اللباب في شرح الكتاب

كتاب القسمة.
- ينبغي للإمام أن ينصب قاسماً يرزقه من بيت المال ليقسم بين الناس بغير أجرةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب القسمة
لا تخفى مناسبتها للقضاء، لأنها بالقضاء أكثر من الرضا.
وهي لغةً: اسم للاقتسام. وشرعاً: جمع نصيب شائع في مكان مخصوص.
وسببها: طلب الشركاء أو بعضهم للانتفاع بملكه على وجه الخصوص. وشرطها: عدم فوت المنفعة بالقسمة.
ثم هي لا تعرى عن معنى المبادلة، لأن ما يجتمع لأحدهما بعضه كان له، وبعضه كان لصاحبه، فهو يأخذ عوضاً عما يبقى من حقه في نصيب صاحبه، فكان مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه. والإفراز هو الظاهر في المكيلات والموزونات لعدم التفاوت، حتى كان لأحدهما أن يأخذ نصيبه حال غيبة صاحبه، والمبادلة هي الظاهر في غيره للتفاوت، حتى لا يكون لأحدهما أخذ نصيبه عند غيبة صاحبه، إلا أنه إذا كانت من جنس واحد، أجبره القاضي على القسمة عند طلب أحدهم، لأن فيه معنى الإفراز لتقارب المقاصد، والمبادلة مما يجري فيه الجبر كما في قضاء الدين، وإن كانت أجناساً مختلفة لا يجبر القاضي على قسمتها، لتعذر المعادلة باعتبار فحش التفاوت في المقاصد، ولو تراضوا عليها جاز، لأن الحق لهم، وتمامه في الهداية.
(ينبغي للإمام أن ينصب قاسماً يرزقه من بيت المال ليقسم بين الناس بغير أجرة) ، لأن القسمة من جنس عمل القضاء، من حيث إنه يتم به قطع

(4/91)


فإن لم يفعل نصب قاسماً يقسم بالأجرة، ويجب أن يكون عدلاً، مأموناً، عالماً بالقسمة، ولا يجبر القاضي الناس على قاسمٍ واحدٍ، ولا يترك القسام يشتركون.
وأجر القسمة على عدد الرءوس عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: على قدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المنازعة، فأشبه رزق القاضي (فإن لم يفعل نصب قاسما يقسم بالأجرة) من مال المتقاسمين؛ لأن النفع لهم، وهي ليست بقضاء حقيقة، فجاز له أخذ الأجرة عليها، وإن لم يجز على القضاء كما في الدر عن أخي زاده، قال في الهداية: والأفضل أن يرزقه من بيت المال، لأنه أرفق بالناس وأبعد عن التهمة، اهـ.
(ويجب أن يكون) المنصوب للقسمة (عدلا) ، لأنها من جنس عمل القضاء (مأموناً) ليعتمد على قوله (عالماً بالقسمة) ليقدر عليها، لأن من لا يعلمها لا يقدر عليها.
(ولا يجبر القاضي الناس على قاسم واحد) قال في الهداية: معناه لا يجبرهم على أن يستأجروه، لأنه لا جبر على العقود، ولأنه لو تعين لتحكيم بالزيادة على أجر مثله، ولو اصطلحوا فاقتسموا جاز، إلا إذا كان فيهم صغير فيحتاج إلى أمر القاضي، لأنه لا ولاية لهم عليه، اهـ. (ولا يترك) القاضي (القسام يشتركون) كيلا يتواضعوا على مغالاة الأجر، فيحصل الإضرار بالناس.
(وأجرة القسمة على عدد الرءوس عند أبي حنيفة) لأن الأجر مقابل بالتمييز، وإنه لا يتفاوت، وربما يصعب الحساب بالنظر إلى القليل، وقد ينعكس الحال، فتعذر اعتباره، فيتعلق الحكم بأصل التمييز (وقالا: على قدر

(4/92)


