اللباب في الجمع بين السنة والكتاب

 (كتاب السّير)

(بَاب من بلغته الدعْوَة كَانَ للْإِمَام أَن يُغير عَلَيْهِم قبل أَن يَدعُوهُم)

الطَّحَاوِيّ: عَن عبد الله بن عون قَالَ: " كتبت إِلَى نَافِع) أسأله عَن الدُّعَاء قبل الْقِتَال فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام. أغار رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على بني المصطلق وهم غَارونَ، وأنعامهم على المَاء، فَقتل مُقَاتلَتهمْ وسبى ذَرَارِيهمْ (ثمَّ أصَاب) يَوْمئِذٍ جوَيْرِية بنت الْحَارِث ".
(بَاب)

إِذا زَاد عدد الْكفَّار على اثْنَيْنِ فَحِينَئِذٍ للْوَاحِد التحيز إِلَى فِئَة / من الْمُسلمين فِيهَا نصْرَة. فَأَما إِذا أَرَادَ الْفِرَار ليلحق بِقوم من الْمُسلمين لَا نصْرَة مَعَهم، فَهُوَ من

(2/761)


الْوَعيد الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره} الْآيَة. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَنا فِئَة كل مُسلم " وَقَالَ عمر بن الْخطاب لما بلغه أَن أَبَا عبيد بن مَسْعُود اسْتقْبل يَوْم الْحَشْر حَتَّى قتل وَلم ينهزم: " رحم الله أَبَا عبيد لَو انحاز إِلَيّ لَكُنْت لَهُ فِئَة. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ أَصْحَاب أبي عبيد قَالَ: أَنا فِئَة لكم وَلم يعنفهم ".
وَهَذَا الحكم (عندنَا) ثَابت مَا لم يبلغ (عدد) الْجَيْش اثْنَي عشر ألفا (فَإِذا بلغُوا اثْنَي عشر ألفا) لَا يجوز لَهُم أَن ينهزموا عَن مثليهم إِلَّا متحرفين لقِتَال. وَهُوَ أَن يصيروا من مَوضِع إِلَى غَيره مكايدين لعدوهم، من نَحْو خُرُوج من مضيق إِلَى فسحة، أَو من سَعَة إِلَى مضيق، أَو يكمنوا لعدوهم، وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يكون فِيهِ انصراف عَن الْحَرْب. أَو متحيزين إِلَى فِئَة من الْمُسلمين يُقَاتلُون مَعَهم.
فَإِذا بلغُوا اثْنَي عشر ألفا فَإِن مُحَمَّد بن الْحسن قَالَ: " إِن الْجَيْش إِذا بلغ ذَلِك فَلَيْسَ لَهُم أَن يَفروا من عدوهم وَإِن كثر عَددهمْ. وَلم يذكر خلافًا بَين أَصْحَابنَا " وَاحْتج بِحَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " خير الْأَصْحَاب أَرْبَعَة وَخير السَّرَايَا أَربع مائَة وَخير الجيوش أَرْبَعَة آلَاف وَلنْ تُؤْتى اثْنَا عشر ألفا عَن قلَّة وَلنْ تغلب ". وَفِي بَعْضهَا: " مَا غلب قوم يبلغون اثْنَي عشر ألفا إِذا اجْتمعت كلمتهم ".
وَذكر الطَّحَاوِيّ أَن مَالِكًا سُئِلَ فَقيل لَهُ: " أيسعنا التَّخَلُّف عَن قتال من خرج

(2/762)


عَن أَحْكَام الله تَعَالَى وَحكم بغَيْرهَا؟ فَقَالَ لَهُ مَالك: إِن كَانَ مَعَك اثْنَا عشر ألفا مثلك لم يسعك التَّخَلُّف، وَإِلَّا فَأَنت فِي (سَعَة) من التَّخَلُّف ". وَكَانَ السَّائِل عبد الله بن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ. وَهَذَا الْمَذْهَب مُوَافق لما رُوِيَ عَن مُحَمَّد بن الْحسن رَحْمَة الله عَلَيْهِ.
(بَاب لَا يصير الْكَافِر مُسلما مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ لَهُ وَعَلِيهِ حَتَّى يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، ويجحد كل دين سوى الْإِسْلَام ويتخلى عَنهُ)

الطَّحَاوِيّ: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَإِذا شهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وصلوا صَلَاتنَا، واستقبلوا قبلتنا، / وأكلوا ذبيحتنا فَحرمت علينا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، لَهُم مَا للْمُسلمين وَعَلَيْهِم مَا عَلَيْهِم ".
وَعنهُ: عَن أبي مَالك سعد بن طَارق بن أَشْيَم، عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله، ويتركوا مَا يعبدن من دون الله، فَإِذا فعلوا ذَلِك حرمت عَليّ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا (بِحَقِّهَا) وحسابهم على الله ".

(2/763)


وَعنهُ: عَن بهز بن حَكِيم، عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: " قلت يَا رَسُول الله مَا آيَة الْإِسْلَام؟ قَالَ: أَن تَقول: أسلمت وَجْهي (لله) وتخليت، وتقيم الصَّلَاة، وَتُؤَدِّي الزَّكَاة، وتفارق الْمُشْركين إِلَى الْمُسلمين ".
(بَاب إِن استتيب الْمُرْتَد فَهُوَ أحسن فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل)

الطَّحَاوِيّ: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لما فتحنا تستر بَعَثَنِي أَبُو مُوسَى إِلَى عمر، فَلَمَّا قدمت عَلَيْهِ قَالَ: مَا فعل جُحَيْفَة وَأَصْحَابه؟ ، وَكَانُوا ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام وَلَحِقُوا بالمشركين فَقَتلهُمْ الْمُسلمُونَ، فَأخذت مَعَه فِي حَدِيث آخر، فَقَالَ: مَا فعل النَّفر البكريون؟ قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّهُم ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام، وَلَحِقُوا بالمشركين، فَقتلُوا. فَقَالَ عمر: لِأَن تكون أخذتهم سلما أحب إِلَيّ من كَذَا وَكَذَا. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا كَانَ سبيلهم لَو أخذتهم سلما إِلَّا الْقَتْل، قوم ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام وَلَحِقُوا بالمشركين، فَقَالَ: لَو أخذتهم سلما لعرضت عَلَيْهِم الْبَاب الَّذِي خَرجُوا مِنْهُ، وَإِلَّا استودعتهم السجْن ".
وَعنهُ: عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: " لما فتح سعد وَأَبُو مُوسَى تستر، أرسل أَبُو مُوسَى رَسُولا إِلَى عمر، فَذكر حَدِيثا طَويلا، قَالَ: ثمَّ أقبل عمر على الرَّسُول فَقَالَ: هَل كَانَت عنْدكُمْ (من مغربة خبر) قَالَ: نعم، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَخذنَا رجلا من الْعَرَب كفر بعد إِسْلَامه، قَالَ عمر: فَمَا صَنَعْتُم

(2/764)


بِهِ؟ قَالَ: قدمْنَاهُ فضربنا عُنُقه، قَالَ عمر: أَفلا أدخلتموه بَيْتا ثمَّ ضيقتم عَلَيْهِ: ثمَّ رميتم إِلَيْهِ برغيف ثَلَاثَة أَيَّام لَعَلَّه أَن يَتُوب، أَو يُرَاجع أَمر الله تَعَالَى. اللَّهُمَّ إِنِّي لم آمُر وَلم أشهد وَلم أَرض إِذْ بَلغنِي ". وَالله أعلم.
(بَاب من أظهر سبّ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من أهل الذِّمَّة عزّر، وَلَا ينْتَقض عَهده وَلَا يقتل)

