اللباب في شرح الكتاب

كتاب الطهارة
- قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
(الطهارة لغة) النظافة. وشرعاً: النظافة عن النجاسة: حقيقية كانت وهي الخبث، أو حكمية وهي الحدث. وتنقسم بالإعتبار الثاني إلى الكبرى واسمها الخاص الغسل، والموجب له الحدث الأكبر، وإلى الصغرى واسمها الخاص الوضوء، والموجب له الحدث الأصغر. وبقي نوع آخر - وهو التيمم - فإنه طهارة حكمية يخلفهما معا ويخلف كل منهما منفرداً عن الآخر.
وقدمت العبادات على غيرها اهتماماً بها؛ لأن الجن والإنس لم تخلق إلا لها، وقدمت الصلاة من بينها؛ لأنها عمادها، وقدمت الطهارة عليها لأنها مفتاحها وقدمت طهارة الوضوء لكثرة تكرارها.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين} افتتح رحمه الله تعالى كتابه بآية من القرآن على وجه البرهان استنزالاً لبركته وتيمناً بتلاوته، وإلا فذكر الدليل - خصوصاً على وجه التقديم - ليس من عادته

(1/5)


ففرض الطهارة: غسل الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس، والمرفقان والكعبان يدخلان في الغسل؛ والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية؛ لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ففرض الطهارة غسل الأعضاء الثلاثة) يعني الوجه واليدين والرجلين، وسماها ثلاثة وهي خمسة؛ لأن اليدين والرجلين جعلا في الحكم بمنزلة عضوين كما في الآية، جوهرة (ومسح الرأس) بهذا النص (1) هداية. والفرض لغة: التقدير، وشرعا ما ثبت لزومه بدليل قطعي لا شبهة فيه، كأصل الغسل والمسح في أعضاء الوضوء، وهو الفرض علماً وعملاً، ويسمى الفرض القطعي، ومنه قول المصنف: "فرض الطهارة غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس" وكثيرا ما يطلق الفرض على ما يفوت الجواز بفوته كغسل ومسح مقدار معين فيها، وهو الفرض عملاً لا علماً ويسمى الفرض الإجتهادي، ومنه قوله: "والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية" وحد الوجه: من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن طولاً وما بين شحمتي الأذنين عرضاً (والمرفقان) تثنية مرفق - بكسر الميم وفتح الفاء، وعكسه - موصل الذراع في العضد (والكعبان) تثنية كعب، والمريد به هنا هو العظم الناتئ المتصل بعظم الساق، وهو الصحيح، هداية (يدخلان في الغسل) على سبيل الفرضية. والغسل: إسالة الماء: وحد الإسالة في الغسل: أن يتقاطر الماء ولو قطرة عندهما، وعند أبي يوسف يجزئ إذا سال على العضو وإن لم يقطر، فتح، وفي الفيض: أقله قطرتان في الأصح. اهـ، وفي دخول المرفقين والكعبين خلاف زفر. والبحث في ذلك وفي القراءتين في "أرجلكم" قال في البحر: لا طائل تحته بعد انعقاد الإجماع على ذلك (والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية) أي مقدم الرأس (وهو الربع) وذلك (لما روى المغيرة ابن شعبة) رضي الله تعالى عنه: (أن النبي
_________
(1) النص وهو الآية الكريمة وهي تفيد افتراض الغسل والمسح لهذه الأعضاء وإن كان تحديد المسح في الرأس يبينه حديث المغيرة الآتي على ما سيذكر المصنف والشارح

(1/6)


صلى الله عليه وسلم "أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه (1) ".
وسنن الطهارة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صلى الله عليه وسلم أتى سباطة) بالضم: أي كناسة (قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه) والكتاب مجمل في حق المقدار، فالتحقق بيانا به؛ وفي بعض الروايات: قدره أصحابنا بثلاث أصابع من أصابع اليد؛ لأنها أكثر ما هو الأصل في آلة المسح هداية. قال في الفتح: وأما رواية جواز قدر الثلاثة الأصابع - وإن صححها بعض المشايخ، نظراً إلى أن الواجب إلصاق اليد، والأصابع أصلها؛ ولذا يلزم بقطعها دية كل اليد، والثلاث أكثرها وللأكثر حكم الكل، وهو المذكور في الأصل - فيحمل على أنه قول محمد؛ لما ذكر الكرخي والطحاوي عن أصحابنا أنه مقدار الناصية، ورواه الحسن عن أبي حنيفة ويفيد أنها غير المنصور رواية قول المنصف - يعني صاحب الهداية - "وفي بعض الروايات"
(وسنن الطهارة) السنن. جمع سنة، وهي لغة: الطريقة مرضية كانت أو غير مرضية (2) وفي الشريعة: ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع الترك أحياناً.
_________
(1) قال الكمال في الفتح؛ إن هذا الحديث مجموع من حديثين رواهما المغيرة، أحدهما ما رواه مسلم عنه أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بناصيته وعلى الخفين. والآخر رواه ابن ماجة عنه أنه صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً. والقدوري ليس مخطئاً، لأن كلا من الحديثين من رواية المغيرة. ولقائل أن يقول ولم لا يجوز أن تكون كل منهما واقعة غير الأخرى، وإن كان الاستدل صحيحاً وكان يمكن الإقتصار فيه على رواية مسلم فتأمل.
(2) الدليل على أن لفظ السنة يطلق في اللغة العربية على الطريقة مطلقا سواء أكانت مرضية أم لم تكن - هو قوله صلوات الله وسلامه عليه. "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"

(1/7)


غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء إذا استيقظ المتوضئ من نومه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فتح واللام في "الطهارة" للعهد. أي الطهارة المذكورة، وتعقيبه الفرض بالسنن يفيد أنه لا واجب للوضوء، وإلا لقدمه (1) (غسل اليدين) إلى الرسغين؛ لوقوع الكفاية به في التنظيف، وقوله (قبل إدخالهما الإناء) قيد اتفاقي، وإلا فيسن غسلهما وإن لم يحتج إلى إدخالهما الإناء، وكذا قوله (إذا استيقظ المتوضئ من نومه) على ما هو المختار من عدم اختصاص سنية البداءة بالمستيقظ (2) ، قال العلامة قاسم في تصحيحه: الأصح أنه سنة مطلقاً نص عليه في شرح الهداية، وفي الجوهرة هذا شرط وقع اتفاقاً؛ لأنه إذا لم يكن استيقظ وأراد الوضوء السنة غسل اليدين، وقال نجم الأئمة في الشرح؛ قال في المحيط والتحفة: وجميع الأئمة البخاريين أنه سنة على الإطلاق. اهـ. وفي الفتح: وهو الأولى؛ لأن من حكى وضوءه صلى الله عليه وسلم قدمه؛ وإنما يحكي ما كان دأبه وعادته، لا خصوص وضوئه الذي هو على نوم، بل الظاهر أن إطلاعهم على وضوئه عن غير النوم، نعم مع الاستيقاظ
_________
(1) يريد أن يقول: إن مرتبة الفرض أولى المراتب وإن مرتبة الواجب تأتي بعقيب مرتبة الفرض، وإن نظام التأليف يقتضي أن يبدأ المؤلف بأولى المراتب، ثم بما يليها، وهكذا وقد بدأ المؤلف فعلاً بالفروض، ثم انتقل إلى بيان السنن، فعلمنا من هذا الصنيع أنه ليس للوضوء واجبات، إذ لو كان له واجبات للزم أن يذكرها عقيب الفروض حتى يتم النظام.
(2) اعلم أنه قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده) وظاهر هذا الحديث أن غسل اليدين إنما يكون سنة في حق من تيقظ من النوم، فأما من يكون يقظان قبل إرادة الوضوء وقد تأكد من نظافة يديه فلا يسن له ذلك، وكذلك ظاهر الحديث أنه إنما يسن غسل اليدين لمن يكون ماء وضوئه في إناء فهو يريد أن يغترف منه، فأما من لا يكون ماؤه في إناء كمن يتوضأ من صنبور فلا يسن له ذلك. وقد بين المؤلف رحمه الله أن غسل اليدين سنة على كل حال: أي سواء أكان من يريد الوضوء قد استيقظ من منامه أم لم يكن، وسواء أكان يتوضأ من إناء أم لم يكن، وقد اعتذر عن قيد الاستيقاظ وقيد إدخال اليد في الإناء الواردين في الحديث بأنهما اتفاقيان لا يقصد بهما الإحتراز

(1/8)


وتسمية الله تعالى في ابتداء الوضوء والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، ومسح الأذنين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتوهم النجاسة السنة آكدة. اهـ (وتسمية الله تعالى في بتداء الوضوء) ولفظها المنقول عن السلف - وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم - (بسم الله العظيم، والحمد لله على دين الإسلام) وقيل: الأفضل {بسم الله الرحمن الرحيم} بعد التعوذ، وفي المجتبى يجمع بينهما، وفي المحيط: لو قال: (لا إله إلا الله) أو (الحمد لله) أو (أشهد أن لا إله إلا الله) يصير مقيماً للسنة، وهو بناء على أن لفظ (يسمى) أعم مما ذكرناه، فتح. وفي التصحيح: قال: في الهداية (الأصح أنها مستحبة) ويسمى قبل الاستنجاء وبعده، هو الصحيح. وقال الزاهدي: والأكثر على أن التسمية وغسل اليدين سنتان قبله وبعده. اهـ (والسواك) أي: الاستياك عند المضمضة، وقيل: قبلها، وهو للوضوء عندنا إلا إذا نسيه فيندب للصلاة، وفي التصحيح: قال في الهداية والمشكلات: والأصح أنه مستحب اهـ (والمضمضة) بمياه ثلاثاً (والاستنشاق) كذلك، فلو تمضمض ثلاثاً من غرفة واحدة لم يصر آتياً بالسنة. وقال: الصيرفي يكون آتياً بالسنة، قال: واختلفوا في الاستنشاق ثلاثاً من غرفة واحدة؛ قيل: لا يصير آتياً بالسنة، بخلاف المضمضة؛ لأن في الاستنشاق يعود بعض الماء المستعمل إلى الكف، وفي المضمضة لا يعود؛ لأنه يقدر على إمساكه، كذا في الجوهرة (ومسح الأذنين) وهو سنة بماء الرأس عندنا هداية: أي لا بماء جديد، عناية. ومثله في جميع شروح الهداية والحلية والتتارخانية وشرح المجمع وشرح الدرر للشيخ إسماعيل، ويؤيده تقييد سائر المتون بقولهم "بماء الرأس" قال في الفتح: وأن ما روي أنه صلى الله عليه وسلم "أخذ لأذنيه ماء جديداً" فيجب حمله على أنه لفناء البلة قبل الاستيعاب، توفيقا بينه وبين ما ذكرنا، وإذا انعدمت البلة لم يكن بد من الأخذ، كما لو انعدمت في بعض عضو واحد. اهـ. وإذا علمت ذلك ظهر لك أن ما مشى عليه العلائي في الدر والشرنبلالي وصاحب النهر والبحر تبعاً للخلاصة ومنلا مسكين - من أنه لو أخذ للأذنين ماء جديداً فهو حسن - مخالف للرواية المشهورة التي مشى

(1/9)


وتخليل اللحية والأصابع، وتكرار الغسل إلى الثلاث. ويستحب للمتوضئ أن ينوي الطهارة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليها أصحاب المتون والشروح الموضوعة لنقل المذهب، وتمام ذلك في حاشية شيخنا رد المحتار رحمه الله تعالى. (وتخليل اللحية) وقيل: هو سنة عند أبي يوسف جائز عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن السنة إكمال الفرض في محله. والداخل ليس بمحل له، هداية. وفي التصحيح: وتخليل اللحية وهو قول أبي يوسف ورجحه في المبسوط (والأصابع) لأنه إكمال الفرض في محله، وهذا إذا كان الماء واصلاً إلى خلالها بدون التخليل، وإلا فهو فرض (وتكرار الغسل) المستوعب في الأعضاء المغسولة (إلى الثلاث) مرات (1) ؛ ولو زاد لطمأنينة القلب لا بأس به، قيدت بالمستوعب لأنه لو لم يستوعب في كل مرة لا يكون آتياً بسنة التثليث، وقيدت الأعضاء المغسولة لأن الممسوحة يكره تكرار مسحها.
(ويستحب للمتوضئ) المستحب لغة: هو الشيء المحبوب، وعرفاً قيل: هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة وتركه أخرى، والمندوب: ما فعله مرة أو مرتين، وقيل: هما سواء، وعليه الأصوليون، قال في التحرير: وما لم يواظب عليه مندوب ومستحب، وإن لم يفعله بعدما رغب فيه اهـ. (أن ينوي الطهارة) في ابتدائها
_________
(1) أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة) وأخرج البخاري أيضاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين) وتضافرت الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم (توضأ ثلاثاً ثلاثاً) ومعنى هذا أنه صلوات الله عليه وسلامه توضأ في بعض الأحايين مرة مرة، يعني يغسل وجهه ويستوعبه مرة واحدة، ويغسل يديه ويستوعبهما مرة واحدة، وهكذا. وأنه توضأ في بعض الأحايين مرتين مرتين. يعني يغسل وجهه مرتين يستوعب غسله في كل مرة منهما، وهكذا، وأنه توضأ في أغلب الأحيان ثلاثاً ثلاثاً، على معنى أنه غسل وجهه ثلاث مرات يستوعب غسله في كل مرة منها وهكذا، وقوله ولو زاد لطمأنينة القلب لا بأس به محل نظر لأن الإتباع هو المطلوب

(1/10)


