اللباب في الجمع بين السنة والكتاب

 (6 - كتاب الْمَنَاسِك)

(بَاب الْحَج وَاجِب على الْفَوْر)

التِّرْمِذِيّ: عَن الْحَارِث، عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من ملك زادا وراحلة تبلغه إِلَى بَيت الله وَلم يحجّ فَلَا عَلَيْهِ أَن يَمُوت يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا ". وَهَذَا يَقْتَضِي (أَن) من غلب على ظَنّه أَنه لَا يعجز عَن الْحَج فَمَاتَ قبل أَن يحجّ يسْتَحق الْوَعيد.
فَإِن قيل: إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حج فِي السّنة الْعَاشِرَة من الْهِجْرَة، وَهِي آخر عمره، وَكَانَ فتح مَكَّة سنة ثَمَان، وَبعث أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ ليحج بِالنَّاسِ سنة تسع فَدلَّ

(1/413)


(على) أَنه أخر (الْحَج) مَعَ التَّمَكُّن. وَالْوُجُوب كَانَ (قبل) فتح مَكَّة، وَلنَا فِيهِ أُسْوَة حَسَنَة.
قيل لَهُ: أما حج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَمن الْمُحْتَمل أَنه أَخّرهُ بِعُذْر من فقر أَو خوف على الْمَدِينَة من الْمُشْركين، أَو كَانَ يكره إِظْهَار الْمُشْركين أَعْلَام الشّرك فِي الْحرم، وَلم يُمكنهُ الْمَنْع لقِيَام الْعَهْد بَينهم، وَكَانَ ينْتَظر انْقِضَاء مُدَّة الْعَهْد، وَفرض الْحَج كَانَ سنة سِتّ من الْهِجْرَة، وَفتح مَكَّة كَانَ سنة ثَمَان وَيجوز أَن يكون النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] علم من طَرِيق الْوَحْي أَنه يدْرك، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذِه الِاحْتِمَالَات أَنا اتفقنا على أَن التَّعْجِيل أفضل، وَالرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا يتْرك الْأَفْضَل إِلَّا لعذر.
(بَاب إِذا كَانَ بَين الْمَرْأَة وَبَين مَكَّة مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام لَا يجب عَلَيْهَا الْحَج إِلَّا مَعَ زوج أَو محرم)

البُخَارِيّ وَغَيره: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " لَا تُسَافِر الْمَرْأَة ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا مَعَ ذِي محرم ".
البُخَارِيّ وَمُسلم: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سمع النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يخْطب يَقُول: " لَا يخلون رجل بِامْرَأَة إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم، وَلَا تُسَافِر الْمَرْأَة إِلَّا مَعَ ذِي محرم،

(1/414)


فَقَامَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله: إِن امْرَأَتي خرجت حَاجَة، وَإِنِّي اكتتبت فِي غَزْوَة / كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: انْطلق حج مَعَ امْرَأَتك ".
فَإِن قيل: فقد روى البُخَارِيّ وَغَيره: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تُسَافِر مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة لَيْسَ مَعهَا محرم ".
قيل لَهُ: الْعَمَل بِحَدِيث الثَّلَاث أولى من الْعَمَل بِحَدِيث الْيَوْم وَاللَّيْلَة، لِأَن حَدِيث الثَّلَاث إِن (كَانَ) مُتَقَدما كَانَ حَدِيث الْيَوْم وَاللَّيْلَة مقررا (لحكمه) ، وَإِن كَانَ حَدِيث الْيَوْم وَاللَّيْلَة مُتَقَدما كَانَ حَدِيث الثَّلَاث نَاسِخا لَهُ، فَحَدِيث الثَّلَاث مَعْمُول بِهِ على كلا التَّقْدِيرَيْنِ، وَحَدِيث الْيَوْم وَاللَّيْلَة مَعْمُول بِهِ على أحد التَّقْدِيرَيْنِ.
قَالَ الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله: " حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا عَن مُحَمَّد بن مقَاتل الرَّازِيّ وَلَا أعلمهُ إِلَّا عَن حكام الرَّازِيّ (قَالَ) : سَأَلت أَبَا حنيفَة رَضِي الله عَنهُ هَل تُسَافِر الْمَرْأَة بِغَيْر محرم؟ قَالَ: لَا، نهى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن تُسَافِر امْرَأَة مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فَصَاعِدا إِلَّا وَمَعَهَا زَوجهَا، أَو أَبوهَا، أَو ذُو محرم مِنْهَا. قَالَ حكام: فَسَأَلت الْعَرْزَمِي، فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك، حَدثنِي عَطاء أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَت تُسَافِر بِغَيْر محرم، فَأتيت أَبَا حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فَأَخْبَرته بذلك، فَقَالَ (أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ) : لم يدر الْعَرْزَمِي مَا روى، كَانَ النَّاس لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا محرما، فَمَعَ أَيهمْ سَافَرت فقد سَافَرت مَعَ محرم، وَلَيْسَ النَّاس لغَيْرهَا محرما ".

(1/415)


قلت: ظن الْعَرْزَمِي أَن سفر عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بِغَيْر محرم دَلِيل على نسخ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو حنيفَة، لِأَن الحَدِيث حكمه مُخْتَصّ بِالنسَاء، وَهِي من جملَة الداخلين تَحت الْخطاب، وَهِي صحابية، وَقد فعلت خلاف مَا اقْتَضَاهُ الحَدِيث، فَدلَّ على أَنَّهَا اطَّلَعت على نسخه، فَبين أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ أَن فعل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لَيْسَ بِدَلِيل على نسخ (الحَدِيث) ، لما ذكره من الْمَعْنى، وَإِلَى هَذَا ذهب النَّخعِيّ، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَأحمد، وَإِسْحَاق. وَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا تخرج مَعَ امْرَأَة حرَّة مسلمة ثِقَة (من) النِّسَاء، قِيَاسا على الْأَسِيرَة الْمسلمَة إِذا تخلصت من أَيدي الْكفَّار، أَو الْكَافِرَة إِذا أسلمت فِي دَار الْحَرْب، فَإِنَّهَا يجوز لَهَا الْخُرُوج إِلَى دَار الْإِسْلَام بِلَا محرم. / وَالْمعْنَى فِيهِ أَنه سفر وَاجِب فَكَذَلِك الْحَج.
قلت: " هَذَا قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص فَلَا يَصح، وَلِأَنَّهُمَا لَو كَانَا سَوَاء لجَاز لَهَا أَن تحج من غير محرم وَلَا امْرَأَة ".
(بَاب من أَرَادَ أَن يحرم صلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أحرم فِي دبرهَا)

أَبُو دَاوُد: عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: " قلت لعبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: عجبت لاخْتِلَاف أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي إهلال رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (حِين

(1/416)


أوجب) فَقَالَ: إِنِّي لأعْلم النَّاس بذلك (إِنَّهَا لما) كَانَت من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حجَّة وَاحِدَة فَمن هُنَاكَ اخْتلفُوا، خرج رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حَاجا فَلَمَّا صلى فِي مَسْجده، بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ أوجب فِي مَجْلِسه، فَأهل بِالْحَجِّ حِين فرغ من ركعتيه، فَسمع ذَلِك مِنْهُ أَقوام فحفظوه عَنهُ، ثمَّ ركب فَلَمَّا اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته أهل. وَأدْركَ ذَلِك (مِنْهُ) أَقوام (وَذَلِكَ) أَن النَّاس إِنَّمَا كَانُوا يأْتونَ أَرْسَالًا فسمعوه حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته يهل، فَقَالُوا: إِنَّمَا أهل (رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته، ثمَّ مضى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَلَمَّا علا شرف الْبَيْدَاء أهل، وَأدْركَ ذَلِك مِنْهُ أَقوام فَقَالُوا: إِنَّمَا أهل حِين علا شرف الْبَيْدَاء، وأيم الله لقد أوجب فِي مُصَلَّاهُ، وَأهل حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته، وَأهل حِين علا شرف الْبَيْدَاء ". لَكِن فِي سَنَده خصيف وَمُحَمّد بن إِسْحَاق.
التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أهل فِي دبر الصَّلَاة " (حَدِيث) حسن غَرِيب.
(ذكر الْغَرِيب:)
الْبَيْدَاء الْمَفَازَة، وَالْجمع بيد. قَالَه الْجَوْهَرِي. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: " اسْم أَرض ملساء بَين المسجدين "، وَفَسرهُ فِي اللُّغَة بِمَا قَالَه الْجَوْهَرِي.

(1/417)


(بَاب يجوز أَن يتطيب قبل الْإِحْرَام بِمَا يبْقى أَثَره بعده)

البُخَارِيّ وَغَيره: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كَأَنِّي أنظر إِلَى وبيص الطّيب فِي مفارق رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهُوَ محرم ". وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بَين أَصْحَابنَا فِي الْمَشْهُور من الرِّوَايَة، وَلم ترو كَرَاهَته عَن أحد من أَصْحَابنَا (إِلَّا) عَن مُحَمَّد رَحمَه الله. (وَقد نسب) الْبَغَوِيّ (هَذَا القَوْل إِلَى أبي حنيفَة رَحمَه الله وَقَالَ) : " قَالَ أَبُو حنيفَة: إِن تطيب بِمَا يبْقى أَثَره بعد الْإِحْرَام فَعَلَيهِ الْفِدْيَة، كَمَا لَو استدام لبس الْمخيط. قَالَ والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ " /.
قلت: لم يكف الْبَغَوِيّ فِي التعصب أَنه نسب إِلَى أبي حنيفَة خلاف مذْهبه حَتَّى جعل الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وَهَذَا الحَدِيث هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ.
(ذكر الْغَرِيب:)

وبيص الْمسك: بريقه (ولمعانه) . وَالله أعلم.