لما رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " إِن رهطا من الْيَهُود دخلُوا على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالُوا: السام عَلَيْك، فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : عَلَيْكُم. فَقَالَت عَائِشَة: فَقلت: لَا بل عَلَيْكُم السام واللعنة، فَقَالَ النَّبِي / [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (يَا عَائِشَة) إِن الله يحب الرِّفْق فِي الْأَمر كُله، فَقَالَت: ألم تسمع مَا قَالُوا، قَالَ: (قد) قلت: عَلَيْكُم ". وَمَعْلُوم أَنه لَو كَانَ من مُسلم لصار بِهِ مُرْتَدا. وَلم يقتلهُمْ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بذلك.
وقصة الْيَهُودِيَّة وَالشَّاة المسمومة. وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين أَن من قصد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (بذلك) وَهُوَ مِمَّن ينتحل الْإِسْلَام أَنه مُرْتَد مُسْتَحقّ للْقَتْل، وَلم يَجْعَل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (ذَلِك) مبيحا لدمها بِمَا فعلت، فَكَذَلِك إِظْهَار سبّ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مُخَالف لإِظْهَار (سبّ) الْمُسلم.
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو يُوسُف عَن حُصَيْن بن عبد الله، عَن ابْن عمر (أَن رجلا) قَالَ لَهُ: " إِنِّي سَمِعت رَاهِبًا سبّ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقَالَ: لَو سمعته لقتلته إِنَّا لم نعطهم الْعَهْد على هَذَا ".

(2/765)


قيل لَهُ: (هُوَ) إِسْنَاد ضَعِيف، وَجَائِز أَن يكون قد (كَانَ) شَرط عَلَيْهِم أَن لَا يظهروا شتم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
(بَاب سلب الْقَتِيل من الْغَنِيمَة إِلَّا أَن يَقُول الإِمَام: " من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه ")

قَالَ الله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه} يَقْتَضِي وجوب الْغَنِيمَة لجَماعَة الْمُسلمين. فَغير جَائِز لأحد مِنْهُم الِاخْتِصَاص بِشَيْء (مِنْهَا) دون غَيره وَالسَّلب غنيمَة، لِأَن الْغَنِيمَة هِيَ الَّتِي حازوها بجماعتهم وتآزرهم على الْقِتَال. فَلَمَّا كَانَ قَتله لهَذَا الْقَتِيل وَأخذ سلبه (بتضافر الْجَمَاعَة وَجب أَن يكون غنيمَة.
وَيدل عَلَيْهِ (أَنه) لَو أَخذ سلبه) من غير قتل كَانَ غنيمَة إِذْ لم يصل إِلَى أَخذه إِلَّا بقوتهم. وَكَذَلِكَ من لم يُقَاتل وَكَانَ فِي الصَّفّ ردْءًا لَهُم يصير غانما، لِأَن بمظاهرته ومعاضدته حصلت، فَوَجَبَ أَن يكون السَّلب غنيمَة كَسَائِر الْغَنَائِم. وَقَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم} وَالسَّلب مِمَّا غنمه الْجَمَاعَة.

(2/766)


البُخَارِيّ: عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " بَينا أَنا وَاقِف فِي الصَّفّ يَوْم بدر نظرت عَن يَمِيني وَعَن شمَالي فَإِذا أَنا بغلامين من الْأَنْصَار، حَدِيثَة أسنانهما، تمنيت أَن أكون (بَين) أضلع مِنْهُمَا. فغمزني أَحدهمَا فَقَالَ: يَا عَم هَل تعرف أَبَا جهل؟ فَقلت: نعم، مَا حَاجَتك إِلَيْهِ يَا ابْن أخي؟ قَالَ: أخْبرت أَنه يسب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَئِن رَأَيْته لَا يُفَارق سوَادِي سوَاده حَتَّى يَمُوت الأعجل منا. فعجبت لذَلِك. فغمزني الآخر فَقَالَ لي مثلهَا. فَلم أنشب أَن نظرت إِلَى أبي جهل يجول فِي النَّاس، فَقلت: أَلا تريان، هَذَا صاحبكما الَّذِي / سألتماني عَنهُ. فابتدراه بسيفيهما فضرباه حَتَّى قتلاه. ثمَّ انصرفا إِلَى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: أيكما قَتله؟ فَقَالَ كل وَاحِد مِنْهُمَا: أَنا قتلته، فَقَالَ: هَل مسحتما سيفيكما؟ قَالَا: لَا، فَنظر فِي السيفين فَقَالَ: كِلَاهُمَا قَتله. وَأعْطى سلبه لِمعَاذ بن عَمْرو بن الجموح. وَكَانَا معَاذ بن عفراء (ومعاذ) بن عَمْرو بن الجموح ". أَفلا ترى أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد قَالَ لَهما: إنَّكُمَا قتلتماه. ثمَّ قضى بسلبه لأَحَدهمَا دون الآخر.
فَفِي ذَلِك دَلِيل على أَن السَّلب لَو كَانَ وَاجِبا للْقَاتِل بقتْله إِيَّاه لَكَانَ وَجب سلبه لَهما، وَلم يكن للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يَنْزعهُ من أَحدهمَا فيدفعه إِلَى الآخر. أَلا ترى أَن الإِمَام لَو قَالَ: " من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه "، فَقتل رجلَانِ (قَتِيلا) أَن سلبه لَهما نِصْفَانِ، وَأَنه لَيْسَ للْإِمَام أَن يحرمه أَحدهمَا ويدفعه إِلَى الآخر. لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لَهُ فِيهِ حق مثل (حق) صَاحبه وهما أولى بِهِ من الإِمَام. فَلَمَّا كَانَ للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي سلب أبي جهل أَن يَجعله لأحد قاتليه دون الآخر، دلّ ذَلِك أَنه كَانَ أولى بِهِ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ لم يكن قَالَ يَوْمئِذٍ: " من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه ".

(2/767)


الطَّحَاوِيّ: عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " خرج رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى بدر، فلقي الْعَدو، فَلَمَّا هَزَمَهُمْ الله اتبعهم طَائِفَة من الْمُسلمين يَقْتُلُونَهُمْ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَة برَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، واستولت طَائِفَة بالعسكر والنهب، فَلَمَّا نفى الله عز وَجل الْعَدو وَرجع الَّذين طلبوهم، قَالُوا: لنا النَّفْل، نَحن طلبنا الْعَدو وبنا نفاهم الله تَعَالَى وَهَزَمَهُمْ. وَقَالَ الَّذين أَحدقُوا برَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : مَا أَنْتُم بِأَحَق منا، هُوَ لنا، نَحن أَحدقنَا برَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا ينَال الْعَدو مِنْهُ غرَّة. وَقَالَ الَّذين استولوا على الْعَسْكَر والنهب: وَالله مَا أَنْتُم بِأَحَق منا، نَحن حويناه واستوليناه. فَأنْزل الله عز وَجل: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول} . إِلَى قَوْله: {إِن كُنْتُم مُؤمنين} . فقسم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بَينهم على سَوَاء ".
أَفلا ترى أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يفضل فِي ذَلِك الَّذين توَلّوا الْقَتْل على الآخرين، فَثَبت بذلك أَن سلب الْمَقْتُول لَا يجب للْقَاتِل بقتْله لصَاحبه إِلَّا بِجعْل الإِمَام إِيَّاه لَهُ، على مَا فِيهِ من صَلَاح الْمُسلمين من التحريض على قتال / عدوهم.
فَإِن قيل: إِن الَّذِي ذكرتموه من سلب أبي جهل، وَمَا ذكرتموه فِي حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت، إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي يَوْم بدر قبل أَن تجْعَل الأسلاب للقاتلين. ثمَّ جعل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَوْم خَيْبَر الأسلاب للقاتلين فَقَالَ: " من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه " فنسخ ذَلِك مَا تقدم.
قيل لَهُ: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون أَرَادَ بِهِ من قتل قَتِيلا فِي تِلْكَ الْحَرْب

