اللباب في الجمع بين السنة والكتاب

 (كتاب النِّكَاح)

(بَاب الِاشْتِغَال بِالنِّكَاحِ أفضل من التخلي لنوافل الْعِبَادَات)

لِأَن النِّكَاح سنة مُؤَكدَة، وَالسّنة راجحة على النَّوَافِل بِالْإِجْمَاع.
أما أَنه سنة: فَلَمَّا روى التِّرْمِذِيّ: عَن أبي أَيُّوب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَربع من سنَن الْمُرْسلين: الْحِنَّاء والتعطر والسواك وَالنِّكَاح "، وَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لكني أَصوم وَأفْطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النِّسَاء، فَمن رغب عَن سنتي

(2/651)


فَلَيْسَ مني "، وَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " يَا معشر الشَّبَاب: / من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج، (فَإِنَّهُ أَغضّ لِلْبَصَرِ وَأحْصن لِلْفَرجِ) ".
وروى مُسلم: عَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ: أَن نَاسا من أَصْحَاب النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالُوا للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " يَا رَسُول الله، ذهب أهل الدُّثُور بِالْأُجُورِ، يصلونَ كَمَا نصلي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُوم، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفضل أَمْوَالهم، فَقَالَ: أوليس قد جعل الله لكم مَا (تصدقُونَ) إِن بِكُل تَسْبِيحَة صَدَقَة، (وكل تَكْبِيرَة صَدَقَة، وكل تَحْمِيدَة صَدَقَة) ، وكل تَهْلِيلَة صَدَقَة، (وَأمر بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَة، وَنهي عَن مُنكر صَدَقَة، وَفِي بضع أحدكُم صَدَقَة) . قَالُوا: يَا رَسُول الله أَيَأتِي أَحَدنَا شَهْوَته وَيكون لَهُ فِيهَا أجر؟ قَالَ: أَرَأَيْتُم لَو وَضعهَا فِي حرَام أَكَانَ عَلَيْهِ وزر فَكَذَلِك إِذا وَضعهَا فِي الْحَلَال كَانَ لَهُ أجر ".

(2/652)


(بَاب لَا يشْتَرط عَدَالَة الشُّهُود فِي النِّكَاح)

لِأَنَّهُ عقد مُعَاوضَة كَالْبيع، وَاشْتِرَاط إِحْضَار الشَّاهِدين لم يكن لتحمل الشَّهَادَة وأدائها، بل لإعلان النِّكَاح وإظهاره ليتميز عَن مواعيد (السفاح) الَّتِي تجرى فِي خَفَاء.
فَإِن قيل: فقد روى الدَّارَقُطْنِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل، وَأَيّمَا امْرَأَة أنْكحهَا ولي مسخوط عَلَيْهِ فنكاحها بَاطِل ".
قيل لَهُ: هَذَا لَا يَصح لِأَن فِي سَنَده (عِيسَى بن أبي حَرْب) ، قَالَ فِيهِ يحيى بن معِين: (لَيْسَ بِثِقَة) . وَإِن صَحَّ فَهُوَ مثل قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي الْمَسْجِد ". فَمَا أُجِيب عَن ذَلِك فَهُوَ جَوَاب عَن هَذَا.
(بَاب يَصح النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة وَالتَّمْلِيك)

رُوِيَ فِي الصَّحِيح عَن سهل بن سعد رَضِي الله عَنهُ: " أَن امْرَأَة جَاءَت إِلَى

(2/653)


النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَت: جِئْت أهب لَك نَفسِي، فَنظر إِلَيْهَا بعض الصَّحَابَة فَقَالَ: يَا رَسُول الله زَوجنِي بهَا، فَقَالَ: (أَمَعَك) شَيْء؟ فَقَالَ: مَا معي إِلَّا سُورَة كَذَا. فَقَالَ: اذْهَبْ فقد ملكتكها ". فَدلَّ على أَن لفظ الْهِبَة وَالتَّمْلِيك وَنَحْوهمَا كَانَت متعارفة بَينهم.
فَإِن قيل: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله ". (وَكلمَة الله هِيَ) الَّتِي فِي كِتَابه، وَهِي لفظ الْإِنْكَاح وَالتَّزْوِيج.
قيل لَهُ: المُرَاد معنى الْمَذْكُور فِي الْكتاب لَا عينه، وَلَو أُرِيد عينه فَلفظ الْهِبَة مَذْكُور (فِي الْكتاب) فِي قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي} ، ومذكور فِي (الحَدِيث الَّذِي روينَاهُ. ثمَّ) فِيهِ بَيَان / انْعِقَاد النِّكَاح بِهَذِهِ الْكَلِمَة، وَلَيْسَ فِيهِ نفي غَيرهَا. وَإِنَّمَا خصها بِالذكر لِأَنَّهَا أغلب.
قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ رَحمَه الله: قَالَ قَائِلُونَ: كَانَ عقد النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة مَخْصُوصًا بِالنَّبِيِّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، (وَقَالَ آخَرُونَ بل كَانَ لَهُ ولأمته، وَإِنَّمَا كَانَ (خُصُوصِيَّة) النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) فِي جَوَاز اسْتِبَاحَة الْبضْع بِغَيْر بدل، وَرُوِيَ نَحْو ذَلِك عَن مُجَاهِد،

(2/654)


وَسَعِيد بن الْمسيب، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، لدلَالَة الْآيَة وَالْأُصُول عَلَيْهِ.
فدلالة الْآيَة من وُجُوه: الأول: (قَوْله عز وَجل) {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها خَالِصَة لَك} ، فَلَمَّا أخبر فِي هَذِه الْآيَة أَن ذَلِك كَانَ خَالِصا لَهُ دون غَيره من الْمُؤمنِينَ مَعَ إِضَافَة لفظ الْهِبَة إِلَى الْمَرْأَة، دلّ ذَلِك أَن مَا خص بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام من ذَلِك إِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَة الْبضْع بِغَيْر بدل، لِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَاد اللَّفْظ لما شَاركهُ فِيهِ غَيره، لِأَن مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ وخالصا (لَهُ) فَغير جَائِز أَن يَقع بَينه وَبَين غَيره فِيهِ شركَة حَتَّى نساويه فِيهِ، إِذْ كَانَت مساواتهما فِي الشّركَة تزيل معنى التَّخْصِيص. فَلَمَّا أضَاف لفظ الْهِبَة إِلَى الْمَرْأَة، فَأجَاز (العقد مِنْهَا) بِلَفْظ الْهِبَة، علمنَا أَن التَّخْصِيص لم يَقع فِي اللَّفْظ وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْمهْر.
فَإِن قيل: قد شاركته فِي حق جَوَاز تمْلِيك الْبضْع بِغَيْر عوض، وَلم يمْنَع ذَلِك خلوصها لَهُ فَكَذَلِك فِي لفظ العقد.
قيل لَهُ: هَذَا غلط، لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَنَّهَا خَالِصَة، وَإِنَّمَا جعل الخلوص فِيمَا هُوَ لَهُ، وَإِسْقَاط الْمهْر فِي العقد لَيْسَ لَهَا، وَلكنه عَلَيْهَا. فَلم يُخرجهُ ذَلِك من أَن يكون مَا جعل لَهُ خَالِصا لم تشركه فِيهِ الْمَرْأَة (وَلَا غَيرهَا) .
وَالْوَجْه الثَّانِي: {إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها} فَسمى العقد بِلَفْظ الْهِبَة نِكَاحا، فَوَجَبَ أَن يكون (الْكل وَاحِدًا) إِلَّا أَن يقوم دَلِيل الْخُصُوص. ثمَّ لما أشبه عقد النِّكَاح عُقُود التمليكات إِذْ كَانَ التَّوْقِيت يُفْسِدهُ وَجب أَن _ يجوز) بِلَفْظ التَّمْلِيك. وَالله أعلم.

