اللباب في الجمع بين السنة والكتاب

 (كتاب الْأَشْرِبَة الْمُحرمَة)

(بَاب الْخمر الْمُحرمَة فِي كتاب الله تَعَالَى هِيَ عصير الْعِنَب إِذا (نش) وَألقى الزّبد)

الطَّحَاوِيّ: عَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " حرمت الْخمر لعينها وَالسكر من كل شراب ". فَأخْبر ابْن عَبَّاس أَن الْحُرْمَة وَقعت على الْخمر بِعَينهَا، وعَلى السكر من كل شراب.
وروى مُسلم: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] :

(2/755)


" الْخمر من هَاتين الشجرتين: النَّخْلَة والعنبة ". وَفِي رِوَايَة؛ " الكرمة والنخلة ".
وَجه التَّمَسُّك بِهَذَا الحَدِيث: أَن الْخمر اسْم جنس لدُخُول الْألف وَاللَّام عَلَيْهِ، فاستوعب بِهِ جَمِيع مَا يُسمى بِهَذَا الِاسْم. فَلم يبْق من الْأَشْرِبَة شَيْء إِلَّا وَقد استغرقه. ثمَّ اتفقنا على أَن كل مَا يخرج مِنْهُمَا لَيْسَ بِخَمْر، فَعلمنَا أَن المُرَاد بعض الْخَارِج من هَاتين الشجرتين. وَذَلِكَ الْبَعْض غير مَذْكُور فِي الْخَبَر، فاحتجنا إِلَى الِاسْتِدْلَال / على مُرَاده من غَيره فَنَقُول: يحْتَمل أَنه أَرَادَ الْخَارِج (مِنْهُمَا، وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ الْخَارِج) من أَحدهمَا (فعمهما بِالْخِطَابِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} " وَإِنَّمَا يخرج من أَحدهمَا) . وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم} وَالرسل من الْإِنْس لَا من الْجِنّ، وكما قَالَ فِي حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت إِذْ أَخذ على أَصْحَابه فِي الْبيعَة كَمَا أَخذ على النِّسَاء: " لَا تُشْرِكُوا (بِاللَّه) وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا ". ثمَّ قَالَ: " من أصَاب من ذَلِك شَيْئا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ ". وَقد علمنَا أَن من أشرك فَعُوقِبَ بشركه فَلَيْسَ ذَلِك بكفارة لَهُ، فَدلَّ بِمَا ذكرنَا إِنَّمَا أَرَادَ مَا سوى الشّرك، فعلى هَذَا احْتمل أَن يكون الْمَقْصُود من ذَلِك من العنبة لَا من النَّخْلَة. فَإِن كَانَ المُرَاد هُنَا جَمِيعًا فَإِن ظَاهر اللَّفْظ يدل على أَن الْمُسَمّى بِهَذَا الِاسْم هُوَ أول شراب يصنع مِنْهَا من الْأَشْرِبَة. لِأَن " من " (يعتورها) معَان فِي اللُّغَة. مِنْهَا

(2/756)