الأنصباء.
وإذا حضر الشركاء وفي أيديهم دارٌ أو ضيعةٌ ادعوا أنهم ورثوها عن فلانٍ لم يقسمها عند أبي حنيفة حتى يقيموا البينة على موته وعدد ورثته، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يقسمها باعترافهم، ويذكر في كتاب القسمة أنه قسمها بقولهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأنصباء) ، لأنه مؤونة الملك فيتقدر بقدره، قال في التصحيح: وعلى قول الإمام مشى في المغنى والمحبوبي وغيرهما.
(وإذا حضر الشركاء عند القاضي وفي أيديهم دار أو ضيعة) أي أرض (ادعوا أنهم ورثوها عن) مورثهم (فلان لم يقسمها عند أبي حنيفة) ، لأن القسمة قضاء على الميت، إذ التركة مبقاة على ملكه قبل القسمة، بدليل ثبوت حقه في الزوائد، كأولاد ملكه وأرباحه، حتى تقضى ديونه منها وتنفذ وصاياه، وبالقسمة ينقطع حق الميت عن التركة، حتى لا يثبت حقه فيما يحدث بعده من الزوائد، فكانت قضاء على الميت، فلا يجابون إليها بمجرد الدعوى، بل (حتى يقيموا البينة على موته وعدد ورثته) ويصير البعض مدعياً والبعض الآخر خصما عن المورث، ولا يمتنع ذلك إقراره، كما في الوارث أو الوصي المقر بالدين فإنه تقبل البينة عليه مع إقراره (وقالا: يقسمها باعترافهم) لأن اليد دليل الملك، ولا منازع لهم، فيقسمها كما في المنقول والعقار المشترى (و) لكن (يذكر في كتاب القسمة أنه قسمها بقولهم) ليقتصر عليهم، ولا يكون قضاء على شريك آخر لهم.
قال الإمام جمال الإسلام في شرحه: الصحيح قول الإمام، واعتمده المحبوبي والنسفي وصدر الشريعة وغيرهم، كذا في التصحيح.
(وإذا كان المشترك ما سوى العقار وادعوا أنه ميراث) أو مشترى أو ملك مطلق، وطلبوا قسمته (قسمة في قولهم جميعا) ؛ لأن في قسمة المنقول نظراً للحاجة إلى الحفظ (وإن ادعوا في العقار أنهم اشتروه) وطلبوا قسمته (قسمه بينهم) أيضاً؛ لأن المبيع يخرج من ملك البائع وإن لم يقسم، فلم تكن القسمة قضاء على الغير (وإن) ادعوا الملك المطلق، و (لم يذكروا كيف انتقل) إليهم (قسمه بينهم) أيضاً؛ لأنه ليس في القسمة قضاء على الغير؛ فإنهم ما أقروا بالملك لغيرهم، قال في التصحيح: هذه رواية كتاب القسمة، وفي رواية الجامع: لا يقسمها حتى يقيما البينة أنها لهما، قال في الهداية: ثم قيل هو قول أبي حنيفة خاصة، وقيل: هو قول الكل، وهو الأصح، وكذا نقل الزاهدي.
(وإذا كان كل واحد من الشركاء ينتفع بنصيبه) بعد القسمة (قسم بطلب أحدهم) ؛ لأن في القسمة تكميل المنفعة؛ فكانت حقاً لازماً فيما يقبلها بعد طلب أحدهم (وإن كان أحدهم ينتفع) بالقسمة، لكثرة نصيبه (والآخر يستضر لقلة نصيبه، فإن طلب صاحب الكثير قسم) له؛ لأنه ينتفع بنصيبه،

(4/93)