(2/655)


(بَاب يَصح مُبَاشرَة الْمَرْأَة الْعَاقِلَة الْبَالِغَة الْحرَّة نِكَاح نَفسهَا دون إِذن وَليهَا)

لقَوْله تَعَالَى: {فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} . وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ إِذا تراضوا بَينهم بِالْمَعْرُوفِ} وَجه الدّلَالَة: أَنه / أضَاف النِّكَاح إلَيْهِنَّ، وَلَو لم يكن لَهُنَّ حق فِي تَزْوِيج أَنْفسهنَّ لما نهى الْوَلِيّ عَن حبسهن عَن (التَّزْوِيج) ، مَعَ أَنه (قيل) إِن الْخطاب للأزواج، لأَنهم كَانُوا يطلقون فيراجعون كلما قرب انْقِضَاء الْعدة، لَا عَن حَاجَة لتطول الْعدة عَلَيْهَا. وَالْمعْنَى أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ الَّذين (يرغبون فِيهِنَّ) ويصلحون لَهُنَّ.
وَأخرج مُسلم وَغَيره: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأمر فِي نَفسهَا، وإذنها

(2/656)


(صماتها) ". وَعنهُ: أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: لَيْسَ للْوَلِيّ مَعَ الثّيّب أَمر واليتيمة تستأمر (وصمتها إِقْرَارهَا) ". وَأخرجه البُخَارِيّ.
فَإِن قيل: فقد روى التِّرْمِذِيّ: عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا (فنكاحها بَاطِل فنكاحها بَاطِل فنكاحها بَاطِل) . فَإِن دخل بهَا فلهَا الْمهْر بِمَا اسْتحلَّ من فرجهَا. فَإِن اشتجروا فالسلطان ولي من لَا ولي لَهُ ". ثمَّ يَقُول: " إِنَّمَا نهى (الْوَلِيّ) عَن العضل إِذا تراضوا بَينهم بِالْمَعْرُوفِ ". فَدلَّ ذَلِك على أَنه لَيْسَ بِمَعْرُوف إِذا عقد غير الْوَلِيّ.
قيل لَهُ: قَالَ التِّرْمِذِيّ: " وَقد تكلم بعض أهل الحَدِيث فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ. قَالَ ابْن جريج: ثمَّ لقِيت الزُّهْرِيّ فَسَأَلته فَأنكرهُ. فضعفوا هَذَا الحَدِيث من أجل هَذَا ".
فَإِن قيل: وَقد قَالَ التِّرْمِذِيّ: " وَهَذَا حَدِيث حسن. وَذكر عَن يحيى بن

(2/657)


معِين أَنه قَالَ: لم يذكر هَذَا الْحَرْف عَن ابْن جريج إِلَّا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، يَعْنِي ابْن علية. قَالَ يحيى بن معِين: وَسَمَاع إِسْمَاعِيل عَن ابْن جريج لَيْسَ بِذَاكَ إِنَّمَا صحّح كتبه على كتب عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد ".
قيل لَهُ: وَمن أَيْن ثَبت لَهُ الْحسن وَقد أنكرهُ الزُّهْرِيّ، وَقَول ابْن معِين: سَماع إِسْمَاعِيل من ابْن جريج لَيْسَ بِذَاكَ لَا يُوجب سُقُوط حَدِيثه.
فَإِن قيل: (إِنْكَاره لَا يتَعَيَّن للتكذيب، بل) يحْتَمل أَنه رَوَاهُ فنسيه، إِذْ كل مُحدث لَا يحفظ كل مَا رَوَاهُ.
قيل لَهُ: وَإِذا احْتمل التَّكْذِيب وَالنِّسْيَان فَلَا يبْقى فِيهِ حجَّة.
ثمَّ (نقُول) لمن احْتج بِهَذَا الحَدِيث: أَنْت تَقول بِمَفْهُوم الْخطاب، وَمَفْهُوم هَذَا يَقْتَضِي صِحَة النِّكَاح بِإِذن الْوَلِيّ، فَلم لَا تَقول بِهِ؟ .
فَإِن قَالَ: (أَنا لَا أَقُول) بِالْمَفْهُومِ فِي كل حَدِيث كَانَ منطوقه على الْغَالِب الْمُعْتَاد (إِذْ الْحَامِل) على إِثْبَات / مَفْهُوم الْخطاب طلب باعث للمتكلم على تَخْصِيص إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ بِالذكر بعد اجْتِمَاعهمَا فِي الذِّهْن، وَنِكَاح الْمَرْأَة بِإِذن وَليهَا وَبِغير إِذْنه لَا يجْتَمع فِي الذِّهْن (إِذْ الْغَالِب أَن الْمَرْأَة لَا تباشر النِّكَاح بِنَفسِهَا إِلَّا بِغَيْر إِذن وَليهَا، فَلم تَجْتَمِع فِي الذِّهْن) حالتان (يدل انْقِطَاع إِحْدَاهمَا) بِإِثْبَات الحكم على (افتراقهما) فِيهِ.
قيل لَهُ: لَا نسلم أَن الِاجْتِمَاع فِي الذِّهْن مَوْقُوف على تَسَاوِي الْوُقُوع فِي الْخَارِج

(2/658)