(1/418)


(بَاب إِذا لم يجد إزارا لبس سراويلا وَكفر)
البُخَارِيّ: عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " مَا يلبس الْمحرم من الثِّيَاب؟ قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا يلبس) (القمص) وَلَا السراويلات، وَلَا البرانس، وَلَا الْخفاف، إِلَّا أحد لَا يجد نَعْلَيْنِ فليلبس خُفَّيْنِ وليقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ ".
التِّرْمِذِيّ: عَن جَابر بن زيد، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " الْمحرم إِذا لم يجد الإفزار فليلبس السَّرَاوِيل، فَإِذا لم يجد النَّعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ ".
فَهَذَا الحَدِيث مُطلق، وَالَّذِي قبله مُقَيّد، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ لبس الْخُفَّيْنِ بعد قطعهمَا أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ، وَهَذَا التَّقْيِيد (مُؤذن بالتقييد) فِي لبس السَّرَاوِيل،

(1/419)


فَيَنْبَغِي أَن يكون لبس الْمحرم لَهُ على خلاف مَا يلْبسهُ الْحَلَال. وَذَلِكَ (يُوجب) الْكَفَّارَة.
(بَاب لَا يلبس الْمحرم ثوبا مَسّه ورس وَلَا عصفر وَلَا زعفران إِلَّا أَن يكون غسيلا لَا تفوح لَهُ رَائِحَة)

الطَّحَاوِيّ: عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " لَا تلبسوا ثوبا مَسّه ورس أَو زعفران إِلَّا أَن يكون غسيلا ". يَعْنِي فِي الْإِحْرَام. قَالَ ابْن أبي عمرَان: " وَرَأَيْت يحيى بن معِين يتعجب من الْحمانِي أَن يحدث بِهَذَا الحَدِيث، فَقَالَ (لَهُ) عبد الرَّحْمَن: هَذَا عِنْدِي، ثمَّ وثب من فوره فجَاء بِأَصْلِهِ فَأخْرج مِنْهُ (هَذَا) الحَدِيث عَن أبي (مُعَاوِيَة) كَمَا ذكره يحيى بن عبد الحميد الْحمانِي فَكَتبهُ (عَنهُ) يحيى بن معِين ".
(بَاب من أحرم وَعَلِيهِ جُبَّة أَو قَمِيص نزعهما)

التِّرْمِذِيّ: عَن صَفْوَان بن يعلى بن أُميَّة، عَن أَبِيه قَالَ: " رأى

(1/420)


رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَعْرَابِيًا قد أحرم وَعَلِيهِ جُبَّة فَأمره أَن يَنْزِعهَا ". وَمن طَرِيق أبي دَاوُد: فَقَالَ لَهُ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " اخلع جبتك فخلعها من رَأسه "، وَإِلَى هَذَا ذهب عَطاء وَعِكْرِمَة رحمهمَا الله تَعَالَى.
(بَاب الْقرَان أفضل من التَّمَتُّع والإفراد)

البُخَارِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سمع عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " سَمِعت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بوادي العقيق يَقُول: أَتَانِي اللَّيْلَة آتٍ من رَبِّي فَقَالَ: صل فِي هَذَا الْوَادي الْمُبَارك، وَقل: عمْرَة فِي حجَّة " /.
وَعنهُ: عَن مَرْوَان بن الحكم قَالَ: " شهِدت عُثْمَان وعليا رَضِي الله عَنْهُمَا، وَعُثْمَان ينْهَى عَن الْمُتْعَة وَأَن يجمع بَينهمَا، فَلَمَّا رأى عَليّ ذَلِك أهل بهما لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة، وَقَالَ: مَا كنت لأدع سنة النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لقَوْل أحد ".
الطَّحَاوِيّ: عَن مَرْوَان بن الحكم قَالَ: " كُنَّا نسير مَعَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فَإِذا رجل يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة، فَقَالَ عُثْمَان: من هَذَا؟ فَقَالُوا عَليّ، فَأَتَاهُ عُثْمَان فَقَالَ: ألم تعلم أَنِّي نهيت عَن هَذَا، فَقَالَ بلَى وَلَكِنِّي لم أكن لأدع قَول النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لِقَوْلِك ".

(1/421)


فَإِن قيل: فقد رُوِيَ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أفرد الْحَج وَرُوِيَ أَنه تمتّع وَرُوِيَ أَنه قرن. فَمَا طَرِيق التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات وَكلهَا فِي الصَّحِيح.
قيل لَهُ: قَالَ الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله: " طَرِيق التَّوْفِيق بَينهَا أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أحرم بِعُمْرَة فِي بَدْء أمره (فَمضى فِيهَا) مُتَمَتِّعا ثمَّ أحرم بِحجَّة قبل طَوَافه وأفردها بِالْإِحْرَامِ فَصَارَ (بهَا) قَارنا ".
فَإِن قيل: فقد روى مُسلم: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ: " أَنه سمع النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالْبَيْدَاءِ، وَأَنه رَدِيف أبي طَلْحَة، يهل بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا ".
قَالَ الْخطابِيّ: " وَهَذَا بَيَان أَنه قرن بَينهمَا فِي وَقت وَاحِد، فِي إِحْرَام وَاحِد، وَلم يكن على أَنه أحرم بِأَحَدِهِمَا وَأدْخل عَلَيْهِ الآخر ".
قلت: لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث إِلَّا أَنه سَمعه بِالْبَيْدَاءِ يهل بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة، وَذَلِكَ إِنَّمَا يدل أَن لَو لم يُوجد من النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إهلال قبل هَذَا، وَقد رُوِيَ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أهل حِين فرغ من ركعتيه الَّتِي صلاهما فِي مَسْجده بِذِي الحليفة، وَبَين الْمَسْجِد والبيداء مَسَافَة ".

(1/422)


(بَاب إِشْعَار الْبدن لَيْسَ بِسنة)

لما روى أَبُو دَاوُد: عَن الْهياج بن عمرَان: " أَن عمرَان أبق لَهُ غُلَام فَجعل لله عَلَيْهِ لَئِن قدر عَلَيْهِ ليقطعن يَده، فأرسلني لأسأل لَهُ، فَأتيت سَمُرَة بن جُنْدُب فَقَالَ: كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يحثنا على الصَّدَقَة، وينهانا عَن الْمثلَة.
قَالَ فَأتيت عمرَان بن الْحصين (فَسَأَلته) فَقَالَ: كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يحثنا على الصَّدَقَة وينهانا عَن الْمثلَة ". وَنهى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن تَعْذِيب الْحَيَوَان. وَهَذَا مَوْجُود فِي الْإِشْعَار.
فَإِن قيل: فقد صَحَّ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أشعر بدنه عَام حجَّة الْوَدَاع.
قيل لَهُ: إِن كَانَ حَدِيث النَّهْي عَن الْمثلَة وتعذيب الْحَيَوَان واردا بعد فعله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، كَانَ نَاسِخا (لَهُ) وَإِن كَانَ فعله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مُتَأَخِّرًا عَنهُ فَلَا (يَصح) أَن يكون / مُخَصّصا لَهُ فِي حَقنا، لجَوَاز أَن يكون (ذَلِك) مُخْتَصًّا بِهِ، أَو يكون فعله صِيَانة للهدي، فَإِن الْمُشْركين كَانُوا لَا يمتنعون عَنهُ إِلَّا بِهِ، وَلِأَن هَذَا فعل لَا يمكننا الْإِتْيَان بِهِ على الْوَجْه الَّذِي أَتَى بِهِ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، لِأَن مَحَله من صفحة السنام غير مَعْرُوف، وَطول الْجرْح وعمقه غير مَعْلُوم، فَإِذا طعن فِي صفحة السنام فَرُبمَا لَا يُوَافق الْمَكَان الَّذِي طعن فِيهِ

(1/423)


رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَرُبمَا زَاد على الْمِقْدَار الَّذِي فعله رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (فَيكون مُخَالفا لَهُ ومخالفته [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] محظورة، وَترك مَا فعله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) إِذا لم يُمكن امتثاله غير مَحْظُور.
فَإِن قيل: قَالَ التِّرْمِذِيّ: " وَسمعت أَبَا السَّائِب يَقُول: كُنَّا عِنْد وَكِيع فَقَالَ لرجل ينظر فِي الرَّأْي: أشعر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَيَقُول أَبُو حنيفَة هُوَ مثلَة. قَالَ الرجل: فَإِنَّهُ قد رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ (أَن) الْإِشْعَار مثلَة، قَالَ فَرَأَيْت وكيعا غضب غَضبا شَدِيدا وَقَالَ: أَقُول لَك قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَتقول قَالَ إِبْرَاهِيم، مَا أحقك بِأَن تحبس ثمَّ لَا تخرج حَتَّى تنْزع عَن قَوْلك هَذَا.
قيل لَهُ: " غضب الْخَيل على اللجم " وَكَيف يسوغ لَهُ الْإِنْكَار على هَذَا الرجل كَونه أخبر أَن أَبَا حنيفَة رَحمَه الله لم يبتكر هَذَا القَوْل من عِنْد نَفسه بل قد سبقه بِهِ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَكَانَ من كبار التَّابِعين. قَالَ الشّعبِيّ يَوْم مَوته: " لَو قلت (أنعي) الْعلم مَا خلف بعده مثله، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَن ذَلِك إِنَّه نَشأ فِي (أهل) بَيت فقه، فَأخذ فقههم، ثمَّ جالسنا فَأخذ صفو حديثنا إِلَى فقه أهل بَيته، فَمن كَانَ مثله ". وَمن كَانَ بِهَذِهِ المثابة فَهُوَ أعرف بِحَدِيث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَأَشد احتراما لحَدِيث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من وَكِيع وَأَمْثَاله، وَغَضب وَكِيع إِنَّمَا كَانَ لضيق مجاله وَقلة احتياله فِي التَّوْفِيق بَين الْأَخْبَار الْوَارِدَة عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من أَقْوَاله وأفعاله. فَهَذَا أَبُو الطُّفَيْل يَقُول: " قلت لِابْنِ عَبَّاس يزْعم قَوْمك أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رمل بِالْبَيْتِ وَأَن ذَلِك سنة، قَالَ: صدقُوا وكذبوا، قلت: مَا صدقُوا وَمَا كذبُوا؟ (قَالَ: صدقُوا) قد رمل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ،

