء والنجاة والسحور أَيْضا. وَفِي الحَدِيث: " حَتَّى خفنا أَن يفوتنا الْفَلاح "، يَعْنِي السّحُور. فَمَعْنَى حَيّ (على) الْفَلاح: أقبل على النجَاة.

(1/207)


(بَاب يكره أَذَان الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَا يعرف الْوَقْت بِنَفسِهِ)

فَإِن قيل: (فقد) كَانَ ابْن أم مَكْتُوم رَضِي الله عَنهُ مُؤذن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَلَو كَانَ مَكْرُوها لما تَركه النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
قيل لَهُ: إِنَّمَا كَانَ يُؤذن بعد أَذَان بِلَال، فَكَانَ يعرف الْوَقْت بِأَذَان بِلَال رَضِي الله عَنهُ.
(بَاب يكره الْأَذَان على غير وضوء فِي رِوَايَة)

التِّرْمِذِيّ: عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا تؤذن إِلَّا متوضئا ". لَكِن هَذَا حَدِيث لم يرفعهُ ابْن وهب، لِأَن التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ عَن عبد الله بن وهب، عَن يُونُس، عَن ابْن شهَاب قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: " لَا يُنَادي بِالصَّلَاةِ إِلَّا متوضئ ". وَالزهْرِيّ لم يسمع من أبي هُرَيْرَة فَصَارَ الحَدِيث (مَوْقُوفا) مُرْسلا. وَوجه الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَن قِرَاءَة الْقُرْآن على غير وضوء غير

(1/208)


مَكْرُوهَة، فالأذان أولى أَن لَا يكره. وَإِلَى هَذَا ذهب سُفْيَان وَابْن الْمُبَارك (وَأحمد) رَحِمهم الله.
(بَاب لَا يُؤذن لصَلَاة قبل دُخُول وَقتهَا)

أَبُو دَاوُد: عَن شَدَّاد مولى عِيَاض بن عَامر، عَن بِلَال رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: (لَهُ) : " لَا تؤذن حَتَّى يستبين لَك الْفجْر هَكَذَا "، وَمد يَده عرضا.
وروى أَبُو دَاوُد: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن بِلَالًا أذن قبل طُلُوع الْفجْر فَأمره رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يرجع فينادي أَلا إِن العَبْد نَام (أَلا إِن العَبْد نَام) ، زَاد مُوسَى فِي حَدِيثه: فَرجع فَنَادَى أَلا إِن العَبْد نَام ".
فَإِن قيل: قَالَ أَبُو عِيسَى: " هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ، وَالصَّحِيح عَن ابْن عمر أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " وَلَو كَانَ هَذَا الحَدِيث صَحِيحا لم يكن لقَوْله: إِن بِلَالًا يُؤذن

(1/209)


بلَيْل. معنى، / لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمرهم فِيمَا يسْتَقْبل، وَلَو أَنه أمره بِإِعَادَة الآذان حِين أذن قبل طُلُوع الْفجْر لم يقل: إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل. قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب غير مَحْفُوظ وَأَخْطَأ فِيهِ حَمَّاد بن سَلمَة ". قيل لَهُ: لما كَانَ هَذَا الحَدِيث مُخَالفا لما يذهبان إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْوِيل يحملانه عَلَيْهِ، أدّى بهما فرط التعصب إِلَى أَن خبطا فِي دَفعه خبط عشواء، وَحكما بِأَنَّهُ غير مَحْفُوظ، وخطا (رَاوِيه) من غير دَلِيل، وَالطَّرِيق فِي التَّوْفِيق بَين الْأَخْبَار أَن نقُول إِن بِلَالًا كَانَ يُؤذن بلَيْل ثمَّ نَهَاهُ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن الْأَذَان قبل طُلُوع الْفجْر، على مَا شهد بِهِ حَدِيث أبي دَاوُد الَّذِي روينَاهُ فِي أول هَذَا الْبَاب، ثمَّ أذن قبل الْفجْر بَعْدَمَا نَهَاهُ، فَأمره أَن يُعِيد الْأَذَان. وَهَذَا أولى من أَن نحكم على عدل ثِقَة بالْخَطَأ (أَو نجْعَل) الْأَحَادِيث يدْفع بَعْضهَا بَعْضًا.
(بَاب يُؤذن للفائتة وَيُقِيم)

أَبُو دَاوُد: عَن عمرَان بن الْحصين رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ فِي مسير لَهُ، فَنَامُوا عَن صَلَاة الْفجْر فاستيقظوا بَحر الشَّمْس، فَارْتَفعُوا قَلِيلا حَتَّى

(1/210)


اسْتَقَلت الشَّمْس، ثمَّ أَمر مُؤذنًا فَأذن، فصلى رَكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر (ثمَّ أَقَامَ ثمَّ صلى الْفجْر) ".
وَقد روى هَذِه الْقِصَّة جمَاعَة على هَذَا الْوَجْه وَبَعْضهمْ لم يذكر الْأَذَان، لَكِن الْأَخْذ بِالزِّيَادَةِ أولى.
(بَاب لَا بَأْس أَن يُؤذن وَاحِد وَيُقِيم آخر وَفِي رِوَايَة يكره)

وَجه الرِّوَايَة الأولى: مَا روى أَبُو دَاوُد: عَن عبد الله بن زيد رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " أَرَادَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الْأَذَان أَشْيَاء لم يصنع مِنْهَا شَيْئا، وأري عبد الله بن زيد الْأَذَان فِي الْمَنَام، فَأتى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَأخْبرهُ فَقَالَ: ألقه على بِلَال، قَالَ: فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَأذن بِلَال، فَقَالَ: عبد الله أَنا رَأَيْته وَأَنا كنت أريده، قَالَ: فأقم أَنْت ".
وَجه الرِّوَايَة الثَّانِيَة: مَا روى التِّرْمِذِيّ: عَن زِيَاد بن الْحَارِث الصدائي

(1/211)


رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " أَمرنِي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن (أذن) فِي صَلَاة الْفجْر فَأَذنت، فَأَرَادَ بِلَال أَن يُقيم فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : / إِن أَخا صداء قد أذن، وَمن أذن فَهُوَ يُقيم ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " حَدِيث زِيَاد لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث الأفريقي، والأفريقي ضَعِيف عِنْد أهل الحَدِيث، ضعفه يحيى بن سعيد وَغَيره، وَقَالَ أَحْمد: لَا أكتب حَدِيث الأفريقي، قَالَ: وَرَأَيْت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل يُقَوي أمره وَيَقُول هُوَ مقارب الحَدِيث ".
(بَاب)

قَالَ أَصْحَابنَا رَحمَه الله: إِذا كَانَ مَسْجِد لَهُ أهل معروفون فصلوا فِيهِ أَو بَعضهم بِأَذَان وَإِقَامَة، كره لغَيرهم أَن يُعِيدُوا الْأَذَان وَالْإِقَامَة. قَالُوا: لِأَن الْإِطْلَاق هَكَذَا سَبَب لتقليل الْجَمَاعَة معنى، لِأَن الْجَمَاعَة إِذا كَانَت لَا تفوتهم لَا يَجْتَمعُونَ، وَلِأَن الْمَسْجِد إِذا كَانَ لَهُ إِمَام (ثَابت) ، فَفِي صَلَاة غَيره بِالْجَمَاعَة إِسْقَاط الخصيصة.
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه إِنَّمَا يكره إِذا كَانَ على سَبِيل الِاجْتِمَاع والتداعي، وَقَامَ مقَام (الإِمَام) الأول، أما إِذا أَقَامَ الصَّلَاة بِوَاحِد أَو اثْنَيْنِ فِي نَاحيَة الْمَسْجِد

(1/212)


لَا يكره، وَرُبمَا اسْتدلَّ لَهُ بِمَا روى التِّرْمِذِيّ: عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " جَاءَ رجل وَقد صلى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقَالَ: أَيّكُم يتجر على هَذَا، فَقَامَ رجل فصلى مَعَه ".
وروى أَبُو دَاوُد: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أبْصر رجلا يُصَلِّي وَحده، فَقَالَ: أَلا رجل يتَصَدَّق على هَذَا فَيصَلي مَعَه ".
لَكِن الْجَواب عَن هَذَا أننا نَحن راعينا حق إِمَام الْمَسْجِد، وَالْحق كَانَ للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فأسقطه.
فَإِن نَظرنَا إِلَى أَن الْمَعْنى إِسْقَاط الخصيصة، فللإمام الْمُخْتَص بِالْمَسْجِدِ (أَن) يَأْذَن لغيره بِالصَّلَاةِ.
وَإِن نَظرنَا إِلَى أَن الْمَعْنى فِيهِ تقليل الْجَمَاعَة، فَيجوز أَن (يَأْذَن) للْوَاحِد والاثنين وَلَا يَأْذَن للْجَمَاعَة الْكَثِيرَة، وَيحْتَمل أَنه لَو صلى فِيهِ جمَاعَة بِغَيْر أَذَان أَنه لَا يكره لِأَنَّهُ قَالَ: كره لغَيرهم أَن يُعِيدُوا الْأَذَان وَالْإِقَامَة.
(بَاب الْفَخْذ عَورَة)

أَبُو دَاوُد: عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " لَا تبرز فخذك

(1/213)


وَلَا تنظرن إِلَى فَخذ حَيّ / وَلَا ميت ".
فَإِن قيل: حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَوْم خَيْبَر حسر الْإِزَار عَن فَخذه حَتَّى أَنِّي أنظر إِلَى بَيَاض فَخذ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
قيل لَهُ: فقد روى أَحْمد بن حَنْبَل عَن جرهد: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رَآهُ قد كشف عَن فَخذه، فَقَالَ: غط فخذك، فَإِن الْفَخْذ من الْعَوْرَة ".
فَإِن قيل: قَالَ البُخَارِيّ: " إِن حَدِيث أنس أسْند من حَدِيث جرهد ".
قيل لَهُ: وَقد قَالَ: وَحَدِيث جرهد أحوط حَتَّى يخرج من اخْتلَافهمْ ".
(ذكر غَرِيبَة:)

جرهد: بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْهَاء ودال مُهْملَة، ذكره فِي الِاسْتِيعَاب وَقَالَ: " قيل إِنَّه ابْن خويلد، وَقيل ابْن رزام ابْن عدي الْأَسْلَمِيّ، وَهُوَ من أسلم، وكنيته أَبُو عبد الرَّحْمَن، يعد من أهل الصّفة، ثمَّ ذكر أَنه روى هَذَا الحَدِيث ثمَّ قَالَ: " وَلَا يكَاد يثبت لَهُ صُحْبَة ".

(1/214)


(بَاب الرّكْبَة من الْعَوْرَة)

الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عقبَة بن عَلْقَمَة قَالَ: سَمِعت عليا رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " الرّكْبَة من الْعَوْرَة ".
وَقَالَ البُخَارِيّ: " وَقَالَ أَبُو مُوسَى: غطى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رُكْبَتَيْهِ حِين دخل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ". .
(بَاب قدم الْمَرْأَة عَورَة فِي رِوَايَة)

أَبُو دَاوُد: عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ: " قلت يَا رَسُول الله أَتُصَلِّي

(1/215)


الْمَرْأَة فِي درع وخمار لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَار، قَالَ: نعم إِذا كَانَ سابغا يُغطي ظُهُور قدميها ".
فَإِن قيل: روى مَوْقُوفا على أم سَلمَة.
قيل لَهُ: الرَّاوِي قد يسند الحَدِيث وَقد يُفْتِي بِهِ.
(بَاب إِذا اشتبهت عَلَيْهِ الْقبْلَة فاجتهد فصلى ثمَّ علم أَنه أَخطَأ، فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ)

التِّرْمِذِيّ: عَن عَامر بن ربيعَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كُنَّا مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (فِي سفر) فِي لَيْلَة مظْلمَة فَلم ندر أَيْن الْقبْلَة فصلى كل (رجل) منا على حياله فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذكرنَا (ذَلِك) للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَنزلت: {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} . قَالَ

(1/216)


أَبُو عِيسَى: " هَذَا الحَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ، لَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيث (أَشْعَث) السمان، (وَأَشْعَث بن سعيد) أَبُو الرّبيع السمان يضعف فِي الحَدِيث، وَقد ذهب / أَكثر أهل الْعلم إِلَى هَذَا، قَالُوا: إِذا صلى فِي الْغَيْم لغير الْقبْلَة ثمَّ استبان لَهُ بَعْدَمَا صلى أَنه صلى لغير الْقبْلَة فَصلَاته جَائِزَة. وَبِه يَقُول سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق رَحْمَة الله عَلَيْهِم ". فالمطلوب بِالِاجْتِهَادِ عندنَا إِصَابَة جِهَة الْكَعْبَة وَإِلَيْهِ ذهب الثَّوْريّ رَحمَه الله تَعَالَى.
(بَاب إِذا افْتتح الصَّلَاة بِذكر غير التَّكْبِير أَجزَأَهُ)

قَالَ الله تَعَالَى: {وَذكر اسْم ربه فصلى} . وَالْمرَاد ذكر الرب لافتتاح الصَّلَاة، لِأَنَّهُ أعقب الصَّلَاة الذّكر، بِحرف يُوجب التعقيب، بِلَا فصل، وَذَلِكَ تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح، فقد شرع الله تَعَالَى الدُّخُول فِي الصَّلَاة بِمُطلق الذّكر.
فَإِن قيل: هَذَا الْمُطلق نقيده بِمَا روى التِّرْمِذِيّ: عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة، عَن عَليّ كرم الله وَجهه عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور، وتحريمها التَّكْبِير، وتحليلها التَّسْلِيم ".

(1/217)


قَالَ أَبُو عِيسَى: " هَذَا الحَدِيث أصح شَيْء رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب وَأحسن ".
قيل لَهُ: مدَار هَذَا الحَدِيث على عبد الله بن (مُحَمَّد بن) عقيل، وَقد كَانَ مَالك وَيحيى بن سعيد لَا يرويان عَنهُ، وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة: أَرْبَعَة من قُرَيْش لَا يرْوى عَنْهُم، وَذكر فيهم ابْن عقيل. وَقَالَ يحيى بن معِين: هُوَ ضَعِيف فِي كل أمره. وَقَالَ مُسلم: قلت ليحيى بن معِين: عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل أحب إِلَيْك أَو عَاصِم بن (عبيد الله) فَقَالَ: مَا أحب وَاحِدًا مِنْهُمَا فِي الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لين الحَدِيث، لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَلَا مِمَّن يحْتَج بحَديثه. وَقَالَ السَّعْدِيّ: يُوقف عَنهُ، (عَامَّة) مَا يرْوى غرائب. وَإِذا لم يَصح الحَدِيث لَا يجوز تَقْيِيد مُطلق الْكتاب بِهِ. وَالله أعلم.
(بَاب السَّلَام لَيْسَ بِفَرْض بل هُوَ وَاجِب، وَيخرج من الصَّلَاة بِلَفْظ غَيره وَلَا تبطل الصَّلَاة)

أَبُو دَاوُد: عَن (عبد الله بن عَمْرو) رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا قضى الإِمَام الصَّلَاة وَقعد فأحدث قبل أَن يتَكَلَّم فقد تمت صلَاته، و (صَلَاة) من كَانَ خَلفه مِمَّن أتم الصَّلَاة ".

(1/218)


التِّرْمِذِيّ: عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا أحدث - يَعْنِي الرجل - وَقد جلس فِي آخر صلَاته قبل / أَن يسلم فقد جَازَت صلَاته ".
فَإِن قيل: قَالَ التِّرْمِذِيّ: " وَهَذَا حَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيّ، وَقد اضْطَرَبُوا فِي إِسْنَاده ". قَالَ: " وَفِيه عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد - وَهُوَ الإفْرِيقِي - وَقد ضعفه بعض أهل الحَدِيث، مِنْهُم يحيى بن سعيد الْقطَّان، وَأحمد بن حَنْبَل ".
قيل لَهُ: قد ذكرنَا فِيمَا تقدم أَن البُخَارِيّ كَانَ يُقَوي أمره، وَيَقُول: هُوَ مقارب الحَدِيث، فَلم يسْقط الِاحْتِجَاج بِهِ، وَقد سكت أَبُو دَاوُد عَن هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ إِذا سكت عَن حَدِيث كَانَ عِنْده حسنا.
وَقد عضده، مَا روى أَبُو دَاوُد: عَن الْقَاسِم بن مخيمرة قَالَ: " أَخذ عَلْقَمَة بيَدي فَحَدثني أَن عبد الله بن مَسْعُود أَخذ (بِيَدِهِ) وَأَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَخذ بيد عبد الله فَعلمه التَّشَهُّد فِي الصَّلَاة، فَذكر مثل حَدِيث الْأَعْمَش: إِذا قلت هَذَا (أَو قضيت هَذَا) فقد تمت صَلَاتك ". إِن شِئْت أَن تقوم فَقُمْ، وَإِن شِئْت أَن تقعد فَاقْعُدْ ". فَهَذَا نَص فِي أَن السَّلَام لَيْسَ بِفَرْض.
وَإِن قيل فِي متن الحَدِيث: " فَإِذا قلت هَذَا فقد تمت صَلَاتك ". وَمَا بعده إِلَى آخر الحَدِيث لَيْسَ من كَلَام النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَإِنَّمَا هُوَ من قَول ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ

(1/219)


أدرج فِي الحَدِيث، وَقد بَينه شَبابَة بن سوار فِي رِوَايَته عَن زُهَيْر، وَفصل كَلَام ابْن مَسْعُود من كَلَام رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن ثَابت (بن ثَوْبَان) عَن الْحسن بن الْحر مفصلا مُبينًا.
قيل لَهُ: قد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، ومُوسَى بن دَاوُد الضَّبِّيّ، وَأَبُو النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم الْكِنَانِي، وَيحيى بن أبي بكير الْكرْمَانِي، وَيحيى بن يحيى النَّيْسَابُورِي، وَجَمَاعَة أخر. كَمَا رَوَاهُ (النفيل) مُتَّصِلا، وَرِوَايَة من رَوَاهُ مُنْفَصِلا لَا تدل قطعا أَنه من كَلَام ابْن مَسْعُود، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من كَلَام النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَحين رَوَاهُ مُنْفَصِلا كَانَ قد نَسيَه ثمَّ ذكره بعد فأسمعه إِيَّاه من غير إِعَادَة مَا قبله، فَظَنهُ السَّامع من كَلَام ابْن مَسْعُود، وَيحْتَمل أَنه تكلم بِهِ مُنْفَصِلا على سَبِيل الْفَتْوَى وَلم يضفه إِلَى / رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَظَنهُ السَّامع من كَلَامه، وَهَذَا أولى من أَن نجعله من كَلَام ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، وَإِلَّا لَكَانَ من أدرجه فِي كَلَام رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مخطئا، وَقد يتَطَرَّق هَذَا الْخَطَأ إِلَى جَمِيع رُوَاة (هَذَا) الحَدِيث، وَلَئِن كَانَ من كَلَام ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فَفِيهِ حجَّة، لِأَن قَول الصَّحَابِيّ عندنَا حجَّة سِيمَا ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ.
قَالَ الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله: " وَالَّذِي يدل على أَن ترك التَّسْلِيم لَيْسَ بمفسد للصَّلَاة أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] صلى الظّهْر خمْسا، فَلَمَّا أخبر بصنيعه ثنى رجله فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ، فقد خرج مِنْهَا إِلَى الْخَامِسَة لَا بِتَسْلِيم فَدلَّ ذَلِك أَن السَّلَام لَيْسَ من صلبها، أَلا ترى أَنه لَو كَانَ جَاءَ بالخامسة وَقد بَقِي عَلَيْهِ مِمَّا قبلهَا سَجْدَة كَانَ ذَلِك مُفْسِدا للأربع، لِأَنَّهُ خلطهن بِمَا لَيْسَ مِنْهُنَّ، فَلَو كَانَ السَّلَام وَاجِبا كوجوب سَجْدَة الصَّلَاة لَكَانَ حكمه أَيْضا كَذَلِك وَلكنه بِخِلَافِهِ فَهُوَ سنة ".

(1/220)


(بَاب إِذا كبر للافتتاح رفع يَدَيْهِ حذاء أُذُنَيْهِ)

مُسلم عَن مَالك بن الْحُوَيْرِث: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ إِذا كبر رفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بهما أُذُنَيْهِ ". فِي رِوَايَة: " حَتَّى يُحَاذِي بهما فروع أُذُنَيْهِ ". وروى أَبُو دَاوُد: عَن وَائِل بن حجر قَالَ: " رَأَيْت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حِين افْتتح (الصَّلَاة) رفع يَدَيْهِ (حِيَال) أُذُنَيْهِ، قَالَ: ثمَّ أتيتهم فرأيتهم يرفعون أَيْديهم إِلَى صُدُورهمْ فِي افْتِتَاح الصَّلَاة، وَعَلَيْهِم برانس وأكسية ". فَمَا روى من الرّفْع إِلَى حذاء مَنْكِبَيْه مَحْمُول على حَالَة الْعذر. وَإِلَى هَذَا ذهب سُفْيَان الثَّوْريّ.
(بَاب إِذا كبر وضع يَده الْيُمْنَى على الْيُسْرَى تَحت السُّرَّة)

التِّرْمِذِيّ: عَن قبيصَة بن هلب عَن أَبِيه قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يؤمنا فَيَأْخُذ شِمَاله بِيَمِينِهِ ". حَدِيث حسن.

(1/221)


الدَّارَقُطْنِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِنَّا معاشر الْأَنْبِيَاء أمرنَا أَن نمسك بأيماننا على شَمَائِلنَا فِي الصَّلَاة ".
أَحْمد بن حَنْبَل: عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " من السّنة وضع الْيَمين على الشمَال تَحت السُّرَّة ".
(بَاب وَإِذا وضع الْيَمين على الشمَال قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ. . إِلَى آخِره)

/ التِّرْمِذِيّ: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا افْتتح

(1/222)


الصَّلَاة قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وتبارك اسْمك، وَتَعَالَى جدك وَلَا إِلَه غَيْرك ". وَفِي سَنَده حَارِثَة وَقد تكلم فِيهِ من قبل حفظه.
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا افْتتح الصَّلَاة كبر ثمَّ رفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بإبهاميه أُذُنَيْهِ ثمَّ يَقُول: سُبْحَانَكَ (اللَّهُمَّ) وَبِحَمْدِك، وتبارك اسْمك، وَتَعَالَى جدك وَلَا إِلَه غَيْرك ". وَإِلَى هَذَا ذهب سُفْيَان وَأحمد وَإِسْحَاق رَحِمهم الله.
(ذكر مَا فِي هَذَا الحَدِيث من الْغَرِيب:)

(1/223)


قَالَ الزّجاج: " معنى سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك: (بحَمْدك سبحتك) . وَتَعَالَى جدك: علا جلالك وعظمتك، وَقيل ملكك وسلطانك، وَقيل غناؤك ".
(بَاب إِذا استعاذ بِاللَّه سمى الله سرا)

التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يفْتَتح الصَّلَاة بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.
مُسلم: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " صليت خلف النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَأبي بكر وَعمر (وَعُثْمَان) ، فَكَانُوا يستفتحون بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين، لَا يذكرُونَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي أول قِرَاءَة وَلَا فِي آخرهَا ".
التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن لعبد الله بن مُغفل قَالَ: " سمعني أبي وَأَنا أَقُول: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، فَقَالَ: " أَي بني إياك وَالْحَدَث، قَالَ: وَلم أر أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ أبْغض إِلَيْهِ الْحَدث فِي الْإِسْلَام يَعْنِي مِنْهُ، قَالَ: وَقد

(1/224)


صليت مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَمَعَ أبي بكر، (وَمَعَ) عمر، وَمَعَ عُثْمَان، فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يَقُولهَا، فَلَا تقلها، (إِذا كَبرت) فَقل: الْحَمد لله رب الْعَالمين ". حَدِيث حسن.
فَإِن قيل: فَهَذَا عبد الله بن مُغفل رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ من أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، قد جعل الْجَهْر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم حَدثا فِي الْإِسْلَام، (أفيدخل) هَذَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " إيَّاكُمْ ومحدثات الْأُمُور فَإِن كل مُحدث بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة ".
قلت: معَاذ الله، لَيْسَ هَذَا من ذَلِك الْقَبِيل، بل (هُوَ) مَحْمُول على أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] جهر بالبسملة، ثمَّ أخفاها حَتَّى مَاتَ وَكَذَلِكَ أَبُو بكر / وَعمر وَعُثْمَان، ثمَّ جهر بهَا فَسمى ذَلِك الْجَهْر حَدثا وبدعة، كَمَا سميت صَلَاة التَّرَاوِيح بِدعَة، لِأَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] صلاهَا بِالْجَمَاعَة ثَلَاث لَيَال ثمَّ تَركهَا فِي الْجَمَاعَة بَاقِي عمره، وَكَذَلِكَ أَبُو بكر، ثمَّ جمع عمر بن الْخطاب النَّاس لأَجلهَا على أبي بن كَعْب. لَكِن التَّرَاوِيح بِالْجَمَاعَة بِدعَة استحسنها الْمُسلمُونَ أَجْمَعُونَ، وَهَذِه استحسنها الْبَعْض وَلم يستحسنها الْأَكْثَرُونَ.

(1/225)


(بَاب قِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب وَاجِبَة وَلَيْسَ بفريضة)

قَالَ الله تَعَالَى: {فاقرؤا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} .
البُخَارِيّ وَمُسلم: وَغَيرهمَا عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] دخل الْمَسْجِد فَدخل (رجل) فصلى، ثمَّ جَاءَ فَسلم على رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَرد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (عَلَيْهِ السَّلَام) ، وَقَالَ: ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل، فَرجع (الرجل) فصلى كَمَا كَانَ يُصَلِّي، ثمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَسلم عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : وَعَلَيْك السَّلَام، ثمَّ قَالَ: ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل، حَتَّى فعل ذَلِك ثَلَاث مَرَّات، فَقَالَ الرجل: وَالَّذِي بَعثك (بِالْحَقِّ) مَا أحسن غير هَذَا فعلمني، فَقَالَ: إِذا قُمْت فِي الصَّلَاة فَكبر، ثمَّ اقْرَأ (بِمَا تيَسّر) مَعَك من الْقُرْآن، ثمَّ اركع حَتَّى تطمئِن رَاكِعا، ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تعتدل قَائِما، ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا، ثمَّ اجْلِسْ حَتَّى تطمئِن جَالِسا، ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا، ثمَّ افْعَل ذَلِك فِي صَلَاتك كلهَا ".

