اللباب في شرح الكتاب

كتاب العارية.
- العارية جائزةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا قال صاحب الوديعة للمودع لا تسلمها إلى زوجتك فسلمها) المودع (إليها) أي إلى زوجته وهلكت (لم يضمن) ؛ لأنه لا يجد بداً من ذلك، فإنه إذا خرج كان البيت وما فيه مسلما إليها، فلا يمكنه إقامة العمل مع مراعاة هذا الشرط وإن كان مفيداً، لكن في شرح الإسبيجاني: وهذا إذا كان لا يجد بدا من ذلك، لأن الشرط - وإن كان مفيداً - لكن العمل به غير ممكن، أما إذا كان يجد بداً منه يلزمه مراعاة شرطه بقدر الإمكان، لتمكنه من حفظها على الوجه المأمور به. فإذا خالف ضمن، اهـ ملخصاً (وإن قال له: احفظها في هذا البيت) لبيت معين من الدار (فحفظها في بيت آخر من) تلك (الدار) وهلكت (لم يضمن) ، لأن الشرط غير مفيد، فإن البيتين في دار واحدةٍ لا يتفاوتان في الحرز (وإن حفظها في) بيت من (دار أخرى ضمن) ، لأن الدارين يتفاوتان في الحرز، فكان مفيداً، فيصح التقييد، ولو كان التفاوت بين البيتين ظاهراً - بأن كانت الدار التي فيها البيتان عظيمة، وللبيت الذي نهاه عن الحفظ فيه عورة ظاهرة - صح الشرط. هداية.
كتاب العارية
مناسبتها للوديعة ظاهرة، من حيث اشتراكهما في الأمانة.
(العارية) بالتشديد، وتخفف (جائزة) ، لأنها نوع إحسان، وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم دروعا من صفوان. (1) هداية.
_________
(1) (روى أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار مائة درع من صفوان بن أمية يوم الفتح وأن صفوان قال له: أغصب يا محمد؟ فقال: (لا، بل عارية مضمونة) . (وروى أن أهل المدينة سمعوا ضجة فظنوا عدوا أغار عليهم؛ فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا من أبي طلحة فركبها عريا وخرج يعدو به إلى الصحراء فلم يجد شيئاً، ثم رجع فوجد القوم خارجين، فقال لهم: (لن تراعوا) ثم قال عن فرس أبي طلحة: (إن وجدناه لبحرا) ، ومن العلماء من يستدل على جواز العارية بقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} ومنهم من يستدل عليها بقوله جل شأنه: {ويمنعون الماعون} فقد فسره جمهرة المفسرين بما يستعيره الجيران بعضهم من بعض كالدلو والفأس والإبرة. ثم اعلم أنه قد تكتنف العارية ظروف تجعلها مكروهة أو حراما أو واجبة؛ فلو أن إنسانا لا ثوب له وقد اشتد الحر والبرد حتى خيف عليه الهلاك فإنه يجب على من يجد ثوبا فاضلا عن حاجاته الأصلية أن يعيره هذا الثوب فيدفع به الهلاك عن نفسه. وتحرم إعارة جارية وضيئة لأجنبي، وتكره إعارة العبد المسلم للذمي لما فيه من امتهان المسلم، ونحو هذا

(2/200)