ويستوعب رأسه بالمسح، ويرتب الوضوء، فيبدأ بما بدأ الله تعالى بذكره وبالميامن.
[نواقض الوضوء]
- والمعاني الناقضة للوضوء: كل ما خرج من السبيلين، والدم والقيح والصديد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ويستوعب رأسه بالمسح) بمرة واحدة (ويرتب الوضوء فيبدأ بما بدأ الله تعالى به) ويختم بما ختم به، قال في التصحيح: قال نجم الأئمة في شرحه: وقد عد الثلاثة في المحيط والتحفة من جملة للسنن، وهو الأصح، وقال في الفتح: لا سند للقدوري في الرواية ولا في الدراية ولا في جعل النية والاستيعاب والترتيب مستحباً غير سنة، أما الدراية فنصوص المشايخ متضافرة على السنة، ولذا خالفه المصنف في الثلاثة وحكم بسنتيها بقوله "فالنية في الوضوء سنة" ونحوه في الأخيرين، وأما الدراية فسنذكره إن شاء الله تعالى، وقيل: أراد يستحب فعل هذه السنة للخروج من الخلاف؛ فإن الخروج عنه مستحب اهـ. وتمامه فيه (و) البداءة (بالميامن) فضيلة. هداية وجوهرة، أي مستحب.
(والمعاني) جمع معنى، وهو الصورة الذهنية من حيث إنه وضع بإزائها اللفظ، فإن الصورة الحاصلة في العقل من حيث إنها تقصد باللفظ تسمى معنى كذا في تعريفات السيد (الناقضة للوضوء) أي المخرجة له عن إفادة المقصود به، لأن النقض في الأجسام إبطال تركيبها، وفي المعاني إخراجها عن إفادة ما هو المقصود بها (كل ما) أي: شيء (خرج من السبيلين) أي: مسلكي البول والغائط، أعم من أن يكون معتاداً أولاً، نجساً أولاً، إلا ريح القبل، لأنه اختلاج لا ريح، والمراد بالخروج من السبيلين مجرد الظهور، لأن ذلك الموضع ليس بموضع النجاسة، فيستدل بالظهور على الإنتقال، بخلاف الخروج في غيرهما فإنه مقيد بالسيلان، كما صرح به بقوله (والدم والقيح) وهو: دم نضج حتى ابيض وخثر (والصديد)

(1/11)


إذا خرج من البدن فتجاوز إلى موضع يلحقه حكم التطهير (1) ، والقيئ إذا كان ملء الفم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو: قيح ازداد نضجا حتى رق (إذا خرج من البدن فتجاوز) عن موضعه (إلى موضع يلحقه حكم التطهير) ، لأنه بزوال القشرة تظهر النجاسة في محلها، فتكون بادية لا خارجة، ثم المعتبر هو قوة السيلان، وهو: أن يكون الخارج بحيث يتحقق فيه قوة أن يسيل بنفسه عن المخرج إن لم يمنع منه مانع، سواء وجد السيلان بالفعل أو لم يوجد، كما إذا مسحه بخرقة كما خرج، ثم وثم. قيد بالدم والقيح احتزازاً من سقوط لحم من غير سيلان دم كالعرق المديني فإنه لا ينقض وأما الذي يسيل منه، إن كان ماء صافياً لا ينقض. قال في الينابيع: الماء الصافي إذا خرج من النفطة لا ينقض. وإن أدخل أصبعه في أنفه فدميت أصبعه: إن نزل الدم من قصبة الأنف نقض، وإلا لم ينقض. ولو عض شيئاً فوجد فيه أثر الدم - أو استاك فوجد في السواك أثر الدم لا ينقض مالم يتحقق السيلان. ولو تخلل بعود فخرج الدم على العود لا ينقض. إلا أن يسيل بعد ذلك بحيث يغلب على الريق اهـ. جوهرة (والقيئ) سواء كان طعاماً أو ماءً أو علفاً أو مرة بخلاف البلغم فإنه لا ينقض، خلافاً لأبي يوسف في الصاعد من الجوف، وأما النازل من الرأس فغير ناقض اتفاقا (إذا كان ملئ الفم) قال في التصحيح: قال في الينابيع: وتكلموا في تقدير ملء الفم، والصحيح إذا كان لا يقدر على إمساكه. قال الزاهدي:
_________
(1) يستدل الأحناف لمذهبهم في نقض الوضوء بالدم السائل ونحوه بحديث الوضوء من كل دم سائل.
قال في الفتح رواه الدارقطني من طريق ضعيف، ورواه ابن عدي في الكامل عن آخر وقال لا نعرفه إلا من حديث أحمد بن قروخ، وهو ممن لا يحتج به ولكنه أيده بأشياء، منها حديث السيدة فاطمة فراجعه واحتجوا للقيء والرعاف بحديث من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليبين على صلاته ما لم يتكلم. وذكر طرفه صاحب الفتح بما تعيد صحة الاستدلال به، والله أعلم

(1/12)


والنوم مضطجعاً أو متكأً أو مستنداً إلى شيءٍ لو أزيل عنه لسقط، والغلبة على العقل بالإغماء، والجنون، والقهقهة في كل صلاة ذات ركوع وسجود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والأصح ما لا يمكنه الإمساك إلا بكلمة اهـ. ولو قاء متفرقاً بحيث لو جمع يملأ الفم فعند أبي يوسف يعتبر اتحاد المجلس، وعند محمد اتحاد السبب: أي الغثيان، وهو الأصح، لأن الأحكام تضاف إلى أسبابها كما بسطه في الكافي.
ولما ذكر الناقض الحقيقي عقبه بالناقض الحكمي فقال: (والنوم) سواء كان النائم (مضطجعاً) وهو: وضع الجنب على الأرض (أو متكأً) وهو: الإعتماد على أحد وركيه (أو مستنداً إلى شيء) أي: معتمداً عليه لكنه بحيث (لو أزيل) ذلك الشيء المستند إليه (لسقط) النائم، لأن الاسترخاء يبلغ نهايته بهذا النوع من الاستناد، غير أن السند يمنع من السقوط، بخلاف النوم حالة القيام والقعود والركوع والسجود في الصلاة وغيرها وهو الصحيح، لأن بعض الاستمساك باق، إذ لو زال لسقط فلم يتم الاسترخاء، هداية. وفي الفتح: وتمكن المقعدة مع غاية الاسترخاء لا يمنع الخروج؛ إذ قد يكون الدافع قوياً خصوصاً في زمننا لكثرة الأكل فلا يمنعه إلا مسكة اليقظة اهـ. (والغلبة على العقل بالإغماء) وهو: آفة تعتري العقل وتغلبه (والجنون) وهو: آفة تعتري العقل وتسلبه، وهو مرفوع بالعطف على الغلبة، ولا يجوز خفضه بالعطف على الإغماء لأنه عكسه (والقهقهة) وهي: شدة الضحك بحيث يكون مسموعاً له ولجاره، سواء بدت أسنانه أو لا، إذا كانت من بالغ يقظان (في كل صلاة) فريضة أو نافلة، لكن (ذات ركوع وسجود (1)) بخلاف صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، فإنه لا ينتقض وضوءه، وتبطل صلاته وسجدته، وكذا الصبي والنائم.
_________
(1) الدليل على انتقاض الوضوء بالقهقهة في الصلاة ما رواه أبو معبد الخزاعي قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة إذ أقبل أعمى يريد الصلاة فوقع في زبية، فاستضحك القوم، فقهقوا، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال: (من كان منكم قهقه فليعد الوضوء والصلاة) ولما كان القياس يقتضي ألا تنتقض الطهارة بالقهقهة، وكان هذا الحديث يترك القياس بمثله اقتصرنا على ما ورد الحديث فيه، وهو القهقة في صلاة ذات ركوع وسجود، لأن كل شيء ورد على خلاف ما يقتضيه القياس يقتصر به على ما ورد فيه ولا يتجاوزه

(1/13)


وفرض الغسل:
المضمضة، والاستنشاق، وغسل سائر البدن.
وسنة الغسل: أن يبدأ المغتسل فيغسل يديه وفرجه، ويزيل النجاسة إن كانت على بدنه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وفرض الغسل) أراد بالفرض ما يعم العملى. والغسل - بالضم - تمام غسل الجلد كله، والمصدر الغسل - بالفتح - كما في التهذيب. وقال في السراج يقال: غسل الجمعة، وغسل الجنابة، بضم الغين، وغسل الميت، وغسل الثوب، بفتحها، ومنابطه أنك إذا أضفت إلى المغسول فتحت، وإلى غيره ضممت اهـ (المضمضة؛ والاستنشاق، وغسل سائر البدن) أي: باقية، مما يمكن غسله من غير حرج كأذن وسرة وشارب وحاجب وداخل لحية وشعر رأس وخارج فرج، لا ما فيه حرج كداخل عين وثقب انضم وكذا داخل قلفة، بل يندب على الأصح، قاله الكمال.
(وسنة الغسل: أن يبتدئ المغتسل) أي: مريد الإغتسال (فيغسل) أولاً (يديه) إلى الرسغين، كما تقدم في الوضوء (وفرجه) وإن لم يكن به خبث (ويزيل نجاسة) وفي بعض النسخ (النجاسة) بالتعريف، والأولى أولى (إن كانت على بدنه) لئلا تشيع (ثم يتوضأ وضوءه) أي: أي كوضوئه (للصلاة) فيمسح رأسه

(1/14)


إلا رجليه، ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثا، ثم يتنحى عن ذلك المكان فيغسل رجليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأذنيه ورقبته (إلا رجليه) فلا يغسلهما، بل يؤخر غسلهما إلى تمام الغسل، وهذا إذا كان في مستنقع الماء أما إذا كان على لوح أو قبقاب أو حجر فلا يؤخر غسلهما، جوهرة، وفي التصحيح: الأصح أنه إذا لم يكن في مستنقع الماء يقدم غسل رجليه (1) اهـ
(ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثا) مستوعبا في كل مرة، بادئا بعد الرأس بشقه الأيمن ثم الأيسر وقيل: يختم بالرأس. وفي المجتبى والدرر: وهو الصحيح، لكن نقل في البحر أن الأول هو الأصح وظاهر الرواية والأحاديث، قال: وبه يضعف تصحيح الدرر (ثم يتنحى عن ذلك المكان (2)) إذا كان في مستنقع الماء (فيغسل رجليه) من أثر الماء المستعمل وإلا فلا يسن إعادة غسلهما.
_________
(1) اعلم أنه لا خلاف بين علماء الشريعة في أنه يجوز للمغتسل أن يغسل رجليه في الوضوء الذي يندب تقديمه على الغسل، سواء أكان واقفا في مستنقع ماء أم لم يكن، ومستنقع الماء هو المكان الذي يجتمع فيه ماء الغسل. وإنما الخلاف بينهم في الأولى له، فذهب جماعة إلى أن الأولى أن يقدم غسل رجليه مع الوضوء مطلقاً، وبه أخذ الشافعي، وهو ظاهر إطلاق الكنز والدر وغيرهما، وهو أيضاً ظاهر حديث رواه البخاري في صفة غسله صلى الله عليه وسلم وفيه (فتوضأ وضوءه للصلاة) ومنهم من ذهب إلى أن الأولى أن يؤخر غسلهما مطلقاً، ومنهم من فصل كالمصنف فقال: إن كان المغتسل واقفاً في مكان يجتمع فيه الماء كالطشت يؤخر غسل رجليه وإلا قدمه، وجزم بهذا صاحبو الهداية والمبسوط والكافئ، أو هذا هو الأوفق؛ لأن فيه جمعاً بين الأدلة المختلفة الظاهر.
(2) يتنحى عن المكان: أي يبتعد عنه

(1/15)


وليس على المرأة أن تنقض ضفائرها في الغسل إذا بلغ الماء أصول الشعر.
والمعاني الموجبة للغسل: إنزال المني على وجه الدفق والشهوة، من الرجل والمرأة، والتقاء الختانين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وليس) يلازم (على المرأة أن تنقض) أي: أي تحل ضفر (ضفائرها في الغسل) حيث كانت مضفورة، وإن لم يبلغ الماء داخل الضفائر، قال في الينابيع: وهو الأصح ومثله في البدائع، وفي الهداية: وليس عليها بل ذوائبها، وهو الصحيح، وفي الجامع الحسامي: وهو المختار، وهذا (إذا بلغ الماء أصول الشعر) أي منابته، قيد بالمرأة لأن الرجل يلزمه نقض ضفائره، وإن وصل الماء إلى أصول الشعر. وبالضفائر لأن المنقوض يلزم غسل كله، وبما إذا بلغ الماء أصول الشعر لأنه إذا لم يبلغ يجب النقض.
(والمعاني الموجبة الغسل إنزال) أي: أي انفصال (المني) وهو ماء أبيض خاثر ينكسر منه الذكر عند خروجه تشبه رائحته رائحة الطلع رطبا ورائحة البيض يابسا (على وجه الدفق) أي: أي الدفع (والشهوة) أي: اللذة عند انفصاله عن مقره، وإن لم يخرج من الفرج كذلك، وشرطه أبو يوسف، فلو احتلم وانفصل منه بشهوة فلما قارب الظهور شد على ذكره حتى انكسرت شهوته ثم تركه فسال بغير شهوة: وجب الغسل عندهما، خلافاً له، وكذا إذا اغتسل المجامع قبل أن يبول أو ينام ثم خرج باقي منيه بعد الغسل وجب عليه إعادة الغسل عندهما، خلافاً له، وإن خرج بعد البول أو النوم لا يعيد إجماعاً (من الرجل والمرأة) حالة النوم واليقظة (والتقاء الختانين (1)) تثنية ختان، وهو موضع القطع من
_________
(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة وجب الغسل، رواه بن أبي شيبة بهذا اللفظ، ولا فصل فيه بين أن ينزل وألا ينزل، فكان دليلاً على وجوب الغسل بالتقائهما مطلقاً

(1/16)