(1/424)


وكذبوا لَيْسَ بِسنة ". وَبَين السَّبَب الَّذِي كَانَ الرمل من أَجله. وَنحن أَيْضا نقُول: إِن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أشعر الْبدن / وَلَيْسَ بِسنة، لما روينَاهُ من الْأَحَادِيث، ولجواز أَن يكون [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فعل ذَلِك صِيَانة لَهُ عَن الْمُشْركين، فَإِنَّهُم كَانُوا لَا يمتنعون عَنهُ إِلَّا بِهِ، وَلم يبلغنَا (أَن النَّبِي) [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَمر غَيره بالإشعار وَلَا بلغنَا أَن غَيره فِي حجَّة الْوَدَاع أشعر، فَمن أعاب علينا (قَوْلنَا) أَنه لَيْسَ بِسنة، فقد جعل هَذَا ذَرِيعَة إِلَى أَن يعيب على من وَقع الْإِجْمَاع على سلامتهم من كل عيب، وَقد قيل إِن أَبَا حنيفَة رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا كره إِشْعَار أهل زَمَانه، فَإِنَّهُم كَانُوا يبالغون فِيهِ إِلَى حد يخَاف مِنْهُ السَّرَايَة، فعلى هَذَا يكون الْإِشْعَار المقتصد مُسْتَحبا عِنْده رَضِي الله عَنهُ. وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَق بمنصبه رَضِي الله عَنهُ، وَيكون قَوْله: إِن الْإِشْعَار مثلَة، عَائِد إِلَى صَنِيع أهل زَمَانه لَا إِلَى فعل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
(بَاب إِذا سَاق هَديا فاضطر إِلَى ركُوبه (رَكبه) وَإِلَّا فَلَا)

مُسلم وَالنَّسَائِيّ: عَن أبي الزبير قَالَ: سَأَلت جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا عَن ركُوب الْهَدْي فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " اركبها بِالْمَعْرُوفِ إِذا (ألجئت) إِلَيْهَا حَتَّى تَجِد ظهرا ".

(1/425)


الطَّحَاوِيّ: عَن أنس رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رأى رجلا يَسُوق بَدَنَة وَقد جهد، قَالَ اركبها، قَالَ يَا رَسُول الله إِنَّهَا بَدَنَة، قَالَ اركبها ".
وَعنهُ: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَنه كَانَ يَقُول فِي الرجل إِذا سَاق بَدَنَة فأعيى: اركبها وَمَا أَنْتُم بمستنين سنة هِيَ أهْدى من سنة مُحَمَّد [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ". وَمَا رُوِيَ من الْأَحَادِيث الْمُطلقَة مَحْمُولَة على هَذَا.
(بَاب مَا للْمحرمِ قَتله من الدَّوَابّ)

التِّرْمِذِيّ: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " خمس فواسق يقتلن (فِي الْحرم) : الْفَأْرَة، وَالْعَقْرَب، والغراب، والحديا، وَالْكَلب الْعَقُور ". هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَالْكَلب الْعَقُور (لَيْسَ) هُوَ الضبع، بِدَلِيل مَا روى التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن أبي عمار قَالَ: قلت لجَابِر: " الضبع أصيد هِيَ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: آكلها؟ قَالَ: نعم. قَالَ: قلت: أقاله رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ؟ قَالَ: نعم ". هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.

(1/426)


الدَّارَقُطْنِيّ: عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله / [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سُئِلَ عَن الضبع فَقَالَ: " هِيَ من الصَّيْد وَجعل فِيهَا إِذا أَصَابَهَا الْمحرم كَبْشًا ". فَانْتفى أَن يكون الضبع هُوَ (الْكَلْب الْعَقُور) بل الْكَلْب الْعَقُور هُوَ (الْكَلْب) الَّذِي تعرفه الْعَامَّة. فَلم يكن كل سبع عقور دَاخِلا فِيهِ. وَلم يبح قتل الذِّئْب لِأَن فِيهِ زِيَادَة (على) الْعدَد (الَّذِي) نَص عَلَيْهِ الشَّارِع.
فَإِن قيل: فَلم أُبِيح قتل الْحَيَّة وَجَمِيع الْحَيَوَانَات المؤذية؟
قيل لَهُ: قد بَينا أَن الضبع خَارج عَمَّا أُبِيح (قَتله) من الْخمس بِالنَّصِّ. فَثَبت بذلك أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يرد قتل سَائِر السبَاع بإباحته قتل الْكَلْب الْعَقُور. وَإِنَّمَا أُرِيد بذلك قتل خَاص من السبَاع.
وَقد أَبَاحَ قتل الحدأة والغراب، وهما من ذَوي المخلب من الطير. وَأَجْمعُوا أَنه لم يرد بذلك قتل كل ذِي مخلب من الطير، لأَنهم أَجمعُوا أَن الْعقَاب، والصقر، والبازي، غير مقتولين فِي الْحرم. وأباح قتل الْعَقْرَب فِي الْإِحْرَام وَالْحرم. أَجمعُوا أَن مُرَاد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِبَاحَة قتل جَمِيع الْهَوَام. وَقد يكون من الصَّيْد مَا لَا يُؤْكَل، ومباح للرجل صَيْده، ليطعمه كلابه إِذا كَانَ فِي الْحل حَلَالا.
الطَّحَاوِيّ: عَن الْأسود، عَن عبد الله قَالَ: " أمرنَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بقتل الْحَيَّة وَنحن بمنى ". فَدلَّ ذَلِك أَن سَائِر الْهَوَام قتلهن مُبَاح.

(1/427)


(بَاب إِذا تولى الْحَلَال ذبح صيد جَازَ للْمحرمِ أَن يَأْكُل مِنْهُ)

الطَّحَاوِيّ: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " بعث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَبَا قَتَادَة الْأنْصَارِيّ على الصَّدَقَة، وَخرج رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَأَصْحَابه وهم محرمون حَتَّى نزلُوا عسفان، فَإِذا هم بِحِمَار وَحش، قَالَ: وَجَاء أَبُو قَتَادَة وَهُوَ حل، فنكسوا رؤوسهم كَرَاهِيَة أَن يحدوا أَبْصَارهم فيفطن، فَرَآهُ فَركب فرسه وَأخذ الرمْح، فَسقط مِنْهُ فَقَالَ: ناولونيه فَقُلْنَا: مَا نَحن بمعاونيك عَلَيْهِ بِشَيْء فَحمل عَلَيْهِ فعقره فَجعلُوا يشوون (مِنْهُ) ثمَّ قَالُوا: رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بَين أظهرنَا، قَالَ: وَكَانَ تقدمهم فلحقوه فَسَأَلُوهُ فَلم ير (بذلك) بَأْسا ".
وَعنهُ: عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة، عَن أَبِيه: " أَنه كَانَ فِي قوم محرمين وَلَيْسَ هُوَ محرما، فَرَأى حمارا فَركب فرسه فصرعه، فَأتوا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَسَأَلُوهُ عَن ذَلِك فَقَالَ: هَل أشرتم (أَو صدتم) أَو قتلتم؟ فَقَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا / وَزَاد فِي رِوَايَة من طَرِيق مَالك: " هَل مَعكُمْ من لَحْمه شَيْء ".

(1/428)


(بَاب لَا ترفع الْأَيْدِي عِنْد رُؤْيَة الْبَيْت)

التِّرْمِذِيّ: عَن المُهَاجر الْمَكِّيّ قَالَ: " سُئِلَ جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ أيرفع الرجل يَدَيْهِ إِذا رأى الْبَيْت؟ فَقَالَ: حجَجنَا مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (فَكُنَّا) نفعله "؟ . وَمن طَرِيق الطَّحَاوِيّ: " أَنه سُئِلَ عَن رفع الْأَيْدِي عِنْد الْبَيْت فَقَالَ: (ذَا يَفْعَله) الْيَهُود، قد حجَجنَا مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَلم يفعل ذَلِك ".
(بَاب يرمل فِي الْحَج وَالْعمْرَة)

البُخَارِيّ وَغَيره: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " سعى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ثَلَاثَة أَشْوَاط وَمَشى أَرْبعا فِي الْحَج وَالْعمْرَة ".

(1/429)


(بَاب)

البُخَارِيّ وَغَيره: عَن سَالم، عَن أَبِيه أَنه قَالَ: " لم أر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يسْتَلم (من الْبَيْت) إِلَّا الرُّكْنَيْنِ " اليمانيين ".
(بَاب لَا يُصَلِّي رَكْعَتي الطّواف بعد الصُّبْح وَلَا بعد الْعَصْر)

لعُمُوم مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من النَّهْي عَن ذَلِك.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " يَا بني عبد الْمطلب لَا تمنعوا أحدا يطوف بِهَذَا الْبَيْت، أَو يُصَلِّي، أَي سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار ".
قيل لَهُ " إِنَّمَا أَبَاحَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (من) الطّواف وَالصَّلَاة، وَأمر بني عبد الْمطلب أَن لَا يمنعوا أحدا مِنْهُمَا، هُوَ الطّواف على سَبِيل مَا يَنْبَغِي أَن يُطَاف، وَالصَّلَاة على

(1/430)


مَا يَنْبَغِي أَن يصلى، فَأَما سوى ذَلِك (فَلَا) . أَفلا ترى أَن رجلا لَو طَاف بِالْبَيْتِ عُريَانا، أَو صلى على غير وضوء، أَو جنبا، أَن عَلَيْهِم أَن يمنعوه من ذَلِك، لِأَنَّهُ طَاف على غير مَا يَنْبَغِي أَن يُطَاف، وَلَيْسَ بداخل فِي الَّذِي أَمرهم أَن لَا يمنعوا مِنْهُ (من) الطّواف، فَكَذَلِك قَوْله: " لَا تمنعوا أحدا أَن يُصَلِّي "، هُوَ (على) مَا قد أَمر أَن يصلى عَلَيْهِ من الطَّهَارَة، وَستر الْعَوْرَة، واستقبال الْقبْلَة، فِي الْأَوْقَات الَّتِي (أبيحت) الصَّلَاة فِيهَا. فَأَما (مَا) سوى ذَلِك فَلَا.
قَالَ البُخَارِيّ: " وَكَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ يُصَلِّي رَكْعَتي الطّواف مَا لم تطلع الشَّمْس، وَطَاف عمر بعد الصُّبْح فَركب حَتَّى صلى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِي طوى ". وَكَانَ بِمحضر من الصَّحَابَة فَلم يُنكر عَلَيْهِ مُنكر، وَلَو كَانَ ذَلِك الْوَقْت عِنْده وَقت صَلَاة للطَّواف (لصلى) وَلما أخر ذَلِك، لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لأحد (أَن) يطوف بِالْبَيْتِ إِلَّا وَيُصلي حِينَئِذٍ إِلَّا من عذر.
مَالك: عَن أبي الزبير الْمَكِّيّ أَنه / قَالَ: " لقد رَأَيْت الْبَيْت يَخْلُو بعد صَلَاة الصُّبْح وَبعد صَلَاة الْعَصْر مَا يطوف بِهِ أحد ".

