اللباب في شرح الكتاب

الجزء الرابع.
كتاب الأيمان.
- الأيمان على ثلاثة أضربٍ: يمينٌ غموسٌ، ويمينٌ منعقدةٌ، ويمينٌ لغوٌ.
فاليمين الغموس هي: الحلف على أمرٍ ماضٍ، يتعمد الكذب فيه؛ فهذه اليمين يأثم بها صاحبها، ولا كفارة فيها إلا الاستغفار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الأيمان
(الأيمان) : جمع يمين، وهو لغة: القوة، وشرعا: عبارة عن عقد قوي به عزم الحالف على الفعل أو الترك.
وهي (على ثلاثة أضرب) : الأول (يمين غموس) بالتنكير - صفة ليمين، من الغمس وهو الإدخال في الماء، سميت به لأنها تدخل صاحبها في الإثم ثم في النار، وفي بعض النسخ "الغموس" بالتعريف على الإضافة إليه، فيكون من إضافة الجنس إلى نوعه؛ لكن قال في المغرب: إن الإضافة خطأ لغة وسماعا (و) الثاني (يمين منعقدة) سميت به لعقد الحالف على البر بالقصد والنية (و) الثالث (يمين لغو) سميت به لأنها ساقطة لا مؤاخذة فيها إلا في ثلاث: طلاق، وعتاق، ونذر، كما في الأشباه.
(فاليمين الغموس) وتسمى الفاجرة (هي الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه) مثل أن يحلف على شيء قد فعله ما فعله أو بالعكس، مع علمه بذلك، وقد يقع على الحال، مثل أن يحلف ما لهذا على دين، وهو كاذب، فالتقييد بالماضي اتفاقي أو أكثري (فهذه اليمين يأثم بها صاحبها) لقوله صلى الله عليه وسلم (من حلف كاذباً أدخله الله النار) (ولا كفارة فيها إلا الاستغفار) مع التوبة، لأنها ليست يميناً حقيقية، لأن اليمين عقد مشروع، وهذه كبيرة، فلا تكون مشروعة، وتسميتها يميناً مجاز، لوجود صورة اليمين، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الحر، سماه بيعاً مجازاً كما في الاختيار وغيره، وفي المحيط: الغموس يأثم صاحبها به، ولا يرفعه إلا التوبة النصوح والاستغفار؛ لأنه أعظم من أن ترفعه الكفارة، اه

(4/3)


واليمين المنعقدة: هي الحلف على الأمر المستقبل أن يفعله، أو لا يفعله، فإذا حنث في ذلك لزمته الكفارة.
واليمين اللغو: أن يحلف على أمرٍ ماضٍ، وهو يظن أنه كما قال، والأمر بخلافه، فهذه نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها.
والقاصد في اليمين والمكره والناسي سواءٌ.
ومن فعل المحلوف عليه مكرهاً أو ناسياً سواءٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(واليمين المنعقدة هي الحلف على الأمر المستقبل أن يفعله أو لا يفعله، فإذا حنث في ذلك لزمته الكفارة) لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} : (واليمين اللغو: أن يحلف على أمر ماض) مثل أن يحلف على شيء أنه فعله أو لم يفعله (وهو يظن أنه كما قال، و) كان (الأمر بخلافه) وقد يقع على الحال مثل أن يحلف أنه زيد وإنما هو عمرو، فالفارق بينه وبين الغموس تعمد الكذب، قال في الاختيار: وحكى محمد عن أبي حنيفة أن اللغو ما يجري بين الناس من قولهم: (لا والله، وبلى والله، اهـ. (فهذه) اليمين (نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها) وتعليق عدم المؤاخذة بالرجاء - وقد قال الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله في اللغو في أيمانكم} - للاختلاف في تفسيره أو تواضعاً.
(والقاصد في اليمين والمكره) عليه (والناسي) أي المخطئ، كما إذا أراد أن يقول "اسقني" فقال: والله لا أشرب (سواء) في الحكم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، واليمين) هداية.
(ومن فعل المحلوف عليه قاصداً أو مكرهاً) على فعله (أو ناسياً) لحلفه (سواء) في الحكم أيضاً؛ لأن الفعل حقيقي لا يعدمه الإكراه والنسيان، وكذا الإغماء والجنون، فتجب الكفارة بالحنث كيف ما كان؛ لوجود الشرط حقيقة، وإن لم يتحقق الذنب؛ لأن الحكم يدار على دليله - وهو الحنث - لا على حقيقة الذنب كما في الهداية

(4/4)


واليمين بالله تعالى، أو باسم من أسمائه، كالرحمن والرحيم، أو بصفةٍ من صفاته، كعزة الله وجلاله وكبريائه، إلا قوله "وعلم الله" فإنه لا يكون يميناً، وإن حلف بصفةٍ من صفات الفعل، كغضب الله وسخطه لم يكن حالفاً.
ومن حلف بغير الله لم يكن حالفاً، كالنبي، والقرآن، والكعبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(واليمين) إنما يكون (بالله تعالى) أي بهذا الاسم المعروف باسم الذات (أو باسم) آخر (من أسمائه) تعالى؛ سواء تعورف الحلف به أو لا على المذهب، وذلك (كالرحمن والرحيم) والعليم والحليم (أو بصفة من صفات ذاته) تعالى، وهي التي لا يوصف بضدها إذا تعورف الحلف بها، وذلك (كعزة الله وجلاله وكبريائه) وملكوته وجبروته وعظمته وقدرته، لأن الحلف بها متعارف، ومعنى اليمين - وهو القوة - حاصل، لأنه يعتقد تعظيم الله تعالى وصفاته، فصلح ذكره حاملا ومانعاً، هداية. (إلا قوله وعلم الله فإنه لا يكون يميناً) وإن كان من صفات ذاته تعالى؛ لأنه غير متعارف، ولأنه يذكر ويراد به المعلوم، يقال "اغفر لنا علمك فينا" أي معلومك، هداية. أي: ومعلوم الله تعالى غيره، فلا يكون يمينا، قالوا، إلا أن يريد به الصفة فإنه يكون يمينا، لزوال الاحتمال. جوهرة (وإن حلف بصفة من صفات الفعل) وهي التي يوصف بها وبضدها إذا لم يتعارف الحلف بها (كغضب الله وسخطه) ورضائه ورحمته (لم يكن حالفاً) لأن الحلف بها غير متعارف، ولأن هذه الصفات قد يراد بها أثرها. والحاصل أن الحلف بالصفة سواء كانت صفة ذات أو صفة فعل إن تعورف الحلف بها فيمين، وإلا فلا؛ لأن الأيمان مبنية على العرف (ومن حلف بغير الله) تعالى (لم يكن حالفاً) لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان منكم حالفاً فليحلف بالله أو ليذر) وذلك (كالنبي والقرآن والكعبة) قال في الهداية: لأنه غير متعارف، ثم قال: معناه أن يقول: والنبي، والقرآن، أما لو قال "أنا برئ منه" يكون يمينا؛ لأن التبرئ منها