من غير إنزال، والحيض والنفاس.
وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الغسل للجمعة والعيدين والإحرام.
وليس في المذى والودي غسل، وفيهما الوضوء.
والطهارة من الأحداث:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذكر والفرج: أي محاذاتهما بغيبوبة الحشفة، قال في الجوهرة: ولو قال: "بغيبوبة الحشفة في قبل أو دبر" كما قال في الكنز؛ لكان أحسن وأعم، لأن الإيلاج في الدبر يوجب الغسل، وليس ختانان يلتقيان، ولو كان مقطوع الحشفة يجب الغسل بإيلاج مقدارها من الذكر اهـ. ولو (من غير إنزال) لأنه: سبب للإنزال وهو متغيب عن البصر فقد يحفى عليه لقلته فبقام مقامه لكمال السببية (والحيض، والنفاس) أي: الخروج منهما، فما داما باقيين لا يصح الغسل.
(وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الغسل للجمعة والعيدين، والإحرام) بحج أو عمرة، وكذا يوم عرفة للوقوف. قال في الهداية: وقيل هذه الأربعة مستحبة وقال: ثم هذا الغسل للصلاة عند أبي يوسف، وهو الصحيح؛ لزيادة فضيلتها على الوقت واختصاص الطهارة بها، وفيه خلاف الحسن اهـ.
(وليس في المذي) وهو: ماء أبيض رقيق يخرج عند الملاعبة، وفيه ثلاث لغات: الأولى سكون الذال، والثانية كسرها مع التثقيل، والثالثة الكسر مع التخفيف، ويعرب في الثالثة إعراب المنقوص. مصباح (والودي) وهو: ماء أصفر غليظ يخرج عقيب البول وقد يسبقه، يخفف ويثقل. مصباح (غسل و) لكن (فيهما الوضوء) كالبول.
(والطهارة من الأحداث) أل فيه للعهد؛ أي الأحداث التي سبق ذكرها من الأصغر والأكبر وكذا الأنجاس بالأولى، فقيد الأحداث اتفاقي، وليس للتخصيص،

(1/17)


جائزةٌ بماء السماء والأودية والعيون والآبار وماء البحار.
ولا تجوز بما اعتصر من الشجر والثمر، ولا بماءٍ غلب عليه غيره وأخرجه عن طبع الماء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا أنه لما ذكر الطهارتين احتاج إلى بيان الآلة التي يحصلان بها (جائزة بماء السماء) من مطر وثلج وبرد مذابين (والأودية) جميع واد، وهو: كل منفرج بين جبال أو آكام يجتمع فيه السيل (والعيون) جمع عين، وهو لفظ مشترك بين حاسة البصر والينبوع وغيرهما، والمراد هنا الينبوع الجاري على وجه الأرض (والآبار) جمع بئر، وهو: الينبوع تحت الأرض (والبحار) جمع بحر، قال الصحاح: البحر خلاف البر، سمي بحراً لعمقه واتساعه، والجمع أبحر وبحار وبحور، وكل نهر عظيم بحر. اهـ. ولعل المصنف جمعه ليشمل ذلك، ولكن إذا أطلق البحر يراد به البحر الملح.
(ولا تجوز) أي لا تصح الطهارة (بما اعتصر) بقصر "ما" على أنها موصولة، قال الأكمل: هذا المسموع (من الشجر والثمر) وفي تعبيره بالاعتصار إيماء بمفهومه إلى الجواز بالخارج من غير عصر كالمتقاطر من شجر العنب، وعليه جرى في الهداية، قال: لأنه خرج بغير علاج، ذكره في جوامع أبي يوسف. وفي الكتاب إشارة إليه حيث شرط الاعتصار اهـ. وأراد بالكتاب هذا المختصر، لكن صرح في المحيط بعدمه، وبه جزم قاضيخان: وصوبه في الكافي بعد ذكر الأول بقليل،
وقال الحلبي: إنه الأوجه وفي الشرنبلالية عن البرهان: وهو الأظهر. واعتمده القهستاني (ولا بماء) بالمد (غلب عليه غيره) من الجامدات الطاهرة (فأخرجه) ذلك المخالط (عن طبع الماء) وهو الرقة والسيلان، أو أحدث له اسماً على حدة، وإنما قيدت المخالط بالجامد؛ لأن المخالط إذا كان مائعا فالعبرة في الغلبة: إن كان موافقاً في أوصافه الثلاثة كالماء المستعمل فبالأجزاء، وإن كان مخالفاً فيها كالخل فبظهور أكثرها، أو في بعضها فبظهور وصف، كاللبن يخالف في اللون والطعم، فإن ظهر أو أحدهما منع، وإلا لا. وزدت "أو أحدث له اسماً على حدة"

(1/18)


كالأشربة والخل وماء الورد وماء الباقلا والمرق وماء الزردج.
وتجوز الطهارة بماء خالطه شيءٌ طاهرٌ فغير أحد أوصافه كماء المد والماء الذي يختلط به الأشنان والصابون والزعفران.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لإخراج نبيذ التمر ونحوه فإنه لا تجوز الطهارة به ولو كان رقيقا مع أن المخالط جامد، فاحرص على هذا الضابط فإنه يجمع ما تفرق من فروعهم. وقد مثل المصنف للأصلين اللذين ذكرهما على الترتيب فقال: (كالأشربة) : أي المتخذة من الأشجار والثمار كشراب الريباس والرمان، وهو مثال لما اعتصر، وقوله (والخل) صالح للأصلين؛ لأنه إن كان خالصاً فهو مما اعتصر من الثمر، وإن كان مخلوطاً فهو مما غلب عليه غيره بحدوث اسم له على حدة (وماء الباقلاء) تشدد فتقصر وتخفف فتمد، وهي الفول: أي إذا طبخت بالماء حتى صار بحيث برد وثخن (والمرق) لحدوث اسم له على حدة (وماء الزردج) - بزاي معجمة وراء ودال مهملتين وجيم - وهو ما يخرج من العصفر المنقوع فيطرح ولا يصبغ به. مغرب. قال في التصحيح: والصحيح أنه بمنزلة ماء الزعفران، نص. عليه في الهداية، وهو اختيار الناطفي والسرخسي اهـ.
(وتجوز الطهارة بماء خالطه شيء) جامد (طاهر فغير أحد أوصافه) الثلاثة ولم يخرجه عن طبع الماء، قال في الدراية: في قوله "فغير أحد أوصافه" إشارة إلى أنه إذا غير اثنين أو ثلاثة لا يجوز التوضؤ، وإن كان المغير طاهراً، لكن صحت الرواية بخلافه، كذا عن الكردي اهـ. وفي الجوهرة: فإن غير وصفين فعلى إشارة الشيخ لا يجوز الوضوء، لكن الصحيح أنه يجوز، كذا في المستصفى، وذلك (كماء المد) : أي السيل، فإنه يختلط بالتراب، والأوراق والأشجار، فما دامت رقة الماء غالبة تجوز به الطهارة وإن تغيرت أوصافه كلها، وإن صار الطين غالباً لا تجوز (والماء الذي يختلط به الأشنان والصابون والزعفران) ما دام باقياً على رقته وسيلانه؛ لأن اسم الماء باق فيه، واختلاط هذه الأشياء لا يمكن الاحتراز

(1/19)


وكل ماءٍ وقعت فيه نجاسةٌ لم يجز الوضوء به، قليلاً كان أو كثيراً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بحفظ الماء من النجاسة؛ فقال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة (1) ". وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا استيقظ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنه، فلو خرج عن طبعه أو حدث له اسم على حدة - كأن صار ماء الصابون أو الأشنان ثخيناً أو صار ماء الزعفران صبغاً - لا تجوز به الطهارة.
(وكل ماء وقعت فيه نجاسة لم يجز الوضوء به) لتنجسه (قليلا كان) الماء (أو كثيراً) تغيرت أوصافه أو لا، وهذا في غير الجاري وما في حكمه كالغدير العظيم؛ بدليل المقابل (لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحفظ الماء من النجاسة) بنهيه عن ضده؛ لأن النهي عن الشيء أمر بضده فقال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم) يعني الساكن (ولا يغتسلن فيه من الجنابة) وقد استدل القائلون بنجاسة الماء المستعمل بهذا الحديث حيث قرن الاغتسال بالبول. وأجيب بأن الجنب لما كان يغلب عليه نجاسة المنى عادة جعل كالمتيقن (وقال صلى الله عليه وسلم) أيضا: (إذا استيقظ
_________
(1) مذهب الإمام مالك أن الوضوء يجوز ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه لحديث الماء طهور الخ. قال في الفتح ولا يصح الاستدلال به على الحصر وبيانه فيه. وقال الشافعي إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً كما هو نص الحديث فلا ينجس إذا كان قلتين والحديث رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر.
وأجيب بأن الحديث مضطرب في سنده وفي متنه فروى قلتين وروى قلتين أو ثلاثة وروى أربعين قلة والاضطراب يوجب الضعف. وكذا معنى القلة لأنه لفظ مشترك بين الجرة والقربة ورأس الجبل.
استدل الحنفية بحديث الصحيحين: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه وناقشهم الكمال في ذلك الاستدلال فراجعه

(1/20)


أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده".
وأما الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسةٌ جاز الوضوء منه، إذا لم ير لها أثرٌ؛ لأنها لا تستقر مع جريان الماء. والغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الماء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) يعني لاقت محلاً طاهراً أو نجساً، ولولا أن الماء ينجسن بملاقاة لليد النجسة لم تظهر للنهي فائدة.
(وأما الماء الجاري) وهو: ما لا يتكرر استعماله، وقيل: ما يذهب بتبنة، هداية. وقيل: ما يعده الناس جارياً، قيل: هو الأصح فتح، وفيه: وألحقوا بالجاري حوض الحمام إذا كان الماء ينزل من أعلاه والناس يغترفون منه حتى لو أدخلت القصعة أو اليد النجسة فيه لا يبخس اهـ. (إذا وقعت فيه نجاسة جاز الوضوء منه إذا لم ير لها) : أي للنجاسة (أثر) من طعم أو لون أو ريح (لأنها لا تستقر مع جريان الماء) قال في الجوهرة: وهذا إذا كانت النجاسة مائعة، أما إذا كانت دابة ميتة: إن كان الماء يجري عليها أو على أكثرها أو نصفها لا يجوز استعماله، وإن كان يجري على أقلها وأكثره يجري على موضع طاهر وللماء قوة فإنه يجوز استعماله إذ لم يوجد للنجاسة أثر اهـ. (والغدير) قال في المختار: هو القطعة من الماء يغادرها السيل اهـ. ومثله الحوض (العظيم) : أي الكبير، وهو (الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر) وهو قول العراقيين، وفي ظاهر الرواية: يعتبر فيه أكبر رأي المبتلى، قال الزاهدي: وأصح حده، ما لا يخلص بعضه إلى بعض في رأى المبتلى واجتهاده ولا يناظر المجتهد فيه، وهو الأصح عند الكرخي

(1/21)


إذا وقعت نجاسةٌ في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر؛ لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إليه.
وموت ما ليس له نفسٌ سائلةٌ في الماء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وصاحب الغاية والينابيع وجماعة اهـ. وفي التصحيح: قال الحاكم في المختصر: قال أبو عصمة: كان محمد بن الحسن يوقت في ذلك بعشر، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة، وقال، لا أوقت فيه شيئاً؛ فظاهر الرواية أولى اهـ. ومثله في فتح القدير والبحر قائلا إنه المذهب، وبه يعمل، وإن التقدير بعشر لا يرجع إلى أصل يعتمد عليه، لكن في الهداية: وبعضهم قدر بالمساحة عشراً في عشر بذراع الكرباس توسعة للأمر على الناس، وعليه الفتوى اهـ. ومثله في فتاوى قاضيخان وفتاوى العتابي، وفي الجوهرة: وهو اختيار البخاريين، وفي التصحيح: وبه أخذ أبو سليمان، يعني الجوزجاني، قال في النهر، وأنت خبير بأت اعتبار العشر أضبط، ولاسيما في حق من لا رأى له من العوام، فلذا أفتى به المتأخرون الأعلام، اهـ. قال شيخنا رحمه الله تعالى: ولا يخفى أن المتأخرون الأعلام اهـ. قال شيخنا رحمه الله تعالى: ولا يخفى أن المتأخرين الذين أفتوا بالعشر كصاحب الهداية وقاضيخان وغيرهما من أهل الترجيح هم أعلم بالمذهب منا؛ فعلينا اتباع ما رجحوه وما صححوه كما لو أفتونا في حياتهم اهـ. وفي الهداية: والمعتبر في العمق أن يكون بحال لا ينحسر بالاغتراف، وهو الصحيح اهـ.
(إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر) الذي لم تقع فيه النجاسة (لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إليه) ، أي الجانب الآخر؛ لأن أثر التحريك في السراية فوق أثر النجاسة، قال في التصحيح. وقوله جاز الوضوء من الجانب الآخر إشارة إلى أنه ينجس موضع الوقوع، وعن أبي يوسف لا ينجس إلا بظهور النجاسة فيه كالماء الجاري وقال الزاهدي: واختلفت الروايات والمشايخ في الوضوء من جانب الوقوع، والفتوى الجواز من جميع الجوانب اهـ.
(وموت ما ليس له نفس سائلة) أي دم سائل (في الماء) ومثله المائع، وكذا

(1/22)


لا ينجسه، كالبق والذباب والزنابير والعقارب وموت ما يعيش في الماء فيه لا يفسده كالسمك والضفدع والسرطان.
والماء المستعمل لا يجوز استعماله في طهارة الأحداث.
والمستعمل: كل ماءٍ أزيل به حدثٌ أو استعمل في البدن على وجه القربة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لو مات خارجه وألقى فيه (لا ينجسه) لأن المنجس اختلاط الدم المسفوح بأجزائه عند الموت، حتى حل المذكى وطهر لانعدام الدم في، هداية، وذلك (كالبق والذباب والزنابير والعقارب) ونحوها (وموت ما) يولد و (يعيش في الماء فيه) : أي الماء، وكذا المائع على الأصح، هداية وجوهرة، وكذا لو مات خارجه وألقى فيه في الأصح، درر (لا يفسده) وذلك (كالسمك، والضفدع) المائي، وقيل: مطلقا، هداية (السرطان) ونحوها، وقيدت ما يعيش في الماء بيولد لإخراج مائي المعاش دون المولد كالبط وغيره من الطيور، فإنها تفسده اتفاقاً.
(والماء المستعمل لا يجوز استعماله في طهارة الأحداث) قيد بالأحداث للإشارة إلى جواز استعماله في طهارة الأنجاس كما هو الصحيح. قال المصنف في التقريب: روى محمد عن أبي حنيفة أن الماء المستعمل طاهر، وهو قوله، وهو الصحيح اهـ. وقال الصدر حسام الدين في الكبرى: وعليه الفتوى، وقال فخر الإسلام في شرح الجامع: إنه ظاهر الرواية وهو المختار، وفي الجوهرة: قد اختلف في صفته، فروى الحسن عن أبي حنيفة أنه نجس نجاسة غليظة، وهذا بعيد جداً، وروى أبو يوسف عنه أنه نجس نجاسة خفيفة، وبه أخذ مشايخ بلخ؛ وروى محمد عنه أنه طاهر غير مطهر للأحداث كالخل، وهو الصحيح، وبه أخذ مشايخ العراق. اهـ.
(والمستعمل: كل ماء أزيل به حدث) وإن لم يكن بنية القربة (أو استعمل في البدن) قيد به لأن غسالة الجامدات كالقدور والثياب لا تكون مستعملة (على وجه القربة) وإن لم يزل به حدث، قال في الهداية: هذا قول أبي يوسف، وقيل:

