اللباب في شرح الكتاب

كتاب الصوم (1) .
- الصوم ضربان: واجبٌ ونفلٌ؛ فالواجب ضربان: منه ما يتعلق بزمانٍ بعينه كصوم رمضان والنذر المعين؛ فيجوز صومه بنيةٍ من الليل، فإن لم ينو حتى أصبح أجزأته النية ما بينه وبين الزوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الصوم
عقب الزكاة بالصوم اقتداء بالحديث، كما مر.
(الصوم) لغة: الإمساك مطلقاً، وشرعاً: الإمساك عن المفطرات حقيقة أو حكماً في وقت مخصوص بنية من أهلها.
وهو (ضربان؛ واجب ونفل) قد يطلق الواجب ويراد به ما يقابل النفل كما هنا، وقد يطلق ويراد به ما يقابل الفرض والنفل معاً، فيكون واسطة بينهما كما يأتي في قوله؛ (صوم رمضان فريضة) و (صوم المنذور واجب) (فالواجب ضربان: منه ما يتعلق بزمان بعينه) وذلك كصوم رمضان والنذر المعين) زمانه (فيجوز صومه بنية من الليل) وهو الأفضل؛ فلا تصح قبل الغروب ولا عنده (فإن لم ينو حتى أصبح أجزأته النية ما بينه) : أي الفجر (وبين الزوال) وفي
_________
(1) فرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بدر وكانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر وعاشوراء قبل ذلك وهو أهم العبادات الروحية في الإسلام بعد الصلاة وأثره في التهذيب جليل وهذا يستعين به الصوفية والأطباء في الإصلاح النفسي والبدني وقد شرعه الله سبحانه في جميع الشرائع وحثت عليه السنة في كثير من الأحاديث وقال إنه لا عدل له في العبادات أي لا نظير له في التقريب إلى الله فإن تعذيب النفس وحرمانها ابتغاء مرضاة الله معنى جليل يحبه الله ورسوله

(1/162)


والضرب الثاني: ما يثبت في الذمة، كقضاء رمضان والنذر المطلق والكفارات؛ فلا يجوز إلا بنية من الليل، والنفل كله يجوز بنية قبل الزوال.
وينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان، فإن رأوه صاموا، وإن غم عليهم أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صاموا، ومن رأى هلال رمضان وحده صام، وإن لم يقبل الإمام شهادته، وإذا كان بالسماء علةٌ قبل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجامع الصغير: قبل نصف النهار، وهو الأصح، لأنه لابد من وجود النية في أكثر النهار؛ ونصفه من وقت طلوع الفجر إلى وقت الضحوة الكبرى، فيشترط النية قبلها، لتحقق في الأكثر؛ ولا فرق بين المسافر والمقيم، خلافاً لزفر. هداية.
(والضرب الثاني: ما يثبت في الذمة) من غير تقييد بزمان، وذلك (كقضاء رمضان) وما أفسده من نفل (والنذر المطلق و) صوم الكفارات، فلا يجوز) صوم ذلك (إلا بنية) معينة (من الليل) ، لعدم تعين الوقت، والشرط؛ أن يعلم بقلبه أي صوم يصومه، ثم رمضان يتأدى بمطلق النية، وبنية النفل وواجب آخر (والنفل كله) مستحبه ومكروهه (يجوز بنية قبل الزوال) أي قبل نصف النهار؛ كما مر.
(وينبغي للناس) : أي يجب. جوهرة (أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان) وكذا هلال شعبان لأجل إكمال العدة (فإن رأو صاموا وإن غم عليهم أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صاموا) ؛ لأن الأصل بقاء الشهر، فلا ينتقل عنه إلا بدليل، ولم يوجد (ومن رأى هلال رمضان وحده صام وإن لم يقبل الإمام شهادته) لأنه متعبد بما علمه؛ وإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة لشبهة الرد (وإن كان بالسماء علة) من غيم أو غبار ونحوه (قبل

(1/163)