(4/5)


والحلف بحروف القسم، وحروف القسم: الواو كقوله: والله، والباء كقوله: بالله، والتاء كقوله: تالله، وقد تضمر الحروف فيكون حالفاً، كقوله "الله لا أفعل كذا" وقال أبو حنيفة: إذ قال "وحق الله" فليس بحالفٍ.
وإذا قال "أقسم" أو "أقسم بالله" أو "أحلف" أو "أحلف بالله"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كفر، اهـ: قال الكمال: ولا يخفى أن الحلف بالقرآن الآن متعارف فيكون يميناً، وأما الحلف بكلام الله تعالى فيدور مع العرف. اهـ.
(والحلف) إنما يكون (بحروف القسم، وحروف القسم) ثلاثة، وهي: (الواو كقوله والله، والباء كقوله بالله، والتاء كقوله تالله) ؛ لأن كل ذلك معهود في الأيمان مذكور في القرآن (وقد تضمر) هذه (الحروف فيكون حالفاً) وذلك (كقوله: الله لا أفعل كذا) لأن حذف حرف الجر من عادة العرب إيجازاً، ثم قيل: ينصب لانتزاع حرف الخفض، وقيل: يخفض فتكون الكسرة دالة على المحذوف، درر.
(وقال أبو حنيفة: إذا قال) مريد الحلف (وحق الله فليس بحالف) وهو قول محمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، وعنه رواية أخرى أنه يكون يميناً؛ لأن الحق من صفات الله، وهو حقيقة، فصار كأنه قال والله الحق، والحلف به متعارف، ولهما أنه يراد به طاعة الله؛ إذ الطاعات حقوقه، فيكون حلفاً بغير الله، هداية. قال الإسبيجاني: والصحيح قول أبي حنيفة، وعليه مشى الأئمة كما هو الرسم، تصحيح.
(وإذا قال أقسم أو أقسم بالله أو أحلف أو أحلف بالله) أو أعزم، أو أعزم

(4/6)


أو "أشهد" أو "أشهد بالله" فهو حالفٌ، وكذلك قوله "وعهد الله، وميثاقه، وعلي نذرٌ، أو نذرٌ لله، وإن فعلت كذا فأنا يهوديٌ أو نصرانيٌ أو كافرٌ" فهو يمينٌ.
وإن قال "علي غضب الله، أو سخطه، أو أنا زانٍ، أو شارب خمرٍ، أو آكل رباً" فليس بحالف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالله (أو أشهد أو أشهد بالله فهو حالف) ؛ لأن هذه الألفاظ مستعملة في الحلف، وهذه الصيغة للحال حقيقة، وتستعمل للاستقبال بقرينة؛ فجعل حالفاً في الحال، هداية. (وكذلك قوله وعهد الله، وميثاقه) ؛ لأن العهد يمين، قال تعالى {وأوفوا بعهد الله} والميثاق عبارة عن العهد (و) قوله (على نذر أو) على (نذر لله) لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين) ، هداية.
(أو إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو كافر فهو يمين) ، لأنه لما جعل الشرط علماً على الكفر فقد اعتقده واجب الامتناع، وقد أمكن القول بوجوبه لغيره بجعله يميناً كما نقول في تحريم الحلال، ولو قال ذلك لشيء قد فعله فهو الغموس، ولا يكفر اعتباراً بالمستقبل، وقيل: يكفر، لأنه تنجيز معنى، فصار كما إذا قال: هو يهودي، والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين، وإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما، لأنه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل، هداية. وفي شرح السرخسي: والفتوى على أنه إن اعتقد الكفر به يكفر، وإلا فلا، وصححه قاضيخان.
(وإن قال) : إن فعلت كذا (فعلي غضب الله أو سخطه أو أنا زان أو شارب خمر أو آكل ربا فليس بحالف) ، لأنه غير متعارف، فلو تعورف هل يكون يميناً؟ ظاهر كلامهم: نعم، وظاهر كلام الكمال: لا، وتمامه في النهر

(4/7)


وكفارة اليمين: عتق رقبةٍ، يجزئ فيها ما يجزئ في الظهار، وإن شاء كسا عشرة مساكين كل واحدٍ ثوباً فما زاد، وأدناه ما تجزئ فيه الصلاة، وإن شاء أطعم عشرة مساكين، كالإطعام في كفارة الظهار، فإن لم يقدر على أحد الأشياء الثلاثة صام ثلاثة أيامٍ متتابعاتٍ؛ فإن قدم الكفارة على الحنث لم يجزه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وكفارة اليمين: عتق رقبة، يجزئ فيها ما يجزئ في) كفارة (الظهار) أي رقبة مطلقة، سواء كانت كافرة أو مسلمة صغيرة أو كبيرة، كما مر (وإن شاء كسا عشرة مساكين كل واحد ثوباً) يصلح للأوساط وينتفع به فوق ثلاثة أشهر (فما زاد) عليه (وأدناه) أي: أدنى ما يكفي في الكفارة (ما تجزئ فيه الصلاة) قال في الهداية وشرح الزاهدي: المذكور في الكتاب مروي عن محمد، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أن أدناه ما يستر عامة بدنه، حتى لا يجوز السراويل، وهو الصحيح؛ لأن لابسه يسمى عرياناً في العرف، لكن ما لا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الإطعام باعتبار القيمة، اهـ. (وإن شاء أطعم عشرة مساكين) كل مسكين نصف صاع من برأ ودقيقه أو صاعاً من شعير أو تمر أو أكلتين مشبعتين (كالإطعام) المار (في كفارة الظهار) والأصل فيه قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية، وكلمة "أو" للتخيير؛ فكان الواجب أحد الأشياءؤ الثلاثة، هداية (فإن لم يقدر على أحد الأشياء الثلاثة) المذكورة (صام ثلاثة أيام متتابعات) ، لقوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه "متتابعات" وهي كالخبر المشهور كما في الهداية، ويشترط استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم، فلو صام المعسر يومين ثم أيسر لا يجوز، ويستأنف بالمال، كما في الخانية.
(وإن قدم الكفارة على الحنث لم يجزه) ذلك؛ لعدم وجوبها بعد، لأنها