(1/431)


(بَاب رَكعَتَا الطّواف وَاجِبَة)

التِّرْمِذِيّ وَغَيره: عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لما قدم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَكَّة دخل الْمَسْجِد فاستلم الْحجر، ثمَّ مضى على يَمِينه فَرمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشى أَرْبعا، ثمَّ أَتَى الْمقَام فَقَالَ: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} . فصلى رَكْعَتَيْنِ، وَالْمقَام بَينه وَبَين الْبَيْت، ثمَّ أَتَى الْحجر بعد الرَّكْعَتَيْنِ فاستلمه، ثمَّ خرج إِلَى الصَّفَا، أَظُنهُ قَالَ: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} ". حَدِيث حسن صَحِيح.
(بَاب لَيْسَ لأحد دخل فِي حجَّة أَن يخرج مِنْهَا إِلَّا بِتَمَامِهَا، وَلَا يحله مِنْهَا شَيْء قبل يَوْم النَّحْر من طواف وَغَيره)

أَبُو دَاوُد: عَن الْحَارِث (بن بِلَال) (بن الْحَارِث) عَن أَبِيه قَالَ: " قلت يَا رَسُول الله فسخ الْحَج لنا خَاصَّة أَو لمن بَعدنَا، فَقَالَ: بل لكم خَاصَّة ".

(1/432)


وَعنهُ: أَن أَبَا ذَر كَانَ يَقُول فِيمَن حج ثمَّ فَسخهَا بِعُمْرَة: " لم يكن ذَلِك إِلَّا للركب الَّذين كَانُوا مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ محلهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق} ، فَهَذَا فِي الْبدن لَيْسَ فِي الْحَاج. وَمعنى الْبَيْت الْعَتِيق هَهُنَا هُوَ الْحرم كُله، كَمَا (قَالَ) فِي الْآيَة الْأُخْرَى: {حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} (فالحرم هُوَ مَحل الْهَدْي لِأَنَّهُ ينْحَر فِيهِ) فَأَما بَنو آدم فَإِنَّمَا محلهم فِي حجهم يَوْم النَّحْر.
(بَاب يطوف الْقَارِن طوافين وَيسْعَى سعيين)

الطَّحَاوِيّ عَن أبي النَّضر قَالَ: " أَهلَلْت بِالْحَجِّ فأدركت عليا فَقلت لَهُ: إِنِّي أَهلَلْت بِالْحَجِّ أفأستطيع أَن أضيف إِلَيْهِ عمْرَة؟ قَالَ: لَا، لَو كنت أَهلَلْت بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أردْت أَن تضم إِلَيْهَا الْحَج ضممته، قَالَ: قلت: كَيفَ أصنع إِذا أردْت ذَلِك؟ قَالَ: تصب عَلَيْك إداوة (من) مَاء ثمَّ تحرم بهما جَمِيعًا، وَتَطوف لكل وَاحِدَة (مِنْهُمَا) طَوافا ".

(1/433)


وَعنهُ: عَن عَليّ وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا: " الْقَارِن يطوف طوافين وَيسْعَى سعيين ".
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ قَارنا فَطَافَ طوافين وسعى سعيين ".
وَعنهُ: عَن عمرَان بن الْحصين رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] طَاف طوافين وسعى سعيين ".
فَإِن قيل: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " الحَدِيث الأول يرويهِ حَفْص بن أبي دَاوُد (وَهُوَ ضَعِيف) وَيدل عَلَيْهِ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ مُفردا بِالْحَجِّ. وَقَالَ فِي الحَدِيث الثَّانِي: إِن مُحَمَّد بن يحيى الْأَزْدِيّ حدث بِهَذَا من حفظه / فَوَهم، وَقد حدث بِهِ مرَارًا على الصَّوَاب، وَيُقَال إِنَّه رَجَعَ عَن ذكر الطّواف وَالسَّعْي وَلم يذكر سوى هَذَا ".
قيل لَهُ: الحَدِيث لَا يبطل بِمثل هَذَا قد بَينا من قبل أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ قَارنا.
فَإِن قيل: صَحَّ أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " خرجنَا مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي حجَّة الْوَدَاع، فأهللنا بِعُمْرَة، ثمَّ قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : من كَانَ مَعَه هدي فليهل (بِالْحَجِّ مَعَ) الْعمرَة، ثمَّ لَا يحل حَتَّى يحل مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَقدمت مَكَّة وَأَنا حَائِض، فَلم أطف بِالْبَيْتِ، وَلَا بَين الصَّفَا والمروة، فشكوت ذَلِك إِلَى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: انقضي رَأسك وامتشطي وَأَهلي بِالْحَجِّ ودعي الْعمرَة، فَلَمَّا قضيت الْحَج أَرْسلنِي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَعَ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر إِلَى التَّنْعِيم فاعتمرت، فَقَالَ: هَذَا

(1/434)


مَكَان عمرتك (فَقَالَت) : فَطَافَ الَّذين أهلوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ حلوا، ثمَّ طافوا طَوافا آخر بعد أَن رجعُوا من منى لحجهم، وَأما الَّذين جمعُوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا، وهم كَانُوا مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وبأمره كَانُوا يعْملُونَ ".
قيل لَهُ: فقد رُوِيَ عَن عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تمتّع فِي حجَّة الْوَدَاع، وتمتع النَّاس مَعَه، وَعلمنَا أَنه الَّذِي يهل لحجته بعد طَوَافه للْعُمْرَة، ثمَّ قَالَت فِي هَذَا الحَدِيث أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: من كَانَ مَعَه هدي فليهل بِالْحَجِّ مَعَ الْعمرَة (ثمَّ) لَا يحل (حَتَّى يحل) مِنْهُمَا جَمِيعًا ". وَلم يبين (لَهُم) الْموضع الَّذِي قَالَ لَهُم (فِيهِ) هَذَا القَوْل، فقد يجوز أَن يكون قَالَه قبل دُخُول مَكَّة (أَو بعد دُخُول مَكَّة) قبل الطّواف، فيكونون قارنين بِتِلْكَ الْحجَّة وَالْعمْرَة الَّتِي كَانُوا أَحْرمُوا بهَا قبلهَا، وَيجوز أَن يكون قَالَ لَهُم ذَلِك بعد طوافهم للْعُمْرَة، فيكونون متمتعين بِتِلْكَ الْحجَّة الَّتِي أَمرهم بِالْإِحْرَامِ بهَا.

(1/435)


قَالَ الطَّحَاوِيّ: " فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا جَابر بن عبد الله وَأَبا سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا أخبرا فِي حديثيهما أَن ذَلِك القَوْل من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي آخر طواف الْعمرَة، فَعلمنَا أَن قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي هَذَا الحَدِيث: " وَأما الَّذين جمعُوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة " إِنَّمَا تَعْنِي جمع مُتْعَة لَا جمع قرَان، قَالَت: " فَإِنَّمَا طافوا (طَوافا) وَاحِدًا " بعد جمعهم بَين الْحَج وَالْعمْرَة الَّتِي كَانُوا طافوا لَهَا طَوافا وَاحِدًا، لِأَن حجتهم تِلْكَ الْمَضْمُونَة مَعَ الْعمرَة كَانَت مَكِّيَّة، / وَالْحجّة المكية لَا يُطَاف لَهَا قبل عَرَفَة إِنَّمَا يُطَاف لَهَا بعد عَرَفَة ".
فَإِن قيل: فقد روى جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قرن بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَطَافَ لَهما طَوافا وَاحِدًا ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من أحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة أَجزَأَهُ طواف وَاحِد وسعي وَاحِد، وَلَا يحل (من) وَاحِد مِنْهُمَا حَتَّى يحل مِنْهُمَا ".
قيل لَهُ: أما الحَدِيث الأول فَفِي سَنَده حجاج بن أَرْطَاة وَهُوَ ضَعِيف، مَعَ أَنكُمْ (رويتم) أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ مُفردا بِالْحَجِّ.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يطف

(1/436)


هُوَ وَأَصْحَابه بَين الصَّفَا والمروة إِلَّا طَوافا وَاحِدًا لحجتهم وعمرتهم ".
قيل لَهُ: فِيهِ (اللَّيْث بن أبي سليم) وَهُوَ ضَعِيف، وَإِن صَحَّ قُلْنَا: إِنَّمَا يَعْنِي جَابر مَا بَينه عَنهُ أَبُو الزبير.
الطَّحَاوِيّ: عَن أبي الزبير أَنه سمع جَابِرا يَقُول: " لم يطف النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] و (لَا) أَصْحَابه بَين الصَّفَا والمروة إِلَّا طَوافا وَاحِدًا ". وَإِنَّمَا أَرَادَ جَابر بِهَذَا أَن يُخْبِرهُمْ أَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة لَا يفعل فِي طواف يَوْم النَّحْر، وَلَا فِي طواف الصَّدْر كَمَا يفعل فِي طواف الْقدوم.
وَأما الحَدِيث الثَّانِي فرفعه إِلَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خطأ، وَإِنَّمَا أَصله عَن ابْن عمر نَفسه، هَكَذَا رَوَاهُ الْحفاظ.
فَإِن قيل: رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ لَهَا: " إِذا رجعت إِلَى مَكَّة فَإِن طوافك يَكْفِيك بحجك وعمرتك ".
قيل لَهُ: لَيْسَ هَذَا لفظ الحَدِيث، إِنَّمَا لَفظه أَنه قَالَ: " طوافك لحجك (يجْزِيك لحجك) وعمرتك "، فَأخْبر أَن الطّواف الْمَفْعُول لِلْحَجِّ يُجزئ عَن الْحَج وَالْعمْرَة،