الإمام شهادة الواحد العدل في رؤية الهلال رجلاً كان أو امرأةً حراً كان أو عبداً، فإن لم يكن بالسماء علةٌ لم تقبل شهادته حتى يراه جمعٌ كثيرٌ يقع العلم بخبرهم.
ووقت الصوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإمام شهادة الواحد العدل) وهو الذي غلبت حسناته سيئاته؛ والمستور في الصحيح كما في التجنيس والبزازية، قال الكمال: وبه أخذ شمس الأئمة الحلواني (في رؤية الهلال رجلا كان أو امرأة حراً كان أو عبداً) ، لأنه أمر ديني فأشبه رواية الأخبار، ولهذا لا يختص بلفظ الشهادة، وتشترط العدالة، لأن قول الفاسق في الديانات غير مقبول، وتأويل قول الطحاوي "عدلا أو غير عدل" أن يكون مستوراً، وفي إطلاق دواب الكتاب يدخل المحدود في القذف بعد ما تاب، وهو ظاهر الرواية، لأنه خبر ديني، وعن أبي حنيفة أنه لا تقبل، لأنه شهادة من وده اهـ. هداية (فإن لم يكن بالسماء علة لم تقبل الشهادة حتى يراه) ويشهد به (جمع كثير يقع العلم) الشرعي، وهو غلبة الظن (بخبرهم) ، لأن المطلع متحد في ذلك المحل (والموانع منتفية، والأبصار سليمة، والهمم في طلب الهلال مستقيمة، فالتفرد بالرؤية، من بين الجم الغفير - مع ذلك - ظاهر في غلط الرأي، قال في التصحيح:) لم يقدر الجمع الكثير في ظاهر الرواية، واختلف فيه، قال بعضهم: ذاك مفوض إلى رأى الإمام والقاضي، وفي زاد الفقهاء للإسبيجاني: الصحيح أن يكونوا من نواح شتى. اهـ. وذكر الشرنبلالي وغيره تبعاً للمواهب أن الأصح رواية تفويضه إلى رأي الإمام، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه تقبل فيد شهادة رجلين أو رجل وامرأتين وإن لم يكن في السماء علة، قال في البحر؛ ولم أر من رجح هذه الرواية، وينبغي العمل عليها في زماننا، لأن الناس تكاسلوا عن ترائي الأهلة، فكان التفرد غير ظاهر في غلط. اهـ.
(ووقت الصوم من حين طلوع الفجر الثاني) الذي يقال له الصادق (إلى غروب

(1/164)


الشمس.
والصوم هو: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع نهاراً مع النية، فإن أكل الصائم أو شرب أو جامع ناسياً لم يفطر، وإن نام فاحتلم أو نظر إلى امرأةٍ فأنزل أو ادهن أو احتجم أو اكتحل أو قبل لم يفطر (1) . فإن أنزل بقبلةٍ أو لمس فعليه القضاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشمس) ؛ لقوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} إلى أن قال: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} (2) والخيطان: بياض النهار وسواد الليل.
(والصوم) شرعاً (هو الإمساك) حقيقة أو حكماً (عن) المفطران (الأكل والشرب والجماع نهاراً مع النية) من أهلها، كما مر (فإن أكل الصائم أو شرب أو جامع ناسياً لم يفطر) ، لأنه ممسك حكماً، لأن الشارع أضاف الفعل إلى الله تعالى حيث قال للذي أكل وشرب: "تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك" فيكون الفعل معدوماً من العبد، فلا ينعدم الإمساك (وإن نام فاحتلم أو نظر إلى امرأة) أو تفكر بها وإن أدامها (فأنزل، أو ادهن أحتجم أو اكتحل) وإن وجد طعمه في حلقه (أو قبل) ولم ينزل (لم يفطر) ، لعدم المنافي صورة ومعنى (فإن أنزل بقبلة أو لمس فعليه القضاء) لوجود المنافي معنى - وهو الإنزال بالمباشرة - دون
_________
(1) روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم وقيل لأنس أكنتم تكرهون الحجامة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا إلا من أجل الضعف وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل ويباشر وهو صائم وفيهما عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم وروى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجل عن المباشرة للصائم فرخص له وسأله آخر فلم يرخص له فإذا الذي رخص له شاب وإذا الذي نهاه شيخه والشافعي رخص للصائم مطلقا ويرده هذا الحديث وأن القبلة والمباشرة لا يحرم كل منهما لذامة بل لمعنى خوف الافساد فإن لم يوجد فلا شيء.
(2) من الآية 184 من سورة البقرة

