اللباب في شرح الكتاب

كتاب الحجر.
- الأسباب الموجبة للحجر ثلاثةٌ: الصغر، والرق، والجنون، ولا يجوز تصرف الصغير إلا بإذن وليه، ولا تصرف العبد إلا بإذن سيده، ولا يجوز تصرف المجنون المغلوب على عقله بحال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الحجر
هو لغةً: المنع، وشرعا: منع من نفاذ تصرف قولي (1)
و (الأسباب الموجبة للحجر ثلاثة: الصغر) لأنه إن كان غير مميز كان عديم العقل، وإن كان مميزاً فعقله ناقص (والرق) لأنه وإن كان فيه أهلية لكنه يحجر عليه رعاية لحق المولى، كيلا تبطل منافع عبده بإيجاره نفسه (والجنون) ، لأنه إن كان عديم الإفاقة كان عديم العقل كالصبي الغير المميز، وإن وجدت في بعض الأوقات كان ناقص العقل.
(ولا يجوز تصرف الصغير) الغير المميز مطلقا، ولا المميز (إلا بإذن وليه) فإن أذن له وليه جاز تصرفه، لأن إذن الولي آية أهليته، ولولا أهليته لم يأذن له (ولا) يجوز (تصرف العبد إلا بإذن سيده) لأن منعه لحق المولى، فإذا أذن له فقد رضي بإسقاط حقه، فيتصرف بأهليته إن كان بالغا عاقلا، وإن كان صغيراً كان بمنزلة الحر الصغير (ولا يجوز تصرف المجنون المغلوب على عقله بحال) : أي في جميع الأحوال، سواء كان بإذن الولي أو لا، وأراد بالمغلوب الذي لا يفيق؛
_________
(1) الحجر - بفتح الحاء وسكون الجيم - المنع، وفعله من باب دخل، وهذه المادة على اختلاف ضبطها تدل لغة على المنع، فالعقل سمى حجرا - بكسر الحاء وسكون الجيم - لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب المفاسد، والحطيم سمى حجرا لأنه منع من أن يدخل في الحرم، وهكذا

(2/66)


ومن باع من هؤلاء شيئاً أو اشتراه وهو يعقل البيع ويقصده فالولي بالخيار: إن شاء أجازه إذا كان فيه مصلحةٌ، وإن شاء فسخه.
وهذه المعاني الثلاثة توجب الحجر في الأقوال دون الأفعال؛ فالصبي والمجنون لا تصح عقودهما، ولا إقرارهما، ولا يقع طلاقهما ولا عتاقهما، وإن أتلفا شيئاً لزمهما ضمانه. وأما العبد فأقواله نافذةٌ في حق نفسه غير نافذةٍ في حق مولاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأما الذي يجن ويفيق فحكمه كمميز، نهاية (ومن باع من هؤلاء شيئاً) الإشارة إلى الصبي والعبد بطريق إطلاق الجمع على ما فوق الواحد، أو إلى الثلاث ويراد المجنون الذي يجن ويفيق؛ بدليل قوله "وهو يعقل البيع" فإنه كالمميز كما مر (أو اشتراه وهو يعقل البيع) بأن يعلم أن البيع سالب والشراء جالب (ويقصده) بأن يكون غير هازل (فالولي بالخيار: إن شاء أجازه إذا كان فيه مصلحة، وإن شاء فسخه) ؛ لأن عقدهم ينعقد موقوفاً لاحتمال الضرر، فإذا أجازه من له الإجازة فقد تعينت جهة المصلحة فنفذ.
(وهذه المعاني الثلاثة) المذكورة إنما (توجب الحجر في الأقوال دون الأفعال) ؛ لأنها لا مرد لها لوجودها حسا ومشاهدة، بخلاف الأقوال لأن اعتبارها موجودة بالشرع، والقصد من شرطه، إلا إذا كان فعلا يتعلق به حكم يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص، فيجعل عدم القصد في ذلك شبهة في حق الصبي والمجنون، هداية.
(فالصبي والمجنون لا تصح عقودهما، ولا إقرارهما ولا يقع طلاقهما ولا عتاقهما) لعدم اعتبار أقوالهما (وإن أتلفا شيئاً لزمهما ضمانه) لوجود الإتلاف حقيقة، وعدم افتقاره إلى القصد، كما في النائم إذا انقلب على مال فأتلفه لزمه الضمان.
(وأما العبد فأقواله نافذة في حق نفسه) لقيام أهليته (غير نافذة في حق مولاه) رعاية لجانبه، لأن نفاذه لا يعرى عن تعلق الدين برقبته أو كسبه، وفي