وإذا كان المشترك ما سوى العقار وادعوا أنه ميراثٌ قسمه في قولهم جميعاً، وإن ادعوا في العقار أنهم اشتروه قسمه بينهم، وإن ادعوا الملك ولم يذكروا كيف انتقل قسمه بينهم.
وإذا كان كل واحدٍ من الشركاء ينتفع بنصيبه قسم بطلب أحدهم، وإن كان أحدهم ينتفع والآخر يستضر لقلة نصيبه، فإن طلب صاحب الكثير قسم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فاعتبر طلبه؛ لأن الحق لا يبطل بتضرر الغير. (وإن طلب صاحب القليل لم يقسم) له؛ لأنه يستضر فكان متعنتاً في طلبه، فلم يعتبر طلبه، قال في التصحيح: وذكر الخصاف على قلب هذا، وذكر الحاكم في مختصره أن أيهما طلب القسمة يقسم القاضي، قال في الهداية وشرح الزاهدي: إن الأصح ما ذكر في الكتاب، وعليه مشى الإمام البرهاني، والنسفي، وصدر الشريعة، وغيرهم، اهـ (وإن كان كل واحد منهما يستضر) لقلته (لم يقسمها) القاضي (إلا بتراضيهما) ، لأن الجبر على القسمة لتكميل المنفعة، وفي هذا تفويتها، ويجوز بتراضيهما، لأن الحق لهما، وهما أعرف بشأنهما.
(ويقسم العروض) جمع عرض - كفلس - خلاف العقار (إذا كانت من صنف واحد) لاتحاد المقاصد فيحصل التعديل في القسمة والتكميل في المنفعة، (ولا يقسم الجنسان بعضهما في بعض) ، لأنه لا اختلاط بين الجنسين، فلا تقع القسمة تمييزا، بل تقع معاوضة، وسبيلها التراضي دون جبر القاضي. (وقال أبو حنيفة: لا يقسم الرقيق ولا الجوهر لتفاوته) ، لأن التفاوت في الآدمي فاحش، لتفاوت المعاني الباطنة، فكان كالجنس المختلف، بخلاف الحيوانات، لأن التفاوت

(4/94)


وإن طلب صاحب القليل لم يقسم، وإن كان كل واحدٍ يستضر لم يقسمها إلا بتراضيهما.
ويقسم العروض إذا كانت من صنفٍ واحدٍ، ولا يقسم الجنسان بعضهما في بعض، وقال أبو حنيفة: لا يقسم الرقيق ولا الجوهر لتفاوته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيها يقل عند اتحاد الجنس، وتفاوت الجواهر أفحش من تفاوت الرقيق (وقال أبو يوسف ومحمد: يقسم الرقيق) لاتحاد الجنس كما في الإبل والغنم، قال في الهداية: وأما الجواهر فقد قيل: إذا اختلف الجنس لا يقسم كما في اللآلئ واليواقيت، وقيل: لا يقسم الكبار منها لكثرة التفاوت، ويقسم الصغار لقلة التفاوت، وقيل: يجري الجوب على إطلاقه، لأن جهالة الجواهر أفحش من جهالة الرقيق، ألا ترى أنه لو تزوج على لؤلؤة، أو ياقوته، أو خالع عليهما لا تصح التسمية ويصح ذلك على عبد، فأولى أن لا يجبر على القسمة، اهـ. قال الإمام بهاء الدين في شرحه: الصحيح قول أبي حنيفة، واعتمده المحبوبي

(4/95)


وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يقسم الرقيق.
ولا يقسم حمامٌ ولا بئر ولا رحىً إلا أن يترضى الشركاء.
وإذا حضر وارثان وأقاما البينة على الوفاة وعدد الورثة والدار في أيديهم ومعهم وارثٌ غائبٌ قسمها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والنسفي وصدر الشريعة وغيرهم، كذا في التصحيح.
(ولا يقسم حمام، ولا بئر، ولا رحى) ولا كل ما في قسمه ضرر لهم، كالحائط بين الدارين والكتب، لأنه يشتمل على الضرر في الطرفين، لأنه لا يبقى كل نصيب منتفعاً به انتفاعا مقصوداً، فلا يقسمه القاضي، بخلاف التراضي كما مر، ولذا قال: (إلا أن يتراضى الشركاء) ، لالتزامهم الضرر، وهذا إذا كانوا ممن يصح التزامهم، وإلا فلا.
(وإذا حضر وارثان وأقاما البينة على الوفاة وعدد الورثة، والدار) أو العروض بالأولى (في أيديهما، ومعهما وارث غائب) أو صغير (قسمها

(4/96)