(1/165)


ولا بأس بالقبلة إذا أمن على نفسه. ويكره إن لم يأمن، وإن ذرعه القيء لم يفطر، وإن استقاء عامداً ملء فيه فعليه القضاء (1) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكفارة لقصور الجناية، ووجوب الكفارة بكمال الجناية، لأنها تندرئ بالشبهة كالحدود (ولا بأس بالقبلة إذا أمن على نفسه) الجماع والإنزال (ويكره إن لم يأمن) ، لأن عينه ليس بفطر، وربما يصير فطرا بعاقبته، فإن أمن اعتبر عينه وأبيح له، وإن لم يأمن تعتبر عاقبته وكره. هداية (وإن ذرعه) أي سبقه وغلبه (القيء) بلا صنعه ولو ملء فيه (لم يفطر) وكذا لو عاد بنفسه وكان دون ملء الفم، اتفاقاً، وكذا ملء الفم عند محمد وصححه في الخانية، خلافاً لأبي يوسف. وإن أعاده وكان ملء الفم فسد، اتفاقاً، وكذا دونه عند محمد خلافاً لأبي يوسف. والصحيح في هذا قول أبي يوسف خانية (وإن استقاء عامداً) : أي تعمد خروج القيء، وكان (ملء فيه فعليه القضاء) دون الكفارة، قال في التصحيح: قيد بملء الفم لأنه إذا كان أقل لا يفطر عند أبي يوسف، واعتمده المحبوبي، وقال في الاختيار وهو الصحيح، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، وإن كان في ظاهر الرواية
_________
(1) أخرج أصحاب السنن الأربعة واللفظ للترمذي أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء عامدا فليقض" والتفصيل الفقهي على مقيض الدليل أن القيء: ما أن يزرعه أو يستقيئه وكل منهما إما ملء الفم أو دونه والكل إما أن يخرج أو يعود أو يعيده فإن ذرعه وخرج لا يفطر قل أو كثر وإن عاد نفسه وهو ملء الفم فسد صومه عند أبي يوسف وعند محمد لا يفسد وهو الصحيح لأنه لم يوجد صورة الإفطار ولا معناه وأقل محرفيه الإعادة قل أو كثر وإن أعاد فسد بالاتفاق بينهما وإن كان أقل من ملء الفم فعاد لم يفسد لم يفسد بالإتفاق وإن أعاده لم يفسد عند أبي يوسف ويفسد عند محمد لوجود الصغ وإن استقاء عمد أو خرج إن كان ملء الفم فسد بالإجماع وإن كان أقل أفطر عند محمد ولا يفطر عند أبي يوسف وإن عاد بنفسه وإن أعاده فعنه روايتان

(1/166)