(1/23)


وكل إهابٍ دبغ فقد طهر وجازت الصلاة فيه والوضوء منه، إلا جلد الخنزير والآدمي.
وشعر الميتة وعظمها وحافرها وعصبها وقرنها طاهر.
وإذا وقعت في البئر نجاسةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هو قول أبي حنيفة أيضاً، وقال محمد: لا يصير مستعملاً إلا بإقامة القربة، لأن الاستعمال بانتقال نجاسة الآثام إليه، وإنما تزال بالقرب، وأبو يوسف يقول: إسقاط الفرض مؤثر أيضاً، فيثبت الفساد بالأمرين جميعاً اهـ. وقال أبو نصر الأقطع: وهذا الذي ذكره هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة ومحمد، وفي الهداية: ومتى يصير مستعملاً؟ الصحيح أنه كما زايل العضو صار مستعملاً. لأن سقوط الاستعمال قبل الانفصال للضرورة، ولا ضرورة بعده اهـ.
(وكل إهاب) وهو الجلد قبل الدباغة، فإذا دبغ صار أديما (دبغ) بما يمنع النتن والفساد ولو دباغة حكمية كالترتيب والتشميس لحصول المقصود بها (فقد طهر) وما يطهر بالدباغة يطهر بالذكاة، هداية (و) إذا طهر (جازت الصلاة) مستتراً (فيه) وكذا الصلاة عليه (والوضوء منه، إلا جلد الخنزير) فلا يطهر النجاسة العينية (و) جلد (الآدمي) للكرامة الإلهية، وألحقوا بهما ما لا يحتمل الدباغة كفأرة صغيرة، وأفاد كلامه طهارة جلد الكلب والفيل، وهو المعتمد.
(وشعر الميتة) المجزوز، وأراد غير الخنزير لنجاسة جميع أجزائه، ورخص في شعره للخزازين للضرورة، لأنه لا يقوم غيره مقامه عندهم، وعن أبي يوسف أنه كرهه لهم أيضاً (وعظمها وقرنها) الخالي عن الدسومة، وكذا كل ما لا تحله الحياة منها كحافرها وعصبها على المشهور (طاهر) وكذا شعر الإنسان وعظمه، هداية.
(وإذا وقعت في البئر) الصغيرة (نجاسة) مائعة مطلقاً، أو جامدة غليظة، بخلاف الخفيفة كالبعر والروث فقد جعل القليل منها عفواً للضرورة، فلا تفسد إلا إذا

(1/24)


نزحت، وكان نزح ما فيها من الماء طهارة لها، فإن ماتت فيها فأرةٌ أو عصفورةٌ أو صعوةٌ أو سودانيةٌ أو سام أبرص نزح منها ما بين عشرين دلواً إلى ثلاثين دلواً، بحسب كبر الحيوان وصغره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كثر، وهو: ما يستكثره الناظر في المروى عن أبي حنيفة، وعليه الاعتماد، ولا فرق بين الرطب واليابس والصحيح والمنكسر، لأن الضرورة تشمل الكل كما في الهداية (نزحت) : أي البئر، والمراد ماؤها من ذكر المحل وإرادة الحال (وكان نزح ما فيها من الماء طهارة) : أي مطهراً (لها) بإجماع السلف؛ ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس، هداية. وفي الجوهرة: وفي قوله "طهارة لها" إشارة إلا أنه يطهر الوحل والأحجار والدلو والرشاء "طهارة لها" إشارة إلى أنه يطهر الوحل والأحجار والدلو والرشاء ويد النازح. اهـ. وهذا إذا كانت النجاسة غير حيوان.
وأما حكم الحيوان فذكره بقوله: (فإن ماتت فيها) أو خارجها وألقيت فيها (فأرة أو عصفورة أو صعوة) كتمرة - عصفورة صغيرة حمراء الرأس. مصباح (أو سودانية) طويرة طويلة الذنب على قدر قبضة. مغرب (أو سام) بتشديد الميم (أبرص) أي الوزع، والعوام تقول له "أبو بريص" أو ما قاربها في الجثة (نزح منها) بعد إخراج الواقع فيها (ما بين عشرين دلواً إلى ثلاثين دلواً) العشرين بطريق الإيجاب، والثلاثين بطريق الاستحباب. هداية. وفي الجوهرة: وهذا إذا لم تكن الفأرة هاربة من الهرة ولا مجروحة، وإلا ينزح جميع الماء وإن خرجت حية، لأنها تبول إذا كانت هاربة، وكذا الهرة إذا كانت هاربة من الكلب، أو مجروحة، لأن البول والدم نجاسة مائعة. اهـ. باختصار، ثم قال: وحكم الفأرتين الثلاث والأربع كالواحدة؛ والخمس كالهرة إلى التسع، والعشر كالكلب، وهذا عند أبي يوسف، وقال محمد؛ الثلاث كالهرة، والست كالكلب. اهـ. (بحسب كبر الحيوان وصغره) الكبر والصغر - بضم الأول وإسكان الثاني - للجثة، وهو المراد هنا، وبكسر الأول وفتح الثاني: للسن، قال في الجوهرة: ومعنى المسألة

(1/25)


وإن ماتت فيها حمامةٌ أو دجاجةٌ أو سنورٌ نزح منها ما بين أربعين دلواً إلى ستين.
وإن مات فيها كلبٌ أو شاةٌ أو آدميٌ نزح جميع ما فيها من الماء وإن انتفخ الحيوان فيها أو تفسخ نزح جميع ما فيها من الماء صغر الحيوان أو كبر.
وعدد الدلاء يعتبر بالدلو الوسط المستعمل للآبار في البلدان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كان الواقع كبيراً والبئر كبيرة فالعشر مستحبة، وإن كانا صغيرين فالاستحباب دون ذلك، وإن كان أحدهما صغيراً والآخر كبيراً فخمس مستحبة وخمس دونها في الاستحباب اهـ.
(وإن ماتت فيها حمامة أو دجاجة أو سنور) أي هرة (نزح منها) بعد إخراج الواقع (ما بين أربعين دلواً إلى ستين) دلواً، وفي الجامع الصغير: أربعون، أو خمسون، وهو الأظهر. هداية، وفي الجوهرة: وفي السنورين والدجاجتين والحمامتين ينزح الماء كله اهـ.
(وإن مات فيها كلب أو شاة أو آدمي نزح جميع ما فيها) قيد بموت الكلب لأنه إذا خرج حياً ولم يصب فمه الماء لا ينجس الماء، شرنبلالي، وإذا وصل لعاب الواقع إلى الماء أخذ حكمه: من نجاسة، وشك، وكراهة، وطهارة.
(وإن انتفخ الحيوان) الواقع (فيها أو تفسخ) ولو خارجها ثم وقع فيها، ذكره الواني، وكذا إذا تمعط شعره، جوهرة (نزح جميع ما فيها) من الماء (صغر الحيوان) الواقع (أو كبر) فلا فرق بينهما لانتشار البلة في أجزاء الماء هداية.
(وعدد الدلاء يعتبر بالدلو الوسط) وهو (المستعمل للآبار) أي؛ أكثرها (في) أكثر (البلدان) لأن الأخبار وردت مطلقة فيحمل على الأعم الأغلب،

(1/26)


فإن نزح منها بدلوٍ عظيمٍ قدر ما يسع عشرين دلواً من الدلو الوسط احتسب به.
وإن كانت البئر معيناً لا تنزح ووجب نزح ما فيها من الماء أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء. وقد روى عن محمد بن الحسن رحمة الله عليه أنه قال: ينزح منها مائتا دلوٍ إلى ثلاثمائة دلوٍ.
وإذا وجد في البئر فأرةٌ أو غيرها ولا يدرون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن قال في الهداية: ثم المعتبر في كل بئر دلوها التي يستقى بها منها، وقيل: دلو يسع صاعا اهـ. واختاره غير واحد.
(فإن نزح منها بدلو عظيم) مرة واحدة (قدر ما يسع عشرين دلوا) مثلا (من الدلو الوسط احتسب به) أي: بذلك القدر وقام مقامه لحصول المقصود مع قلة التقاطر.
(وإن كانت البئر معيناً) أي: ينبع الماء من أسفلها بحيث (لا تنزح) أي: لا يفنى ماؤها، بل كلما نزح من أعلاها نبع من أسفلها (و) قد (وجب نزح) جميع (ما فيها) بوجه من الوجوه المارة (أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء) وقت ابتداء النزح، نقله الحلبي عن الكافي، وطريق معرفته أن يحفر حفيرة بمثل موضع الماء في البئر ويصب فيها ما ينزح من البئر إلى أن تمتلئ، وله طرق أخرى، وهذا قول أبي يوسف (وقد روى عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى (أنه قال: ينزح منها مائتان دلو إلى ثلاثمائة) بذلك أفتى في آبار بغداد لكثرة مائها بمجاورتها لدجلة، كذا في السراج، وفي قوله "مائتا دلو إلى ثلاثمائة" إشارة إلى أن المائة الثالثة مندوبة، ويؤيده ما في المبسوط: وعن محمد في النوادر ينزح ثلاثمائمة دلو أو مائتا دلو. اهـ. وجعله في العناية رواية عن الإمام، وهو المختار والأيسر كما في الاختيار، وكان المشايخ إنما اختاروا قول محمد لانضباطه كالعشر تيسيراً. نهر باختصار.
(وإذا وجد في البئر فأرة أو غيرها) مما يفسد الماء (ولا يدرون) ولا غلب

(1/27)


متى وقعت ولم تنتفخ ولم تتفسخ أعادوا صلاة يومٍ وليلةٍ إذا كانوا توضئوا منها، وغسلوا كل شيءٍ أصابه ماؤها، وإن كانت انتفخت أو تفسخت أعادوا صلاة ثلاثة أيامٍ ولياليها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمدٌ رحمهما الله: ليس عليهم إعادة شيءٍ حتى يتحققوا متى وقعت.
وسؤر الآدمي وما يؤكل لحمه طاهرٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على ظنهم، قهستاني (متى وقعت ولم تنتفخ ولم تتفسخ أعادوا صلاة يوم وليلة إذا كانوا توضئوا منها) عن حدث (وغسلوا) الثياب عن خبث، وإلا بأن توضئوا عن غير حدث أو غسلوا ثياب صلاتهم عن غير خبث غسلوا الثياب و (كل شيء أصابه ماؤها) ولا يلزمهم إعادة الصلاة إجماعا، جوهرة (وإن انتفخت أو تفسخت أعادوا صلاة ثلاثة أيام ولياليها) وذلك (في قول أبي حنيفة رحمه الله) لأن للموت سبباً ظاهراً، وهو الوقوع في الماء؛ فيحال عليه، إلا أن الانتفاخ دليل التقادم فيتقدر بالثلاث، وعدمه دليل قرب العهد فيقدر بيوم وليلة؛ لأن ما دون ذلك ساعات لا يمكن ضبطها. هداية (وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: ليس عليهم إعادة شيء حتى يتحققوا متى وقعت) لأن اليقين لا يزال بالشك، وصار كمن رأى في ثوبه نجاسة لا يدري متى أصابته هداية، وفي التصحيح: قال في فتاوى العتابي: قولهما هو المختار. قلت: ولم يوافق على ذلك؛ فقد اعتمد قول الإمام البرهاني والنسفي والموصلي وصدر الشريعة، ورجح دليله في جميع المصنفات، وصرح في البدائع أن قولهما قياس وقوله هو الاستحسان وهو الأحوط في العبادات اهـ.
(وسؤر الآدمي) : أي بقية شربه، يقال: إذا شربت فأستر: أي أبق شيئاً من الشراب (وما يؤكل لحمه طاهر) ومنه الفرس، قال في الهداية: وسؤر الفرس

(1/28)


وسؤر الكلب والخنزير وسباع البهائم نجسٌ، وسؤر الهرة والدجاجة المخلاة وسباع الطير وما يسكن في البيوت مثل الحية والفأرة مكروهٌ، وسؤر الحمار والبغل مشكوك فيهما، فإن لم يجد غيرهما توضأ بهما وتيمم وبأيهما بدأ جاز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طاهر عندهما؛ لأن لحمه مأكول، وكذا عنده على الصحيح؛ لأن الكراهة لإظهار شرفه اهـ. ثم السؤر الطاهر بمنزلة الماء المطلق.
(وسؤر الكلب والخنزير وسباع البهائم) وهي: كل ذي ناب يصاد به، ومنه الهرة البرية (نجس (1)) بخلاف الأهلية، لعلة الطواف كما نص عليه بقوله: (وسؤر الهرة) أي: الأهلية (والدجاجة المخلاة) لمخالطة منقارها النجاسة ومثله إبل وبقر جلالة (وسباع الطير) وهي؛ كل ذي مخلب يصيد به (وما يسكن البيوت مثل الحية والفأرة) طاهر مطهر، لكنه (مكروه) استعماله تنزيهاً في الأصح إن وجد غيره، وإلا لم يكره أصلا كأكله لفقير. در (وسؤر الحمار والبغل) الذي أمه حمارة (مشكوك فيهما) أي: في طهورية سؤرهما، لا في طهارته، في الأصح (2) هداية (فإن لم يجد غيرهما) يتوضأ به أو يغتسل (توضأ بهما) أو اغتسل (وتيمم، وبأيهما بدأ جاز) في الأصح.
_________
(1) اختلف الأحناف أنفسهم في أن الكلب نجس العين فلا يطهر بالدباغ أو غير نجس العين فيطهر بها والأصح عندهم أنه ليس ينجس العين لأنه ينتفع به حراسة واصطياداً راجع الفتح والعناية.
(2) الأصح أن الشك في طهوريته أي في كونه مطهر لغيره مع كونه طاهرا قال في الهداية يروى نص محمد رحمه الله على طهارته وسبب الشط تعارض الأدلة في إباحته وحرمته ففي حديث خيبر حين طبخ بعض الصحابة بعض الحمر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي بأكفاء القدر ورقائها رجس وقد رواه الطحاوي وغيره يفيد الحرمة وحديث غالب بن أجبر وكان لا يملك إلا الحمر الأهلية. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كل من سمين مالك يفيد الحل هذا مع اختلاف الصحابة فيه