التَّبْعِيض، وَمِنْهَا ابْتِدَاء الْغَايَة. فَيكون معنى " من " (فِي) هَذَا الْموضع على ابْتِدَاء مَا يخرج مِنْهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يتَنَاوَل الْعصير المشتد، والدبس السَّائِل من النّخل (إِذا اشْتَدَّ) . وَلذَلِك قَالَ أَصْحَابنَا فِيمَن حلف لَا يَأْكُل من هَذِه النَّخْلَة شَيْئا أَنه على رطبها وتمرها ودبسها، لأَنهم حملُوا " من " على مَا ذكرنَا من الِابْتِدَاء. وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد (مَا خمر من نيئهما، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: " الْخمر من هَاتين الشجرتين " أَن يكون أَرَادَ) الْخمر مِنْهُمَا، وَإِن كَانَت مُخْتَلفَة. على أَنَّهَا من الْعِنَب (مَا عَقَلْنَاهُ) خمرًا، و (على أَنَّهَا) من التَّمْر (مَا يسكر) فَيكون خمر الْعِنَب هِيَ: الْعصير إِذا اشْتَدَّ. وخمر التَّمْر: هُوَ الْمِقْدَار من نَبِيذ التَّمْر الَّذِي يسكر. فَلَيْسَ أحد هَذِه الْوُجُوه بِأولى من الآخر.
وَقَول عمر: " إِنَّه (نزل تَحْرِيم) الْخمر وَإِنَّهَا يَوْمئِذٍ من خَمْسَة: التَّمْر، وَالْعِنَب، وَالْعَسَل، وَالْحِنْطَة، وَالشعِير. وَالْخمر مَا خامر الْعقل ". وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن من الْعِنَب خمرًا وأنهاكم عَن كل مُسكر ". يحْتَمل جَمِيع الْمعَانِي الَّتِي يحتملها (الحَدِيث الأول) . غير معنى وَاحِد، وَهُوَ مَا احتمله الحَدِيث الأول مِمَّا حملناه عَلَيْهِ من كَرَاهِيَة نَقِيع التَّمْر وَالزَّبِيب، فَإِنَّهُ لَا يحْتَملهُ. فَإِنَّهُ قرن مَعَ (ذَلِك) خمر الْحِنْطَة وخمر الْعَسَل وخمر الشّعير وَنحن لَا نرى بهَا بَأْسا.
فَإِن قيل: فقد روى / مَالك: عَن أنس رَضِي الله عَنهُ (أَنه) قَالَ: " كنت

(2/757)


أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح، وَأَبا طَلْحَة الْأنْصَارِيّ، وَأبي بن كَعْب شرابًا من فضيخ وتمر، قَالَ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِن الْخمر قد حرمت. قَالَ أَبُو طَلْحَة: يَا أنس قُم إِلَى هَذِه الجرار فاكسرها. قَالَ أنس: فَقُمْت إِلَى مهراس لنا فضربتها بأسفله حَتَّى تَكَسَّرَتْ.
قيل لَهُ: يجوز أَن يكون ذَلِك الشَّرَاب مخمرا من نَقِيع التَّمْر، وَنحن نقُول بحرمته، وَلَا يلْزم مِنْهُ حُرْمَة طبيخه. وَيجوز أَن يكون فعلوا ذَلِك لعلمهم أَنهم إِذا أَكْثرُوا مِنْهُ أسكر، وَلم يأمنوا على أنفسهم الْوُقُوع فِيهِ لقرب عَهدهم بِهِ. فكسروا لذَلِك.
وَأما قَول أنس من طَرِيق آخر: " وَإِنَّهَا لخمرهم يَوْمئِذٍ ". فَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ مَا كُنَّا نخمر.
بدل (على) ذَلِك مَا روى الطَّحَاوِيّ: عَن ابْن أبي ليلى عَن عِيسَى: " أَن أَبَاهُ بَعثه إِلَى أنس فِي حَاجَة فأبصر عِنْده طلاء شَدِيدا ". والطلاء: مَا أسكر كَثِيره. فَلم يكن ذَلِك عِنْده خمرًا وَإِن كَانَ كَثِيره يسكر. فَثَبت بِمَا وَصفنَا أَن الْخمر عِنْد أنس لم يكن من (كل) شراب يسكر، وَلكنهَا من خَاص من الْأَشْرِبَة.
وَالَّذِي يدل على مَا ذكرنَا أَيْضا مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: " حرمت الْخمر يَوْم حرمت وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْء ". وَابْن عمر من أهل اللُّغَة، وَمَعْلُوم أَنه كَانَ بِالْمَدِينَةِ السكر وَسَائِر الأنبذة المتخذة من التَّمْر، لِأَن ذَلِك (كَانَ) أشربتهم فَلَمَّا نفى ابْن عمر اسْم الْخمر عَن سَائِر الْأَشْرِبَة الَّتِي كَانَت بِالْمَدِينَةِ دلّ ذَلِك (على أَن الْخمر

(2/758)