(2/67)


فإن أقر بمالٍ لزمه بعد الحرية، ولم يلزمه في الحال، وإن أقر بحدٍ أو قصاصٍ لزمه في الحال، وينفذ طلاقه.
وقال أبو حنيفة: لا يحجر على السفيه إذا كان بالغاً عاقلاً حراً، وتصرفه في ماله جائزٌ، وإن كان مبذراً مفسداً يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة، إلا أنه قال: إذا بلغ الغلام غير رشيد لم يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمساً وعشرين سنةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك إتلاف لمال المولى (فأن أقر بمال لزمه بعد الحرية) لوجود الأهلية وانتفاء المانع (ولم يلزمه في الحال) ، لوجود المانع (وإذا أقر) العبد (بحد أو قصاص لزمه في الحال) ، لأنه مبقى على أصل الحرية في حق الدم، حتى لا يصح إقرار المولى عليه بذلك (وينفذ طلاقه) ، لأنه أهل له، وليس فيه إبطال ملك المولى ولا تفويت منافعه، فينفذ.
(وقال أبو حنيفة: لا يحجر على السفيه) : أي الخفيف العقل المتلف لماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة (إذا كان) خاليا عما يوجب الحجر، بأن كان (بالغاً عاقلا حرا، وتصرفه في ماله جائز) ، لوجود الأهلية (وإن كان مبذراً مفسداً يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة) ، لأن في سلب ولايته إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم، وهو أشد ضرراً من التبذير، فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى، حتى لو كان في الحجر دفع ضرر عام كالحجر على الطبيب الجاهل والمفتي الماجن والمكاري المفلس جاز، إذ هو دفع الأعلى بالأدنى. هداية (إلا أنه قال) الإمام: (إذا بلغ الغلام غير رشيد) لإصلاح ماله (لم يسلم إليه ماله) أوائل بلوغه، بل (حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة) ، لأن المنع باعتبار أثر الصبا وهو في أوائل البلوغ، وينقطع بتطاول الزمان، وهذا بالإجماع كما في الكفاية، وإنما الخلاف في تسليمه له بعد خمس وعشرين كما يأتي، فلو بلغ مفسداً وحجر عليه أولا فسلمه إليه فضاع ضمنه الوصي، ولو دفعه إليه وهو صبي مصلح وأذن له في

(2/68)