ومن ابتلع الحصاة أو الحديد أفطر.
ومن جامع عامداً في أحد السبيلين أو أكل أو شرب ما يتغذى به أو يتداوى به فعليه القضاء والكفارة مثل كفارة الظهار، ومن جامع فيما دون الفرج فأنزل فعليه القضاء ولا كفارة عليه، وليس في إفساد الصوم في غير رمضان كفارةٌ، ومن احتقن أو استعط أو قطر في أذنيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يفصل؛ لأن ما دون ملء الفم تبع للريق كما لو تجشء. اهـ. وكذا لو عاد إلى جوفه؛ لأن ما دون ملء الفم ليس بخارج حكماً، وإن أعاده عن أبي يوسف فيه روايتان: في رواية لا يفسد لأنه لا يوصف بالخروج فلا يوصف بالدخول، وفي رواية يفسد فعله في الإخراج والإعادة قد كثر فصار ملحقاً بملء الفم. خانية (ومن ابتلع الحصاة أو الحديد) أو نحوهما، لا يأكله الإنسان أو يستقذره (أفطر) ؛ لوجود صورة المفطر، ولا كفارة عليه؛ لعدم المعنى.
(ومن جامع) آدمياً حياً (عامداً في أحد السبيلين) أنزل أو لا (أو أكل أو شرب ما يتغذى به أو يتداوى به فعليه القضاء والكفارة) ؛ لكمال الجناية بقضاء شهوة الفرج أو البطن (مثل كفارة الظهار) وستأتي في بابه (ومن جامع فيما دون الفرج) كتفخيذ وتبطين وقبلة ولمس، أو جامع ميتة أو بهيمة (فأنزل فعليه القضاء) ؛ لوجود معنى الجماع (ولا كفارة عليه) ؛ لانعدام صورته (وليس في إفساد صوم في غير رمضان كفارة) ؛ لأنها وردت في هنك حرمة رمضان فلا يلحق به غيره.
(ومن احتقن) وهو صب الدواء في الدبر (أو استعط) وهو صب الدواء في الأنف (أو أقطر في أذنيه) دهناً؛ بخلاف الماء فلا يفطر على ما اختاره في الهداية والتبيين وصححه في المحيط، وقال في الولواجية: إنه المختار، لكن فصل في الخانية

(1/167)


أو داوى جائفةً أو آمةً بداوء فوصل إلى جوفه أو دماغه أفطر (1) وإن أقطر في إحليله لم يفطر عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف يفطر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بأنه إن دخل لا يفسد وإن أدخله يفسد في الصحيح؛ لأنه وصل إلى الجوف بفعله اهـ. ومثله في البزازية، واستظهره في الفتح والبرهان، والحاصل الاتفاق على الفطر بصب الدهن، وعلى عدمه بدخول الماء، واختلاف التصحيح في إدخاله. معراج (أو داوى جائفة) جراحة في البطن بلغت الجوف (أو آمة) جراحة في الرأس بلغت أم الدماغ (بداوء فوصل) الداوء (إلى جوفه) في الجائفة (أو دماغه) في الآمة (أفطر) عند أبي حنيفة، وقالا: لا يفطر؛ لعدم التيقن بالوصول، هداية وقال في التصحيح: لا خلاف في هذه المسألة على هذه العبارة، أما لو داوى بداوء رطب ولم يتيقن بالوصول فقال أبو حنيفة: يفطر، وقالا: لا يفطر. اهـ. (وإن أقطر في إحليله) ماء أو دهنا (لم يفطر عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يفطر) قال في الاختيار: هذا بناء على أن بينه وبين الجوف منفذا، والأصح أنه ليس بينهما منفذ، قال في التحفة: وروى الحسن عن أبي حنيفة مثل قولهما، وهو
_________
(1) روى أبو يعلى بسنده إلى عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عائشة هل من كسرة؟ فأتيته بقرصي فوضعه علي فيه فقال: يا عائشة هل دخل بطني من شيء؟ كذلك قبلة الصائم إنما الأفطر مما دخل وليس مما خرج". استدل صاحب الهداية على عدم الإفطار في هذه الأشياء والحديث طعن فيه بعض أهل الحديث بجهالة بعض رواته ولكن جزم صاحب الفتح بثبوته موقوفاً ففي البخاري تعليقاً عن ابن عباس وعكرمة الفطر مما دخل وليس مما خرج واسنده عبد الرزاق إلى ابن عباس إنما الوضوء مما خرج وإنما الفطر مما دخل وجعلوا من ذلك ما لو أدخل خشبة أو نحوها في دبره ففيها أو احتشت المرأة في فرجها الداخل أو استنجى فوصل الماء إلى دبره الداخل للمبالغة

(1/168)


