المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 1 ص -9-
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصلاة
ثم إنه بدأ بكتاب الصلاة لأن الصلاة من أقوى
الأركان بعد الإيمان بالله تعالى قال الله
تعالى: {فَإِنْ
تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [سورة
التوبة: 5،11] وقال عليه الصلاة والسلام:
"الصلاة عماد الدين". فمن أراد نصب خيمة بدأ
بنصب العماد. والصلاة من أعلى معالم الدين ما
خلت عنها شريعة المرسلين صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين وقد سمعت شيخنا الإمام الأستاذ
شمس الأئمة الحلواني رحمه الله تعالى يقول في
تأويل قوله تعالى:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه: 14]، أي لأني ذكرتها في كل كتاب منزل على لسان كل نبي
مرسل وفي قوله عز وجل:
{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ
مِنَ الْمُصَلِّينَ} [سورة المدثر: 42- 43] ما يدل على وكادتها فحين وقعت بها البداية
دل على أنها في القوة بأعلى النهاية وفي اسم
الصلاة ما يدل على أنها ثانية الإيمان فالمصلي
في اللغة هو التالي للسابق في الخيل. قال
القائل:
ولا بد لي من أن أكون مصليا
إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق
وفي رواية: أما كنت ترضى
أن أكون مصليا؟ والصلاة في اللغة عبارة عن
الدعاء والثناء. قال الله تعالى:
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [سورة التوبة: 103]، أي دعاءك وقال القائل:
وقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتسم
أي دعا وأثنى على دنها.
وفي الشريعة عبارة عن أركان مخصوصة كان فيها
الدعاء أو لم يكن فالاسم شرعي ليس فيه معنى
اللغة فالدلائل من الكتاب والسنة على فرضيتها
مشهورة يكثر تعدادها.
تعليم الوضوء
ثم بدأ بتعليم الوضوء
فقال: إذا أراد الرجل الصلاة فليتوضأ، وهذا
لأن الوضوء مفتاح الصلاة. قال صلى الله عليه
وسلم:
"مفتاح الصلاة الطهور". ومن أراد دخول بيت مغلق بدأ بطلب المفتاح وإنما فعل محمد رحمه
الله ذلك اقتداء بكتاب الله تعالى فإنه إمام
المتقين قال الله تعالى:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [سورة المائدة: 6]، فاقتدى بالكتاب في البداية بالوضوء لهذا وفي
ترك الاستثناء ها هنا وذكره في الحج كما قال
الله تعالى:
{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
ج / 1 ص -10-
إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}
[سورة الفتح: 27]. وفي إضمار الحدث فإنه مضمر
في الكتاب ومعنى قوله:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} من منامكم أو وأنتم محدثون هذا هو المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم
الله فأما على قول أصحاب الظواهر فلا إضمار في
الآية.
والوضوء فرض سببه القيام إلى الصلاة فكل من
قام إليها فعليه أن يتوضأ وهذا فاسد لما روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل
صلاة فلما كان يوم الفتح أو يوم الخندق صلى
الخمس بوضوء واحد فقال له عمر رضي الله عنه
رأيتك اليوم تفعل شيئا لم تكن تفعله من قبل
فقال:
"عمدا فعلت يا عمر كي لا تحرجوا"،
فقياس مذهبهم يوجب أن من جلس فتوضأ ثم قام إلى
الصلاة يلزمه وضوء آخر فلا يزال كذلك مشغولا
بالوضوء لا يتفرغ للصلاة وفساد هذا لا يخفي
على أحد.
قال: وكيفية الوضوء أن يبدأ فيغسل يديه ثلاثا"
لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه
قال:
"إذا
استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء
حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده
ولأنه إنما يطهر أعضاءه بيديه فلا بد من أن
يطهرهما أولا بالغسل حتى يحصل بهما التطهير".
ثم الوضوء على الوجه الذي ذكره محمد رحمه الله
عليه في الكتاب رواه حمران عن أبان عن عثمان
رضي الله عنه أنه توضأ بالمقاعد ثم قال من سره
أن ينظر إلى وضوء رسول الله صلى الله عليه
وسلم فهذا وضوءه وذكر أهل الحديث أنه مسح
برأسه وأذنيه ثلاثا. قال أبو داود في سننه
والصحيح من حديث عثمان رضي الله تعالى عنه أنه
مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة وعلم أبو بكر
الصديق رضي الله تعالى عنه الناس الوضوء على
منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة
ورواه عبد خير عن علي رضي الله عنه أنه توضأ
في رحبة الكوفة بعد صلاة الفجر بهذه الصفة ثم
قال من سره أن ينظر إلى وضوء رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلينظر إلى وضوئي هذا واختلفت
الروايات في حديثه في المسح بالرأس فروي ثلاثا
وروي مرة.
فبهذه الآثار أخذ علماؤنا رحمهم الله وقالوا
الأفضل أن يتمضمض ثلاثا ثم يستنشق ثلاثا وقال
الشافعي رضي الله عنه الأفضل أن يتمضمض
ويستنشق بكف واحد لما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم، أنه كان يتمضمض ويستنشق بكف واحد،
وله تأويلان عندنا:
أحدهما: أنه لم يستعن في
المضمضة والاستنشاق باليدين كما فعل في غسل
الوجه.
والثاني: أنه فعلهما باليد
اليمنى فيكون ردا على قول من يقول يستعمل في
الاستنشاق اليد اليسرى لأن الأنف موضع الأذى
كموضع الاستنجاء.
قال: ثم يغسل وجهه ثلاثا. وحد الوجه من قصاص
الشعر إلى أسفل الذقن إلى الأذنين لأن الوجه
اسم لما يواجه الناظر إليه غير أن إدخال الماء
في العينين ليس بشرط لأن العين
ج / 1 ص -11-
شحم لا
يقبل الماء وفيه حرج أيضا فمن تكلف له من
الصحابة رضوان الله عليهم كف بصره في آخر عمره
كابن عمر وبن عباس رضي الله عنهم والرجل
الأمرد والملتحي والمرأة في ذلك سواء إلا في
رواية عن أبي يوسف رحمه الله قال في حق
الملتحي لا يلزمه إيصال الماء إلى البياض الذي
بين العذار وبين شحمة الأذن هذه العبارة أصح
فإن الشيخ الإمام رحمه الله جعل العذار اسما
لذلك البياض وليس كذلك بل العذار اسم لموضع
نبات الشعر وهو غير البياض الذي بين الأذن
ومنبت الشعر قال لأن البشرة التي نبت عليها
الشعر لا يجب إيصال الماء إليها فما هو أبعد
أولى لكن الصحيح من المذهب أنه يجب إمرار
الماء على ذلك الموضع لأن الموضع الذي نبت
عليه الشعر قد استتر بالشعر فانتقل الفرض منه
إلى ظاهر الشعر فأما العذار الذي لم ينبت عليه
الشعر فالأمرد والملتحي فيه سواء ويجب إيصال
الماء إليه بصفة الغسل وإنه لا يحصل إلا
بتسييل الماء عليه. وقد روي عن أبي يوسف رحمه
الله أن في المغسولات إذا بله بالماء سقط به
الفرض وهذا فاسد لأنه حد المسح فأما الغسل فهو
تسييل الماء على العين وإزاله الدرن عن العين
قال القائل:
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
وإذ هي تذري دمعها بالأنامل
ثم يغسل ذراعيه ثلاثا
ثلاثا وإنما لم يقل يديه لأنه في الابتداء قد
غسل يديه ثلاثا وإنما بقي غسل الذراعين إلى
المرفقين والمرفق يدخل في فرض الغسل عندنا
وكذلك الكعبان. وقال زفر رحمه الله لا يدخل
لأنه غاية في كتاب الله تعالى والغاية حد فلا
يدخل تحت المحدود اعتبارا بالممسوحات
واستدلالا بقوله تعالى:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [سورة البقرة: 187] والذي يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل
المرافق فمحمول على إكمال السنة دون إقامة
الفرض.
ولنا: أن من الغايات ما يدخل
ويكون حرف إلى فيه بمعنى مع قال الله تعالى:
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [سورة النساء: 2]، أي مع أموالكم فكان هذا مجملا في كتاب الله بينه
رسول الله بفعله فإنه توضأ وأدار الماء على
مرافقه ولم ينقل عنه ترك غسل المرافق في شيء
من الوضوء فلو كان ذلك جائزا لفعله مرة تعليما
للجواز. ثم إن الأصل أن ذكر الغاية متى كان
لمد الحكم إلى موضع الغاية لم يدخل فيه الغاية
كما في الصوم فإنه لو قال ثم أتموا الصيام
اقتضى صوم ساعة ومتى كان ذكر الغاية لإخراج ما
وراء الغاية يبقى موضع الغاية داخلا وها هنا
ذكر الغاية لإخراج ما وراء الغاية فإنه لو قال
وأيديكم اقتضى غسل اليدين إلى الآباط كما فهمت
الصحابة رضوان الله عليهم ذلك في آية التيمم
في الابتداء فذكر الغاية لإخراج ما وراء
الغاية فيبقى المرفق داخلا.