فإن تصرف فيه قبل ذلك نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمساً وعشرين سنةً سلم إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد. وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يحجر على السفيه ويمنع من التصرف في ماله، فإن باع لم ينفذ بيعه، فإن كان فيه مصلحةٌ أجازه الحاكم، وإن أعتق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التجارة فضاع في يده لم ضمن كما في المنح عن الخانية، وفي الولوالجية: كما يضمن بالدفع إليه وهو مفسد فكذا قبل ظهور رشده بعد الإدراك. اهـ. وفي فتاوى ابن شلبي وخير الدين الرملي: لا يثبت الرشد إلا بحجة شرعية. اهـ (وإن تصرف فيه) : أي في ماله (قبل ذلك) المقدار المذكور من المدة (نفذ تصرفه) لوجود الأهلية (وإذا بلغ خمساً وعشرين سنة سلم إليه ماله، وإن لم يؤنس منه الرشد) ، لأن المنع عنه بطريق التأديب، ولا يتأدب بعد هذا غالبا، ألا يرى أنه قد يصير جداً في هذا السن؟ فلا فائدة في المنع، فلزم الدفع، قال في التصحيح: واعتمد قوله المحبوبي وصدر الشريعة وغيرهم.
(وقالا: يحجر على السفيه، ويمنع من التصرف في ماله) نظراً إليه اعتباراً بالصبا، بل أولى، لأن الثابت في حق الصبي احتمال التبذير وفي حقه حقيقته، ولهذا منع عنه المال، ثم هو لا يفيد بدون الحجر، لأنه يتلف بلسانه ما منع من يده، هداية.
قال القاضي في كتاب الحيطان: والفتوى على قولهما: قلت: هذا صريح، وهو أقوى من الالتزام. اهـ، تصحيح. قال شيخنا: ومراده أن ما وقع في المتون من القول بعدم الحجر تصحيح بالالتزام، وما وقع في قاضيخان من التصريح بأن الفتوى على قولهما تصريح بالتصحيح، فيكون هو المعتمد. اهـ. وفي حاشية الشيخ صالح ما نصه: وقد صرح في كثير من المعتبرات بأن الفتوى على قولهما، اهـ. وفي القهستاني عن التوضيح: أنه المختار، قال في المنح: وأفتى به البلخي وأبو القاسم، وجعل عليه الفتوى مولانا في بحره. اهـ (فإن باع) بعد الحجر (لم ينفذ بيعه) لوجود الحجر (وإن كان فيه) : أي بيعه (مصلحة أجازه الحاكم) نظراً له (وإن أعتق)

(2/69)


عبداً نفذ عتقه وكان على العبد أن يسعى في قيمته، وإن تزوج امرأةً جاز نكاحه، فإن سمى لها مهراً جاز منه مقدار مهر مثلها وبطل الفضل.
وقالا فيمن بلغ غير رشيدٍ: لا يدفع إليه ماله أبداً حتى يؤنس منه الرشد، ولا يجوز تصرفه فيه، وتخرج الزكاة من مال السفيه، وينفق منه على أولاده وزوجته ومن تجب نفقته عليه من ذوي أرحامه، فإن أراد حجة الإسلام لم يمنع منها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المحجور عليه (عبداً) له (نفذ عتقه) ، لأن الأصل عندهما: أن كل تصرف يؤثر فيه الهزل يؤثر فيه الحجر، وما لا فلا، والعتق مما لا يؤثر فيه الهزل، فيصح (وكان على العبد أن يسعى في قيمته) لأن الحجر لأجل النظر، وذلك في رد العتق، إلا أنه متعذر، فيجب رده برد قيمته (وإن تزوج امرأة جاز نكاحه) ، لأنه لا يؤثر فيه الهزل، ولأنه من حوائجه الأصلية (فإن سمى لها مهراً جاز منه مقدار مهر مثلها) ؛ لأنه من ضرورات النكاح (ويبطل الفضل) لأنه لا ضرورة فيه، ولو طلقها قبل الدخول وجب لها النصف، لأن التسمية صحيحة إلى مقدار مهر المثل، وكذا إذا تزوج بأربع نسوة، هداية (وقالا) أيضاً (فيمن بلغ غير رشيد: لا يدفع إليه ماله أبداً) وإن بلغ خمسا وعشرين (حتى يؤنس منه الرشد) لأن علة المنع السفه فيبقى ما بقيت العلة كالصبا (ولا يجوز تصرفه فيه) : أي في ماله، توفيراً لفائدة الحجر عليه، إلا أن يكون فيه مصلحة فيجيزه الحاكم (وتخرج الزكاة من مال السفيه) ، لأنها واجبة بإيجاب الله تعالى كالصوم، إلا أن القاضي يدفع قدر الزكاة إليه ليصرفها إلى مصرفها، لأنه لابد من نيته لكونها عبدة، لكن يبعث معه أميناً كيلا يصرفه في غير وجهه. هداية.
(وينفق منه على أولاده وزوجته و) كل (من تجب عليه نفقته من ذوي أرحامه) ، لأن إحياء ولده وزوجته من حوائجه، والإنفاق على ذوي الرحم واجب عليه حقا لقرابته، والسفه لا يبطل حقوق الخلق (فإن أراد) أن يحج (حجة الإسلام لم يمنع منها)