(2/768)


لَا غير. كَمَا قَالَ يَوْم فتح مَكَّة: " من ألْقى سلاحه فَهُوَ آمن ". فَلم يكن ذَلِك على كل من ألْقى السِّلَاح فِي غير تِلْكَ الْحَرْب. وَلما ثَبت أَن الحكم كَانَ قبل يَوْم حنين أَن الأسلاب لَا تجب للقاتلين ثمَّ حدث يَوْم خَيْبَر هَذَا القَوْل من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] احْتمل أَن يكون نَاسِخا لما تقدم، وَاحْتمل أَن لَا يكون نَاسِخا، لم نجعله نَاسِخا حَتَّى نعلم ذَلِك يَقِينا.
وَيُؤَيّد ذَلِك مَا روى الطَّحَاوِيّ: عَن أنس بن مَالك: " أَن الْبَراء بن مَالك أَخا أنس بن مَالك بارز (مرزبان الدارة) فطعنه طعنة فَكسر القربوس وخلصت إِلَيْهِ فَقتلته، فقوم سلبه بِثَلَاثِينَ ألفا. فَلَمَّا صلينَا الصُّبْح غَدا علينا عمر فَقَالَ لأبي طَلْحَة: إِنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ الأسلاب، وَإِن سلب الْبَراء قد بلغ مَالا وَلَا أرانا إِلَّا خامسيه. فقومناه بِثَلَاثِينَ ألفا. فدفعنا إِلَى عمر سِتَّة آلَاف ".
فَهَذَا عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول هَذَا. وَفِيه دَلِيل على أَنهم (كَانُوا) لَا يخمسون الأسلاب وَلَهُم أَن يخمسوا. وَأَن الأسلاب لَا تجب للقاتلين دون أهل الْعَسْكَر. وَقد حضر عمر مَا كَانَ من قَول رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَوْم خَيْبَر: " من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه " فَدلَّ أَن ذَلِك عِنْده (على كل) من قتل قَتِيلا فِي تِلْكَ الْحَرْب خَاصَّة. وَقد كَانَ أَبُو طَلْحَة (أَيْضا) حضر ذَلِك بِخَيْبَر، وَقضى لَهُ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (بأسلاب الْقَتْلَى الَّذين) قَتلهمْ فَلم يكن ذَلِك مُوجبا بِخِلَاف مَا أَرَادَ عمر فِي سلب الْمَرْزُبَان. وَقد كَانَ

(2/769)


أنس بن مَالك حَاضرا ذَلِك أَيْضا من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِخَيْبَر، وَمن عمر (فِي) يَوْم الْبَراء. فَكَانَ ذَلِك عِنْده على مَا أَرَادَ عمر لَا على خلاف ذَلِك. فَهَؤُلَاءِ أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (لم) يجْعَلُوا قَول رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على النّسخ لما تقدم. (ثمَّ) إِن السَّلب عِنْد الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا يسْتَحق فِي الإدبار، وَإِنَّمَا يسْتَحق فِي الإقبال. والأثر الْوَارِد فِي السَّلب لم يفرق بَين حَال الإقبال والإدبار. فَإِن احْتج بالْخبر فقد خَالفه، وَإِن احْتج بِالنّظرِ فالنظر يُوجب أَن يكون غنيمَة للْجَمِيع، لاتفاقهم على أَنه لَو قَتله فِي حَال / الإدبار لم يسْتَحقّهُ، وَلَو كَانَ مُسْتَحقّا بِنَفس الْقَتْل لما اخْتلف حكم الإقبال والإدبار.
الطَّحَاوِيّ: عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " كنت جَالِسا عِنْده، فَأقبل رجل من أهل الْعرَاق فَسَأَلَهُ عَن السَّلب (فَقَالَ: السَّلب) من النَّفْل وَفِي النَّفْل الْخمس ". وَإِلَى مَا قُلْنَا ذهب مَالك وَالثَّوْري رحمهمَا الله تَعَالَى.
(بَاب يقسم الْخمس على ثَلَاثَة أسْهم)

سهم لِلْيَتَامَى، وَسَهْم للْمَسَاكِين، وَسَهْم لأبناء السَّبِيل، وَيدخل فُقَرَاء ذَوي الْقُرْبَى (فيهم) ويقدمون.
البُخَارِيّ: عَن جُبَير بن مطعم قَالَ: " مشيت أَنا وَعُثْمَان بن عَفَّان إِلَى

(2/770)


رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَعْطَيْت بني عبد الْمطلب وَتَرَكتنَا، وَنحن وهم مِنْك بِمَنْزِلَة وَاحِدَة. فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : إِنَّمَا بَنو الْمطلب وَبَنُو هَاشم شَيْء وَاحِد ". وَقَالَ اللَّيْث: وحَدثني يُونُس وَزَاد: " قَالَ: قسم) خَيْبَر وَلم يقسم لبني عبد شمس وَلَا لبني نَوْفَل ". قَالَ أَبُو إِسْحَاق: وَعبد شمس وهَاشِم وَالْمطلب أخوة لأم، وأمهم عَاتِكَة بنت مرّة، وَكَانَ نَوْفَل أَخَاهُم لأبيهم ".
وَمن طَرِيق الطَّحَاوِيّ: " فَقُلْنَا يَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بَنو هَاشم فَضلهمْ الله بك، فَمَا بالنا وبال بني الْمطلب؟ (وَإِنَّمَا نَحن وهم فِي النّسَب شَيْء وَاحِد. فَقَالَ: إِن بني الْمطلب) لم يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام ".
فَلَمَّا أعْطى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ذَلِك السهْم بعض الْقَرَابَة، وَحرمه من قرَابَته مِنْهُ كقرابتهم، ثَبت بذلك أَن الله عز وَجل لم يرد بِمَا جعل لذِي الْقُرْبَى كل قرَابَة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَإِنَّمَا أَرَادَ خَاصّا مِنْهُم، وَجعل الرَّأْي فِي ذَلِك إِلَى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَضَعهُ فِيمَن شَاءَ (مِنْهُم) . فَإِذا مَاتَ وَانْقطع رَأْيه انْقَطع مَا جعل (لَهُم) من ذَلِك. كَمَا جعل لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يصطفى من الْمغنم لنَفسِهِ سهم الصفي. فَكَانَ لَهُ ذَلِك مَا كَانَ حَيا (ولنفسه من الْمغنم مَا شَاءَ) . فَلَمَّا مَاتَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] انْقَطع ذَلِك.
ثمَّ إِن مَا فِي حَدِيث الطَّحَاوِيّ يدل على أَن المُرَاد بالقربى قربى الْقَرَابَة بِسَبَب النُّصْرَة، لَا قربى الْقَرَابَة بِسَبَب الرَّحِم. وارتفع ذَلِك لانْتِفَاء إِمْكَان نصرته بعد أَن قَبضه الله تَعَالَى. وَلَا يَجْعَل سهم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] للخليفة بعده، (وَلَا سهم ذَوي الْقُرْبَى لقرابة الْخَلِيفَة بعده) كَمَا أَن صَفيه لَيْسَ لأحد (بعده) بِالْإِجْمَاع. فَثَبت أَن

(2/771)


حكمه فِي (خمس) الْخمس خلاف حكم الإِمَام / بعده (وَإِذا ثَبت أَن حكمه فِيمَا وَصفنَا خلاف حكم النَّاس من بعده) ثَبت أَن حكم قرَابَته خلاف حكم قرَابَة الإِمَام من بعده.
(بَاب لَيْسَ للْإِمَام أَن ينفل بعد إِحْرَاز الْغَنِيمَة إِلَّا من الْخمس)