(4/8)


ومن حلف على معصية، مثل أن لا يصلي، أو لا يكلم أباه، أو ليقتلن فلاناً، فينبغي أن يحنث ويكفر عن يمينه.
وإذا حلف الكافر ثم حنث في حال الكفر، أو بعد إسلامه، فلا حنث عليه.
ومن حرم على نفسه شيئاً مما يملكه لم يصر محرماً لعينه، وعليه إن استباحه كفارة يمينٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنما تجب بالحنث، ثم لا يسترد من المسكين، لوقوعه صدقة.
(ومن حلف على معصية) وذلك (مثل) حلفه على (أن لا يصلي، أو لا يكلم أباه، أو ليقتلن فلانا) اليوم، مثلا (فينبغي) بل يجب عليه (أن يحنث) نفسه (ويكفر عن يمينه) ، لقوله صلى الله عليه وسلم:
(ومن حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه) ، ولأن في ذلك تفويت البر إلى جابر، وهو الكفارة، ولا جابر للمعصية في ضده، وإنما قيدنا باليوم لأن وجوب الحنث لا يتأتى إلا في اليمين المؤقتة، أما المطلقة فحنثه في آخر حياته، فيوصي بالكفارة بموت الحالف، ويكفر عن يمينه بهلاك المحلوف عليه، غاية.
(وإذا حلف الكافر ثم حنث في حال الكفر أو بعد إسلامه فلا حنث عليه) ؛ لأنه ليس بأهل لليمين؛ لأنها تعقد لتعظيم الله تعالى، ومع الكفر لا يكون معظما، ولا هو أهل للكفارة؛ لأنها عبادة، هداية.
(ومن حرم على نفسه شيئاً مما يملكه) وذلك أن يقول: هذا الطعام علي حرام، أو حرام علي أكله (لم يصر محرماً لعينه، وعليه إن استباحه كفارة يمين) ؛ لأن اللفظ ينبئ عن إثبات الحرمة، وقد أمكن إعماله بثبوت الحرمة لغيره بإثبات موجب اليمين؛ فيصار إليه، هداية. وكذا لو كان حراماً أو ملك غيره كقوله

(4/9)


فإن قال "كل حلالٍ علي حرام" فهو على الطعام والشراب، إلا أن ينوي غير ذلك.
ومن نذر نذراً مطلقاً فعليه الوفاء به، وإن علق نذره بشرط فوجد الشرط فعليه الوفاء بنفس الذنر. وروى أن أبا حنيفة رجع عن ذلك وقال: إذا قال "إن فعلت كذا فعلي حجةٌ، أو صوم سنةٍ، أو صدقة ما أملكه"، أجزأه من ذلك كفارة يمينٍ، وهو قول محمدٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخمر أو مال فلان علي حرام، ما لم يرد الإخبار، خانية (فإن قال كل حلال) أو حلال الله، أو حلال المسلمين (علي حرام؛ فهو على الطعام والشراب، إلا أن ينوي غير ذلك) قال في الهداية وشرح الزاهدي: وهذا كله جواب ظاهر الرواية، ومشايخنا قالوا: يقع به الطلاق من غير نية؛ لغلبة الاستعمال، وعليه الفتوى، اهـ. وفي الينابيع: ولو له أربع نسوة يقع على كل واحدة منهن طلقة، فإن لم يكن له امرأة كانت يميناً وعليه كفارة يمين، اهـ.
(ومن نذر نذراً مطلقاً) أي غير معلق بشرط، وهو عبادة مقصودة، وكا من جنسه واجبٌ (فعليه الوفاء به) أي: بما نذره، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى) ، هداية (وإن علق نذره بشرط) فوجد الشرط المعلق عليه (فعليه الوفاء بنفس النذر) الذي سماه لإطلاق الحديث، ولأن المعلق بالشرط كالمنجز عنده (وروى أن أبا حنيفة رجع عن ذلك، وقال) : (إذا قال) الناذر: (إن فعلت كذا فعلي حجة أو صوم سنة أو صدقة ما أملكه) أو نحو ذلك (أجزأه من ذلك كفارة يمين، وهو قول محمد) ويخرج عن العهدة

(4/10)


ومن حلف لا يدخل بيتاً فدخل الكعبة، أو المسجد، أو البيعة، أو الكنيسة لم يحنث.
ومن حلف لا يتكلم فقرأ في الصلاة لم يحنث.
ومن حلف لا يلبس ثوباً وهو لابسه فنزعه في الحال لم يحنث، وكذا إذا حلف لا يركب هذه الدابة وهو راكبها فنزل في الحال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالوفاء بما سمى أيضاً، قال في الهداية: وهذا إذا كان شرطاً لا يريد كونه؛ لأن فيه معنى اليمين، وهو بظاهره نذر، فيتخير ويميل إلى أي الجهتين شاء، بخلاف ما إذا كان شرطا يريد كونه، كقوله: إن شفى الله مريضي؛ لانعدام معنى اليمين به، وهذا التفصيل هو الصحيح، اهـ. وفي شرح الزاهدي: وهذا التفصيل أصح.
(ومن حلف لا يدخل بيتا فدخل الكعبة أو المسجد أو البيعة أو الكنيسة لم يحنث) ؛ لأن البيت ما أعد للبيتوتة، وهذه البقاع ما بنيت لها، وكذا الدهليز والظلة التي على الباب إذا لم يصلحا للبيتوتة، بحر.
(ومن حلف لا يتكلم فقرأ في الصلاة لم يحنث) اتفاقا، وإن قرأ في غير الصلاة حنث، وعلى هذا التسبيح والتهليل والتكبير؛ لأنه في الصلاة ليس بكلام عرفا ولا شرعا، وقيل: في عرفنا لا يحنث مطلقاً؛ لأنه لا يسمى متكلما، بل قارئاً ومسبحاً كما في الهداية، ورجح هذا القول في الفتح للعرف، وعليه الدرر والملتقي، وقواه في الشرنبلالية قائل: ولا عليك من أكثرية التصحيح له مع محالفة العرف.
(ومن حلف لا يبلس ثوباً معيناً وهو لابسه فنزعه في الحال) من غير تراخ (لم يحنث) ؛ لوجود البر بحسب الوسع؛ لأن ما ليس في وسعه مستثنى عرفا؛ إذ اليمين تعقد للبر لا للحنث (وكذلك إذا حلف لا يركب هذه الدابة وهو راكبها فنزل في الحال) لم يحنث، أو لا يسكن هذه الدار وهو ساكنها فأخذ في