(2/70)


ولكن لا يسلم القاضي النفقة إليه، ويسلمها إلى ثقةٍ من الحاج ينفقها عليه في طريق الحج، فإن مرض وأوصى بوصايا في القرب وأبواب الخير جاز ذلك في ثلث ماله.
وبلوغ الغلام بالاحتلام والإحبال والإنزال إذا وطئ، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم له ثماني عشرة سنةً عند أبي حنيفة، وبلوغ الجارية بالحيض والاحتلام والحبل، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم لها سبعة عشرة سنةً، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: إذا تم للغلام والجارية خمس عشرة سنةً فقد بلغا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه واجب عليه بإيجاب الله تعالى من غير صنعه (ولكن لا يسلم القاضي النفقة إليه، و) إنما (يسلمها إلى ثقة من الحاج ينفقها عليه في طريق الحج) كيلا يتلفها في غير هذا الوجه (فإن مرض وأوصى بوصايا في القرب وأبواب الخير جاز ذلك في ثلث ماله) ؛ لأن الوصية مأمور بها فلا يمنع منها، ولأن الحجر كان نظراً له حال حياته، والنظر في اعتبار وصيته حال وفاته.
(وبلوغ الغلام بالاحتلام) في النوم مع رؤية الماء (والإحبال، والإنزال) في اليقظة (إذا وطئ) والأصل هو الإنزال، والإحبال دليله (فإن لم يوجد ذلك) المذكور (فحتى يتم له ثمان عشرة سنة) ويطعن في التاسعة عشرة (عند أبي حنيفة. وبلوغ الجارية بالحيض، والاحتلام، والحبل) والإنزال، ولم يذكره صريحا لأنه قل ما يعلم منها. والأصل هو الإنزال والحيض والحبل دليله (فإن لم يوجد ذلك) المذكور (فحتى يتم لها سبع عشرة سنة) وتطعن في الثامنة عشرة، عند أبي حنيفة أيضا (وقال أبو يوسف ومحمد: إذا تم للغلام والجارية خمس عشر سنة فقد بلغا) لأن العادة الفاشية أن البلوغ لا يتأخر عن هذه المدة، قال الإمام برهان الأئمة البرهاني والإمام النسفي وصدر الشريعة: وبه يفتي،

(2/71)


وإذا راهق الغلام والجارية وأشكل أمرهما في البلوغ وقالا "قد بلغنا" فالقول قولهما، وأحكامهما أحكام البالغين.
وقال أبو حنيفة: لا أحجر في الدين. وإذا وجبت الديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر عليه، وإن كان له مالٌ لم يتصرف فيه الحاكم، ولكن يحبسه أبداً حتى يبيعه في دينه، فإن كان له دراهم ودينه دراهم قضاها القاضي بغير أمره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الإمام أبو العباس أحمد بن علي البعلبكي في شرحه: وقولهما رواية عن أبي حنيفة، وعليه الفتوى، تصحيح (وإذا راهق الغلام والجارية) أي قاربا البلوغ (وأشكل أمرهما في البلوغ) وعدمه (فقالا: قد بلغنا، فالقول قولهما) لأنه معنى لا يعرف إلا من جهتهما؛ فإذا أخبرا به ولم يكذبهما الظاهر قبل قولهما فيه كما يقبل قول المرأة في الحيض، هداية. (وأحكامهما) بعد إقرارهما بالبلوغ (أحكام البالغين) قال أبو الفضل الموصلي: وأدنى مدة يصدق فيها الغلام على البلوغ اثنتا عشرة سنة، والجارية تسع سنين، وقيل غير ذلك، وهذا هو المختار. تصحيح.
(وقال أبو حنيفة: لا أحجر) على المفلس (في الدين) : أي بسبب الدين (وإذا وجبت الديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه) : أي حبس المديون (والحجر عليه) عن البيع والشراء (لم أحجر عليه) ؛ لأن في الحجر عليه إهدار أهليته؛ فلا يجوز لدفع ضرر خاص، أعني ضرر الدائن، واعترض بالحجر على العبد لأجل المولى، وأجيب بأن العبد أهدرت آدميته بسبب الكفر (وإن كان له مال لم يتصرف فيه الحاكم) لأنه نوع حجر، ولأنه تجارة لا عن تراضٍ فيكون باطلا بالنص (ولكن يحبسه) الحاكم (أبداً حتى يبيعه) بنفسه (في دينه) : أي لأجل قضاء دينه؛ لأن قضاء الدين واجب عليه، والمماطلة ظلم؛ فحبسه الحاكم دفعاً لظلمه، وإيصالا للحق إلى مستحقه (فإن كان له دراهم ودينه دراهم قضاها القاضي بغير أمره) ؛ لأن من له دين إذا وجد جنس حقه له أخذه من غير رضاه،