وَأما من غير الْخمس فَلَا، لِأَن ذَلِك قد ملكته الْمُقَاتلَة.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نفل فِي بَدأته الرّبع وَفِي رجعته الثُّلُث ".
قيل لَهُ: يحْتَمل أَن يكو ن مَا كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ينفلهُ فِي الرّجْعَة هُوَ ثلث الْخمس، بعد الرّبع الَّذِي ينفلهُ فِي الْبدَاءَة فَلَا يخرج مِمَّا قُلْنَاهُ.
فَإِن قيل: إِن الحَدِيث إِنَّمَا جَاءَ فِي أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ ينفل فِي الْبدَاءَة (الرّبع، وَفِي الرّجْعَة الثُّلُث، فَلَمَّا كَانَ الرّبع الَّذِي ينفلهُ فِي الْبدَاءَة) إِنَّمَا هُوَ الرّبع قبل الْخمس، فَكَذَلِك الثُّلُث الَّذِي كَانَ ينفلهُ فِي الرّجْعَة هُوَ الثُّلُث أَيْضا (قبل الْخمس) وَإِلَّا لم يكن لذكر الثُّلُث معنى

(2/772)


قيل لَهُ: بل لَهُ معنى صَحِيح، وَذَلِكَ أَن الْمَذْكُور من نفله (هُوَ) الرّبع مِمَّا يجوز لَهُ النَّفْل (مِنْهُ) (فَكَذَلِك نفله فِي الرّجْعَة هُوَ الثُّلُث مِمَّا يجوز لَهُ النَّفْل مِنْهُ) وَهُوَ الْخمس.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بعث سَرِيَّة فِيهَا ابْن عمر فغنموا غَنَائِم كَثِيرَة، فَكَانَت غنائمهم لكل إِنْسَان اثْنَا عشر بَعِيرًا، وَنفل كل إِنْسَان مِنْهُم بَعِيرًا بَعِيرًا ".
قيل لَهُ: مَالك فِي الحَدِيث حجَّة، وَهُوَ إِلَى الْحجَّة عَلَيْك أقرب، لِأَن فِيهِ: فبلغت سِهَامهمْ اثْنَا عشر بَعِيرًا (ونفلوا بَعِيرًا بَعِيرًا) .
فَفِي ذَلِك دَلِيل أَن مَا نفلوا مِنْهُ من ذَلِك (كَانَ) من غير مَا كَانَت فِيهِ سِهَامهمْ وَهُوَ الْخمس.
وروى الطَّحَاوِيّ: عَن معن بن يزِيد السّلمِيّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " لَا نفل إِلَّا بعد الْخمس ". وَمعنى قَوْله: (بعد الْخمس) - وَالله أعلم - حَتَّى يقسم الْخمس، فَإِذا قسم الْخمس انْفَرد حق الْمُقَاتلَة وَهُوَ أَرْبَعَة أَخْمَاس (فَكَانَ النَّفْل الَّذِي ينفلهُ الإِمَام - (بعد أَن آثر أَن يفعل) ذَلِك - من الْخمس لَا من الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس) الَّتِي هِيَ حق الْمُقَاتلَة.

(2/773)


وَقد دلّ على ذَلِك مَا روى الطَّحَاوِيّ: عَن ابْن سِيرِين: " أَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ كَانَ مَعَ (عبد الله بن أبي بكر) فِي غزَاة غَزَاهَا وَأَصَابُوا سبيا فَأَرَادَ عبد الله (أَن يُعْطي) (أنسا) من السَّبي قبل أَن يقسم، (فَقَالَ أنس: لَا وَلَكِن اقْسمْ ثمَّ أعْط من الْخمس، قَالَ: فَقَالَ عبد الله: لَا، إِلَّا من جَمِيع الْمَغَانِم) ، فَأبى أنس أَن يقبله، وَأبي عبد الله أَن يُعْطِيهِ شَيْئا من الْخمس ".
(فَإِن قيل: إِن قَتِيلا قتل يَوْم الْقَادِسِيَّة فنفله سعد بن أبي وَقاص (فَأعْطَاهُ) سلبه) .
قيل لَهُ: يجوز أَن يكون (قبل) / ارْتِفَاع الْقِتَال أَو بعده، أَو يكون من الْخمس أَو من غَيره فَلَا حجَّة فِيهِ لأحد.
فَإِن قيل: فقد أعْطى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من غَنَائِم حنين صَنَادِيد الْعَرَب عطايا، نَحْو الْأَقْرَع بن حَابِس، وعيينة بن حصن، والزبرقان بن بدر، وَأبي سُفْيَان بن حَرْب، وَصَفوَان بن أُميَّة، وَمَعْلُوم أَنه لم يعطهم ذَلِك من سَهْمه من الْغَنِيمَة وسهمه من الْخمس إِذْ لم يَتَّسِع لهَذِهِ العطايا، لِأَنَّهُ أعْطى كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ وَغَيرهم مائَة من الْإِبِل وَلم يكن ليعطيهم من بَقِيَّة سِهَام الْخمس سوى سَهْمه، لِأَن ذَلِك سهم الْفُقَرَاء

(2/774)


وَلم يَكُونُوا هَؤُلَاءِ فُقَرَاء. فَثَبت أَنه أَعْطَاهُم من جملَة الْغَنِيمَة وَلم يستأذنهم فِيهِ. فَدلَّ أَنه أَعْطَاهُم على وَجه النَّفْل، وَأَنه قد كَانَ لَهُ أَن ينفل.
قيل لَهُ: إِن هَؤُلَاءِ كَانُوا من الْمُؤَلّفَة، وَقد جعل الله لَهُم سَهْما من الصَّدقَات، وسبيل الْخمس الصَّدَقَة، لِأَنَّهُ مَصْرُوف إِلَى الْفُقَرَاء كالصدقات المصروفة إِلَيْهِم، فَجَائِز أَن يكون النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَعْطَاهُم من جملَة الْخمس كَمَا أَعْطَاهُم من الصَّدقَات.
(بَاب يُسهم لكل من حضر الْوَقْعَة، وَلمن كَانَ غَائِبا عَنْهَا فِي شَيْء من أَسبَابهَا)

فَمن ذَلِك من خرج يريدها فَلم يلْحق الإِمَام حَتَّى ذهب الْقِتَال غير أَنه لحق بِهِ فِي دَار الْحَرْب قبل خُرُوجه.
أَبُو دَاوُد: عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَامَ - يَعْنِي يَوْم بدر - فَقَالَ: " إِن عُثْمَان انْطلق فِي حَاجَة الله وحاجة رَسُوله، وَإِنِّي أبايع لَهُ فَضرب لَهُ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِسَهْم وَلم يُسهم لأحد غَابَ غَيره ".
فَجعله رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كمن حضرها، فَكَذَلِك كل من غَابَ عَن وقْعَة الْمُسلمين (بِأَهْل الْحَرْب) لشغل وشغله الإِمَام (بِهِ) من أُمُور الْمُسلمين. وَلِأَن غَنَائِم بدر لَو كَانَت وَجَبت لمن حضرها دون من غَابَ عَنْهَا إِذا لما ضرب النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لغَيرهم فِيهَا بِسَهْم، وَلكنهَا وَجَبت لمن حضرها وَلمن غَابَ عَنْهَا مِمَّن بذل نَفسه لَهَا فَصَرفهُ الإِمَام عَنْهَا شغله بغَيْرهَا من أُمُور الْمُسلمين.