(1/226)


أَبُو دَاوُد: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ (لي) رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : اخْرُج فَنَادِ فِي الْمَدِينَة أَنه لَا صَلَاة إِلَّا بقرآن وَلَو بِفَاتِحَة الْكتاب ".
فَإِن قيل: (المُرَاد) بالمتيسر مَا زَاد على (الْفَاتِحَة) ، بِدَلِيل مَا روى أَبُو دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " أَمرنِي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن أنادي (أَنه) لَا صَلَاة إِلَّا (بِقِرَاءَة) فَاتِحَة الْكتاب فَمَا زَاد ".
وروى ابْن مَاجَه: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ فِي كل رَكْعَة الْحَمد لله وَسورَة فِي فَرِيضَة أَو غَيرهَا ".
وروى أَبُو دَاوُد: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " أمرنَا أَن نَقْرَأ / بِفَاتِحَة الْكتاب وَمَا تيَسّر ".
قيل لَهُ: لَو حملنَا الْآيَة الَّتِي تلونا (هَا) والْحَدِيث الَّذِي روينَاهُ على المتيسر بعد الْفَاتِحَة لزم أَن تكون قِرَاءَة مَا تيَسّر بعد الْفَاتِحَة فرضا أَيْضا، لثُبُوته بِمَا تلوناه من الْكتاب، وَبِمَا روينَاهُ من الحَدِيث، فَلَمَّا لم تكن السُّورَة وَلَا مَا تيَسّر بعد الْفَاتِحَة فرضا معينا كَذَلِك الْفَاتِحَة. ثمَّ نقُول هَذَا الحديثان يؤيدان مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، فَإنَّا نوجب الْفَاتِحَة ونوجب شَيْئا من الْقُرْآن بعْدهَا حسب وجوب الْفَاتِحَة، (وَصَارَ) قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام:

(1/227)


" لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكِتَابَة ". نَظِير قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي الْمَسْجِد ". أخرجه أَبُو دَاوُد، وَصَححهُ أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق. وَالْمرَاد نفي الْفَضِيلَة كَذَا هَذَا.
وَيُؤَيّد هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم لَا أَيْمَان لَهُم} ، مَعْنَاهُ: أَنه لَا أَيْمَان لَهُم وافية موثوق بهَا، وَلم ينف وجود الْأَيْمَان مِنْهُم رَأْسا، لِأَنَّهُ قد قَالَ (بدءا) : {وَإِن نكثوا أَيْمَانهم من بعد عَهدهم} ، وَعطف على ذَلِك أَيْضا: {أَلا تقاتلون قوما نكثوا أَيْمَانهم} ، فَثَبت أَنه لم يرد بقوله لَا أَيْمَان لَهُم، نفي الْأَيْمَان أصلا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا ذكرنَا. وَهَذَا يدل على جَوَاز إِطْلَاق لَفْظَة " لَا " وَالْمرَاد بهَا نفي الْفَضِيلَة دون الأَصْل، كَمَا ذكرنَا من النظير.

(1/228)


(بَاب إِذا قَالَ الإِمَام " وَلَا الضَّالّين " قَالَ آمين، ويقولها الْمُؤْتَم)

البُخَارِيّ وَمُسلم: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا أَمن الإِمَام فَأمنُوا، فَإِنَّهُ من وَافق تأمينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه ".
(بَاب إِذا أَمن الإِمَام وَالْمَأْمُوم أسر التَّأْمِين)

الدَّارَقُطْنِيّ: عَن وَائِل بن حجر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " صليت مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَسَمعته حِين قَالَ: غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين، قَالَ: آمين، فأخفى بهَا صَوته ".
فَإِن قيل: روى ابْن مَاجَه: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ إِذا قَالَ: " غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين، قَالَ آمين، حَتَّى يسْمعهَا أهل الصَّفّ الأول)

(1/229)


قيل لَهُ: هُوَ مَحْمُول على أَنه جهر بهَا ليعلمها النَّاس، وَلِأَنَّهُ دُعَاء / وَالسّنة فِي الدُّعَاء الْإخْفَاء، وَالدَّلِيل على أَن آمين دُعَاء قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام: {قد أجيبت دعوتكما} ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَة، وَعِكْرِمَة، وَمُحَمّد بن كَعْب، وَالربيع بن مُوسَى: " كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَدْعُو وَهَارُون يُؤمن، فسماهما الله داعيين، فَإِذا ثَبت أَنه دُعَاء فإخفاؤه أفضل من الْجَهْر بِهِ لقَوْله تَعَالَى: {ادعوا ربكُم تضرعا وخفية} .
(بَاب لَا تجب الْقِرَاءَة إِلَّا فِي رَكْعَتَيْنِ من الْفَرْض)

وَإِلَى هَذَا ذهب سُفْيَان الثَّوْريّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ اقْتِدَاء بعلي رَضِي الله عَنهُ. قَالَ ابْن الْمُنْذر: فقد روينَا عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ: " اقْرَأ فِي الْأَوليين وَسبح فِي الْأُخْرَيَيْنِ "، وَكفى (بِهِ) قدوة.

(1/230)


(بَاب لَا ترفع الْأَيْدِي عِنْد الرُّكُوع وَلَا بعد الرّفْع مِنْهُ)

مُسلم: عَن جَابر بن سَمُرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " خرج علينا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: مَا لي أَرَاكُم رافعي أَيْدِيكُم كَأَنَّهَا أَذْنَاب خيل شمس، اسكنوا فِي الصَّلَاة ".
التِّرْمِذِيّ: عَن عَلْقَمَة قَالَ: " قَالَ عبد الله بن مَسْعُود: أَلا أُصَلِّي بكم صَلَاة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فصلى فَلم يرفع يَدَيْهِ إِلَّا فِي أول مرّة ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " هَذَا حَدِيث حسن، وَبِه يَقُول غير وَاحِد من أهل الْعلم من أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَول سُفْيَان وَأهل الْكُوفَة ".
أَبُو دَاوُد: عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " رَأَيْت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]

(1/231)


رفع يَدَيْهِ حِين افْتتح الصَّلَاة، ثمَّ لم يرفعهما حَتَّى انْصَرف ". فِي سَنَده مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى.
الطَّحَاوِيّ: " عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: (ترفع الْأَيْدِي فِي سبع مَوَاطِن) فِي افْتِتَاح الصَّلَاة، وَعند الْبَيْت، وعَلى الصَّفَا، و (على) الْمَرْوَة، وبعرفات، و (بِالْمُزْدَلِفَةِ) وَعند الْجَمْرَتَيْن ". " وَعنهُ: عَن سُفْيَان، (عَن الْمُغيرَة) قَالَ: " قلت لإِبْرَاهِيم: حَدِيث وَائِل رَضِي الله عَنهُ (أَنه) رأى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يرفع يَدَيْهِ إِذا افْتتح الصَّلَاة، وَإِذا ركع، وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع، فَقَالَ: إِن كَانَ وَائِل رَآهُ مرّة يرفع / فقد رَآهُ عبد الله خمسين مرّة لَا يفعل ذَلِك ".
وَعنهُ: عَن عَمْرو بن مرّة قَالَ: " دخلت مَسْجِد حَضرمَوْت فَإِذا عَلْقَمَة بن وَائِل يحدث عَن أَبِيه أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يرفع يَدَيْهِ قبل الرُّكُوع وَبعده، فَذكرت ذَلِك (لإِبْرَاهِيم) ، فَغَضب، فَقَالَ: رَآهُ هُوَ وَلم يره ابْن مَسْعُود وَلَا أَصْحَابه ".
قلت: وَحَدِيث الرّفْع يحْتَمل أَنه مَنْسُوخ.

(1/232)


يدل عَلَيْهِ مَا روى البُخَارِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: " كَانَ إِذا دخل فِي الصَّلَاة كبر وَرفع يَدَيْهِ، وَإِذا ركع رفع يَدَيْهِ، وَإِذا قَالَ سمع الله لمن حَمده رفع يَدَيْهِ، وَإِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ، وَرفع ذَلِك ابْن عمر إِلَى نَبِي الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . (فَلَمَّا كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) يرفع يَدَيْهِ إِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ، ثمَّ لم يبْق مَشْرُوعا، فَكَذَلِك الرّفْع عِنْد الرُّكُوع، وَالرَّفْع مِنْهُ، كَانَ مَشْرُوعا (ثمَّ ترك) (جمعا) بَين أَحَادِيث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِقدر الْإِمْكَان، وأحاديثنا تَقْتَضِي (النَّهْي عَن الرّفْع) وَمَا اسْتدلَّ بِهِ غَيرنَا من الْأَحَادِيث تَقْتَضِي النّدب، أَو الْإِبَاحَة فَكَانَ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أولى.
وَقد روى الطَّحَاوِيّ: عَن أبي بكر بن عَيَّاش قَالَ: " مَا رَأَيْت فَقِيها قطّ يرفع يَدَيْهِ إِلَّا فِي التَّكْبِيرَة الأولى ".
قَالَ الطَّحَاوِيّ: " أَجمعُوا أَن التَّكْبِيرَة الأولى مَعهَا رفع، وَالتَّكْبِيرَة بَين السَّجْدَتَيْنِ لَا رفع مَعهَا، وَالتَّكْبِيرَة الأولى فرض لَا تُجزئ الصَّلَاة إِلَّا بهَا، وَالتَّكْبِيرَة بَين السَّجْدَتَيْنِ " سنة، وَالتَّكْبِير للرُّكُوع وَالسُّجُود سنة، فَكَانَ التَّكْبِير بَين السَّجْدَتَيْنِ ".
قَالَ الْبَغَوِيّ: " وَمذهب الشَّافِعِي اتِّبَاع الحَدِيث إِذا ثَبت، وَقد ثَبت رفع

(1/233)


الْيَدَيْنِ (عِنْد الْقيام من الرَّكْعَتَيْنِ) ".
قلت: " وَلم يعْمل بِهِ، فَمَا أجَاب عَنهُ فَهُوَ جَوَاب لنا عَن الرّفْع عِنْد الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ ".
(ذكر مَا فِيهِ من الْغَرِيب:)

شمس الْفرس يشمس: إِذا منع ظَهره.
(بَاب إِذا قَالَ الإِمَام سمع الله لمن حَمده قَالَ الْمُؤْتَم رَبنَا لَك الْحَمد)

البُخَارِيّ وَمُسلم: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا قَالَ الإِمَام سمع الله لمن / حَمده فَقولُوا: اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد، فَإِنَّهُ من وَافق قَوْله قَول الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه ". وروى هَذَا الحَدِيث بواو رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَالرِّوَايَة بِغَيْر وَاو أولى، لِأَن الْوَاو للْعَطْف، وَلَيْسَ من التسميع شَيْء

(1/234)


(يعْطف) . وَمعنى سمع الله: ثَنَاء وحث على الْحَمد بتحقيق الْإِجَابَة، وَالْعرب تَقول اسْمَع (دُعَاء) أَي أجبه.
(بَاب إِذا سجد بَدَأَ بركبتيه ثمَّ بيدَيْهِ ثمَّ بِوَجْهِهِ)

التِّرْمِذِيّ: عَن وَائِل بن حجر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " رَأَيْت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا سجد يضع رُكْبَتَيْهِ قبل يَدَيْهِ، وَإِذا نَهَضَ رفع يَدَيْهِ قبل رُكْبَتَيْهِ ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم ".
(بَاب إِذا سجد وضع وَجهه بَين كفيه)

أَبُو دَاوُد: عَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه. فَذكر حَدِيثا قَالَ فِيهِ: " فَلَمَّا سجد - يَعْنِي النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَقعت ركبتاه إِلَى الأَرْض قبل أَن يقعا كَفاهُ، فَلَمَّا سجد وضع جَبهته بَين كفيه ".

(1/235)


التِّرْمِذِيّ: عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: " قلت للبراء بن عَازِب رَضِي الله عَنهُ أَيْن كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يضع وَجهه إِذا سجد؟ فَقَالَ: بَين كفيه ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " حَدِيث الْبَراء حَدِيث حسن غَرِيب ".
(بَاب إِذا سجد على أَنفه دون جَبهته أجزاه)

البُخَارِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أمرت أَن أَسجد على سَبْعَة أعظم، الْجَبْهَة وَأَشَارَ بِيَدِهِ على أَنفه، وَالْيَدَيْنِ، والركبتين، وأطراف الْقَدَمَيْنِ ".
فَإِن قيل: روى التِّرْمِذِيّ: عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ إِذا سجد أمكن أَنفه وجبهته الأَرْض ". حَدِيث حسن صَحِيح.
قيل لَهُ: وَالْأَفْضَل أَن يفعل كَذَلِك.

(1/236)


(بَاب السُّجُود على الْيَدَيْنِ والركبتين سنة وَلَيْسَ بِوَاجِب)

أما السّنة: فَلَمَّا روى مُسلم: عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أَنه سمع رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " إِذا سجد العَبْد سجد مَعَه سَبْعَة آرَاب، وَجهه، وَكَفاهُ، وَركبَتَاهُ، وَقَدمَاهُ ".
وَأما أَنه لَيْسَ بِوَاجِب: فَلَمَّا روى البُخَارِيّ وَمُسلم: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَنه رأى عبد الله بن الْحَارِث يُصَلِّي وَرَأسه معقوص من وَرَائه، فَقَامَ فَجعل يحله، / فَلَمَّا انْصَرف أقبل إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ: مَالك (ورأسي) ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: إِنَّمَا مثل هَذَا مثل الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مكتوف ". وَصَلَاة معقوص الشّعْر جَائِزَة (فَكَذَا) صَلَاة المكتوف.

(1/237)


(بَاب إِن سجد على كور عمَامَته أَو فَاضل ثَوْبه جَازَ)

البُخَارِيّ وَمُسلم: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كُنَّا نصلي مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (فِي شدَّة الْحر) ، فَإِذا لم يسْتَطع أَحَدنَا أَن يُمكن جَبهته من الأَرْض بسط ثَوْبه فَسجدَ عَلَيْهِ ".
وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث: أَن لَفْظَة ثَوْبه تعم الْمُتَّصِل بِهِ والمنفصل عَنهُ، وَالْغَالِب أَنه لم يكن عَلَيْهِم إِلَّا ثوب وَاحِد، وَلِهَذَا لما سَأَلُوا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد قَالَ: " أوكلكم يجد ثَوْبَيْنِ ". والبسط فِي حَالَة الصَّلَاة لَا يكون فِي الْغَالِب إِلَّا فِي الْمُتَّصِل بِهِ الملبوس.
وَيُؤَيّد هَذَا مَا روى البُخَارِيّ: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كُنَّا نصلي مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَيَضَع أَحَدنَا طرف الثَّوْب من شدَّة الْحر فِي مَكَان السُّجُود ". وَإِذا جَازَ هَذَا فِي فَاضل الثَّوْب، جَازَ فِي كور الْعِمَامَة، لِأَن أَمرهمَا وَاحِد.
قَالَ البُخَارِيّ: " وَقَالَ الْحسن: كَانَ الْقَوْم يَسْجُدُونَ على الْعِمَامَة والقلنسوة ويداه فِي كمه ".

(1/238)


(بَاب الطُّمَأْنِينَة فِي أَفعَال الصَّلَاة وَاجِبَة وَلَيْسَت بفريضة)

قَالَ الله تَعَالَى: {ارْكَعُوا واسجدوا} وأصل الرُّكُوع وَالسُّجُود الخضوع والتذلل والانقياد لأمر الله تَعَالَى: وَقيل: كَانَ سُجُود أَبَوي يُوسُف لَهُ انحناء، (وَيُطلق السُّجُود) وَيُرَاد بِهِ الميلان، (فَيُقَال) : سجدت النَّخْلَة إِذا مَالَتْ، وَقد قرن الله تَعَالَى: (الخر) - وَهُوَ الانحطاط - بِالسُّجُود فَقَالَ: {خروا لَهُ سجدا} ، وَقَالَ تَعَالَى: {يخرون للأذقان - أَي للوجوه - سجدا} ، فَبَان بِهَذَا أَن الرُّكُوع وَالسُّجُود ميلان، لَكِن ميلان السُّجُود فَوق ميلان الرُّكُوع، وَهُوَ وضع الْجَبْهَة على الأَرْض، فتعلقت الركنية (بالأدنى) مِنْهُمَا.
فَإِن قيل: فَمَا الْجَواب عَن حَدِيث الْأَعرَابِي الَّذِي رويته فِي بَاب قِرَاءَة الْفَاتِحَة، فَإِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ لَهُ: " ارْجع فصل / فَإنَّك لم تصل ". وروى أَبُو دَاوُد: عَن أبي مَسْعُود البدري رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : لَا تُجزئ صَلَاة الرجل حَتَّى يُقيم ظَهره فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود ".

(1/239)


قيل لَهُ: أما حَدِيث الْأَعرَابِي فقد رَوَاهُ القعْنبِي، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ فِي آخِره: " فَإِذا فعلت هَذَا فقد تمت صَلَاتك، وَمَا أنقصت من هَذَا فَإِنَّمَا أنقصته من صَلَاتك ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ فِيهِ: " فَارْجِع فصل فَإنَّك لم تصل فعاف النَّاس ذَلِك وَكبر عَلَيْهِم أَن يكون من أخف صلَاته لم يصل، فَقَالَ الرجل فِي آخر ذَلِك: فأرني وَعَلمنِي فَإِنَّمَا أَنا بشر أُصِيب وأخطئ. ثمَّ قَالَ فِي آخِره: فَإِذا فعلت ذَلِك فقد تمت صَلَاتك، وَإِن انتقصت مِنْهُ شَيْئا انتقصت من صَلَاتك. قَالَ: وَكَانَ هَذَا أَهْون عَلَيْهِم من الأولى أَنه من انْتقصَ من ذَلِك شَيْئا انْتقصَ من صلَاته وَلم تذْهب كلهَا ".
وَهَذَا من أقوى الْحجَج فِي صِحَة الصَّلَاة إِذا ترك الطُّمَأْنِينَة، وَلَو لم تكن صَلَاة مُعْتَبرَة لمَنعه النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (عَن إِتْمَامهَا) وَلما تَركه إِلَى أَن أتمهَا، لِأَنَّهَا لَو كَانَت فرضا لبطلت صلَاته بِتَرْكِهَا، وإتمامها بعد ذَلِك يكون حَرَامًا، لكَونه عَبَثا ولغواً، فَكَانَ يجب على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَنعه (إِذْ) كَانَ يرَاهُ يفعل ذَلِك، وَحَيْثُ لم يمنعهُ، وَتَركه حَتَّى أتمهَا، دلّ أَن الطُّمَأْنِينَة لَيْسَ بِفَرْض، وَإِنَّمَا أمره بِالْإِعَادَةِ لجبر النُّقْصَان لتعذر جبره بسجود السَّهْو، لِأَنَّهُ كَانَ عَامِدًا، وَلَو تَركه سَاهِيا وَخرج من الصَّلَاة بِفعل مَا ينافيها (لم يسْجد) للسَّهْو، وَإِنَّمَا قَالَ: لم تصل، لعدم كمالها وتفاحش نقصانها، وَأما حَدِيث أبي دَاوُد: فَالْمُرَاد بِعَدَمِ الْإِجْزَاء عدم الْكَمَال، أَي لَا تجزيه عَن الْفَرْض وَالسّنة لَا أَنَّهَا بَاطِلَة.

(1/240)


(بَاب إِذا رفع رَأسه من السَّجْدَة الثَّانِيَة فِي الرَّكْعَة الأولى نَهَضَ على صُدُور قَدَمَيْهِ)

التِّرْمِذِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ينْهض (فِي الصَّلَاة) على صُدُور قَدَمَيْهِ ".
فَإِن قيل: روى التِّرْمِذِيّ: عَن مَالك بن الْحُوَيْرِث / اللَّيْثِيّ رَضِي الله عَنهُ: " أَنه رأى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يُصَلِّي، فَإِذا كَانَ فِي وتر من صلَاته لم ينْهض حَتَّى يَسْتَوِي جَالِسا ". حَدِيث حسن صَحِيح.
قيل لَهُ: هَذَا مَحْمُول على حَالَة الْكبر.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: " ثمَّ رَأينَا الرجل إِذا خرج فِي صلَاته من حَال إِلَى حَال اسْتَأْنف ذكرا فِي جَمِيع صلَاته، وَهُوَ هَهُنَا لَا يكبر حَتَّى يَسْتَوِي قَائِما، فَلَو كَانَ بَين قِيَامه وَسُجُوده جُلُوس لاحتاج إِلَى التَّكْبِير إِذا رفع رَأسه من السُّجُود، وتكبير آخر إِذا نَهَضَ للْقِيَام، (فَلَمَّا) لم يُؤمر بذلك ثَبت أَن لَا قعُود ليتفق حكم سَائِر الصَّلَاة ". وَإِلَى هَذَا ذهب مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق رَحِمهم الله.

(1/241)


(بَاب إِذا رفع رَأسه من السَّجْدَة الثَّانِيَة فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة افترش رجله الْيُسْرَى فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَنصب الْيُمْنَى، وَكَذَا فِي آخر الصَّلَاة)

التِّرْمِذِيّ: عَن وَائِل بن حجر قَالَ: " قدمت الْمَدِينَة، قلت لأنظرن إِلَى صَلَاة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَلَمَّا جلس - يَعْنِي للتَّشَهُّد - افترش رجله الْيُسْرَى، وَوضع يَده الْيُسْرَى - يَعْنِي على فَخذه الْيُسْرَى - وَنصب رجله الْيُمْنَى ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ، وَابْن الْمُبَارك، وَأهل الْكُوفَة ". وَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من التورك فِي آخر الصَّلَاة. إِن صَحَّ فَهُوَ مَحْمُول على حَالَة الْكبر. كَمَا كَانَ ابْن عمر يتربع (فِي الصَّلَاة) فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: " إِن رجلاي لَا تحملاني ".
(وروى) الطَّحَاوِيّ: عَن أبي صَالح، عَن عطاف بن خَالِد، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء، عَن رجل: " أَنه وجد عشرَة من أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]

(1/242)


جَلَسُوا، فَذكر نَحوا من حَدِيث أبي عَاصِم سَوَاء - يَعْنِي فِي التورك - ".
قَالَ أَبُو جَعْفَر: " فقد فسد بِهَذَا حَدِيث أبي حميد، لِأَنَّهُ صَار عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن رجل، وَأهل الْإِسْنَاد لَا يحتجون بِمثل هَذَا، فَإِن ذكر ضعف العطاف (فعبد الحميد) أَضْعَف، مَعَ أَنهم لَا يطرحون حَدِيث العطاف كُله، وَإِنَّمَا يَزْعمُونَ

(1/243)


أَن حَدِيثه فِي الْقَدِيم صَحِيح كُله، وَحَدِيثه فِي الآخر قد دخله شَيْء، هَكَذَا قَالَ يحيى بن معِين فِي كِتَابه. وَأَبُو صَالح سَمَاعه من العطاف قديم جدا، فقد دخل ذَلِك فِيمَا (صَحَّ) من حَدِيثه ".
وَإِلَى هَذَا ذهب سُفْيَان الثَّوْريّ رَحمَه الله.
(بَاب الْمُخْتَار تشهد ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ)

البُخَارِيّ: عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كُنَّا إِذا كُنَّا مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الصَّلَاة، قُلْنَا: السَّلَام على الله من عباده، السَّلَام على فلَان وَفُلَان، فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : لَا تَقولُوا السَّلَام على الله فَإِن الله هُوَ السَّلَام، وَلَكِن قُولُوا التَّحِيَّات لله، والصلوات والطيبات، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين، فَإِنَّكُم إِذا قُلْتُمْ ذَلِك أصَاب كل عبد فِي السَّمَاء أَو بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، ثمَّ (ليتخير) من الدُّعَاء (أعجبه إِلَيْهِ) فيدعو بِهِ ".
قَالَ الْخطابِيّ (بعد) ذكر الرِّوَايَات فِي التَّشَهُّد: " وأوضح هَذِه

(1/244)


الرِّوَايَات) وأشهرها رجَالًا تشهد ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، وَإِنَّمَا ذهب الشَّافِعِي إِلَى تشهد ابْن عَبَّاس للزِّيَادَة الَّتِي فِيهِ وَهِي قَوْله: " المباركات "، ولموافقته الْقُرْآن وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَسَلمُوا على أَنفسكُم تَحِيَّة من عِنْد الله مباركة طيبَة} ، وَإِسْنَاده جيد وَرِجَاله مرضيون ".
قلت: وَذكر أَصْحَابنَا رَحِمهم الله أَيْضا (نوعا) من التَّرْجِيح، فَقَالُوا: فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود الْأَمر وَأقله الِاسْتِحْبَاب، و (فِيهِ) الْألف وَاللَّام فِي " السَّلَام " وَهِي للاستغراق، وَزِيَادَة الْوَاو وَهِي لتحديد الْكَلَام، - كَمَا فِي الْقسم - وتأكيد التَّعْلِيم (فَإِن) فِي حَدِيثه من طَرِيق أبي دَاوُد: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَخذ بيد ابْن مَسْعُود فَعلمه التَّشَهُّد ". وَإِلَى هَذَا ذهب سُفْيَان الثَّوْريّ وَأحمد بن حَنْبَل رحمهمَا الله.
شرح أَلْفَاظ التَّشَهُّد: التَّحِيَّات لله، مَعْنَاهُ الْملك لله، وَقيل: (الْبَقَاء لله، وَلِهَذَا يُقَال حياك الله أَي أبقاك الله، وَقد تسْتَعْمل التَّحِيَّة بِمَعْنى السَّلَام، وَقيل) : مَعْنَاهُ أَسمَاء الله تَعَالَى، وَهُوَ الْوَاحِد الْأَحَد الْفَرد الصَّمد، فَيكون مَعْنَاهُ هَذِه الْأَسْمَاء لله خَاصَّة.

(1/245)


الصَّلَوَات لله: (مَعْنَاهُ الرَّحْمَة) لله على عباده، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة} .
فَإِن قيل: إِذا كَانَ معنى الصَّلَاة الرَّحْمَة فَكيف عطف الرَّحْمَة على الصَّلَاة، وَالشَّيْء لَا يعْطف على نَفسه.
قيل لَهُ: قد يعْطف الشَّيْء على نَفسه إِذا اخْتلف / اللفظان، وَقَالَ بَعضهم: معنى الصَّلَوَات: الْأَدْعِيَة لله. الطَّيِّبَات: مَعْنَاهُ الطَّيِّبَات من الْكَلِمَات لله تَعَالَى، يُرِيد بِهِ التَّسْبِيح والتهليل والتحميد والتوحيد. ذكر بعض هَذَا الْخطابِيّ وَذكر بعضه الْبَغَوِيّ.
(بَاب إِذا جلس للتَّشَهُّد بسط أَصَابِع يَدَيْهِ)

التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ إِذا جلس فِي الصَّلَاة وضع يَده الْيُمْنَى على رُكْبَتَيْهِ، وَرفع (إصبعه) الَّتِي تلِي الْإِبْهَام يَدْعُو بهَا، وَيَده الْيُسْرَى على ركبته باسطها عَلَيْهَا ".