القاضي بطلب الحاضرين، وينصب للغائب وكيلاً يقبض نصيبه، وإن كانوا مشترين لم يقسم مع غيبة أحدهم، وإن كان العقار في يد الوارث الغائب لم يقسم، وإن حضر وارثٌ واحدٌ لم يقسم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القاضي بطلب الحاضرين، وينصب للغائب وكيلا) وللصغير وصيا (يقبض نصيبه) ، لأن في ذلك نظراً للغائب والصغير، ولابد من إقامة البينة على أصل الميراث في هذه الصورة عند أبي حنيفة أيضاً، لأن في هذه القسمة قضاء على الغائب والصغير بقولهم، خلافا لهما.
(وإن كانوا مشترين لم يقسم مع غيبة أحدهم) والفرق أن ملك الوارث ملك خلافة، حتى يرد بالعيب ويرد عليه بالعيب فيما اشتروه المورث ويصير مغرورا بشراء المورث، فانتصب أحدهما خصما عن الميت فيما في يده والآخر عن نفسه، فصارت القسمة قضاء بحضرة المتخاصمين، أما الملك الثابت بالشراء فملك مبتدأ، ولهذا لا يرد بالعيب على بائع بائعه، فلا يصلح الحاضر خصما عن الغائب، فوضح الفرق، هداية.
(وإن كان العقار) أو شيء منه (في يد الوارث الغائب) أو مودعه (لم يقسم) قال في الهداية: وكذا إذا كان في يد الصغير، لأن القسمة قضاء على الغائب والصغير باستحقاق يدهما من غير خصم حاضر عنهما، وأمين الخصم ليس بخصم عنه فيما يستحق عليه، والقضاء من غير خصم لا يجوز، ولا فرق في هذا الفصل بين إقامة البينة وعدمها، هو الصحيح كما أطلق في الكتاب، اهـ.
(وإن حضر وارث واحد لم يقسم) وإن أقام البينة؛ لأنه لابد من حضور الخصمين، لأن الواحد لا يصلح مخاصماً ومخاصماً، وكذا مقاسما ومقاسما، بخلاف

(4/97)


وإذا كانت دورٌ مشتركةٌ في مصرٍ واحدٍ قسمت كل دارٍ على حدتها في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما إذا كان الحاضر اثنين على ما بينا، ولو كان الحاضر كبيراً وصغيراً نصب القاضي عن الصغير وصيا، وقسم إذا أقيمت البينة، وكذا إذا حضر وارث كبير وموصى له بالثلث فيها وطلبا القسمة وأقاما البينة على الميراث والوصية؛ لاجتماع الخصمين الكبير عن الميت والموصى له عن نفسه، وكذا الوصي عن الصبي كأنه حضر بنفسه بعد البلوغ لقيامه مقامه، هداية.
فقوله فيما تقدم: "وكذا إذا كان في يد صغير" أي غائب، كما يدل له ما في البزازية: ونصه: وإن حضر الوارث ومعه صغير نصب وصيا وقسم بينهما كما مر، فإن كان الصغير غائبا وطلب من الحاكم نصب الوصي لا ينصب، إلى أن قال: والفرق بين الصغير الغائب والحاضر أن الدعوى لا تصح إلا على خصم حاضر، وجعل الغير خصما عن الغائب خلاف الحقيقة، فلا يصار إليه إلا عند العجز، والصغير عاجز عن الجواب، لا عن الحضور، فلم نجعل عنه غيره خصما في حق الحضور، وجعل خصما في الجواب، فإذا كان الصبي حاضرا وجد الدعوى على حاضر فينصب وصيا عنه في الجواب، وإن كان غائبا لم يوجد الدعوى على حاضر، فى ينصب وصيا عنه في الجواب؛ لعدم صحة الدعوى، اهـ.
(وإذا كانت دور مشتركة في مصر واحد قسمت كل دار على حدتها في قول أبي حنيفة) ؛ لأن الدور أجناس مختلفة؛ لاختلاف المقاصد باختلاف المحال والجيران والقرب من المسجد والماء والسوق، فلا يمكن التعديل (وقالا) :

(4/98)