(4/11)


وإن لبث ساعةً حنث، وإن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يحنث بالقعود، حتى يخرج ثم يدخل.
ومن حلف لا يدخل داراً فدخل دارا خراباً لم يحنث.
ومن حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها بعد ما انهدمت وصارت صحراءً حنث، ولو حلف لا يدخل هذا البيت فدخله بعد ما انهدم لم يحنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النقلة من ساعته (وإن لبث) على حاله (ساعة حنث) ، لأن هذه الأفعال لها دوام بحدوث أمثالها، ولذا يضرب لها المدة، فيقال: ركبت الدابة يوما، ولبست الثوب يوما، وسكنت الدار شهرا، ولو نوى الابتداء الخالص يصدق به؛ لأنه محتمل كلامه كما في الهداية، ولو خرج من الدار وبقي متاعه وأهله فيها حنث، لأنه يعد ساكنا ببقاء أهله ومتاعه، واعتبر محمد نقل ما تقوم به السكنى، وهو أرفق، وعليه الفتوى كما في الدر عن العيني.
(ومن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يحنث بالقعود) بل (حتى يخرج ثم يدخل) ، لأن الدخول لا دوام له، لأنه انفصال من الخارج إلى الداخل. (ومن حلف لا يدخل داراً) بالتنكير (فدخل دارا خراباً لم يحنث) في يمينه، لأنه لما لم يعينها كان المعتبر في يمينه داراً معتاداً دخولها؛ لأن الأيمان مبنية على العادة والعرف، ولذا لو حلف لا يلبس قميصاً فارتدى به لم يحنث، لأن المقصود اللبس المعتاد (ومن حلف لا يدخل هذه الدار) بالتعريف (فدخل بعد ما انهدمت وصارت صحراء حنث) لأنها لما عينها تعلق ذلك ببقاء اسمها، والاسم فيها باق، ولذا يقال: دار غامرة (ولو حلف لا يدخل هذا البيت فدخله بعد ما انهدم) وصار صحراء (لم يحنث) ، لزوال اسم البيت عنه، فإنه لا يبات فيه، قيدنا بصيرورته

(4/12)


ومن حلف لا يكلم زوجة فلانٍ فطلقها فلانٌ ثم كلمها حنث، ولو حلف لا يكلم عبد فلانٍ، أو لا يدخل دار فلانٍ، فباع عبده وداره ثم كلم العبد ودخل الدار لم يحنث؛ وإن حلف لا يكلم صاحب هذا الطيلسان فباعه ثم كلمه حنث، وكذلك إن حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما صار شيخاً حنث، أو لا يأكل لحم هذا الحمل فصار كبشاً فأكله حنث، وإن حلف لا يأكل من هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صحراء؛ لأنه لو سقط السقف وبقي الحيطان يحنث لأنه يبات فيه كما في الهداية.
(ومن حلف لا يكلم زوجة فلان) المعينة (فطلقها فلان) بائناً (ثم كلمها) الحالف (حنث) ، لأن الحر يصد بالهجران، فكانت الإضافة للتعريف المحض، بخلاف غير المعينة حيث لا يحنث، لعقد اليمين على فعل واقع في محل مضاف إلى فلان ولم يوجد. قيدنا بالبائن لأن الرجعي لا يرفع الزوجية (وإن حلف لا يكلم عبد فلان أو لا يدخل دار فلان فباع) فلان (عبده وداره ثم كلم) الحالف (العهد ودخل الدار لم يحنث) لأن العبد والدار لا يقصدان بالهجران لذواتهما، بل للنسبة إلى ملاكهما، واليمين ينعقد على مقصود الحالف إذا احتمله اللفظ، فصار كأنه قال: ما دام لفلان (وإن حلف لا يكلم صاحب هذا الطيلسان فباعه ثم كلمه حنث) ؛ لأن هذه الإضافة لا تحتمل إلا التعريف؛ لأن الإنسان لا يعادى لمعنى في الطيلسان؛ فصار كما إذا أشار إليه (وكذلك إن حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما صار شيخاً، أو حلف لا يأكل لحم هذا الحمل) بمهملات - ولد الضأن في السنة الأولى (فصار) الحمل (كبشا فأكله حنث) ، لأن المنع كان لعينهما لا لاتصافهما بهذا الوصف، لأنه ليس بداع لليمين (وإن حلف لا يأكل من هذه

(4/13)