(2/72)


وإن كان دينه دراهم وله دنانير باعها القاضي في دينه، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه ومنعه من البيع والتصرف والإقرار حتى لا يضر بالغرماء، وباع ماله إن امتنع من بيعه، وقسمه بين غرمائه بالحصص، فإن أقر في حال الحجر بإقرارٍ لزمه ذلك بعد قضاء الديون، وينفق على المفلس من ماله، وعلى زوجته وأولاده الصغار وذوي أرحامه، وإن لم يعرف للمفلس مالٌ وطلب غرماؤه حبسه وهو يقول لا مال لي حبسه الحاكم في كل دينٍ التزمه بدلاً عن مال حصل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فدفع القاضي أولى (وإن كان دينه دراهم وله دنانير) أو بالعكس (باعها القاضي في) : أي لأجل قضاء (دينه) وقضاها بغير أمره؛ لأن الدراهم والدنانير متحدان جنساً في الثمينة والمالية حتى يضم أحدهما للآخر في الزكاة (وقالا) أي أبو يوسف ومحمد: (إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر عليه القاضي ومنعه من البيع) أي بأقل من ثمن المثل (والتصرف) بماله (والإقرار حتى لا يضر بالغرماء، وباع) القاضي (ماله إن امتنع) المفلس (من بيعه) بنفسه (وقسمه بين غرمائه بالحصص) على قدر ديونهم، ويباع في الدين: النقود، ثم العروض، ثم العقار، ويبدأ بالأيسر فالأيسر؛ لما فيه من المسارعة إلى قضاء الدين، ويترك عليه دستٌ من ثياب بدنه، ويباع الباقي؛ لأن به كفاية، وقيل: دستان؛ لأنه إذا غسل ثيابه لابد له من ملبس. هداية (فإن أقر في حاله الحجر بإقرار) لأحدٍ (لزمه ذلك) الإقرار (بعد قضاء الديون) ؛ لأنه تعلق بهذا المال حق الأولين؛ فلا يتمكن من إبطاله بالإقرار لغيرهم، وإن استفاد مالا بعد الحجر نفذ إقراره فيه؛ لأن حقهم لم يتعلق به. جوهرة (وينفق على المفلس من ماله، وعلى زوجته وأولاده الصغار وذوي أرحامه) ؛ لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء، (وإذا لم يعرف للمفلس مال وطلب غرماؤه حبسه وهو) : أي المفلس (يقول لا مال لي حبسه الحاكم) ولم يصدق في قوله ذلك (في كل دين التزمه بدلا عن مال حصل

(2/73)