ومن ذاق شيئاً بفمه لم يفطر، ويكره له ذلك، ويكره للمرأة أن تمضغ لصبيها الطعام إذا كان لها منه بدٌ، ومضغ العلك لا يفطر الصائم ويكره، ومن كان مريضاً في رمضان فخاف إن صام زاد مرضه أفطر وقضى، وإن كان مسافراً لا يستضر بالصوم فصومه أفضل، وإن أفطر وقضى جاز،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح، لكن اعتمد الأول المحبوبي والنسفي وصدر الشريعة وأبو الفضل الموصلي، وهو الأولى: لأن المصنف في التقريب حقق أنه ظاهر الرواية في مقابلة قول أبي يوسف وحده. اهـ. تصحيح.
(ومن ذاق شيئا بفمه لم يفطر) ، لعدم وصول المفطر إلى جوفه (ويكره له ذلك) ، لما فيه من تعريض الصوم على الفساد (ويكره للمرأة أن تمضغ لصبيها الطعام) لما مر، وهذا (إن كان لها منه بد) : أي محيد، بأن تجد من يمضغ لصبيها كمفطرة لحيض أو نفاس أو صغر، أما إذا لم تجد بداً منه فلها المضغ، لصيانة الولد (ومضغ العلك) الذي لا يصل منه شيء إلى الجوف مع الريق (لا يفطر الصائم) لعدم وصول شيء منه إلى الجوف (ويكره) ذلك، لأنه يتهم بالإفطار.
(ومن كان مريضاً في رمضان فخاف) الخوف المعتبر شرعاً، وهو ما كان مستنداً لغلبة الظن بتجربة أو إخبار مسلم عدل أو مستور حاذق بأنه (إن صام ازداد مرضه) أو أبطأ برؤه (أفطر وقضى) ، لأن زيادته وامتداده قد يفضي إلى الهلاك فيحترز عنه (وإن كان مسافراً) وهو (لا يستضر بالصوم فصومه أفضل) لقوله تعالى: {وإن تصوموا خير لكم} (وإن أفطر وقضى جاز) ؛ لأن السفر لا يعرى عن المشقة فجعل نفسه عذراً، بخلاف المرض، لأنه قد يخفف بالصوم فشرط كونه مفضياً إلى الحرج

(1/169)


وإن مات المريض أو المسافر وهما على حالهما لم يلزمهما القضاء، وإن صح المريض أو أقام المسافر ثم ماتا لزمهما القضاء بقدر الصحة والإقامة، وقضاء رمضان إن شاء فرقه وإن شاء تابعه، فإن أخره حتى دخل رمضانٌ آخر صام رمضان الثاني وقضى الأول بعده ولا فدية عليه.
والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا ولا فدية عليهما. والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصيام يفطر ويطعم لكل يومٍ مسكيناً كما يطعم في الكفارات،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن مات المريض أو المسافر وهما على حالهما) من المرض والسفر (لم يلزمهما القضاء) لعدم إدراكهما عدة من أيام أخر (وإن صح المريض وأقام المسافر، ثم ماتا؛ لزمهما القضاء بقدر الصحة والإقامة) لوجود الإدراك بهذا المقدار، وفائدته وجوب الوصية بالإطعام.
(وقضاء رمضان) مخير فيه (إن شاء فرقه وإن شاء تابعه) لإطلاق النص، لكن المستحب المتابعة مسارعة إلى إسقاط الواجب (وإن أخره حتى دخل رمضان آخر صام الثاني) ، لأنه وقته حتى لو نواه عن القضاء لا يقع إلا عن الأداء، كما تقدم (وقضى الأول بعده) لأنه وقت القضاء (ولا فدية عليه) لأن وجوب القضاء على التراخي حتى كان له أن يتطوع. هداية.
(والحامل والمرضع إذا خافتا على ولدهما) نسباً أو رضاعاً، أو على أنفسهما (أفطرتا وقضتا) دفعاً للحرج (ولا فدية عليهما) ، لأنه إفطار بسبب العجز فيكتفى بالقضاء اعتباراً بالمريض والمسافر. هداية.
(والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصيام) لقربه إلى الفناء أو لفناء قوته (يفطر ويطعم لكل يوم مسكيناً كما يطعم) المكفر (في الكفارات) وكذا