وهي: تمليك المنافع بغير عوضٍ، وتصح بقوله: أعرتك، وأطعمتك هذه الأرض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وهي) لغة: إعارة الشيء كما في القاموس، وشرعا: تمليك المنافع بغير عوض، أفاد (1) بالتمليك لزوم الإيجاب والقبول ولو فعلا (وتصح بقوله: أعرتك،) لأنه صريح فيها (وأطعمتك هذه الأرض) أي غلتها، لأن الأرض لا تطعم،
_________
(1) هذا الذي ذكره المصنف من أن الإعارة تمليك المنافع بغير عوض هو ما ذهب إليه عامة علماء المذهب ومنهم أبو بكر الرازي، وكان الكرخي رحمه الله يرى أن الإعارة عبارة عن إباحة المنافع، ووجه ما ذهب إليه الكرخي ثلاثة أشياء: أولها أنها تنعقد بلفظ الإباحة، وثانيها أنه لا يشترط فيها ضرب المدة؛ فيجوز إطلاقها عن المدة، ويجوز تقييدها بمدة معينة، ومع جهالة المدة لا يصح التمليك، وثالثها أن المستعير لا يملك تأجير العارية من غيره كما ستقف عليه، والجواب عن هذا الكلام: أما عن الوجه الأول فإن لفظ الإباحة مستعار من هذا الموضع للدلالة على التمليك، وآية ذلك أن الإجارة تنعقد هي أيضاً بلفظ الإباحة مع أن الإجارة تمليك اتفاقا، وأيضاً فإن الإعارة تنعقد بلفظ التمليك فكان لابد من حمل أحد اللفظين الإباحة والتمليك على الآخر؛ فحملنا لفظ الإباحة على التمليك، وأما عن الوجه الثاني فإن عدم اشتراط التوقيت بمدة له سبب وجيه، وهو أنها غير لازمة، بل لصاحبها أن يستردها متى شاء، فلا تفضي جهالة المدة إلى المنازعة، وأما عن الثالث فإنا لم نملك المستعير تأجير العارية دفعاً لزيادة الضرر عن مالك العين

(2/201)


ومنحتك هذا الثوب، وحملتك على هذه الدابة، إذا لم يرد به الهبة، وأخدمتك هذا العبد، وداري لك سكنى، وداري لك عمرى سكنى، وللمعير أن يرجع في العارية متى شاء.
والعارية أمانةٌ: إن هلكت من غير تعد لم يضمن شيئاً.
وليس للمستعير أن يؤاجر ملا استعاره ولا أن يرهنه، وله أن يعيره إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فينصرف إلى ما يؤخذ منها، على سبيل المجاز، من إطلاق اسم المحل على الحال.
(ومنحتك) : أي أعطيتك (هذا الثوب) أو هذا العبد (وحملتك على هذه الدابة، إذا لم يرد به) أي بقوله أعطيتك وحملتك (الهبة) لأن اللفظ صالح لتمليك العين والمنفعة، والمنفعة أدنى؛ فيحمل عليها عند عدم النية (وأخدمتك هذا العبد) ، لأنه إذن له في الاستخدام (وداري لك سكنى) ، لأن معناه سكناها لك (وداري لك عمرى سكنى) ، لأن اللام وإن كان للتمليك لكن لما أردفه بالتمييز بلفظ السكنى المحكم في إرادة المنفعة الصرف عنه إفادة الملك.
(وللمعير أن يرجع في العارية متى شاء) لأنها عقد تبرع.
(والعارية) : أي حكمها أنها (أمانة) في يد المستعير: (إن هلكت من غير تعد لم يضمن) ولو بشرط الضمان، قهستاني.
(وليس للمستعير أن يؤاجر ما استعاره، ولا أن يرهنه) ، لأن الشيء لا يتضمن ما فوقه (وله أن يعيره إن كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل) لأنه ملك المنافع ومن ملك شيئاً جاز له أن يملكه على حسب ما ملك، ولذا شرط أن لا يختلف باختلاف المستعمل، فلو كان يختلف باختلاف المستعمل لا يجوز له ذلك، لأنه رضي باستعماله لا باستعمال غيره، قال في الهداية: وهذا إذا كانت الإعارة مطلقة، وهي على أربعة أوجه: أن تكون مطلقة في الوقت والانتفاع، وللمستعير فيه

(2/202)


وعارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون قرض.
وإذا استعار أرضاً ليبني فيها أو يغرس نخلاً جاز، وللمعير أن يرجع فيها ويكلفه قلع البناء والغرس، فإن لم يكن وقت العارية فلا ضمان عليه، وإن كان وقت العارية فرجع قبل الوقت ضمن المعير ما نقص البناء والغرس بالقلع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن ينتفع به في أي نوع شاء، وفي أي وقت شاء، عملا بالإطلاق، والثاني أن تكون مقيدة فيهما، وليس له أن يجاوز ما سماه، عملا بالتقييد، إلا إذا كان خلافا إلى مثل ذلك أو خير منه، والثالث: أن تكون مقيدة في حق الوقت مطلقة في حق الانتفاع، والرابع عكسه، وليس له أن يتعدى ما سماه. اهـ.
(وعارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون) والمعدود المتقارب عند الإطلاق (قرض) ، لأن الإعارة تمليك المنافع، ولا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاك عينها، فاقتضى تمليك العين ضرورة، وذلك بالهبة أو القرض، والقرض أدناهما فيثبت، ولأن من قضية الإعارة الانتفاع ورد العين فأقيم رد المثل مقامه، هداية. وإنما قلت "عند الإطلاق" لأنه لو عين الجهة - بأن استعار دراهم ليعاير بها ميزاناً أو يزين بها دكاناً - لم يكن قرضاً، ولا يكون له إلا المنفعة المسماة، كما في الهداية.
(وإذا استعار أرضاً ليبني فيها أو يغرس نخلا جاز) لأنها نوع منفعة كالسكنى تملك بالإجارة فكذا بالإعارة (وللمعير أن يرجع فيها متى شاء) ، لما مر أنها عقد غير لازم (ويكلفه قلع البناء والغرس) لشغله أرضه فيكلفه تفريغها، وهذا حيث لم يكن في القلع مضرة بالأرض، وإلا فيتركان بالقيمة مقلوعين، لئلا تتلف أرضه (فإن لم يكن وقت العارية فلا ضمان عليه) أي على المعير فيما نقص البناء والغرس بالقلع، لأن المستعير مغتر غير مغرور، حيث اعتمد إطلاق العقد، من غير أن يسبق منه الوعد، هداية (وإن كان وقت العارية) بوقت (فرجع قبل الوقت ضمن المعير) للمستعير (ما نقص البناء والغرس) ، لأنه مغرور من جهته حيث وقت له، والظاهر هو الوفاء بالعهد، فيرجع دفعاً للضرر، هداية. ثم قال: وذكر

(2/203)


وأجرة رد العارية على المستعير، وأجرة رد العين المستأجرة على المؤجر، وأجرة رد العين المغصوبة على الغاصب.
وإذا استعار دابةً فردها إلى إصطبل مالكها لم يضمن، وإن استعار عيناً فردها إلى دار مالكها ولم يسلمها إليه ضمن، وإن رد الوديعة إلى دار المالك ولم يسلمها إليه ضمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحاكم الشهيد أنه يضمن رب الأرض للمستعير قيمة غرسه وبنائه، ويكونان له إلا أن يشاء المستعير أن يرفعهما ولا يضمنه قيمتهما فيكون له ذلك لأنه ملكه، قالوا: إذا كان بالقلع ضرر بالأرض فالخيار إلى رب الأرض، لأنه صاحب أصل، والمستعير صاحب تبع، والترجيح بالأصل، اهـ. قيد بالبناء والغرس لأنه لو استعارها ليزرعها لم تؤخذ منه حتى يحصد الزرع، سواء وقت أم لا، لأن له نهاية معلومة فيترك بأجر المثل مراعاة للحقين، كما في الهداية وغيرها.
(وأجرة رد العارية على المستعير) ، لأن الرد واجب عليه، لأنه قبضها لمنفعة نفسه، والأجرة مؤنة الرد فتكون عليه (وأجرة رد العين المستأجرة على المؤجر) لأن الواجب على المستأجر التمكين والتخلية دون الرد (وأجرة رد العين المغصوبة على الغاصب) ، لأن الرد واجب عليه دفعاً للضرر عن المالك، فتكون مؤنته عليه (وإذا استعار دابة فردها إلى إصطبل مالكها) فهلكت (لم يضمن) وهذا استحسان، لأنه أتى بالتسليم المعتاد المتعارف، لأنه لو ردها إلى المالك لردها إلى المربط كما في الهداية (وإن استعار عينا) نفيسة (فردها إلى دار المالك ولم يسلمها إليه ضمن) قال في الجوهرة: وفي نسخة "لم يضمن" وكذا هو في شرحه، غير أنه بعد ذلك أشار إلى أنه في آلات المنزل، اهـ. أي: بخلاف الأعيان النفيسة فلا ترد إلا إلى المعير، وتمامه في الهداية (وإن رد الوديعة) أو العين المغصوبة (إلى دار المالك ولم يسلمها إليه ضمن) لأن الواجب على الغاصب فسخ فعله، وذلك بالرد

(2/204)