ثم يمسح برأسه وأذنيه مرة واحدة. وتمام السنة
في أن يستوعب جميع الرأس بالمسح،
ج / 1 ص -12-
كما
رواه عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه
وسلم مسح رأسه بيديه كلتيهما أقبل بهما وأدبر
والبداية على ما ذكره هشام عن محمد من الهامة
إلى الجبين ثم منه إلى القفا. والذي عليه عامة
العلماء رحمهم الله البداية من مقدم الرأس كما
في المغسولات البداية من أول العضو. والمسنون
في المسح مرة واحدة بماء واحد عندنا وفي
المجرد عن أبي حنيفة رحمه الله ثلاث مرات بماء
واحد وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه السنة
أن يمسح ثلاثا يأخذ لكل مرة ماء جديدا وهو
رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله ذكره في
شرح المجرد لابن شجاع رحمه الله ووجهه الحديث
المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ
ثلاثا ثلاثا ثم قال: "هذا وضوئي ووضوء
الأنبياء من قبلي"، فينصرف هذا اللفظ إلى
الممسوح والمغسول جميعا ولأنه ركن هو أصل في
الطهارة بالماء فيكون التكرار فيه مسنونا
كالمغسولات بخلاف المسح بالخف فإنه ليس بأصل
وبخلاف التيمم فإنه ليس بطهارة بالماء ويلحقه
الحرج في تكرار استعمال التراب من حيث تلويث
الوجه وذلك الحرج معدوم في الطهارة بالماء.
"ولنا" حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى
عنه فإنه قال لأصحابه في مرضه إني مفارقكم عن
قريب أفلا أعلمكم وضوء رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ فقالوا: نعم فتوضأ ومسح برأسه
وأذنيه مرة واحدة. وإنما كان ينقل في مثل هذه
الحالة ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم. ثم هذا ممسوح في الطهارة فلا يكون
التكرار فيه مسنونا كالمسح بالخف والتيمم
وتأثيره أن الاستيعاب في الممسوح بالماء ليس
بفرض حتى يجوز الاكتفاء بمسح بعض الرأس
وبالمرة الواحدة مع الاستيعاب يحصل إقامة
السنة والفريضة فلا حاجة إلى التكرار بخلاف
المغسولات فإن الاستيعاب فيها فرض فلا بد من
التكرار ليحصل به إقامة السنة ومعنى الحرج
متحقق ها هنا ففي تكرار بل الرأس بالماء إفساد
العمامة ولهذا اكتفي في الرأس بالمسح عن
الغسل. ووجه رواية المجرد حديث الربيع بنت
معوذ بن عفراء أن النبي صلى الله عليه وسلم
توضأ ومسح برأسه وأذنيه ثلاث مرات بماء واحد
والكلام في مسح الأذنين مع الرأس يأتي بيانه
في موضعه من الكتاب.
قال: ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا.
ومن الناس من قال وظيفة الطهارة في الرجل
المسح. وقال الحسن البصري رحمه الله المضرور
يتخير بين المسح والغسل. وعن ابن عباس رضي
الله عنهما قال نزل القرآن بغسلين ومسحين يريد
به القراءة بالكسر في قوله تعالى:
{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
[سورة المائدة: 6]، فإنه معطوف على الرأس
وكذلك القراءة بالنصب عطف على الرأس من حيث
المحل فإن الرأس محله من الإعراب النصب وإنما
صار مخفوضا بدخول حرف الجر وهو كقول القائل:
معاوي إننا بشر فأسجح
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
ولنا: أن النبي صلى الله
عليه وسلم واظب على غسل الرجلين وبه أمر من
علمه الوضوء ورأى رجلا يلوح عقبه فقال:
"ويل للأعقاب من النار" وفي رواية:
"ويل للعراقيب من النار".
وكذلك
ج / 1 ص -13-
القراءة بالنصب تنصيص على الأمر بالغسل وأنه
عطف على اليد لأن العطف على المحل لا يجوز في
موضع يؤدي إلى الالتباس إنما ذلك في موضع لا
يؤدي إلى الاشتباه كما في البيت والقراءة
بالخفض عطف على الأيدي أيضا وإنما صار مخفوضا
بالمجاورة كما يقال جحر ضب خرب وماء شن بارد
أي خرب وبارد. فإن قيل الاتباع بالمجاورة مع
حرف العطف لم تتكلم به العرب، قلنا: لا كذلك
بل جوزوا الاتباع في الفعل مع حرف العطف قال
القائل:
علفتها تبنا وماء باردا
والماء لا يعلف ولكنه
اتباع للمجاورة وكذلك في الإعراب. قال جرير:
فهل أنت إن ماتت أتانك راحل
إلى آل بسطام بن قيس فحاطب
أي فخاطب. جوز الاتباع
مع حرف العطف وهو الفاء.
وأما الكعب فهو العظم الناتىء المتصل بعظم
الساق وهو المفهوم في اللسان إذا قيل ضرب كعب
فلان وقال عليه الصلاة والسلام: "ألصقوا الكعاب بالكعاب في الصلاة". وفي قوله:
{إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
[سورة المائدة: 6]. دليل على هذا لأن ما يوحد
من خلق الإنسان يذكر تثنيته بعبارة الجمع كما
قال تعالى:
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، أي قلباكما وما كان مثنى يذكر تثنيته بعبارة التثنية
فلما قال:
{إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
عرفنا أنه مثنى في كل رجل وذلك العظم الناتىء.
وروى هشام عن محمد رحمه الله أنه قال المفصل
الذي في وسط القدم عند معقد الشراك، ووجهه أن
الكعب اسم للمفصل ومنه كعوب الرمح أي مفاصله
والذي في وسط القدم مفصل وهو المتيقن به وهذا
سهو من هشام لم يرد محمد رحمه الله تعالى
تفسير الكعب بهذا في الطهارة وإنما أراد في
المحرم إذا لم يجد نعلين أنه يقطع خفيه أسفل
من الكعبين وفسر الكعب بهذا فأما في الطهارة
فلا شك أنه العظم الناتيء كما فسره في
الزيادات، فإن توضأ مثنى مثنى أجزأه وإن توضأ
مرة سابغة أجزأه وتفسير السبوغ التمام وهو أن
يمر الماء على كل جزء من المغسولات.
جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثلاثا
وذراعيه مرتين. وعبد الله بن عمر رضي الله
عنهما، كان كثيرا ما يتوضأ مرة مرة والأصل فيه
ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء لا يقبل
الله تعالى الصلاة إلا به" ثم توضأ مرتين
مرتين وقال: "هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر
مرتين"، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال: "هذا وضوئي
ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء خليل الله
إبراهيم عليه السلام فمن زاد أو نقص فقد تعدى
وظلم"، أي زاد
على أعضاء الوضوء أو نقص عنها أو زاد على الحد
المحدود أو نقص عنه أو زاد على الثلاث معتقدا
أن كمال السنة لا يحصل بالثلاث. فأما إذا زاد
لطمأنينة القلب عند الشك أو بنية وضوء آخر فلا
بأس به، لأن
ج / 1 ص -14-
الوضوء
على الوضوء نور على نور يوم القيامة وقد أمر
بترك ما يريبه إلى ما لا يريبه. ولم يذكر
الاستنجاء بالماء هنا لأن مقصوده تعليم الوضوء
عند القيام من المنام وليس فيه استنجاء ولأن
الاستنجاء بالماء بعد الإنقاء بالحجر ليس من
السنن الراتبة وكان الحسن البصري رحمه الله
يقول إن هذا شيء أحدث بعد انقضاء عصر الصحابة
رضوان الله عليهم وربما قال هو طهور النساء
والمذهب أنه ليس من السنن الراتبة بل لاكتساب
زيادة الفضيلة جاء في الحديث أنه لما نزل قوله
تعالى:
{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [سورة التوبة: 108] قال عليه الصلاة والسلام لأهل قباء:
"ما هذه الطهرة التي خصصتم بها؟": فقالوا إنا كنا نتبع الأحجار الماء
فقال: "هو ذاك"،
ولم يذكر فيه مسح الرقبة وبعض مشايخنا يقول
إنه ليس من أعمال الوضوء والأصح أنه مستحسن في
الوضوء.
قال ابن عمر رضي الله عنهما امسحوا رقابكم قبل
أن تغل بالنار، ولم يذكر تحريك الخاتم ولا
نزعه. وذكر أبو سليمان عن محمد رحمه الله أن
نزع الخاتم في الوضوء ليس بشيء والحاصل أنه إن
كان واسعا يدخله الماء فلا حاجة إلى النزع
والتحريك وإن كان ضيقا لا يدخل الماء تحته فلا
بد من تحريكه وفي التيمم لا بد من نزعه ولو لم
يفعل لا تجزئه صلاته.
ثم سنن الوضوء وآدابه فرقها محمد رحمه الله
تعالى في الكتاب فنذكر كل فصل في موضعه أن شاء
الله تعالى تحرزا عن التطويل.
كيفية الدخول في الصلاة
قال: إذا أراد الرجل
الدخول في الصلاة كبر ورفع يديه حذاء أذنيه
وظن بعض أصحابنا رحمهم الله أنه لم يذكر النية
وليس كما ظنوا فإن إرادة الدخول في الصلاة هي
النية والنية لا بد منها لقوله عليه الصلاة
والسلام:
"إن الله لا
ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى
قلوبكم"، وقال عليه الصلاة والسلام:
"إنما الأعمال بالنيات"، والنية معرفة بالقلب أي صلاة يصلي.
وحكى عن الشافعي رحمه الله أنه قال مع هذا في
الفرائض يحتاج إلى نية الفرض، وهذا بعيد فإنه
إذا نوى الظهر فقد نوى الفرض فالظهر لا يكون
إلا فرضا فإن كان منفردا أو إماما فحاجته إلى
نية ماهية الصلاة وإن كان مقتديا احتاج مع ذلك
إلى نية الاقتداء. وإن نوى صلاة الإمام جاز
عنهما.
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله
يحتاج إلى نية الكعبة أيضا. والصحيح أن
استقباله إلى جهة الكعبة يغنيه عن نيتها.