(1/170)


ومن مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به أطعم عنه وليه لكل يومٍ مسكيناً نصف صاعٍ من برٍ أو صاعا من تمرٍ أو صاعاً من شعير. ومن دخل في صوم التطوع أو صلاة التطوع ثم أفسده قضاه (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العجوز الفانية. والأصل فيه قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} معناه "لا يطيقونه" ولو قدر بعد على الصوم يبطل حكم الفداء، لأن شرط الخليفة استمرار العجز. هداية.
(ومن مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به أطعم عنه وليه) وجواباً إن خرجت من ثلث ماله، وإلا فيقدر الثلث (لكل يوم مسكيناً نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير) ، لأنه عجز عن الآداء في آخر عمره فصار كالشيخ الفاني، ثم لابد من الإيصاء عندنا (2) ، حتى إن مات ولم يوص بالإطعام عنه لا يلزم على ورثته ذلك ولو تبرعوا عنه من غير وصية جاز؛ وعلى هذا الزكاة. هداية.
(ومن دخل في صوم التطوع أو في صلاة التطوع ثم أفسده قضاهما) وجوباً،
_________
(1) واختلف فيه الإمام الشافعي محتجاً بما في الصحيحين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها، فقال: لو كان على أمك دية أكنت قاضيه عنها قال: نعم، قال فدية الله أحق وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من مات وعليه صوم صام عنه وليه واحتج الحنفية بأن الحديث الأول معروف عن ظاهره للإجماع على عدم قضاء الدين في الصلاة وأن راوى الحديث الأول قال لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد فدل على فسخ الحكم.
قال مالك: لم أسمع عن أحد من الصحابة والتابعين بالمدينة أن أحداً منهم أمر أحداً أن يصوم عن أحد ولا يصلي عنه.
(2) وهو خلاف مذهب الشافعي أيضاً واستدل بأنه تبرع وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى أهله فقلن يا رسول الله أهدى إلينا حبشي فقال أرنيه فقد أصبحت صائماً وآكل وله أدلة أخرى واستدل الحنفية بقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} ومما أخرجه "ثان" عن حفصة أنها قالت عنها وعن عائشة يا رسول الله إنا كنا صائمين فعرض طعام اشتهيناه فأكلنا منه فقال: توفيا يوم آخر وقد طعن في الحديث البخاري والترمذي

(1/171)


وإذا بلغ الصبي، أو أسلم الكافر في رمضان أمسكاً بقية يومهما وصاما ما بعده ولم يقضيا ما مضى، ومن أغمي عليه في رمضان لم يقض اليوم الذي حدث فيه الإغماء وقضى ما بعده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأن المؤدى قربة وعمل فنجب صيانته بالمضي عن الإبطال؛ وإذا وجب المضى وجب القضاء بتركه؛ ثم عندنا لا يباح الإفطار فيه بغير عذر في إحدى الروايتين، لما بيناه، ويباح بعذر، والضيافة عذر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفطر يوماً مكانه) (1) . هداية.
وفي رواية عن أبي يوسف: يجوز بلا عذر وهي رواية المنتقى، قال الكمال: واعتقادي أن رواية المنتقى أوجه.
(وإذا بلغ الصبي أو أسلم الكافر في) نهار (رمضان أمسكا بقية يومهما) قضاء لحق الوقت بالتشبه بالصائمين (وصاما) ما (بعده) لتحقق السببية والأهلية (ولم يقضيا) يومهما الذي تأهلا فيه، ولا (ما مضى) قبله من الشهر، لعدم الخطاب بعد الأهلية له (ومن أغمي عليه في رمضان لم يقض اليوم الذي حدث فيه الإغماء) أو في ليلته، لوجود الصوم، وهو الإمساك المقرون بالنية، إذ الظاهر وجودها منه (وقضى ما بعده) لانعدام النية، وإن أغمي عليه أول
_________
(1) روى الدارقطني عن جابر رضي الله عنه قال: صنع رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما أتى بالطعام تنحى رجل منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: مالك؟ قال: إني صائم، فقال صلى الله عليه وسلم "تكلف أخوك وصنع طعاماً ثم تقول: إني صائم؟ كل وصم يوماً مكانه"