في يده كثمن مبيعٍ وبدل القرض، وفي كل دينٍ التزمه بعقدٍ كالمهر والكفالة، ولم يحبسه فيما سوى ذلك كعوض المصوب وأرش الجنايات إلا أن تقوم البينة أن له مالاً، وإذا حبسه القاضي شهرين أو ثلاثة سأل القاضي عن حاله: فإن لم ينكشف له مالٌ خلى سبيله، وكذلك إذا أقام البينة أنه لا مال له، ولا يحول بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس، ويلازمونه ولا يمنعونه من التصرف والسفر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في يده) وذلك (كثمن مبيع وبدل القرض) لأن حصول ذلك في يده يدل على غناه؛ فكان ظالما بالمطل (و) كذلك (في كل دين التزمه بعقد كالمهر والكفالة) لأن التزام ذلك دليلٌ على ثروته وقدرته على أدائه (ولم يحبسه) ويصدق في دعوى الفقر (فيما سوى ذلك) وذلك (كعوض المغصوب وأرش الجنايات) ؛ لأن الأصل هو الإعسار، فما لم يثبت خلافه لم يثبت ظلمه، وما لم يثبت ظلمه لا يجوز حبسه، ولذا قال: (إلا أن تقوم البينة أن له مالا) فحينئذ يحبسه؛ لإثبات البينة خلاف ما ادعاه (وإذا حبسه القاضي شهرين أو ثلاثة) أو أقل أو أكثر بحسب ما يراه الحاكم، قال في التصحيح والهداية والمحيط والجواهر والاختيار وغيرها: الصحيح أن التقدير مفوض إلى رأى القاضي؛ لاختلاف أحوال الناس فيه (سأل القاضي عن حاله) من جيرانه العارفين به (فإن لم ينكشف) : أي لم يظهر (له) أي للمحبوس (مال) وغلب على ظن القاضي أنه لو كان مال لظهر (خلى سبيله) لوجوب النظرة إلى ميسرة (وكذلك إذا أقام) المفلس (البينة) بعد حبسه (أنه لا مال له) قبلت بينته رواية واحدة وخلى سبيله، وإن أقامها قبل الحبس ففيها روايتان، وعامة المشايخ على عدم القبول. جوهرة (ولا يحول) القاضي إذا خلى سبيل المديون (بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس، ويلازمونه) كيلا يختفي (و) لكن (لا يمنعونه من التصرف) في البيع والشراء (والسفر) ولا يدخلون معه إذا دخل داره لحاجته، بل يجلسون على بابه حتى يخرج،

(2/74)


ويأخذون منه فضل كسبه فيقسم بينهم بالحصص، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: إذا فلسه الحاكم حال بينه وبين غرمائه إلا أن يقيموا البينة أنه قد حصل له مالٌ.
ولا يحجر على الفاسق إذا كان مصلحاً لماله، والفسق الأصلي والطارئ سواءٌ، ومن أفلس وعنده متاعٌ لرجلٍ بعينه ابتاعه منه فصاحب المتاع أسوة الغرماء فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولو اختار المطلوب الحبس والطالب الملازمة فالخيار للطالب. هداية (ويأخذون فضل كسبه، ويقسم بينهم بالحصص) ؛ لاستواء حقوقهم في القوة (وقالا) أي أبو يوسف ومحمد: (إذا فلسه الحاكم حال بينه) : أي بين المديون (وبين غرمائه) لأن القضاء بالإفلاس عندهما يصح؛ فتثبت العسرة، ويستحق النظرة، وعنده لا يتحقق القضاء بالإفلاس؛ لأن المال غادٍ ورائح، ولأن وقوف الشهود على المال لا يتحقق إلا ظاهراً فيصلح للدفع، لا لإبطال الحق في الملازمة (إلا أن يقيموا) أي الغرماء (البينة أنه قد حصل له مال) لأن بينة اليسار تترجح على بينة الإعسار؛ لأنها أكثر إثباتاً؛ إذ الأصل العسرة.
(ولا يحجر على الفاسق إذا كان مصلحا لماله) لأن الحجر شرع لدفع الإسراف والتبذير؛ والمفروض أنه مصلح لماله (والفسق الأصلي) بأن بلغ فاسقاً (والطارئ) بعد البلوغ (سواء) في عدم جواز الحجر.
(ومن أفلس) أو مات (وعنده متاع لرجل بعينه) كان (ابتاعه منه وتسلمه) منه (فصاحب المتاع أسوة) لبقية (الغرماء فيه) لأن حقه في ذمته كسائر الغرماء، وإن كان قبل قبضه كان صاحبه أحق به وحبسه بثمنه

(2/75)