بل على نفس الْوُقُوع، إِذْ الذِّهْن يتَصَوَّر الْغَالِب والنادر. أَلا ترى إِلَى اجْتِمَاع السَّائِمَة والمعلوفة فِي الذِّهْن، وَإِن كَانَ الْغَالِب هُوَ الأسامة فِي أغلب الْبِقَاع. أَو نقُول: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد نكحت غير كُفْء، وَهُوَ السَّابِق إِلَى الْفَهم عِنْد سَماع نِكَاح الْمَرْأَة، إِذْ لَو كَانَت راغبة فِي كُفْء لفوضت أمرهَا إِلَى الْوَلِيّ، ويتأيد بتعليله بِعَدَمِ إِذن الْوَلِيّ، فليحمل على صُورَة يظْهر مِنْهَا غَرَض الْوَلِيّ وَهُوَ (فَوَات) الْكَفَاءَة. وَقَوله: " فنكاحها بَاطِل "، أَي سيبطل باعتراض الْوَلِيّ. فَهُوَ تَعْبِير بالناجز فِي الْحَال عَمَّا إِلَيْهِ الْمصير فِي الْمَآل. كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} ، وَتَقْدِير الْكَلَام: أَيّمَا امْرَأَة نكحت غير كُفْء بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها سيبطل باعتراض الْوَلِيّ.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: " ثمَّ لَو ثَبت هَذَا عَن الزُّهْرِيّ لَكَانَ قد رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَا يُخَالف ذَلِك ".
قَالَ: حَدثنَا يُونُس عَن ابْن وهب أَن مَالِكًا أخبرهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة زوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَنَّهَا زوجت حَفْصَة بنت عبد الرَّحْمَن (من) الْمُنْذر بن الزبير، وَعبد الرَّحْمَن غَائِب بِالشَّام. فَلَمَّا قدم (عبد الرَّحْمَن) قَالَ: (أمثلي) يصنع بِهِ هَذَا و (يفتات) عَلَيْهِ، فكلمت عَائِشَة الْمُنْذر، فَقَالَ الْمُنْذر: إِن ذَلِك بيد عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: مَا كنت أرد أمرا قضيتيه، فقرت حَفْصَة عِنْده. وَلم يكن ذَلِك طَلَاقا ". فَلَمَّا كَانَت عَائِشَة قد رَأَتْ أَن تَزْوِيجهَا بنت

(2/659)


عبد الرَّحْمَن بِغَيْر أمره جَائِزا، (وَذَلِكَ) العقد مُسْتَقِيمًا حِين أجازت فِيهِ التَّمْلِيك الَّذِي لَا يكون إِلَّا عَن صِحَة النِّكَاح وثبوته، اسْتَحَالَ عندنَا أَن تكون ترى (ذَلِك) وَقد علمت أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: (" لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، فَثَبت بذلك فَسَاد) مَا نسب إِلَى الزُّهْرِيّ.
وَأما الِاعْتِرَاض على الْآيَة فَنَقُول: / قد علمنَا أَن الْمَعْرُوف (مهما) كَانَ من شَيْء فَغير جَائِز أَن يكون عقد الْوَلِيّ، وَذَلِكَ لِأَن فِي نَص الْآيَة جَوَاز عقدهَا وَنهي الْوَلِيّ عَن منعهَا. فَغير جَائِز أَن يكون معنى الْمَعْرُوف أَن لَا يجوز عقدهَا، لما فِيهِ من نفي مُوجب الْآيَة، وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا على (وَجه) النّسخ. وَمَعْلُوم امْتنَاع جَوَاز النَّاسِخ والمنسوخ فِي خطاب وَاحِد، لِأَن النّسخ لَا يجوز إِلَّا بعد اسْتِقْرَار الحكم والتمكن (من الْفِعْل) . فَثَبت بذلك أَن الْمَعْرُوف الْمَشْرُوط بتراضيهما لَيْسَ هُوَ الْوَلِيّ. وَأَيْضًا فَإِن الْبَاء تصْحَب الْإِبْدَال وَإِنَّمَا انْصَرف ذَلِك إِلَى مِقْدَار الْمهْر وَهُوَ أَن يكون مهر مثلهَا لَا نقص فِيهِ.
فَإِن قيل: إِنَّمَا أَرَادَ بذلك اخْتِيَار الْأزْوَاج، وَأَنه لَا يجوز العقد عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا.
قيل لَهُ: هَذَا غلط من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: عُمُوم اللَّفْظ فِي اخْتِيَار الْأزْوَاج وَفِي غَيره. وَالثَّانِي: اخْتِيَار الْأزْوَاج (قد ذكر) مَعَ العقد بقوله: {إِذا تراضوا بَينهم بِالْمَعْرُوفِ} .

(2/660)


فَإِن قيل: قد روى التِّرْمِذِيّ: عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ".
قيل لَهُ: قد قطعه شُعْبَة وَالثَّوْري، وهما أحفظ وَأثبت من جَمِيع من روى هَذَا الحَدِيث عَن أبي إِسْحَاق.
فَإِن قيل: إنَّهُمَا سمعاه فِي مجْلِس وَاحِد وَغَيرهمَا سَمعه فِي مجَالِس فَكَانَ أولى. يدل على ذَلِك مَا روى التِّرْمِذِيّ: عَن شُعْبَة قَالَ: " سَمِعت سُفْيَان الثَّوْريّ يسْأَل أَبَا إِسْحَاق: أسمعت أَبَا بردة يَقُول قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : لَا نِكَاح إِلَّا بولِي؟ قَالَ: نعم ".
قيل لَهُ: هَب أَن هَذَا يدل على أَنَّهُمَا سمعاه فِي مجْلِس وَاحِد، فَمَا الدَّلِيل على أَن أُولَئِكَ سَمِعُوهُ فِي مجَالِس مُخْتَلفَة. ثمَّ نقُول: اتّفق أَصْحَاب أبي إِسْحَاق كلهم إِلَى أَن بلغُوا بِهِ أَبَا بردة، وَاخْتلفُوا فِيمَن فَوْقه، وَالْأَصْل عدم السماع فَلَا يثبت بِالشَّكِّ.
فَإِن قيل: فقد رَفعه بشر بن مَنْصُور عَن سُفْيَان، (عَن أبي بردة) .
(قيل لَهُ: قَالَ) التِّرْمِذِيّ: " وَقد ذكر بعض أَصْحَاب سُفْيَان عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى وَلَا يَصح ". فَكيف يجوز لَك أَن تعارضنا بِمثل هَذَا وَأَنت إِذا احتججت (علينا بِمثل مَا) احتججنا بِهِ عَلَيْك وعارضناك بِمثل مَا عارضتنا بِهِ

(2/661)


نسبتنا إِلَى الْجَهْل بِالْحَدِيثِ، أَتَرَى من سوغ لَك هَذَا وَلم يسوغه لنا. إِن الْإِنْصَاف لمن شيم الْأَشْرَاف.
قَالَ الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله: " وَلَكِنِّي أَقُول: / لَو ثَبت عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي " لم يكن فِيهِ حجَّة، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الْوَلِيّ هُوَ أقرب عصبَة، وَيحْتَمل أَن يكون من توليه الْمَرْأَة من الرِّجَال وَإِن كَانَ بَعيدا، وَيحْتَمل أَن يكون هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ ولَايَة الْبضْع من وَالِد الصَّغِيرَة، أَو مولى الْأمة، أَو بَالِغَة حرَّة بِنَفسِهَا، فَيكون ذَلِك على أَنه لَيْسَ لأحد أَن يعْقد نِكَاحا على بضع إِلَّا ولي ذَلِك الْبضْع. وَهُوَ جَائِز فِي اللُّغَة، قَالَ الله تَعَالَى: {فليملل وليه بِالْعَدْلِ} قيل: ولي الْحق هُوَ الَّذِي لَهُ الْحق.
وَإِذا احْتمل الحَدِيث هَذِه التأويلات انْتَفَى أَن يصرف إِلَى بَعْضهَا دون بعض، إِلَّا بِدلَالَة تدل عَلَيْهِ من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع ".
وَقد روى الطَّحَاوِيّ: عَن أم سَلمَة قَالَت: " دخل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَليّ بعد وَفَاة أبي سَلمَة فخطبني إِلَى نَفسِي، فَقلت: يَا رَسُول الله إِنَّه لَيْسَ أحد من أوليائي شَاهدا، فَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ مِنْهُم شَاهد وَلَا غَائِب يكره (ذَلِك) ، فَقَالَت: قُم يَا عمر فزوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَزَوجهَا ". وَعمر يَوْمئِذٍ طِفْل صَغِير غير بَالغ.
قلت: كَانَ لعمر بن أم سَلمَة لما تزَوجهَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ثَلَاث سِنِين. ذكره مُحَمَّد بن سعد فِي الطَّبَقَات. وَالصَّغِير لَا ولَايَة لَهُ، وَقد ولته هِيَ أَن يعْقد النِّكَاح عَلَيْهَا