والأفضل أن تكون نيته مقارنة للتكبير فإن نوى
قبله حين توضأ ولم يشتغل بعده بعمل يقطع نيته
جاز عندنا وهو محفوظ عن أبي يوسف ومحمد جميعا
ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله قال: الحاجة
إلى النية ليكون عمله عن
ج / 1 ص -15-
عزيمة
واخلاص وذلك عند الشروع فيها، ونحن هكذا نقول
ولكن يجوز تقديم النية ويجعل ما قدم من النية
إذا لم يقطعه بعمل كالقائم عند الشروع حكما
كما في الصوم. وكان محمد بن سليمان البلخي
يقول إذا كان عند الشروع بحيث لو سئل أي صلاة
يصلى أمكنه أن يجيب على البديهة من غير تفكر
فهو نية كاملة تامة والتكلم بالنية لا معتبر
به، فإن فعله ليجتمع عزيمة قلبه فهو حسن.
وأما التكبير فلا بد منه للشروع في الصلاة إلا
على قول أبي بكر الأصم وإسماعيل بن علية
فإنهما يقولان يصير شارعا بمجرد النية.
والأذكار عندهما كالتكبير والقراءة1. ونية
الصلاة ليست من الواجبات قالا لأن مبنى الصلاة
على الأفعال لا على الأذكار ألا ترى أن العاجز
عن الأذكار القادر على الأفعال يلزمه الصلاة
بخلاف العاجز عن الأفعال القادر على الأذكار.
ولنا: قوله تعالى:
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}
[سورة الأعلى: 15]، أي ذكر اسم الله تعالى عند
افتتاح الصلاة وظاهر قوله تعالى:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه: 14] يبين أن المقصود ذكر الله تعالى على وجه التعظيم
فيبعد أن يقال ما هو المقصود لا يكون واجبا
وهذا المعنى فإن الصلاة تعظيم بجميع الأعضاء
وأشرف الأعضاء اللسان فلا بد من أن يتعلق به
شيء من أركان الصلاة. وقال عليه الصلاة
والسلام:
"وتحريمها
التكبير"، فدل أن بدونه لا يصير شارعا وتحريمة الصلاة تتناول اللسان ألا ترى
أن الكلام مفسد للصلاة ولو لم يتناوله التحريم
لم يكن مفسدا كالنظر بالعين ومبنى الصلاة على
الأفعال دون الكف فكل ما يتناوله التحريم
يتعلق به شيء من أركان الصلاة.
فأما رفع اليدين عند التكبير فهو سنة لأن
النبي عليه الصلاة والسلام علم الأعرابي
الصلاة ولم يذكر له رفع اليد لأنه ذكر
الواجبات وواظب على رفع اليد عند التكبير فدل
أنه سنة. والمروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه
ينبغي أن يقرن التكبير برفع اليدين والذي عليه
أكثر مشايخنا أنه يرفع يديه أولا فإذا استقرتا
في موضع المحاذاة كبر لأن في فعله وقوله معنى
النفي والإثبات فإنه برفع اليد ينفي الكبرياء
عن غير الله تعالى وبالتكبير يثبته لله تعالى
فيكون النفي مقدما على الإثبات كما في كلمة
الشهادة، ولا يتكلف للتفريق بين الأصابع عند
رفع اليد والذي روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه كبر ناشرا أصابعه معناه ناشرا عن
طيها بأن لم يجعله مثنيا بضم الأصابع إلى
الكف. والمسنون عندنا أن يرفع يديه حتى يحاذي
إبهاماه شحمتي أذنيه ورؤوس أصابعه فروع أذنيه
وهو قول أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه.
وعند الشافعي رحمه الله المسنون أن يرفع يديه
إلى منكبيه وهو قول ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما. واحتج بحديث أبي حميد الساعدي، رضي
الله عنه، أنه كان في عشرة من أصحابه فقال:
ألا أخبركم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: والقراءة الخ... لعله القراءة ونية
الصلاة اهـ. مصححه.
ج / 1 ص -16-
بصلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا نعم
فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
كبر رفع يديه إلى منكبيه.
ولنا حديث وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر رفع
يديه حذاء أذنيه، والمصير إلى هذا أولى لأن
فيه إثبات الزيادة. وتأويل حديثهم أنه كان عند
العذر في زمن البرد حين كانت أيديهم تحت
ثيابهم. والمعنى: إن خلف الإمام أعمى وأصم
فأمر بالجهر بالتكبير ليسمع الأعمى وبرفع
اليدين ليري الأصم فيعلم دخوله في الصلاة وهذا
المقصود إنما يحصل إذا رفع يديه إلى أذنيه.
وكان طاوس رحمه الله يرفع يديه فوق رأسه. ولا
نأخذ بهذا لما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم رأى رجلا قد شخص ببصره إلى السماء ورفع
يديه فوق رأسه فقال له عليه الصلاة والسلام: "غض بصرك فإنك
لن تراه وكف يدك فإنك لن تناله".
ولا يطأطىء رأسه عند التكبير ذكره في كتاب
الصلاة للحسن بن زياد رحمه الله وقال فيه
التزاوج بين القدمين في القيام أفضل من أن
ينصبهما نصبا. ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك
وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك.
جاء عن الضحاك، رحمه الله، في تفسير قوله
تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] أنه قول المصلي عند الافتتاح سبحانك اللهم وبحمدك.
وروي هذا الذكر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم عمر وعلي وعبد الله بن مسعود رضي الله
عنهم أنه كان يقوله عند افتتاح الصلاة ولم
يذكر وجل ثناؤك لأنه لم ينقل في المشاهير.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الحج عن أهل
المدينة ويقول المصلي أيضا وجل ثناؤك.
وعن أبي يوسف في الأمالي قال أحب إلي أن يزيد
في الافتتاح: وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي
ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك
له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين لحديث عبد
الله ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يقول عند افتتاح الصلاة
وجهت: "وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا" إلى آخره. والشافعي رضي الله تعالى عنه يقول بهذا ويزيد عليه أيضا
ما رواه علي رضي الله عنه عن النبي عليه
الصلاة والسلام، قال:
"اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي
مغفرة من عندك وتب علي أنك أنت التواب الرحيم". وفي بعض الروايات:
"اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ربي وأنا
عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أبوء لك
بنعمتك وأبوء لك بذنبي فاغفر لي ذنوبي إنه لا
يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق إنه
لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها فإنه
لا يصرف عني سيئها إلا أنت أنا بك ولك تباركت
وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك". فتأويل هذا كله عندنا أنه كان في التهجد بالليل والأمر فيه واسع
فأما في الفرائض فإنه لا يزيد على ما اشتهر
فيه الأثر.
ج / 1 ص -17-
ثم
يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم في نفسه لما
روي أن أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه قام
ليصلي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تعوذ
بالله من شياطين الإنس والجن".
والذين نقلوا صلاة رسول الله عليه الصلاة
والسلام ذكروا تعوذه بعد الافتتاح قبل القراءة
ولأن من أراد قراءة القرآن ينبغي له أن يتعوذ
لقوله تعالى:
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
[سورة النحل: 98]. وأصحاب الظواهر أخذوا بظاهر
الآية وقالوا نتعوذ بعد القراءة لأن الفاء
للتعقيب ولكن هذا ليس بصحيح لأن هذه الفاء
عندنا للحال كما يقال إذا دخلت على السلطان
فتأهب أي إذا أردت الدخول عليه فتأهب فكذا
معنى الآية إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ.
بيانه في حديث الإفك أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما كشف الرداء عن وجهه فقال: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم" {إنَّ الَّذِينَ جَاؤوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مَنِكَم}
[سورة النور: 11]" الآيات. وبظاهر الآية قال عطاء الاستعاذة تجب عند
قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وهو مخالف
لإجماع السلف فقد كانوا مجمعين على أنه سنة.
وبين القراء اختلاف في صفة التعوذ. فاختيار
أبي عمرو وعاصم وبن كثير رحمهم الله أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم. زاد حفص من طريق
هبيرة أعوذ بالله العظيم السميع العليم من
الشيطان. واختيار نافع وبن عامر والكسائي أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع
العليم واختيار حمزة الزيات: أستعيذ بالله من
الشيطان الرجيم وهو قول محمد بن سيرين وبكل
ذلك ورد الأثر. وإنما يتعوذ المصلي في نفسه
إماما كان أو منفردا لأن الجهر بالتعوذ لم
ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان
يجهر به لنقل نقلا مستفيضا.
والذي روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه جهر
بالتعوذ تأويله أنه كان وقع اتفاقا لا قصدا أو
قصد تعليم السامعين أن المصلي ينبغي أن يتعوذ
كما نقل عنه الجهر بثناء الافتتاح. فأما
المقتدي فلا يتعوذ عند محمد رحمه الله لأنه لا
يقرأ خلف الإمام فلا يتعوذ حتى أن المسبوق إذا
قام لقضاء ما سبق به حينئذ يتعوذ في إحدى
الروايتين عن محمد. وعن أبي يوسف يتعوذ
المقتدي فإن التعوذ عنده بمنزلة الثناء لما
يأتي بيانه في باب العيدين. والتعوذ عند
افتتاح الصلاة خاصة إلا على قول بن سيرين رحمه
الله فإنه يقول يتعوذ في كل ركعة كما يقرأ،
وهذا فاسد. فإن الصلاة واحدة فكما لا يؤتي لها
إلا بتحريمه واحدة فكذا التعوذ والله أعلم.