(1/29)


باب التيمم.
- ومن لم يجد الماء وهو مسافرٌ أو خارج المصر بينه وبين المصر نحو الميل أو أكثر، أو كان يجد الماء إلا أنه مريضٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب التيمم
هو لغة: القصد، وشرعاً: قصد صعيد مطهر واستعماله بصفة مخصوصة لإقامة القربة.
ولما بين الطهارة الأصلية عقبها بخلفها، وهو التيمم، لأن الخلف أبدأ يقفو الأصل، فقال:
(ومن لم يجد الماء وهو مسافر أو) كان (خارج المصر) و (بينه وبين المصر) الذي فيه الماء (نحو الميل) هو المختار في المقدار، هداية واختيار. ومثله كان في المصر بينه وبين الماء هذا المقدار، لأن الشرط هو العدم، فأينما تحقق جاز التيمم بحر عن الأسرار، وإنما قال "خارج المصر"، لأن المصر لا يخلو عن الماء، والميل في اللغة: منتهى مد البصر، وقيل للأعلام المبنية في طريق مكة أميال، لأنها بنيت كذلك كما في الصحاح، والمراد هنا أربعة آلاف خطوة المعبر عنها بثلث فرسخ (قال بعضهم: أن يكون بحيث لا يسمع الآذان، وقيل: إن كان الماء أمامه فميلان، وإن كان خلفه أو يمينه أو يساره فميل، وقال زفر: إن كان بحال يصل إلى الماء قبل خروج الوقت لا يجوز له التيمم، وإلا فيجوز وإن قرب، وعن أبي يوسف: إن كان بحيث إذا ذهب إليه وتوضأ تذهب القافلة وتغيب عن بصره يجوز له التيمم جوهرة وإنما قال (أو أكثر) لأن المسافة المذكورة إنما تعرف بالحزر والظن، فلو كان في ظنه نحو الميل أو أقل لا يجوز، وإن كان نحو الميل أو أكثر جاز، ولو تيقن أنه ميل جاز. جوهرة (أو كان يجد الماء إلا أنه مريض) يضره

(1/30)


فخاف إن استعمل الماء اشتد مرضه، أو خاف الجنب إن اغتسل بالماء أن يقتله البرد، أو يمرضه فإنه يتيمم بالصعيد.
والتيمم ضربتان: يمسح بإحداهما وجهه، وبالأخرى يديه إلى المرفقين؛ والتيمم من الجنابة والحدث سواءٌ.
ويجوز التيمم عند أبي حنيفة ومحمدٍ بكل ما كان من جنس الأرض كالتراب والرمل والحجر والجص والنورة والكحل والزرنيخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
استعمال الماء (فخاف) بغلبة الظن أو قول حاذق مسلم (إن استعمل الماء اشتد) أو امتد (مرضه، أو خاف الجنب إن اغتسل بالماء) البارد (أن يقتله البرد أو يمرضه، فإنه يتيمم بالصعيد) قال في الجوهرة: هذا إذا كان خارج المصر إجماعا وكذا في المصر أيضاً عند أبي حنيفة، خلافاً لهما وقيد بالغسل: لأن المحدث في المصر إذا خاف من التوضؤ الهلاك من البرد يجوز له التيمم إجماعاً على الصحيح كذا في المستصفى اهـ. والصعيد: اسم لوجه الأرض، سمى به لصعوده.
(والتيمم ضربان) وهما ركنان (يمسح بإحداهما) مستوعباً (وجهه، وبالأخرى يديه إلى المرفقين) أي: معهما، قال في الهداية: ولابد من استيعاب في ظاهر الرواية لقيامه مقام الوضوء، ولهذا قالوا: يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتم المسح. اهـ. (والتيمم من الجنابة) والحيض والنفاس (والحدث سواء) فعلا ونية. جوهرة.
(ويجوز التيمم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بكل ما كان من جنس الأرض) غير منطبع ولا مترمد (كالتراب) قدمه لأنه مجمع عليه (والرمل والحجر والجص) بكسر الجيم وفتحها - ما يبنى به، وهو معرب. صحاح: أي الكلس (والنورة) بضم النون - حجر الكلس، ثم غلبت على أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره، وتستعمل لإزالة الشعر. مصباح (والكحل والزرنيخ) ولا يشترط أن

(1/31)


وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يجوز إلا بالتراب والرمل خاصةً والنية فرضٌ في التيمم مستحبةٌ في الوضوء.
وينقض التيمم كل شيءٍ ينقض الوضوء، وينقضه أيضاً رؤية الماء إذا قدر على استعماله.
ولا يجوز التيمم إلا بصعيدٍ طاهرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يكون عليها غبار، وكذا يجوز بالغبار مع القدرة على الصعيد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى هداية.
(وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى: لا يجوز إلا بالتراب والرمل خاصة) وعنه لا يجوز إلا بالتراب فقط، وفي الجوهرة: والخلاف مع وجود التراب، أما إذا عدم فقوله كقولهما.
(والنية فرض في التيمم) لأن التراب ملوث؛ فلا يكون مطهراً إلا بالنية و (مستحبة في الوضوء) لأن الماء مطهر بنفسه؛ فلا يحتاج إلى نية التطهير.
(وينقض التيمم كل شيء ينقض الوضوء) لأنه خلف عنه؛ فأخذ حكمه (وينقضه أيضا رؤية الماء إذا قدر على استعماله) لأن القدرة هي المراد بالوجود الذي هو غاية لطهورية التراب، وخائف العدو والسبع والعطش عاجز حكما، والنائم عند أبي حنيفة قادر تقديراً، حتى لو مر النائم المتيمم على الماء بطل تيممه، والمراد ماء يكفي للوضوء؛ لأنه لا معتبر بما دونه ابتداء فكذا انتهاء. هداية.
(ولا يجوز التيمم إلا بالصعيد الطاهر) لأن الطيب أريد به الطاهر (1) ، ولأنه آلة التطهير، فلابد من طهارته في نفسه كالماء. اهـ. هداية. ولا يستعمل التراب بالاستعمال، فلو تيمم واحد من موضع وتيمم آخر بعده منه جاز.
_________
(1) الطيب في النص الكريم وهو قوله سبحانه فتيمموا صعيداً طيباً المراد به الطاهر بالإجماع فلو تيمم بغبار ثوب نجس لا يجوز إلا إذا وقع عليه ذلك الغبار بعد جفافه فإنه لا يكون نجساً

(1/32)


ويستحب لمن لا يجد الماء وهو يرجو أن يجده في آخر الوقت أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت فإن وجد الماء توضأ به وصلى، وإلا تيمم.
ويصلى بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل.
ويجوز التيمم للصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ويستحب لمن لا يجد الماء وهو يرجو أن يجده في آخر الوقت أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت) المستحب على الصحيح (فإن وجد الماء توضأ به) ليقع الأداء بأكمل الطهارتين (وإلا تيمم) ولو لم يؤخر وتيمم وصلى جاز لو بينه وبين الماء ميل، وإلا لا، در. قال الإمام حافظ الدين: هذه المسألة تدل على أن الصلاة في أول الوقت عندنا أفضل، إلا إذا تضمن التأخير فضيلة كتكثير الجماعة اهـ.
(ويصلى) المتيمم (بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل) لأنه طهور حال عدم الماء فيعمل عمله ما في شرطه (1) .
_________
(1) أما الإمام الشافعي رحمه الله فيرى وجوب التيمم لكل فرض وعدم صحة صلاة فرضين بتيمم واحد لأن التيمم طهارة ضرورية وهو يجيز النوافل المتعددة بالتيمم الواحد تبعاً للفرض. وعند الحنيفة أنه طهارة مطلقة غير مقيدة وهو معنى قول الشارج إنه طهور حال عدم الماء فيعمل عمله ما بقي شرطه وهو عدم الماء ويستدلون على ذلك بأنه سبحانه شرع التيمم حال عدم الماء حيث قال فلم تجدوا ماء فتيمموا فتبقى الطهارة ببقائه ويؤيده إطلاقه قوله صلى الله عليه وسلم التراب طهور والمسلم ولو إلى عشر حجج مالم - يجد الماء. وقوله جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً والطهور هو المطهر فتبقى طهوريته إلى غايتها من وجود الماء أو ناقض آخر.
(ويجوز التيمم للصحيح) قيد به لأن المريض لا يتقيد بحضور الجنازة (في المصر) قيد به لأن الفلوات يغلب فيها عدم الماء؛ فلا يتقيد بحضور الجنازة (إذا حضرت جنازة والولي غيره) قيد به لأنه إذا كان الولي لا يجوز له على الصحيح؛ لأن له حق الإعادة فلا فوات في حقه كما في الهداية (فخلف إن اشتغل بالطهارة) بالماء (أن تفوته الصلاة فإنه يتيمم ويصلي) ؛ لأنها لا تقضى (وكذلك من حضر) صلاة (العيد فخاف إن اشتغل بالطهارة أن تفوته صلاة العيد فإنه يتيمم ويصلي) ؛ لأنها لا تقضى أيضاً (وإن خاف من شهد الجمعة إن اشتغل بالطهارة) بالماء (أن تفوته صلاة الجمعة لم يتيمم) ؛ لأنها لها خلف (ولكنه يتوضأ فإن أدرك الجمعة صلاها وإلا) : أي لم يدرك الجمعة (صلى الظهر أربعاً) قيد به لإزالة الشبهة حيث كانت الجمعة خلفاً عن الظهر عندنا، فربما ترد الشبهة على السامع أنه يصلي ركعتين (وكذلك إذا ضاق الوقت فخشي إن توضأ فات الوقت لم يتيمم) ؛ لأنه يقضي (ولكنه يتوضأ ويصلي) إن فات الوقت (فائتة) أي: قضاء.
(والمسافر إذا نسي الماء في رحله فتيمم وصلى ثم ذكر الماء) بعد ذلك (في الوقت) أو بعده، جوهرة (لم يعد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله) ؛ لأنه لا قدرة بدون العلم، وهي المراد بالوجود، هداية (وقال أبو يوسف: يعيدها) ؛ لأن رحل المسافر معدن الماء عادة فيفترض الطلب عليه، والخلاف فيما إذا وضعه بنفسه أو غيره بأمره، وإلا فلا إعادة اتفاقاً، قيد الذكر بما بعد الصلاة حيث قال "ثم ذكر الماء"؛ لأنه إذا ذكر وهو في الصلاة يقطع ويعيد إجماعاً، وقيد بالنسيان احترازاً مما إذا شك أو ظن أن ماءه فنى فصلى بالتيمم ثم وجده فإنه يعيد إجماعاً، وقيد بقوله "في رحله" لأنه لو كان على ظهره أو معلقاً في عنقه أو موضوعاً بين يديه فنسيه وتيمم لا يجوز إجماعاً؛ لأنه نسي ما لا ينسى فلا يعتبر نسيانه، وكذا لو كان في مؤخر الدابة وهو سائقها أو في مقدمها وهو قائدها أو راكبها لا يجوز إجماعاً، جوهرة.
(وليس) بلازم (على المتيمم إذا لم يغلب على ظنه أن بقربه ماء أن يطلب الماء) قال في الجوهرة: هذا في الفلوات أما في العمران فيجب الطلب؛ لأن العادة عدم الماء في الفلوات، وهذا القول يتضمن ما إذا شك وما إذا لم يشك، لكن يفترقان؛ فيما إذا شك يستحب له الطلب مقدار الفلوة، ومقدارها ما بين ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة، وإن لم يشك يتيمم اهـ. (فإن غلب على ظنه أن هناك ماء) بأمارة أو إخبار عدل (لم يجز له أن يتيمم حتى يطلبه) مقدار الغلوة، ولا يبلغ ميلا؛ كيلا ينقطع عن رفقته، هداية، ولو بعث من يطلبه كفاه عن الطلب بنفسه، وإن تيمم من غير طلب وصلى ثم طلبه فلم يجده وجب عليه الإعادة عندهما، خلافاً لأبي يوسف، جوهرة (وإن كان مع رفيقه ماء طلبه منه قبل أن يتيمم) لعدم المنع غالباً (فإن منعه تيمم وصلى) لتحقق العجز، ولو تيمم قبل الطلب أجزأه عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يلزمه الطلب من ملك الغير، وقالا: لا يجزئه؛ لأن الماء مبذول عادة، واختاره في الهداية، ولو أبى أن يعطيه إلا بثمن المثل وعنده ثمنه لا يجزئه التيمم؛ لتحقق القذرة، ولا يلزمه تحمل الغبن الفاحش؛ لأن الضرر مسقط، هداية

(1/33)