(2/662)


فَفعل، فَرَآهُ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] جَائِزا، وَكَانَ عمر بِتِلْكَ الْوكَالَة قَامَ مقَام من وَكله، فَصَارَت أم سَلمَة كَأَنَّهَا عقدت النِّكَاح على نَفسهَا، فَعدم انْتِظَاره [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حُضُور أوليائها دَلِيل أَن بضعهَا إِلَيْهَا دونهم، وَلَو كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أولى بِكُل مُؤمن من نَفسه فِي أَن يعْقد عَلَيْهِ عقدا بِغَيْر أمره لكَانَتْ وكَالَة عمر من قبله لَا من قبل أم سَلمَة، لِأَنَّهُ هُوَ وَليهَا. فَلَمَّا (لم) يكن كَذَلِك دلّ ذَلِك أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِنَّمَا ملك ذَلِك الْبضْع بِإِذن أم سَلمَة لَا بِحَق ولَايَة كَانَت لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْهَا فِي بضعهَا. وَلَو كَانَ أولى بهَا لم يقل إِنَّه لَيْسَ مِنْهُم شَاهد وَلَا غَائِب يكره ذَلِك، ولقال لَهَا: أَنا (وليك) دونهم.
فَإِن قيل: فقد روى الدَّارَقُطْنِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا تزوج الْمَرْأَة الْمَرْأَة، وَلَا تزوج الْمَرْأَة نَفسهَا، فَإِن الزَّانِيَة هِيَ الَّتِي تزوج نَفسهَا ".
وَعنهُ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : لَا تنْكح الْمَرْأَة (الْمَرْأَة) وَلَا تنْكح الْمَرْأَة نَفسهَا إِن الَّتِي تنْكح نَفسهَا (هِيَ) الْبَغي " /
قيل لَهُ: فِي الحَدِيث الأول (جميل) ، وَفِي الثَّانِي: (مُسلم بن أبي مُسلم) ،

(2/663)


غير معروفين. والمجهول إِنَّمَا يقبل عندنَا إِذا لم يُعَارضهُ مَا هُوَ أقوى مِنْهُ. وَقد عَارضه من الصَّحِيح مَا روينَاهُ فِي أول الْبَاب. وَإِن صَحَّ حملناه على الْكَرَاهَة، مَعَ أَنه بَين الْخَطَأ بِإِجْمَاع الْمُسلمين، لِأَن تَزْوِيجهَا نَفسهَا لَيْسَ بزنا عِنْد أحد من الْمُسلمين، وَالْوَطْء غير مَذْكُور فِيهِ. فَإِن حَملته على أَنَّهَا زَوجته نَفسهَا وَوَطئهَا الزَّوْج، فَهَذَا أَيْضا (لَا خلاف أَنه) لَيْسَ بزنا، لِأَن من (لَا) يُجِيزهُ إِنَّمَا جعله نِكَاحا فَاسِدا، يُوجب الْمهْر وَالْعدة، وَيثبت بِهِ النّسَب، قَالُوا: وَقد ذكر أَن قَوْله: " إِن الزَّانِيَة هِيَ الَّتِي تنْكح نَفسهَا "، من قَول أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ. وَالله أعلم.
(بَاب لَا يجوز للْوَلِيّ إِجْبَار الْبكر الْبَالِغ على النِّكَاح)

لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأمر فِي نَفسهَا "، فَلَمَّا كَانَت الأيم فِي هَذَا الحَدِيث هِيَ الَّتِي (أَحَق بِنَفسِهَا من) ، وَليهَا أَي ولي كَانَ كَانَت الْبكر المقرونة إِلَيْهَا كَذَلِك.
(قَالَ الدراقطني) : عَن نَافِع بن جُبَير بن مطعم، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَيْسَ للْأَب مَعَ الثّيّب أَمر، وَالْبكْر تستأمر وإذنها صماتها ".
فَإِن قيل: فِي سَنَد هَذَا الحَدِيث يحيى بن عبد الحميد الْحمانِي.

(2/664)


قيل لَهُ: قَالَ يحيى بن معِين: الْحمانِي صَدُوق مَشْهُور بِالْكُوفَةِ، مثله مَا يُقَال فِيهِ إِلَّا من حسد. فالبكر الْمَذْكُورَة فِي (هَذَا) الحَدِيث هِيَ الْبكر ذَات الْأَب، كَمَا أَن الثّيّب الْمَذْكُورَة فِيهِ كَذَلِك.
فَإِن قيل: فقد روى التِّرْمِذِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " الْيَتِيمَة تستأمر فِي نَفسهَا، فَإِن صمتت فَهُوَ إِذْنهَا، وَإِن أَبَت (فَلَا جَوَاز) عَلَيْهَا ".
وروى الدَّارَقُطْنِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا "، وَلَا يخفى وَجه الِاسْتِدْلَال بِمَفْهُوم الْخطاب.
قيل لَهُ: أما الحَدِيث الأول فَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " من أعتق (شقيصا) لَهُ فِي عبد "، وَكَذَلِكَ الحَدِيث الثَّانِي، وَلِأَنَّهُ إِذا لم يدل (المنظوم على اسْتِقْلَال) الثّيّب بِالتَّزْوِيجِ فَكيف يدل الْمَفْهُوم على (اسْتِقْلَال الْوَلِيّ بِهِ) .