إن الأصلح لهم قسمة بعضها في بعضٍ قسمها.
وإن كانت دارٌ وضيعةٌ، أو دارٌ وحانوت، قسم كل واحدٍ على حدته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرأي فيه إلى القاضي (إن كان الأصلح لهم سمة بعضها في بعض قسمها) كذلك، وإلا قسمها كل دار على حدتها، لأن القاضي مأمور بفعل الأصلح مع المحافظة على الحقوق. قال الإسبيجاني: الصحيح قول الإمام، وعليه مشى البرهاني والنسفي وغيرهما، تصحيح.
قال في الهداية: وتقييد الكتاب بكونهما في مصر واحد، إشارة إلى أن الدارين إذا كانتا في مصرين لا يجمعان في القسمة عندهما، وهو رواية هلال عنهما، وعن محمد: أنه يقسم إحداهما في الأخرى، اهـ.
(وإن كانت دار وضيعة) أي: أرض (أو دار وحانوت - قسم كل واحد على حدته مطلقاً) لاختلاف الجنس.
قال في الدرر: ههنا أمور ثلاثة: الدور، والبيوت، والمنازل، فالدور - متلازقة كانت أو متفرقة - لا تقسم قسمة واحدة إلا بالتراضي، والبيوت تقسم مطلقا لتقاربها في معنى السكنى، والمنازل إن كانت مجتمعة في دار واحدة متلاصقة بعضها ببعض قسمت قسمة واحدة، وإلا فلا، لأن المنزل فوق البيت ودون الدار، فألحقت المنازل بالبيوت إذا كانت متلاصقة، وبالدور إذا كانت متباينة، وقالا في الفصول كلها: ينظر القاضي إلى أعدل الوجوه، ويمضي على ذلك، وأما الدور والضيعة والدور والحانوت، فيقسم كل منها وحدها، لاختلاف الجنس، اه

(4/99)


وينبغي للقاسم: أن يصور ما يقسمه، ويعدله، ويذرعه، ويقوم البناء، ويفرز كل نصبٍ عن الباقي بطريقه وشربه حتى لا يكون لنصيبٍ بعضهم بنصيب الآخر تعلقٌ، ثم يلقب نصيباً بالأول، والذي يليه بالثاني والثالث، وعلى هذا، ثم يخرج القرعة فمن خرج اسمه أولاً فله السهم الأول، ومن خرج ثانياً فله السهم الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولما فرغ من بيان القسمة، وبيان ما يقسم ومالا يقسم، شرع في بيان كيفية القسمة، فقال:.
(وينبغي للقاسم أن يصور ما يقسمه) لى قرطاس؛ ليمكنه حفظه ورفعه للقاضي (ويعدله) يعني يسويه على سهام القسمة، ويروي "ويعزله" أي يقطعه بالقسمة عن غيره، هداية (ويذرعه) ليعرف قدره (ويقوم البناء) لأنه ربما يحتاجه آخراً (ويفرز كل نصيب عن الباقي بطريقه وشربه، حتى لا يكون لنصيب بعضهم بنصيب الآخر تعلق) ليتحقق معنى التمييز والإفراز تمام التحقق (ثم يلقب) الأنصباء (نصيبا بالأول، والذي يليه بالثاني، والثالث) بالثالث، (و) الرابع وما بعده (على هذا) المنوال، ويكتب أسماء المتقاسمين على قطع قرطاس. أو نحوه، وتوضع في كيس أو نحوه، ويجعلها قرعة (ثم يخرج القرعة) أي قطعة من تلك القطع المكتوبة فيها أسماء المتقاسمين (فمن خرج اسمه أولا فله السهم الأول) أي الملقب بالأول (ومن خرج) اسمه (ثانياً فله السهم الثاني) وهلم جرا، وهذا حيث اتحدت السهام

(4/100)