قال: ولا يرفع يديه في شيء من تكبيرات الصلاة
سوى تكبيرة الافتتاح وقال الشافعي يرفع يديه
عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع. ومن
الناس من يقول: وعند السجود وعند رفع الرأس
منه يرفع اليدين أيضا قالوا قد صح أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند كل
تكبيرة فمن ادعى النسخ فعليه إثباته.
ج / 1 ص -18-
وفي
المسألة حكاية فإن الأوزاعي لقي أبا حنيفة
رحمهم الله في المسجد الحرام فقال ما بال أهل
العراق لا يرفعون أيديهم عند الركوع وعند رفع
الرأس من الركوع وقد حدثني الزهري عن سالم عن
بن عمر رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يرفع يديه عند الركوع وعند رفع
الرأس من الركوع فقال أبو حنيفة رحمه الله
تعالى حدثني حماد عن إبراهيم النخعي عن علقمة
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة
الإحرام ثم لا يعود فقال الأوزاعي عجبا من أبي
حنيفة أحدثه بحديث الزهري عن سالم وهو يحدثني
بحديث حماد عن إبراهيم عن علقمة فرجح حديثه
بعلو إسناده فقال أبو حنيفة أما حماد فكان
أفقه من الزهري وأما إبراهيم فكان أفقه من
سالم ولولا سبق ابن عمر رضي الله عنه لقلت بأن
علقمة أفقه منه. وأما عبد الله فرجح حديثه
بفقه رواته وهو المذهب لأن الترجيح بفقه
الرواة لا بعلو الإسناد. فالشافعي اعتمد حديث
ابن عمر رضي الله عنه وقال تكبير الركوع يؤتى
به حالة القيام فليسن رفع اليد عنده كتكبيرة
الافتتاح ألا ترى أنه محسوب من تكبيرات العيد
ورفع اليد مسنون في تكبيرات العيد فكذا هذا.
ولنا أن الآثار لما اختلفت في فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتحاكم إلى قوله وهو
الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن عند افتتاح الصلاة وفي العيدين
والقنوت في الوتر"،
وذكر أربعة في كتاب المناسك. وحين رأى بعض
الصحابة رضوان الله عليهم يرفعون أيديهم في
بعض أحوال الصلاة كره ذلك فقال:
"مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس
اسكتوا"، وفي رواية:
"قاروا في الصلاة". والمعنى
فيه: أن هذا التكبيرة يؤتي به في حال الانتقال
فلا يسن رفع اليد عنده كتكبيرة السجود وفقهه
ما بينا أن المقصود من رفع اليد إعلام الأصم
الذي خلفه وهذا إنما يحتاج إليه في التكبيرات
التي يؤتي بها في حالة الاستواء كالتكبيرات
الزوائد في العيدين وتكبير القنوت ولا حاجة
إليه فيما يؤتي به في حالة الانتقال فإن الأصم
يراه ينحط للركوع، فلا حاجة إلى الاستدلال
برفع اليد.
ثم يفتتح القراءة ويخفى ببسم الله الرحمن
الرحيم. فقد أدخل التسمية في القراءة بهذا
اللفظ وهذا إشارة إلى أنها من القرآن.
وكان مالك رحمه الله تعالى يقول: لا يأتي
المصلي بالتسمية لا سرا ولا جهرا لحديث عائشة
رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام
كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين.
ولنا: حديث أنس قال صليت خلف رسول الله صلى
الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر "فكانوا
يفتتحون القرآن ببسم الله الرحمن الرحيم".
وتأويل حديث عائشة رضي الله عنها، أنه كان
ج / 1 ص -19-
يخفي
التسمية وهو مذهبنا وهو قول علي وابن مسعود.
وقال الشافعي رحمه الله يجهر بها الإمام في
صلاة الجهر وهو قول ابن عباس وأبي هريرة رضي
الله عنهما. وعن عمر فيه روايتان, واحتج بحديث
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم "كان يجهر بالتسمية". ولما صلى
معاوية بالمدينة ولم يجهر بالتسمية أنكروا
عليه وقالوا أسرقت من الصلاة أين التسمية فدل
أن الجهر بها كان معروفا عندهم.
ولنا: حديث عبد الله بن المغفل رضي الله تعالى
عنه إنه سمع ابنه يجهر بالتسمية في الصلاة
فنهاه عن ذلك فقال يا بني إياك والحدث في
الإسلام فإني صليت خلف رسول الله صلى الله
عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
فكانوا لا يجهرون بالتسمية، وهكذا روى عن أنس
رضي الله تعالى عنه.
والمسئلة في الحقيقة تنبنى على أن التسمية
ليست بآية من أول الفاتحة ولا من أوائل السور
عندنا وهو قول الحسن رحمه الله فإنه كان يعد
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة: 5] آية. وقال الشافعي رحمه الله: التسمية آية من
أول الفاتحة قولا واحدا وله في أوائل السور
قولان. وكان ابن المبارك يقول التسمية آية من
أول كل سورة حتى قال من ختم القرآن وترك
التسمية فكأنما ترك مائة وثلاث عشرة آية أو
مائة وأربع عشرة آية. والشافعي رحمه الله ربما
احتج بحديث أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله
عنها، أنه صلى الله عليه وسلم "قرأ الفاتحة
فقال:
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الفاتحة: 1] وعدها آية ثم قال:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة: 2] وعدها آية"، ولأنها مكتوبة في المصاحف بقلم
الوحي لمبدأ الفاتحة وكل سورة وقد أمرنا
بتجريد القرآن في المصاحف من النقط والتعاشير.
ولا خلاف أن الفاتحة سبع آيات ولا تكون سبع
آيات إلا بالتسمية وقول من يقول: إياك نعبد
وإياك نستعين آية ضعيف تشهد المقاطع بخلافه.
ولنا: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد
الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى حمدني
عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى
مجدني عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال الله
تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك
نستعين قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي
نصفين ولعبدي ما سأل". فالبداءة
بقوله: "الحمد لله رب العالمين" دليل على أن
التسمية ليست بآية من أول الفاتحة إذ لو كانت
آية من أول الفاتحة لم تتحقق المناصفة فإنه
يكون في النصف الأول أربع آيات إلا نصفا وقد
نص على المناصفة.
والسلف اتفقوا على أن سورة الكوثر ثلاث آيات
وهي ثلاث آيات بدون التسمية ولأن أدنى درجات
اختلاف الأخبار والعلماء إيراث الشبهة والقرآن
لا يثبت مع الشبهة فإن طريقه طريق اليقين
والإحاطة. وعن معلى قال: قلت لمحمد التسمية
آية من القرآن أم لا قال: ما
ج / 1 ص -20-
بين
الدفتين كله قرآن قلت فلم لم تجهر فلم يجبنى.
فهذا عن محمد بيان أنها آية أنزلت للفصل بين
السور لا من أوائل السور ولهذا كتبت بخط على
حدة وهو اختيار أبي بكر الرازي رحمه الله حتى
قال محمد رحمه الله يكره للحائض والجنب قراءة
التسمية على وجه قراءة القرآن لأن من ضرورة
كونها قرآنا حرمة قراءتها على الحائض والجنب
وليس من ضرورة كونها قرآنا الجهر بها كالفاتحة
في الآخرتين. ودليل هذا ما روى ابن عباس رضي
الله عنهما أنه قال لعثمان لم لم تكتب التسمية
بين التوبة والأنفال قال لأن التوبة من آخر ما
نزل فرسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ولم
يبين لنا شأنها فرأيت أوائلها يشبه أواخر
الأنفال فألحقتها بها، فهذا بيان منهما إنها
كتبت للفصل بين السور.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أن
المصلي يسمي في أول صلاته ثم لا يعيد لأنها
لافتتاح القراءة كالتعوذ.
وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه
الله تعالى أنه يؤتي بها في أول كل ركعة وهو
قول أبي يوسف رحمه الله وهو أقرب إلى الاحتياط
لاختلاف العلماء والآثار في كونها آية من
الفاتحة.
وروى بن أبي رجاء عن محمد رحمه الله تعالى أنه
قال إذا كان يخفي القراءة يأتي بالتسمية بين
السورة والفاتحة لأنه أقرب إلى متابعة المصحف
وإذا كان يجهر لا يأتي بها بين السورة
والفاتحة لأنه لو فعل لأخفى بها فيكون ذلك
سكتة له في وسط القراءة ولم ينقل ذلك مأثورا.
ثم قال ويجهر الإمام في صلاة الجهر ويخافت في
صلاة المخافتة، وهي الظهر والعصر وكان ابن
عباس رضي الله عنه يقول لا قراءة في هاتين
الصلاتين لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام:
"صلاة النهار عجماء"، أي
ليس فيها قراءة. والدليل على فساد هذا القول
قوله، عليه الصلاة والسلام:
"لا صلاة إلا بقراءة".
وقيل لخباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه بم
عرفتم قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
صلاة الظهر والعصر قال باضطراب لحيته وقال
قتادة رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يسمعنا الآية والآيتين في صلاة
الظهر أحيانا. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله
عنه سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة
الظهر فظننا أنه قرأ:
{الم
تَنْزِيلُ} [السجدة: 1-2] السجدة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في
الابتداء يجهر بالقرآن في الصلاة كلها، وكان
المشركون يؤذونه ويسبون من أنزل ومن أنزل عليه
فأنزل الله تعالى:
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [سورة الإسراء: 110] فكان يخافت بعد ذلك في صلاة الظهر والعصر
لأنهم كانوا مستعدين للأذي في هذين الوقتين
ويجهر في صلاة المغرب لأنهم كانوا مشغولين
بالأكل وفي صلاة العشاء والفجر لأنهم كانوا
نياما ولهذا جهر في الجمعة والعيدين لأنه
أقامها بالمدينة وما كان للكفار بها قوة
الأذي.