(2/665)


(بَاب الْوَاحِد يتَوَلَّى طرفِي عقد النِّكَاح ولَايَة ووكالة)

وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله. / وَصُورَة الْمَسْأَلَة (ان) يُزَوّج ابْن ابْنه بنت ابْنه الآخر، أَو بنت عَمه (من) ابْن عَمه الآخر، أَو بنت عَمه من نَفسه. وَفِي الْوكَالَة أَن توكله امْرَأَة أَن يُزَوّجهَا من نَفسه، وَيكون أصيلا ووكيلا فِي حَقّهَا. وَالَّذِي يدل على ذَلِك: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أعتق صَفِيَّة بنت حييّ، وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا ". وَلم ينْقل أَنه ولاها غَيره، لِأَنَّهُ لم يكن لَهَا ولي، وَلِأَنَّهُ إِذا كَانَ وليا وخاطبا فقد صَار كشخصين لِاجْتِمَاع السببين فِي حَقه فقد وجد حُضُور أَرْبَعَة.
(بَاب فِي النِّكَاح الْمَوْقُوف)

قَوْله تَعَالَى: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم} ، فِيهِ دَلِيل وَاضح على صِحَة (العقد) الْمَوْقُوف، إِذْ لم تخص الْآيَة بذلك الْأَوْلِيَاء دن غَيرهم، وكل وَاحِد من النَّاس مَنْدُوب إِلَى تَزْوِيج الْأَيَامَى المحتاجين. فَإِن تقدم من الْمَعْقُود عَلَيْهِم أَمر فَهُوَ نَافِذ (وَكَذَلِكَ) إِن كَانُوا مِمَّن يجوز عقدهم عَلَيْهِم فَهُوَ نَافِذ، مثل الصَّبِي وَالْمَجْنُون، وَإِن لم يكن لَهُم ولَايَة وَلَا أَمر فعقدهم مَوْقُوف على إجَازَة من يملك ذَلِك العقد. فقد اقْتَضَت الْآيَة جَوَاز النِّكَاح مَوْقُوفا على إجَازَة من يملكهَا، لِأَن (الْأَيَامَى) يَنْتَظِم

(2/666)


اسْم الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَهُوَ فِي الرِّجَال لم يرد بهم الْأَوْلِيَاء دون غَيرهم، كَذَلِك النِّسَاء. وَالرجل يُقَال لَهُ أيم (وَالْمَرْأَة أيم) وَهُوَ اسْم للْمَرْأَة الَّتِي لَا زوج لَهَا، وَالرجل الَّذِي لَا امْرَأَة لَهُ.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَإِن تنكحي أنكح وَإِن تتأيمي ... مدى الدَّهْر مَا لم تنكحي أتأيم)

وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: " مَا رَأَيْت (مثل) من يحبس أَيّمَا بعد هَذِه الْآيَة ". فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاسْم شَامِلًا للرِّجَال وَالنِّسَاء وَقد أضمر فِي الرِّجَال تزويجهم بإذنهم فَوَجَبَ اسْتِعْمَال ذَلِك الضَّمِير فِي النِّسَاء، فَلَا يجوز للْوَلِيّ إِجْبَار الْبَالِغ على النِّكَاح أَيْضا بِمُقْتَضى هَذِه الْآيَة.
(بَاب الزِّنَا يثبت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة)

قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم} ، وَالنِّكَاح حَقِيقَة فِي الْوَطْء.
فَإِن قيل: فقد روى الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " الْحَلَال لَا يُفْسِدهُ الْحَرَام ".
وَعنهُ: عَنْهَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سُئِلَ عَن الرجل يتبع الْمَرْأَة حَرَامًا ثمَّ ينْكح

(2/667)


ابْنَتهَا، أَو يتبع الِابْنَة حَرَامًا ثمَّ ينْكح أمهَا، قَالَ: لَا يحرم الْحَرَام الْحَلَال ".
قيل لَهُ: فِي طريقي هَذَا الحَدِيث عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن القَاضِي الوقاصي، وَقد قَالَ يحيى بن معِين: لَيْسَ بِشَيْء كَانَ يكذب / وَقَالَ البُخَارِيّ: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يروي عَن الثِّقَات الموضوعات.
وَقد روى الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: " لَا ينظر الله عز وَجل إِلَى رجل نظر إِلَى فرج امْرَأَة وابنتها " لَكِن هَذَا حَدِيث مَوْقُوف، وَفِي سَنَده: لَيْث عَن حَمَّاد، وهما ضعيفان. وَالله أعلم.
(بَاب لَا يَصح النِّكَاح إِلَّا بِالْمَالِ)

قَالَ الله تَعَالَى: {أَن تَبْتَغُوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} .

(2/668)


فَإِن قيل: " وَقد أعتق رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] صَفِيَّة وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا، " وَزوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْمَرْأَة الَّتِي وهبت نَفسهَا مِنْهُ رجلا على سُورَة من الْقُرْآن ".
قيل لَهُ: قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِن حمل على ظَاهره فَذَاك على السُّورَة لَا على تعليمها، وَإِذا كَانَ على السُّورَة فَهُوَ على حُرْمَة السُّورَة، وَلَيْسَ من الْمهْر فِي شَيْء كَمَا تزوج أَبُو طَلْحَة أم سليم على إِسْلَامه.
الطَّحَاوِيّ: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ: أَن " أَبَا طَلْحَة تزوج أم سليم على إِسْلَامه، فَذكرت ذَلِك للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فحسنه ". فَلم يكن ذَلِك الْإِسْلَام مهْرا فِي الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا معنى تزَوجهَا على إِسْلَامه (أَنه تزَوجهَا لإسلامه) ، وَقد زَاد بَعضهم فِي هَذَا الحَدِيث: " مَا كَانَ لَهَا مهر غَيره "، وَمعنى ذَلِك وَالله أعلم: مَا أَرَادَت مِنْهُ مهْرا غَيره، وَكَذَلِكَ حَدِيث الْمَرْأَة الَّتِي ذكرنَا.
وَالَّذِي يُؤَيّد هَذَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نهى أَن يتعوض بِالْقُرْآنِ شَيْء من عوض الدُّنْيَا "، وَيجوز أَن يكون الله عز وَجل أَبَاحَ لرَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ملك الْبضْع بِغَيْر صدَاق، وأباح لَهُ تمْلِيك غَيره مَا كَانَ لَهُ ملكه بِغَيْر صدَاق، فَيكون ذَلِك خَالِصا للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . كَمَا قَالَ اللَّيْث: " لَا يجوز بعد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يتَزَوَّج بِالْقُرْآنِ ". وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْمَرْأَة قَالَت لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " قد وهبت نَفسِي لَك، فَقَامَتْ قيَاما طَويلا، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، زوجنيها إِن لم (يكن) لَك بهَا حَاجَة ". وَلم (يذكر) فِي الحَدِيث

(2/669)


أَنه عَلَيْهِ السَّلَام شاورها فِي نَفسهَا، وَلَا أَنَّهَا قَالَت: زَوجنِي مِنْهُ. وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن تَزْوِيجهَا مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ بالْقَوْل الأول. وَذَلِكَ كَانَ خَالِصا للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَكَذَلِكَ نقُول فِي جعل الْعتْق صَدَاقا أَنه كَانَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، لما بَينا أَنه كَانَ لَهُ أَن يتَزَوَّج بِغَيْر صدَاق.
وقصة مُوسَى مَعَ شُعَيْب عَلَيْهِمَا السَّلَام، إِنَّمَا فِيهَا شَرط مَنَافِعه لشعيب عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ بِمَنْزِلَة من تزوج امْرَأَة وَلم يسم لَهَا مهْرا وَشرط لوَلِيّهَا مَنَافِعه مُدَّة.
وَيحْتَمل أَن تكون تِلْكَ الشَّرِيعَة / (كَانَ) فِيهَا حل النِّكَاح من غير بدل تستحقه (الْمَرْأَة) ، ثمَّ نسخ بشريعتنا. وَالله أعلم.
(بَاب)