النخلة فهو على ثمرها، وإن حلف لا يأكل من هذا البسر فصار رطباً فأكله لم يحنث، وإن حلف لا يأكل بسراً فأكل رطباً لم يحنث.
ومن حلف لا يأكل رطباً فأكل بسراً مذنباً حنث عند أبي حنيفة.
ومن حلف لا يأكل لحماً فأكل السمك لم يحنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النخلة فهو على ثمرها) ، لأنه أضاف اليمين إلى ما لا يؤكل فينصرف إلى ما يخرج منه لأنه سبب له فيصلح مجازاً عنه، لكن الشرط أن لا يتغير بصنعة جديدة، حتى لا يحنث بالنبيذ والخل والدبس المطبوخ، هداية (وإن حلف لا يأكل من هذا البسر) بضم الموحدة وسكون المهملة - ثمر النخل قبل أن يصير رطباً (فصار رطباً) أو من هذا الرطب فصار تمراً (فأكله لم يحنث) ، لأن هذه الأوصاف داعية إلى اليمين فيتقيد اليمين بها (و) كذا (إن حلف لا يأكل بسراً) بالتنكير (فأكل رطباً لم يحنث) ، لأنه ليس ببسر (ومن حلف لا يأكل رطباً) أو بسراً، أو لا يأكل رطباً ولا بسراً (فأكل بسراً مذنباً) أو رطباً مذنباً (حنث عند أبي حنيفة) ، لأن البسر المذنب ما يكون في ذنبه قليل الرطب، والرطب المذنب على عكسه، فيكون آكله آكل البسر والرطب، وكل واحد مقصود في الأكل. قال جمال الإسلام: وهو قول محمد، وقال أبو يوسف: لا يحنث، والصحيح قولهما، واعتمده الأئمة المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(ومن حلف لا يأكل لحماً فأكل السمك لم يحنث) لأن إطلاق اسم اللحم لا يتناوله في العرف والعادة، ولا يرد تسميته لحماً في القرآن، لأن الأيمان مبنية على العرف والعادة، لا على ألفاظ القرآن، ولذا لو حلف لا يخرب بيتا فخرب بيت العنكبوت

(4/14)


ومن حلف لا يشرب من دجلة فشرب منها بإناءٍ لم يحنث حتى يكرع منها كرعاً في قول أبي حنيفة، ومن حلف لا يشرب من ماء دجلة فشرب منها بإناءٍ حنث.
ومن حلف لا يأكل من هذه الحنطة فأكل من خبزها لم يحنث، ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يحنث، وإن سمى في القرآن بيتاً، كما في الجوهرة، قال الإسبيجاني: والقياس أن يحنث وهو رواية عن أبي يوسف: والصحيح ظاهر الرواية، وهو المعتمد عند الأئمة المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(ومن حلف لا يشرب من) شيء يمكن فيه الكرع نحو (دجلة فشرب منها بإناء لم يحنث) ، لعدم وجود حقيقة المحلوف عليه، فلا يحنث (حتى يكرع منها كرعا) وذلك (في قول أبي حنيفة) ، لأن الحيقة مستعملة، ولهذا يحنث بالكرع إجماعاً، فمنعت المصير إلى المجاز، وإن كان متعارفا، قال العلامة بهاء الدين في شرحه: وقال أبو يوسف ومحمد: يحنث، والصحيح قول أبي حنيفة، ومشى عليه الأئمة، تصحيح. قيدنا بما يمكن فيه الكرع لأن ما لا يمكن فيه ذلك كالبئر يحنث مطلقا، بل لو تكلف الكرع لا يحنث في الأصح لهجر الحقيقة وتعين المجاز (ومن حلف لا يشرب من ماء دجلة فشرب منها بإناء حنث) لأن يمينه انعقد على الماء المنسوب إليه، وبعد الاغتراف بقي منسوبا إليه.
(ومن حلف لا يأكل من هذه الحنطة فأكل من خبزها لم يحنث) عند أبي حنيفة، لأن له حقيقة مستعملة فإنها تغلى وتقلى وتؤكل قضما، والحقيقة راجحة على المجاز المتعارف على ما هو الأصل عنده، قال العلامة بهاء الدين في شرحه: وقال أبو يوسف ومحمد: يحنث، والصحيح قول أبي حنيفة، ومشى عليه الأئمة المحبوبي والنسفي وغيرهما، ولو قضمها حنث عندهما في الصحيح، قاله قاضيخان، تصحيح (ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه) ونحوه مما يتخذ منه كعصيدة وحلوى

(4/15)


حنث، ولو استفه كما هو لم يحنث، ولو حلف لا يكلم فلاناً فكلمه وهو بحيث يسمع إلا أنه نائمٌ حنث، وإن حلف لا يكلمه إلا بإذنه فأذن له ولم يعلم بالإذن حتى كلمه حنث.
وإذا استحلف الوالي رجلاً ليعلمه بكل داعرٍ دخل البلد، فهذا على حال ولايته خاصةً.
ومن حلف لا يركب دابة فلانٍ فركب دابة عبده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(حنث) ؛ لأن عينه غير مأكول؛ لعدم جريان العادة باستعماله كذلك؛ فينصرف إلى ما يتخذ منه (ولو استفه كما هو لم يحنث) قال قاضيخان وصاحب الهداية والزاهدي: هو الصحيح؛ لتعين المجاز مراداً، تصحيح.
(وإن حلف لا يكلم فلاناً فكلمه وهو بحيث يسمع) كلامه (إلا أنه نائم حنث) ؛ لأنه قد كلمه ووصل إلى سمعه، لكنه لم يفهم لنومه، فصار كما إذا ناداه من بعيد وهو بحيث يسمع لكنه لم يفهم لتغافله، وفي بعض روايات المبسوط شرط أن يوقظه، وعليه مشايخنا، لأنه إذا لم ينتبه كان كما إذا ناداه من بعيد وهو بحيث لا يسمع صوته، هداية، ومثله في المجتبى (وإن حلف لا يكلمه إلا بإذنه فأذن له) المحلوف عليه بكلامه (و) لكن (لم يعلم) الحالف (بالإذن حتى كلمه حنث) ، لأن الإذن مشتق من الأذان الذي هو الإعلام أو من الوقوع في الأذن، وكل ذلك لا يتحقق إلا بالسماع، وقال أبو يوسف: لا يحنث، لأن الأذن هو الإطلاق، وإنه يتم بالإذن كالرضا، قلنا: الرضا من أعمال القلب، ولا كذلك على ما مر، هداية.
(وإذا استحلف الوالي رجلا ليعلمه بكل داعر) أي مفسد (دخل البلد فهذا) الحلف مقصور (على حال ولايته خاصة) ، لأن مقصود الوالي دفع شر داعر بزجره، وهذا إنما يكون حال ولايته، فإذا مات أو عزل زالت اليمين، ولم تعد بعوده، كما في الجوهرة.
(ومن حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة عبده) لمأذون له سواء

(4/16)