ج / 1 ص -21-
وقد صح
رجوع ابن عباس رضي الله عنه عن هذا القول فإن
رجلا سأله اقرأ خلف إمامي فقال أما في الظهر
والعصر فنعم وتأويل قوله عجماء أي ليس فيها
قراءة مسموعة ونحن نقول به. وحد القراءة في
هاتين الصلاتين أن يصحح الحروف بلسانه على وجه
يسمع من نفسه أو يسمع منه من قرب أذنه من فيه
فأما ما دون ذلك فيكون تفكرا ومجمجة لا قراءة
فإن كان وحده يخافت في هاتين الصلاتين كالإمام
فأما في صلاة الجهر فيتخير فإن شاء خافت لأن
الجهر لإسماع من خلفه وليس خلفه أحد وإن شاء
جهر وهو أفضل لأنه يكون مؤديا صلاته على هيئة
الصلاة بالجماعة والمنفرد مندوب إلى هذا وكذلك
في التهجد بالليل إن شاء خافت وإن شاء جهر وهو
أفضل، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم في تهجده كان يؤنس
اليقظان ولا يوقظ الوسنان.
ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر وهو
يتهجد ويخفي بالقراءة وبعمر وهو يجهر بالقراءة
وببلال وهو ينتقل من سورة إلى سورة فلما
أصبحوا سأل كل واحد منهم عن حاله فقال أبو بكر
رضي الله عنه كنت أسمع من أناجيه وقال عمر رضي
الله عنه كنت أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان وقال
بلال رضي الله عنه كنت أنتقل من بستان إلى
بستان. فقال لأبي بكر: "ارفع من
صوتك قليلا"، ولعمر:
"اخفض من صوتك قليلا"،
ولبلال:
"إذا ابتدأت سورة فأتمها". وكان ابن ليلى رحمه الله، يقول يتخير الإمام في التسمية بين الجهر
والمخافتة وهذا مذهبه في كل ما اختلف فيه
الأثر كرفع اليد عند الركوع وتكبيرات العيد
ونحوها.
يستدل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"من استجمر فليوتر من فعل هذا فقد أحسن ومن لا فلا حرج"، وهذا ضعيف فإن آخر الفعلين يكون ناسخا لأولهما والقول بالتخيير
بين الناسخ والمنسوخ عملا لا يجوز.
قال والقراءة في الركعتين الأوليين يقرأ في كل
ركعة بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخيرتين
بفاتحة الكتاب وإن تركها جاز والمذهب عندنا أن
فرض القراءة في الركعتين من كل صلاة. وكان
الحسن البصري يقول في ركعة واحدة. وكان مالك
يقول: في ثلاث ركعات. والشافعي رضي الله تعالى
عنه يقول: في كل ركعة. واستدل الحسن البصري
بقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا صلاة
إلا بقراءة"، وهذا يقتضى
فرضية القراءة لا تكرارها فان الكل صلاة
واحدة، وهذا ضعيف فإنه لم ينقل عن النبي صلى
الله عليه وسلم الاكتفاء بالقراءة في ركعة
واحدة في شيء من الصلوات ولو جاز ذلك لفعله
مرة تعليما للجواز.
وقد سمى الله تعالى الفاتحة مثاني لأنها تثني
في كل صلاة أي تقرأ مرتين. والشافعي رضي الله
عنه احتج فقال: أجمعنا على فرضية القراءة في
كل ركعة من التطوع والفرض أقوى من التطوع
فثبتت الفرضية في كل ركعة من الفرض بطريق
الأولى ولأن كل
ج / 1 ص -22-
ركعة
تشتمل على أركان الصلاة وسائر الأركان كالقيام
والركوع والسجود فرض في كل ركعة فكذلك ركن
القراءة وهكذا قال مالك رحمه الله إلا أنه قال
أقيم القراءة في أكثر الركعات مقامها في
الجميع تيسيرا.
ولنا إجماع الصحابة فإن أبا بكر كان يقرأ في
الركعتين الأخيرتين زمن النبي صلى الله عليه
وسلم على جهة الثناء وروي أنه قرأ في
الأخيرتين {آمَنَ الرَّسُولُ} [سورة البقرة: 285] على جهة الثناء وعمر رضي الله تعالى عنه ترك
القراءة في ركعة من صلاة المغرب فقضاها في
الركعة الثالثة وجهر. وعثمان رضي الله تعالى
عنه ترك القراءة في الأوليين من صلاة العشاء
فقضاها في الأخيرتين وجهر. وعن علي وابن مسعود
رضي الله عنهما أنهما كانا في الأخيرتين
يسبحان وسأل رجل عائشة رضي الله تعالى عنها عن
قراءة الفاتحة في الأخيرتين فقالت اقرأ ليكون
على جهة الثناء وكفى بإجماعهم حجة.
قال: ثم القراءة في الأخيرتين ذكر يخافت بها
في كل حال" فلا تكون ركنا كثناء الافتتاح
وتأثيره أن مبنى الأركان على الشهرة والظهور
ولو كانت القراءة في الأخيرتين ركنا لما خالف
الأوليين في الصفة كسائر الأركان وكل شفع من
التطوع صلاة على حدة بخلاف الفرض حتى إن فساد
الشفع الثاني في التطوع لا يوجب فساد الشفع
الأول. وروي الحسن عن أبي حنيفة أن الأفضل له
أن يقرأ الفاتحة في الأخيرتين، وإن ترك ذلك
عامدا كان مسيئا وإن كان ساهيا فعليه سجود
السهو. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى أنه يتخير بين قراءة الفاتحة والتسبيح
والسكوت ولا يلزمه سجود السهو بترك القراءة
فيهما ساهيا وهو الأصح فسجود السهو يجب بترك
الواجبات أو السنن المضافة إلى جميع الصلاة.
ووجه رواية الحسن أنه إذا سكت قائما كان سامدا
متحيرا وتفسير السامد المعرض عن القراءة فقد
كره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه
فقال:
"مالي أراكم
سامدين".
قال: ثم قراءة الفاتحة لا تتعين ركنا في
الصلاة عندنا" وقال الشافعي رحمه الله تعالى
تتعين حتى لو ترك حرفا منها في ركعة لا تجوز
صلاته واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا صلاة
إلا بفاتحة الكتاب"، وبمواظبة
النبي على قراءتها في كل ركعة.
ولنا قوله تعالى:
{فاقرؤوا ما تيسر من القرآن}
[سورة المزمل: 20]، فتعيين الفاتحة يكون زيادة
على هذا النص وهو يعدل النسخ عندنا فلا يثبت
بخبر الواحد ثم المقصود التعظيم باللسان وذلك
لا يختلف بقراءة الفاتحة وغيرها. والحاصل أن
الركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به وخبر
الواحد موجب للعمل دون العلم فتعين الفاتحة
بخبر الواحد واجبا حتى يكره له ترك قراءتها
وتثبت الركنية بالنص وهو الآية. ولا يفترض
عليه قراءة السورة مع الفاتحة في الأوليين إلا
على قول مالك رحمه الله تعالى يستدل بقوله
عليه الصلاة
ج / 1 ص -23-
والسلام:
"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة معها"، أو قال:
"وشيء معها"
ونحن نوجب
العمل بهذا الخبر حتى لا نأذن له بالاكتفاء
بالفاتحة في الأوليين ولكن لا نثبت الركنية به
للأصل الذي قلنا.
قال: وإذا أراد أن يركع كبر، لما روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يكبر حين يهوي إلى
الركوع.
ومن الناس من يقول لا يكبر عند الركوع ولا عند
السجود وهو قول ابن عمر وأصحابه ويروون عن
عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان لا يتم
التكبير فأما عمر وعلي وابن مسعود رضوان الله
عليهم فكانوا يكبرون عند الركوع والسجود حتى
روي أن عليا رضي الله عنه صلى بأصحابه يوما
فقام أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وقال ذكرني
هذا الفتى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
"كان يكبر في كل خفض ورفع"، أو قال: "عند كل
خفض ورفع". وتأويل حديث عثمان رضي الله عنه
كان لا يتم التكبير أي جهرا أي يخافت بآخر
التكبير كما هو عادة بعض الأئمة.
قال: "ووضع يديه على ركبتيه" وهو قول عامة
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. وكان ابن
مسعود رضي الله، تعالى عنه وأصحابه يقولون
بالتطبيق، وصورته أن يضم إحدى الكفين إلى
الأخرى ويرسلهما بين فخذيه. ورأى سعد بن أبي
وقاص رضي الله تعالى عنه ابنا له يطبق فنهاه
فقال رأيت عبد الله بن مسعود يفعل هكذا فقال
رحم الله بن أم عبد كنا أمرنا بهذا ثم نهينا
عنه. وفي حديث الأعرابي حين علمه النبي صلى
الله عليه وسلم الصلاة قال:
"ثم اركع وضع يديك على ركبتيك"،
وهكذا في حديث أنس رضي الله عنه.
قال: "وفرج بين أصابعه" ولا يندب إلى التفريق
بين الأصابع في شيء من أحوال الصلاة إلا هذا
ليكون أمكن من الأخذ بالركبة فإن عمر رضي الله
تعالى عنه قال يا معشر الناس أمرنا بالركب
فخذوا بالركب.
قال "وبسط ظهره" لحديث أبي هريرة رضي الله عنه
وعائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله
عليه وسبلم كان إذا ركع بسط ظهره حتى لو وضع
على ظهره قدح من ماء لإستقر.