لَا يَصح النِّكَاح إِلَّا بِمَال مُقَدّر، وَأَقل مَا يقدر بِهِ عشرَة دَرَاهِم. وَالْمُعْتَمد فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة الواهبة (نَفسهَا) : {خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} ، فَلَو لم يُقيد فِي نِكَاح غَيره بِالْمهْرِ كَانَ التَّخْصِيص بَاطِلا. وَالْآخر قَوْله تَعَالَى: {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} ، والحل الْمُسْتَثْنى عَن الأَصْل بِقَيْد لَا يُوجد دونه. وَالْآخر أَن الزَّوْجَيْنِ لَو توافقا على نفي الْمهْر لزم الْمهْر، إِمَّا بِالْعقدِ وَإِمَّا بِالْوَطْءِ. فَثَبت أَن الْمهْر حق لله تَعَالَى. وَإِذا ثَبت أَنه حق لله وَجب أَن يكون مُقَدرا حَتَّى يُمكن امتثاله كَسَائِر حُقُوقه، فَإِن الْحق إِذا كَانَ لوَاحِد منا أمكن أَن يُرَاجع (فِي)

(2/670)


الزِّيَادَة النُّقْصَان، وَأما حُقُوق الله تَعَالَى مَا لم تتقدر لَا يُمكن امتثالها، كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاة، وَالْحُدُود، وَالزَّكَاة. ثمَّ أقل مَا يقدر بِهِ عشرَة دَرَاهِم (لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَجب إِظْهَارًا لشرف الْبضْع، فَيقدر بِمَا لَهُ خطر فِي الشَّرْع وَهُوَ عشرَة دَرَاهِم) ، اسْتِدْلَالا بنصاب السّرقَة (عندنَا) . وَهَكَذَا قَالَ مَالك رَحمَه الله أَن النِّكَاح لَا يجوز إِلَّا بِمِقْدَار نِصَاب السّرقَة عِنْده، وَلِهَذَا قَالَ الدَّرَاورْدِي: (تعزفت يَا أَبَا عبد الله) ، أَي قلت: بِمذهب أهل الْعرَاق.
وَقد ورد حَدِيث شدّ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَإِن كَانَ فِيهِ كَلَام، وَهُوَ مَا روى الدَّارَقُطْنِيّ: (عَن مُبشر بن عبيد، عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة) عَن عَطاء، عَن جَابر قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا تنْكِحُوا النِّسَاء إِلَّا من الْأَكفاء (وَلَا يزوجهن) إِلَّا الْأَوْلِيَاء وَلَا مهر أقل من عشرَة ". ويروى مَوْقُوفا على عَليّ رَضِي الله عَنهُ.
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد: عَن مُوسَى بن مُسلم بن رُومَان، عَن أبي الزبير، عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من أعْطى فِي صدَاق امْرَأَة ملْء كفيه سويقا أَو تَمرا فقد اسْتحلَّ ".
قيل لَهُ: قَالَ أَبُو دَاوُد: " رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن صَالح بن رُومَان،

(2/671)


عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَوْقُوفا ". وَهُوَ مَحْمُول على الْمُتْعَة والمتعة مَنْسُوخَة.
وَيُؤَيّد هَذَا التَّأْوِيل مَا روى أَبُو دَاوُد: عَن صَالح بن رُومَان، عَن أبي الزبير، عَن جَابر قَالَ: " كُنَّا على عهد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (نتمتع) بالقبضة من الطَّعَام على معنى الْمُتْعَة ". وَالله أعلم.
(بَاب فِيمَن تزوج امْرَأَة وَلم يفْرض لَهَا صَدَاقا)

أَبُو دَاوُد: عَن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود: " أَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ / أُتِي فِي رجل تزوج امْرَأَة فَمَاتَ عَنْهَا، وَلم يدْخل بهَا، وَلم يفْرض لَهَا الصَدَاق، قَالَ: فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ شهرا، أَو قَالَ مَرَّات، قَالَ: فَإِنِّي أَقُول فِيهَا إِن لَهَا صَدَاقا كصداق (نسائها، لَا وكس) وَلَا شطط، وَإِن لَهَا الْمِيرَاث، وَعَلَيْهَا الْعدة، فَإِن يَك صَوَابا فَمن الله، وَإِن يَك خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان، وَالله وَرَسُوله بريئان. فَقَامَ نَاس من أَشْجَع، فيهم الْجراح، وَأَبُو سِنَان، فَقَالُوا: يَا ابْن مَسْعُود نَحن نشْهد أَن نَبِي الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَضَاهَا فِينَا فِي بروع بنت واشق، وَأَن زَوجهَا هِلَال بن مرّة الْأَشْجَعِيّ كَمَا قضيت. قَالَ: ففرح بهَا عبد الله بن مَسْعُود فَرحا شَدِيدا حِين وَافق قَضَاؤُهُ قَضَاء رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَبِه يَقُول الثَّوْريّ وَأحمد وَإِسْحَاق رَحِمهم الله تَعَالَى.

(2/672)


(بَاب الْخلْوَة الصَّحِيحَة توجب (كَمَال) الْمهْر)

الدَّارَقُطْنِيّ: (عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان) رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من كشف خمار امْرَأَة وَنظر إِلَيْهَا وَجب الصَدَاق ". وروى زُرَارَة بن أبي أوفي، قَالَ: قَالَ الْخُلَفَاء الراشدون: " من تزوج امْرَأَة وأغلق بَابا وأرخى سترا وَجب الْمهْر كَامِلا دخل بهَا أَو لَا ". وَإِلَى هَذَا ذهب أَحْمد بن حَنْبَل، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن زيد بن ثَابت، وَابْن عمر، ومعاذ بن جبل، والمغيرة بن شُعْبَة رَضِي الله عَنْهُم. وَالله أعلم.
(بَاب إِذا خرجت امْرَأَة الْحَرْبِيّ إِلَيْنَا مسلمة أَو قَابِلَة عقد الذِّمَّة بَانَتْ وَيجوز لَهَا أَن تتَزَوَّج وَلَا عدَّة عَلَيْهَا)

قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم أَن تنكحوهن إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ} . فأباح نِكَاحهنَّ من غير عدَّة. وَقَالَ فِي نسق التِّلَاوَة: {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} . والعصمة: الْمَنْع، فحظر الِامْتِنَاع من نِكَاحهَا لأجل زَوجهَا (الْحَرْبِيّ) . والكوافر يجوز أَن يتَنَاوَل الرِّجَال، وَظَاهره فِي هَذَا الْموضع الرِّجَال، لِأَنَّهُ فِي ذكر الْمُهَاجِرَات. وَأَيْضًا: " أَبَاحَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نِكَاح المسبية بعد الِاسْتِبْرَاء