(1/437)


وَأَنْتُم لَا تَقولُونَ هَذَا، إِنَّمَا تَقولُونَ إِن طواف الْقَارِن طواف لقرانه، لَا لحجته دون عمرته، وَلَا لعمرته دون حجَّته.
ثمَّ هَذَا الحَدِيث قد رُوِيَ على غير هَذَا الْمَعْنى.
الطَّحَاوِيّ: عَن عَطاء عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت (قلت) يَا رَسُول الله: " أكل أهلك يرجع بِحجَّة وَعمرَة غَيْرِي، فَقَالَ: انفري فَإِنَّهُ يَكْفِيك ". قَالَ حجاج فِي حَدِيثه عَن عَطاء، عَن عَائِشَة: " إِنَّهَا ألطت على رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَأمرهَا أَن تخرج إِلَى التَّنْعِيم فتهل مِنْهُ بِعُمْرَة، وَبعث مَعهَا أخاها عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فأهلت مِنْهُ بِعُمْرَة ثمَّ قدمت فطافت وسعت وَقصرت وَذبح عَنْهَا / رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ". قَالَ عبد الْملك عَن عَطاء: ذبح عَنْهَا بقرة.
فَأخْبر عبد الْملك عَن عَطاء بِقِصَّتِهَا (بطوافها) وَأَنَّهَا إِنَّمَا أَحرمت بِالْعُمْرَةِ فِي وَقت مَا كَانَ لَهَا أَن تنفر بعد فراغها من الْحجَّة وَأَن الَّذِي ذكر أَنه يكفيها هُوَ الْحَج من الْحجَّة لَا الطّواف فقد بَطل أَن يكون فِي حَدِيث عَطاء هَذَا حجَّة فِي حكم طواف الْقَارِن كَيفَ هُوَ.
فَإِن قيل: رُوِيَ أَن جَابر بن عبد الله قَالَ: " دخل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَهِي تبْكي فَقَالَ: مَا لَك تبكين؟ فَقَالَت: أبْكِي لِأَن النَّاس حلوا وَلم أحلل، فطافوا بِالْبَيْتِ وَلم أطف، وَهَذَا الْحَج قد حضر كَمَا ترى، فَقَالَ: هَذَا أَمر كتبه الله على بَنَات آدم فاغتسلي وَأَهلي بِالْحَجِّ ثمَّ حجي واقضي مَا يقْضِي الْحَاج، غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ وَلَا تصلي، قَالَت: فَفعلت ذَلِك، فَلَمَّا طهرت قَالَ: طوفي بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة ثمَّ قد حللت من حجك وعمرتك، فَقلت يَا رَسُول الله: إِنِّي أجد

(1/438)


فِي نَفسِي (من عمرتي) أَنِّي لم أكن طفت حَتَّى حججْت، فَأمر عبد الرَّحْمَن فأعمرها من التَّنْعِيم ".
فقد أمرهَا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهِي مُحرمَة بِالْعُمْرَةِ وَالْحجّة أَن تَطوف بِالْبَيْتِ وتسعى بَين الصَّفَا والمروة ثمَّ تحل، فَدلَّ ذَلِك على أَن حكم الْقَارِن فِي طَوَافه لحجته وعمرته هُوَ كَذَلِك، وَأَنه طواف وَاحِد لَا شَيْء عَلَيْهِ من الطّواف غَيره.
قيل لَهُ: روى الطَّحَاوِيّ عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا (أَنَّهَا) قَالَت: " أمرنَا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: من شَاءَ أَن يهل بِالْحَجِّ وَمن شَاءَ أَن يهل بِالْعُمْرَةِ، قَالَت: فَكنت مِمَّن أهل بِالْعُمْرَةِ، فحضت، فَدخل عَليّ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَأمرنِي أَن أنقض رَأْسِي وأمتشط وأدع عمرتي ". فَفِي هَذَا الحَدِيث أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أمرهَا حِين حَاضَت أَن تدع عمرتها وَذَلِكَ قبل طوافها (لَهَا) فَكيف يكون طوافها فِي حجتها الَّتِي أَحرمت بهَا بعد ذَلِك يُجزئ عَنْهَا من حجتها تِلْكَ وَمن عمرتها الَّتِي رفضتها. هَذَا محَال.
(بَاب الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة لَيْسَ بِرُكْن فِي الْحَج)

لِأَن قَوْله تَعَالَى: {فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام} ، لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَن ذَلِك على الْوُجُوب، لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا ذكر وَلم يذكر الْوُقُوف، وكل قد أجمع أَنه لَو وقف بِمُزْدَلِفَة وَلم يذكر الله عز وَجل كَانَ حجه تَاما، فَإِذا كَانَ الذّكر الْمَذْكُور فِي الْكتاب لَيْسَ ركنا فِي الْحَج فالموطن الَّذِي (يكون) فِيهِ الذّكر الَّذِي لم يذكر / فِي الْكتاب أَحْرَى أَن لَا يكون فرضا، وَقد ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابه من الْحَج أَشْيَاء وَلم يرد بذكرها إِيجَابهَا، مثل قَوْله تَعَالَى: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} ،

(1/439)


وَحَدِيث عُرْوَة بن مُضرس قَالَ: " أتيت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِجمع، فَقلت: يَا رَسُول الله هَل لي من حج وَقد أنصبت رَاحِلَتي؟ فَقَالَ: من صلى مَعنا هَذِه الصَّلَاة، وَقد وقف مَعنا قبل ذَلِك، وأفاض من عَرَفَة لَيْلًا أَو نَهَارا، فقد تمّ حجه وَقضى تفثه ". لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على الْوُجُوب، لِأَن كل قد أجمع أَنه لَو بَات بهَا ووقف ونام عَن الصَّلَاة فَلم يصلها مَعَ الإِمَام حَتَّى فَاتَتْهُ أَن حجه تَامّ. فَلَمَّا كَانَ حُضُور الصَّلَاة مَعَ الإِمَام الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِفَرْض كَانَ الموطن الَّذِي تكون فِيهِ الصَّلَاة الَّذِي لم يذكر فِي هَذَا الحَدِيث أَحْرَى أَن لَا يكون فرضا، لكنه وَاجِب لما روينَاهُ من الحَدِيث.
(بَاب إِذا صلى الْمغرب فِي طَرِيق الْمزْدَلِفَة أَو بِعَرَفَات فَعَلَيهِ إِعَادَتهَا مَا لم يطلع الْفجْر)

البُخَارِيّ وَغَيره: عَن كريب مولى ابْن عَبَّاس، عَن أُسَامَة بن زيد رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حَيْثُ أَفَاضَ من عَرَفَة مَال إِلَى الشّعب، فَقضى حَاجته فَتَوَضَّأ، فَقلت: يَا رَسُول الله، أُصَلِّي؟ قَالَ: الصَّلَاة أمامك ".

(1/440)


(بَاب يُصَلِّي الْمغرب وَالْعشَاء بِمُزْدَلِفَة بِأَذَان وَإِقَامَة وَاحِدَة)

أَبُو دَاوُد: عَن أَشْعَث بن سليم عَن أَبِيه قَالَ: " أَقبلت مَعَ ابْن عمر من عَرَفَات إِلَى الْمزْدَلِفَة، فَلم يكن يفتر من الذّكر والتهليل حَتَّى أَتَيْنَا الْمزْدَلِفَة، فَأذن وَأقَام، أَو أَمر إنْسَانا فَأذن وَأقَام، فصلى بِنَا الْمغرب ثَلَاث رَكْعَات، ثمَّ الْتفت إِلَيْنَا فَقَالَ: الصَّلَاة، فصلى بِنَا الْعشَاء (رَكْعَتَيْنِ) ثمَّ دَعَا بعشائه ".
(بَاب لَا ترمى جَمْرَة الْعقبَة إِلَّا بعد طُلُوع الشَّمْس)

التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قدم ضعفة أَهله، وَقَالَ: لَا ترموا الْجَمْرَة حَتَّى تطلع الشَّمْس ".
وَمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كنت فِيمَن بعث (بِهِ) النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَوْم النَّحْر فرمينا جَمْرَة الْعقبَة مَعَ الْفجْر ". لم يذكرُوا فِيهِ أَنهم رموا الْجَمْرَة

(1/441)


عِنْد طُلُوع الْفجْر بِأَمْر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إيَّاهُم بذلك، وَقد يجوز أَن يكون ذَلِك / بالتوهم مِنْهُم أَنه وَقت الرَّمْي لَهَا، وَوَقته فِي الْحَقِيقَة غير ذَلِك. وَأمره عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا أَن يرموا جَمْرَة الْعقبَة قبل أَن تصيبهم دفْعَة النَّاس، لم يذكر فِيهِ رمي جَمْرَة الْعقبَة مَتى هُوَ، وَمَا رُوِيَ غير هَذَا مَحْمُول على الرُّخْصَة فِي الدّفع من مُزْدَلِفَة لَيْلًا.
(بَاب لَا ترمى جَمْرَة الْعقبَة قبل طُلُوع الْفجْر)

التِّرْمِذِيّ: عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَرْمِي يَوْم النَّحْر ضحى، وَأما بعد ذَلِك فَبعد زَوَال الشَّمْس ".
(بَاب إِن ترك رمي جَمْرَة الْعقبَة فِي يَوْم النَّحْر رَمَاهَا بعد ذَلِك فِي اللَّيْلَة (الَّتِي) بعده وَلَا شَيْء عَلَيْهِ)

الطَّحَاوِيّ: عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " الرَّاعِي يرْعَى النَّهَار ثمَّ يَرْمِي بِاللَّيْلِ ".