قال "ولا ينكس رأسه ولا يرفعه" ومعناه يسوى
رأسه بعجزه، لما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى أن يذبح المصلى تذبخ الحمار يعني إذا
شم البول أو أراد أن يتمرغ.
قال: وإذا اطمأن راكعا رفع رأسه" والطمأنينة
مذكورة في حديث الأعرابي قال: "ثم اركع حتى يطمئن كل عضو منك". وكذلك قال في السجود وعند رفع الرأس وهكذا في حديث أنس رضي الله
تعالى عنه حين علمه الصلاة قال: "ثم
اركع حتى يستقر كل عضو منك"،
ثم قال في آخر الحديث:
"فإنها من سنتي
ومن تبع سنتي فقد تبعني ومن تبعني كان معي في
الجنة". ثم "يقول سمع الله لمن حمده"، ويقول من خلفه "ربنا لك الحمد". ولم
يقلها الإمام في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى ويقولها في قول أبي يوسف ومحمد،
ج / 1 ص -24-
رحمهما
الله لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من
الركوع قال:
"سمع الله لمن حمده ربنا لك
الحمد".
وعن علي رضي الله عنه قال ثلاث يخفيهن الإمام.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه أربع يخفيهن
الإمام وفي جملته ربنا لك الحمد ولأنا لا نجد
شيئا من أذكار الصلاة يأتي به المقتدي دون
الإمام فقد يختص الإمام ببعض الأذكار
كالقراءة. ولأبي حنيفة رحمه الله قول النبي
صلى الله عليه وسلم: "وإذا
قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك
الحمد"، فقسم هذين الذكرين بين الإمام والمقتدي ومطلق القسمة يقتضي أن لا
يشارك كل واحد منهما صاحبه في قسمه ولأن
المقتدي يقول ربنا لك الحمد عند قول الإمام
سمع الله لمن حمده فلو قال الإمام ذلك لكانت
مقالته بعد مقالة المقتدي وهذا خلاف موضوع
الإمامة.
وتأويل الحديث المرفوع في التهجد حالة
الانفراد، وبه نقول. فأما المنفرد على قولهما
فيجمع بين الذكرين. وعن أبي حنيفة فيه روايتان
في رواية الحسن هكذا، وفي رواية أبي يوسف قال
يقول ربنا لك الحمد ولا يقول سمع الله لمن
حمده وهو الأصح لأنه حث لمن خلفه على التحميد
وليس خلفه أحد. وعلى قول الشافعي رضي الله
تعالى عنه كل مصل يجمع بين الذكرين، وهذا بعيد
فإن الإمام يحث من خلفه على التحميد فلا معنى
لمقابلة القوم إياه بالحث بل ينبغي أن يشتغلوا
بالتحميد، والشافعي رضي الله تعالى عنه يزيد
على هذا ما نقل في حديث علي رضي الله تعالى
عنه: "ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق
ما قال العبد وكلنا لك عبد"
الخ. وتأويله عندنا في التهجد.
قال: ثم يكبر ويسجد فإذا اطمأن ساجدا رفع رأسه
وكبر فإذا اطمأن قاعدا سجد أخرى وكبر، وقد
بينا أو تكلموا أن السجود لماذا كان في كل
ركعة مثنى والركوع واحد فمذهب الفقهاء أن هذا
تعبدي لا يطلب فيه المعنى كأعداد الركعات.
وقيل: إنما كان السجود مثنى ترغيما للشيطان
فإنه أمر بسجدة فلم يفعل فنحن نسجد مرتين
ترغيما له وإليه أشار في سجود السهو فقال:
"هما ترغيمتان للشيطان". وقيل: إنه
في السجدة الأولى يشير إلى أنه خلق من الأرض
وفي الثانية يشير إلى أنه يعاد إليها. قال
الله تعالى:
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}
[سورة طه: 55] الآية.
ويقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثا وفي
سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه،
لحديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه
قال لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [سورة الواقعة: 74]، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"اجعلوها في ركوعكم". ولما نزل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [سورة الأعلى: 1]، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"اجعلوها في
ج / 1 ص -25-
سجودكم". قال عقبة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه:
"سبحان ربي العظيم" ثلاثا، وفي سجوده:
"سبحان ربي الأعلى"
ثلاثا.
وروى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عنه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من قال في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثا فقد تم ركوعه وذلك أدناه ومن
قال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا فقد تم
سجوده وذلك أدناه"، ولم يرد بهذا اللفظ أدنى الجواز وإنما أراد به أدنى الكمال فإن
الركوع والسجود يجوزان بدون هذا الذكر إلا على
قول بن أبي مطيع البلخي فإنه كان يقول كل فعل
هو ركن يستدعي ذكرا فيه يكون ركنا كالقيام،
ولكنا نقول: لو شرع في الركوع ذكر هو ركن لكان
من القرآن فإن الركوع مشبه بالقيام.
وحين علم رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأعرابي الصلاة لم يذكر له في الركوع والسجود
شيئا من الأذكار وقد بين له الأركان. ولو زاد
على الثلاث كان أفضل إلا أنه إذا كان إماما لا
ينبغي له أن يطول على وجه يمل القوم لأنه يصير
سببا للتنفير وذلك مكروه فإن معاذا لما طول
القراءة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفتان أنت يا معاذ؟"
وكان الثوري رحمه الله يقول ينبغي أن يقولها
الإمام خمسا ليتمكن المقتدي من أن يقولها
ثلاثا. والشافعي رحمه الله تعالى يقول بهذا
ويزيد في الركوع ما روي عن علي رضي الله تعالى
عنه اللهم لك ركعت ولك خشعت ولك أسلمت وبك
آمنت وعليك توكلت وفي السجود سجد وجهي للذي
خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك
الله أحسن الخالقين، وهذا محمول عندنا على
التهجد بالليل. ويضع يديه في السجود حذاء
أذنيه لحديث وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه
قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع
يديه حذاء أذنيه، ولأن آخر الركعة معتبر
بأولها فكما يجعل رأسه بين يديه في أول الركعة
عند التكبير فكذلك في آخرها والذي روي عن أبي
حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع يديه حذو
منكبيه، محمول على حالة العذر للكبر أو المرض،
ويوجه أصابعه نحو القبلة. لحديث عائشة رضي
الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم:
كان إذا سجد وضع أصابعه تجاه القبلة. وفي حديث
ابن عباس رضي الله تعالى عنه، قال النبي صلى
الله عليه وسلم:
"إذا سجد العبد سجد كل عضو معه فليوجه من أعضائه القبلة ما استطاع
ويعتمد على راحتيه".
لحديث وائل بن حجر فإنه قال لأصحابه ألا أصف
لكم سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقالوا نعم فسجد وادعم على راحتيه ورفع عجيزته
ثم قال هكذا كان يسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
ويبدي ضبعيه للحديث المشهور أنه صلى الله عليه
وسلم كان إذا سجد أبدى ضبعيه أو أبد ضبعيه
والابداء والتبديد كل واحد منهما لغة وقالت
عائشة رضي الله تعالى عنها كان رسول الله رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى عضديه
عن جنبيه حتى يرى بياض إبطيه وفي رواية حتى
يرثى له أن يرحم من جهده وفي حديث جابر رضي
الله تعالى عنه: حتى لو أن بهيمة أرادت أن تمر
لمرت.
ج / 1 ص -26-
"ولا يفترش ذراعيه" لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى أن يفترش المصلي
ذراعيه افتراش الكلب أو الثعلب فذكره هذا
المثل دليل على شدة الكراهة. وكان مالك يقول
في النفل لا بأس بأن يفترش ذراعيه ليكون أيسر
عليه ولكن النهي عام يتناول النفل والفرض
جميعا وهذا في حق الرجال فأما المرأة فتحتفز
وتنضم وتلصق بطنها بفخذيها وعضديها بجنبيها
هكذا عن علي رضي الله تعالى عنه في بيان السنة
في سجود النساء ولأن مبني حالها على الستر فما
يكون أستر لها فهو أولى لقوله صلى الله عليه
وسلم:
"المرأة عورة مستورة".
وينهض على صدور قدميه حتى يستتم قائما في
الركعة الثانية عندنا وقال الشافعي رضي الله
عنه الأولى أن يجلس جلسة خفيفة ثم ينهض. لحديث
مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من السجود في
السجدة الثانية جلس جلسة خفيفة ثم ينهض، ولأن
كل ركعة تشتمل على جميع أركان الصلاة ومن
أركانها القعدة فينبغي أن يكون ختم كل ركعة
بقعدة قصيرة أو طويلة.
ولنا: حديث وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من
السجود إلى الركعة الثانية نهض على صدور قدميه
ولأنه لو كان ها هنا قعدة لكان الانتقال إليها
ومنها بالتكبير ولكان لها ذكر مسنون كما في
الثانية والرابعة، وتأويل حديثهم أنه فعل لأجل
العذر بسبب الكبر كما روي عنه عليه الصلاة
والسلام أنه قال:
"إني امرؤ
قد دبدنت فلا تبادروني بركوع ولا سجود".
ومنهم من يروي "بدنت"، وهو تصحيف فإن البدانة
هي الضخامة ولم ينقل في صفات رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وفي قوله: نهض على صدور قدميه
إشارة إلى أنه لا يعتمد بيديه على الأرض عند
قيامه كما لا يعتمد على جالس بين يديه والمعنى
أنه اعتماد من غير حاجة فكان مكروها والذي روي
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يقوم في صلاته شبه
العاجز"، تأويله أنه كان عند العذر بسبب
الكبر.