(2/673)


بِحَيْضَة "، والاستبراء لَيْسَ بعدة، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " عدَّة الْأمة حيضتان ". وَالْمعْنَى فِيهَا وُقُوع الْفرْقَة باخْتلَاف الدَّاريْنِ. وَالله أعلم.
(بَاب إِذا أسلم الرجل وَتَحْته أَكثر من أَربع نسْوَة)

فَإِن كَانَ تزوجهن مَعًا فسد نِكَاح الْكل، وَإِن كَانَ مُتَفَرقًا فنكاح الأولى صَحِيح، وَيفرق بَينه وَبَين سائرهن. وَإِن أسلم وَتَحْته أختَان، / إِن كَانَ تزوجهما مَعًا فسد نِكَاحهمَا، وَإِن كَانَ مُتَفَرقًا فسد نِكَاح الثَّانِيَة. لِأَن الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ حرَام بِالنَّصِّ وَبَين الْخمس حرَام بِالْإِجْمَاع.
وروى الطَّحَاوِيّ: عَن سعيد عَن قَتَادَة قَالَ: " يَأْخُذ الأولى وَالثَّانيَِة وَالثَّالِثَة وَالرَّابِعَة ".
فَإِن قيل: روى التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن عمر: " أَن غيلَان بن سَلمَة الثَّقَفِيّ أسلم وَله عشر نسْوَة فِي الْجَاهِلِيَّة، فأسلمن مَعَه، فَأمره النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يتَخَيَّر مِنْهُنَّ أَرْبعا ".
وَعنهُ: عَن أبي وهب الجيشاني أَنه سمع ابْن فَيْرُوز الديلمي يحدث

(2/674)


عَن أَبِيه قَالَ: " أتيت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقلت يَا رَسُول الله إِنِّي أسلمت وتحتي أختَان، فَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : اختر أَيَّتهمَا شِئْت ".
قيل لَهُ: قَالَ التِّرْمِذِيّ: " سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل يَقُول: هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ، قَالَ مُحَمَّد: وَإِنَّمَا حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه أَن رجلا من ثَقِيف طلق نِسَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ عمر: لتراجعن نِسَاءَك أَو لأرجمن قبرك كَمَا رجم قبر أبي رِغَال "، ثمَّ
نقُول: لَو صَحَّ هَذَا الحَدِيث لم يكن فِيهِ حجَّة لمن يخالفنا، لِأَن تَزْوِيج غيلَان لتِلْك النسْوَة إِنَّمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة فِي وَقت كَانَ تَزْوِيج ذَلِك الْعدَد جَائِزا، وَالنِّكَاح عَلَيْهِ ثَابتا، وَلم يكن للواحدة حِينَئِذٍ (من) ثُبُوت النِّكَاح إِلَّا مَا للعاشرة مثله. ثمَّ أحدث الله عز وَجل حكما آخر وَهُوَ تَحْرِيم مَا فَوق الْأَرْبَع، فَكَانَ ذَلِك حكما طارئا طرأت بِهِ حُرْمَة حَادِثَة على ذَلِك (النِّكَاح) ، فَأمره النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يمسك من النِّسَاء الْعدَد الَّذِي أَبَاحَهُ الله تَعَالَى وَيُفَارق مَا سوى ذَلِك. كَرجل لَهُ أَربع (نسْوَة) طلق مِنْهُنَّ وَاحِدَة، فَحكمه أَن يخْتَار وَاحِدَة للطَّلَاق ويمسك الْبَاقِي. وَهَذَا (هُوَ) الْجَواب عَن حَدِيث الضَّحَّاك بن فَيْرُوز الديلمي.
(بَاب فِي إِسْلَام أحد الزَّوْجَيْنِ)

الطَّحَاوِيّ: عَن دَاوُد بن كرْدُوس قَالَ: " كَانَ رجل منا من بني تغلب

(2/675)


نَصْرَانِيّ، تَحْتَهُ امْرَأَة نَصْرَانِيَّة، فَأسْلمت فَرفعت إِلَى عمر فَقَالَ لَهُ عمر: أسلم وَإِلَّا فرقت بَيْنكُمَا، فَقَالَ: لَو لم أدع إِلَّا استحياء من الْعَرَب أَنهم يَقُولُونَ أسلم على بضع امْرَأَة لفَعَلت. قَالَ: فَفرق عمر رَضِي الله عَنهُ بَينهمَا ".
التِّرْمِذِيّ: عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه، عَن جده: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رد ابْنَته زَيْنَب على أبي الْعَاصِ بن الرّبيع بِمهْر جَدِيد، وَنِكَاح جَدِيد ". وَهَذَا فِي إِسْنَاده مقَال.
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " رد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ابْنَته زَيْنَب / على أبي الْعَاصِ بعد سِتّ سِنِين بِالنِّكَاحِ الأول، وَلم يحدث نِكَاحا. هَذَا حَدِيث لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْس.
قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله: " إِنَّمَا جَاءَ اخْتلَافهمْ أَن الله عز وَجل إِنَّمَا حرم أَن ترجع الْمُؤْمِنَات إِلَى الْكفَّار فِي سُورَة الممتحنة بَعْدَمَا كَانَ ذَلِك حَلَالا جَائِزا. فَعلم ذَلِك جد عَمْرو بن شُعَيْب، ثمَّ رأى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد رد (زَيْنَب) على أبي الْعَاصِ بَعْدَمَا كَانَ علم حرمتهَا عَلَيْهِ بِتَحْرِيم الله عز وَجل الْمُؤْمِنَات على الْكفَّار، فَلم يكن ذَلِك (عِنْده) إِلَّا بِنِكَاح جَدِيد، فَقَالَ: ردهَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِنِكَاح جَدِيد، وَلم يعلم

(2/676)


عبد الله بن عَبَّاس بِتَحْرِيم الله الْمُؤْمِنَات على الْكفَّار حِين علم برد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] زَيْنَب على أبي الْعَاصِ، فَقَالَ: ردهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الأول، لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده بَين إِسْلَامه وإسلامها فسخ للنِّكَاح الَّذِي كَانَ بَينهمَا ". قَالَ أَبُو جَعْفَر: " وَقد أحسن مُحَمَّد فِي هَذَا ". وَالله أعلم.
(بَاب إِذا عجز رجل عَن نَفَقَة امْرَأَته لَا يفرق بَينهمَا)