(2/775)


وَقَول أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ: " بعث النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أبان بن سعيد على سَرِيَّة من الْمَدِينَة قبل نجد، فَقدم أبان وَأَصْحَابه على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِخَيْبَر بعد فتحهَا فَلم يقسم لَهُم شَيْئا ". فَذَلِك عندنَا وَالله أعلم (على) أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَجه أبان إِلَى نجد قبل أَن يتهيأ خَ إِلَى خَيْبَر. فَتوجه أبان ثمَّ خرج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . فَلم يكن شغله عَن حُضُورهَا بعد إِرَادَته حُضُورهَا فَيكون كمن حضرها. فَكل شَيْء تشاغل بِهِ من شغل نَفسه أَو شغل الْمُسلمين مِمَّا كَانَ دُخُوله فِيهِ مُتَقَدما على خُرُوج الإِمَام ثمَّ خرج فَلَا حق لَهُ فِيهَا.
فَإِن قيل: إِن أهل الْبَصْرَة غزوا نهاوند، وأمدهم أهل الْكُوفَة، فظفروا، فَأَرَادَ أهل الْبَصْرَة أَن لَا يقسموا لأهل الْكُوفَة، وَكَانَ عمار على أهل الْكُوفَة. فَقَالَ رجل من بني عُطَارِد: أَيهَا الأجدع تُرِيدُ أَن تشاركنا فِي غنائمنا. قَالَ: وَكتب فِي ذَلِك إِلَى عمر، فَكتب عمر: " إِن الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة ".
قيل لَهُ: يجوز أَن تكون نهاوند فتحت وَصَارَت دَار الْإِسْلَام، وأحرزت الْغَنَائِم وَقسمت قبل وُرُود أهل الْكُوفَة، فَإِن كَانَ ذَلِك فَإنَّا نَحن نقُول أَيْضا: إِن الْغَنِيمَة فِي ذَلِك لمن شهد الْوَقْعَة. فَإِن كَانَ جَوَاب عمر الَّذِي فِي هَذَا الحَدِيث لما كتب بِهِ إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ لهَذَا السُّؤَال، فَإِن ذَلِك مِمَّا لَا اخْتِلَاف فِيهِ. وَإِن كَانَ على (أَن) أهل الْكُوفَة لَحِقُوا بهم قبل خُرُوجهمْ من دَار الشّرك، بعد ارْتِفَاع الْقِتَال، فَكتب عمر أَن الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة، فَإِن فِي ذَلِك الحَدِيث مَا يدل على أَن أهل الْكُوفَة كَانُوا طلبُوا أَن يقسم لَهُم، وَفِيهِمْ عمار بن يَاسر وَمن كَانَ فيهم غَيره من أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]

(2/776)


مِمَّن تكافأ قَوْله بقول عمر. فَلَا يكون أحد الْفَرِيقَيْنِ بِأولى من الآخر إِلَّا بِدَلِيل من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع أَو نظر صَحِيح.
(بَاب مَكَّة شرفها الله تَعَالَى فتحت عنْوَة)

قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} رُوِيَ أَنه أَرَادَ فتح مَكَّة، وَرُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: " مَعْنَاهُ قضينا لَك قَضَاء مُبينًا "، وَالْأَظْهَر أَنه فتحهَا بالقهر وَالْغَلَبَة، لِأَن الْقَضَاء (لَا) يتَنَاوَلهُ الْإِطْلَاق، وَإِذا كَانَ المُرَاد فتح مَكَّة فَإِنَّهُ يدل على أَنه فتحهَا عنْوَة، إِذْ كَانَ الصُّلْح لَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الْفَتْح وَإِن كَانَ قد يعبر عَنهُ مُقَيّدا لِأَن من قَالَ فتح (بلد) كَذَا عقل مِنْهُ الْغَلَبَة والقهر دون الصُّلْح. وَيدل عَلَيْهِ فِي نسق التِّلَاوَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وينصرك الله نصرا عَزِيزًا} ، وَفِيه الدّلَالَة على أَن المُرَاد فتح مَكَّة، وَأَنه دَخلهَا عنْوَة. وَيدل عَلَيْهِ / قَوْله تَعَالَى: {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} ، لم يَخْتَلِفُوا أَنه أَرَادَ فتح مَكَّة. وَقَوله: {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة} وَذكره ذَلِك فِي سِيَاق الْقِصَّة يدل على ذَلِك، لِأَن الْمَعْنى سُكُون النَّفس إِلَى الْإِيمَان بالبصائر الَّتِي (بهَا) قَاتلُوا عَن دين الله حَتَّى فتحُوا مَكَّة. وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تهنوا} أَي لَا تضعفوا عَن الْقِتَال، {وَتَدعُوا إِلَى السّلم} أَي الصُّلْح.

(2/777)


(وَهَذَا يدل على أَنه فتحهَا) عنْوَة، لِأَنَّهُ قد نَهَاهُ عَن الصُّلْح فِي هَذِه الْآيَة وَأخْبر الْمُسلمين أَنهم هم الأعلون الغالبون.
وَمَتى دَخلهَا صلحا برضاهم فهم مساوون (لَهُم) ، إِذْ كَانَ حكم مَا يَقع بتراضي الْفَرِيقَيْنِ فهما متساويان فِيهِ لَيْسَ أحدهم بِأولى أَن يكون غَالِبا.
(بَاب إِذا فتح الإِمَام بَلْدَة عنْوَة فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ قسمهَا بَين الْغَانِمين وَإِن شَاءَ أقرّ أَهلهَا عَلَيْهَا وَوضع عَلَيْهِم الْخراج)

الطَّحَاوِيّ: عَن ابْن الْمُبَارك، عَن أبي حنيفَة وسُفْيَان رحمهمَا الله (بذلك) وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رَحِمهم الله تَعَالَى.
أَبُو دَاوُد: عَن مَالك، عَن ابْن شهَاب: " أَن خَيْبَر كَانَ بَعْضهَا عنْوَة وَبَعضهَا صلحا، والكتيبة أَكْثَرهَا عنْوَة وفيهَا صلح. قلت لمَالِك - يَعْنِي ابْن هَب -: مَا الكتيبة قَالَ: أَرض بِخَيْبَر وَهِي أَرْبَعُونَ ألف عذق ".
وَعَن ابْن شهَاب قَالَ: " بَلغنِي أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] افْتتح خَيْبَر عنْوَة بعد الْقِتَال، وَترك من ترك من أَهلهَا على الْجلاء بعد الْقِتَال ".
البُخَارِيّ: عَن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: " لَوْلَا

(2/778)


آخر الْمُسلمين مَا فتحت قَرْيَة إِلَّا قسمتهَا بَين أَهلهَا كَمَا قسمت خَيْبَر ". وَمن طَرِيق أبي دَاوُد: " إِلَّا قسمتهَا كَمَا قسم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خَيْبَر ".
الطَّحَاوِيّ: عَن أبي الزبير، عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: أَفَاء الله على رَسُوله (خَيْبَر) فأقرهم (رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) كَمَا كَانُوا وَجعلهَا بَينه وَبينهمْ، فَبعث عبد الله بن رَوَاحَة فخرصها عَلَيْهِم ".
فَثَبت بِهَذَا أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يكن قسم خَيْبَر بكمالها وَلكنه قسم طَائِفَة مِنْهَا.
وَعنهُ: عَن سهل بن أبي حثْمَة قَالَ: " قسم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خَيْبَر نِصْفَيْنِ، نصفا لنوائبه وَحَاجته، وَنصفا بَين الْمُسلمين، قسمهَا بَينهم على ثَمَانِيَة عشر سَهْما ". وَأخرجه أَبُو دَاوُد. فَبين بِهَذَا الحَدِيث كَيفَ كَانَت قسْمَة النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَالَّذِي كَانَ / أوقفهُ مِنْهَا هُوَ الَّذِي دَفعه إِلَى الْيَهُود على مَا مر فِي حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ. وَهُوَ الَّذِي تولى عمر قسمته فِي خِلَافَته بَين الْمُسلمين لما أجلى الْيَهُود عَن خَيْبَر. و (قد) فعل عمر رَضِي الله عَنهُ مثل ذَلِك فِي أَرض السوَاد تَركهَا للْمُسلمين أَرض خراج ينْتَفع بهَا من يَجِيء بعده مِنْهُم، كَمَا ينْتَفع بهَا من كَانَ فِي عصره.
فَإِن قيل: يجوز أَن يكون عمر رَضِي الله عَنهُ (إِنَّمَا فعل) ذَلِك لِأَن الْمُسلمين جَمِيعًا رَضوا بذلك.
قيل لَهُ: إِنَّمَا نعلم أَن أَرض السوَاد لَو كَانَت كَمَا ذكرْتُمْ، لَكَانَ قد وَجب فِيهَا خمس لله بَين أَهله الَّذين جعلهم مستحقين لَهُ، وَقد علمنَا أَنه لَا يجوز للْإِمَام أَن يَجْعَل