ولا يدخل في القسمة الدراهم والدنانير إلا بتراضيهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فلو اختلفت السهام - بأن كانت بين ثلاثة مثلا، لأحدهم عشرة أسهم، ولآخر خمسة أسهم، ولآخر سهم - جعلها ستة عشر سهماً، وكتب أسماء الثلاثة، فإن خرج أولا اسم صاحب العشرة، أعطاه الأول وتسعة متصلة به، ليكون سهامه على الاتصال، وهكذا حتى يتم.
قال في الهداية: وقوله في الكتاب "ويفرز كل نصيب بطريقة وشربه"بيان الأفضل، وإن لم يفعل أو لم يمكن جاز، على ما نذكره بتفصيله إن شاء الله تعالى، والقرعة: لتطييب القلوب وإزالة تهمة الميل، حتى لو عين لكل منهم من غير اقتراع جاز، لأنه في معنى القضاء فملك الإلزام، اهـ.
(ولا يدخل) القسام (في القسمة الدراهم والدنانير) لأن القسمة تجري في المشترك، والمشترك بينهما العقار لا الدراهم والدنانير، فلو كان بينهما دار وأرادوا قسمتها وفي أحد الجانبين فضل بناء، فأراد أحدهما أن يكون عوض البناه دراهم وأراد الآخر أن يكون عوضه من الأرض فإنه يجعل عوضه من الأرض، ولا يكلف الذي وقع البناء في نصيبه أن يرد بإزائه دراهم (إلا بتراضيهم) ، لما في القسمة من معنى المبادلة، فيجوز دخول الدراهم فيها بالتراضي دون جبر القاضي، إلا إذا تعذر فحينئذ للقاضي ذلك.
قال في الينابيع: قول القدوري "ولا يدخل في القسمة الدراهم والدنانير" يريد به إذا أمكنت القسمة بدونها، أما إذا لم تمكن عدل أضعف الأنصباء بالدراهم والدنانير، اهـ.
قال في التصحيح: وفي بعض النسخ "ينبغي للقاضي أن لا يدخل في القسمة الدراهم والدنانير، فإن فعل جاز، وتركه أولى" اه

(4/101)


وإن قسم بينهم ولأحدهم مسيلٌ في ملك لآخر، أو ريقٌ لم يشترط في القسمة: فإن أمكن صرف الطريق والمسيل عنه فليس له أن يستطرق ويسيل في نصيب الآخر، وإن لم يمكن فسخت القسمة.
وإن كان سفلٌ لا علو له، وعلوٌ لا سفل له، وسفلٌ له علوٌ، قوم كل واحدٍ على حدته، وقسم بالقيمة، ولا معتبر بغير ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فإن قسم بينهم ولأحدهم مسيل) ماء (في ملك الآخر، أو طريق) أو نحوه، والحال أنه (لم يشترط) ذلك (في القسمة، فإن أمكن صرف) ذلك (الطريق والمسيل عنه، فليس له أن يستطرق ويسيل في نصيب) الشريك (الآخر) ؛ لأنه أمكن تحقيق القسمة من غير ضرر (وإن لم يمكن) ذلك (فسخت القسمة) لأنها مختلة؛ لبقاء الاختلاط، فتستأنف.
(وإذا كان) الذي يراد قسمته بعضه (سفل لا علو له) أي: ليس فوقه علو، أو فوقه علو للغير (و) بعضه (علو لا سفل له) بأن كان السفل للغير، (و) بعضه (سفل لا علو؛ قوم كل واحد على حدته، وقسم بالقيمة، ولا معتبر بغير ذلك) وهذا عند محمد، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يقسم بالذرع، ثم اختلفا في كيفية القسمة بالذرع، قال أبو حنيفة: ذراع من السفل بذراعين من العلو، وقال أبو يوسف: ذراع بذراع، ثم قيل: كل منهما على عادة أهل عصره، أو بلده، وقيل: اختلاف معنى، قال الإسبيجاني: والصحيح قول أبي حنيفة

(4/102)