(1/442)


(بَاب لَا يقطع التَّلْبِيَة حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة)

البُخَارِيّ وَغَيره: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أرْدف الْفضل، فَأخْبر الْفضل أَنه لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة ".
قلت: ظَاهر هَذَا الحَدِيث يدل على أَنه يُلَبِّي إِلَى أَن يَرْمِي الْجَمْرَة كلهَا، ثمَّ يقطع التَّلْبِيَة. وَإِلَى هَذَا ذهب أَحْمد وَإِسْحَاق رحمهمَا الله، (ومذهبنا) وَمذهب الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ أَنه يقطع التَّلْبِيَة مَعَ أول حَصَاة.
(بَاب لَا تقطع التَّلْبِيَة فِي الْعمرَة حَتَّى يسْتَلم الْحجر)

لما روى التِّرْمِذِيّ: عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس يرفع الحَدِيث: " أَنه كَانَ يمسك عَن التَّلْبِيَة فِي الْعمرَة إِذا اسْتَلم الْحجر ". قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث ابْن عَبَّاس حَدِيث حسن صَحِيح، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم.

(1/443)


(بَاب إِذا حلق يَوْم النَّحْر حل لَهُ كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء)

النَّسَائِيّ: عَن سَالم، عَن أَبِيه قَالَ: " إِذا رمى وَحلق فقد حل لَهُ كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء ".
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا رمى وَحلق وَذبح فقد حل (لَهُ) كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء ".
البُخَارِيّ وَغَيره: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كنت أطيب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لإحرامه قبل أَن يحرم، ولحله قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ ".
(بَاب إِذا حَاضَت الْمَرْأَة بعد طواف الزِّيَارَة سقط عَنْهَا طواف الصَّدْر)

البُخَارِيّ وَغَيره: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أَن صَفِيَّة بنت حييّ - زوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- حَاضَت، فَذكر ذَلِك لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: أحابستنا هِيَ، قَالُوا: إِنَّهَا قد أفاضت، / قَالَ: فَلَا إِذا ".

(1/444)


(بَاب من قدم نسكا على نسك فَعَلَيهِ دم)

الطَّحَاوِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " من قدم شَيْئا من حجه أَو أَخّرهُ (فليهريق) لذَلِك دَمًا "، فَهَذَا ابْن عَبَّاس يُوجب على من قدم شَيْئا من نُسكه أَو أَخّرهُ دَمًا، وَهُوَ أحد من روى عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَنه مَا سُئِلَ يؤمئذ عَن شَيْء قدم وَلَا أخر من أَمر الْحَج إِلَّا قَالَ لَا حرج ".
فَهَذَا يدل على أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فهم من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام " لَا حرج " أَي لَا إِثْم، أَي لَا حرج عَلَيْكُم فِيمَا فعلتموه من هَذَا، لأنكم فعلتموه على الْجَهْل مِنْكُم لَا على التعمد.
وَعنهُ: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سُئِلَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهُوَ بَين الْجَمْرَتَيْن عَن رجل حلق قبل أَن يَرْمِي قَالَ: لَا حرج، وَعَن رجل ذبح قبل أَن يَرْمِي قَالَ: لَا حرج، ثمَّ قَالَ: عباد الله، وضع الله الْحَرج والضيق، وتعلموا مَنَاسِككُم فَإِنَّهَا من دينكُمْ ". وَإِلَى هَذَا ذهب سعيد بن جُبَير، وَقَتَادَة، وَمَالك رَحِمهم الله تَعَالَى.

(1/445)


(بَاب لَا يجوز ذبح الْهَدْي إِلَّا فِي الْحرم)

قَالَ الله تَعَالَى: {هَديا بَالغ الْكَعْبَة} ، فَكَأَن الْهَدْي قد جعله الله مَا بلغ الْكَعْبَة، كالصيام الَّذِي جعله الله مُتَتَابِعًا فِي كَفَّارَة الظِّهَار، وَكَفَّارَة الْقَتْل، فَلَا يجوز غير متتابع، وَإِن كَانَ الَّذِي وَجب عَلَيْهِ غير مطيق للإتيان بِهِ مُتَتَابِعًا فَلَا تبيحه الضَّرُورَة (أَن يَصُومهُ مُتَفَرقًا، فَكَذَلِك الْهَدْي الْمَوْصُوف ببلوغ الْكَعْبَة لَا يُجزئ للَّذي هُوَ عَلَيْهِ كَذَلِك - وَإِن صد عَن بُلُوغ الْكَعْبَة للضَّرُورَة -) أَن يذبحه فِيمَا سوى ذَلِك.
الطَّحَاوِيّ: عَن نَاجِية بن جُنْدُب الْأَسْلَمِيّ، عَن أَبِيه قَالَ: " أتيت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حِين صد الْهَدْي، فَقلت: يَا رَسُول الله، ابْعَثْ معي بِالْهَدْي فلأنحره فِي الْحرم، قَالَ: وَكَيف تَأْخُذ بِهِ، قلت: آخذ بِهِ فِي أَوديَة لَا يقدرُونَ عَليّ فِيهَا، فَبعث معي حَتَّى نَحرته فِي الْحرم.
وَيُؤَيّد هَذَا الحَدِيث مَا روى التِّرْمِذِيّ: عَن نَاجِية الْأَسْلَمِيّ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بعث مَعَه بِهَدي فَقَالَ: إِن عطب فانحره، ثمَّ اصبغ نَعله فِي دَمه، وخل بَينه وَبَين النَّاس ". حَدِيث حسن صَحِيح.
الطَّحَاوِيّ: عَن الْمسور: " إِن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ بِالْحُدَيْبِية، خباؤه فِي الْحل

(1/446)


وَمُصَلَّاهُ فِي الْحرم ". فَثَبت بِمَا ذكرنَا أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يكن صد عَن الْحرم، وَأَنه قد كَانَ يُصَلِّي إِلَى بعضه، وَلَا يجوز فِي قَول أحد من الْعلمَاء لمن قدر على دُخُول شَيْء من الْحرم أَن ينْحَر هَدْيه دون الْحرم، وعَلى هَذَا اسْتَحَالَ أَن يكون [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] / يُصَلِّي إِلَى بعض الْحرم، ويذبح فِي غير الْحرم.
فَإِن قيل: رُوِيَ عَن أبي أَسمَاء مولى عبد الله بن جَعْفَر قَالَ: " خرجت مَعَ عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا فاشتكى الْحسن بالسقيا وَهُوَ محرم، فَأَصَابَهُ برسام فَأومى إِلَى رَأسه فحلق (عَليّ) رَأسه وَنحر عَنهُ جزورا فأطعم أهل المَاء "، فقد نحر عَليّ الْجَزُور دون الْحرم.
قيل لَهُ: من كَانَ قَادِرًا على دُخُول الْحرم لَا يجوز (لَهُ) الذّبْح فِي غير الْحرم اتِّفَاقًا، وَعلي لم يكن مَمْنُوعًا من الْحرم. وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن عليا أَرَادَ بِذبح الْجَزُور الصَّدَقَة على أهل المَاء، والتقرب إِلَى الله تَعَالَى لَا الْهَدْي.
(بَاب النُّزُول بِالْأَبْطح سنة)

البُخَارِيّ: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] صلى الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء، ثمَّ رقد رقدة بالمحصب، ثمَّ ركب إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ ". وَكَانَ ابْن عمر يرَاهُ سنة.

(1/447)


وَعنهُ: أَنه قَالَ: " كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَأَبُو بكر وَعمر (وَعُثْمَان) ينزلون بِالْأَبْطح ".
فَإِن قيل: قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " التحصيب لَيْسَ بِسنة، وَإِنَّمَا هُوَ منزل ". وَعَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: (نزُول) الأبطح لَيْسَ بِسنة، وَإِنَّمَا نزل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لِأَنَّهُ كَانَ أسمح لِخُرُوجِهِ إِذا خرج ".
قيل لَهُ: قد ذكرنَا أَن ابْن عمر كَانَ يرَاهُ سنة، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام لأَصْحَابه: " نَحن نازلون بخيف بني كنَانَة، حَيْثُ (تقاسمت) قُرَيْش على الْكفْر " يدل على أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قصد النُّزُول بِهِ إراءه للْمُشْرِكين لطيف صنع الله بِهِ، فَكَانَ سنة كالرمل.
(ذكر الْغَرِيب:)

الْخيف: مَا ارْتَفع عَن الْوَادي وَانْحَدَرَ عَن الْجَبَل. وَالله أعلم.