قَالَ الله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا مَا آتاها} ، فَإِذا لم يقدر على النَّفَقَة لَا يكلفه الله الْإِنْفَاق فِي هَذِه الْحَالة. وَإِذا لم يُكَلف الْإِنْفَاق فِي هَذِه الْحَالة لم يجز التَّفْرِيق بَينه وَبَين امْرَأَته لعَجزه عَن نَفَقَتهَا. فَلَا يجوز إِجْبَاره على الطَّلَاق من أجلهَا، لِأَن فِيهِ إِيجَاب التَّفْرِيق بِشَيْء لم يجب. وَأَيْضًا إِنَّمَا أَرَادَ (أَن لَا يكلفه) مَا لَا يُطيق (وَلم يرد أَن يُكَلف (كل مَا) يُطيق) لِأَن ذَلِك مَفْهُوم من خطاب الْآيَة.
وَقَوله تَعَالَى: {سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا} يدل على أَنه لَا يفرق بَينهمَا من أجل عَجزه عَن النَّفَقَة، (لِأَن الْمُعسر) يُرْجَى لَهُ الْيَسَار. وَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فتعالين أمتعكن وأسرحكن} دَلِيل على جَوَاز التَّفْرِيق، لِأَن الله تَعَالَى علق اخْتِيَار

(2/677)


النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لفراقهن بإرادتهن الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا، وَمَعْلُوم أَن من أَرَادَ من نسائنا الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا لم يُوجب ذَلِك تفريقا بَينهَا وَبَين زَوجهَا. فَلَمَّا كَانَ السَّبَب الَّذِي أوجب الله بِهِ التَّخْيِير الْمَذْكُور فِي الْآيَة غير مُوجب للتَّخْيِير فِي نسَاء غَيره، لم يكن فِيهِ دلَالَة على جَوَاز (التَّفْرِيق بَين) امْرَأَة الْعَاجِز عَن النَّفَقَة وَبَينه. وَأَيْضًا فَإِن اخْتِيَار النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْآخِرَة دون الدُّنْيَا، وإيثاره للفقر دون الْغنى، لم يُوجب أَن يكون عَاجِزا عَن نَفَقَة نِسَائِهِ، لِأَن / (الْإِنْسَان قد) يقدر على نَفَقَة نِسَائِهِ (مَعَ كَونه فَقِيرا، وَلم يدع أحد من النَّاس وَلَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ إِسْلَام كَانَ عَاجِزا عَن نَفَقَة نِسَائِهِ) بل كَانَ يدّخر لَهُنَّ قوت سنة.
(بَاب الْقسم بَين الزَّوْجَات)

التِّرْمِذِيّ: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يقسم بَين نِسَائِهِ فيعدل وَيَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قسمي فِيمَا أملك (فَلَا تلمني) فِيمَا تملك وَلَا أملك ". يَعْنِي فِي الْحبّ والمودة.
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا كَانَت عِنْد الرجل

(2/678)


امْرَأَتَانِ فَلم يعدل بَينهمَا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَشقه سَاقِط ".
الطَّحَاوِيّ: عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ لَهَا لما بنى بهَا وأصبحت عِنْده: " إِن شِئْت سبعت لَك وَإِن سبعت لَك سبعت لنسائي ". فَلَمَّا قَالَ لَهَا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (مَا قَالَ) ، أَي أعدل بَيْنك وبينهن فأجعل لكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ سبعا، كَمَا أَقمت عنْدك سبعا، كَانَ كَذَلِك إِذا جعل لَهَا ثَلَاثًا.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهَا: " لَيْسَ بك على أهلك هوان، إِن شِئْت سبعت لَك وَإِلَّا (فثلثت) ثمَّ أدور ".
قيل لَهُ: يحْتَمل أَن يكون (ثمَّ) أدور بِالثلَاثِ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَو كَانَ الثَّلَاث حَقًا لَهَا دون سَائِر النِّسَاء لَكَانَ إِذا أَقَامَ عِنْدهَا سبعا كَانَت ثَلَاث مِنْهُنَّ غير محسوبة عَلَيْهَا، ولوجب أَن يكون لسَائِر النِّسَاء أَربع أَربع، فَلَمَّا كَانَ الَّذِي للنِّسَاء

(2/679)


إِذا أَقَامَ عِنْدهَا سبعا (سبعا) لكل وَاحِدَة، كَانَ كَذَلِك إِذا أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا، لكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ ثَلَاث. هَذَا هُوَ النّظر الصَّحِيح مَعَ استقامة تَأْوِيل الْآثَار. وَالله أعلم.
(بَاب (إِذا تزوج) امْرَأَة (بِشَرْط) أَن يحللها فَالنِّكَاح مَكْرُوه، وَإِن وَطئهَا حلت للْأولِ)

التِّرْمِذِيّ: عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: " لعن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْمُحَلّل والمحلل لَهُ ". (قَالَ أَبُو عِيسَى) : هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث: أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سَمَّاهُ محللا، ثمَّ إِن الله تَعَالَى جعل نِكَاح الثَّانِي غَايَة لتَحْرِيم الأول، فَإِذا وجدت الْغَايَة ارْتَفع الحكم الْمَمْدُود إِلَيْهَا، وَإِن كَانَ مذموما عَلَيْهَا.
(فَإِن قيل) فقد رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " لَا أُوتى بِمُحَلل (وَلَا محللة) إِلَّا رَجَمْتهمَا ".
قيل لَهُ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا على سَبِيل التَّغْلِيظ، وَإِلَّا فقد صَحَّ أَنه وضع الْحَد عَن من وطئ فرجا حَرَامًا قد جهل تَحْرِيمه، وعذره، فبالتأويل أولى، وَلَا خلاف (أَنه) لَا رجم عَلَيْهِ. /

(2/680)


(بَاب إِذا طلقت امْرَأَة تَطْلِيقَتَيْنِ ثمَّ تزوجت (وَطلقت) وَرجعت إِلَى الأول رجعت بِثَلَاث تَطْلِيقَات)

وَهَذَا مَذْهَب (ابْن عمر وَابْن عَبَّاس) رَضِي الله عَنْهُمَا، وَإِلَيْهِ ذهب عَطاء وَالنَّخَعِيّ.
وَذكر أَبُو بكر بن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة، وَكِيع عَن الْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم أَنه قَالَ: " كَانَ أَصْحَاب عبد الله يَقُولُونَ: أيهدم الزَّوْج الثَّانِي الثَّلَاث وَلَا يهدم الْوَاحِدَة والاثنتين ".
(بَاب قَلِيل الرَّضَاع محرم وَلَو كَانَ مصة)

قَالَ الله تَعَالَى: {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم وأخواتكم من الرضَاعَة} .
فَإِن قيل: رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: كَانَ فِيمَا أنزل (الله) من الْقُرْآن: عشر رَضعَات يحرمن، ثمَّ نسخن بِخمْس مَعْلُومَات يحرمن. فَتوفي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهن مِمَّا يقْرَأ من الْقُرْآن ".

(2/681)


قيل لَهُ: هَذَا لَفظه مَنْسُوخ، فَمن الْجَائِز أَن يكون قد نسخ حكمه، بل الظَّاهِر أَنه إِذا نسخ اللَّفْظ أَن ينْسَخ الحكم. وَقَوْلها: " فَتوفي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهن مِمَّا يقْرَأ من الْقُرْآن ". مجَاز عَن قرب النّسخ من وَفَاة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَإِلَى هَذَا ذهب مَالك بن أنس، وَالثَّوْري، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَعبد الله بن الْمُبَارك، ووكيع، رَضِي الله عَنْهُم.

(2/682)