عِنْده) كَانَت من شراب الْعِنَب النيء (إِذا) اشْتَدَّ، وَأَن مَا سواهَا غير مُسَمّى بِهَذَا الِاسْم وَيدل على ذَلِك أَن مستحل الْخمر كَافِر، وَأَن مستحل غَيره من الْأَشْرِبَة لَا تلْحقهُ سمة الْفسق. فَكيف يكون كَافِرًا. فَدلَّ على أَنَّهَا لَيست بِخَمْر فِي الْحَقِيقَة. وَيدل عَلَيْهِ أَن خل هَذِه الْأَشْرِبَة لَا يُسمى خل خمر، وَأَن خل الْخمر هُوَ (الْخلّ) المستحيل من مَاء الْعِنَب (النيء) .
وَإِذا ثَبت بِمَا ذكرنَا انْتِفَاء اسْم الْخمر عَن هَذِه الْأَشْرِبَة، ثَبت أَنه لَيْسَ باسم لَهَا فِي الْحَقِيقَة. وَأَنه إِن ثَبت لَهَا اسْم الْخمر فِي حَال فَهُوَ على جِهَة التَّشْبِيه بهَا عِنْد وجود السكر مِنْهَا، فَلم يجز أَن يَتَنَاوَلهَا اسْم الْخمر، لِأَن أَسمَاء الْمجَاز لَا يجوز دُخُولهَا تَحت إِطْلَاق أَسمَاء الْحَقَائِق. أَلا ترى (أَنه) عَلَيْهِ السَّلَام سمى فرسا لأبي طَلْحَة رَكبه لفزع كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: " وَجَدْنَاهُ بحرا " فَسمى الْفرس بحرا إِذْ كَانَ جوادا وَاسع الخطوة، وَلَا يعقل بِإِطْلَاق اسْم الْبَحْر الْجواد.
وَقَالَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي: وَهُوَ / رجل من أهل اللُّغَة حجَّة فِيمَا قَالَ مِنْهَا:
(دع الْخمر يشْربهَا الغواة فإنني ... رَأَيْت أخاها مغنيا لمكانها)

(فَإِن لَا تكنه أَو يكنها فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غذته أمه بلبانها)

فَجعل غَيرهَا من الْأَشْرِبَة (أَخا لَهَا) .
مُسلم: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ينْبذ لَهُ

(2/759)


أول اللَّيْل، فيشربه إِذا أصبح يَوْمه ذَلِك، وَاللَّيْلَة الَّتِي تَجِيء، والغد، وَاللَّيْلَة الْأُخْرَى، والغد إِلَى الْعَصْر، فَإِن بَقِي شَيْء سقَاهُ الْخَادِم أَو أَمر بِهِ فصب ". وَمعنى هَذَا أَن المَاء بالحجاز فِيهِ (ملوحة) فَكَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (يَأْمُرهُم) أَن يلْقوا فِي المَاء تُمَيْرَات ليحلو المَاء من طعمها.
قَالَ الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله: " فَفِي هَذَا إِبَاحَة الْقَلِيل من الشَّرَاب الشَّديد. فَيحمل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " كل مُسكر حرَام " على الْقدر الَّذِي يسكر ".
يدل على هَذَا مَا روى الطَّحَاوِيّ: عَن عَلْقَمَة قَالَ: " سَأَلت ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ عَن قَول رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي السكر فَقَالَ: الشربة الْأَخِيرَة ".
وروى مُسلم: عَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَمعَاذًا إِلَى الْيمن فَقَالَ: " ادعوا (النَّاس) وبشروا (وَلَا تنفرُوا، ويسروا) وَلَا تُعَسِّرُوا. قَالَ: فَقلت: يَا رَسُول الله أَفْتِنَا فِي شرابين كُنَّا نصنعهما بِالْيمن: البتع: وَهُوَ من الْعَسَل ينتبذ حَتَّى يشْتَد، والمزر: وَهُوَ (من الذّرة وَالشعِير ينتبذ حَتَّى يشْتَد. قَالَ: وَكَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) قد أعطي جَوَامِع الْكَلم (فَقَالَ) : أنهى عَن كل مُسكر أسكر عَن الصَّلَاة ". وَفِي رِوَايَة: " كل مَا أسكر عَن الصَّلَاة فَهُوَ حرَام ". وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين أَن من شرب المزر أَو الْقَمَر أَو (البتع و) سَائِر الأنبذة المتخذة من الْحُبُوب فَسَكِرَ أَنه يجب عَلَيْهِ الْحَد. وَالله سُبْحَانَهُ أعلم.

(2/760)