(1/172)


وإذا أفاق المجنون في بعض رمضان قضى ما مضى منه، وإذا حاضت المرأة أفطرت وقضت، وإذا قدم المسافر، أو طهرت الحائض في بعض النهار أمسكا عن الطعام والشراب بقية يومهما، ومن تسحر وهو يظن أن الفجر لم يطلع أو أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم تبين أن الفجر كان قد طلع أو أن الشمس لم تغرب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ليلة قضاه كله غير يوم تلك الليلة، لما قلناه. ومن أغمي عليه رمضان كله قضاه لأنه نوع مرض بضعف القوى ولا يزيل الحجي؛ فيصير عذرا في التأخير لا في الإسقاط. هداية (وإذا أفاق المجنون في بعض رمضان قضى ما مضى منه) ؛ لأن السبب - وهو الشهر - قد وجد، وأهلية نفس الوجوب بالذمة وهي متحققة بلامانع؛ فإذا تحقق الوجوب بلا مانع تعين القضاء. در. وإن استوعب لجميع ما يمكنه فيه إنشاء الصوم - على ما مر - لا يقضي؛ للحرج، بخلاف الإغماء - كما مر - لأنه لا يستوعب عادة، وامتداده نادر، ولا حرج في ترتيب الحكم على ما هو من النوادر.
(وإذا حاضت المرأة) أو نفست (أفطرت وقضت) وليس عليها أن تتشبه حال العذر؛ لأن صومها حرام، والتشبه بالحرام حرام (وإذا قدم المسافر) أو برئ المريض أو أفاق المجنون (أو طهرت الحائض) أو النفساء (في بعض النهار أمسكا) وجوباً، هو الصحيح. جوهرة. (عن) المفطرات من (الطعام والشراب) وغيرهما (بقية يومهما) قضاء لحق الوقت، كما مر (ومن تسحر وهو يظن أن) الليل باق وأن (الفجر لم يطلع أو أفطر وهو يرى) بضم الياء - أي يظن (أن الشمس قد غربت ثم تبين أن الفجر كان) حين ما تسحر (قد طلع أو أن الشمس) حين ما أفطر (لم تغرب) أمسك بقية يومه قضاء لحق الوقت بالقدر

(1/173)


قضى ذلك اليوم ولا كفارة عليه، ومن رأى هلال الفطر وحده لم يفطر.
وإذا كان بالسماء علةٌ لم تقبل في هلال الفطر إلا شهادة رجلين، أو رجلٍ وامرأتين، وإن لم يكن بالسماء علةٌ لم تقبل إلا شهادة جمعٍ كثير يقع العلم بخبرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الممكن ودفعا للتهمة، و (قضى ذلك اليوم) ، لأنه حق مضمون بالمثل (ولا كفارة عليه) ، لقصور الجناية بعدم القصد.
(ومن رأى هلال الفطر وحده لم يفطر ويجب عليه الصوم احتياطاً؛ لاحتمال الغلط، فإن أفطر فعليه القضاء، ولا كفارة عليه للشبهة.
(وإذا كان بالسماء علة لم تقبل في هلال الفطر إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين) ؛ لأنه تعلق به نفع العبد - وهو الفطر - فأشبه سائر حقوقه، والأضحى كالفطر في هذا في ظاهر الرواية، وهو الأصح، خلافاً لما يروى عن أبي حنيفة أنه كهلال رمضان، لأنه تعلق به نفع العباد، وهو التوسع بلحوم الأضاحي. هداية.
(وإذا لم يكن بالسماء علة لم تقبل) في هلال الفطر (إلا شهادة جمع كثير يقع العلم بخبرهم) كما تقدم

(1/174)