(1/246)


(بَاب إِذا فرغ من التَّشَهُّد الأول لَا يَأْتِي بِشَيْء من الذّكر بعده)

أَبُو دَاوُد: عَن أبي عُبَيْدَة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَنه كَانَ (يقْعد) فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين كَأَنَّهُ على الرضف. قَالَ: قُلْنَا حَتَّى يقوم؟ قَالَ: حَتَّى يقوم ". الرضف: الْحِجَارَة المحماة.
(بَاب تسْتَحب الصَّلَاة على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي التَّشَهُّد الْأَخير وَلَا تجب)

قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانُوا يرَوْنَ التَّشَهُّد كَافِيا من الصَّلَاة على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَلَو كَانَت وَاجِبَة لعلمها للأعرابي حِين علمه الصَّلَاة، ولعلمهما لِابْنِ مَسْعُود حِين علمه التَّشَهُّد. فَإِن قيل: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا} أَمر

(1/247)


(بهَا) ، وَالْأَمر ظَاهر فِي الْوُجُوب، فَلَا بُد من حمله على وَجه تكون الصَّلَاة عَلَيْهِ وَاجِبَة، وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا فِي الصَّلَاة وَإِلَّا فَفِي غَيرهَا يكون ندبا.
قيل لَهُ: هَذَا أَمر وَالْأَمر لَا يَقْتَضِي التّكْرَار، وَقد ذهب بعض أَصْحَابنَا (إِلَى) أَن الصَّلَاة على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تجب خَارج الصَّلَاة فِي الْعُمر مرّة وَاحِدَة، (وَالْمُخْتَار) أَنَّهَا تجب كلما ذكر [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . كَذَا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ رَحْمَة الله عَلَيْهِ.
(بَاب (إِذا فرغ) من التَّشَهُّد (الآخر) سلم عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله)

التِّرْمِذِيّ: عَن أبي الْأَحْوَص، عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " (أَنه كَانَ يسلم) عَن يَمِينه وَعَن (يسَاره) ، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله ". هَذَا حَدِيث (حسن) صَحِيح.

(1/248)


(بَاب لَا تجب الْقِرَاءَة على الْمَأْمُوم لَا فِي صَلَاة سر وَلَا جهر)

مُسلم: / عَن عَطاء بن يسَار أَنه أخبرهُ أَنه سَأَلَ زيد بن ثَابت عَن الْقِرَاءَة مَعَ الإِمَام فَقَالَ: " لَا قِرَاءَة مَعَ الإِمَام فِي شَيْء ". وَكفى بزيد بن ثَابت قدوة.
وروى التِّرْمِذِيّ: عَن أبي نعيم وهب بن كيسَان أَنه سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: " من صلى رَكْعَة لم يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن فَلم يصل إِلَّا أَن يكون وَرَاء الإِمَام "
قَالَ ابْن عبد الْبر: رَوَاهُ يحيى بن سَلام صَاحب التَّفْسِير عَن مَالك، عَن أبي نعيم وهب بن كيسَان، عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
وَحكى الْخطابِيّ: " أَن عبد الله بن شَدَّاد روى مُرْسلا عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة ". والمرسل عندنَا حجَّة.
فَإِن قيل: روى فِي حَدِيث سَمُرَة: " كَانَ لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سكتتان، سكتة بعد الدُّخُول فِي الصَّلَاة، وسكتة بعد الْقِرَاءَة ". وَلَا فَائِدَة فِي ذَلِك إِلَّا ليقْرَأ الْمُؤْتَم.

(1/249)


قيل لَهُ: يجوز أَن يكون سكت لِئَلَّا تتصل الْقِرَاءَة بِالتَّكْبِيرِ، فيختلط الْقُرْآن بِغَيْرِهِ. وروى الطَّحَاوِيّ، عَن يُونُس، عَن ابْن وهب أَن مَالِكًا حَدثهُ، عَن نَافِع أَن عبد الله بن عمر كَانَ إِذا سُئِلَ هَل يقْرَأ (أحد) خلف الإِمَام فَيَقُول: " إِذا صلى
أحدكُم خلف الإِمَام فحسبه قِرَاءَة الإِمَام ". (وَفِي مُسلم قَالَ: " وَفِي حَدِيث) جرير، عَن سُلَيْمَان بن (الْمثنى) التَّيْمِيّ، عَن قَتَادَة، من الزِّيَادَة: وَإِذا قَرَأَ فأنصتوا. قَالَ أَبُو بكر ابْن أُخْت أبي النَّضر فِي هَذَا الحَدِيث - أَي (طعن) - فَقَالَ مُسلم: (تُرِيدُ) أحفظ من سُلَيْمَان؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: فَحَدِيث أبي هُرَيْرَة؟ (فَقَالَ: هُوَ صَحِيح) يَعْنِي: - وَإِذا قَرَأَ فأنصتوا -. تَمام الحَدِيث الَّذِي فِيهِ: إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ. فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي صَحِيح. فَقَالَ: لم لم تضعه هَهُنَا. فَقَالَ: لَيْسَ كل شَيْء عِنْدِي صَحِيح وَضعته هَهُنَا، وَإِنَّمَا وضعت هَهُنَا مَا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ ".

(1/250)


(بَاب يكره إِمَامَة الْأَعْمَى)

(لِأَنَّهُ لَا يَتَّقِي النَّجَاسَة) ، (قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} . فَمن سوى بَينهمَا فقد خَالف نَص الْكتاب، وَهَذَا نَظِير قَوْله تَعَالَى: {هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} ، وأجمعنا أَنه إِذا اجْتمع الْعَالم وَالْجَاهِل قدم الْعَالم، فَكَذَا إِذا اجْتمع / الْأَعْمَى والبصير قدم الْبَصِير.
فَإِن قَالَ الْقَائِل: أَنا أَقُول بِأَن الْأَعْمَى أولى، لِأَنَّهُ لَا يرى مَا يلهيه، وَلست بمخالف للْكتاب لِأَنِّي لم أسو بَينهمَا.
قيل لَهُ: إِن كنت لم تخَالفه لفظا فقد خالفته معنى، فَإِن الْآيَة مَا سيقت إِلَّا لبَيَان أَن الْأَعْمَى أحط رُتْبَة من الْبَصِير، وَأَنت قد رفعت رتبته على الْبَصِير فقد خَالَفت الْكتاب، ثمَّ أَقُول بِأَن الْبَصِير أولى لِأَنَّهُ يتَجَنَّب النَّجَاسَة الَّتِي تفْسد الصَّلَاة، وَالْأَعْمَى يتْرك النّظر إِلَى مَا يلهيه وَذَلِكَ لَا يفْسد الصَّلَاة، وَهَذَا اخْتِيَار الشَّيْخ أبي إِسْحَاق صَاحب الْمُهَذّب من أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله، و (هَذَا الْكَلَام) ألحقته بِهَذَا الْكتاب (بعد أَن سمعته مرّة وَاحِدَة) .
فَإِن قيل: روى أَبُو دَاوُد: عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] اسْتخْلف ابْن أم مَكْتُوم يؤم النَّاس وَهُوَ أعمى. وَلَيْسَ من الْجَائِز أَن يُقَال: إِنَّمَا فعل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]

(1/251)


ذَلِك بَيَانا للْجُوَاز، فَإِن الْجَوَاز كَانَ يُسْتَفَاد من الصَّلَاة خَلفه مرّة وَاحِدَة أَو مرَّتَيْنِ. وَقد حكى النمري أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اسْتَخْلَفَهُ على الْمَدِينَة ثَلَاث عشرَة مرّة، واستخلفه عمر بن الْخطاب أَيْضا فِي حجَّة الْوَدَاع، فَلَو كَانَت الصَّلَاة خَلفه مَكْرُوهَة لما فعله النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
قيل لَهُ: من (الْمُحْتَمل) أَن ابْن أم مَكْتُوم كَانَ لَهُ من يُرَاعِي حَاله ويحرسه من أَن تصيبه النَّجَاسَة.
(بَاب صَلَاة الْجَمَاعَة سنة مُؤَكدَة)

أما أَنَّهَا سنة: فَلَمَّا روى البُخَارِيّ وَمُسلم، عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " صَلَاة الْجَمَاعَة أفضل من صَلَاة الْفَذ بِسبع وَعشْرين دَرَجَة ".
وَأما أَنَّهَا مُؤَكدَة: فَلَمَّا روينَا (عَنْهُمَا) ، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقد هَمَمْت أَن آمُر بحطب فيحتطب، ثمَّ آمُر بِالصَّلَاةِ فَيُؤذن (لَهَا) ، ثمَّ آمُر رجَالًا يؤم النَّاس، ثمَّ أُخَالِف إِلَى رجال لَا يشْهدُونَ

(1/252)


الْجَمَاعَة فَأحرق عَلَيْهِم بُيُوتهم، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو يعلم أحدهم أَنه يجد عظما سمينا أَو مرماتين حسنتين لشهد الْعشَاء " /.
وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين: أَنه أثبت (لصَلَاة الْوَاحِد) فضلا، وهم بالتحريق وَلم يحرق، وَإِنَّمَا أخرجه مخرج الْوَعيد لِلْمُنَافِقين الَّذين كَانُوا يتخلفون عَن الْجَمَاعَة وَالْجُمُعَة.
(ذكر مَا فِي الْحَدِيثين من الْغَرِيب:)

الْفَذ: الْفَرد. قَالَه الْجَوْهَرِي. مرماتين: بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا وَرَاء سَاكِنة وَمِيم ثَانِيَة وَألف وتاء مُعْجمَة بِاثْنَتَيْنِ من فَوق مَفْتُوحَة وياء مُعْجمَة بِاثْنَتَيْنِ من تَحت سَاكِنة وَنون. " والمرماة مَا بَين ظلفي الشَّاة، وَقيل: المرماتان هَهُنَا سَهْمَان يَرْمِي بهما الرجل (فيحوز) سبقه، يَقُول: يسابق أحدهم إِلَى سبق الدُّنْيَا ويدع سبق الْآخِرَة ".
(بَاب يكره للنِّسَاء أَن يصلين وحدهن جمَاعَة)

أَبُو دَاوُد: عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ:

(1/253)


" صَلَاة الْمَرْأَة فِي بَيتهَا أفضل من صلَاتهَا فِي حُجْرَتهَا، وصلاتها فِي مخدعها أفضل من صلَاتهَا فِي بَيتهَا ".
فَإِن قيل: روى أَبُو دَاوُد: عَن أم (ورقة) بنت نَوْفَل رَضِي الله عَنْهَا: " أَنَّهَا اسْتَأْذَنت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن تتَّخذ فِي دارها مُؤذنًا فَأذن لَهَا، وَكَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يزورها (فِي بَيتهَا) ، وَجعل لَهَا مُؤذنًا يُؤذن لَهَا، وأمرها أَن تؤم أهل دارها ".
قيل لَهُ: فِي إِسْنَاده عبد الله بن جَمِيع الزُّهْرِيّ، وَإِن كَانَ مُسلم قد أخرج عَنهُ فَفِيهِ مقَال، فَإِن (صَحَّ) حمل على ابْتِدَاء الْإِسْلَام، حِين كَانَ للنِّسَاء أَن يخْرجن إِلَى الْمَسَاجِد ويصلين مَعَ الرِّجَال فِي جَمِيع الصَّلَوَات.
(فَتبين) بِهَذَا أَن صلَاتهَا فِي بَيتهَا أستر أحوالها، وَفِي حُضُورهَا الْجَمَاعَة اشتهارها، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَقرن فِي بيوتكن} . (وَفِي) خُرُوجهَا إِلَى الْجَمَاعَة ترك الْقَرار.

(1/254)


(بَاب يكره للشواب من النِّسَاء حُضُور الْجَمَاعَة لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا)

أَبُو دَاوُد: عَن عَائِشَة زوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَت: " لَو أدْرك رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَا أحدث النِّسَاء لمنعهن الْمَسَاجِد كَمَا (مَنعه) نسَاء بني إِسْرَائِيل ". قَالَ يحيى بن سعيد: فَقلت لعمرة (أمْنَعهُ) نسَاء بني إِسْرَائِيل؟ قَالَت: نعم.
(بَاب إِذا أم بِاثْنَيْنِ تقدم عَلَيْهِمَا)

مُسلم: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ: " أَن جدته مليكَة دعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لطعام صَنعته / فَأكل مِنْهُ ثمَّ قَالَ: قومُوا (فلأصلي) لكم، قَالَ أنس: فَقُمْت إِلَى حَصِير لنا قد اسود من طول مَا لبس، فنضحته بِمَاء، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وصففت أَنا واليتيم وَرَاءه والعجوز من وَرَائِنَا، فصلى لنا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رَكْعَتَيْنِ ثمَّ انْصَرف ".

(1/255)


فَإِن قيل: " رُوِيَ أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ صلى بعلقمة وَالْأسود فَوقف بَينهمَا ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فعل ".
قيل لَهُ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَفِي سَنَده هَارُون بن عنترة، وَقد تكلم فِيهِ بَعضهم، وَقَالَ أَبُو عمر النمري: الصَّحِيح أَنه مَوْقُوف على ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ. وَقَالَ بَعضهم: مَنْسُوخ، لِأَن هَذِه الصَّلَاة (تعلمهَا) بِمَكَّة وفيهَا التطبيق وَهُوَ مَنْسُوخ وَالله أعلم.
(بَاب إِذا قَامَت الْمَرْأَة إِلَى جَانب رجل وهما مشتركان فِي صَلَاة وَاحِدَة أفسدت صلَاته)

مُسلم وَأَبُو دَاوُد: وَاللَّفْظ لَهُ: عَن مُوسَى بن أنس (عَن أنس) رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أمه وَامْرَأَة مِنْهُم، فَجعله عَن يَمِينه وَالْمَرْأَة خلف ذَلِك ".
فقد صلى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِوَاحِد وأقامها خَلفه، وبأنس واليتيم وأقامها خلفهمَا، وَلم يرد عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِيمَا علمنَا أَنه أَقَامَهَا محاذية للرجل أبدا، فَثَبت أَن مقَامهَا دون مقَامه، وَالنَّبِيّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا فعل فعلا ودام عَلَيْهِ، وَلم يقم دَلِيل على عدم وُجُوبه علينا من قَول أَو فعل، وَاسْتقر الْأَمر عَلَيْهِ فِي زَمَانه (وزمن) من بعده، فَهُوَ وَاجِب، سِيمَا فِي

(1/256)


الصَّلَاة وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَقد قَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " وَإِذا ثَبت وُجُوبه بِفِعْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَة خطابه " افعلوا كَذَا " فَلَمَّا أَقَامَ الرجل عَن يَمِينه وَالْمَرْأَة خَلفه وَأقَام أنسا واليتيم وَرَاءه والعجوز وراءهما، صَار كَأَنَّهُ قَالَ للرجل تقدم على الْمَرْأَة وأخرها عَنْك، ثمَّ رَأينَا الرجل إِذا صلى مَعَ (إِنْسَان) قَامَ عَن يَمِينه، وَإِذا صلى مَعَه آخر قاما متحاذيين (خَلفه) ، / ورأينا الصَّبِي إِذا صلى مَعَ إِنْسَان قَامَ أَيْضا محاذيا للرجل، وَإِذا صلى مَعَ صبي غَيره فِي جمَاعَة صلى خَلفهم، ورأينا الْمَرْأَة لَيست كَذَلِك. وأجمعنا أَن الرجل لَو اقْتدى بهَا فَسدتْ صلَاته دون صلَاتهَا، لِأَنَّهُ مَأْمُور بالتقدم عَلَيْهَا، فَإِذا حاذته وَجب أَن تفْسد صلَاته دون صلَاتهَا، وَكَذَا الْمَأْمُوم إِذا تقدم على إِمَامه فَسدتْ صلَاته دون صَلَاة الإِمَام لتَركه فرض الْمقَام كَذَا هَذَا.
(بَاب يُصَلِّي الْقَائِم خلف الْقَاعِد)

مُسلم: عَن الْأسود، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " لما ثقل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] جَاءَ بِلَال يُؤذنهُ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ: مروا أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ، فَقلت لحفصة: قولي لَهُ إِن أَبَا بكر رجل أسيف، وَأَنه مَتى يقم مقامك لَا يسمع النَّاس، فَلَو أمرت عمر، فَقَالَ: مروا أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ، فَقلت لحفصة: قولي لَهُ أَن أَبَا بكر رجل أسيف وَأَنه مَتى يقم مقامك لَا يسمع النَّاس، فَلَو أمرت (عمر) ، فَقَالَت لَهُ: فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : إنكن لأنتن صَوَاحِب يُوسُف، مروا أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ، فَأمروا أَبَا بكر فصلى، قَالَت: فَلَمَّا دخل فِي الصَّلَاة وجد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي

(1/257)


نَفسه خفَّة، فَقَامَ يهادي بَين رجلَيْنِ وَرجلَاهُ تخطان فِي الأَرْض، قَالَت: فَلَمَّا دخل الْمَسْجِد سمع أَبُو بكر حسه، ذهب يتَأَخَّر فَأَوْمأ إِلَيْهِ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (أَن قُم) مَكَانك، فجَاء رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حَتَّى جلس عَن يسَار أبي بكر، فَكَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسا وَأَبُو بكر قَائِما، يَقْتَدِي (أَبُو بكر) بِصَلَاة النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ويقتدي النَّاس بِصَلَاة أبي بكر ". وَفِي لفظ لأبي دَاوُد: " فَقعدَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَكبر بِالنَّاسِ وَجعل أَبُو بكر يكبر بتكبيره وَجعل النَّاس يكبرُونَ بتكبير أبي بكر ". فَفِي إِقَامَة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (أَبَا بكر) عَن يَمِينه، وَهُوَ مقَام الْمَأْمُوم، وَفِي تكبيره بِالنَّاسِ وتكبير أبي بكر بتكبيره (بَيَان) وَاضح أَن الإِمَام فِي هَذِه الصَّلَاة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَقد صلى بِالنَّاسِ قَاعِدا وَالنَّاس خَلفه قيام، وَهِي آخر صَلَاة صلاهَا بِالنَّاسِ. / فَدلَّ على أَن مَا رُوِيَ خلاف هَذَا مَنْسُوخ.
فَإِن قيل: قَالَ الْخطابِيّ: " فِي هَذَا الحَدِيث فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: (أَنه يدل على أَنه) تجوز الصَّلَاة بإمامين أَحدهمَا بعد الآخر من غير حدث يحدث بِالْإِمَامِ الأول. وَالثَّانيَِة: أَنه (يدل) على (جَوَاز) تَقْدِيم بعض صَلَاة الْمَأْمُوم على صَلَاة الإِمَام ".
قيل لَهُ: لَيْسَ كَذَلِك بل إِنَّه يدل على جَوَاز اسْتِخْلَاف من عجز عَن الْمُضِيّ فِي صلَاته وَأَن من اسْتخْلف يعود مَأْمُوما بعد أَن كَانَ إِمَامًا، لِأَنَّهُ رُوِيَ من طَرِيق أبي دَاوُد وَغَيره أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ذهب إِلَى بني عَمْرو بن عَوْف ليصلح بَينهم،

(1/258)


وحانت الصَّلَاة، فجَاء الْمُؤَذّن إِلَى أبي بكر فَقَالَ: أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ فأقيم؟ قَالَ: نعم، فصلى أَبُو بكر، فجَاء رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَالنَّاس فِي الصَّلَاة، فتخلص حَتَّى وقف فِي الصَّفّ، فَصَفَّقَ النَّاس، وَكَانَ أَبُو بكر لَا يلْتَفت فِي الصَّلَاة، فَلَمَّا أَكثر النَّاس التصفيق الْتفت فَرَأى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن امْكُث مَكَانك، فَرفع أَبُو بكر يَدَيْهِ فَحَمدَ الله على مَا أمره بِهِ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من ذَلِك، ثمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بكر حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفّ وَتقدم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: يَا أَبَا بكر مَا مَنعك أَن تثبت إِذْ أَمرتك؟ فَقَالَ أَبُو بكر: مَا كَانَ لِابْنِ أبي قُحَافَة أَن يُصَلِّي بَين يَدي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . فقد اعْتقد أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَنه لَا يسوغ لَهُ الصَّلَاة بَين يَدي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فاستخلف النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَأقرهُ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على ذَلِك، (فَصَارَ) هَذَانِ الحديثان أصلا فِيمَا ذَكرْنَاهُ.
(ذكر مَا فِيهِ من الْغَرِيب)
:
أسيف: بِفَتْح الْهمزَة وَكسر السِّين الْمُهْملَة وياء وَفَاء، هُوَ المحزون، وَيُقَال: هُوَ السَّرِيع الْبكاء، وَقَوْلها: يهادي، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: معنى ذَلِك أَنه كَانَ يعْتَمد عَلَيْهِمَا من ضعفه وتمايله، يُقَال مِنْهُ تهادت الْمَرْأَة فِي مشيتهَا إِذا تمايلت.

(1/259)


(بَاب لَا يُصَلِّي المفترض خلف المتنفل)

/ لقَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ ". فَإِن قيل: روى أَبُو دَاوُد: عَن جَابر بن عبد الله: " أَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْعشَاء ثمَّ يَأْتِي قومه فَيصَلي بهم تِلْكَ الصَّلَاة ".
قيل لَهُ: أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد: وَاللَّفْظ لَهُ، عَن عَمْرو بن دِينَار سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: " إِن معَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ثمَّ يرجع فيؤم قومه ". وَلَيْسَ فِي قَوْله: " فَيصَلي بهم تِلْكَ الصَّلَاة "، دَلِيل على أَنه كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْفَرْض وَيُصلي بقَوْمه النَّفْل وَلَا فِي هَذَا الحَدِيث كَيْفيَّة نِيَّة معَاذ.
فَإِن قيل: فقد روى الدَّارَقُطْنِيّ هَذَا الحَدِيث وَزَاد فِيهِ: " هِيَ لَهُ تطوع وَلَهُم فَرِيضَة ".

(1/260)


قيل لَهُ: قَالَ الطَّحَاوِيّ: يجوز أَن يكون هَذَا من قَول ابْن جريج، وَيجوز أَن يكون من قَول عَمْرو بن دِينَار، وَيجوز أَن يكون من قَول جَابر، فَمن أَي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة كَانَ هَذَا القَوْل، فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل على حَقِيقَة مَا كَانَ يفعل معَاذ، وَلَو ثَبت أَنه عَن معَاذ لم يكن فِيهِ دَلِيل أَنه كَانَ بِأَمْر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
وروى الطَّحَاوِيّ عَن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن، عَن عبد الله بن مسلمة بن قعنب، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن عَمْرو بن يحيى الْمَازِني، عَن معَاذ بن رِفَاعَة الزرقي: " أَن رجلا من بني سَلمَة يُقَال لَهُ سليم أَتَى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: إِنَّا (نظل) فِي أَعمالنَا فنأتي حِين نمسي فنصلي، فَيَأْتِي معَاذ فينادي بِالصَّلَاةِ، فنأتيه فَيطول علينا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : يَا معَاذ لَا تكن فتانا، إِمَّا أَن تصلي معي وَإِمَّا أَن تخفف عَن قَوْمك ".
" فَهَذَا يدل على أَنه كَانَ عِنْد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يفعل أحد الْأَمريْنِ إِمَّا الصَّلَاة مَعَه أَو بقَوْمه، وَلم يكن يجمعهما، لِأَنَّهُ قَالَ إِمَّا أَن تصلي معي، أَي وَلَا تصلي بقومك، وَإِمَّا أَن تخفف بقومك وَلَا تصلي معي ".
فَإِن قيل: إِن معَاذًا كَانَ أعلم من أَن يفوت (فَرْضه) مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لأجل إِمَامَة غَيره.
قيل لَهُ: وَسَائِر أَئِمَّة مَسَاجِد الْمَدِينَة أَلَيْسَ كَانَ يفوتهُمْ الْفَرْض مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَالنَّفْل، فَكَانَ حَظّ معَاذ أكبر، ولمعاذ فِي الصَّلَاة بالقوم والتنفل مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] / فضل على غَيره، ثمَّ نقُول هَذَا الحَدِيث حِكَايَة حَال وَلم تعلم كيفيتها فَلَا عمل عَلَيْهَا، ثمَّ إِنَّه معَارض بِمَا روينَاهُ فِي أول الْبَاب من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ ". أَي ليقتدى بِهِ، فَإِذا صلى هَذَا الظّهْر وَهِي فرض وَالْإِمَام يُصليهَا نفلا فاي اقْتِدَاء

(1/261)


هُنَا، وَالنِّيَّة ركن وَهِي الأَصْل، أَلا ترى أَنه لَا تحل مُخَالفَته فَلَا يرْكَع قبله وَلَا يسْجد قبله، وَلَيْسَ الزَّمَان من أَوْصَاف الصَّلَاة وَلَا (هُوَ) من مقتضياتها؟ فالنية الَّتِي هِيَ ركن الْعِبَادَة أولى، فَتَصِير مُخَالفَته فِي النِّيَّة نَظِير مُخَالفَته فِي الْفِعْل الَّذِي هُوَ ركن فَيقوم مَعَ الْقَاعِد وَيسْجد مَعَ الرَّاكِع وَهَذَا لَا يجوز. قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: - أَظن -: وَهَذَا نَفِيس جدا ".
وروى الطَّحَاوِيّ: عَن ابْن مَرْزُوق، عَن سعيد بن عَامر، قَالَ: " سَمِعت يونسا (يَقُول) : جَاءَ عباد إِلَى الْمَسْجِد فِي يَوْم مطير، فَوَجَدَهُمْ يصلونَ الْعَصْر، فصلى (مَعَهم) وَهُوَ يظنّ أَنَّهَا الظّهْر، (وَلم يكن صلى الظّهْر) ، فَلَمَّا صلوا فَإِذا هِيَ الْعَصْر، فَأتى الْحسن فَسَأَلَهُ عَن ذَلِك فَأمره أَن يُصَلِّيهمَا جَمِيعًا ". وَهَكَذَا عَن ابْن عمر، وَابْن سِيرِين. وَإِلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ ذهب الزُّهْرِيّ، وَرَبِيعَة، وَمَالك رَحِمهم الله.
(بَاب من اقْتدى بِإِمَام ثمَّ علم أَنه مُحدث أعَاد الصَّلَاة)

التِّرْمِذِيّ: عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " الإِمَام ضَامِن والمؤذن مؤتمن، اللَّهُمَّ أرشد الْأَئِمَّة واغفر للمؤذنين ". روى هَذَا الحَدِيث نَافِع بن سُلَيْمَان، عَن مُحَمَّد بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .

(1/262)


قَالَ أَبُو عِيسَى: " سَمِعت أَبَا زرْعَة يَقُول: حَدِيث أبي صَالح (عَن أبي هُرَيْرَة أصح من حَدِيث أبي صَالح عَن عَائِشَة. قَالَ وَسمعت مُحَمَّدًا يَقُول: حَدِيث أبي صَالح، عَن عَائِشَة أصح (من حَدِيث أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة) .
فَإِن قيل: قَالَ التِّرْمِذِيّ: " وَذكر عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ أَنه لم يثبت حَدِيث أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة وَلَا حَدِيث أبي صَالح، عَن عَائِشَة ".
قيل لَهُ " إِن صَحَّ هَذَا القَوْل عَن ابْن الْمَدِينِيّ: فَأَبُو زرْعَة وَالْبُخَارِيّ قد اتفقَا على صِحَة كل (وَاحِد) مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا اخْتلفَا فِي أَيهمَا / أصح مَعَ أَن هَذَا الْكَلَام فِيهِ إِجْمَال فَإِنَّهُ (قَالَ) : لم يُثبتهُ وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ لم يَكْتُبهُ، وَلَا يلْزم من عدم كِتَابَته لَهُ أَنه لم يَصح عِنْده، وَلَا يلْزم أَيْضا (أَنه) إِذا لم يثبت الحَدِيث عِنْده أَن لَا يثبت عِنْد غَيره
(وَمعنى الضَّمَان هَهُنَا أَن تقدر صَلَاة الْمَأْمُوم فِي ضمن صَلَاة الإِمَام، فَيكون مُلْتَزما للمحافظة على صِحَة صَلَاة نَفسه وَصَلَاة الْقَوْم، حَتَّى لَو فَسدتْ بعمده كَانَ معاقبا بهما جَمِيعًا، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِير لم يتَّجه للضَّمَان معنى، وَيدل عَلَيْهِ أَنه إِذا أدْرك الإِمَام بعد الإعتدال وَدخل مَعَه تَابعه فِي الْأَفْعَال الْبَاقِيَة من الرَّكْعَة، وَإِن كَانَت لَا تحسب لَهُ، وَكَذَلِكَ لَو سَهَا الإِمَام يلْزمه السُّجُود مَعَ الإِمَام مَعَ أَنه لم يخل بِصَلَاتِهِ، غير أَن الْخلَل الْوَاقِع فِي صَلَاة الإِمَام تعدى إِلَى صَلَاة الْمَأْمُوم، فَلِأَن يتَعَدَّى (إِلَيْهِمَا) فَسَادهَا كَانَ أولى.

(1/263)


فَإِن قيل: معنى الحَدِيث أَن الإِمَام ضَامِن كَمَال صَلَاة (الْمَأْمُوم) بفضيلة الْجَمَاعَة، بِدَلِيل أَن الْمُقْتَدِي لَو سَهَا لم يلْزمه سُجُود السَّهْو، لِأَن الإِمَام ضَامِن لكَمَال صلَاته، فَلم يعْتَبر مِنْهُ سَبَب الْخلَل، فَكَانَ كَالْمَعْدُومِ، وَلَو كَانَ ضَامِنا صِحَة صلَاته لَكَانَ ارتكابه الْمُفْسد عديم الْأَثر.
قيل لَهُ: لَو كَانَ معنى الحَدِيث كَمَا ذكرت لم يكن لتخصيص الإِمَام بِكَوْنِهِ ضَامِنا معنى، فَإِن الْمَأْمُوم لَا تحصل فَضِيلَة الْجَمَاعَة لَهُ إِلَّا بِوُجُود الإِمَام، وَلَا للْإِمَام إِلَّا بِوُجُود الْمَأْمُوم، فهما مشتركان فِي هَذَا الْمَعْنى، وَإِنَّمَا لم يجب على الْمَأْمُوم بسهوه سُجُود لِأَنَّهُ إِن سجد وَحده خَالف إِمَامه، وَإِن سجد الإِمَام مَعَه صَار الأَصْل تبعا والتبع أصلا، وَهَذَا لَا يجوز، وَإِنَّمَا لم يكن ارتكابه الْمُفْسد عديم الْأَثر لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُخَاطب بصيانة صلَاته عَن الْمُفْسد، فَإِذا بَاشرهُ فَسدتْ صلَاته، غير أَن صَلَاة الْمَأْمُوم لَهَا تعلق بِصَلَاة الإِمَام، وَلِهَذَا إِذا أَرَادَ الِاقْتِدَاء لزمَه نِيَّة الائتمام، فَإِذا بطلت صَلَاة الإِمَام بَطل مَا تعلق بهَا، وَصَلَاة الإِمَام لَيست بمتعلقة بِصَلَاة الْمَأْمُوم، وَلِهَذَا لَا يلْزمه نِيَّة الْإِمَامَة، فَإِذا بطلت صَلَاة الْمَأْمُوم لم تبطل صَلَاة الإِمَام، لعدم تعلقهَا بهَا.
فَإِن قيل: فقد روى أنس رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَامَ وَكبر فكبرنا فَانْصَرف فَقَالَ كَمَا أَنْتُم، وَدخل الْحُجْرَة، وَلم نزل قيَاما كَذَلِك حَتَّى خرج وَرَأسه يقطر مَاء ". وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " وَصلى بهم ثمَّ انْصَرف وَقَالَ: كنت جنبا ونسيت أَن أَغْتَسِل ".
قيل لَهُ هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك بن أنس فِي موطئِهِ مُنْقَطِعًا، فَإِن صَحَّ إِسْنَاده، فَمن الْجَائِز أَنهم استأنفوا التَّحْرِيمَة بعد أَن استأنفها النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يَنْفِي ذَلِك. فَمَا لم يثبت أَنهم بقوا على التَّحْرِيمَة الأولى لم يَصح الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَلَيْسَ فِي قَوْله: " كَمَا أَنْتُم "، وَلَا فِي قَوْله: " امكثوا " دَلِيل على ذَلِك، لاحْتِمَال أَنه أَرَادَ: لَا تتفرقوا) .

(1/264)


فَإِن قيل: " إِن عمر رَضِي الله عَنهُ صلى بِالنَّاسِ جنبا وَأعَاد وَلم يَأْمر الْقَوْم بِالْإِعَادَةِ ".
قيل لَهُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِأَنَّهُ لم يستيقن أَن الْجَنَابَة مِنْهُ كَانَت قبل الدُّخُول فِي الصَّلَاة، فَأخذ لنَفسِهِ بِالِاحْتِيَاطِ.
وَيدل على هَذَا مَا روى مَالك فِي موطئِهِ: عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن زبيد بن الصَّلْت أَنه قَالَ: " خرجت مَعَ عمر بن الْخطاب إِلَى الجرف، فَنظر فَإِذا هُوَ قد احْتَلَمَ وَصلى وَلم يغْتَسل، فَقَالَ وَالله مَا أَرَانِي إِلَّا قد احْتَلَمت وَمَا شَعرت، وَصليت وَمَا اغْتَسَلت، قَالَ: فاغتسل وَغسل مَا رأى فِي ثَوْبه ونضح مَا لم يره، وَأذن وَأقَام، ثمَّ صلى بعد ارْتِفَاع الضُّحَى مُتَمَكنًا ".
وروى الطَّحَاوِيّ: عَن إِبْرَاهِيم، عَن همام بن الْحَارِث: " أَن عمر نسي الْقِرَاءَة فِي صَلَاة الْمغرب، فَأَعَادَ بهم الصَّلَاة لترك الْقِرَاءَة ". وَفِي فَسَاد الصَّلَاة بترك الْقِرَاءَة اخْتِلَاف، فَإِذا صلى جنبا أَحْرَى أَن يُعِيد.
وَعنهُ: عَن هشيم، عَن جَابر الْجعْفِيّ، عَن طَاوس وَمُجاهد فِي إِمَام صلى بِقوم وَهُوَ على غير وضوء، قَالَا: " يعيدون جَمِيعًا ". وَالصَّحِيح فِي الْأَثر وَالنَّظَر ارتباط صَلَاة الْمَأْمُوم بِصَلَاة الإِمَام، فَإِن الإِمَام إِنَّمَا جعل ليؤتم بِهِ ويقتدى بأفعاله، قَالَ الله تَعَالَى: {إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا} ، أَي يأتمون بك، هَذَا حَقِيقَة الإِمَام لُغَة وَشرعا، فَمن خَالف إِمَامه لم يكن مُتبعا لَهُ، ثمَّ إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بَين ذَلِك فَقَالَ: " إِذا كبر فكبروا ".

(1/265)


فَأتى بِالْفَاءِ الَّتِي توجب التعقيب، وَهُوَ الْمُبين عَن الله عز وَجل (مُرَاده) ، ثمَّ أوعد من رفع رَأسه أَو ركع قبل الإِمَام وَعدا شَدِيدا فَقَالَ: " أما يخْشَى الَّذِي يرفع رَأسه قبل الإِمَام أَن يحول الله رَأسه رَأس (حمَار) أَو صورته صُورَة حمَار ".
وروى مُسلم عَن أبي مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يمسح مناكبنا فِي الصَّلَاة وَيَقُول: اسْتَووا وَلَا تختلفوا فتختلف قُلُوبكُمْ، وليليني مِنْكُم أولُوا الأحلام والنهى، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، (ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، / قَالَ أَبُو مَسْعُود) : فَأنْتم الْيَوْم أَشد اخْتِلَافا.
(بَاب إِذا سلم عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة فَلَا يرد بِلِسَانِهِ لِأَنَّهُ كَلَام، وَلَا بِيَدِهِ لِأَنَّهُ فِي معنى الْكَلَام)

فَإِن قيل: روى أَبُو دَاوُد: عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " أَرْسلنِي نَبِي الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى بني المصطلق (فَأَتَيْته) وَهُوَ يُصَلِّي على بعيره، فكلمته فَقَالَ لي بِيَدِهِ هَكَذَا، ثمَّ كَلمته فَقَالَ لي بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَنا أسمعهُ يقْرَأ ويومئ بِرَأْسِهِ، (قَالَ) : فَلَمَّا فرغ قَالَ: مَا فعلت فِي الَّذِي أرسلتك؟ فَإِنَّهُ لم يَمْنعنِي أَن أُكَلِّمك إِلَّا أَنِّي كنت أُصَلِّي ".

(1/266)


وَعنهُ: عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " خرج رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى قبَاء يُصَلِّي فِيهِ، قَالَ فَجَاءَتْهُ الْأَنْصَار فَسَلمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، قَالَ: فَقلت لِبلَال كَيفَ رَأَيْت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يرد عَلَيْهِم حِين كَانُوا يسلمُونَ (عَلَيْهِ) وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ: يَقُول هَكَذَا (وَبسط كَفه) - وَبسط جَعْفَر بن عون كَفه - وَجعل بَطْنه أَسْفَل و (جعل) ظَهره إِلَى فَوق ".
قيل لَهُ: هَذَا معَارض بِمَا روى البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَاللَّفْظ لَهُ، عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كُنَّا نسلم على رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَيرد علينا، فَلَمَّا رَجعْنَا من عِنْد النَّجَاشِيّ سلمنَا عَلَيْهِ فَلم يرد علينا وَقَالَ: إِن فِي الصَّلَاة شغلا ".
وَعَن أبي وَائِل (عَنهُ) قَالَ: " كُنَّا نسلم فِي الصَّلَاة ونأمر بحاجتنا، فَقدمت على رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهُوَ يُصَلِّي فَسلمت عَلَيْهِ، فَلم يرد عَليّ السَّلَام، فأخذني مَا قدم وَمَا حدث، فَلَمَّا قضى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (الصَّلَاة) ، قَالَ: إِن الله عز وَجل يحدث من أمره مَا يَشَاء، وَإِن الله قد أحدث لي أَن لَا تكلمُوا فِي الصَّلَاة، فَرد (عَليّ) السَّلَام ".

(1/267)


وروى أَبُو دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، قَالَ: " لَا غرار فِي صَلَاة وَلَا تَسْلِيم ". قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ: " فِيمَا أرى أَن لَا تسلم وَلَا يسلم عَلَيْك، ويغرر الرجل فِي صلَاته فَيَنْصَرِف وَهُوَ شَاك ". فَلَو كَانَ رد السَّلَام بِالْإِشَارَةِ جَائِزا لرد على ابْن مَسْعُود بِالْإِشَارَةِ، وَمَا حَكَاهُ الرَّاوِي يحْتَمل أَن يكون نهيا لَهُم عَن السَّلَام فَظَنهُ ردا، وَمَا رُوِيَ أَن صهيبا قَالَ: " مَرَرْت على رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهُوَ يُصَلِّي فَسلمت / عَلَيْهِ فَرد عَليّ إِشَارَة بِأُصْبُعِهِ ". يحْتَمل أَنه كَانَ فِي حَال التَّشَهُّد وَهُوَ يُشِير بِأُصْبُعِهِ فَظَنهُ ردا.
(بَاب إِذا تكلم فِي الصَّلَاة عَامِدًا أَو (سَاهِيا) بطلت صلَاته)

أَبُو دَاوُد: عَن (زيد بن أَرقم) رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ أَحَدنَا يكلم الرجل إِلَى جنبه فِي الصَّلَاة فَنزلت: {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} ، فَأمرنَا بِالسُّكُوتِ ونهينا

(1/268)


عَن الْكَلَام ". وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي مَسْأَلَة (رد) السَّلَام.
(وروى) مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَاللَّفْظ لَهُ عَن مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " صليت مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فعطس رجل من الْقَوْم، فَقلت: يَرْحَمك الله، فَرَمَانِي الْقَوْم بِأَبْصَارِهِمْ، فَقلت واثكل أُمَّاهُ مَا شَأْنكُمْ تنْظرُون إِلَيّ؟ قَالَ: فَجعلُوا يضْربُونَ بِأَيْدِيهِم على أَفْخَاذهم، (فَعلمت) أَنهم يُصمتُونِي، (قَالَ عُثْمَان) : فَلَمَّا رَأَيْتهمْ يسكتوني لكني سكت (قَالَ) : فَلَمَّا صلى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِأبي وَأمي مَا ضَرَبَنِي وَلَا كَهَرَنِي وَلَا سبني، ثمَّ قَالَ: إِن هَذِه الصَّلَاة لَا يحل فِيهَا شَيْء من كَلَام (النَّاس) هَذَا، إِنَّمَا (هُوَ) التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن. أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (وَأثر النسْيَان فِي رفع الْإِثْم) .
فَإِن قيل: فَمَا اعتذارك عَن حَدِيث ذِي ... ... ... ... ... ... ... ...

(1/269)


الْيَدَيْنِ.
قيل لَهُ: ذَاك حَدِيث مَنْسُوخ.
يدل على هَذَا مَا روى الطَّحَاوِيّ: عَن عُثْمَان بن الْأسود قَالَ: سَمِعت عَطاء يَقُول: " صلى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ بِأَصْحَابِهِ فَسلم فِي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ انْصَرف، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: إِنِّي (جهزت) عيرًا من الْعرَاق بأحمالها وأحقابها حَتَّى (دلجت) الْمَدِينَة، قَالَ فصلى بهم أَربع رَكْعَات ". وَقد كَانَ عمر فعل هَذَا بِحَضْرَة أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الَّذين (قد) حضر بَعضهم فعل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ، فَلم ينكروا ذَلِك عَلَيْهِ، وَالَّذِي يدل على أَنه مَنْسُوخ وَأَن الْعَمَل على خِلَافه، إِجْمَاعهم على أَن رجلا لَو ترك إِمَامه من صلَاته شَيْئا أَنه يسبح (بِهِ) ليعلم إِمَامه مَا قد ترك فَيَأْتِي بِهِ، وَذُو الْيَدَيْنِ فَلم يسبح برَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (وَلم يُنكر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) كَلَامه إِيَّاه فَدلَّ أَن مَا علم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] النَّاس من التَّسْبِيح فِي الصَّلَاة لنائبة تنوبهم فِي صلَاتهم كَانَ مُتَأَخِّرًا عَن ذَلِك، ثمَّ إِن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: " سلم

(1/270)


رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي رَكْعَتَيْنِ / ثمَّ انْصَرف إِلَى خَشَبَة فِي الْمَسْجِد "، وَقَالَ عمرَان فِي فِي حَدِيثه: " ثمَّ مضى إِلَى حجرته "، فَدلَّ (ذَلِك) أَنه قد كَانَ صرف وَجهه عَن الْقبْلَة، وَعمل عملا فِي الصَّلَاة لَيْسَ فِيهَا من الْمَشْي وَغَيره، أفيجوز لأحد (الْيَوْم) أَن يُصِيبهُ ذَلِك وَقد بقيت عَلَيْهِ من صلَاته بَقِيَّة فَلَا يُخرجهُ ذَلِك من الصَّلَاة؟ .
فَإِن قيل: نعم لَا يُخرجهُ ذَلِك عَن الصَّلَاة لِأَنَّهُ فعل ذَلِك وَهُوَ لَا يرى أَنه فِي الصَّلَاة.
قيل لَهُ: فيلزمك أَنه لَو طعم وَشرب وَهَذِه حَالَته لم يُخرجهُ ذَلِك من الصَّلَاة، وَكَذَلِكَ لَو بَاعَ أَو اشْترى أَو جَامع أَهله، فَكفى بقول فَسَادًا أَن يلْزم مِنْهُ هَذَا، ثمَّ إِن ذَا الْيَدَيْنِ تكلم وَتكلم النَّاس مَعَه بعد علمهمْ أَنهم فِي الصَّلَاة، وَلم يُنكر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَلَيْهِم، وَلم يَأْمُرهُم بِالْإِعَادَةِ. وَفِي هَذَا دَلِيل على أَنه كَانَ (قبل) نسخ الْكَلَام.
فَإِن قيل: قد حكى الْخطابِيّ: عَن قوم وَلم يسمهم أَن هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ وَأَنه كَانَ قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة. قَالَ الْخطابِيّ: " وَدَعوى النّسخ لَا وَجه لَهَا لِأَن تَحْرِيم الْكَلَام كَانَ بِمَكَّة وَهَذِه الْوَاقِعَة كَانَت بِالْمَدِينَةِ، والراوي أَبُو هُرَيْرَة وَهُوَ مُتَأَخّر الْإِسْلَام، وَقد رَوَاهُ عمرَان بن حُصَيْن وهجرته مُتَأَخِّرَة ".
قيل لَهُ: أما قَول الْخطابِيّ بِأَن دَعْوَى النّسخ لَا وَجه لَهَا، فَلَيْسَ بِشَيْء، لأَنا قد ذكرنَا فِيمَا تقدم وُجُوهًا دَالَّة على ثُبُوت النّسخ، ثمَّ نقُول: وَمن أَيْن لَك أَن تَحْرِيم

(1/271)


الْكَلَام كَانَ بِمَكَّة؟ وَمن روى لَك ذَلِك وَقد روينَا فِي أول (هَذَا الْبَاب) من طَرِيق أبي دَاوُد: عَن زيد بن أَرقم أَنه قَالَ: " كَانَ أَحَدنَا يكلم الرجل إِلَى جنبه فِي الصَّلَاة فَنزلت: {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} ، فَأمرنَا بِالسُّكُوتِ ونهينا عَن الْكَلَام ". وَهَذِه الْآيَة فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَسورَة الْبَقَرَة مَدَنِيَّة بِالْإِجْمَاع، وصحبة زيد بن أَرقم لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِنَّمَا كَانَت بِالْمَدِينَةِ، فقد ثَبت بحَديثه أَن نسخ الْكَلَام بِالْمَدِينَةِ بعد قدوم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من مَكَّة، وَأما إِسْلَام أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، (وَكَونه) مُتَأَخِّرًا، وهجرة عمرَان بن حُصَيْن، (وَكَونهَا مُتَأَخِّرَة) فَلَا يقْدَح فِي القَوْل بالنسخ، لِأَن أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ صحب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَربع سِنِين، وَلَيْسَ بممتنع أَن تكون الْآيَة الْمُحرمَة للْكَلَام فِي الصَّلَاة نزلت بعد إِسْلَام أبي هُرَيْرَة، وهجرة عمرَان بن حُصَيْن، وَحَدِيث / ذِي الْيَدَيْنِ، فَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ مَا لم يقم الدَّلِيل على أَنه كَانَ بعد نسخ الْكَلَام.
(ذكر مَا فِي الحَدِيث الثَّانِي فِي أول هَذَا الْبَاب من الْغَرِيب:)

الثكل: فقدان الْمَرْأَة وَلَدهَا مَا كَهَرَنِي: مَا أغْلظ (عَليّ) فِي القَوْل.
(بَاب الْعَمَل الْكثير يبطل الصَّلَاة)

عمدا كَانَ أَو سَهوا، لِأَنَّهُ غير مُحْتَاج إِلَيْهِ، وَلَا يعْذر بِالنِّسْيَانِ لِأَن حَالَة الصَّلَاة

(1/272)


مذكرة، وَتمسك من لم يبطل الصَّلَاة بِالْعَمَلِ الْكثير حَالَة النسْيَان بِحَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ لَا يَصح لأَنا قد بَينا فِيمَا تقدم أَنه مَنْسُوخ.
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد: عَن أبي قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِل أُمَامَة بنت زَيْنَب ابْنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَإِذا سجد وَضعهَا وَإِذا قَامَ حملهَا ".
قيل لَهُ: قَالَ بعض النَّاس: هَذَا (الحَدِيث) مَنْسُوخ، وَقَالَ بَعضهم، هَذَا مَخْصُوص بِالنَّبِيِّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، إِذْ لَا يُؤمن على الطِّفْل الْبَوْل وَغير ذَلِك على حامله، وَقد يعْصم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن ذَلِك مُدَّة إِمْسَاكه.
وَقَالَ الْخطابِيّ: " يشبه أَن يكون هَذَا الصَّنِيع من النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا عَن قصد وتعمد فِي الصَّلَاة، وَلَعَلَّ الصبية من (طول) مَا ألفته واعتادته مِمَّا أنسته فِي غير الصَّلَاة (كَانَت) تتَعَلَّق بِهِ حَتَّى تلابسه وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فَلَا يَدْفَعهَا عَن نَفسه وَلَا يبعدها، وَإِذا أَرَادَ أَن يسْجد وَهِي على عَاتِقه وَضعهَا بِأَن يحطهَا أَو يرسلها إِلَى الأَرْض حَتَّى يفرغ من سُجُوده، فَإِذا أَرَادَ الْقيام وَقد عَادَتْ الصبية إِلَى مثل الْحَال الأول لم يدافعها وَلم يمْنَعهَا، حَتَّى إِذا (قَامَ) بقيت مَحْمُولَة مَعَه، هَذَا وَجه هَذَا الحَدِيث وَلَا يكَاد يتَوَهَّم عَلَيْهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه كَانَ يتَعَمَّد حملهَا ووضعها وإمساكها فِي الصَّلَاة

(1/273)


تَارَة بعد أُخْرَى، لِأَن الْعَمَل فِي ذَلِك قد يكثر ويتكرر، وَالْمُصَلي (يشْتَغل) بذلك عَن صلَاته، ثمَّ لَيْسَ فِيهِ شَيْء أَكثر من قَضَائهَا وطراً من لعب وَلَا طائل لَهُ وَلَا فَائِدَة فِيهِ، وَإِذا كَانَ علم الخميصة يشْغلهُ عَن صلَاته حَتَّى يسْتَبْدل (بهَا الأنبجانية) ، فَكيف (لَا) يشْتَغل عَنْهَا بِمَا هَذِه صفته من الْأَمر ".
/ قلت: إِلَّا أَن هَذَا التَّأْوِيل يَدْفَعهُ قَول أبي قَتَادَة: " بَيْنَمَا نَحن فِي الْمَسْجِد جُلُوس خرج علينا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وأمامة بنت أبي الْعَاصِ يحملهَا على عَاتِقه، فصلى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهِي (على) عَاتِقه يَضَعهَا إِذا ركع وَيُعِيدهَا إِذا قَامَ ". وَقيل إِن هَذَا كَانَ للضَّرُورَة، إِذْ لم يجد من يكفها، وَقيل حملهَا لِأَنَّهُ لَو تَركهَا بَكت وشغلت سره فِي صلَاته أَكثر من شغله بحملها، وَأحسن مَا يحمل عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث أَن يكون شرعا فِي جَوَاز الصَّلَاة مَعَ (الْفِعْل) الْكثير إِذا تكَرر مرَارًا وَكَانَ بَين كل مرّة فُرْجَة وَلم يكن متواليا.

(1/274)


(بَاب إِذا سبقه الْحَدث انْصَرف وَتَوَضَّأ وَبنى على صلَاته مَا لم يتَكَلَّم)

لما روينَاهُ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي بَاب " الْوضُوء من الْخَارِج النَّجس من غير السَّبِيلَيْنِ ".
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد: عَن عَليّ بن طلق رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا فسا أحدكُم فِي الصَّلَاة فلينصرف، وليتوضأ، وليعد صلَاته ". قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن.
قيل لَهُ: الْوَاجِب هُنَا أَن نعمل بِكُل وَاحِد من الْحَدِيثين، وَلَا نَتْرُك وَاحِدًا مِنْهُمَا، فنحمل حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا على حَالَة سبق الْحَدث، وَحَدِيث عَليّ بن طلق على حَالَة تعمد الْحَدث، فَإِن الْبلوى فِيمَا يسْبق لَا فِيمَا يتَعَمَّد.

(1/275)


(بَاب إِذا أُقِيمَت صَلَاة الْفجْر وَلم يصل رَكْعَتي الْفجْر صلاهَا فِي نَاحيَة الْمَسْجِد)

الطَّحَاوِيّ: عَن عبد الله بن أبي مُوسَى، عَن أَبِيه (وَمن) دعاهم سعيد بن الْعَاصِ، دَعَا أَبَا مُوسَى، وَحُذَيْفَة، وَعبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُم، قبل أَن يُصَلِّي الْغَدَاة، ثمَّ خَرجُوا من عِنْده وَقد أُقِيمَت الصَّلَاة، فَجَلَسَ عبد الله إِلَى أسطوانة من الْمَسْجِد فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ دخل فِي الصَّلَاة.
فَهَذَا عبد الله قد فعل هَذَا وَمَعَهُ حُذَيْفَة وَأَبُو مُوسَى لَا ينكران عَلَيْهِ، فَدلَّ على موافقتهما لَهُ.
وَعنهُ: عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: " خرج عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ، من بَيته فأقيمت صَلَاة الصُّبْح فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يدْخل الْمَسْجِد وَهُوَ فِي الطَّرِيق ثمَّ دخل الْمَسْجِد فصلى الصُّبْح مَعَ النَّاس ".
(فَهَذَا) وَإِن كَانَ لم يصلها فِي الْمَسْجِد فقد صلاهَا / بعد علمه بِإِقَامَة الصَّلَاة.
وَعنهُ: عَن أبي (عبيد الله) عَن أبي الدَّرْدَاء: " أَنه كَانَ يدْخل الْمَسْجِد وَالنَّاس صُفُوف فِي صَلَاة الْفجْر، فَيصَلي الرَّكْعَتَيْنِ فِي نَاحيَة الْمَسْجِد، ثمَّ يدْخل مَعَ الْقَوْم فِي الصَّلَاة ".