في المصر إذا حضرت جنازةٌ والولي غيره فخاف إن اشتغل بالطهارة أن تفوته الصلاة فإنه يتيمم ويصي وكذلك من حضر العيد فخاف إن اشتغل بالطهارة أن تفوته صلاة العيدين فإنه يتيمم ويصلي؛ وإن خاف من شهد الجمعة إن اشتغل بالطهارة أن تفوته صلاة الجمعة لم يتيمم ولكنه يتوضأ، فإن أدرك الجمعة صلاها، وإلا صلى الظهر أربعاً، وكذلك إذا ضاق الوقت فخشي إن توضأ فات الوقت لم يتيمم، ولكنه يتوضأ ويصلي فائتةٍ.
والمسافر إذا نسي الماء في رحله فتيمم وصلى ثم ذكر الماء في الوقت
ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1/34)


لم يعد الصلاة عند أبي حنيفة ومحمدٍ رحمهما الله. وقال أبو يوسف: ويعيدها.
وليس على المتيمم إذا لم يغلب على ظنه أن بقربه ماءً أن يطلب الماء، فإن غلب على ظنه أن هناك ماءً لم يجز له أن يتيمم حتى يطلبه، وإن كان مع رفيقه ماءٌ طلبه منه قبل أن يتيمم، فإن منعه منه تيمم وصلى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1/35)


باب المسح على الخفين.
- المسح على الخفين جائزٌ بالسنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ

باب المسح على الخفين
عقبه للتيمم لأن كلا منهما مسح، ولأن كل منهما بدل عن الغسل، وقدم التيمم لأنه بدل عن الكل، وهذا بدل عن البعض.
(المسح على الخفين جائز بالسنة) والأخبار فيه مستفيضة (1) حتى قيل: إن من لم يره كان. مبتدعا. ولكن من رآه ثم لم يمسح آخذاً بالعزيمة كان مأجوراً، هداية، وفي قوله "بالسنة" إشارة إلى رد القول بأن ثبوته بالكتاب على قراءة الخفض،
_________
(1) قال بعضهم إن المسح على الخفين ثابت بالقرآن على قراءة الجر فقراءة النصب تحمل على الغسل حال تجرد الرجل وقراءة الجر تحمل على المسح حال استتار الرجل بالخف وهذا باطل لأن المسح على الخف لا يكون مسحاً على الرجل لا حقيقة ولا حكماً وإنما هو ثابت بالسنة القولية والعملية فالعملية حديث المغيرة السابق وغيره والقولية حديث مسلم يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أياماً بلياليها. والأخبار في المسح على الخفين مستفيضة قال أبو حنيفة ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار وعنه أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين لأن الأخبار فيه من حيز التزاتر. وقال أبو يوسف خبر المسح يجوز نسخ الكتاب به لشهرته. وقال أحمد ليس في قلبي من المسح شيء فيه أربعون حديثاً عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رفعوا وما وقفوا وروى ابن المنذر في آخرين عن الحسن قال: حدثني سبعون رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عليه السلام مسح على الخفين وقد أطال صاحب الفتح وصاحب العناية في ذلك فارجع إليهما

(1/36)


من كل حدثٍ موجبٍ للضوء إذا لبس الخفين على طهارةٍ كاملةٍ ثم أحدث.
فإن كان مقيماً مسح يوماً وليلةً، وإن كان مسافراً مسح ثلاثة أيامٍ ولياليها، وابتداؤها عقيب الحدث.
والمسح على الخفين على ظاهرهما خطوطاً بالأصابع، يبدأ من رؤس أصابع الرجل إلى الساق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(من كل حدث موجب للوضوء) احترازاً عما موجبه الغسل، لأن الرخصة للحرج فيما يتكرر، ولا حرج في الجنابة ونحوها (إذا لبس الخفين على طهارة كاملة ثم أحدث) : أي بعد إكمال الطهارة، وإن لم تكن كاملة عند اللبس - كأن غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة بعده بحيث لم يحدث إلا بعد إكمال الطهارة جاز له المسح.
فإن كان مقيماً مسح يوماً وليلة، وإن كان مسافراً مسح ثلاثة أيام ولياليها ابتداؤها عقيب الحدث) لأن الخف مانع سراية الحدث؛ فتعتبر المدة من وقت المنع.
(والمسح على الخفين) محله (على ظاهرهما) ، فلا يجوز على باطن الخف وعقبه وساقه، لأنه معدول عن القياس، فيراعى فيه جمع ما ورد به الشرع، هداية، والسنة أن يكون المسح (خطوطاً بالأصابع) فلو مسح براحته جاز، و (يبدأ) بالمسح (من رءوس أصابع الرجل إلى) مبدأ (الساق) ولو عكس جاز

(1/37)


وفرض ذلك مقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد.
ولا يجوز المسح على خف فيه خرقٌ كبيرٌ يبين منه مقدار ثلاث أصابع من أصابع الرجل، وإن كان أقل من ذلك جاز.
ولا يجوز المسح على الخفين لمن وجب عليه الغسل.
وينقض المسح ما ينقض الوضوء، وينقضه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وفرض ذلك) المسح (مقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد) طولاً وعرضاً، وقال الكرخي: من أصابع الرجل، والأول أصح اعتباراً لآلة المسح، هداية.
(ولا يجوز المسح على خف فيه خرق كبير) بموحدة أو مثلثة - وهو (ما يبين منه مقدار ثلاث أصابع من) أصغر (أصابع الرجل) وهذا لو الخرق على غير أصابعه وعقبه، فلو على الأصابع اعتبر نفسها، ولو كباراً، ولو على العقب اعتبر بدو أكثره؛ ولو لم ير القدر المانع عند المشي لصلابته لم يمنع، وإن كثر، كما لو انفتقت الظهارة دون البطانة، در (وإن كان) الخرق (أقل من ذلك) القدر المذكور (جاز) المسح عليها، لأن الأخفاف لا تخلو عن قليل الخرق عادة، فيلحقهم الحرج في النزع، وتخلو عن الكثير فلا حرج، هداية.
(ولا يجوز المسح على الخفين لمن وجب عليه الغسل) والمنفي لا يلزم تصويره، فالاشتغال به اشتغال بما لا يلزم تحصيله (1) .
_________
(1) المنفي هو المسح على الخفين للجنب وما دام غير جائز فلا داعي للبحث عنه وروى الترمذي والنسائي وقال حديث حسن صحيح عن صفوان بن عسال قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً ألا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا من جنابة. ولكن من غائط وبول ونوم) .
(وينقض المسح) على الخفين (ما ينقض الوضوء) ؛ لأنه بعضه (وينقضه أيضا نزع الخف) لسراية الحدث إلى القدم حيث زال المانع، وكذا نزع أحدهما لتعذر الجمع بين الغسل والمسح في وظيفة واحدة، (و) ينقضه أيضا (مضي المدة) المؤقتة له (فإذا مضت المدة نزع خفيه وغسل رجليه) فقط (وصلى، وليس عليه بقية الوضوء وكذا إذا نزع قبل المدة، لأنه عند النزع ومضى المدة يسري الحدث السابق إلى القدمين، فصار كأنه لم يغسلهما، وحكم النزع يثبت بخروج القدم إلى الساق، لأنه معتبر به في حق المسح، وكذا بأكثر القدم، هو الصحيح، هداية.
(ومن ابتدأ المسح وهو مقيم فسافر قبل إتمام يوم وليلة مسح ثلاثة أيام ولياليها) ، لأنه حكم متعلق بالوقت فيعتبر فيه آخره، بخلاف ما إذا استكمل المدة ثم سافر لأن الحدث قد سرى إلى القدم، والخلف ليس بدافع، هداية (ومن ابتدأ المسح وهو مسافر ثم أقام) بأن دخل مصره أو نوى الإقامة في غيره (فإن كان) استكمل مدة الإقامة بأن كان (مسح يوماً وليلة أو أكثر لزمه نزع خفيه وغسل رجليه) ، لأن رخصة السفر لا تبقى بدونه (وإن كان) لم يستكمل مدة الإقامة بأن كان (مسح أقل من يوم وليلة تمم مسح يوم، وليلة) لأنها مدة الإقامة وهو مقيم.
(ومن لبس الجرموق) وهو ما يلبس فوق الخف، والجمع الجراميق، مثل عصفور وعصافير، مصباح، ويقال له: الموق (فرق الخف مسح عليه) بشرط لبسه على طهارة، وكونه لو انفرد جاز المسح عليه، بخلاف ما إذا لبسه بعد ما أحدث، أو كان من كرباس أو فيه خرق مانع فلا يصح.
(ولا يجوز المسح على الجوربين) رقيقن كانا أو ثخينين (عند أبي حنيفة) رضي الله عنه (إلا أن يكونا مجلدين) أي جعل الجلد على ما يستر القدم منهما إلى الكعب (أو منعلين) أي جعل الجلد على ما يلي الأرض منهما إلى الكعب (أو منعلين) أي جعل الجلد على ما يلي الأرض منهما خاصة، كالنعل للرجل (وقال أبو يوسف ومحمد) رحمهما الله (يجوز المسح على الجوربين) سواء كانا مجلدين أو منعلين أو لا (إذا كانا ثخينين) بحيث يستمسكان على الرجل من غير شد، و (لا يشفان الماء) إذا مسح عليهما: أي لا يجذبانه، وينفذانه إلى القدمين، وهو تأكيد للثخانة. قال في التصحيح؛ وعنه أنه رجع إلى قولهما، وعليه الفتوى، هداية اهـ.
وحاصله - كما في شرح الجامع لقاضيخان - ونصه: ولو مسح على الجوربين فإن كانا ثخينين منعلين جاز بالاتفاق، وإن لم يكونا ثخينين منعلين لا يجوز بالاتفاق، وإن كانا ثخينين غير منعلين لا يجوز في قول الإمام خلافا لصاحبيه، وروى أن الإمام رجع إلى قولهما في المرض الذي مات فيه اهـ.
(ولا يجوز المسح على العمامة والقلنسوة) بفتح القاف وضم السين - وهي في الأصل ما يجعله الأعاجم على رءوسهم أكبر من الكوفيه، ثم أطلق على ما تدار عليه العمامة (والبرقع) ما تجعله المرأة على وجهها (والقفازين) تثنية قفاز - كعكاز - ما يجعله على اليدين له أزرار تزر على الذراعين يلبسان من شدة البرد ويتخذه الصياد من جلد أو لبد يغطي به الكف والأصابع اتقاء مخالب الصقر، وذلك لأن المسح على الخف ثبت بخلاف القياس فلا يلحق به غيره.
(ويجوز المسح على الجبائر) جمع جبيرة، وهي: عيدان تلف بخرق أو ورق وتربط على العضو المنكسر (وإن شدها على غير وضوء) أو جنباً، لأن في اشتراط الطهارة في تلك الحال حرجا وهو مدفوع، ولأن غسل ما تحتها قد سقط وانتقل إليها بخلاف الخف (فإن سقطت عن غير برء لم يبطل المسح) ، لأن العذر قائم والمسح عليها كالغسل لما تحتها ما دام العذر باقياً (وإن سقطت عن برء بطل المسح) لزوال العذر، وإن كان في الصلاة استقبل، لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، هداية

(1/38)


أيضاً نزع الخف، ومضي المدة، فإذا مضت المدة نزع خفيه وغسل رجليه وصلى، وليس عليه إعادة بقية الوضوء.
ومن ابتدأ المسح وهو مقيمٌ فسافر قبل تمام يومٍ وليلةٍ مسح ثلاثة أيامٍ ولياليها، ومن ابتدأ المسح وهو مسافرٌ ثم أقام، فإن كان مسح يوماً وليلةً أو أكثر لزمه نزع خفيه وغسل رجليه وإن كان مسح أقل من يومٍ وليلةٍ تمم مسح يومٍ وليلةٍ.
ومن لبس الجرموق فوق الخف مسح عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1/39)


ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة إلا أن يكونا مجلدين أو منعلين. وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يجوز المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين لا يشفان الماء (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
_________
(1) كثيرا ما تلجئ الضرورة إلى فعل الرخصة ويظهر الحاجة إلى بحثها وفحصها عند الضرورة الملجئة والمرض والبرد الشديد ضرورة قد تدعو إلى المسح على الجورب وروى الترمذي عن المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والمنعلين والعطف للمغايرة وتخصيص الجواز بوجود النعل قصر للدليل وتخصيص بلا مخصص هذه وجهة نظر الصاحبين وقد رجع الإمام إلى قولهما فعلاً وقولاً فمسح على جوربيه وقال فعلت ما كنت أمنع الناس عنه فاستدل به الأحناف على رجوعه إلى قولهما

(1/40)


ولا يجوز المسح على العمامة والقلنسوة (1) والبرقع والقفازين.
ويجوز المسح على الجبائر وإن شدها على غير وضوءٍ، فإن سقطت عن غير برءٍ لم يبطل المسح، وإن سقطت عن برءٍ بطل المسح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
_________
(1) يروى عن الأوزاعي وأحمد وأهل الظاهر والشافعي في أحد قوليه جواز ذلك لما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وخفيه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث سرية فأمرهم أن يمسحوا على المشاوذ وهي العمائم والتساخين وهي الخفاف ومقتضى هذا لنقل الجوار وفيه يسر على الأمة وقول الحنفية إنه ثبت على خلاف القياس يمكن أن يعارض بأن هذا أيضا ثبت كذلك

(1/41)