(2/779)


الْخمس وَلَا شَيْئا مِنْهُ لأهل الذِّمَّة. وَقد كَانَ أهل السوَاد الَّذين أقرهم عمر (قد) صَارُوا ذمَّة، وَكَانَ السوَاد بأسره فِي أَيْديهم. فَثَبت بذلك أَن مَا فعله عمر من ذَلِك كَانَ من جِهَة غير الْجِهَة الَّتِي ذكرْتُمْ، وَهُوَ أَنه لم يكن وَجب فِيهَا خمس، وَكَذَلِكَ مَا فعله فِي رقابهم فَمن عَلَيْهِم بِأَن أقرهم فِي أَرضهم وَنفى الرّقّ عَنْهُم، وَأوجب الْخراج عَلَيْهِم فِي رقابهم وأراضيهم (فملكوا بذلك أراضيهم وانتفى الرّقّ عَن رقابهم) .
فَثَبت بذلك أَن للْإِمَام أَن يفعل هَذَا بِمَا افْتتح عنْوَة، فينفي عَن أَهلهَا رق الْمُسلمين، وَعَن أراضيهم ملك الْمُسلمين، وَيُوجب ذَلِك لأَهْلهَا وَيَضَع عَلَيْهِم مَا يجب وَضعه من الْخراج، كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ بِحَضْرَة أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَاحْتج عمر لذَلِك بقول الله عز وَجل " {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} . ثمَّ قَالَ: {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين} فأدخلهم مَعَهم. قَالَ: {وَالَّذين تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم} يُرِيد بذلك الْأَنْصَار فأدخلهم مَعَهم ثمَّ قَالَ: {وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ} فللإمام أَن يفعل ذَلِك ويضعه حَيْثُ وَضعه مِمَّا سمى الله عز وَجل فِي هَذِه الْآيَة.
فَإِن قيل: رُوِيَ عَن قيس بن (أبي) حَازِم قَالَ: " (لما وَفد جرير بن عبد الله وعمار بن يَاسر وأناس من الْمُسلمين (إِلَى عمر، قَالَ عمر لجرير: (يَا جرير) وَالله لَوْلَا أَنِّي قَاسم مسؤول لكنتم على مَا قسمت لكم، وَلَكِنِّي أرى أَن

(2/780)


أرده على الْمُسلمين) ، فَرده فَكَانَ ربع السوَاد لبجيلة، فَأَخذه مِنْهُم وَأَعْطَاهُمْ ثَمَانِينَ دِينَارا ".
قيل لَهُ: (مَا) دلّ هَذَا الحَدِيث على مَا ذكرت / وَلَكِن يجوز أَن يكون عمر (فعل ذَلِك) فِي طَائِفَة من السوَاد فَجَعلهَا لبجيلة، ثمَّ أَخذ ذَلِك مِنْهُم للْمُسلمين وعوضهم مِنْهَا عوضا من مَال الْمُسلمين. فَكَانَت تِلْكَ الطَّائِفَة الَّتِي جرى فِيهَا هَذَا الْفِعْل للْمُسلمين بِمَا عوض عمر أَهلهَا مَا عوضهم مِنْهَا من ذَلِك، وَمَا بَقِي بعد ذَلِك من السوَاد فعلى الحكم الَّذِي قدمنَا. وَلَوْلَا ذَلِك لكَانَتْ أَرض السوَاد أَرض عشر.
فَإِن قيل: رُوِيَ أَيْضا عَن قيس بن (أبي) حَازِم قَالَ: " جَاءَت امْرَأَة من بجيلة إِلَى عمر فَقَالَت: إِن قومِي رَضوا مِنْك من السوَاد بِمَا لم أَرض، وَلست أرْضى حَتَّى تملأ كفي ذَهَبا، وجملي طَعَاما، أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ، فَفعل ذَلِك بهَا عمر ".
قيل لَهُ: هَذَا (أَيْضا) عندنَا - وَالله أعلم - على الْحَرْف الَّذِي كَانَ سلمه عمر لبجيلة فملكوه ثمَّ أَرَادَ انْتِزَاعه مِنْهُم بِطيب أنفسهم، وَلم يخرج تِلْكَ الْمَرْأَة إِلَّا بِمَا طابت بِهِ نَفسهَا فَأَعْطَاهَا عمر مَا طلبت حَتَّى رضيت فَسلمت مَا كَانَ لَهَا من ذَلِك كَمَا سلم سَائِر قَومهَا حُقُوقهم.
فَإِن قيل: قَوْله تَعَالَى: {وأورثكم أَرضهم وديارهم} فِيهِ دلَالَة على أَن الأَرْض المغنومة الَّتِي ظهر عَلَيْهَا الإِمَام لَا يجوز أَن يقر أَهلهَا عَلَيْهَا.
قيل لَهُ: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن ظَاهر قَوْله تَعَالَى: {وأورثكم} (لَا) يخْتَص بِإِيجَاب الْملك بالظهور وَالْغَلَبَة، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} وَلم يرد بذلك الْملك. وَلَو صَحَّ أَن المُرَاد الْملك فَالْمُرَاد بِهِ أَرض

(2/781)


بني قُرَيْظَة، {وأرضا لم تطؤوها} يَقْتَضِي أَرضًا وَاحِدَة لَا جَمِيع الأَرْض. فَإِن كَانَ المُرَاد خَيْبَر فقد ملكهَا الْمُسلمُونَ، وَإِن كَانَ المُرَاد أَرض فَارس (فقد ملك الْمُسلمُونَ أَرض فَارس) وَالروم، (فقد) وجد مُقْتَضى الْآيَة فَلَا دلَالَة فِيهِ على مَا قَالَ.
الطَّحَاوِيّ: عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لما فتح عَمْرو بن الْعَاصِ أَرض مصر جمع من كَانَ مَعَه من أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، واستشارهم فِي قسْمَة أرْضهَا بَين من شَهِدَهَا، كَمَا قسم بَينهم غنائمهم، وكما قسم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خَيْبَر بَين من شَهِدَهَا، أَو يوقفها حَتَّى يُرَاجع فِي ذَلِك أَمِير الْمُؤمنِينَ.
فَقَالَ نفر مِنْهُم فيهم الزبير بن الْعَوام: وَالله مَاذَا إِلَيْك وَلَا إِلَى عمر، إِنَّمَا هِيَ أَرض فتحهَا الله علينا وأوجفنا عَلَيْهَا خَيْلنَا ورجالنا وحوينا مَا / فِيهَا فاقسمها بِأَحَق من قسم أموالها.
وَقَالَ نفر مِنْهُم: لَا تقسمها حَتَّى تراجع أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيهَا. فاتفق رَأْيهمْ على أَن يكتبوا إِلَى عمر فِي ذَلِك ويخبروه فِي كِتَابهمْ إِلَيْهِ بمقالتهم.
فَكتب (إِلَيْهِم) عمر: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أما بعد: فقد وصل إِلَيّ مَا كَانَ من إجماعكم على أَن تغتصبوا عَطاء الْمُسلمين، ومؤن من يغزوا (أهل) الْعَدو من أهل الْكفْر، و (إِنِّي) إِن قسمتهَا بَيْنكُم لم يكن لمن بعدكم من الْمُسلمين مَادَّة (يقوون بهَا) على عَدوكُمْ، وَلَوْلَا مَا أحمل عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله وَأَرْفَع عَن الْمُسلمين من