(1/276)


وَعنهُ: عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ قَالَ: " كُنَّا نأتي عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قبل أَن نصلي الرَّكْعَتَيْنِ قبل الصُّبْح وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فنصلي الرَّكْعَتَيْنِ فِي آخر الْمَسْجِد ثمَّ ندخل مَعَ الْقَوْم فِي الصَّلَاة ". وَقد روى كَذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن ومسروق وَالشعْبِيّ رَضِي الله عَنْهُم.
فَإِن قيل: رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الْمَكْتُوبَة ".
قيل لَهُ: هَذَا الحَدِيث هُوَ عَن أبي هُرَيْرَة نَفسه لَا عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، قَالَ الطَّحَاوِيّ: " هَكَذَا رَوَاهُ الْحفاظ عَن عَمْرو بن دِينَار "، وَقد خَالفه من قد ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ عَن (عبد الله بن) مَالك بن بُحَيْنَة أَنه قَالَ: " أُقِيمَت صَلَاة الْفجْر فَأتى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على رجل يُصَلِّي رَكْعَتي الْفجْر، فَقَامَ عَلَيْهِ ولاث بِهِ النَّاس، فَقَالَ أتصليها أَرْبعا ثَلَاث مَرَّات ".

(1/277)


قيل لَهُ: روى الطَّحَاوِيّ: عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مر بِعَبْد الله بن مَالك بن بُحَيْنَة وَهُوَ منتصب يُصَلِّي بَين يَدي صَلَاة الصُّبْح. فَقَالَ: لَا تجْعَلُوا هَذِه الصَّلَاة كَصَلَاة قبل الظّهْر وَبعدهَا، وَاجْعَلُوا بَينهمَا فصلا ". فَبين هَذَا الحَدِيث أَن الَّذِي كرهه فِي الحَدِيث الأول وَصله إِيَّاهَا بالفريضة فِي مَكَان وَاحِد، وَقد وَافَقنَا مَالك رَحمَه الله فِي ذَلِك غير أَنه قَالَ: " إِذا أُقِيمَت صَلَاة الصُّبْح وَلم يصل رَكْعَتي الْفجْر، (فَإِن) كَانَ الْوَقْت وَاسِعًا خرج من الْمَسْجِد فصلى رَكْعَتي الْفجْر ثمَّ صلى الصُّبْح ".
(بَاب الْأَفْضَل أَن يُصَلِّي النَّوَافِل أَرْبعا أَرْبعا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار اعْتِبَارا بالفرائض)

فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى ".

(1/278)


(قيل لَهُ: قَالَ النَّسَائِيّ: " هَذَا الحَدِيث عِنْدِي خطأ "، قَالَ التِّرْمِذِيّ: " اخْتلف أَصْحَاب شُعْبَة فِي حَدِيث ابْن عمر، فرفعه بَعضهم وَوَقفه بَعضهم، وَالصَّحِيح مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (أَنه قَالَ) : صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى) . وروى (الثِّقَات) عَن عبد الله بن عمر هَذَا الحَدِيث وَلم يذكرُوا فِيهِ صَلَاة النَّهَار ". /
قلت: وَمعنى مثنى مثنى شفعا شفعا، يُؤَيّدهُ مَا روى أَبُو دَاوُد: عَن الْمطلب بن ربيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " الصَّلَاة مثنى مثنى، أَن تشهد فِي كل رَكْعَتَيْنِ وَأَن تبأس وتمسكن، وتقنع بيديك وَتقول اللَّهُمَّ اللَّهُمَّ، فَمن لم يفعل ذَلِك فَهِيَ خداج ".
(ذكر مَا فِي هَذَا الحَدِيث من الْغَرِيب:)

تبأس: تظهر الْبُؤْس (والفاقة) ، وتمسكن: من السّكُون وَالْوَقار. وإقناع الْيَد: رَفعهَا فِي الدُّعَاء وَالْمَسْأَلَة. والخداج هُنَا: النَّقْص فِي الْأجر والفضيلة.

(1/279)


(بَاب طول الْقيام أفضل من كَثْرَة الرُّكُوع وَالسُّجُود)

قَالَ الله تَعَالَى: {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} ، قيل (بِأَن) الْقُنُوت طول الْقيام. وروى مُسلم: عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: " سُئِلَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَي الصَّلَاة أفضل؟ قَالَ: طول الْقُنُوت ".
وروى أَبُو دَاوُد: عَن (عبد الله) بن حبشِي الْخَثْعَمِي: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سُئِلَ أَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ طول الْقيام ".
فَإِن قيل: فقد روى عَن الْمخَارِق قَالَ: " خرجنَا حجاجا فمررنا بالربذة فَوَجَدنَا أَبَا ذَر (قَائِما) يُصَلِّي، فرأيته لَا يُطِيل الْقيام وَيكثر الرُّكُوع وَالسُّجُود، فَقلت لَهُ فِي ذَلِك (فَقَالَ) : مَا ألوت أَن أحسن، إِنِّي سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: من ركع رَكْعَة وَسجد سَجْدَة رَفعه الله بهَا دَرَجَة وَحط عَنهُ بهَا خَطِيئَة ".
قيل لَهُ: لَيْسَ فِي هَذَا خلاف عندنَا للْأولِ، لِأَنَّهُ قد يجوز أَن يكون قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من ركع رَكْعَة وَسجد سَجْدَة " على مَا قد أطيل قبله من الْقيام، وَيجوز أَن يكون كَمَا

(1/280)


قَالَ وَأَن (من) " زَاد مَعَ ذَلِك طول الْقيام كَانَ أفضل، وَكَانَ مَا يُعْطِيهِ الله من الثَّوَاب أَكثر، فَهَذَا أولى مَا حمل عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا قَامَ العَبْد يُصَلِّي أُتِي بذنوبه فَجعلت على رَأسه وعاتقه فَكلما ركع وَسجد تساقط عَنهُ ".
قيل لَهُ: لَيْسَ فِي هَذَا إِلَّا مَا يعْطى الْمُصَلِّي على الرُّكُوع وَالسُّجُود من حط الذُّنُوب، وَلَعَلَّه يعْطى بطول الْقيام أفضل من ذَلِك.
(ذكر مَا فِي الحَدِيث الثَّانِي من الْغَرِيب:
أَلا الرجل يألو: أَي قصر، وَيُقَال أَيْضا ألى يؤلى تألية: إِذا قصر وَأَبْطَأ.
(/ بَاب من شرع فِي صَلَاة نفل أَو صِيَام نفل (وَجب عَلَيْهِ إِتْمَامه))

لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} وروى التِّرْمِذِيّ: عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " دخل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على أم سليم، فَأَتَتْهُ بِتَمْر وَسمن، فَقَالَ: أعيدوا

(1/281)


سمنكم فِي سقائه وتمركم فِي وعائه فَإِنِّي صَائِم ". وَأخرجه البُخَارِيّ. وَإِذا أفْسدهُ وَجب عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ.
مَالك: " عَن ابْن شهَاب أَن عَائِشَة وَحَفْصَة زَوجي النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أصبحتا صائمتين متطوعتين، فأهدي لَهما طَعَام فأفطرتا عَلَيْهِ، فَدخل عَلَيْهِمَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، قَالَ: قَالَت عَائِشَة: فَقَالَت حَفْصَة - وبدرتني بالْكلَام وَكَانَت بنت أَبِيهَا - يَا رَسُول الله: إِنِّي أَصبَحت أَنا وَعَائِشَة صائمتين متطوعتين، فأهدي لنا طَعَام فأفطرنا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (اقضيا) مَكَانَهُ يَوْمًا آخر ".
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " أهدي لي ولحفصة طَعَام وَكُنَّا صائمتين، فأفطرنا، ثمَّ دخل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُول الله إِنَّا أهديت لنا هَدِيَّة فاشتهيناها فأفطرنا، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا عَلَيْكُمَا، صوما مَكَانَهُ يَوْمًا (آخر) ".
فَإِن قيل: فِي سَنَد هَذَا الحَدِيث زميل، قَالَ البُخَارِيّ: لَا يعرف لزميل سَماع من عُرْوَة وَلَا ليزِيد سَماع من زميل، وَلَا تقوم بِهِ الْحجَّة ". وَقَالَ الْخطابِيّ: " إِسْنَاده ضَعِيف، وزميل مَجْهُول ".
قيل لَهُ: لم يذكر البُخَارِيّ للْحَدِيث عِلّة سوى عدم معرفَة (سَماع بعض) الروَاة من الْبَعْض، وَهَذَا لَا يُوجب ضعفا فِي الحَدِيث، لجَوَاز أَن يكون روى عَنهُ

(1/282)


إجَازَة، أَو مناولة، أَو سَمعه يزِيد مِمَّن سمع من زميل وسَمعه زميل مِمَّن سمع من عُرْوَة، وَترك كل وَاحِد مِنْهُمَا من سمع مِنْهُ (وَذكر) من فَوْقه يُوهم بذلك علو إِسْنَاده، وكل ذَلِك لَيْسَ بعلة يسْقط الِاحْتِجَاج بِالْحَدِيثِ لأَجلهَا، أما الْإِجَازَة والمناولة فَلَا خلاف بَين أهل الحَدِيث فِي جَوَاز الْإِخْبَار بِنَاء عَلَيْهِمَا، وَصِحَّة الِاحْتِجَاج بِالْحَدِيثِ الَّذِي يرْوى بهما، وَأما إِذا لم يذكر الرَّاوِي من لقِيه وَسمع مِنْهُ وَذكر من فَوْقه، موهما بذلك علو إِسْنَاده فَهَذَا نوع / من التَّدْلِيس، منع من قبُول رِوَايَة من يتعاطاه أهل الحَدِيث، وحجتهم فِي ذَلِك مَا يذكر من الْحجَّة على رد الْمَرَاسِيل، وَرُبمَا أكدوه هُنَا بِأَنَّهُ بِهَذَا الْفِعْل يُوهم مَا لَيْسَ بِثَابِت، فيزيد حَاله على حَال الْمُرْسل، وَنحن نستدل على جَوَاز الِاحْتِجَاج بِهِ بِمَا استدللنا بِهِ على صِحَة الِاحْتِجَاج بالمراسيل، وَرُبمَا يَتَأَتَّى نوع تَرْجِيح من حَيْثُ إِن هُنَاكَ يقبل مَعَ حذف اسْم كل الروَاة، وَهنا لَيْسَ إِلَّا حذف اسْم راو وَاحِد أَو اثْنَيْنِ، فترجح حَاله على ذَلِك، مَا ذَكرُوهُ من الْإِيهَام لَا يَنْفِي الْعَدَالَة، وَالْمَانِع من الْقبُول مَا ينفيها، وزميل هُوَ مولى عُرْوَة بن الزبير، فَانْتفى أَن يكون مَجْهُولا.
فَإِن قيل: رُوِيَ فِي حَدِيث عَن أم هَانِئ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " دخل عَليّ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَأَنا صَائِمَة، فناولني فضل شرابه فَشَرِبت ثمَّ قلت: يَا رَسُول الله إِنِّي كنت صَائِمَة، وَإِنِّي كرهت أَن أرد سؤرك، فَقَالَ: إِن كَانَ من قَضَاء رَمَضَان فصومي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَإِن كَانَ تَطَوّعا فَإِن شِئْت فاقضيه وَإِن شِئْت فَلَا تقضيه ".
قيل لَهُ: قد روى هَذَا الحَدِيث أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: عَن أم هَانِئ رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " لما كَانَ عَام الْفَتْح - فتح مَكَّة - جَاءَت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا فَجَلَست عَن يسَار رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَأم هَانِئ عَن يَمِينه، قَالَت: فَجَاءَت الوليدة بِإِنَاء فِيهِ شراب فناولته فَشرب مِنْهُ، ثمَّ نَاوَلَهُ أم هَانِئ فَشَرِبت (مِنْهُ، فَقَالَت) : يَا رَسُول الله أفطرت

(1/283)


وَكنت صَائِمَة، فَقَالَ لَهَا: (أَكنت) تقضين شَيْئا؟ قَالَت: لَا، قَالَ: فَلَا (يَضرك) إِن كَانَ تَطَوّعا. وَفِي لفظ الطَّحَاوِيّ: " فَقَالَ لَهَا: تقضي (عَنْك) شَيْئا؟ قَالَت: لَا، قَالَ: فَلَا يَضرك ". وَمن طَرِيق آخر عَنْهَا: فَقلت: يَا رَسُول الله مَا أَرَانِي إِلَّا قد أثمت وأتيت حنثا عرضت عَليّ وَأَنا صَائِمَة فَكرِهت أَن أرد عَلَيْك، فَقَالَ: هَل كنت تقضين يَوْمًا من رَمَضَان؟ فَقَالَت: (لَا) فَقَالَ: لَا بَأْس. وَهَذَا يَقْتَضِي رفع الْإِثْم، وَلَا يَنْفِي وجوب الْقَضَاء، مَعَ أَن التِّرْمِذِيّ قَالَ: فِي إِسْنَاده مقَال "، وَقَالَ النَّسَائِيّ: " وَأما حَدِيث أم هَانِئ فقد اخْتلف على سماك بن حَرْب فِيهِ، وَسماك لَيْسَ مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ إِذا انْفَرد بِالْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ كَانَ يقبل التَّلْقِين ".
وروى الطَّحَاوِيّ: عَن ابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يريان الْقَضَاء وَاجِبا من إِفْسَاد صَوْم / التَّطَوُّع.

(1/284)


" وَيدل على مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {ورهبانية ابتدعوها} أخبر تَعَالَى عَمَّا ابتدعوه من الْقرب والرهبانية ثمَّ ذمهم على ترك رعايتها بقوله: {فَمَا رعوها حق رعايتها} ، والابتداع قد يكون بالْقَوْل وَهُوَ مَا ينذره ويوجبه على نَفسه، وَقد يكون بِالْفِعْلِ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وعمومه يتَضَمَّن الْأَمريْنِ، فَاقْتضى ذَلِك أَن كل من ابتدع قربَة قولا أَو فعلا (فَعَلَيهِ) رعايتها وإتمامها، فَوَجَبَ أَن كل من دخل فِي صَلَاة، أَو صَوْم، أَو حج، أَو غير ذَلِك من الْقرب فَعَلَيهِ إِتْمَامهَا، وَلَا يلْزمه إِتْمَامهَا إِلَّا وَهِي وَاجِبَة عَلَيْهِ، فَيجب قَضَاؤُهَا إِذا أفسدها. وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ: " كَانَ نَاس من بني إِسْرَائِيل ابتدعوا بدعا لم يَكْتُبهَا الله عَلَيْهِم ابْتَغوا بهَا رضوَان الله فَلم يرعوها حق رعايتها (فعاقبهم) الله بِتَرْكِهَا فَقَالَ مَا قَالَ.
(بَاب عدد صَلَاة التَّرَاوِيح عشرُون رَكْعَة)

مَالك: عَن يزِيد بن رُومَان أَنه قَالَ: " كَانَ النَّاس يقومُونَ فِي زمن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي رَمَضَان بِثَلَاث وَعشْرين رَكْعَة ". (وَالثَّلَاث) الزَّائِدَة على الْعشْرين (كَانَت) صَلَاة الْوتر، وَالله أعلم.

(1/285)


(بَاب يسْجد للسَّهْو فِي الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان بعد السَّلَام)

أَبُو دَاوُد: عَن عبد الله بن جَعْفَر أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من شكّ فِي صلَاته فليسجد سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا يسلم ". " وَعنهُ: عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير بن نفير، عَن أَبِيه، عَن ثَوْبَان رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " لكل سَهْو سَجْدَتَانِ بَعْدَمَا يسلم ".
فَإِن قيل: فِي سَنَد الحَدِيث الأول مُصعب وَهُوَ مُنكر الحَدِيث، وَعتبَة بن مُحَمَّد وَهُوَ لَيْسَ بِمَعْرُوف، وَفِي الحَدِيث الثَّانِي إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش.
قيل لَهُ: مُصعب بن شيبَة احْتج بِهِ مُسلم فِي صَحِيحه، وَقَالَ يحيى بن معِين مُصعب بن شيبَة ثِقَة، وَإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش وَثَّقَهُ يحيى بن معِين.
(بَاب إِذا صلى الظّهْر خمْسا وَلم يقْعد فِي الرَّابِعَة بَطل فَرْضه)

لِأَنَّهُ (استحكم) شُرُوعه فِي النَّافِلَة قبل (إِكْمَال أَرْكَان) الْمَكْتُوبَة، وَمن

(1/286)


ضَرُورَته خُرُوجه عَن الْفَرْض، وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: " أحب إِلَيّ أَن يُعِيدهَا ".
فَإِن قيل: " صلى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خمْسا فَسجدَ للسَّهْو وَلم يعد صلَاته "
قيل لَهُ: يحْتَمل أَنه قعد فِي (الرَّابِعَة) / وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث مَا يمْنَع من هَذَا.
فَإِن قيل: قَالَ الْخطابِيّ: " وَقد قَالَ بعض من صَار إِلَى ظَاهر هَذَا الحَدِيث: لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قعد فِي الرَّابِعَة أَو لم يكن، فَإِن كَانَ (قد) قعد فِيهَا فَلم يضف إِلَيْهَا سادسة، وَإِن كَانَ لم يقْعد فِيهَا فَلم يسْتَأْنف (الصَّلَاة) ".
قيل لَهُ: قد قُلْنَا (يحْتَمل أَنه) قعد فِي الرَّابِعَة، وَإِضَافَة رَكْعَة سادسة إِلَيْهَا لَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهِ عندنَا بِحَيْثُ لَو تَركهَا يجب قَضَاؤُهَا، بل الأولى أَن يضم إِلَيْهَا رَكْعَة سادسة لتصير الركعتان نفلا، لِأَن التَّنَفُّل بالركعة الْوَاحِدَة لَيْسَ بمشروع، وَفعله عَلَيْهِ السَّلَام يحْتَمل أَن يكون كَانَ قبل النَّهْي عَن التَّنَفُّل بِرَكْعَة وَاحِدَة، فَإِن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قد روى مُرْسلا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نهى عَن البتيراء ". قَالَ أَصْحَابنَا: وَهِي الرَّكْعَة الْوَاحِدَة.
وَهَذَا الحَدِيث نقلته من تَعْلِيق مُحَمَّد بن يحيى الشَّافِعِي رَحمَه الله.

(1/287)


(بَاب سُجُود التِّلَاوَة وَاجِب)

قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِذا قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} ، وَهَذَا يدل على وجوب السَّجْدَة، إِلَّا أَن ظَاهره يَقْتَضِي وجوب السُّجُود عِنْد سَماع سَائِر الْقُرْآن إِلَّا (أَنا) خصصنا مِنْهُ مَا عدا مَوَاضِع السُّجُود واستعملناه فِي مَوَاضِع السُّجُود بِعُمُوم اللَّفْظ، لأَنا لَو لم نستعلمه على ذَلِك كُنَّا قد ألغينا حكمه رَأْسا. " فَإِن قيل: إِنَّمَا أَرَادَ الخضوع.
قيل لَهُ: هُوَ كَذَلِك لكنه خضوع مَخْصُوص على (وصف) وَهُوَ وضع الْجَبْهَة على الأَرْض، كَمَا أَن الرُّكُوع وَالْقِيَام وَالصِّيَام وَالْحج وَسَائِر الْعِبَادَات خضوع وَلَا يُسمى سجودا لِأَنَّهُ خضوع على صفة إِذا خرج عَنْهَا لم يسم بِهِ.
مُسلم: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا قَرَأَ ابْن آدم السَّجْدَة فَسجدَ اعتزل الشَّيْطَان يبكي يَقُول: يَا ويله، وَفِي رِوَايَة: يَا ويلتى، أَمر ابْن آدم بِالسُّجُود فَسجدَ فَلهُ الْجنَّة، وَأمرت بِالسُّجُود فأبيت فلي النَّار ".
(وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث: تَشْبِيه إِبْلِيس إباءه، بسجوده لآدَم، وَسُجُوده لآدَم كَانَ وَاجِبا (عَلَيْهِ) فَكَذَا هَذَا.

(1/288)


فَإِن قيل: يجوز أَن يكون / أَرَادَ المشابهة فِي كَونه سجودا فَذكر مَا سلف لَهُ وَلم يرد المشابهة فِي الْأَحْكَام.
قيل: ظَاهره المشابهة فِي الْأَحْكَام، وَلِهَذَا ذكر الْجنَّة وَالنَّار اللَّذين يكونَانِ جَزَاء لمن أطَاع، (وَجَزَاء) لمن عصى، ثمَّ وَإِن سلمنَا فقد قَالَ: أَمر بِالسُّجُود، وَالْمَنْدُوب إِلَيْهِ غير مَأْمُور بِهِ.
فَإِن قيل: إِنَّمَا يكون هَذَا فِيمَا ورد من أَمر الله تَعَالَى أَو حَكَاهُ الرَّسُول عَن ربه، وَأما هَذَا فَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَة عَن إِبْلِيس، وَقد يكون مخطئا فِي تَعْبِيره عَن ذَلِك بِالْأَمر فَلَا يحْتَج بقوله، كَمَا أَخطَأ فِي قَوْله محتجا لفضيلته بِزَعْمِهِ: {أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين} ، إِلَّا أَن يَقُول قَائِل: (إِن أَخذ) النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ذَلِك عَنهُ وَلم يُنكره كَالْإِقْرَارِ لَهُ التصويب، فَمَا ذَاك ببين فقد حكى الله تَعَالَى وَحكى هُوَ عَلَيْهِ السَّلَام عَن أهل الْكفْر مقالات كَثِيرَة وَلم يكن ذَلِك تصويبا لَهَا، وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي قَوْله: " فَلهُ الْجنَّة " دَلِيل على وُجُوبهَا، إِذْ لَيْسَ كل مَا يدْخل بِفِعْلِهِ الْجنَّة وَاجِبا، فالمندوب يُثَاب عَلَيْهِ بِالْجنَّةِ وَلَيْسَ بِوَاجِب) .
فَإِن قيل: روى البُخَارِيّ: عَن عَطاء بن يسَار: " أَنه سَأَلَ زيد بن ثَابت فَزعم أَنه قَرَأَ على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] النَّجْم فَلم يسْجد فِيهَا ".
قيل لَهُ: يحْتَمل أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يسْجد فِي تِلْكَ الْحَال لأحد أَمريْن: إِمَّا لِأَن زيد بن ثَابت لما قَرَأَ عَلَيْهِ لم يسْجد، وَالْمُسْتَحب أَن يسْجد الْقَارئ أَولا ثمَّ يسْجد السَّامع. قَالَ البُخَارِيّ: " وَقَالَ ابْن مَسْعُود لتميم بن حذلم - وَهُوَ غُلَام - فَقَرَأَ

(1/289)


عَلَيْهِ سَجْدَة فَقَالَ: اسجد فَإنَّك إمامنا فِيهَا ". وَقَالَ أَبُو دَاوُد: " كَانَ (زيد الإِمَام) فَلم يسْجد ".
وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ على غير وضوء، وَلم يكن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يمْتَنع من إقراء الْقُرْآن حَالَة الْحَدث الْأَصْغَر. قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " كَانَ رَسُول الله يقرئنا الْقُرْآن على كل حَال مَا لم يكن جنبا ". وَيحْتَمل أَن يكون ترك السُّجُود لِأَنَّهُ لم يكن وَاجِبا، وَإِذا احْتمل تَركه السُّجُود (هَذِه) الْمعَانِي فَلَا يتَعَيَّن (أَحدهَا) إِلَّا بِدَلِيل. وَإِلَى هَذَا ذهب سُفْيَان الثَّوْريّ.
وَقَالَ مَالك: " وَمن جلس إِلَى قَارِئ يسمع قِرَاءَته فَمر بِسَجْدَة فَسجدَ فِيهَا سجد السَّامع مَعَه، وَإِن لم يكن جلس إِلَيْهِ لَا يسْجد ".
(بَاب سَجْدَة ص من عزائم السُّجُود)

لِأَنَّهَا مَكْتُوبَة فِي مصحف / عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ. فَإِن قيل: فقد روى البُخَارِيّ وَغَيره: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " ص (لَيست) من عزائم السُّجُود، وَقد رَأَيْت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يسْجد فِيهَا.
قيل لَهُ: (الْحجَّة) فِي فعل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا فِي قَول ابْن عَبَّاس، لجَوَاز أَن يكون قَالَه عَن اجْتِهَاد.

(1/290)


وَقد روى أَبُو دَاوُد: عَن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله أقرأه خمس عشرَة سَجْدَة فِي الْقُرْآن، مِنْهَا ثَلَاث فِي الْمفصل وَفِي سُورَة الْحَج سَجْدَتَانِ ". (فَبين) بِهَذَا أَن فِي ص سَجْدَة. وَإِلَى هَذَا ذهب مَالك وسُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق رَحِمهم الله.
(بَاب السَّجْدَة الأولى فِي الْحَج هِيَ الْمُعْتَبرَة دون الْأَخِيرَة)

لِأَنَّهَا لم تكْتب فِي مصحف عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ، فَإِن قيل: فقد روى التِّرْمِذِيّ: عَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ قَالَ:
" قلت: يَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فضلت سُورَة الْحَج (بِأَن) فِيهَا سَجْدَتَيْنِ قَالَ: نعم، وَمن لم يسجدهما (لم) يقرأهما ".

(1/291)


قيل لَهُ: قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ. وَإِلَى هَذَا ذهب مَالك وسُفْيَان الثَّوْريّ رحمهمَا الله.
(بَاب إِذا أَرَادَ السُّجُود كبر وَلم يرفع يَدَيْهِ)

أَبُو دَاوُد: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يقْرَأ علينا الْقُرْآن فَإِذا مر بِالسَّجْدَةِ كبر (وَسجد) وسجدنا مَعَه ".
(بَاب لَا تقصر الصَّلَاة فِي أقل من ثَلَاثَة أَيَّام)

لما روى مُسلم من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " يمسح الْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن ".
(وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث:
أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رخص لكل مُسَافر أَن يمسح ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن، لِأَن الْألف وَاللَّام فِي الْمُسَافِر لاستغراق الْجِنْس، فَلَو قُلْنَا بِأَن مُدَّة السّفر أقل من ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن لم تعم الرُّخْصَة لكل مُسَافر.