(1/448)


(بَاب لَا يجوز دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام)

(البُخَارِيّ) : عَن أبي شُرَيْح الْعَدوي أَنه قَالَ لعَمْرو بن سعيد وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث إِلَى مَكَّة: " ائْذَنْ لي أَيهَا الْأَمِير أحَدثك قولا قَامَ بِهِ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْغَد من يَوْم الْفَتْح، فَسَمعته أذناي، ووعاه قلبِي، وأبصرته عَيْنَايَ حِين تكلم بِهِ، أَنه حمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: إِن مَكَّة حرمهَا الله تَعَالَى وَلم يحرمها النَّاس، فَلَا يحل لامرئ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسفك بهَا دَمًا، وَلَا يعضد بهَا شَجرا، فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقولُوا لَهُ: إِن الله عز وَجل أذن لرَسُوله وَلم يَأْذَن لكم، وَإِنَّمَا أذن لي سَاعَة من نَهَار، وَقد عَادَتْ حرمتهَا الْيَوْم كحرمتها بالْأَمْس، وليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب، فَقيل لأبي شُرَيْح / مَا قَالَ لَك عَمْرو؟ قَالَ: أَنا أعلم بذلك مِنْك (يَا أَبَا شُرَيْح) إِن الْحرم لَا يعيذ عَاصِيا وَلَا فَارًّا بِدَم وَلَا فَارًّا بخربة ".
فَإِن قيل: إِن الَّذِي أحل لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ شهر السِّلَاح فِيهَا لِلْقِتَالِ وَسَفك الدِّمَاء لَا غير ذَلِك.
قيل لَهُ: هَذَا محَال، إِذْ لَو كَانَ ذَلِك لما قَالَ: " وَلَا تحل (لأحد) بعدِي،

(1/449)


وَقد رأيناهم أَجمعُوا أَن الْمُشْركين - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - لَو غلبوا على مَكَّة فمنعوا الْمُسلمين مِنْهَا أَنه حَلَال للْمُسلمين قِتَالهمْ، وَشهر السِّلَاح بهَا، وَسَفك الدِّمَاء، وَأَن حكمهم كَحكم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي ذَلِك. وَإِذا انْتَفَى أَن يكون هُوَ الْقِتَال ثَبت أَنه الْإِحْرَام، يدل على ذَلِك قَول عَمْرو بن سعيد لأبي شُرَيْح: " إِن الْحرم لَا يعيذ عَاصِيا، الحَدِيث ". وَلم يُنكر ذَلِك أَبُو شُرَيْح وَلم يقل لَهُ (إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) إِنَّمَا أَرَادَ بِمَا حدثتك أَن الْحرم قد (يجير كل النَّاس) وَلكنه عرف ذَلِك فَلم يُنكره.
فَإِن قيل: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لما وَقت الْمَوَاقِيت: " فهن لَهُنَّ وَلمن أَتَى عَلَيْهِنَّ مِمَّن كَانَ يُرِيد الْحَج وَالْعمْرَة "، يمْنَع أَن يجب الْإِحْرَام على من لم يرد النّسك.
قيل لَهُ: التَّنْصِيص لَا يدل على التَّخْصِيص، وَهَذَا مثل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من أعتق شقيصا لَهُ فِي عبد ". الحَدِيث. وأجمعنا على أَن حكم الْأمة فِي ذَلِك حكم العَبْد، لِأَن وجوب الْإِحْرَام لتعظيم هَذِه الْبقْعَة الشَّرِيفَة، فيستوي فِيهِ التَّاجِر والمعتمر وَغَيرهمَا.
(ذكر الْغَرِيب:)

الْعَضُد: الْقطع، عضدت الشّجر أعضده بِالْكَسْرِ أَي قطعته بالمعضد، والمعضاد سيف يمتهن فِي قطع الشّجر.

(1/450)


(بَاب من كَانَ دَاخل الْمَوَاقِيت فَلهُ أَن يدْخل مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام)

الطَّحَاوِيّ: عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَنه خرج من مَكَّة يُرِيد الْمَدِينَة، فَلَمَّا (بلغ) قديدا بلغه عَن جَيش قدم الْمَدِينَة، فَرجع فَدخل مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام ". وَعنهُ: عَن نَافِع: " (أَن) عبد الله بن عمر أقبل من مَكَّة حَتَّى إِذا كَانَ بِقديد بلغه خبر من الْمَدِينَة، (فَرجع) فَدخل مَكَّة حَلَالا ".
(بَاب الْعمرَة لَيست بواجبة)

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم الْحَج الْأَكْبَر} ، يَقْتَضِي أَن يكون هُنَاكَ حج أَصْغَر، وَهُوَ الْعمرَة، على مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " الْعمرَة هِيَ الْحجَّة الصُّغْرَى ". وَإِذا ثَبت / أَن اسْم الْحَج يَقع على الْعمرَة، ثمَّ قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] للأقرع بن حَابِس حِين سَأَلَهُ عَن الْحَج فِي كل عَام أَو حجَّة وَاحِدَة فَقَالَ: " لَا بل

(1/451)


حجَّة وَاحِدَة ". وَهَذَا يدل على نفي وجوب الْعمرَة لنفي النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْوُجُوب إِلَّا فِي حجَّة وَاحِدَة، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " الْحَج عَرَفَة "، وَهَذَا يدل على أَن يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم عَرَفَة، وَيحْتَمل أَن يكون يَوْم النَّحْر، لِأَن فِيهِ قَضَاء الْمَنَاسِك والتفث.
وَيُؤَيّد هَذَا مَا روى التِّرْمِذِيّ: عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سُئِلَ عَن الْعمرَة أَوَاجِبَة هِيَ؟ قَالَ: لَا وَإِن تَعْتَمِرُوا هُوَ أفضل ". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
فَإِن قيل: قَالَ البُخَارِيّ: (قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا) : إِنَّهَا لقرينتها فِي كتاب الله عز وَجل {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} . وَقَالَ ابْن (عمر) : لَيْسَ أحد إِلَّا وَعَلِيهِ حجَّة وَعمرَة.

(1/452)


قيل لَهُ: لَيْسَ فِي الْآيَة إِلَّا الْأَمر بالإتمام، وَلَا يتَوَجَّه الْأَمر بالإتمام حَقِيقَة إِلَّا بعد الشُّرُوع فِيهَا (وَنحن نقُول بعد الشُّرُوع فِيهَا) يجب إِتْمَامهَا، وَقَول ابْن عمر مَتْرُوك بِمَا روينَاهُ، وَمِمَّا يدل على أَن الْعمرَة لَيست بواجبة أَن سَبَب وجوب الْحَج هُوَ الْبَيْت، وَالْعمْرَة مثله، وَلَو وَجَبت لَكَانَ الواجبان بِسَبَب وَاحِد، وَذَلِكَ مُمْتَنع، كزكاتين بحول وَاحِد، وظهرين بِزَوَال وَاحِد. وَإِلَى هَذَا ذهب مَالك وَالشعْبِيّ رحمهمَا الله تَعَالَى.
(بَاب الْأَفْضَل أَن يحرم بهَا من التَّنْعِيم)

التِّرْمِذِيّ: عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَمر عبد الرَّحْمَن (أَن يعمر عَائِشَة) رَضِي الله عَنْهَا من التَّنْعِيم ". هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
(بَاب إِذا لم يجد الْمُتَمَتّع الْهَدْي وَلم يصم أَيَّام الْعشْر لَا يُجزئهُ صَوْم أَيَّام التَّشْرِيق)

التِّرْمِذِيّ: عَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " يَوْم عَرَفَة، وَيَوْم النَّحْر، وَأَيَّام التَّشْرِيق، عيدنا أهل الْإِسْلَام، وَهِي أَيَّام أكل وَشرب ". حَدِيث حسن صَحِيح.

(1/453)


الطَّحَاوِيّ: عَن عَمْرو بن خالدة الزرقي (عَن أَبِيه قَالَ) : " بعث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فِي أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق يُنَادي فِي النَّاس: لَا تَصُومُوا فِي هَذِه الْأَيَّام فَإِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب وبعال ". فَلَمَّا ثَبت نَهْيه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن صِيَام أَيَّام التَّشْرِيق، وَكَانَ نَهْيه ذَلِك بمنى وَالْحجاج مقيمون بهَا، وَفِيهِمْ المتمتعون والقارنون، وَلم يسْتَثْن مِنْهُم قَارنا وَلَا مُتَمَتِّعا، دخل المتمتعون والقارنون فِي ذَلِك النَّهْي أَيْضا. /
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا (أَنَّهُمَا) قَالَا: " لم يرخص فِي أَيَّام التَّشْرِيق أَن يصمن إِلَّا لمن لم يجد الْهَدْي ".
قيل لَهُ: يجوز (أَن يَكُونَا) (عنيا بِهَذِهِ) الرُّخْصَة مَا قَالَ الله عز وَجل: {فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج} ، فَعدا أَيَّام التَّشْرِيق من أَيَّام الْحَج فَقَالَا: رخص للْحَاج الْمُتَمَتّع والمحصر فِي صَوْم أَيَّام التَّشْرِيق بِهَذِهِ الْآيَة، وَلِأَن هَذِه الْأَيَّام عِنْدهمَا من أَيَّام الْحَج. وخفي عَلَيْهِمَا مَا كَانَ من تَوْقِيف رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من بعده، على أَن هَذِه الْأَيَّام لَيست بداخلة فِيمَا أَبَاحَ الله عز وَجل صَوْمه من ذَلِك.

(1/454)


وَقد روى الطَّحَاوِيّ: (عَن سعيد بن الْمسيب) : " أَن رجلا أَتَى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يَوْم النَّحْر فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي تمتعت وَلم أهد وَلم أَصمّ فِي الْعشْر، فَقَالَ: سل فِي قَوْمك، ثمَّ قَالَ: يَا معيقيب أعْطه شَاة ". أَفلا ترى أَن عمر لم يقل لَهُ فَهَذِهِ أَيَّام التَّشْرِيق فصمها، فَدلَّ أَن تَركه ذَلِك وَأمره بِالْهَدْي أَن أَيَّام الْحَج الَّتِي أَمر الله الْمُتَمَتّع بِالصَّوْمِ فِيهَا هِيَ قبل يَوْم النَّحْر، وَأَن يَوْم النَّحْر وَمَا بعده من أَيَّام التَّشْرِيق لَيْسَ مِنْهَا. وَهَذَا مَذْهَب عَليّ بن أبي طَالب، وَإِلَيْهِ ذهب الْحسن وَعَطَاء وَالثَّوْري رَضِي الله عَنْهُم.
(بَاب الْمحصر لَا يحل حَتَّى ينْحَر)

قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِن أحصرتم فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي وَلَا تحلقوا رؤوسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} ، (فَلَمَّا أَمر الله تَعَالَى الْمحصر أَن لَا يحلق رَأسه حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله) علم بذلك أَن الْمحصر لَا يحل من إِحْرَامه إِلَّا فِي وَقت مَا يحل لَهُ أَن يحلق رَأسه.
وروى الطَّحَاوِيّ: عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله فَإِن أحصرتم} ، قَالَ: إِذا أحْصر الرجل بعث بِالْهَدْي، " وَلَا تحلقوا رؤوسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله، فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة (أَو نسك) " صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام، أَو يتَصَدَّق على سِتَّة مَسَاكِين كل مِسْكين