(2/782)


مؤنهم وَأجْرِي (على) ضعفائهم وَأهل الدِّيوَان مِنْهُم لقسمتها بَيْنكُم، فأوقفوها فَيْئا على من بَقِي من الْمُسلمين حَتَّى تنقرض آخر عِصَابَة تغزو من الْمُسلمين وَالسَّلَام عَلَيْكُم ".
((ذكر مَا فِي الحَدِيث الثَّانِي من الْغَرِيب:)

العذق بِالْفَتْح: النَّخْلَة (بحملها) ، والعذق بِالْكَسْرِ: الكباسة) .
(بَاب لَا بَأْس بِأخذ الثِّيَاب واستعمالها لحَاجَة الْمُسلمين (إِلَى ذَلِك))

فَإِن قيل: رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ عَام خَيْبَر: " من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يَأْخُذ دَابَّة من الْمَغَانِم يركبهَا حَتَّى إِذا أنقصها ردهَا فِي الْمَغَانِم. وَمن كَانَ يَأْمَن بِاللَّه وَالْيَوْم (الآخر) فَلَا يلبس ثوبا من الْمَغَانِم حَتَّى إِذا أخلقه رده فِي الْمَغَانِم ".
قيل لَهُ: قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله: لحَدِيث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وُجُوه وَتَفْسِير لَا يفهمهُ وَلَا يبصره إِلَّا من أَعَانَهُ الله عَلَيْهِ. فَهَذَا عندنَا - وَالله أعلم - على من يفعل ذَلِك وَهُوَ عَنهُ غَنِي، يَتَّقِي بذلك عَن ثَوْبه وَعَن دَابَّته. أَو يَأْخُذ ذَلِك يُرِيد بِهِ الْخِيَانَة. فَأَما رجل مُسلم فِي دَار الْحَرْب لَيْسَ مَعَه دَابَّة، وَلَيْسَ مَعَ الْمُسلمين فضل يحملونه إِلَّا دَوَاب الْغَنِيمَة، وَلَا يَسْتَطِيع أَن يمشي، فَإِن هَذَا لَا يحل للْمُسلمين تَركه، وَلَا بَأْس بِأَن يركب (هَذَا) شاؤوا أَو أَبَوا. وَكَذَلِكَ هَذَا الْحَال فِي الثِّيَاب وَالسِّلَاح وَحَال السِّلَاح أبين وأوضح. أَلا ترى أَن قوما (من الْمُسلمين لَو) تَكَسَّرَتْ سيوفهم أَو ذهبت، وَلَهُم شَيْء

(2/783)


من غَنَائِم الْمُسلمين، أَنه لَا بَأْس أَن يَأْخُذُوا سيوفا من الْغَنِيمَة فيقاتلوا بهَا مَا داموا فِي دَار الْحَرْب. أَرَأَيْت لَو لم يحتاجوا إِلَيْهَا فِي معمعة الْقِتَال، واحتاجوا إِلَيْهَا بعد ذَلِك بيومين أغار عَلَيْهِم الْعَدو أيقيموا هَكَذَا فِي وَجه الْعَدو بِغَيْر سلَاح؟ كَيفَ يصنعون؟ أيستأسرون هَذَا الَّذِي فِيهِ توهين لمكيدة الْمُسلمين؟ وَكَيف يحل هَذَا فِي المعمعة وَيحرم بعد ذَلِك، وَإِذا كَانَ الطَّعَام لَا بَأْس بِأَخْذِهِ وَأكله للْحَاجة إِلَى ذَلِك فَكَذَلِك الثِّيَاب.
(بَاب إِذا استولى الْكفَّار على أَمْوَال الْمُسلمين وأحرزوها بِدَرَاهِم ملكوها)

لقَوْله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ} (فِي هَذِه الْآيَة إِشَارَة إِلَى مَا ذكرنَا، لِأَنَّهُ سماهم فُقَرَاء بعد أَن خَرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ) فَلَو لم يملكوها لكانوا أَبنَاء سَبِيل.
وروى البُخَارِيّ: عَن أُسَامَة بن زيد قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله، أَيْن تنزل غَدا؟ - فِي حجَّته - قَالَ: وَهل ترك لنا عقيل منزلا، ثمَّ (قَالَ) إِنَّا نازلون غَدا بخيف بني كنَانَة المحصب حَيْثُ قاسمت قُرَيْش على الْكفْر ". وَذَلِكَ أَن بني كنَانَة حالفت قُريْشًا على بني هَاشم أَن لَا يبايعوهم وَلَا يؤوهم.

(2/784)


(بَاب لَا يجوز مفاداة أسرى الْمُشْركين)

قَالَ الله تَعَالَى: {اقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الْآيَة ... وَقَوله تَعَالَى: {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يحرمُونَ مَا حرم الله وَرَسُوله وَلَا يدينون دين الْحق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} فتضمنت الْآيَة وجوب الْقِتَال للْكفَّار حَتَّى يسلمُوا أَو يؤدوا الْجِزْيَة {وهم صاغرون} وَالْفِدَاء بِالْمَالِ أَو بِغَيْرِهِ يُنَافِي ذَلِك.
وَقَوله تَعَالَى: {فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء} ، (وَمَا ورد) فِي أسرى بدر كُله مَنْسُوخ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَلم يخْتَلف أهل التَّفْسِير ونقلة الْآثَار أَن سُورَة " بَرَاءَة " بعد سُورَة " مُحَمَّد [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] "، فَوَجَبَ أَن يكون الحكم الْمَذْكُور (فِيهَا) نَاسِخا للْفِدَاء الْمَذْكُور فِي غَيرهَا.

(2/785)


(بَاب إِذا دخل الْوَاحِد أَو الِاثْنَان دَار الْحَرْب (مغيرين) بِغَيْر إِذن الإِمَام فَمَا غنمه فَهُوَ لَهُ وَلَا خمس عَلَيْهِ)

قَالَ الله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء} يَقْتَضِي أَن يكون الغانمون جمَاعَة، لِأَن حُصُول الْغَنِيمَة مِنْهُم شَرط فِي الِاسْتِحْقَاق، وَلَيْسَ ذَلِك بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى: {اقْتُلُوا الْمُشْركين} . و {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه} فِي لُزُوم قتل الْوَاحِد على حياله وَإِن لم يكن مَعَه جمَاعَة إِذا كَانَ مُشْركًا، لِأَن ذَلِك (أَمر بقتل الْجَمَاعَة وَالْأَمر بقتل الْجَمَاعَة لَا يُوجب) اعْتِبَار الْجمع إِذْ لَيْسَ فِيهِ شَرط. وَقَوله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم} فِيهِ معنى الشَّرْط وَهُوَ حُصُول الْغَنِيمَة لَهُم بقتالهم، فَهُوَ كَقَوْل / الْقَائِل: إِن كلمت هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة فَعَبْدي حر. إِن شَرط الْحِنْث كَلَام الْجَمَاعَة، وَلَا يَحْنَث بِكَلَام بَعْضهَا. وَأَيْضًا لما اتّفق الْجَمِيع على أَن الْجَيْش إِذا غنموا لم يشاركهم جَمِيع الْمُسلمين فِي الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس، لأَنهم لم يشْهدُوا الْقِتَال، وَلم يكن مِنْهُم حِيَازَة الْغَنِيمَة وَجب أَن يكون هَذَا المغير وَحده يسْتَحق مَا غنمه. وَأما الْخمس فَإِنَّهُ يسْتَحق من الْغَنِيمَة الَّتِي حصلت بِظهْر الْمُسلمين ونصرتهم، وَهُوَ أَن يكون فيؤه للغانمين، وَمن دخل دَار الْحَرْب وَحده مغيرا فقد برِئ من نصْرَة الإِمَام، لِأَنَّهُ عَاص لَهُ دَاخل بِغَيْر أمره، فَوَجَبَ أَن لَا يسْتَحق مِنْهُ الْخمس.