وإذا اختلف المتقاسمون فشهد القاسمان، قبلت شهادتهما.
فإن ادعي أحدهما الغلط، وزعم أن مما أصابه شيئاً في يد صاحبه، وقد أشهد على نفسه بالاستيفاء، لم يصدق على ذلك إلا ببينةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قلت: هذا الصحيح بالنسبة إلى قول أبي يوسف، والمشايخ اختاروا قول محمد، بل قال في التحفة والبدائع: والعمل في هذه المسألة على قول محمد، وقال في الينابيع والهداية وشرح الزاهدي والمحيط: وعليه الفتوى اليوم، كذا في التصحيح.
(وإذا اختلف المتقاسمون) في القسمة (فشهد القاسمان، قبلت شهادتهما) قال في الهداية: الذي ذكره قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا تقبل، وهو قول أبي يوسف أولا، وبه قال الشافعي، وذكر الخصاف قول محمد مع قولهما، وقاسم القاضي وغيره سواء، وقال جمال الإسلام: الصحيح قول أبي حنيفة، وعليه مشى البرهاني والنسفي، وغيرهما، تصحيح.
(فإن ادعى أحدهما) أي المتقاسمين (الغلط) في القسمة (وزعم أن مما أصابه شيئا في يد صاحبه، وقد) كان (أشهد على نفسه بالاستيفاء، لم يصدق على ذلك) الذي يدعيه (إلا ببينة) ، لأنه يدعى فسخ القسمة بعد وقوعها، فلا يصدق إلا بحجة، فإن لم تقم له بينة استحلف الشركاء، فمن نكل منهم جمع بين نصيب الناكل والمدعي، فيقسم بينهما على قدر أنصبائهما، لأن النكول حجة في حقه خاصة، فيعاملان على زعمهما؛ وينبغي أن لا تقبل دعواه أصلا؛ لتناقضه، وإليه أشار من بعد، هداية، ومثله في كافي النسفي، وظاهر كلامهما أنه لم يوجد فيه رواية، لكن قال صدر الشريعة بعد نقله البحث المذكور: وفي المبسوط وفتاوى

(4/103)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قاضيخان ما يؤيد هذا. ثم قال: وجه رواية المتن أنه اعتمد على فعل القاسم في إقراره باستيفاء حقه، ثم لما تأمل حق التأمل ظهر الخطأ في فعله، فلا يؤاخذ بذلك الإقرار عند ظهور الحق، اهـ.
وقول الهداية "وإليه أشار من بعد" أي: أشار القدوري إلى ما بحثه من أنه ينبغي أن لا تقبل دعواه أصلا في الفرع الآتي بعد هذا حيث قال: "وإن قال أصابني إلى موضع كذا فلم تسلمه لي، ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء، وكذبه شريكه تحالفا وفسخت القسمة" فإن مفهومه أنه لو شهد على نفسه بالاستيفاء قبل الدعوى لا يتحالفان، وما ذاك إلا لعدم صحة الدعوى؛ لأن التحالف مبنىٌ على صحة الدعوى، ولذا قال في الحواشي السعدية - بعد نقل ما ذكره صدر الشريعة المار - ما نصه: وفيه بحث، فإن مثل هذا الإقرار إن كان مانعاً من صحة الدعوى لا تسمع البينة، لابتناء سماعها على صحة الدعوى، وإن لم يكن مانعاً ينبغي أن يتحالفا، اهـ.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وقد يجاب بأن قولهم هنا "قد أقر بالاستيفاء" صريح، وقولهم بعد: "قبل إقراره" مفهوم، والمصرح به أن الصريح مقدم على المفهوم، فيتأمل. اهـ. وأمره بالتأمل مشعر بنظره فيه، وهو كذلك كما لا يخفى على نبيه.
وإذا أمعنت النظر في كلامهم، وتحققت في دقيق مرامهم - علمت أن ليس في هذا الفرع منافاة لما بعده، والتقييد فيه بكونه قبل الإقرار قيد لوجوب التحالف وحده، لا لصحة الدعوى، فإنها تصح سواء كانت قبل الإقرار أو بعده.
والمعنى: إنه إن سبق منه إقرار بالاستيفاء لا يتحالفان وإن صحت الدعوى،

(4/104)