لم يحنث.
ومن حلف لا يدخل هذه الدار فوقف على سطحها، أو دخل دهليزها حنث، وإن وقف في طاق الباب بحيث إذا أغلق الباب كان خارجاً لم يحنث.
ومن حلف لا يأكل الشواء، فهو على اللحم دون الباذنجان والجزر.
ومن حلف لا يأكل الطبيخ فهو على ما يطبخ من اللحم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان مديونا أو لا (لم يحنث) عند أبي حنيفة، إلا أنه إذا كان عليه دين مستغرق لا يحنث وإن نوى؛ لأنه لا ملك للمولى فيه عنده، وإن كان الدين غير مستغرق أو لم يكن عليه دين لا يحنث ما لم ينوه؛ لأن الملك فيه للمولى، لكنه يضاف إلى العبد عرفا وشرعا، وقال أبو يوسف في الوجوه كلها: يحنث إذا نواه، لاختلال الإضافة، وقال محمد: يحنث وإن لم ينو، لاعتبار حقيقة الملك، إذ الدين لا يمنع وقوعه للسيد عندهما كما في الهداية، قال في التصحيح: وعلى قول أبي حنيفة مشى الأئمة المصححون. اهـ.
(ومن حلف لا يدخل هذه الدار فوقف على سطحها أو دخل دهليزها حنث) ، لأن السطح من الدار، ألا ترى أن المعتكف لا يفسد اعتكافه بالخروج إلى سطح المسجد، وقيل: في عرفنا لا يحنث، هداية، ووفق الكمال بحمل الحنث على سطح له ساتر وعدمه على مقابله، وفي البحر: والظاهر عدم الحنث في الكل، لأنه لا يسمى داخلا عرفا، (وإن وقف في طاق الباب) وكان (بحيث إذا أغلق الباب كان خارجا) عنه (لم يحنث) ، لأن الباب لإحراز الدار وما فيها، فلم يكن الخارج من الدار.
(ومن حلف لا يأكل الشواء فهو) أي حلفه (على اللحم) المشوي (دون) غيره مما يشوى، مثل (الباذنجان والجزر) ونحوه، لأنه المراد عند الإطلاق، إلا أن ينوي مطلق ما يشوى، لمكان الحقيقة (ومن حلف لا يأكل الطبيخ فهو على ما يطبخ من اللحم) استحسانا اعتبارا للعرف، وهذا لأن التعميم متعذر فيصرف إلى

(4/17)


ومن حلف لا يأكل الرءوس، فيمينه على ما يكبس في التنابير، ويباع في المصر.
ومن حلف لا يأكل الخبز فيمينه على ما يعتاد أهل البلد أكله خبزاً، فإن أكل خبز القطائف أو خبز الأرز بالعراق لم يحنث.
ومن حلف لا يبيع أو لا يشتري أو لا يؤاجر فوكل بذلك لم يحنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خاص هو متعارف وهو اللحم المطبوخ بالماء، إلا إذا نوى غير ذلك؛ لأن فيه تشديداً على نفسه كما في الهداية (ومن حلف لا يأكل الرءوس فيمينه) مقصورة (على ما يكبس) أي يدخل (في التنانير ويباع في) ذلك (المصر) أي مصر الحالف؛ لأنه لا يمكن حمله على العموم؛ إذ الإنسان لا يقصد بيمينه رءوس الجراد والعصافير ونحو ذلك؛ فكان المراد منه المتعارف، قال في الهداية: وفي الجامع الصغير: لو حلف لا يأكل رأسا فهو على رأس البقر والغنم عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: على الغنم خاصة، وهذا اختلاف عصر وزمان، كان العرف في زمنه فيهما، وفي زمنهما في الغنم خاصة، وفي زماننا بقي على حساب العادة كما هو المذكور في المختصر، اهـ (ومن حلف لا يأكل الخبز فيمينه) مقصورة (على ما يعتاد أهل) ذلك (البلد) أي بلد الحالف (أكله خبزاً) ، لما مر من أن العرف هو المعتبر (فإن أكل خبز القطائف أو خبز الأرز بالعراق لم يحنث) ، لأن القطائف لا يسمى خبزاً مطلقا؛ إلا إذا نواه؛ لأنه يحتمله، وخبز الأرز غير معتاد عند أهل العراق، حتى لو كان في بلدة طعامهم ذلك يحنث.
(ومن حلف لا يبيع ولا يشتري أو لا يؤاجر فوكل) الحالف غيره (بذلك) الفعل (لم يحنث) ؛ لأن حقوق هذه العقود ترجع إلى العاقد، فلم يوجد

(4/18)


ومن حلف لا يتزوج، أو لا يطلق، أو لا يعتق، فوكل بذلك حنث.
ومن حلف لا يجلس على الأرض فجلس على بساطٍ أو حصيرٍ، لم يحنث.
ومن حلف لا يجلس على سريرٍ، فجلس على سريرٍ فوقه بساطٌ حنث، وإن جعل فوقه سريراً آخر فجلس عليه لم يحنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما هو الشرط، وهو العقد من الآمر الثابت له حكم العقد، إلا أن ينوي ذلك؛ لأن فيه تشديداً على نفسه، أو يكون الحالف ذا سلطان لا يتولى العقد بنفسه؛ لأنه يمنع نفسه عما يعتاده، حتى لو كان الوكيل هو الحالف يحنث كما في الهداية.
(ومن حلف لا يتزوج أو لا يطلق أو لا يعتق فوكل) غيره (بذلك) الفعل (حنث) ؛ لأن الوكيل في هذه العقود سفير ومعبر، ولهذا لا يضيفه إلى نفسه، بل إلى الآمر، وحقوق العقد ترجع إلى الآمر لا إليه، هداية.
(ومن حلف لا يجلس على الأرض فجلس على بساط أو حصير لم يحنث) لأنه لا يسمى جالساً على الأرض، بخلاف ما إذا حال بينه وبينها لباسه لأنه تبع له، فلم يعتبر حائلا (ومن حلف لا يجلس على سرير) معين (فجلس على سرير) أي على السرير المحلوف عليه وكان (فوقه بساط) أو حصير (حنث) لأنه يعد عرفاً جالساً عليه (وإن جعل فوقه سريراً آخر فجلس عليه لم يحنث) ؛ لأنه لم يجلس على السرير المحلوف عليه، وإنما جلس على غيره، إذ لجلوس حينئذ ينسب إلى الثاني، ولذا قيدنا بالمعين، إذ لو كان يمينه على غير معين يحنث، لوجود الجلوس على سرير

(4/19)


