اللباب
في شرح الكتاب كتاب الوديعة.
- الوديعة أمانةٌ في يد المودع، إذا هلكت لم يضمنها، وللمودع أن يحفظها
بنفسه وبمن في عياله، فإن حفظها بغيرهم أو أودعها ضمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون، ولهذا أقروا على بيعهما، إلا أنه يجب قيمة
الخمر وإن كان من ذوات الأمثال؛ لأن المسلم ممنوع من تملكه (وإن استهلكهما)
: أي الخمر والخنزير، وهما (لمسلم) بأن أسلم وهما في يده (لم يضمن)
المستهلك، سواء كان مسلماً أو ذمياً؛ لأنهما ليسا بمال في حقه، وهو مأمور
بإتلافهما، وممنوع عن تملكهما، وتجب في كسر المعازف قيمتها لغير لهو، كما
في المختار.
كتاب الوديعة
مناسبتها للغصب أنها تنقلب إليه عند المخالفة أو التعدي.
وهي لغةً: الترك، وشرعا: تسليط الغير على حفظ ماله، وهي اسم أيضاً لما
يحفظه المودع، كما عبر بذلك المصنف بقوله: (الوديعة) فعلية بمعنى مفعولة -
بتاء النقل إلى الاسمية كما في نهاية ابن الأثير - (أمانة في يد المودع)
بالفتح (إذا هلكت) من غير تعد (لم يضمنها) ؛ لأن بالناس حاجة إلى
الاستيداع، فلو ضمناه يمتنع الناس عن قبول الودائع؛ فتتعطل مصالحهم، هداية
(وللمودع أن يحفظها) : أي الوديعة (بنفسه وبمن في عياله) ؛ لأن الظاهر أنه
يلتزم حفظ مال غيره على الوجه الذي يحفظ به مال نفسه، ولأنه لا يجد بدا من
الدفع إلى عياله؛ لأنه لا يمكنه ملازمة بيته، ولا استصحاب الوديعة في
خروجه، الذي في عياله هو الذي يسكن معه، وتجري عليه نفقته: من امرأته،
وولده، وأجيره، وعبده، وفي الفتاوى: هو ومن يساكنه، سواء كان في نفقته أو
لا، جوهرة (فإن حفها بغيرهم) : أي غير من في عياله (أو أودعها) غيرهم (ضمن)
؛ لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره، والأيدي تختلف في الأمانة، ولأن الشيء
(2/196)
إلا أن يقع في داره حريقٌ فيسلمها إلى
جاره، أو يكون في سفينةٍ يخاف الغرق فيلقيها إلى سفينةٍ أخرى، وإن خلطها
المودع بماله حتى لا تتميز ضمنها، فإن طلبها صاحبها فحبسها عنه وهو يقدر
على تسليمها ضمنها، وإن اختلطت بماله من غير فعله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يتضمن مثله كالوكيل لا يوكل غيره (إلا أن يقع في داره حريق فيسلمها إلى
جاره، أو يكون) المودع (في سفينة) وهاجت الريح، وصار بحيث (يخاف الغرق،
فيلقيها إلى سفينة أخرى) ؛ لأنه تعين طريقا للحفظ في هذه الحالة فيرتضيها
المالك، ولا يصدق على ذلك إلا ببينة، لأنه يدعي ضرورة مسقطة للضمان بعد
تحقق السبب، فصار كما لو ادعى الإذن في الإيداع، هداية. قال في المنتقى:
هذا إذا لم يكن الحريق عاماً مشهوراً عند الناس، حتى لو كان مشهوراً لا
يحتاج إلى البينة، اهـ (وإن خلطها المودع بماله حتى) صارت بحيث (لا تتميز
ضمنها) ولا سبيل للمودع عليها عند أبي حنيفة؛ لاستهلاكها من كل وجه؛ لتعذر
الوصول إلى عين حقه، وقالا: إذا خلطها بجنسها شركه إن شاء؛ لأنه وإن لم
يمكنه الوصول إلى عين حقه صورة يمكنه معنى بالقسمة، فكان استهلاكا من وجه
دون وجه، فيميل إلى أيهما شاء. هداية. قال في التصحيح: واختار قول الإمام
المحبوبي والنسفي وأبو الفضل الموصلي وصدر الشريعة (فإن طلبها صاحبها)
بنفسه أو وكيله (فحبسها عنه وهو يقدر على تسليمها) ثم هلكت (ضمنها) لتعديه
بالمنع فيصير غاصباً. قيد بكونه قادراً على تسليمها لأنه لو حبسها عجزاً أو
خوفا على نفسه أو ماله لم يضمن، وفي القهستاني عن المحيط: لو طلبها فقال
"لم أقدر أن أحضرها تلك الساعة" فتركها فهلكت لم يضمن، لأنه بالترك صار
مودعا ابتداء، ولو طلبها فقال "اطلبها غدا" فلما كان الغد قال "هلكت" لم
يضمن ولو قال في السر "من أخبرك بعلامة كذا فادفعها إليه" ثم جاء رجل بتلك
العلامة ولم يدفعها إليه حتى هلكت لم يضمن، اهـ (وإن اختلطت) الوديعة
(بماله من غير فعله)
(2/197)
فهو شريكٌ لصاحبها، وإن أنفق المودع بعضها
ثم رد مثله فخلطه بالباقي ضمن الجميع، وإذا تعدى المودع في الوديعة - بأن
كانت دابةً فركبها أو ثوباً فلبسه، أو عبداً فاستخدمه، أو أودعها عند غيره
- ثم أزال التعدي وردها إلى يده زال الضمان، فإن طلبها صاحبها فحجدها إياه
فهلكت ضمنها، فإن عاد إلى الاعتراف لم يبرأ من الضمان.