(1/455)


نصف صَاع، والنسك شَاة، فَإِذا أَمن (مِمَّا) كَانَ بِهِ فقد تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج، فَإِن مضى من وَجهه (ذَلِك) فَعَلَيهِ حجَّة، وَإِن أخر الْعمرَة إِلَى قَابل فَعَلَيهِ حجَّة وَعمرَة وَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي، " فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج " آخرهَا يَوْم عَرَفَة، " وَسَبْعَة إِذا رجعتم ". قَالَ: فَذكرت ذَلِك لسَعِيد بن جُبَير / فَقَالَ: هَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَعقد ثَلَاثِينَ. البُخَارِيّ: عَن نَافِع أَن (عبيد الله) وسالما كلما عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ: " خرجنَا مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] معتمرين، فحال كفار قُرَيْش دون الْبَيْت، فَنحر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بدنه وَحلق رَأسه.
وَعنهُ: عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن الْمسور: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نحر قبل أَن يحلق، وَأمر أَصْحَابه بذلك ".
فَإِن قيل: فقد روى التِّرْمِذِيّ: عَن الْحجَّاج بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى " فَذكرت (ذَلِك) لأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس فَقَالَا: صدق.
قيل لَهُ: قَوْله " فقد حل " يحْتَمل أَن يكون فقد حل لَهُ أَن يحل، لَا على أَنه قد حل بذلك من إِحْرَامه، وَيكون هَذَا كَمَا يُقَال: " قد حلت فُلَانَة للرِّجَال " إِذا خرجت من عدَّة عَلَيْهَا من زوج قد كَانَ لَهَا، لَيْسَ على معنى أَنَّهَا قد حلت لَهُم، فَيكون لَهُم وَطْؤُهَا، لَكِن على معنى أَنه قد حل لَهُم تَزْوِيج (مَا) يحل (لَهُم) وَطْؤُهَا.

(1/456)


(بَاب الِاشْتِرَاط فِي الْحَج وَعَدَمه سَوَاء)

التِّرْمِذِيّ: عَن سَالم عَن أَبِيه: " أَنه كَانَ يُنكر الِاشْتِرَاط فِي الْحَج وَيَقُول: (أَلَيْسَ) حسبكم سنة نَبِيكُم [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ". قَالَ أَبُو عِيسَى: (هَذَا) حَدِيث حسن صَحِيح.
(بَاب يجوز لمن لم يحجّ أَن يحجّ عَن غَيره)

البُخَارِيّ وَمُسلم: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن الْفضل بن عَبَّاس كَانَ رَدِيف رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَة من خثعم تستفتيه، فَجعل الْفضل ينظر إِلَيْهَا وَتنظر إِلَيْهِ، فَجعل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يصرف وَجه الْفضل إِلَى الشق الآخر، فَقَالَت: يَا رَسُول الله (إِن) فَرِيضَة الله على عباده فِي الْحَج أدْركْت أبي شَيخا (كَبِيرا) لَا يَسْتَطِيع أَن يثبت على الرَّاحِلَة، أفأحج عَنهُ؟ قَالَ: نعم ". وَجه التَّمَسُّك بِهَذَا الحَدِيث: أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أمرهَا بِالْحَجِّ عَنهُ وَلم يسْأَلهَا أحججت عَن نَفسك أم لَا؟ . فَدلَّ ذَلِك أَنه لَا فرق.

(1/457)


وَكَذَلِكَ روى أَبُو دَاوُد: عَن أبي رزين أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله إِن أبي شيخ كَبِير لَا يَسْتَطِيع الْحَج وَالْعمْرَة وَلَا الظعن، قَالَ: احجج عَن أَبِيك وَاعْتمر ".
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا صرورة فِي الْإِسْلَام ".
وَعنهُ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سمع رجلا / يَقُول: لبيْك عَن شبْرمَة، قَالَ: من شبْرمَة؟ قَالَ: أَخ لي (أَو قريب لي) فَقَالَ: حججْت عَن نَفسك، قَالَ: لَا، قَالَ حج عَن نَفسك ثمَّ حج عَن شبْرمَة ".
قيل لَهُ: أما الحَدِيث الأول: فقد قَالَ الْخطابِيّ: " يُفَسر بمعنيين أَحدهمَا: أَن الصرورة هُوَ الَّذِي أقلع عَن النِّكَاح بِالْكُلِّيَّةِ وَأعْرض عَنهُ كرهبان النَّصَارَى، وَالثَّانِي: أَنه (الَّذِي) لم يحجّ، فَيكون مَعْنَاهُ أَن سنة الدّين أَن لَا يبْقى من النَّاس (مِمَّن) يَسْتَطِيع الْحَج إِلَّا ويحج ". وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَن من لم يحجّ عَن نَفسه لَا يحجّ عَن غَيره. وَأما الحَدِيث الثَّانِي: فَالْأَمْر فِيهِ مَحْمُول على النّدب، يَعْنِي أَن الأولى أَن يحجّ الْإِنْسَان عَن نَفسه ثمَّ يحجّ عَن غَيره كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: " ابدأ بِنَفْسِك ثمَّ بِمن تعول ".
قلت: وَقد تضمن حَدِيث الخثعمية مَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا وَهِي جَوَاز الْحَج عَن

(1/458)


الْحَيّ الْعَاجِز لكنه مُخْتَصّ بعجز لَا يُرْجَى زَوَاله كالزمانة والعمى، فَإِن مرض مَرضا يُرْجَى زَوَاله فحج عَنهُ غَيره، فَالْأَمْر مَوْقُوف، فَإِن دَامَ الْعَجز وَقع عَن الْفَرْض، لِأَن الْعَجز قد استحكم، وَإِن زَالَ وَجب عَلَيْهِ الْحَج لِأَن الْمَعْنى المجوز قد زَالَ، والمخالف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، والْحَدِيث أولى بالاتباع.
(بَاب يجوز للْمحرمِ والمحرمة أَن يتزوجا فِي حَال الْإِحْرَام)

البُخَارِيّ وَمُسلم: عَن جَابر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم ".
البُخَارِيّ: عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم، وَبني بهَا وَهُوَ حَلَال، وَمَاتَتْ بسرف ".
فَإِن قيل: رُوِيَ عَن (يزِيد بن الْأَصَم) ابْن أُخْت مَيْمُونَة عَن مَيْمُونَة قَالَت: " تزَوجنِي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَنحن حلالان بسرف ". وروى أَبُو رَافع: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال، وَقَالَ: كنت أَنا السفير بَينهمَا ".

(1/459)


فَوَجَبَ تَقْدِيم رِوَايَة يزِيد بن الْأَصَم، لِأَنَّهُ لم يخْتَلف عَنهُ فِي ذَلِك، وَرِوَايَة أبي رَافع (على) رِوَايَة ابْن عَبَّاس، لِأَن السفير يخبر الْأَمر الَّذِي سفر فِيهِ، وَيعرف مِنْهُ مَا لَا يعرف غَيره، فَكَانَ الظَّن فِيمَا يرويهِ أقوى.
قيل لَهُ: قَالَ عَمْرو بن دِينَار: " فَقلت لِلزهْرِيِّ وَمَا يدْرِي ابْن الْأَصَم، أَعْرَابِي (بوال، أ) تَجْعَلهُ مثل ابْن عَبَّاس ". ثنم إِنَّه يحْتَمل أَنه عبر بِالتَّزْوِيجِ عَن الدُّخُول بهَا حَتَّى تتفق رِوَايَة ابْن عَبَّاس وَرِوَايَة (يزِيد بن الْأَصَم) ، / (وعَلى هَذَا يحمل) قَول أبي رَافع " وَكنت السفير بَينهمَا " يَعْنِي فِي تعْيين وَقت الدُّخُول، وَهَذَا أولى من الحكم على أَحدهمَا بالوهم.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: " وَالَّذين رووا أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تزَوجهَا وَهُوَ محرم أهل علم وَثَبت، أَصْحَاب ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ، سعيد بن جُبَير، وَعَطَاء، وطاووس، وَمُجاهد، وَعِكْرِمَة، وَجَابِر بن زيد، وَهَؤُلَاء كلهم فُقَهَاء يحْتَج برواياتهم وآرائهم، وَالَّذين نقلوا (عَنْهُم) أَيْضا (كَذَلِك) ، مِنْهُم عَمْرو بن دِينَار، وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، (وَعبد الله) بن أبي نجيح، وَهَؤُلَاء الْأَئِمَّة يقْتَدى (بهم و) برواياتهم. وَقد روى أَبُو عوَانَة عَن مُغيرَة عَن أبي الضُّحَى (عَن مَسْرُوق) عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: تزوج رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بعض نِسَائِهِ وَهُوَ محرم ونقلة هَذَا الحَدِيث كلهم ثِقَات يحْتَج برواياتهم ". .

(1/460)


فَإِن قيل: فقد رُوِيَ عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " لَا ينْكح الْمحرم وَلَا ينْكح ".
قيل لَهُ: قَالَ الطَّحَاوِيّ: " وَأما حَدِيث عُثْمَان فَإِنَّمَا رَوَاهُ نبيه بن وهب وَلَيْسَ كعمرو بن دِينَار، وَلَا كجابر بن زيد، وَلَا كمن روى مَا يُوَافق عَن مَسْرُوق، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، وَلَا لنَبيه أَيْضا مَوضِع من الْعلم كموضع وَاحِد مِمَّن ذكرنَا. فَلَا يجوز إِذا كَانَ كَذَلِك أَن يُعَارض بِهِ جَمِيع من ذكرنَا مِمَّن روى بِخِلَاف ذَلِك ".
وَقد روى الطَّحَاوِيّ عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم: " (أَن) ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يتَزَوَّج الْمحرم ".
وَعنهُ: عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَأَلت أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن نِكَاح الْمحرم فَقَالَ: وَمَا بِهِ بَأْس هَل هُوَ إِلَّا كَالْبيع " وَكَذَلِكَ روى عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا.

(1/461)