وإن حلف لا ينام على فراشٍ فنام عليه وفوقه قرامٌ حنث وإن جعل فوقه فراشاً آخر لم يحنث.
ومن حلف بيمينٍ، وقال "إن شاء الله" متصلاً بيمينه، فلا حنث عليه، وإن حلف ليأتينه إن استطاع فهذا على استطاعة الصحة دون القدرة.
وإن حلف لا يكلم فلاناً حيناً أو زماناً، أو الحين أو الزمان فهو على ستة أشهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن حلف لا ينام على فراش) معين كما تقدم (فنام عليه وفوقه قرام) أي ستر (حنث) لأنه تبع للفراش؛ فيعد نائماً عليه (وإن جعل فوقه فراشاً آخر لم يحنث) ، لأن مثل الشيء لا يكون تبعاً له فقطعت النسبة عن الأول.
(ومن حلف بيمين وقال: إن شاء الله) أو إلا أن يشاء الله (متصلا بيمينه) سواء كان مقدماً أو مؤخراً (فلا حنث عليه) ولابد من الاتصال؛ لأنه بعد الفراغ رجوع، في اليمين (وإن حلف ليأتينه) غداً مثلا (إن استطاع فهذا) الحلف (على استطاعة الصحة) وهي سلامة الآلات والأسباب مع عدم المانع؛ لأنه المتعارف، والأيمان مبنية على العرف (دون القدرة) الحقيقية المقارنة للفعل، لأنه غير متعارف، قال في الهداية: وهذا لأن حقيقة الاستطاعة فيما يقارن الفعل، ويطلق الاسم على سلامة الآلات وصحة الأسباب في المتعارف، فعند الإطلاق ينصرف إليه، ويصح نية الأول ديانة؛ لأنه حقيقة كلامه، ثم قيل: يصح قضاءه، لما بينا، وقيل: لا يصح، لأنه خلاف الظاهر، اهـ، قال في الفتح: وهو الأوجه.
(وإن حلف لا يكلم فلاناً حينا أو زماناً) منكراً (أو لحين أو الزمان) معرفاً (فهو على ستة أشهر) من حين حلفه؛ لأنه الوسط فينصرف عند الإطلاق

(4/20)


وكذلك الدهر عند أبي يوسف ومحمدٍ.
ولو حلف لا يكلمه أياماً فهو على ثلاثة أيامٍ، ولو حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيامٍ عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: على أيام الإسبوع، ولو حلف لا يكلمه الشهور فهو على عشرة أشهرٍ عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: على اثني عشر شهراً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إليه، وإن نوى غيره من أحد معانيه فهو على ما نواه؛ لأنه حقيقة كلامه (وكذلك الدهر عند أبي يوسف ومحمد) قال الإسبيجاني في شرحه: وقال أبو حنيفة: لا أدري ما الدهر، فإن كانت له نية فهو على ما نوى، ومن أصحابنا من قال: الدهر بالألف واللام هو الأبد عندهم، وإنما الخلاف في المنكر، ومثله في الهداية وشرح الزاهدي بزيادة: وهو الصحيح، ثم قال الإسبيجاني: الصحيح قول أبي حنيفة؛ لأنه لم ينقل عن أهل اللغة فيه تقدير معلوم، فلم يجز إثباته، بل يرجع إلى نية الحالف، اهـ. واختاره الأئمة المحبوبي والنسفي وصدر الشريعة، تصحيح.
(ولو حلف لا يكلمه أياماً فهو على ثلاثة أيام) ؛ لأنه جمع ذكر منكراً فتناول أقل الجمع، وهو الثلاث (ولو حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيام عند أبي حنيفة) لأنه جمع ذكر معرفاً فينصرف إلى أقصى ما يذكر بلفظ الجمع، وذلك عشرة. هداية (وقال أبو يوسف ومحمد: على أيام الإسبوع) ؛ لأن اللام للمعهود، وهو الأسبوع لأنه يدور عليها (ولو حلف لا يكلمه الشهور فهو على عشرة أشهر عند أبي حنيفة، وقالا: على اثني عشر شهرا) ؛ لما ذكرنا أن الجمع المعرف عنده ينصرف إلى أقصى ما ذكر بلفظ الجمع وهو العشرة، وعندهما ينصرف إلى المعهود وهو أشهر العام الاثنا عشر، لأنه يدور عليها، قال جمال الإسلام: الصحيح قول أبي حنيفة، واعتمده الأئمة المذكورون قبله، تصحيح

(4/21)


وإذا حلف لا يفعل كذا تركه أبداً، وإن حلف ليفعلن كذا ففعله مرةً واحدةً بر في يمينه.
ومن حلف لا تخرج امرأته إلا بإذنه، فأذن لها مرةً فخرجت ثم خرجت مرةً أخرى بغير إذنه حنث، ولابد من إذن في كل خروجٍ، وإن قال "إلا أن آذن لك" فأذن لها مرةً ثم خرجت بعدها بغير إذنه لم يحنث.
وإذا حلف لا يتغدى فالغداء الأكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا حلف لا يفعل كذا تركه أبدا) ؛ لأن يمينه وقعت على النفي، والنفي لا يختص بزمان دون زمان، فحمل على التأبيد (وإن حلف ليفعلن كذا ففعله مرة واحدة بر في يمينه) ؛ لأن المقصود إيجاد الفعل، وقد أوجده، ولا يحنث إلا بوقوع اليأس منه، وذلك بموته أو بفوت محل الفعل.
(ومن حلف لا تخرج امرأته إلا بإذنه) أو بأمره أو بعلمه (فأذن لها) أو أمرها (مرة فخرجت) ورجعت (ثم خرجت مرة أخرى بغير إذنه) أو أمره أو علمه (حنث) في حلفه (ولابد) لعدم الحنث (من إذن) أو أمر أو علم (في كل خروج) لأن المستثنى خروج مخصوص بالإذن، وما وراءه داخل في الحظر العام، ولو نوى الإذن مرة يصدق ديانة لا قضاء؛ لأنه محتمل كلامه، لكنه خلاف الظاهر، هداية. ولو قال "كلما خرجت فقد أذنت لك" سقط إذنه كما في الجوهرة. (وإن قال إلا أن) أو حتى (آذن لك) أو آمرك (فأذن لها) أو أمرها (مرة واحدة ثم خرجت بعدها بغير إذنه) أو أمره (لم يحنث) في حلفه؛ لأن ذلك للتوقيت، فإذا أذن مرة فقد انتهى الوقت وانتهى الحلف بانتهائه (وإذا حلف لا يتغدى فالغداء) هو (الأكل) الذي يقصد به الشبع