باب الاعتكاف.
- الاعتكاف مستحبٌ، وهو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب الاعتكاف
وجه المناسبة والتعقيب اشتراط الصوم فيه، وطلبه في العشر الأخير.
قال رحمه الله تعالى: (الاعتكاف مستحب) قال في الهداية: والصحيح أنه سنة مؤكدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليه في العشر الأواخر من رمضان، والمواظبة دليل السنية (1) . اهـ. قال الزيلعي: والحق أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: واجب، وهو المنذور، وسنة، وهو في العشر الأخير من رمضان، ومستحب، وهو في غيره. اهـ.
(وهو اللبث) بفتح اللام - مصدر لبث - كفهم - أي المكث (في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف) أما اللبث فركنه؛ لأن وجوده به، وأما الصوم فشرط لصحة الواجب، واختلفت الروايات في النفل: روى الحسن عن أبي حنيفة أنه شرط لصحته، وفي ظاهر الرواية ليس بشرط. ذخيرة. والنية شرط في سائر
_________
(1) في الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الآواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده وقد اقترنت هذه المواظبة بعدم الإبكار على من تركه من الصحابة وإلا كانت دليل الوجوب والأصل في اعتكاف العشر الآواخر التماس ليلة القدر كما دلت الآيات على ذلك ومجموع الأحاديث الثابتة يدل على أنها دائرة في العشر الأخير من رمضان ومهما يكن فإن الاعتكاف من أعظم القربان لما فيه من التفرغ عن الدنيا والإقبال على الله وفي ذلك تطهير القلب وإخلاصه وإصلاحه الخلافة الله الفاضلة المحمودة نسأل الله التوفيق لذلك الانقطاع من غير رهبانية

(1/175)


ويحرم على المعتكف: الوطء، واللمس، والقبلة، ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو الجمعة، ولا بأس بأن يبيع ويبتاع في المسجد من غير أن يحضر السلع ولا يتكلم إلا بخيرٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العبادات، والمراد بالمسجد مسجد الجماعة، وهو: ما له إمام ومؤذن، أديت فيه. الخمس أولاً، كما في العناية والفيض والنهر وخزانة الأكمل والخلاصة والزازية، وفي الهداية عن أبي حنيفة: أنه لا يصح إلا في مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس، لأنه عبادة انتظار الصلاة فيختص بمكان تؤدى فيه؛ وصححه الكمال وعن الإمامين يصح في كل مسجد. وصححه السروجي، وهو اختيار الطحاوي، وقال الخير الرملي: وهو أيسر، خصوصاً في زماننا، فينبغي أن يعول عليه. اهـ. والمرأة تعتكف في مسجد بيتها، وهو الذي عينته لصلاتها؛ لنحقق انتظارها فيه.
(ويحرم على المعتكف: الوطء) لقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد (1) } . (و) كذا (اللمس، والقبلة) لأنهما من دواعيه (ولا يخرج) المعتكف (من المسجد إلا لحاجة الإنسان) الطبيعية كالبول والغائط وإزالة نجاسة، أو الضرورية كانهدام المسجد وتفرق أهله وإخراج ظالم كرهاً وخوف على نفسه أو متاعه؛ فيدخل مسجداً غيره من ساعته (أو) الشرعية مثل صلاة (الجمعة) والعيد، ولا يمكث بعد فراغه مما خرج إليه، لأن ما ثبت ضرورة يتقدر بقدرها. (ولا بأس بأن يبيع) المعتكف (ويبتاع في المسجد) ما لابد منه كطعام ونحوه، لضرورة الاعتكاف؛ لأنه لو خرج إليها فسد اعتكافه، لكن (من غير أن يحضر السلعة) ، لأن المسجد محرز عن حقوق العباد، وفي إحضار السلعة شغل للمسجد، فيكره، كما يكره لغير المعتكف مطلقاً (ولا يتكلم) المعتكف (إلا بخير) وكذا غيره، إلا أن المعتكف به أحرى.
_________
(1) من الآية 187 من سورة البقرة

(1/176)


ويكره له الصمت، فإن جامع المعتكف، ليلاً أو نهاراً بطل اعتكافه، ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيامٍ لزمه اعتكافها بلياليها، وكانت متتابعةً وإن لم يشترط التتابع.