ويحذف التكبير حذفا ولا يطوله، لحديث إبراهيم
النخعي موقوفا ومرفوعا الأذان جزم والإقامة
جزم والتكبير جزم ولأن المد في أوله لحن من
حيث الدين لأنه ينقلب استفهاما وفي آخره لحن
من حيث اللغة فإن أفعل لا يحتمل المبالغة.
ويوجه أصابع رجليه في سجوده نحو القبلة لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا
سجد فتح أصابعه أي أمالها إلى القبلة ولقوله
عليه الصلاة والسلام:
"فليوجه من أعضائه القبلة ما استطاع".
قال: ويعتمد بيمينه على يساره في قيامه في
الصلاة وأصل الاعتماد سنة إلا على قول
الأوزاعي فإنه كان يقول يتخير المصلي بين
الاعتماد والإرسال وكان يقول إنما أمروا
بالاعتماد اشفاقا عليهم لأنهم كانوا يطولون
القيام فكان ينزل الدم إلى رؤوس أصابعهم إذا
أرسلوا فقيل لهم لو اعتمدتم لا حرج عليكم.
والمذهب عند عامة العلماء أنه سنة واظب عليه
رسول الله وقال عليه الصلاة والسلام:
"إنا معشر الأنبياء أمرنا أن
ج / 1 ص -27-
ناخذ
شمائلنا في الصلاة" وقال علي رضي الله تعالى عنه: إن من السنة أن يضع المصلي يمينه على
شماله تحت السرة في الصلاة. وأما صفة الوضع
ففي الحديث المرفوع لفظ الأخذ وفي حديث علي
رضي الله تعالى عنه لفظ الوضع واستحسن كثير من
مشايخنا الجمع بينهما بان يضع باطن كفه اليمنى
على ظاهر كفه اليسرى ويحلق بالخنصر والإبهام
على الرسغ ليكون عاملا بالحديثين. فأما موضع
الوضع فالأفضل عندنا تحت السرة وعند الشافعي
رضي الله تعالى عنه الأفضل أن يضع يديه على
الصدر لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر: 2]، قيل: المراد منه وضع اليمين على الشمال على
النحر وهو الصدر ولأنه موضع نور الإيمان فحفظه
بيده في الصلاة أولى من الإشارة إلى العورة
بالوضع تحت السرة وهو أقرب إلى الخشوع والخشوع
زينة الصلاة.
ولنا: حديث علي رضي الله تعالى عنه كما روينا
والسنة إذا أطلقت تنصرف إلى سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثم الوضع تحت السرة أبعد عن
التشبه بأهل الكتاب وأقرب إلى ستر العورة فكان
أولى والمراد من قوله: {وَانْحَرْ}:
نحر الأضحية بعد صلاة العيد ولئن كان المراد
بالنحر الصدر فمعناه لتضع بالقرب من النحر
وذلك تحت السرة. ثم قال في ظاهر المذهب
الاعتماد سنة القيام. وروى عن محمد رحمه الله
أنه سنة القراءة وإنما يتبين هذا في المصلي
بعد التكبير عند محمد رحمه الله يرسل يديه في
حالة الثناء فإذا أخذ في القراءة اعتمد وفي
ظاهر الرواية كما فرغ من التكبير يعتمد.
قال: وإذا قعد في الثانية أو الرابعة افترش
رجله اليسرى فيجعلها بين أليتيه ويقعد عليها
وينصب اليمنى نصبا ويوجه أصابع رجله اليمنى
نحو القبلة. وقال مالك في القعدتين جميعا
المسنون أن يقعد متوركا وذلك بأن يخرج رجليه
من جانب ويفضي بأليتيه إلى الأرض لحديث أبي
حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا قعد في صلاته قعد
متوركا. والشافعي يقول في القعدة الأولى مثل
قولنا لأنها لا تطول وهو يحتاج إلى القيام
والقعود بهذه الصفة أقرب إلى الاستعداد للقيام
وفي القعدة الثانية بقول مالك رحمه الله لأنها
تطول ولا يحتاج إلى القيام بعدها فينبغي أن
يكون مستقرا على الأرض.
ولنا: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها
وصفت قعود رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الصلاة فذكرت "أنه كان إذا قعد افترش رجله
اليسرى ويقعد عليها وينصب اليمني نصبا"، وما
روي بخلافه فهو محمول على حالة العذر للكبر
ولأن القعود على الوجه الذي بينا أشق على
البدن
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل
الأعمال فقال "أحمزها" أي أشقها على البدن. ويقول الشافعي رضي الله عنه ما كان متكررا من
أفعال الصلاة فالثاني لا يخالف الأول في الصفة
كسائر الأفعال. فأما المرأة فينبغي لها أن
تقعد متوركة لما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم رأى امرأتين
ج / 1 ص -28-
تصليان
فلما فرغتا دعاهما وقال:
"اسمعان إذا
قعدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض". ولأن
هذا أقرب إلى الستر في حقهن.
قال: ويكون منتهى بصره في صلاته حال القيام
موضع سجوده" لحديث أبي قتادة أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا صلى سما ببصره نحو
السماء فلما نزل قوله تعالى:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [سورة البقرة: 238] رمي ببصره إلى موضع سجوده. ولما نزل قوله
تعالى:
{قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [سورة المؤمنون: 1-2] قال أبو طلحة رضي الله عنه ما الخشوع يا رسول
الله قال:
"أن يكون منتهى
بصر المصلي حال القيام موضع سجوده".
ثم فسر الطحاوي في كتابه فقال في حالة القيام
ينبغي أن يكون منتهي بصره موضع سجوده وفي
الركوع على ظهر قدميه وفي السجود على أرنبة
أنفه وفي القعود على حجره زاد بعضهم وعند
التسليمة الأولى على منكبه الأيمن وعند
التسليمة الثانية على منكبه الأيسر. فالحاصل
أن يترك التكلف في النظر فيكون منتهى بصره ما
بينا.
قال: ولا يلتفت في الصلاة لقوله صلى الله عليه
وسلم:
"لو علم المصلي من يناجي ما التفت". ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة
قال:
"تلك خلسة
يختلسها الشيطان من صلاة أحدكم". وحد
الالتفات المكروه أن يلوي عنقه ووجهه على وجه
يخرج وجهه من أن يكون إلى جهة الكعبة فأما إذا
نظر بمؤخر عينيه يمنة أو يسرة من غير أن يلوي
عنقه فلا يكون مكروها لما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يلاحظ أصحابه في صلاته
بمؤخر عينيه.
ولا يعبث في الصلاة بشيء من جسده وثيابه لحديث
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال إن الله
تعالى كره لكم ثلاثا الرفث في الصوم والعبث في
الصلاة والضحك في المقابر ولما رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي وهو يعبث بلحيته
قال:
"لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه فجعل فعله دليل نفاقه". قال الطحاوي تأويله أن النبي صلى الله عليه وسلم: عرف بطريق الوحي
أن الرجل منافق مستهزىء فأما أن يكون هذا
الفعل من علامات النفاق فلا لأن المصلي قلما
ينجو من. ألا ترى أنه قيل لرسول الله: ومن
يطيق ذلك قال:
"ليكن في الفريضة إذا". فالحاصل أن كل عمل هو مفيد للمصلي فلا بأس أن يأتي به أصله ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرق ليلة في
صلاته فسلت العرق عن جبينه لأنه يؤذيه فكان
مفيدا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن
الصيف إذا قام من السجود نفض ثوبه يمنة أو
يسرة لأنه كان مفيدا حتى لا يبقى صورة، فأما
ما ليس بمفيد فيكره للمصلي أن يشتغل به لقوله:
صلى الله عليه وسلم: "إن في الصلاة لشغلا والعبث غير مفيد له شيئا فلا يشتغل به".
ولا يقلب الحصى لأنه نوع عبث غير مفيد والنهي
عن تقليب الحصى يرويه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم جابر وأبو ذر ومعيقيب بن أبي فاطمة
وأبو هريرة حتى قال في بعضها:
"وإن تتركها
فهو خير لك من مائة ناقة سود الحدقة تكون لك".
فإن كان الحصى لا يمكنه من
ج / 1 ص -29-
السجود
فلا بأس بأن يسويه مرة واحدة وتركه أحب إلي
لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر:
"يا أبا ذر مرة أو ذر"، ولأن هذا عمل مفيد له ليتمكن من وضع الجبهة والأنف على الأرض فلا
بأس به بعد أن يكون قليلا لا يزيد على مرة
وتركه أقرب إلى الخشوع فهو أولى.
قال: ولا يفرقع أصابعه، لما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن الفرقعة في الصلاة ومر
بمولى له وهو يصلي ويفرقع أصابعه فقال: "أتفرقع أصابعك وأنت تصلى لا أم لك". وكان عليه الصلاة والسلام ينهي المنتظر للصلاة أن يفرقع أصابعه في
تلك الحالة ففي الصلاة أولى وهو نوع عبث غير
مفيد.
قال: ولا يضع يديه على خاصرته، لما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن التخصر
في الصلاة. وقيل: إنه استراحة أهل النار ولا
راحة لهم وأن الشيطان أهبط متخصرا ولأنه فعل
المصاب وحال الصلاة حال يناجي فيه العبد ربه
تعالى فهو حال الافتخار لا حال إظهار المصيبة
ولأنه فعل أهل الكتاب وقد نهينا عن التشبه
بهم.
قال: ولا يقعي إقعاء لما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى أن يقعي المصلى إقعاء
الكلب. وفي تفسير الإقعاء وجهان:
أحدهما: أن ينصب قدميه كما
يفعله في السجود ويضع أليتيه على عقبيه وهو
معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عقب
الشيطان.