(1/292)


فَإِن قيل: روى أَبُو دَاوُد: عَن يحيى بن يزِيد الْهنائِي قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن قصر الصَّلَاة فَقَالَ أنس: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا خرج مسيرَة ثَلَاثَة أَمْيَال أَو ثَلَاثَة فراسخ - شُعْبَة شكّ - يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ".
قيل لَهُ: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِتَقْدِير لمُدَّة السّفر، فَإِن أحدا من الْفُقَهَاء / لم يقل بِهِ فِيمَا أعلم، فَيحمل على أَن أنسا رَضِي الله عَنهُ أَرَادَ بذلك أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يَبْتَدِئ الْقصر إِذا بلغ هَذَا الْمِقْدَار، وَالله أعلم.
(بَاب صَلَاة السّفر رَكْعَتَيْنِ لَا يجوز لَهُ الزِّيَادَة عَلَيْهِمَا)

البُخَارِيّ وَمُسلم وَاللَّفْظ لَهُ: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أَن الصَّلَاة أول مَا فرضت رَكْعَتَيْنِ، فأقرت صَلَاة السّفر (وأتمت) صَلَاة الْحَضَر ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: " وَزيد فِي صَلَاة الْحَضَر ". زَاد البُخَارِيّ: " قَالَ الزُّهْرِيّ: فَقلت لعروة: مَا بَال عَائِشَة تتمّ؟ قَالَ تأولت مَا تَأَول عُثْمَان ".
وَقد روى الطَّحَاوِيّ: عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: " إِنَّمَا صلى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ

(1/293)


بمنى أَرْبعا لِأَنَّهُ أزمع على الْمقَام بعد الْحَج ".
فَإِن قيل: فقد روى عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: " إِنَّمَا صلى عُثْمَان أَرْبعا لِأَن الْأَعْرَاب كَانُوا (أَكثر) فِي ذَلِك الْعَام، فَأَرَادَ أَن يُخْبِرهُمْ أَن الصَّلَاة أَربع "
قيل لَهُ: قَالَ الطَّحَاوِيّ: " والتأويل الأول أشبه عندنَا، لِأَن الْأَعْرَاب كَانُوا بالصلوات وأحكامها فِي زمن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَجْهَل مِنْهُم بهَا وبحكمها فِي زمن عُثْمَان، وهم بِأَمْر الْجَاهِلِيَّة حِينَئِذٍ أحدث عهدا، فهم كَانُوا فِي زمن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى الْعلم بالفرائض أحْوج مِنْهُم إِلَى ذَلِك فِي زمن عُثْمَان، فَلَمَّا لم يتم الصَّلَاة لتِلْك الْعلَّة وَلَكِن قصرهَا ليصلوا مَعَه صَلَاة السّفر على حكمهَا وَيُعلمهُم كَيفَ صَلَاة الْحَضَر ". فَكَانَ الْأَصَح من ذَلِك (هُوَ) أَنه من أجل نِيَّته الْإِقَامَة. فَإِذا صَحَّ أَن عَائِشَة كَانَت (تتمّ الصَّلَاة، فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون كَانَت) لَا تحضرها صَلَاة (إِلَّا نَوَت) إِقَامَة فِي ذَلِك الْمَكَان فَيكون إِتْمَامهَا فِي حكم المقيمين.
مُسلم: عَن عِيسَى بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، عَن أَبِيه: " صَحِبت ابْن عمر فِي طَرِيق مَكَّة (قَالَ) فصلى لنا الظّهْر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ أقبل وأقبلنا مَعَه حَتَّى جَاءَ رَحْله وَجلسَ وَجَلَسْنَا مَعَه، فحانت مِنْهُ التفافة حَيْثُ صلى فَرَأى نَاسا قيَاما، قَالَ: مَا يصنع هَؤُلَاءِ؟ قلت: يسبحون، قَالَ: لَو كنت مسبحا لأتممت

(1/294)


صَلَاتي، يَا ابْن أخي إِنِّي صَحِبت / رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي السّفر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه الله عز وَجل، وصحبت أَبَا بكر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه الله عز وَجل، وصحبت عمر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه الله عز وَجل، وصحبت عُثْمَان فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه الله عز وَجل، وَقد (قَالَ الله: لقد) كَانَ لكم فِي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أُسْوَة حَسَنَة ".
فَلَو جَازَ الْإِتْمَام لفعله رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مرّة بَيَانا للْجُوَاز، ثمَّ إِن قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته ". أَمر وَالْأَمر للْوُجُوب.
وَيُؤَيّد هَذَا مَا روى مُسلم: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " فرض الله الصَّلَاة على لِسَان نَبِيكُم [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الْحَضَر أَرْبعا، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْف رَكْعَة ".
(ذكر مَا فِي الحَدِيث الثَّانِي من الْغَرِيب:)

يسبحون: يتطوعون (والسبحة) صَلَاة التَّطَوُّع.
(بَاب كَيْفيَّة الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر)

لَا يجوز الْجمع بَين صَلَاة الظّهْر وَالْعصر فِي السّفر، بِأَن يعجل الْعَصْر عَن وَقتهَا وَيجمع بَينهَا وَبَين الظّهْر فِي وَقتهَا. وَلَا يجوز تَأْخِير الظّهْر إِلَى أَن يدْخل وَقت الْعَصْر

(1/295)


فَيجمع بَينهمَا فِي وَقت الْعَصْر إِلَّا من عذر لقَوْله تَعَالَى: {حَافظُوا على الصَّلَوَات} ، أَي أدوها فِي مواقيتها، (وَقَالَ) تَعَالَى: {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} ، أَي فرضا مؤقتا.
البُخَارِيّ: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا ارتحل قبل أَن تزِيغ الشَّمْس أخر الظّهْر إِلَى وَقت الْعَصْر ثمَّ يجمع بَينهمَا، وَإِذا زاغت صلى الظّهْر ثمَّ ركب ".
وَعنهُ: عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " رَأَيْت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا عجله السّير فِي السّفر (يُؤَخر) صَلَاة الْمغرب حَتَّى يجمع بَينهَا وَبَين الْعشَاء " وَكَانَ عبد الله يَفْعَله إِذا (أعجله) السّير وَيُقِيم الْمغرب فيصليها ثَلَاثًا ثمَّ يسلم، ثمَّ قل مَا يلبث حَتَّى يُقيم الْعشَاء فيصليها رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يسلم، وَلَا يسبح بَينهمَا بِرَكْعَة، وَلَا بعد الْعشَاء بِسَجْدَة حَتَّى يقوم من جَوف اللَّيْل.
التِّرْمِذِيّ: " عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه استغيث على بعض

(1/296)


أَهله فجد بِهِ السّير وَأخر الْمغرب / حَتَّى غَابَ الشَّفق، ثمَّ نزل فَجمع بَينهمَا، ثمَّ أخبر أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يفعل ذَلِك إِذا جد بِهِ السّير ". قَالَ أَبُو عِيسَى: (هَذَا) حَدِيث حسن صَحِيح.
فَإِن قيل: فقد روى التِّرْمِذِيّ: عَن قُتَيْبَة بن سعيد، عَن اللَّيْث بن سعد، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي الطُّفَيْل، عَن معَاذ بن جبل، " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك إِذا ارتحل (قبل زيغ الشَّمْس أخر الظّهْر (حَتَّى) يجمعها إِلَى الْعَصْر فيصليهما جَمِيعًا (ثمَّ سَار، وَكَانَ) إِذا ارتحل) (بعد زيغ الشَّمْس (عجل الْعَصْر إِلَى الظّهْر) وَصلى الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا ثمَّ سَار، وَكَانَ إِذا ارتحل) قبل الْمغرب أخر الْمغرب حَتَّى يُصليهَا مَعَ الْعشَاء، وَإِذا ارتحل بعد الْمغرب عجل الْعشَاء فيصليها مَعَ الْمغرب.
قيل لَهُ: قَالَ التِّرْمِذِيّ: تفرد بِهِ قُتَيْبَة، لَا نَعْرِف أحدا رَوَاهُ عَن اللَّيْث غَيره، وَحَدِيث اللَّيْث، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي الطُّفَيْل، عَن معَاذ (حَدِيث غَرِيب. وَالْمَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم حَدِيث معَاذ من حَدِيث (أبي الزبير) ، عَن أبي الطُّفَيْل، عَن معَاذ) : أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] جمع فِي غَزْوَة تَبُوك بَين الظّهْر وَالْعصر و (بَين) الْمغرب وَالْعشَاء.
قلت: وَقَالَ الْحَاكِم فِي عُلُوم الحَدِيث: " هَذَا الحَدِيث شَاذ الْإِسْنَاد والمتن،

(1/297)


وأئمة الحَدِيث إِنَّمَا سَمِعُوهُ من قُتَيْبَة تَعَجبا من إِسْنَاده وَمَتنه، فَنَظَرْنَا فَإِذا الحَدِيث مَوْضُوع وقتيبة ثِقَة مَأْمُون. قَالَ الْحَاكِم بِسَنَدِهِ إِلَى البُخَارِيّ يَقُول: قلت لقتيبة مَعَ من كتبت عَن اللَّيْث بن (سعد) حَدِيث يزِيد بن أبي حبيب عَن أبي الطُّفَيْل؟ قَالَ: كتبته مَعَ خَالِد الْمَدَائِنِي. قَالَ البُخَارِيّ: وَكَانَ خَالِد الْمَدَائِنِي يدْخل الْأَحَادِيث على الشُّيُوخ. قَالَ الْحَاكِم: وَلم نجد ليزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي (الطُّفَيْل) رِوَايَة، وَلَا وجدنَا هَذَا الْمَتْن بِهَذَا (السِّيَاق) عَن أحد من أَصْحَاب أبي الطُّفَيْل، وَلَا عِنْد أحد مِمَّن روى عَن معَاذ بن جبل (غير أبي الطُّفَيْل) . وخَالِد هَذَا هُوَ أَبُو الْهَيْثَم (خَالِد بن الْقَاسِم) الْمَدَائِنِي، مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ ابْن عدي الْجِرْجَانِيّ: " لَهُ عَن اللَّيْث بن سعد غير حَدِيث مُنكر، وَاللَّيْث يروي من رِوَايَة خَالِد تِلْكَ الْأَحَادِيث. / وَحكي عَن أبي دَاوُد أَنه قَالَ: " لَيْسَ فِي تَقْدِيم الْوَقْت حَدِيث يثبت ".
قلت: يُؤَيّد هَذَا مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيح عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " مَا صلى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قطّ صَلَاة لغير وَقتهَا إِلَّا الْمغرب وَالصُّبْح بِمُزْدَلِفَة ".

(1/298)


(بَاب لَا تُقَام الْجُمُعَة إِلَّا فِي مصر فِيهِ قَاض ووال يقيمان الْحُدُود وينفذان الْأَحْكَام)

لِأَن فِي زمن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم تقم الْجُمُعَة بقرية.
فَإِن قيل: روى البُخَارِيّ (وَغَيره) : عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " إِن أول جُمُعَة جمعت بعد جُمُعَة فِي مَسْجِد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي مَسْجِد عبد الْقَيْس بجواثاء من الْبَحْرين ". وَفِي لفظ غَيره: " بجواثاء قَرْيَة من قرى الْبَحْرين ". وروى ابْن مَاجَه وَأَبُو دَاوُد: عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك - وَكَانَ قَائِد أَبِيه بَعْدَمَا ذهب بَصَره - عَن أَبِيه كَعْب بن مَالك: " أَنه كَانَ إِذا سمع النداء يَوْم الْجُمُعَة ترحم (لأسعد بن زُرَارَة) ، فَقلت لَهُ: إِذا سَمِعت النداء ترحمت لأسعد بن زُرَارَة، قَالَ:

(1/299)


لِأَنَّهُ أول من جمع بِنَا فِي هزم النبيت من حرَّة بني بياضة فِي نَقِيع (الْخضمات) ، قلت: كم أَنْتُم يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ ".
قيل لَهُ: جواثاء يحْتَمل أَنَّهَا كَانَت مَدِينَة وتسميتها قَرْيَة لَا يُخرجهَا عَن كَونهَا مَدِينَة، فَإِن الْمَدِينَة تسمى قَرْيَة، قَالَ الله تَعَالَى: {أم الْقرى} و {لَوْلَا نزل هَذَا الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم} . وهما مَكَّة والطائف، وَهزمَ النبيت وَإِن كَانَ قَرْيَة لَكِن الظَّاهِر أَن أسعد بن زُرَارَة لم يجمع بهم إِلَّا بعد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَأما فِي زمَان النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَلم تقم جُمُعَة إِلَّا فِي مَسْجده [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
يُؤَيّد هَذَا أَن عَائِشَة قَالَت: " كَانَ النَّاس ينتابون الْجُمُعَة من مَنَازِلهمْ وَمن العوالي " وَأقرب العوالي من الْمَدِينَة على ثَلَاثَة أَمْيَال، وَهزمَ النبيت على ميل، فَإِذا جَاءُوا من العوالي فمجيئهم من هزم النبيت أولى.
(فَإِن قلت) : إِنَّمَا لم تقم فِي قرب الْمَدِينَة لينالوا فَضِيلَة الصَّلَاة مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] /.
قلت: كَانَ أَمر بهَا فِي الْقرى النائية عَن الْمَدِينَة، لِأَنَّهُ يشق عَلَيْهِم الْحُضُور ويتعذر عَلَيْهِم إِدْرَاك الْفَضِيلَة، فَلَمَّا لم يَأْمر بهَا دلّ على عدم الْجَوَاز إِذْ لَو جَازَ لأمر بهَا وَفعلت، كَمَا أَمر بِإِقَامَة الْجَمَاعَة فِي مَسَاجِد الْمَدِينَة، وَصلي فِيهَا مَعَ فَوَات فَضِيلَة الصَّلَاة مَعَه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَإِلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ ذهب سَحْنُون من أَصْحَاب مَالك رَحمَه الله.

(1/300)


(ذكر مَا فِي الحَدِيث الثَّانِي من الْغَرِيب:)

هزم النبيت: ضَبطه بهاء مَضْمُومَة وزاي مَفْتُوحَة وَمِيم، وَهِي الشقوق الَّتِي فِي الأَرْض، وَمِنْه قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " فَاجْتَنبُوا هزم الأَرْض فَإِنَّهَا مأوى الْهَوَام "، (وَهُوَ) مَوضِع بِالْمَدِينَةِ. والحرة: أَرض بَين جبلين ذَات حِجَارَة سود. وَبني بياضة: قَرْيَة على ميل من الْمَدِينَة. ونقيع (الْخضمات) من أَوديَة الْحجاز يدْفع سيله إِلَى الْمَدِينَة.
(بَاب لَا يشْتَرط أَن تكون الْجَمَاعَة الَّتِي تُقَام (بهَا) الْجُمُعَة أَرْبَعِينَ)

لِأَنَّهُ لَا دلَالَة عَلَيْهَا من كتاب وَلَا سنة وَلَا قِيَاس.
فَإِن قيل: " بِأَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حِين قدم الْمَدِينَة جمع بِأَرْبَعِينَ (رجلا) "
قيل لَهُ: (هَذَا) لَا يثبت، وَلَئِن ثَبت فَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على الِاشْتِرَاط.

(1/301)


(بَاب من أدْرك الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة صلى مَعَه مَا أدْرك وَبنى (عَلَيْهِ) الْجُمُعَة وَلَو كَانَ فِي التَّشَهُّد أَو فِي سُجُود السَّهْو)

البُخَارِيّ وَمُسلم وَابْن مَاجَه وَأَبُو دَاوُد: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " إِذا (أُقِيمَت) الصَّلَاة فَلَا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، وَعَلَيْكُم السكينَة، فَمَا أدركتم فصلوا وَمَا فاتكم فَأتمُّوا ".
وَرُوِيَ: " فاقضوا "، وكلا اللَّفْظَيْنِ صَحِيح. وَالْألف وَاللَّام للاستغراق، و " مَا " من أَلْفَاظ الْعُمُوم، فَإِن نَظرنَا إِلَى قَوْله: " فَأتمُّوا " فالإتمام وَاقع على (بَاقٍ من شَيْء تقدم) سائره، وَمَا تقدم جُمُعَة فَوَجَبَ إِتْمَامهَا (جُمُعَة) ، وَإِن نَظرنَا إِلَى قَوْله: " فاقضوا " فالقضاء فعل مثل الْفَائِت والفائت شَيْء من الْجُمُعَة فَوَجَبَ قَضَاؤُهُ.
فَإِن قيل: قد رُوِيَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ وَعبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: " من أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة فليضف إِلَيْهَا رَكْعَة أُخْرَى ".

(1/302)


قيل لَهُ: / هَذَا حَدِيث لَا يَصح إِسْنَاده، وَإِن صَحَّ فدلالته مَقْصُورَة على أَن من أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة أضَاف إِلَيْهَا أُخْرَى، وَلم يتَعَرَّض لمن أدْرك دون الرَّكْعَة.
(بَاب إِذا خرج الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة ترك النَّاس الصَّلَاة وَالْكَلَام حَتَّى يفرغ من خطبَته)

لقَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} ، قيل نزلت فِي اسْتِمَاع الْخطْبَة، فَلَو اشْتغل بِكَلَام أَو صَلَاة رُبمَا اسْتمرّ فَخَطب وَهُوَ فِي صلَاته أَو حَدِيثه فيفوته الْإِنْصَات أَو الِاسْتِمَاع، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " إِذا قلت لصاحبك يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب أنصت فقد لغوت ". فَإِذا كَانَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر المفروضان يحرمان فِي الْخطْبَة، فَصَلَاة (النَّفْل) أولى، وَلِأَنَّهُ لَو دخل وَالْإِمَام يُصَلِّي لَا يرْكَع، وَالْخطْبَة شَبيهَة بِالصَّلَاةِ.

(1/303)


وَأما حَدِيث سليك الْغَطَفَانِي وَأَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَلمه فِي الْخطْبَة، وَقَالَ لَهُ: " قُم فاركع "، فَإِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لما كَلمه سقط عَنهُ فرض الِاسْتِمَاع، (إِذْ) لم يكن هُنَاكَ ذَلِك الْوَقْت قَول إِلَّا مخاطبته عَلَيْهِ السَّلَام، وسؤاله لَهُ، وَأمره إِيَّاه بِالصَّلَاةِ. وَقيل إِنَّه كَانَ مُحْتَاجا فَأَرَادَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يُرِيهم إِيَّاه ليعلموا حَاله ويتصدقوا عَلَيْهِ.
الطَّحَاوِيّ: عَن (أبي الزَّاهِرِيَّة عَن) عبد الله بن بسر قَالَ: كنت جَالِسا إِلَى جنبه يَوْم الْجُمُعَة فَقَالَ: جَاءَ رجل يتخطى رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " اجْلِسْ فقد آذيت ". فقد أمره بِالْجُلُوسِ وَلم يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ. وَعنهُ: عَن عَليّ بن عَاصِم، عَن الْحذاء (أَن أَبَا قلَابَة جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فَجَلَسَ وَلم يصل.
وَعنهُ: عَن أبي المصعب، عَن عقبَة) بن عَامر قَالَ: الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة ". وَعنهُ: عَن ابْن شهَاب، عَن ثَعْلَبَة بن أبي مَالك الْقرظِيّ: " أَن جُلُوس الإِمَام على الْمِنْبَر يقطع الصَّلَاة، وَكَلَامه يقطع الْكَلَام، وَقَالَ: إِنَّهُم كَانُوا يتحدثون حِين يجلس عمر على الْمِنْبَر حَتَّى يسكت الْمُؤَذّن فَإِذا قَامَ على الْمِنْبَر لم يتَكَلَّم أحد حَتَّى يقْضِي خطبتيه كلتيهما، ثمَّ إِذا نزل عمر عَن الْمِنْبَر / وَقضى خطبَته تكلمُوا ".

(1/304)


(ذكر مَا فِي الحَدِيث الأول من الْغَرِيب:)

لغوت: قَالَ الْهَرَوِيّ: يُقَال لغوت ألغو وألغى ولغى ويلغى، وَقَوله تَعَالَى: {والغوا فِيهِ} هُوَ من لغى إِذا تكلم بِمَا لَا محصول لَهُ.
(بَاب مَا يصلى قبل الْجُمُعَة وَبعدهَا)

أَبُو دَاوُد: عَن عَطاء: " أَنه رأى ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ يُصَلِّي بعد الْجُمُعَة فيماز عَن مُصَلَّاهُ الَّذِي صلى الْجُمُعَة فِيهِ قَلِيلا غير كثير، فيركع رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ يمشي أنفس من ذَلِك فيركع أَربع رَكْعَات ".
الطَّحَاوِيّ: عَن جبلة بن سحيم، عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَنه كَانَ يُصَلِّي قبل الْجُمُعَة أَرْبعا لَا يفصل بَينهُنَّ بِسَلام، ثمَّ بعد الْجُمُعَة رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أَرْبعا ".
(ذكر مَا فِي الْأَثر الأول من الْغَرِيب:)

فيماز / ضَبطه بفاء مَفْتُوحَة وياء مُعْجمَة بِاثْنَتَيْنِ من تَحت مَفْتُوحَة وَمِيم مُشَدّدَة وَألف وزاي.
قَالَ الْخطابِيّ: " مَعْنَاهُ "، يُفَارق مقَامه الَّذِي صلى فِيهِ، من قَوْلك (مزت) الشَّيْء (عَن الشي) إِذا فرقت بَينهمَا، وَقَوله: " أنفس من ذَلِك " يُرِيد أبعد قَلِيلا

(1/305)


(بَاب غسل الْجُمُعَة سنة)

التِّرْمِذِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ أَتَى الْجُمُعَة فَدَنَا واستمع وأنصت غفر الله لَهُ مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة وَزِيَادَة ثَلَاثَة أَيَّام، وَمن مس الْحَصَا فقد لَغَا ". (قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا) حَدِيث حسن صَحِيح.
(وَعنهُ: عَن سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من تَوَضَّأ يَوْم الْجُمُعَة فبها ونعمت، وَمن اغْتسل، فالغسل أفضل ". حَدِيث حسن) .
(ذكر مَا فِي الحَدِيث الثَّانِي من الْغَرِيب:)

(فبها ونعمت:) أَي فبهذه الطَّرِيقَة الْكِفَايَة ونعمت الْكِفَايَة. وَقَالَ (ابْن) الصّباغ من أَصْحَاب الشَّافِعِي: " فبالفضيلة أَخذ ونعمت (الْخلَّة) . وَعَن الْأَصْمَعِي (قَالَ) : " فبالسنة أَخذ ونعمت الْخصْلَة ".

(1/306)


فَإِن قيل: فقد صَحَّ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من أَتَى الْجُمُعَة فليغتسل ".
قيل لَهُ: لَيْسَ هَذَا على الْوُجُوب بل على النّدب بِدَلِيل مَا روى أَبُو دَاوُد: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كَانَ النَّاس مهان أنفسهم فيروحون / (إِلَى الْجُمُعَة) بهيئتهم، فَقيل لَهُم لَو اغتسلتم ".
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " بَيْنَمَا عمر رَضِي الله عَنهُ يخْطب بِالنَّاسِ يَوْم الْجُمُعَة إِذْ دخل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ، فَعرض بِهِ عمر فَقَالَ: مَا بَال رجال يتأخرون بعد النداء، فَقَالَ عُثْمَان: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا زِدْت حِين سَمِعت النداء أَن تَوَضَّأت ثمَّ أَقبلت، فَقَالَ عمر: وَالْوُضُوء أَيْضا، ألم تسمع رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: إِذا جَاءَ أحدكُم الْجُمُعَة فليغتسل ".
وَهَذَا يدل على أَن الْغسْل لَيْسَ بِوَاجِب، وَإِلَّا لما خَفِي على عُثْمَان، وَلما تَركه عمر بل كَانَ رده حَتَّى يغْتَسل.