(2/786)


(بَاب للفارس سَهْمَان وللراجل سهم)

لِأَن ظَاهر قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء} يَقْتَضِي (الْمُسَاوَاة) بَين الْفَارِس والراجل، وَهُوَ خطاب لجَمِيع الْغَانِمين، وَقد شملهم هَذَا الِاسْم كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك} عقل مِنْهَا استحقاقهن الثُّلثَيْنِ على الْمُسَاوَاة. فَلَمَّا اتّفق الْجَمِيع على تَفْضِيل الْفَارِس بِسَهْم فضلناه (وخصصنا بِهِ الظَّاهِر، وَبَقِي حكم) اللَّفْظ فِيمَا عداهُ. وَمَا جَاءَ غير ذَلِك فعلى وَجه التَّنْفِيل.
الدَّارَقُطْنِيّ: عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] جعل للفارس سَهْمَيْنِ وللراجل سَهْما ".
فَإِن قيل: قَالَ أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي: " هَذَا عِنْدِي وهم من أبي بكر ابْن أبي شيبَة، أَو من الرَّمَادِي، لِأَن غَيره روى عَن ابْن نمير خلاف هَذَا عَن الْأَوْزَاعِيّ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يُسهم للخيل، وَكَانَ لَا يُسهم لرجل فَوق فرسين وَإِن كَانَ مَعَه عشرَة أَفْرَاس ".
قيل لَهُ: هَذَا وهم مِمَّن اعتقده وهما، فَإِن كل وَاحِد من هذَيْن الْحَدِيثين مُخْتَلف اللَّفْظ وَالْمعْنَى، وَلَا ريب فِي أَنَّهُمَا حديثان. فرواية أَحدهمَا لَا تمنع من رِوَايَة الآخر.

(2/787)


وروى أَبُو دَاوُد: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قسم خَيْبَر على أهل الْحُدَيْبِيَة على ثَمَانِيَة عشر سَهْما، وَكَانَ الْجَيْش ألفا وَخَمْسمِائة فيهم ثَلَاثمِائَة فَارس ".
فَإِن قيل: قَالَ أَبُو دَاوُد: " حَدِيث أبي مُعَاوِيَة أصح، وَالْعَمَل عَلَيْهِ. يَعْنِي: أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أعْطى الْفرس سَهْمَيْنِ وَأعْطى صَاحبه سَهْما. قَالَ: / وَأرى الْوَهم فِي حَدِيث مجمع أَنه قَالَ: ثَلَاثمِائَة فَارس وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتي فَارس ".
قيل لَهُ: هَذَا لَا يقْدَح فِي الحَدِيث، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من وهمه فِي بعض الحَدِيث وهمه فِي جَمِيعه. وَالله أعلم.
(بَاب يُسهم للبراذين كَمَا يُسهم للخيل)

قَالَ الله تَعَالَى: {فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب} فعقل باسم الْخَيل فِي هَذِه الْآيَة البراذين كَمَا عقلت العراب. فَلَمَّا شملها اسْم الْخَيل وَجب أَن يستويا فِي السهْمَان.
وَيدل عَلَيْهِ أَن رَاكب البرذون يُسمى فَارِسًا كَمَا يُسمى رَاكب الْفرس العراب. وَلما أجْرى على راكبها اسْم الْفَارِس وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " للفارس سَهْمَان " عَم ذَلِك فَارس البرذون كَمَا عَم فَارس العراب. وَأَيْضًا لَا يخْتَلف الْفُقَهَاء فِي أَنه بِمَنْزِلَة الْفرس الْعَرَبِيّ فِي جَوَاز أكله وحظره على اخْتلَافهمْ. دلّ (ذَلِك) على أَنَّهُمَا جنس وَاحِد، وَالْفرق بَينهمَا كالفرق بَين الذّكر وَالْأُنْثَى، والسمين والهزيل.

(2/788)


(بَاب وَإِذا لحقهم مدد قبل إِخْرَاج الْغَنِيمَة إِلَى دَار الْإِسْلَام شاركوهم فِيهَا)

لِأَن الأَصْل عندنَا أَن الْغَنِيمَة إِنَّمَا يثبت الْحق فِيهَا بالإحراز بدار الْإِسْلَام، وَلَا تملك إِلَّا بِالْقِسْمَةِ. وحصولها فِي أَيْديهم فِي دَار الْحَرْب لَا يثبت لَهُم (فِيهَا) حَقًا.
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْموضع الَّذِي حصل فِيهِ الْجَيْش من دَار الْحَرْب لَا يصير مغنوما إِذا لم يفتتحوها، أَلا ترى أَنهم لَو خَرجُوا ثمَّ دخل جَيش آخر ففتحوها لم يصر الْموضع الَّذِي صَار فِيهِ الْأَولونَ ملكا لَهُم، فَكَانَ حكمه حكم غَيره من بقاع أَرض الْحَرْب وَالْمعْنَى فِيهِ أَنهم لم يحرزوه فِي دَار الْإِسْلَام. فَكَذَلِك سَائِر مَا يحصل فِي أَيْديهم قبل خُرُوجهمْ إِلَى دَار الْإِسْلَام لم يثبت لَهُم فِيهِ حق إِلَّا بالحيازة فِي دَارنَا، فَإِذا لحقهم جَيش آخر قبل الْإِحْرَاز فِي دَار الْإِسْلَام (كَانَ حكم مَا أَخَذُوهُ حكم مَا فِي أَيدي أهل الْحَرْب فيشترك الْجَمِيع فِيهِ. وَلَو كَانَ حُصُولهَا فِي أَيْديهم يثبت لَهُم فِيهَا حَقًا قبل إحرازها فِي دَار الْإِسْلَام) (لوَجَبَ أَن يصير الْموضع الَّذِي وَطئه الْجَيْش (من دَار الْحَرْب دَار إِسْلَام) كَمَا لَو افتتحوها. وَفِي اتِّفَاق الْجَمِيع على أَن وَطْء الْجَيْش) لموْضِع فِي دَار الْحَرْب لَا يَجعله دَار إِسْلَام دَلِيل على أَن الْحق / لَا يثبت فِيهِ إِلَّا بالحيازة. وخيبر صَارَت دَار الْإِسْلَام بِظُهُور النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . والمسلمون ظَهَرُوا على نهاوند وَصَارَت دَار إِسْلَام إِذْ لم يبْق للْكفَّار هُنَاكَ فِئَة.

(2/789)


(بَاب إِذا أبق عبد لمُسلم إِلَى دَار الْحَرْب فَأَخَذُوهُ لم يملكوه)

أَبُو دَاوُد: عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ: " أَن غُلَاما لِابْنِ عمر أبق إِلَى الْعَدو فَظهر عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ فَرده رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى ابْن عمر وَلم يقسم ". وَالله أعلم.
(بَاب إِذا أسلم الذِّمِّيّ سَقَطت عَنهُ الْجِزْيَة وَإِن أسلم بعد الْحول)

التِّرْمِذِيّ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا تصلح قبلتان فِي أَرض وَاحِدَة، وَلَيْسَ على الْمُسلم جِزْيَة ". وَإِلَى هَذَا ذهب أَكثر أهل الْعلم. وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن عمر رَضِي الله عَنهُ وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو عبيد.

(2/790)