باب الحيض.
- أقل الحيض ثلاثة أيامٍ ولياليها، وما نقص عن ذلك فليس بحيضٍ وهو استحاضةٌ. وأكثر الحيض عشرة أيامٍ ولياليها، وما زاد على ذلك فهو استحاضةٌ. وما تراه المرأة من الحمرة والصفرة والكدرة في أيام الحيض فهو حيضٌ حتى ترى البياض الخالص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب الحيض
لما ذكر الأحداث التي يكثر وقوعها عقبها بذكر ما يقل، وعنون بالحيض لكثرته وأصالته، وإلا فهي ثلاثة: حيض، ونفاس، واستحاضة.
فالحيض: لغة؛ السيلان، وشرعاً: دم من رحم امرأة سليمة عن داء.
(أقل الحيض ثلاثة أيام ولياليها) الثلاث؛ فالإضافة لبيان العدد المقدر بالساعات الفلكية لا للاختصاص؛ فلا يلزم كونها ليالي تلك الأيام، فلو رأته في أول النهار تكمل كل يوم بالليلة المستقبلة (وما نقص عن ذلك فليس بحيض، و) إنما (هو استحاضة) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة أيام ولياليها، وأكثره عشرة أيام" (1) ،
وعن أبي يوسف يومان وأكثر الثالث، إقامة للأكثر مقام الكل، قلنا: هذا نقص عن تقدير الشرع، هداية (وأكثره عشرة أيام و) عشر لياليها، وما زاد على ذلك فهو استحاضة) ؛ لأن تقدير الشرع يمنع إلحاق غيره به (وما تراه المرأة من الحمرة) والسواد، إجماعاً (والصفرة والكدرة) والتربية، على الأصح (في أيام الحيض فهو حيض حتى ترى البياض الخالص)
_________
(1) ذكر في الفتح هذا الحديث وغيره بروايات عدة وحكم عليها بالضعف ولكنه قال إن تعدد طرق الضعيف برفعه إلى مرتبة الحسن وروى هذا المعنى عن بعض الصحابة ثم قال إن المقدرات الشرعية لا تدرك بالرأي فالحديث في حكم المرفوع وناقش غير الأحناف في اعتبار أكثره خمسة عشر فراجعه

(1/42)


والحيض يسقط عن الحائض الصلاة، ويحرم عليها الصوم، وتقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، ولا تدخل المسجد، ولا تطوف بالبيت، ولا يأتيها زوجها.
ولا يجوز لحائضٍ ولا جنبٍ قراءة القرآن. ولا يجوز لمحدثٍ مس المصحف إلا أن يأخذه بغلافه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قيل: هو شيء يشبه المخاط يخرج عند انتهاء الحيض. وقيل: هو القطن الذي تختبر المرأة نفسها إذا خرج أبيض فقد طهرت جوهرة.
(والحيض يسقط عن الحائض الصلاة) لأن في قضائها حرجا لتضاعفها (ويحرم عليها الصوم) لأنه ينافيه، ولا يسقطه؛ لعدم الحرج في قضائه، ولذا قال: (وتقضي) أي الحائض والنفساء (الصوم ولا تقضي الصلاة، ولا تدخل) الحائض وكذا النفساء والجنب (المسجد، ولا تطوف بالبيت، ولا يأتيها زوجها) لحرمة ذلك كله (1) .
(ولا يجوز لحائض) ولا نفساء (ولا جنب قراءة القرآن) وهو بإطلاقه يعم الآية وما دونها، وقال الطحاوي: يجوز لهم ما دون الآية، والأول أصح، قالوا: إلا أن لا يقصد بما دون الآية القراءة، مثل أن تقول: "الحمد لله" يريد الشكر أو "بسم الله" عند الأكل أو غيره، فإنه لا بأس به؛ لأنهما لا يمنعان من ذكر الله، جوهرة، (و) كذا (لا يجوز) لهم ولا (لمحدث مس المصحف) ولا حمله (إلا أن يأخذه بغلافه) المتجافي كالجراب والخريطة، بخلاف المتصل به كالجلد
_________
(1) روى الشيخان عن عائشة أنها سئلت من بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت كنا نؤمن بذلك ورد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب وإن حرمة الوطء ففي القرآن الكريم"

(1/43)


وإذا انقطع دم الحيض لأقل من عشرة أيامٍ لم يجز وطؤها حتى تغتسل، أو يمضي عليها وقت صلاةٍ كاملٌ، فإن انقطع دمها لعشرة أيامٍ جاز وطؤها قبل الغسل.
والطهر إذا تخلل بين الدمين في مدة الحيض فهو كالدم الجاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المشرز، هو الصحيح، وكذا لا يجوز له وضع الأصابع على الورق الكتوب فيه؛ لأنه تبع له، وكذا مس شيء مكتوب فيه شيء من القرآن من لوح أو درهم أو غير ذلك، إذا كان آية تامة، إلا بصرته، وأما كتب التفسير فلا يجوز له مس موضع القرآن منها، وله أن يمس غيره، بخلاف المصحف؛ لأن جميع ذلك تبع له، والكل من الجوهرة.
(وإذا انقطع دم الحيض لأقل من عشرة أيام) ولو لتمام عادتها (لم يجز) أي لم يحل (وطؤها حتى تغتسل) أو تتيمم بشرطه، وإن لم تصل به الأصح، جوهرة (أو يمضي عليها وقت صلاة كامل) بأن تجد من الوقت زمناً يسع الغسل ولبس الثياب والتحريمة وخرج الوقت ولم تصل؛ لأن الصلاة صارت ديناً في ذمتها؛ فطهرت حكماً، ولو انقطع الدم لدون عادتها فوق الثلاث لم يقربها حتى تمضي عادتها وإن اغتسلت؛ لأن العود في العادة غالب، فكان الاحتياط في الاجتناب، هداية (فإن انقطع دمها لعشرة أيام جاز وطؤها قبل الغسل) ؛ لأن الحيض لا مزيد له على العشرة إلا أنه لا يستحب قبل الغسل؛ للنهي في القراءة بالتشديد هداية.
(والطهر إذا تخلل بين الدمين في مدة الحيض فهو كالدم الجاري) المتوالي، وهذا إحدى الروايات عن أبي حنيفة، ووجه استيعاب الدم مدة الحيض ليس بشرط بالإجماع؛ فيعتبر أوله وآخره كالنصاب في الزكاة، وعن أبي يوسف - وهو رواية عن أبي حنيفة، وقيل: هو آخر أقواله - أن الطهر إذا كان أقل من خمسة عشر يوماً

(1/44)


وأقل الطهر خمسة عشر يوماً ولا غاية لأكثره.
ودم الاستحاضة هو ما تراه المرأة أقل من ثلاثة أيامٍ أو أكثر من عشرة أيامٍ؛ فحكمه حكم الرعاف الدائم: لا يمنع الصوم، ولا الصلاة، ولا الوطء،
وإذا زاد الدم على عشرة أيامٍ وللمرأة عادةٌ معروفةٌ ردت إلى أيامها عادتها، وما زاد على ذلك فهو استحاضةٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يفصل وهو كالدم المتوالي؛ لأنه طهر فاسد؛ فيكون بمنزلة الدم والأخذ بهذا القول أيسر هداية. قال في السراج: وكثير من المتأخرين أفتوا به، لأنه أسهل على المفتي والمستفتي، وفي الفتح وهو الأولى.
(وأقل الطهر) الفاصل بين الحيضتين أو النفاس والحيض (خمسة عشر يوماً) وخمس عشرة ليلة، وأما الفاصل بين النفاسين فهو نصف حول؛ فلو كان أقل من ذلك توأمين، والنفاس من الأول فقط (ولا غاية لأكثره) وإن استغرق العمر. قهستاني.
(ودم الاستحاضة) و (هو ما تراه المرأة أقل من ثلاثة أيام أو أكثر من عشرة أيام) في الحيض، أو أكثر من أربعين في النفاس، وكذا ما زاد على العادة وجاوز أكثرهما كما يأتي بعده، وما تراه صغير وحامل وآيسة مخالفاً لعادتها قبل الإياس (فحكمه حكم الرعاف) الدائم (لا يمنع الصوم ولا الصلاة ولا الوطء) لحديث؛ "توضئ وصلي وإن قطر الدم على الخصير" وإذا عرف حكم الصلاة عرف حكم الصوم والوطء بالأولى؛ لأن الصلاة أحوج إلى الطهارة.
(وإذا زاد الدم على عشرة أيام وللمرأة عادة معروفة ردت إلى عادتها) المعروفة (وما زاد على ذلك فهو استحاضة) فتقضي ما تركت من الصلاة بعد العادة.
قيد بالزيادة على العشرة لأنه إذا لم يتجاوز العشرة يكون المرئي كله حيضاً وتنتقل

(1/45)


وإن ابتدأت مع البلوغ مستحاضةً فحيضها عشرة أيامٍ من كل شهرٍ، والباقي استحاضةٌ.
والمستحاضة، ومن به سلس البول، والرعاف الدائم، والجرح الذي لا يرقأ - يتوضئون لوقت كل صلاةٍ؛ فيصلون بذلك الوضوء في الوقت ما شاءوا من الفرائض والنوافل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العادة إليه.
(وإن ابتدأت) المرأة (مع البلوغ مستحاضة) واستمر بها الدم (فحيضها عشرة أيام من كل شهر) من أول ما رأت (والباقي) : أي عشرون يوماً (استحاضة) وهكذا دأبها: عشرة حيض، وعشرون استحاضة، وأربعون نفاس، حتى تطهر أو تموت، قال السرخسي في المبسوط: المبتدأة حيضها من أول ما رأت عشرة، وطهرها عشرون، إلى أن تموت أو تظهر. اهـ. ومثله في عامة المعتبرات، ونقل العلامة نوح أفندي الاتفاق عليه؛ فما نقله الشرنبلالي في شرح مختصره خلاف الصحيح، فتنبه، وإن كانت الممتدة الدم معتادة ردت لعادتها حيضا وطهراً؛ إلا إذا كانت عادتها في الطهر ستة أشهر فأكثر فتردد إلى ستة أشهر إلا ساعة؛ فرقاً بين الطهر والحبل، وإن نسيت عادتها فهي المحيرة، والكلام عليها مستوفى في المطولات، وقد استوفينا الكلام عليها في رسالتنا في الدماء المسماة بالمطالب المستطابة في الحيض والنفاس والاستحاضة، فمن رام استيفاء الكلام وشفاء الأوام فعليه بها فإنها وافية المرام.
(والمستحاضة ومن) بمعناها كمن (به سلس البول والرعاف الدائم والجرح الذي لا يرقأ) دمه: أي لا يسكن، واستطلاق البطن، وانفلات الريح، ودمع العين إذا كان يخرج عن علية، وكذا كل ما يخرج عن علة، ولو من أذن أو ثدي أو سرة (يتوضئون لوقت كل صلاة) مفروضة، حتى لو توضأ المعذور لصلاة العيد له أن يصلي الظهر به عندهما، وهو الصحيح هداية.
(فيصلون بذلك الوضوء في الوقت ما شاءوا من الفرائض) والواجبات أداء وقضاء (والنوافل،

(1/46)


فإذا خرج الوقت بطل وضوءهم، وكان عليهم استئناف الوضوء لصلاةٍ أخرى.
والنفاس هو الدم الخارج عقيب الولادة، والدم الذي تراه الحامل وما تراه المرأة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا خرج الوقت بطل وضوءهم) : أي ظهر الحدث السابق (وكان عليهم استئناف الوضوء لصلاة أخرى) ولا يبطل وضوءهم قبل خروج الوقت، إلا إذا طرأ حدث آخر مخالف لعذرهم، وإنما قلنا: "ظهر الحدث السابق" لأن خروج الوقت ليس بناقض، لكن لما كان الوقت مانعاً من ظهور الحدث دفعاً للحرج فإذا خرج زال المانع، فظهر الحدث السابق، حتى لو توضأ المعذور على انقطاع ودام إلى خروج الوقت لم يبطل؛ لعدم حدث سابق. ثم يشترط لثبوت العذر أن يستوعبه العذر. تمام وقت صلاة مفروضة، وذلك بأن لا يجد في جميع وقتها زمناً يتوضأ ويصلي فيه خالياً عن العذر ولو بالاقتصار على المفروض، وهذا شرط ثبوت العذر في الابتداء، ويكفي في البقاء في كل وقت، ولو مرة، وفي الزوال يشترط استيعاب الانقطاع وقتاً كاملاً بأن لا يوجد في جزء منه أصلاً.
تنبيه - لا يجب على المعذور غسل الثوب ونحوه، إذا كان بحال لو غسله تنجس قبل الفراغ من الصلاة.
خاتمة - يجب رد عذر المعذور إن كان يرتد، وتقليه بقدر الإمكان إن كان لا يرتد، قال في البحر: ومتى قدر المعذور على رد السيلان برباط أو حشو أو كان لو جلس لا يسيل ولو قام سال - وجب رده، وخرج عن أن يكون صاحب عذر، ويجب عليه أن يصلي جالساً بالإيماء إن كان يسيل بالميلان؛ لأن ترك السجود أهون من الصلاة مع الحدث اهـ.
(والنفاس هو الدم الخارج عقيب الولادة) ولو بخروج أكثر الولد، ولو متقطعاً عضواً عضواً (والدم الذي تراه) المرأة (الحامل وما تراه المرأة

(1/47)


في حال ولادتها قبل خروج الولد استحاضةٌ، وأقل النفاس لا حد له، وأكثره أربعون يوماً، وما زاد على ذلك فهو استحاضةٌ، وإذا تجاوز الدم الأربعين، وقد كانت هذه المرأة ولدت قبل ذلك ولها عادةٌ في النفاس ردت إلى أيام عادتها، وإن تكن لها عادةٌ فابتداء نفاسها أربعون يوماً، ومن ولدت ولدين في بطنٍ واحدٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(في حال ولادتها قبل خروج الولد) أو أكثره (استحاضة) فتتوضأ إن قدرت أو تتيمم وتومئ بصلاة ولا تؤخر، فما عذر الصحيح القادر؟ در (وأقل النفاس لا حد له) ؛ لأن تقدم الولد علامة الخروج من الرحم، فأغنى عن امتداد يجعل علماً عليه، بخلاف الحيض (وأكثره أربعون يوماً) لحديث الترمذي وغيره (1) (وما زاد على ذلك فهو استحاضة) لو مبتدأة وأما المعتادة فحكمها كما ذكره بقوله: (وإذا تجاوز الدم الأربعين وقد كانت هذه المرأة ولدت قبل ذلك ولها عادة في النفاس ردت إلى أيام عادتها) فتقضي ما تركت من الصلاة بعد العادة كما مر في الحيض (وإن لم تكن لها عادة) معروفة (فابتداء نفاسها أربعون يوماً) ؛ لأنه ليس لها عادة ترد إليها فأخذ لها بالأكثر؛ لأنه المتيقن (ومن ولدت ولدين) أو أكثر (في بطن) : أي حمل (واحد) وذلك بأن يكون بينهما أقل من ستة أشهر. ولو ولدت أولاداً بين كل ولدين أقل من ستة أشهر، وبين الأول والثالث أكثر - جعله بعضهم من بطن واحد، منهم أبو علي الدقاق. قهستاني؛ قال في الدر: وهو الأصح
_________
(1) روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أم سلمة قالت: كانت النفساء تقعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً. وروى ابن ماجة والدارقطني عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت للنفساء أربعين يوماً، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك

(1/48)


فنفاسها ما خرج من الدم عقيب الولد الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد وزفرٌ: نفاسها ما خرج من الدم عقيب الولد الثاني.