(1/307)


(بَاب صَلَاة الْعِيد وَاجِبَة)

لقَوْله تَعَالَى: {فصل لِرَبِّك وانحر} ، وَلِأَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] واظب عَلَيْهَا (وَلم يَتْرُكهَا) .
(بَاب التَّكْبِيرَات الزَّوَائِد فِي الْعِيد ثَلَاث فِي كل رَكْعَة)

أَبُو دَاوُد: عَن مَكْحُول وَهُوَ أَبُو عبد الله الْهُذلِيّ، مَوْلَاهُم، الدِّمَشْقِي، أخرج لَهُ مُسلم فِي صَحِيحه - قَالَ: " أَخْبرنِي أَبُو عَائِشَة - جليس لأبي هُرَيْرَة - أَن سعيد بن الْعَاصِ سَأَلَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان كَيفَ كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يكبر فِي الْأَضْحَى وَالْفطر؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَانَ يكبر (أَرْبعا تكبيره على الْجَنَائِز) ، فَقَالَ حُذَيْفَة: صدق، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَذَلِك كنت أكبر فِي الْبَصْرَة حَيْثُ كنت عَلَيْهِم، وَقَالَ أَبُو عَائِشَة: وَأَنا حَاضر سعيد بن الْعَاصِ ".
فَإِن قيل: روى ابْن مَاجَه وَأَبُو دَاوُد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يكبر فِي الْفطر والأضحى، فِي الأولى سبع تَكْبِيرَات، وَفِي الثَّانِيَة

(1/308)


خمْسا " (وَفِي) رِوَايَة: " سوى (تكبيرتي) الرُّكُوع ".
قيل لَهُ: فِي إِسْنَاده، عبد الله بن لَهِيعَة وَلَا يحْتَج بحَديثه. وَإِلَى هَذَا ذهب سُفْيَان الثَّوْريّ وَأهل الْكُوفَة.
(بَاب (صَلَاة الْكُسُوف))

صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ، فِي كل رَكْعَة رُكُوع وَاحِد ويخفي الْقِرَاءَة فِيهَا. أَبُو دَاوُد: عَن ثَعْلَبَة بن عباد الْعَبْدي من أهل الْبَصْرَة أَنه شهد خطْبَة لسمرة بن جُنْدُب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ سَمُرَة: بَينا أَنا وَغُلَام من الْأَنْصَار نرمي غرضين حَتَّى إِذا كَانَت الشَّمْس قيد رُمْحَيْنِ أَو ثَلَاثَة فِي عين النَّاظر من الْأُفق اسودت حَتَّى (آضت) كَأَنَّهَا تنومة، فَقَالَ أَحَدنَا لصَاحبه: انْطلق بِنَا إِلَى الْمَسْجِد فوَاللَّه ليحدثن شَأْن هَذِه الشَّمْس لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي أمته حَدثا، قَالَ: فدفعنا فَإِذا هُوَ بأزز

(1/309)


فاستقدم فصلى، فَقَامَ / بِنَا كأطول مَا قَامَ بِنَا فِي صَلَاة قطّ لَا نسْمع لَهُ صَوتا، قَالَ: ثمَّ ركع بِنَا كأطول مَا ركع بِنَا فِي صَلَاة قطّ لَا نسْمع لَهُ صَوتا، قَالَ: ثمَّ سجد بِنَا كأطول مَا سجد بِنَا فِي صَلَاة قطّ، ثمَّ فعل فِي الرَّكْعَة الْأُخْرَى مثل ذَلِك، قَالَ: وَوَافَقَ تجلي الشَّمْس جُلُوسه فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة: قَالَ: ثمَّ سلم، ثمَّ قَامَ فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَشهد أَنه عَبده وَرَسُوله ". وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مطولا ومختصرا، وَابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ مُخْتَصرا، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح.
وروى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد: عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " انكسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقَامَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يكد يرْكَع ثمَّ ركع، لم يكد يرفع ثمَّ رفع، فَلم يكد يسْجد ثمَّ سجد، فَلم يكد يرفع ثمَّ رفع، (فَلم يكد يسْجد ثمَّ سجد، فَلم يكد يرفع ثمَّ رفع) ، وَفعل فِي (الرَّكْعَة) الْأُخْرَى مثل ذَلِك، ثمَّ نفخ فِي آخر سُجُوده، فَقَالَ: أُفٍّ أُفٍّ، ثمَّ قَالَ: يَا رب ألم تعدني أَن لَا تُعَذبهُمْ وَأَنا فيهم، ألم تعدني أَنَّك لَا تُعَذبهُمْ وهم يَسْتَغْفِرُونَ، ففرغ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من صلَاته وَقد انمحصت الشَّمْس ".
وروى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد: عَن قبيصَة الْهِلَالِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَخرج فَزعًا يجر ثَوْبه وَأَنا مَعَه يَوْمئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، فصلى رَكْعَتَيْنِ فَأطَال (فِيهَا) الْقيام ثمَّ انْصَرف وانجلت فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِه الْآيَات يخوف الله

(1/310)


عز وَجل بهَا (عباده) ، فَإِذا رأيتموها فصلوا كأحدث صَلَاة صليتموها من الْمَكْتُوبَة ". وَفِي رِوَايَة: " حَتَّى بَدَت النُّجُوم ".
فَإِن قيل: فِي الحَدِيث الثَّانِي عَطاء بن السَّائِب.
قيل لَهُ: قد وَثَّقَهُ أَبُو أَيُّوب، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ حَدِيثا مَقْرُونا.
فَإِن قيل: صَحَّ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَرَأَ قِرَاءَة طَوِيلَة فجهر بهَا، يَعْنِي فِي صَلَاة الْكُسُوف ".
قيل لَهُ: عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قد اخْتلفت الرِّوَايَة عَنْهَا، فَروِيَ أَنَّهَا قَالَت: " كسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فصلى بِالنَّاسِ فحزرت قِرَاءَته فَرَأَيْت أَنه قَرَأَ سُورَة الْبَقَرَة، ثمَّ قَامَ يَعْنِي فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة فَأطَال (للْقِرَاءَة) فحزرت قِرَاءَته فَرَأَيْت أَنه قَرَأَ بِسُورَة آل عمرَان ". وَفِي هَذَا دَلِيل أَنه لم يجْهر.
فَإِن قيل: فِي هَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق.

(1/311)


قيل لَهُ: أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا / من حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: " خسفت الشَّمْس فصلى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَالنَّاس مَعَه، فَقَامَ قيَاما طَويلا بِنَحْوِ من سُورَة الْبَقَرَة ". وَهَذَا يدل على أَنه أسر.
(ذكر الْغَرِيب الَّذِي فِي هَذِه الْأَحَادِيث:)
كسف وَخسف فِي الشَّمْس وَالْقَمَر جَمِيعًا، وَقيل: الْكُسُوف فِي الْبَعْض والخسوف فِي الْكل، وَقيل: الْكُسُوف (يغيرهما والخسوف يغيبهما) فِي السوَاد، وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة وَهُوَ اللَّيْث يُقَال: خسف فيهمَا كَمَا ذكرنَا، والكسوف فِي الشَّمْس فَقَط، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: خسف الْقَمَر وانكسفت الشَّمْس. وَقيد: بِكَسْر الْقَاف، وقاد، وقاب، قدر رمح. والتنوم: بِفَتْح التَّاء الْمُعْجَمَة بِاثْنَتَيْنِ من فَوق وَتَشْديد النُّون وَضمّهَا وَبعدهَا وَاو سَاكِنة وَمِيم، نوع من نَبَات الأَرْض، فِيهَا وَفِي ثَمَرهَا سَواد قَلِيل. وأف: لَا يكون كلَاما حَتَّى تشدد الْفَاء، والنافخ لَا يشدد الْفَاء وَلَكِن يفشيها من غير إطباق الشّفة على السن. وانمحصت: انجلت، وأصل المحص الخلوص، وَمِنْه تمحيص الذُّنُوب وَهُوَ التطهر مِنْهَا، وتمحص الظلمَة: انكشافها.
(بَاب الاسْتِسْقَاء الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار)

فَإِن صلى رَكْعَتَيْنِ جَازَ وَاسْتحبَّ، وَإِن لم يصل وَاقْتصر على الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار فقد أَتَى بِسنة الاسْتِسْقَاء.

(1/312)


مُسلم: عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " أصَاب النَّاس قحط على عهد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، (فَبَيْنَمَا) هُوَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة إِذْ قَامَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله هلك الكراع، هلك الشَّاء، فَادع لنا أَن يسقينا، فَمد يَده ودعا، (قَالَ أنس) : وَإِن السَّمَاء لمثل الزجاجة فهاجت ريح، ثمَّ أنشأت سحابا، ثمَّ اجْتمع، ثمَّ أرْسلت (السَّمَاء) عزاليها، فخرجنا نَخُوض المَاء حَتَّى أَتَيْنَا مَنَازلنَا، فَلم نزل إِلَى الْجُمُعَة الْأُخْرَى، فَقَامَ إِلَيْهِ ذَلِك أَو غَيره فَقَالَ: يَا رَسُول الله تهدمت الْبيُوت، فَادع لنا أَن يحْبسهُ، فَتَبَسَّمَ ثمَّ قَالَ: حوالينا وَلَا علينا، فَنَظَرت إِلَى السَّحَاب يتصدع حول الْمَدِينَة كَأَنَّهُ إكليل ".
فَإِن قيل ثَبت أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] صلى فِي الاسْتِسْقَاء. " قيل لَهُ: وَثَبت أَنه لم يصل، وَفعل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] / لَا يكون سنة إِلَّا إِذا واظب عَلَيْهِ، وَقد تجرأ بعض المتعصبين حِين سمعنَا نقُول: لَيْسَ فِي الاسْتِسْقَاء صَلَاة مسنونة فِي جمَاعَة، وَقَالَ: " إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] صلى رَكْعَتَيْنِ واستسقى، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن صَلَاة الاسْتِسْقَاء بِدعَة ".
وَهَذَا كَلَام من لَيْسَ لَهُ دين، حَيْثُ يُطلق علينا هَذَا القَوْل مَعَ جَهله بمذهبنا واصطلاح أَصْحَابنَا فِي (الْعبارَة) ، فَإنَّا إِذا قُلْنَا إِن هَذَا الْفِعْل لَيْسَ بِسنة لَا يلْزم أَن يكون بِدعَة، فَإِن السّنة عندنَا مَا واظب النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَلَيْهِ وَلم يتْركهُ إِلَّا مرّة أَو مرَّتَيْنِ بَيَانا للْجُوَاز، وَالْمُسْتَحب مَا فعله مرّة أَو مرَّتَيْنِ وَلم يواظب عَلَيْهِ بل ندب إِلَيْهِ، والجائز مَا فعله وَلم يواظب عَلَيْهِ وَلم ينْدب إِلَيْهِ، وَنحن نعتقد أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا صَحَّ عَنهُ أَنه

(1/313)


فعل فعلا وَلم يقم دَلِيل على نسخه وَأطلق أحد عَلَيْهِ أَنه بِدعَة فقد كفر، والبدعة (مَا) لَا يجوز فعلهَا، وَعِنْدنَا لَو صلى واستسقى، أَو لم يصل واستسقى، فقد أَتَى بِسنة الاسْتِسْقَاء.
(ذكر مَا فِي الحَدِيث من الْغَرِيب:)

الكراع: يذكر وَيُؤَنث وَهُوَ من الْبَقر وَالْغنم بِمَنْزِلَة الوظيف للْفرس وَالْبَعِير، وَهُوَ (مستدق) السَّاق، وَقيل: الكراع اسْم لجَمِيع الْخَيل. وَالشَّاء: جمع شَاة. والعزالي: بِكَسْر اللَّام جمع لعزلاء، وَهِي: فَم المزادة الْأَسْفَل الَّذِي ينصب مِنْهُ المَاء عِنْد تفريغك، والمزادة، الراوية، وَشبه اندفاع الْمَطَر بِالَّذِي يخرج من فَم المزادة ويتصدع: أَي يتفرق ويتقطع. كَأَنَّهُ إكليل: يُرِيد أَن الْغَيْم تقشع عَنْهَا واستدار بآفاقها، كل مَا أحَاط بِشَيْء فَهُوَ إكليل، وَيُسمى التَّاج إكليلا. حوالينا وَلَا علينا: أَي أنزلهُ حوالي الْمَدِينَة فِي مَوضِع النَّبَات، وَلَا علينا فِي الْمَدِينَة وَلَا فِي غَيرهَا من المباني والمساكن.
(بَاب كَيْفيَّة صَلَاة الْخَوْف)

التِّرْمِذِيّ: عَن سَالم، عَن أَبِيه رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] صلى صَلَاة الْخَوْف بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَة وَالْأُخْرَى مُوَاجهَة الْعَدو، ثمَّ انصرفوا فَقَامُوا مقَام أُولَئِكَ (وَجَاء أُولَئِكَ) فصلى بهم رَكْعَة أُخْرَى، ثمَّ سلم بهم، فَقَامَ هَؤُلَاءِ فقضوا

(1/314)


ركعتهم، وَقَامَ هَؤُلَاءِ فقضوا ركعتهم " / (قَالَ أَبُو عِيسَى) : " هَذَا حَدِيث (حسن) صَحِيح ". وَهُوَ مُوَافق لنَصّ الْكتاب الْعَزِيز.
(بَاب الصَّلَاة فِي جَوف الْكَعْبَة)

مَالك: عَن عبد الرَّحْمَن بن صَفْوَان قَالَ: " قلت لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: كَيفَ صنع رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (حِين دخل الْكَعْبَة؟) قَالَ: صلى رَكْعَتَيْنِ.
فَإِن قيل: روى البُخَارِيّ وَمُسلم، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لما قدم مَكَّة أَبى أَن يدْخل الْبَيْت وَفِيه الْآلهَة، فَأمر بهَا فأخرجت، فأخرجوا صُورَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام وَفِي أَيْدِيهِمَا الأزلام، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : قَاتلهم الله أما وَالله قد علمُوا (أَنَّهُمَا) لم يستقسما (بهَا) قطّ، فَدخل الْبَيْت فَكبر فِي نواحيه وَلم يصل ". وَعنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] دخل الْكَعْبَة وفيهَا سِتّ سواري، فَقَامَ عِنْد كل سَارِيَة فَدَعَا وَلم يصل ".
قيل لَهُ: مَا استدللنا بِهِ مُثبت وَهَذَا نافي، والمثبت مقدم على النَّافِي، ثمَّ إِن هَذَا يحْتَمل أَن يكون النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فعله يَوْم الْفَتْح لِأَن فِيهِ ذكر الْأَصْنَام وإخراجها، وَمَا روينَاهُ كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، فَلَا مضادة بَين الْحَدِيثين.

(1/315)


(ذكر مَا فِي الحَدِيث الثَّانِي من الْغَرِيب:)

زلم: بِالتَّحْرِيكِ، الْقدح، وَالْجمع الأزلام وَهِي السِّهَام الَّتِي كَانَت الْجَاهِلِيَّة يستقسمون بهَا.
(بَاب إِذا أَرَادوا غسل الْمَيِّت نزعوا ثِيَابه ليمكنهم التَّنْظِيف)

فَإِن قيل: " إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] غسل فِي قَمِيصه ".
قيل لَهُ: ذَلِك كَانَ من خَصَائِصه. يدل على ذَلِك مَا روى: أَبُو دَاوُد: عَن عباد بن عبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنهُ قَالَ: سَمِعت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تَقول: " لما أَرَادوا غسل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالُوا: وَالله مَا نَدْرِي أنجرد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من ثِيَابه كَمَا نجرد مَوتَانا، أم نغسله وَعَلِيهِ ثِيَابه؟ فَلَمَّا اخْتلفُوا ألْقى الله عَلَيْهِم النّوم حَتَّى مَا مِنْهُم رجل إِلَّا وذقنه فِي صَدره، ثمَّ كَلمهمْ مُكَلم من نَاحيَة الْبَيْت لَا يَدْرُونَ من هُوَ، اغسلوا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَعَلِيهِ ثِيَابه، فَقَامُوا إِلَى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فغسلوه وَعَلِيهِ (قَمِيص) يصبون المَاء فَوق الْقَمِيص ويدلكونه بالقميص / دون أَيْديهم. وَكَانَت عَائِشَة (تَقول) : " لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا غسله إِلَّا نساؤه ". وَمعنى هَذَا أَي لَو أدركنا أَولا مَا أدركناه آخرا، (يَعْنِي) لَو علمنَا أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يغسل بعد الْوَفَاة مَا غسله إِلَّا نَحن.

(1/316)


(بَاب لَا يمضمض الْمَيِّت وَلَا يستنشق لتعذر إِخْرَاج المَاء)

فَإِن قيل: روى أَبُو دَاوُد: عَن أم عَطِيَّة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ لَهُنَّ فِي غسل ابْنَته: " ابدأن بيامنها ومواضع الْوضُوء مِنْهَا ".
قيل لَهُ: مَوَاضِع الْوضُوء هِيَ غير الْأنف والفم. وَالله أعلم.
(بَاب يُكفن الرجل فِي ثَلَاثَة أَثوَاب إِزَار وقميص ولفافة)

أَبُو دَاوُد: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كفن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي ثَلَاثَة أَثوَاب نجرانية الْحلَّة، ثَوْبَان وقميصه الَّذِي مَاتَ فِيهِ ".
مَالك: (فِي موطئِهِ) ، عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه قَالَ: " الْمَيِّت يقمص ويؤزر ".
وَقد روى الْبَزَّار: " عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كفن فِي سَبْعَة أَثوَاب،

(1/317)


يَعْنِي ثَلَاث سحُولِيَّة وقميص وعمامة وَسَرَاويل والقطفية الَّتِي جعلت تَحْتَهُ ". وَإِلَى هَذَا ذهب سُفْيَان رَحمَه الله.
ذكر الْغَرِيب. سحُولِيَّة: ضَبطه بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَضم الْحَاء الْمُهْملَة وواو سَاكِنة وَلَام مَكْسُورَة وياء مُشَدّدَة مَفْتُوحَة وهاء. قَالَ الْهَرَوِيّ: يُقَال هِيَ ثِيَاب منسوبة إِلَى قَرْيَة بِالْيمن تسمى سحول، قَالَ: وروى ابْن الْأَعرَابِي، ثَلَاثَة أَثوَاب سحُولِيَّة، قَالَ بيض نقية من الْقطن خَاصَّة. وَقَالَ القتيبي: سحُولِيَّة بِضَم السِّين وَهُوَ جمع سحل وَهُوَ ثوب أَبيض. وَهُوَ الَّذِي ذكره فِي مجمع الغرائب وَلم يعزه إِلَى القتيبي
(بَاب يقوم الَّذِي يُصَلِّي على الرجل وَالْمَرْأَة بحذاء الصَّدْر)

فِي رِوَايَة سبق الإِمَام بالْقَوْل بهَا إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ رَضِي الله عَنهُ، لِأَن الصَّدْر مَوضِع الْقلب وَفِيه نور الْإِيمَان، فالقيام عِنْده إِشَارَة إِلَى الشَّفَاعَة لإيمانه.
وَفِي رِوَايَة: يقوم من الرجل بحذاء رَأسه وَمن الْمَرْأَة بحذاء وَسطهَا. لما روى التِّرْمِذِيّ عَن أبي غَالب قَالَ: " صليت مَعَ أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ على جَنَازَة رجل فَقَامَ حِيَال رَأسه، ثمَّ جَاءُوا بِجنَازَة امْرَأَة من قُرَيْش، فَقَالُوا يَا أَبَا حَمْزَة صل عَلَيْهَا، فَقَامَ حِيَال وسط السرير، فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء بن زِيَاد: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله / [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَامَ مقامك مِنْهَا وَمن الرجل مقامك مِنْهُ، قَالَ: نعم، فَلَمَّا فرغ قَالَ: احْفَظُوا ".

(1/318)


قَالَ الطَّحَاوِيّ: " وَالرِّوَايَة الَّتِي يقوم فِيهَا من الرجل بحذاء رَأسه وَمن الْمَرْأَة بحذاء وَسطهَا أحب إِلَيْنَا لما شدها من الْآثَار الَّتِي رويناها عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
(بَاب لَا قِرَاءَة فِي صَلَاة الْجِنَازَة)

مَالك: عَن نَافِع: " أَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ لَا يقْرَأ فِي الصَّلَاة على الجناززة ". وَكفى بِهِ قدوة.
فَإِن قيل: روى التِّرْمِذِيّ، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَرَأَ فِي الصَّلَاة على الْجِنَازَة بِفَاتِحَة الْكتاب ". " قيل لَهُ: قَالَ التِّرْمِذِيّ: " حَدِيث ابْن عَبَّاس لَيْسَ إِسْنَاده بذلك الْقوي ". وَإِلَى هَذَا ذهب ذهب الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري رَحِمهم الله تَعَالَى.
(بَاب لَا يُصَلِّي على ميت فِي مَسْجِد جمَاعَة)

أَبُو دَاوُد: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من صلى على جَنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ ".
فَإِن قيل: رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " مَا أسْرع النَّاس إِلَى أَن

(1/319)


يعيبوا مَا لَا علم لَهُم بِهِ، عابوا علينا أَن يمر بالجنازة فِي الْمَسْجِد، مَا صلى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على ابْن بَيْضَاء إِلَّا فِي جَوف الْمَسْجِد ".
قيل لَهُ: فِي قَوْلهَا رَضِي الله عَنْهَا: مَا أسْرع النَّاس إِلَى أَن يعيبوا. دَلِيل على أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانَ هَذَا عِنْدهم مَكْرُوها وَإِلَّا لما عابوا عَلَيْهَا، وَإِذا (كَانَ كَذَلِك) فَيجوز أَن يكون النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] صلى على سُهَيْل بن بَيْضَاء فِي الْمَسْجِد وجنازته خَارج الْمَسْجِد، فخفي الْأَمر على عَائِشَة واطلع عَلَيْهِ غَيرهَا من الرِّجَال، أَو نقُول بِأَن الحَدِيث لَا شكّ فِي صِحَّته، وَإِنَّمَا منعنَا من إِدْخَال الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد حسما للذريعة _ (لِأَن) النَّاس كَانُوا يسترسلون فِي ذَلِك حَتَّى يخرجُوا - من إِدْخَال كل ميت الْمَسْجِد، وَيُؤَدِّي بهم ذَلِك إِلَى إذهاب حرمته، وتعريضه لما لَا يَلِيق بِهِ، وَقد منعت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا من دُخُول النِّسَاء (فِي) الْمَسَاجِد مَعَ نهي النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن مَنعهنَّ، وحسم الذرائع فِيمَا لَا يكون من اللوازم أصل فِي الدّين، وَكره أَيْضا لِئَلَّا يخرج من الْمَيِّت شَيْء، (وَتعرض الْمَسْجِد للنجاسات) لَا معنى لَهُ، وَلِهَذَا أَمر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يجنب الصّبيان الْمَسَاجِد / وَإِلَى هَذَا ذهب مَالك رَحمَه الله.
(بَاب الْمَشْي خلف الْجِنَازَة أفضل)

التِّرْمِذِيّ: عَن يحيى إِمَام بني تيم الله، عَن أبي ماجد، عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَأَلنَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن الْمَشْي خلف الْجِنَازَة، فَقَالَ:

(1/320)


مَا دون الخبب، فَإِن كَانَ خيرا (أعجلتموه) (وَإِن كَانَ شرا) فَلَا يبعد إِلَّا أهل النَّار، الْجِنَازَة متبوعة وَلَا تتبع (لَيْسَ مَعهَا من يقدمهَا) .
فَإِن قيل: قَالَ أَبُو عِيسَى: " هَذَا حَدِيث غَرِيب، لَا نعرفه من حَدِيث ابْن مَسْعُود إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَسمعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل يضعف حَدِيث أبي ماجد (هَذَا) ، وَقَالَ مُحَمَّد: قَالَ الْحميدِي: قَالَ ابْن عُيَيْنَة، قيل ليحيى من أَبُو ماجد هَذَا؟ قَالَ: طَائِر طَار فحدثنا ".
قيل لَهُ: هَذَا غير قَادِح فِي الحَدِيث، لِأَن يحيى ثِقَة، روى لَهُ شُعْبَة وَالثَّوْري وَابْن عُيَيْنَة وَأَبُو الْأَحْوَص. وَأَبُو ماجد مَجْهُول وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَن رِوَايَة الْمَجْهُول مَقْبُولَة، وشواهد الصِّحَّة لهَذَا الحَدِيث كَثِيرَة. قَالَ التِّرْمِذِيّ: " وَقد ذهب بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَغَيرهم إِلَى هَذَا، وَرَأَوا أَن الْمَشْي خلفهَا أفضل، وَبِه يَقُول إِسْحَاق وسُفْيَان الثَّوْريّ ". وَهُوَ إِمَام فِي الحَدِيث.
وروى أَبُو دَاوُد: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " لَا تتبعوا الْجِنَازَة بِصَوْت وَلَا نَار ". وَمن طَرِيق آخر: " وَلَا يمشي بَين يَديهَا ". وَفعل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَفعل الخليفتين من بعده مَحْمُول على بَيَان الْجَوَاز، وَمَا روينَاهُ على الْأَفْضَلِيَّة تَوْفِيقًا بَين الْأَخْبَار بِقدر الْإِمْكَان.
وَيُؤَيّد هَذَا مَا روى الطَّحَاوِيّ، عَن عَمْرو بن حُرَيْث، قَالَ: " قلت لعَلي بن أبي طَالب كرم الله وَجهه: مَا تَقول فِي الْمَشْي أَمَام الْجِنَازَة؟ فَقَالَ عَليّ: الْمَشْي خلفهَا

(1/321)


أفضل من الْمَشْي أمامها (كفضل الْمَكْتُوبَة على التَّطَوُّع، قلت: فَإِنِّي أرى أَبَا بكر وَعمر يمشيان أمامها) ، فَقَالَ: إنَّهُمَا يكرهان أَن يحرجا النَّاس ". وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " كَصَلَاة الْجَمَاعَة على صَلَاة الْفَذ، وإنهما ليعلمان ذَلِك مثل الَّذِي أعلم، ولكنهما يسهلان على النَّاس ". وَهَذَا لَا يُقَال بِالرَّأْيِ (أَي ليعلما) النَّاس أَن الْمَشْي خلفهَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا لَا بُد مِنْهُ وَلَا مِمَّا يجرح تَاركه.
وَمَا رُوِيَ من تَقْدِيم عمر رَضِي الله عَنهُ النَّاس فِي جَنَازَة زَيْنَب أَمَام الْجِنَازَة، فَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك لعَارض أَو نسَاء كن خلفهَا فكره للرِّجَال مخالطتهن.
(/ بَاب اللَّحْد دون الشق)

التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " اللَّحْد لنا والشق لغيرنا ".
(ذكر غَرِيبه:)

اللَّحْد: بِسُكُون الْحَاء، الشق فِي جَانب الْقَبْر، (واللحد بِضَم اللَّام لُغَة فِيهِ) ، تَقول: لحَدث الْقَبْر وألحدت لَهُ، والشق: هُوَ وَاحِد الشقوق وَهُوَ فِي وسط الْقَبْر.

(1/322)


(بَاب السّنة أَن يدْخل الْمَيِّت مِمَّا يَلِي الْقبْلَة)

التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] دخل قبرا لَيْلًا فأسرج لَهُ سراج، فَأَخذه من قبل الْقبْلَة وَقَالَ: رَحِمك الله إِن كنت لأواها تاليا لِلْقُرْآنِ وَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا ". وَالرِّوَايَات فِي إِدْخَال النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مضطربة، وَيحْتَمل أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِنَّمَا سل من قبل رَأسه لضيق الْمَكَان عَلَيْهِم فَلم يتمكنوا من إِدْخَاله من قبل الْقبْلَة، هَذَا إِن ثَبت أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سل سلا، وَالله أعلم.
(بَاب (السّنة) تسنيم الْقَبْر دون التسطيح)

الدَّارَقُطْنِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " صلى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على آدم وَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا، صلى يَوْمئِذٍ جِبْرِيل بِالْمَلَائِكَةِ (وَدفن) بِمَسْجِد الْخيف، وَأخذ من قبل الْقبْلَة، ولحد لَهُ وسنم قَبره ".
فَإِن قيل: فقد روى التِّرْمِذِيّ: عَن أبي الْهياج الْأَسدي - واسْمه حَيَّان -

(1/323)


قَالَ: قَالَ لي عَليّ: أَلا أَبْعَثك على مَا بَعَثَنِي (عَلَيْهِ) رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن لَا (أدع) قبرا مشرفا إِلَّا سويته وَلَا تمثالا إِلَّا طمسته. (وَلَفظ مُسلم فِي الصَّحِيح: أَن لَا تدع تمثالا إِلَّا طمسته وَلَا قبرا مشرفا إِلَّا سويته) .
قيل لَهُ: المُرَاد بِهِ هَذِه المشرفة المبنية الَّتِي يطْلب بهَا المباهاة.
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد: عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، قَالَ: " دخلت على عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَقلت يَا أُمَّاهُ اكشفي لي عَن قبر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَكشفت لي عَن ثَلَاثَة قُبُور لَا مشرفة وَلَا لاطئة، مبطوحة ببطحاء الْعَرَصَة الْحَمْرَاء، فَرَأَيْت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مقدما، وَأَبا بكر رَأسه بَين كَتِفي النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَعمر رَأسه عِنْد رجْلي النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
قيل لَهُ: فقد روى البُخَارِيّ: عَن أبي بكر بن عَيَّاش، (عَن) سُفْيَان التمار (أَنه) حَدثهُ: " أَنه رأى قبر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مسنما ".
فَإِن قيل: قَالَ الْبَغَوِيّ: وَرِوَايَة الْقَاسِم أصح وَأولى أَن تكون مَحْفُوظَة ".