وللمودع أن يسافر بالوديعة وإن كان لها حملٌ ومؤنةٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كأن انشق الظرفان وانصب أحدهما على الآخر (فهو) : أي المودع (شريك لصاحبها)
اتفاقا؛ لاختلاطها من غير جناية (وإن أنفق المودع بعضها) أي الوديعة (ثم رد
مثله) أي مثل ما أنفقه (فخلطه) : أي المردود (بالباقي) ثم هلكت (ضمن
الجميع) أي جميع الوديعة، من الذي كان بقي منها والذي رده إليها عوضاً عما
أنفقه؛ لخلطه الوديعة بماله فيكون استهلاكا على الوجه الذي تقدم (وإذا تعدى
المودع في الوديعة - بأن كانت دابة فركبها، أو ثوباً فلبسه، أو عبدا
فاستخدمه، أو أودعها عند غيره) ممن ليس في عياله (ثم أزال التعدي وردها إلى
يده زال الضمان) لزوال سببه - وهو التعدي - وبقاء الأمر بالحفظ، فكانت يده
كيد المالك حكما؛ لأنه عاملٌ له بالحفظ، فبإزالة التعدي ارتدت إلى يد
صاحبها حكما (فإن طلبها صاحبها فجحدها إياه) فهلكت (ضمنها) ؛ لأنه لما
طالبه بالرد فقد عزله عن الحفظ، فيبقى بعده بالإمساك غاصباً، فيضمن (فإن
عاد) بعد جحوده (إلى الاعتراف) بها (لم يبرأ من الضمان) ؛ لارتفاع العقد،
لأن المطالبة بالرد رفع من جهة المالك، والجحود فسخ من جهة المودع، فتم رفع
العقد منهما، وإذا ارتفع لا يعود إلا بالتجديد، فلم يوجد الرد إلى نائبه،
بخلاف المخالفة، ثم العود إلى الوفاق لبقاء الأمر؛ فكان الرد إلى نائبه كما
ي الهداية.
(وللمودع أن يسافر بالوديعة وإن كان لها حمل) أي ثقل (ومؤنة) أي أجرة عند
أبي حنيفة، لإطلاق الأمر، وقالا: ليس له ذلك إذا كان له حمل ومؤنة،
(2/198)
وإن أودع رجلان عند رجل وديعةً ثم حضر
أحدهما فطلب نصيبه منها لم يدفع إليه شيئاً حتى يحضر الآخر، عند أبي حنيفة،
وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يدفع إليه نصيبه.
وإن أودع رجلٌ عند رجلين شيئاً مما يقسم لم يجز أن يدفعه أحدهما إلى الآخر
ولكنهما يقتسمانه فيحفظ كل واحدٍ منهما نصفه، وإن كان مما لا يقسم جاز أن
يحفظه أحدهما بإذن الآخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأن المالك تلزمه مؤنة الرد في ذلك، فالظاهر أنه لا يرضى به فيتقيد، وظاهر
الهداية ترجيح قولهما بتأخير دليلهما.
(وإن أودع رجلان عند رجل) وديعة من ذوات الأمثال (ثم حضر أحدهما) دون صاحبه
(فطلب نصيبه منها لم يدفع إليه) : أي إلى الحاضر (شيئا) منها (حتى يحضر)
صاحبه (الآخر عند أبي حنيفة) ، لأنه يطالبه بمفرزٍ، وحقه في مشاع ولا يفرز
إلا بالقسمة، وليس للمودع ولايتها (وقالا: يدفع إليه نصيبه) ؛ لأنه يطالبه
بدفع نصيبه الذي سلمه إليه، قال في التصحيح: واعتمد قول الإمام المحبوبي
والنسفي وأبو الفضل الموصلي وصدر الشريعة اهـ. قيدنا بذوات الأمثال لأنها
لو كانت من القيميات لا يدفع إليه اتفاقا، على الصحيح، كما في الهداية
والفيض.
(وإن أودع رجل عند رجلين شيئاً مما يقسم) مثليا كان أو قيميا (لم يجز أن
يدفعه أحدهما إلى الآخر) ، لأن المالك لم يرض بحفظ أحدهما لكله (ولكنهما
يقتسمانه فيحفظ كل واحد منهما نصفه) ، لأنه لما أودعهما مع علمه أنهما لا
يقدران على ترك أعمالهما واجتماعهما أبداً في مكان واحد للحفظ كان راضياً
بقسمتها وحفظ كل واحد للنصف دلالةً، والثابت دلالةً كالثابت بالنص (وإن كان
مما لا يقسم جاز أن يحفظه أحدهما بإذن الآخر) ، لأن المالك يرضى بيد كل
منهما على كله، لعلمه أنهما لا يجتمعان عليه أبداً
(2/199)
وإذا قال صاحب الوديعة للمودع "لا تسلمها إلى زوجتك" فسلمها إليها لم يضمن.
وإن قال له "احفظها في هذا البيت" فحفظها في بيتٍ آخر من الدار لم يضمن،
وإن حفظها في دارٍ أخرى ضمن. |