باب الأنجاس.
- تطهير النجاسة واجبٌ من بدن المصلي وثوبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فنفاسها ما خرج من الدم عقيب الولد الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف) ؛ لأنه ظهر إنفتاح الرحم، فكان المرئي عقيبه نفاساً، ثم تراه عقيب الثاني إن كان قبل الأربعين فهو نفاس للأول لتمامها واستحاضة بعدها؛ فتغتسل وتصلي، وهو الصحيح. بحر عن النهاية. (وقال محمد وزفر) رحمهما الله (نفاسها ما خرج من الدم عقيب الولد الثاني) ؛ لأن حكم النفاس عندهما تعلق بالولادة كانقضاء العدة، وهي بالأخير اتفاقاً؛ قال في التصحيح. والصحيح هو القول الأول، واعتمده الأئمة المصححون.
باب الأنجاس
لما فرغ من بيان النجاسة الحكمية والطهارة عنها، شرع في بيان الحقيقة، ومزيلها، وتقسيمها، ومقدار المعفو عنه منها، وكيفية تطهير محلها وقدمت الأولى لأنها أقوى. إذ بقاء القليل منها يمنع جواز الصلاة بالاتفاق.
والأنجاس: جمع نجس بكسر الجيم - كما ذكره تاج الشريعة، لا جمع نجس بفتحتين كما وقع لكثير؛ لأنه لا يجمع، قال في العباب: النجس ضد الطاهر، والنجاسة ضد الطهارة وقد نجس ينجس، كسمع يسمع، وكرم يكرم، وإذا قلت: رجل نجس - بكسر الجيم - ثنيت وجمعت، وبفتحها لم تثن ولم تجمع، وتقول: رجل ورجلان ورجال وامرأة ونساء نجس اهـ. وتمامه في شرح الهداية للعيني.
(تطهير النجاسة) : أي محلها (واجب) : أي لازم (من بدن المصلي وثوبه

(1/49)


والمكان الذي يصلي عليه.
ويجوز تطهير النجاسة بالماء، وبكل مائعٍ طاهرٍ يمكن إزالتها به كالحل وماء الورد.
وإذا أصابت الخف نجاسةٌ ولها جرمٌ فجفت فدلكه بالأرض جاز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمكان الذي يصلي عليه) لقوله تعالى: {وثيابك فطهر} وإذا وجب تطهير الثوب وجب في البدن والمكان، لأن استعمال في حال الصلاة يشمل الكل (1) .
(ويجوز تطهير النجاسة بالماء، وبكل مانع) أي سائل (طاهر) قالع للنجاسة كما عبر عنه بقوله (يمكن إزالتها به) بأن ينعصر بالعصر، وذلك (كالخل وماء الورد) والماء المستعمل ونحو ذلك كالمستخرج من البقول، لأنه قالع ومزيل، والطهورية بالقلع والإزالة للنجاسة الجاورة، فإذا انتهت أجزاء النجاسة يبقى طاهراً بخلاف نحو لبن وزيت، لأنه غير قالع.
(وإذا أصابت الخف) ونحوه كنعل (نجاسة لها جرم) بالكسر - الجسد، والمراد به كل ما يرى بعد الجفاف كالروث والعذرة والمنى، ولو من غيرها كخمر وبول أصابه تراب، به يفتي. در (فجفت) النجاسة (فدلكه) : أي الخف ونحوه (بالأرض) ونحوها (جاز) ، لأن الجلد لصلابته لا تتداخله أجزاء النجاسة
_________
(1) المقرر في الفقه أن وجوب إزالة النجاسة بشروط بالأمكان أولاً، وبألا يستلزم ارتكاب محظور أشد. ثانياً: كما إذا لم يتمكن من إزالتها إلا بإبداء عورته للناس فإنه في هذه الحال يصلي بالنجاسة لأن كشف العورة أشد فلو أبدأها للإزالة فسق، راجع فتح القدير وهناك دليل من السنة لإزالة النجاسة على سبيل الوجوب وهو حديث صحيح أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن دم الحيض في ثوب المرأة فقال: "تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه" وفي رواية أبي داود حكيه بطلع واغسليه بماء وسدر

(1/50)


والمني نجسٌ يجب غسل رطبه، فإذا جف على الثوب أجزأ فيه الفرك.
والنجاسة إذا أصابت المرآة أو السيف اكتفي بمسحهما.
وإذا أصابت الأرض نجاسةٌ فجفت بالشمس وذهبت أثرها جازت الصلاة بمكانها، ولا يجوز التيمم منها.
ومن أصابه من النجاسة المغلظة كالدم والبول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا قليل ثم يحتذبه الجرم إذا جف، فإذا زال زال ما قام به. وفي الرطب لا يجوز حتى يغسله، لأن المسح بالأرض يكثر، ولا يطهره هداية.
(والمني نجس) نجاسة مغلظة (يجب غسل رطبه، وإذا جف على الثوب) ولو جديداً مبطناً، وكذا البدن في ظاهر الرواية (أجزأ فيه الفرك) لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "فاغسليه إن كان رطباً، وافركيه إن كان يابساً".
(والنجاسة إذا أصابت المرآة أو السيف اكتفي بمسحهما) بما يزول به أثرها ومثلهما كل ثقيل لا مسام له؛ كزجاج وعظم وآنية مدهونة وظفر، لأنه لا يداخله النجاسة؛ وما على ظاهره يزول بالمسح.
(وإذا أصابت الأرض نجاسة فجفت بالشمس) أو نحوها؛ قال في الجوهرة: التقييد بالشمس ليس بشرط، بل لو جفت بالظل فالحكم كذلك. اهـ. (وذهب أثرها) الأثر: اللون والطعم والرائحة (جازت الصلاة على مكانها، و) لكن (لا يجوز التيمم منها) ؛ لأن المشروط للصلاة الطهارة، وللتيمم الطهورية، وحكم آجر مفروش وشجر وكلاً قائمين في الأرض كذلك، فيطهر بالجفاف.
(ومن أصابه من النجاسة المغلظة كالدم والبول) من غير مأكول اللحم ولو

(1/51)


والغائط والخمر مقدار الدرهم فما دونه جازت الصلاة معه، فإن زاد لم تجز، وإن أصابته نجاسةٌ مخففةٌ كبول ما يؤكل لحمه جازت الصلاة معه، ما لم يبلغ ربع الثوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من صغير لم يطعم (والغائط والخمر) وخرء الطير لا يزرق في الهواء كذجاج وبط وإوز (مقدار الدرهم فما دونه جازت الصلاة معه: لأن القليل لا يمكن التحرز عنه؛ فيجعل عفواً، وقدرناه بقدر الدرهم أخذاً عن موضع الاستنجاء (فإن زاد) عن الدرهم (لم تجز) الصلاة، ثم يروى اعتبار الدرهم من حيث المساحة، وهو قدر عرض الكف في الصحيح، ويروى من حيث الوزن، وهو الدرهم الكبير المثقال، وقيل في التوفيق بينهما: إن الأولى في الرقيق، والثانية في الكثيف، وفي الينابيع: وهذا القول أصح، وفي الزاهدي قيل: هو الأصح، واختاره جماعة، وهو أولى؛ لما فيه من إعمال الروايتين مع مناسبة التوزيع (وإن أصابته نجاسة مخففة كبول ما يؤكل لحمه) ومنه الفرس، وقيد بالبول لأن نجاسة البعر والروث والخشى غليظ عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: خفيفة، قال الشرنبلالي: وهو الأظهر؛ لعموم البلوى بامتلاء الطرق بها، وطهرها محمد آخرا، وقال: لا يمنع الروث وإن فحش؛ لما رأى من بلوى الناس من امتلاء الطرق والخانات بها لما دخل الري مع الخليفة، وقاس المشايخ عليه طين بخارى؛ لأن ممشى الناس والدواب واحد. اهـ. (جازت الصلاة معه ما لم يبلغ ربع) جميع (الثوب) يروى ذلك عن أبي حنيفة لأن التقدير فيه بالكثير الفاحش، والربع ملحق بالكل في حق بعض الأحكام هداية. وصححه في المبسوط، وهو ظاهر ما مشى عليه أصحاب المتون، وقيل: ربع الموضع الذي أصابه كالذيل والكم والدخريص، إن كان المصاب ثوبا. وربع العضو المصاب كاليد والرجل، إن كان بدناً وصححه في التحفة والمحيط والمجتبى والسراج، وفي الحقائق: وعليه الفتوى، وقيل: ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر، قال الأقطع: وهذا أصح ما روى فيه اهـ. فقد اختلف التصحيح كما ترى، لكن ترجح الثاني بأن الفتوى عليه، وهو الأحوط، فتنبه، قال في الفتح: وقوله

(1/52)


وتطهير النجاسة التي يجب غسلها على وجهين: فما كان له منها عينٌ مرئيةٌ فطهارتها زوال عينها، إلا أن يبقى من أثرها ما يشق إزالته، وما ليس له عينٌ مرئيةٌ فطهارتها أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- يعني صاحب الهداية - لأن التقدير فيه بالكثير الفاحش يفيد أن أصل المروي عن أبي حنيفة ذلك على ما هو دأبه في مثله من عدم التقدير؛ فما عد فاحشاً منع، وما لا فلا اهـ. وإنما عدلوا عن التعبير بالكثير الفاحش إلى التقدير بالربع تيسيراً على الناس، سيما من لا رأي له من العوام، كما مر على نظيره الكلام، وبه ظهر الجواب عما إذا أصاب الثوب أو البدن من النجس المخفف المتجسد مقدار كثير، إلا أنه لتراكمه لا يبلغ الربع، فهل يمنع؟ وما القدر المانع؟ ولا شك أنه إذا كان كثيراً فاحشاً يمنع وإن لم يبلغ الربع لتراكمه؛ لما علمت أنه أصل المروي عن الإمام، ويحد القدر المانع فيه تيسيراً بأنه إن كان بحيث لو كان مائعاً بلغ الربع منع، وإلا فلا.
(وتطهير) محل (النجاسة التي يجب غسلها على وجهين) ، لأن النجاسة إما أن تكون لها عين مرئية أو لا (فما كان له منها عين مرئية) كالدم (فطهارتها) أي النجاسة، والمراد محلها (زوال عينها) ولو بمرة على الصحيح، وعن الفقيه أبي جعفر أنه يغسل مرتين بعد زوال العين، إلحاقاً لها بغير مرئية غسلت مرة (إلا أن يبقى من أثرها) كلون أو ريح (ما يشق إزالته) فلا يضر بقاؤه، ويغسل إلى أن يصفو الماء، على الراجح، والمشقة: أن يحتاج في إزالته إلى غير الماء القراح كحرض أو صابون أو ماء حار (وما ليس له عين مرئية) كالبول (فطهارتها أن يغسل) : أي محل النجاسة (حتى يغلب على ظن الغاسل أنه) أي المحل (قد طهر) لأن الكرار لابد منه للاستخراج، ولا يقطع بزواله، فاعتبر غالب الظن، كما في أمر القبلة، وإنما قدروا بالثلاث لأن غالب الظن يحصل عنده؛ فأقيم السبب الظاهر مقامه تيسيراً، ويتأيد ذلك بحديث المستيقظ من منامه ثم لابد من الصر في كل

(1/53)


والاستنجاء سنةٌ، يجزئ فيها الحجر وما يقوم مقامه يمسحه حتى ينقيه، وليس فيه عددٌ مسنونٌ، وغسله بالماء أفضل، فإن تجاوزت النجاسة مخرجها لم يجز فيه إلا الماء. ولا يستنجي بعظم ولا بروثٍ ولا بطعامٍ ولا بيمينه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مرة في ظاهر الرواية، لأنه هو المستخرج. هداية (1) .
(والاستنجاء سنة) مؤكدة للرجال والنساء (يجزئ فيه) لإقامة السنة (الحجر وما قام مقامه) من كل عين طاهرة قالعة غير محترمة ولا متقومة كمدر (يمسحه) أي المخرج (حتى ينقيه) لأن المقصود هو الإنقاء؛ فيعتبر ما هو المقصود (وليس فيه) أي الاستنجاء (عدد مسنون) بل مستحب؛ فيستحب الثلاث إن حصل التنظيف بما دونها، وإلا جعلها وتراً (وغسله) أي المخرج (بالماء) بعد الإنقاء بالحجر أولاً (أفضل) إذا كان بلا كشف عورة عند من يراه، أما معه فيتركه؛ لأنه حرام يفسق به فلا يرتكبه لإقامة الفضيلة (فإن تجاوزت النجاسة مخرجها) وكان المتجاوز بانفراده لسقوط اعتبار ذلك الموضع أكثر من الدرهم (لم يجز فيه) أي في طهارته (إلا الماء) أو المائع، ولا يطهر بالحجر؛ لأنه من باب إزالة النجاسة الحقيقية عن البدن (ولا يستنجي بعظم ولا بروث) لورود النهي عنه (ولا بطعام) لآدمي أو بهيمة؛ لأنه إتلاف وإهانة (ولا بيمينه) لورود النهي عنه أيضاً، إلا من عذر باليسرى يمنع الاستنجاء بها.
_________
(1) هذا في يعصر وقال أبو يوسف إزار الحمام إذا صب عليه ماء كثير وهو عليه يطهر بلا عصر حتى قال الحلواني لو كانت النجاسة دماً أو بولاً وصب عليه ماء كفاه على قياس قول أبي يوسف وقالوا في البساط النجس إذا جعل في نهر ليلة طهر

(1/54)