(1/324)


قيل لَهُ: هَذِه كبوة / مِنْهُ بِمَا رفل فِيهِ من ثوب التعصب، وَإِلَّا فأحد يرجح رِوَايَة الْقَاسِم فِي هَذَا وَقد خرجها أَبُو دَاوُد على رِوَايَة سُفْيَان التمار وَقد أخرجهَا البُخَارِيّ.
(بَاب لَا بَأْس بِالْمَشْيِ بَين الْقُبُور بالنعال)

البُخَارِيّ: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " العَبْد إِذا وضع فِي قَبره وَتَوَلَّى (وَذهب أَصْحَابه حَتَّى) إِنَّه ليسمع قرع نعَالهمْ، أَتَاهُ ملكان فأقعداه (فَيَقُولَانِ) لَهُ: مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل مُحَمَّد [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَيَقُول: أشهد أَنه عبد الله وَرَسُوله، فَيُقَال: انْظُر إِلَى مَقْعَدك من النَّار أبدلك الله بِهِ مقْعدا فِي الْجنَّة، قَالَ (النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأما الْكَافِر وَالْمُنَافِق فَيَقُول: لَا أَدْرِي كنت أَقُول مَا يَقُول النَّاس، فَيُقَال: لَا دَريت (وَلَا تليت) ، ثمَّ يضْرب بِمِطْرَقَةٍ من حَدِيد ضَرْبَة بَين أُذُنَيْهِ فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا من يَلِيهِ إِلَّا الثقلَيْن ". وَقد كَانَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم يخرجُون إِلَى الْمقْبرَة فيدفن الْمَيِّت وَيجْلس النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حَتَّى يلْحد، وَيجْلس النَّاس حوله.

(1/325)


أَبُو دَاوُد: عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " خرجنَا مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي جَنَازَة رجل من الْأَنْصَار فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْر (وَلما) يلْحد بعد، فَجَلَسَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مسقبل الْقبْلَة وَجَلَسْنَا حوله ".
فَإِن قيل: " رُوِيَ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رأى رجلا بَين الْقُبُور عَلَيْهِ نَعْلَانِ، فَقَالَ: يَا صَاحب (السبتيتين ألق سبتيتيك) ، فَنظر الرجل، فَلَمَّا عرف رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خلعهما فَرمى بهما ".
قيل لَهُ: يحْتَمل (أَنه كَانَ) على نَعْلَيْه نَجَاسَة، فقد جَاءَت الْأَخْبَار متواترة عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من صلَاته فِي نَعْلَيْه، وَمن خلعه إيَّاهُمَا فِي وَقت مَا خلعهما للنَّجَاسَة الَّتِي كَانَت فيهمَا.
(ذكر الْغَرِيب:)

السبت: بِالْكَسْرِ جُلُود الْبَقر المدبوغة بالقرظ، (يحذى مِنْهَا النِّعَال) السبتية.

(1/326)


(بَاب لَا بَأْس بِالْجُلُوسِ على الْقُبُور)

لما روينَاهُ آنِفا، وَرُوِيَ: " أَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يجلس إِلَيْهَا ". وَمَا رُوِيَ من النَّهْي عَن أَن يجلس على الْقُبُور: قَالَ الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله: " أُرِيد بذلك الْجُلُوس للغائط وَالْبَوْل ". وَإِلَى هَذَا ذهب / مَالك بن أنس، وَكَذَا فسره مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ.
(بَاب اخْتلف مَشَايِخنَا فِي التَّلْقِين بعد الْمَوْت)

قلت: وَالَّذِي صَحَّ عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] هُوَ مَا رَوَاهُ مُسلم وَغَيره: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لقنوا مَوْتَاكُم لَا إِلَه إِلَّا الله ".
فَمن أجْرى لَفْظَة مَوْتَاكُم على حَقِيقَتهَا، ذهب إِلَى أَن الْمَيِّت يلقن بعد الْمَوْت، لِأَن الْمَيِّت حَقِيقَة من فارقته روحه فِي الْيَقَظَة.
وَمن جعلهَا مجَازًا عَن من قرب من الْمَوْت قَالَ: لَا يلقن بعد الْمَوْت، وَإِنَّمَا يلقن

(1/327)


ليَكُون آخر مَا يتَكَلَّم بِهِ كلمة الشَّهَادَة، لِأَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من كَانَ آخر كَلَامه لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة ".
(بَاب " فِي الْبكاء على الْمَيِّت ")

الطَّحَاوِيّ: عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَالَ: " أَخذ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بيَدي فَانْطَلَقت مَعَه إِلَى ابْنه إِبْرَاهِيم، وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ، (فَأَخذه النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَوَضعه فِي حجره، حَتَّى خرجت نَفسه، فَوَضعه) ثمَّ بَكَى فَقلت: يَا رَسُول الله تبْكي وَأَنت تنْهى عَن الْبكاء؟ فَقَالَ: إِنِّي لم أَنه عَن الْبكاء وَلَكِن نهيت عَن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فاجرين؛ صَوت عِنْد نَغمَة لَهو وَلعب وَمَزَامِير شَيْطَان، وَصَوت عِنْد مُصِيبَة لطم (وُجُوه) وشق جُيُوب، وَهَذَا رَحْمَة، من لَا يرحم لَا يرحم، يَا إِبْرَاهِيم: لَوْلَا أَنه وعد صَادِق، وَقَول صَادِق، وَأَن آخِرنَا سيلحق أولنا، لحزنا عَلَيْك حزنا هُوَ أَشد من هَذَا، وَإِنَّا بك لَمَحْزُونُونَ، تبْكي الْعين ويحزن الْقلب وَلَا نقُول مَا يسْخط الرب ".
وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ "، فقد أنْكرت عَائِشَة على ابْن عمر أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِنَّمَا قَالَ: إِن الله عز وَجل ليزِيد الْكَافِر (عذَابا) فِي قَبره ببكاء بعض أَهله عَلَيْهِ ".

(1/328)


وَقد يجوز أَن يكون ذَلِك الْبكاء الَّذِي يعذب بِهِ الْكَافِر فِي قَبره يزْدَاد بِهِ عذَابا على عَذَابه ببكاء كَانَ قد أوصى بِهِ فِي حَيَاته، فَإِن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يوصون بذلك أهلهم أَن يفعلوه بعد وفاتهم، فَيكون الله عز وَجل عذبه فِي قَبره بِسَبَب كَانَ مِنْهُ فِي حَيَاته، وَمن جملَة أشعار الْعَرَب فِي ذَلِك مَا ذكره فِي المعلقات:
(إِذا مت فانعيني بِمَا أَنا أَهله ... وشقي عَليّ الجيب يَا ابْنة معبد)

(بَاب " يصل ثَوَاب الْقُرْآن إِلَى الْمَيِّت ")

روى أَبُو بكر النجاد فِي سنَنه بِإِسْنَادِهِ فِي كتاب الْجَنَائِز من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، (عَن أَبِيه) ، عَن جده أَنه سَأَلَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: " يَا رَسُول الله إِن الْعَاصِ بن وَائِل كَانَ نذر فِي الْجَاهِلِيَّة أَن ينْحَر مائَة بَدَنَة، وَإِن هِشَام بن الْعَاصِ نحر حِصَّته من ذَلِك خمسين بَدَنَة، أفتجزئ عَنهُ؟ فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : إِن أَبَاك لَو كَانَ آمن بِالتَّوْحِيدِ فَصمت عَنهُ، أَو تَصَدَّقت، أَو أعتقت عَنهُ، بلغه ذَلِك ".
(وَجه الْحجَّة من هَذَا الحَدِيث)
: أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سوى بَين الصَّوْم وَالصَّدَََقَة وَالْعِتْق فِي الْوُصُول إِلَيْهِ.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ: عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَن رجلا سَأَلَهُ فَقَالَ يَا رَسُول الله، عَلَيْك، كَانَ لي أَبَوَانِ وَكنت أبرهما حَال حياتهما، فَكيف لي بِالْبرِّ بعد مَوْتهمَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " إِن من الْبر بعد الْبر أَن تصلي لَهما مَعَ صَلَاتك، وَأَن تَصُوم لَهما مَعَ صيامك، وَأَن (تصدق) لَهما مَعَ صدقتك ".

(1/329)


وَعنهُ: عَن عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من مر على الْمَقَابِر فَقَرَأَ قل هُوَ الله أحد (إِحْدَى عشرَة) مرّة، ثمَّ وهب (أجرهَا) للأموات أعطي من الْأجر بِعَدَد الْأَمْوَات ".
وروى أَبُو بكر عبد الْعَزِيز صَاحب الْخلال بِإِسْنَادِهِ عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من دخل الْمَقَابِر فَقَرَأَ سُورَة يس خفف عَنْهُم يَوْمئِذٍ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَد من فِيهَا حَسَنَات ".
وَعنهُ: عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من زار قبر وَالِديهِ أَو أَحدهمَا فَقَرَأَ عِنْده أَو عِنْدهمَا يس غفر (الله) لَهُ ".
وروى أَبُو حَفْص بن شاهين بِإِسْنَادِهِ عَن أنس بن مَالك أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من قَالَ الْحَمد لله رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض رب الْعَالمين، وَله الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم، لله الْحَمد رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض رب الْعَالمين، وَله العظمة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم، لله الْملك رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض رب الْعَالمين، وَله النُّور فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم، لله الْحَمد رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم. مرّة وَاحِدَة، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَل ثَوَابهَا لوالدي. لم يبْق لوَالِديهِ حق إِلَّا أَدَّاهُ إِلَيْهِمَا ". " وَذكر القَاضِي الإِمَام (أَبُو الْحُسَيْن الْفراء) فِي كِتَابه بِإِسْنَادِهِ أَن / أنس بن مَالك سَأَلَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: " بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله، إِنَّا نتصدق عَن مَوتَانا، ونحج عَنْهُم، وندعو لَهُم، فَهَل يصل ذَلِك إِلَيْهِم؟ قَالَ: نعم إِنَّه ليصل

(1/330)


إِلَيْهِم، ويفرحون بِهِ كَمَا يفرح أحدكُم بالطبق إِذا أهدي إِلَيْهِ ". رَوَاهُ أَبُو حَفْص العكبري.
وروى بِإِسْنَادِهِ عَن سعد رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله إِن أُمِّي توفيت أفأتصدق عَنْهَا؟ قَالَ: تصدق عَن أمك. قَالَ: فَأَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء ".
وبإسناده عَن عَطاء بن أبي رَبَاح أَن رجلا جَاءَ إِلَى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: " إِن أبي مَاتَ أفأعتق عَنهُ؟ قَالَ: نعم ".
وبإسناده عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ: " إِن الْحسن وَالْحُسَيْن عَلَيْهِمَا السَّلَام كَانَا يعتقان عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ وأرضاه ".
وروى مقَاتل بن سُلَيْمَان فِي أثْنَاء تَفْسِير الْخَمْسمِائَةِ آيَة قَالَ: " قَالَ معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ يَا رَسُول الله: كَانَ لأمي (نصيب) مِمَّا أعطي (تصدق) مِنْهُ وتقدمه لنَفسهَا، وَإِنَّهَا مَاتَت وَلم توص، وَقد كنت أعرف الْبركَة فِيمَا تُعْطِي - وَبكى معَاذ - فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : لَا يبكي الله (عَيْنَيْك) يَا معَاذ أَتُحِبُّ أَن تؤجر أمك فِي قبرها، قَالَ: نعم يَا رَسُول الله، قَالَ: فَانْظُر مَا كنت تعطيها فامضه على الَّذِي كَانَت تفعل، وَقل: اللَّهُمَّ تقبل من أم معَاذ وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين عَامَّة، قَالَ: قَالُوا يَا رَسُول الله فَمن لم يكن لَهُ منا ورق يتَصَدَّق بِهِ عَن أَبَوَيْهِ أيحج عَنْهُمَا؟ قَالَ: نعم ويؤجرون عَلَيْهِ، وَلنْ يصل رحم رَحمَه بِأَفْضَل من أَن (يتبعهُ) بِحجَّة فِي قَبره، فَإِذا كَانَ عِنْد الْإِحْرَام فَلْيقل لبيْك عَن فلَان، فَإِذا كَانَ فِي سَائِر المواقف فَلْيقل اللَّهُمَّ تقبل من فلَان، وأوفوا عَنْهُم بالنذور وَالصِّيَام، وَالصَّدَََقَة أفضل مَا قضى عَن الْمَرْء وَالْمَرْأَة ذُو رحم إِن كَانَ ".
البُخَارِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن رجلا قَالَ يَا رَسُول الله إِن أُمِّي

(1/331)


توفيت أينفعها إِن تَصَدَّقت عَنْهَا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَإِن لي مخرفا فأشهدك أَنِّي قد تَصَدَّقت بِهِ عَنْهَا ".
وروى الْحَافِظ اللالكائي بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابه شرح السّنة عَن أبي أسيد - وَكَانَ بَدْرِيًّا - قَالَ: " كنت عِنْد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] جَالِسا فجَاء رجل من الْأَنْصَار فَقَالَ: هَل بَقِي عَليّ من بر وَالِدي شَيْء من بعدهمَا أبرهما؟ / قَالَ: نعم، الصَّلَاة عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَار لَهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهمَا، وإكرام صديقهما، وصلَة الرَّحِم الَّتِي لَا رحم لَك إِلَّا من قبلهمَا، فَهَذَا الَّذِي بَقِي عَلَيْك من برهما ".
وروى أَيْضا بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " يَمُوت الرجل ويدع والدا فيرفع لَهُ دَرَجَة، فَيَقُول: يَا رب مَا هَذَا؟ (فَيَقُول) اسْتِغْفَار ولدك لَك ".
وبإسناده عَن معقل بن يسَار رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " اقرأوا على مَوْتَاكُم يَعْنِي يس "
وبإسناده عَن عبد الرَّحْمَن بن الْعَلَاء بن اللَّجْلَاج عَن أَبِيه أَنه قَالَ لوَلَده: " إِذا مت فأدخلتموني فِي اللَّحْد فهيلوا عَليّ التُّرَاب هيلا، وَقُولُوا باسم الله وعَلى مِلَّة رَسُول الله، وسنوا عَليّ التُّرَاب سنا، واقرأوا عِنْد رَأْسِي بِفَاتِحَة سُورَة الْبَقَرَة وخاتمتها، فَإِنِّي سَمِعت عبد الله يسْتَحبّ ذَلِك ". يَعْنِي عبد الله بن عمر.
وَأخرج الإِمَام أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن حبَان فِي كِتَابه - الْمسند صَحِيح - بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خرج يَوْمًا، فخرجنا مَعَه حَتَّى انتهينا إِلَى الْمَقَابِر، فَأمرنَا فَجَلَسْنَا، ثمَّ تخطى الْقُبُور حَتَّى انْتهى إِلَى قبر مِنْهَا فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فناجاه طَويلا، ثمَّ رَجَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] باكيا، فبكينا لبكاء النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، ثمَّ أقبل علينا فَتَلقاهُ عمر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ: مَا الَّذِي أبكاك يَا رَسُول الله؟ فقد

(1/332)


أبكيتنا وأفزعتنا، فَأخذ بيد عمر ثمَّ أقبل علينا فَقَالَ: أفزعكم بُكَائِي، قُلْنَا: نعم (يَا رَسُول الله) ، قَالَ: إِن الْقَبْر الَّذِي رَأَيْتُمُونِي أُنَاجِي قبر آمِنَة بنت وهب، وَإِنِّي سَأَلت رَبِّي عز وَجل الاسْتِغْفَار لَهَا فَلم يَأْذَن لي، فَنزل (عَليّ) : {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين} ، الْآيَة. فأخذني مَا يَأْخُذ الْوَلَد للوالد من الرقة، فَذَلِك الَّذِي أبكاني، أَلا وَإِنِّي كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها فَإِنَّهَا تزهد (فِي الدُّنْيَا) وترغب فِي الْآخِرَة ".
فَدلَّ على أَن الاسْتِغْفَار ينفع الْمُؤمنِينَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى: {وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان، وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم} . وَهُوَ وَإِن كَانَ دُعَاء إِلَّا أَنه قُرْآن فَيحصل ثَوَابه.

(1/333)


فَإِن قيل: قَوْله تَعَالَى /: {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} يدل على عدم وُصُول (ثَوَاب) الْقُرْآن إِلَى الْمَيِّت.
قيل لَهُ: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْآيَة على ثَمَانِيَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وأتبعناهم ذرياتهم} ، أَدخل الْأَبْنَاء الْجنَّة بصلاح الْآبَاء، قَالَه ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَإِنَّمَا جَازَ نسخهَا وَإِن كَانَت خَبرا لجوازه إِذا كَانَ بِمَعْنى الْأَمر وَالنَّهْي على مَا قيل.
الثَّانِي: أَنَّهَا خَاصَّة بِقوم إِبْرَاهِيم وَقوم مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَأَما هَذِه الْأمة فَلهم مَا سعوا وَمَا سعى لَهُم غَيرهم. قَالَه عِكْرِمَة، وَاسْتدلَّ بقول النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] للَّتِي سَأَلته إِن أبي مَاتَ وَلم يحجّ قَالَ: " حجي عَنهُ ".
الثَّالِث: أَن المُرَاد الْإِنْسَان هَهُنَا الْكَافِر، فَأَما الْمُؤمن فَلهُ مَا سعى وَمَا سعي لَهُ. قَالَه الرّبيع بن أنس.
الرَّابِع: لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى (من طَرِيق الْعدْل، فَأَما من بَاب الْفضل فَجَائِز أَن يزِيدهُ الله مَا شَاءَ. قَالَه الْحُسَيْن بن الْفضل.
الْخَامِس: أَن معنى مَا سعى) مَا نوى. قَالَه أَبُو بكر الْوراق (وَاسْتدلَّ) عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ فِي الحَدِيث: " إِن الْمَلَائِكَة تقف كل يَوْم بعد الْعَصْر بكتبها فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، فينادى الْملك (أَن) (ألق) تِلْكَ الصَّحِيفَة فَيَقُول (الْملك) وَعزَّتك

(1/334)


مَا كتبت إِلَّا مَا عمل. فَيَقُول الله عز وَجل: وَلم يرد بِهِ وَجْهي. وينادى الْملك الآخر اكْتُبْ لفُلَان كَذَا وَكَذَا، فَيَقُول الْملك وَعزَّتك إِنَّه لم يعْمل ذَلِك، فَيَقُول عز وَجل: إِنَّه نَوَاه، إِنَّه نَوَاه ".
السَّادِس: إِنَّه لَيْسَ للْكَافِرِ من الْخَيْر إِلَّا مَا عمله فِي الدُّنْيَا، فيثاب عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى لَا يبْقى لَهُ فِي الْآخِرَة خير. ذكره الثَّعْلَبِيّ.
السَّابِع: أَن اللَّام فِي " للْإنْسَان " بِمَعْنى " على " تَقْدِيره: لَيْسَ على الْإِنْسَان إِلَّا مَا سعى.
الثَّامِن: أَنه لَيْسَ (لَهُ) إِلَّا سَعْيه، غير أَن الْأَسْبَاب مُخْتَلفَة، فَتَارَة يكون سَعْيه فِي تَحْصِيل الشَّيْء بِنَفسِهِ، وَتارَة يكون سَعْيه فِي تَحْصِيل سَببه مثل سَعْيه فِي تَحْصِيل قرَابَة وَولد يترحم عَلَيْهِ وصديق يسْتَغْفر لَهُ، وَتارَة يسْعَى فِي خدمَة الدّين وَالْعِبَادَة فيكتسب محبَّة أهل الدّين فَيكون ذَلِك سَببا حصل بسعيه. حكى هذَيْن الْقَوْلَيْنِ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ عَن شَيْخه عَليّ بن الزَّاغُونِيّ رحمهمَا الله تَعَالَى. وَمِمَّا يدل على هَذَا أَيْضا أَن الْمُسلمين يَجْتَمعُونَ فِي كل عصر ويقرأون ويهدون لموتاهم، وَلم يُنكره مُنكر فَكَانَ إِجْمَاعًا. /
فَإِن قيل: فقد صَحَّ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث ولد صَالح يَدْعُو لَهُ وَعلم ينْتَفع بِهِ من بعده وَصدقَة جَارِيَة ". وروى: " (شَجَرَة) غرست، وبئر حفرهَا يشرب من مَائِهَا، ومصحف كتبته ".
قيل لَهُ: إخْبَاره عَلَيْهِ السَّلَام عَن انْقِطَاع عمله إِلَّا من هَذِه الثَّلَاث لَا يلْزم مِنْهُ انْقِطَاعه من غَيرهَا، وَلِهَذَا أجمعنا (واتفقنا) على وُصُول الْحَج إِلَيْهِ، وعَلى قَضَاء

(1/335)


الدُّيُون عَنهُ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَضَاء الدّين: " الْآن بردت جلدته ". وَرُوِيَ: " الْآن فَككت رهانه ".
فَإِن قيل: أجمعنا على وُصُول عبادات تدْخلهَا النِّيَابَة فِي حَال الْحَيَاة. وَالْقِرَاءَة لَا تدْخلهَا النِّيَابَة.
قيل لَهُ: قد قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " صل لَهما مَعَ صَلَاتك، وصم لَهما مَعَ صيامك ". وهما عبادتان بدنيتان، وَنَصّ (النَّبِي) [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على قِرَاءَة يس. ثمَّ إِن حَقِيقَة الثَّوَاب لَا فرق فِي (نَقله) بَين أَن يكون من حج، أَو صَدَقَة، أَو وقف، أَو صَلَاة، أَو اسْتِغْفَار أَو قَضَاء دين، فقدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَالِحَة للْكُلّ من غير فرق لمن أنصف، وتطابق الْأَحَادِيث الَّتِي رويناها تدل دلَالَة ظَاهِرَة على ذَلِك، فنسأل الله تَعَالَى التَّوْفِيق لكل خير. وَمن الْعجب إِنْكَار هَذِه الْمَسْأَلَة، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مر على قبرين " الحَدِيث. قَالَ الإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ رَحمَه الله: " هَذَا عِنْد أهل الْعلم مَحْمُول على أَن الْأَشْيَاء مَا دَامَت على أصل خلقتها (أَو خضرتها) وطراوتها فَإِنَّهَا تسبح الله عز وَجل حَتَّى تَجف رطوبتها وتحول خضرتها، أَو تقطع من أَصْلهَا، فَإِذا خفف (عَن الْمَيِّت) بِوَضْعِهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الجريدة على قَبره، فبطريق الأولى أَن يكون ذَلِك بِالْقُرْآنِ الَّذِي (جَاءَ بِهِ) من عِنْد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ". هَذِه الْمَسْأَلَة نقلت مَا فِيهَا من الْأَدِلَّة من جُزْء أَلفه الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة شمس الدّين أَبُو عبد الله بن أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الْوَاحِد بن سرُور الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ رَحمَه الله.

(1/336)


(ذكر مَا فِي الْأَحَادِيث من الْغَرِيب:)

المخرف: بِالْفَتْح، / الْبُسْتَان، وبالكسر مَا تجنى فِيهِ الثِّمَار، والمخرفة: الطَّرِيق، والخرف: فَسَاد الْعقل من الْكبر، وخرافة: اسْم رجل من عذرة استهوته الْجِنّ فَكَانَ يحدث بِمَا رأى فَكَذبُوهُ، وَقَالُوا: " حَدِيث خرافة ".
(بَاب الشَّهِيد يصلى عَلَيْهِ)

قَالَ الله تَعَالَى: {وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم}
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن حُصَيْن عَن أبي مَالك قَالَ: " كَانَ يجاء بقتلى أحد تِسْعَة وَحَمْزَة عاشرهم فَيصَلي عَلَيْهِم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، ثمَّ يدفنون التِّسْعَة وَيدعونَ حَمْزَة، ثمَّ يجاء بِتِسْعَة وَحَمْزَة عاشرهم فَيصَلي عَلَيْهِم (فيدفنون) . التِّسْعَة وَيدعونَ حَمْزَة.
فَإِن فيل: بِأَن أَبَا مَالك الْغِفَارِيّ لَا صُحْبَة لَهُ، وَقد صَحَّ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يصل على (شُهَدَاء) أحد.
قيل لَهُ: إِن لم يكن أَبُو مَالك صحابيا فَهُوَ تَابِعِيّ قد أرسل الحَدِيث، والمرسل حجَّة، وحديثنا مُثبت وَهُوَ مقدم على النَّافِي، وَقد روى البُخَارِيّ عَن عقبَة بن عَامر

(1/337)


قَالَ: " صلى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على قَتْلَى أحد بعد ثَمَانِي سِنِين كَالْمُودعِ للأحياء والأموات ". وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: عَن عقبَة بن عَامر: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خرج يَوْمًا فصلى على قَتْلَى أحد صلَاته على الْمَيِّت ".
فَإِن ثَبت أَن تِلْكَ الصَّلَاة كَانَت من النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تَطَوّعا فَلَا تكون إِلَّا وَالصَّلَاة عَلَيْهِم سنة كَالصَّلَاةِ على غَيرهم، لِأَن كل تطوع لَهُ أصل فِي الْفُرُوض.
وَإِن (كَانَت) صلَاته عَلَيْهِم نسخا لفعله الأول إِن كَانَ ثَابتا فَصلَاته توجب أَن يكون من سنتهمْ الصَّلَاة عَلَيْهِم، وَأَن ترك الصَّلَاة عَلَيْهِم عِنْد دفنهم مَنْسُوخ.
وَإِن كَانَت صلَاته عَلَيْهِم إِنَّمَا كَانَت لِأَن سنتهمْ أَن لَا يصلى عَلَيْهِم إِلَّا بعد هَذِه الْمدَّة وَأَنَّهُمْ خصوا بذلك فقد يحْتَمل أَن يكون كَذَلِك سَائِر الشُّهَدَاء، لَا يصلى عَلَيْهِم إِلَّا بعد هَذِه الْمدَّة، وَيجوز أَن سَائِر الشُّهَدَاء يعجل عَلَيْهِم الصَّلَاة، إِلَّا أَنه قد ثَبت بِهَذِهِ الْمعَانِي أَن من سنتهمْ الصَّلَاة عَلَيْهِم إِمَّا بعد الدّفن أَو قبله، وَالْخلاف إِنَّمَا هُوَ قبل الدّفن أَو تَركهَا الْبَتَّةَ، فَلَمَّا ثَبت جَوَاز الصَّلَاة عَلَيْهِم بعد الدّفن فَقبله أولى.

(1/338)