(4/22)


من طلوع الفجر إلى الظهر، والعشاء من صلاة الظهر إلى نصف الليل، والسحور من نصف الليل إلى طلوع الفجر.
وإن حلف ليقضين دينه إلى قريبٍ فهو ما دون الشهر، وإن قال "إلى بعيد" فهو أكثر من الشهر.
ومن حلف لا يسكن هذه الدار فخرج منها بنفسه وترك فيها أهله ومتاعه حنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عادة؛ ويعتبر عادة كل بلد في حقهم، حتى لو شبع بشرب اللبن يحنث البدوي لا الحضري، زيلعي (من طلوع الفجر إلى الظهر) وفي البحر عن الخلاصة "طلوع الشمس" قال: وينبغي اعتماده للعرف، زاد في النهر: وأهل مصر يسمونه فطوراً إلى ارتفاع الضحى الأكبر، فيدخل وقت الغداء، فيعمل بعرفهم، قلت: وكذا أهل دمشق الشام. در (والعشاء من صلاة الظهر إلى نصف الليل) وفي البحر عن الإسبيجاني: وفي عرفنا وقت العشاء بعد صلاة العصر، قلت: وهو عرف مصر والشام، در (والسحور من نصف الليل إلى طلوع الفجر) لأنه مأخوذ من السحر، ويطلق على ما يقرب منه، وهو نصف الليل.
(وإن حلف ليقضين دينه إلى قريب فهو ما دون الشهر) ؛ لأن ما دونه يعد قريباً عرفاً (وإن قال إلى بعيد فهو أكثر من الشهر) وكذا الشهر؛ لأن الشهر وما زاد عليه يعد بعيدا، ولهذا يقال عند بعد العهد: ما لقيتك منذ شهر، كما في الهداية.
(ومن حلف لا يسكن هذه الدار) أو البيت، أو المحلة (فخرج منها بنفسه وترك فيها أهله ومتاعه حنث) ؛ لأنه يعد ساكنا ببقاء أهله ومتاعه فيها

(4/23)


ومن حلف ليصعدن السماء أو ليقلبن هذا الحجر ذهباً انعقدت يمينه وحنث عقيبها.
ومن حلف ليقضين فلاناً دينه اليوم فقضاه ثم وجد فلانٌ بعضه زيوفاً أو نبهرجةً، أو مستحقة - لم يحنث، وإن وجدها رصاصاً أو ستوقة حنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عرفا، فإن السوقي عامة النهار في السوق، ويقول: أسكن سكة كذا، ثم قال أبو حنيفة: لابد من نقل كل المتاع، حتى لو بقي وتد حنث، لأن السكنى ثبتت بالكل فتبقى ما بقي شيء منه، وقال أبو يوسف: يعتبر نقل الأكثر، لأن نقل الكل قد يتعذر، وقال محمد: يعتبر نقل ما تقوم به السكنى؛ لأن ما وراء ذلك ليس من السكنى، قالوا: هذا أحسن وأرفق بالناس، كذا في الهداية. وفي الدر عن العيني: وعليه الفتوى.
(ومن حلف ليصعدن السماء، أو ليقلبن هذا الحجر ذهباً، انعقد يمينه) ؛ لإمكان البر حقيقة بإقدار الله تعالى، فينعقد يمينه (وحنث عقيبها) للعجز عادة، بخلاف ما إذا حلف: ليشربن ماء هذا الكوز ولا ماء فيه حيث لا يحنث لأن شرب مائه ولا ماء فيه لا يتصور، والأصل في ذلك: أن إمكان البر في المستقبل شرط انعقاد اليمين؛ إذ لابد من تصور الأصل لتنعقد في حق الحلف، وهو الكفارة.
(ومن حلف ليقيضن فلاناً دينه اليوم) مثلا (فقضاه) إياه (ثم وجد فلان بعضه) أو كله (زيوفاً) وهي ما يقبله التجار ويرده بيت المال (أو نبهرجة) وهي ما يرده كل منهما (أو مستحقاً) للغير (لم يحنث) الحالف،

(4/24)


ومن حلف لا يقبض دينه درهماً دون درهمٍ فقبض بعضه، لم يحنث حتى يقبض جميعه متفرقاً، وإن قبض دينه في وزنتين لم يتشاغل بينهما إلا بعمل الوزن لم يحنث، وليس ذلك بتفريقٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لوجود الشرط، لأن الزيوف والنبهرجة من الدراهم، غير أنها معيبة، والعيب لا يعدم الجنس، ولذا لو تجوز بها صار مستوفيا، وقبض المستحقة صحيح فلا يرتفع برده البر المتحقق كما في الهداية.
(وإن وجدها رصاصاً أو ستوقةً) بالفتح - أراد من النبهرجة. وعن الكرخي: الستوقة عندهم ما كان الصفر أو النحاس هو الغالب الأكثر فيه، مغرب. وقيل: ما كان داخله نحاس وخارجه فضة (حنث) في يمينه؛ لأنهما ليسا من جنس الدراهم، حتى لا يجوز التجوز بهما في الصرف والسلم، هداية.
(ومن حلف لا يقبض دينه درهما دون درهم) أي متفرقاً (فقبض بعضه لم يحنث) بمجرد قبض البعض، بل (حتى يقبض جميعه متفرقاً) ، لأن الشرط قبض الكل، لكنه بوصف التفرق، لأنه أضاف القبض إلى دين معروف مضاف إليه فينصرف إلى كله، فلا يحنث إلا به، هداية.
(وإن قبض دينه في وزنتين) أو أكثر، و (لم يتشاغل بينهما إلا بعمل الوزن لم يحنث، وليس ذلك بتفريق) ؛ لأنه قد يتعذر قبض الكل دفعة واحدة عادة، فيصير هذا القدر مستثنى عنه، هداية

(4/25)


ومن حلف ليأتين البصرة فلم يأتها حتى مات، حنث في آخر جزء من أجزاء حياته.