وإن قال "استوفيت حقي" ثم قال "أخذت بعضه" فالقول قول خصمه مع يمينه.
وإن قال "أصابني إلى موضع كذا فلم تسلمه إلي "ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء، وكذبه شريكه تحالفا، وفسخت القسمة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وذلك لأن صحة الدعوى شرط لوجوب التحالف، وليس التحالف بشرط لصحة الدعوى كما هو مصرح به في باب التحالف.
ومن أراد استيفاء المرام في هذا المقام، فعليه برسالتنا فقد أشبعنا فيها الكلام.
(وإذا قال: استوفيت حقي، ثم قال: أخذت بعضه، فالقول قول خصمه مع يمينه) ؛ لأنه يدعي عليه الغصب، وهو منكر.
(وإن قال: أصابني) في القسمة (إلى موضع كذا، فلم تسلمه إلي، ولم يشهد) قبل ذلك (على نفسه بالاستيفاء وكذبه شريكه) في دعواه (تحالفا وفسخت القسمة) ، لاختلافهما في نفس القسمة، فإنهما قد اختلفا في قدر ما حصل بالقسمة، فأشبه الاختلاف في قدر المبيع، فوجب التحالف، كذا في شرح الإسبيجاني، قيد بكونه لم يشهد على نفسه بالاستيفاء لأنه لو سبق منه ذلك لا يتحالفان، وإن صحت الدعوى، بل ببينته أو يمين خصمه.
فإن قلت: إذا كانت الدعوى صحيحة، سواء كانت قبل الإشهاد أو بعده، فما وجه وجوب التحالف إذا كانت الدعوى قبل الإشهاد، وعدمه إذا كانت بعده؟.
قلت: لأن وجوب التحالف في القسمة إنما يكون إذا ادعى الغلط على وجه لا يكون مدعيا الغصب، كما في الذخيرة وغيرها، وإذا كانت الدعوى بعد الإشهاد بالاستيفاء يكون مدعيا الغصب ضمناً، كأنه يقول: الذي أصابني إلى موضع كذا

(4/105)


وإن استحق بعض نصيب أحدهما بعينه لم تفسخ القسمة عند أبي حنيفة ورجع بحصة ذلك من نصيب شريكه، وقال أبو يوسف: تفسخ القسمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأنت غاصب لبعضه، ولذا ساغت منه الدعوى بعد الإشهاد؛ لأن دعوى الغصب لا تناقض الإقرار بالاستيفاء.
(وإذا استحق بعض نصيب أحدهما بعينه، لم تفسخ القسمة عند أبي حنيفة، ورجع بحصة ذلك) المستحق (من نصيب شريكه) لأنه أمكن جبر حقه بالمثل، فلا يصار إلى الفسخ (وقال أبو يوسف: تفسخ القسمة) ؛ لأنه تبين أن لهما شريكا ثالثاً، ولو كان كذلك لم تصح القسمة. قال في الهداية وشرح الزاهدي: ذكر المصنف الاختلاف في استحقاق بعضٍ بعينه، وهكذا ذكر في الأسرار، والصحيح أن الاختلاف في استحقاق بعض شائع من نصيب أحدهما. فأما في استحقاق بعض معين لا تفسخ القسمة بالإجماع، ولو استحق بعض شائع في الكل تفسخ بالاتفاق، فهذه ثلاثة أوجه، ولم يذكر قول محمد، وذكره أبو سليمان مع أبي يوسف، وأبو حفص مع أبي حنيفة، وهو الأصح، وهكذا ذكره الإسبيجاني، قال: والصحيح قولهما، وعليه مشى الإمام المحبوبي، والنسفي، وغيرهما، كذا في التصحيح.
تتمة - المهايأة جائزة استحساناً، ولا تبطل بموتهما، ولا بموت أحدهما، ولو طلب أحدهما القسمة بطلت، ويجوز في دار واحدة: بأن يسكن كل منهما طائفة أو أحدهما العلو والآخر السفل، وله إجارته وأخذ غلته، ويجوز في عبد واحد: يخدم هذا يوما، وهذا يوما، وكذا في البيت الصغير، وفي العبدين يخدم كل واحد واحداً، فإن شرطا طعام العبد على من يخدمه جاز، وفي الكسوة لا يجوز، ولا

(4/106)