الثاني: أن يضع أليتيه على
الأرض وينصب ركبتيه نصبا وهذا أصح لأن إقعاء
الكلب يكون بهذه الصفة إلا أن إقعاء الكلب
يكون في نصب اليدين وإقعاء الآدمي يكون في نصب
الركبتين إلى صدره.
قال: ولا يتربع من غير عذر، لما روي أن عمر
رضي الله تعالى عنه رأى ابنه يتربع في الصلاة
فنهاه عن ذلك فقال رأيتك تفعله يا أبت فقال إن
رجلي لا تحملاني. ومن مشايخنا من غلل فيه فقال
التربع جلوس الجبابرة فلهذا كره في الصلاة،
وهذا ليس بقوي فإن النبي صلى الله عليه وسلم
"كان يتربع في جلوسه في بعض أحواله"، حتى روي
أنه كان يأكل يوما متربعا فنزل عليه الوحي: كل
كما تأكل العبيد، وهو كان منزها عن أخلاق
الجبابرة وكذلك عامة جلوس عمر رضي الله عنه في
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
متربعا، ولكن العبارة الصحيحة أن يقال الجلوس
على الركبتين أقرب إلى التواضع من التربع فهو
أولى في حال الصلاة إلا عند العذر.
قال: لو مسح جبهته من التراب قبل أن يفرغ من
صلاته لا بأس به، لأنه عمل مفيد فإن التصاق
التراب بجبهته نوع مثلة فربما كان الحشيش
الملتصق بجبهته يؤذيه فلا بأس به ولو مسح بعد
ما رفع رأسه من السجدة الأخيرة لا خلاف في أنه
لا بأس به، فأما قبل ذلك فلا بأس به في ظاهر
الرواية. وعن أبي يوسف قال أحب إلي أن يدعه
لأنه يتترب ثانيا وثالثا فلا
ج / 1 ص -30-
يكون
مفيدا ولو مسح لكل مرة كان عملا كثيرا. ومن
مشايخنا من كره ذلك قبل الفراغ من الصلاة
وجعلوا القول قول محمد رحمه الله في الكتاب لا
مفصولا عن قوله أكرهه فإنه قال في الكتاب قلت
لو مسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته قال لا
أكرهه يعني لا تفعل فإني أكرهه لحديث ابن
مسعود رضي الله تعالى عنه أربع من الجفاء أن
تبول قائما وأن تسمع النداء فلم تجبه وأن تنفخ
في صلاتك وأن تمسح جبهتك في صلاتك، وتأويله
عند من لا يكرهه من أصحابنا المسح باليدين كما
يفعله الداعي إذا فرغ من الدعاء في غير
الصلاة.
قال: والتشهد أن يقول التحيات لله والصلوات
والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله وهو تشهد ابن مسعود رضي الله تعالى
عنه.
والمختار عند الشافعي رضي الله تعالى عنه تشهد
ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وصفته أن يقول
التحيات المباركات الطيبات لله سلام عليك أيها
النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى
عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله. وهو يقول بأن ابن
عباس رضي الله تعالى عنه كان من فتيان الصحابة
رضوان الله عليهم فإنما يختارون ما استقر عليه
الأمر آخرا فأما ابن مسعود فهو من الشيوخ ينقل
ما كان في الابتداء كما نقل التطبيق وغيره
ولأن تشهد ابن عباس رضي الله تعالى عنه أقرب
إلى موافقة القرآن قال الله تعالى:
{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [سورة النور: 61]. والسلام بغير الألف واللام أكثر في القرآن، قال
الله تعالى:
{سَلامٌ
عَلَيكُمْ طِبْتُمْ} [سورة الزمر: 73]،
{سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [سورة الرعد: 24].
ومالك رحمه الله يأخذ بتشهد عمر رضي الله
تعالى عنه، وصورته التحيات الناميات الزاكيات
المباركات الطيبات لله وقال ان عمر رضي الله
تعالى عنه علم الناس التشهد بهذه الصفة على
منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الناس من اختار تشهد أبي موسى الأشعري رضي
الله تعالى عنه، وهو أن يقول: التحيات لله
الطيبات والصلوات لله والباقي كتشهد ابن مسعود
رضي الله تعالى عنه، وفيه حكاية فإن أعرابيا
دخل على أبي حنيفة رحمه الله تعالى في المسجد
فقال أ بواو أم بواوين فقال بواوين فقال بارك
الله فيك كما بارك في لا ولا ثم ولى فتحير
أصحابه وسألوه عن ذلك فقال إن هذا سألني عن
التشهد أبواوين كتشهد ابن مسعود رضي الله
تعالى عنه أم بواو كتشهد أبي موسى قلت بواوين
قال بارك الله فيك كما بارك في شجرة مباركة
زيتونة لا شرقية ولا غربية.
ج / 1 ص -31-
إنما
أخذنا بتشهد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
لحسن ضبطه ونقله من رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإن أبا حنيفة قال أخذ حماد بيدي وقال
حماد أخذ إبراهيم بيدي وقال إبراهيم أخذ علقمة
بيدي وقال علقمة أخذ عبد الله بن مسعود بيدي
وقال ابن مسعود أخذ رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيدي وعلمني التشهد كما كان يعلمني
السورة من القرآن وكان يأخذ علينا بالواو
والألف. وقال علي بن المديني لم يصح من التشهد
إلا ما نقله أهل الكوفة عن عبد الله بن مسعود
وأهل البصرة عن أبي موسى. وعن خصيف قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت
كثر الاختلاف في التشهد فبماذا تأمرني أن آخذ
قال بتشهد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ولأن
تشهد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أبلغ في
الثناء فإن الواوات تجعل كل لفظ ثناء بنفسه.
والسلام بالألف واللام ليكون أبلغ منه بغير
الألف واللام وترجيح الشافعي رحمه الله تعالى
بعيد فإنه يؤدي إلى تقديم الأحداث على
المهاجرين الأولين وأحد لا يقول به. وترجيح
مالك ليس بقوي أيضا فإن أبا بكر رضي الله
تعالى عنه علم الناس على منبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم التشهد كما هو تشهد ابن مسعود
فدل أن الأخذ به أولى ويكره أن يزيد في التشهد
شيئا أو يبتدئ قبله بشيء ومراده ما نقل شاذا
في أول التشهد باسم الله وبالله أو باسم الله
خير الأسماء وفي آخره أرسله بالهدى ودين الحق
ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فإنه
لم يشتهر نقل هذه الكلمات وابن مسعود يقول
وكان يأخذ علينا بالواو والألف فذلك تنصيص على
أنه لا تجوز الزيادة عليه بخلاف التطوعات
فإنها غير محصورة بالنص فجوزنا الزيادة عليه،
ولا يزيد في الفرائض على التشهد في القعدة
الأولى عندنا.
وقال الشافعي يزيد الصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم، واستدل بحديث أم سلمة رضي الله
تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"في كل ركعتين تشهد وسلام على المرسلين ومن تبعهم من عباد الله
الصالحين".
ولنا: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزيد على
التشهد في القعدة الأولى وروي أنه كان يقعد في
القعدة الأولى كأنه علي الرضف يعنى الحجارة
المحماة يحكى الراوي بهذا سرعة قيامه فدل أنه
كان لا يزيد على التشهد. وتأويل حديث أم سلمة
رضي الله تعالى عنها في التطوعات فإن كل شفع
من التطوع صلاة على حدة أو مراده سلام التشهد
فأما في الرابعة فيدعو بعده ويسأل حاجته ولم
يذكر الصلاة على رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وأورد الطحاوي في مختصره أن بعد التشهد يصلى
على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو حاجته
ويستغفر لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات وهو الصحيح
فإن التشهد ثناء على الله تعالى ويعقبه الصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم كما في التحميد
المعهود وهو مروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى
عنه. وكان إبراهيم النخعي يقول يجزئ من الصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: السلام
عليك أيها النبي ثم الصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم في الصلاة ليست من جملة الأركان
عندنا. وقال
ج / 1 ص -32-
الشافعي: هي من جملة أركان الصلاة لا تجوز
الصلاة إلا بها. وفي الصلاة على آله وجهان
واستدل بقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا صلاة
لمن لم يصل علي في صلاته"، ولأن الله
تعالى أمرنا بالصلاة عليه ومطلق الأمر للإيجاب
ولا تجب في غير الصلاة فدل أنها تجب في
الصلاة.
ولنا حديث كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه
قال:
يا رسول الله عرفنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك فقال: "قولوا اللهم
صل على محمد وعلى آل محمد"،
فهو لم يعلمهم حتى سألوه ولو كان من أركان
الصلاة لبينه لهم قبل السؤال وحين علم
الأعرابي أركان الصلاة لم يذكر الصلاة عليه
ولأنه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلا
يكون من أركان الصلاة كالصلاة على إبراهيم
عليه الصلاة والسلام. وتأويل الحديث نقول أراد
به نفي الكمال كقوله: "لا صلاة لجار المسجد
إلا في المسجد"، وبه نقول: والآية تدل على أن
الصلاة واجبة عليه في العمر مرة فإن مطلق
الأمر لا يقتضي التكرار وبه نقول. وكان
الطحاوي يقول كلما سمع ذكر النبي صلى الله
عليه وسلم من غيره أو ذكره بنفسه يجب عليه أن
يصلى عليه، وهو قول مخالف للإجماع فعامة
العلماء على أن ذلك مستحب وليس بواجب.
ثم يدعو بحاجته لقوله تعالى:
{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ
فَارْغَبْ} [سورة الشرح: 7-8]، قيل معناه: إذا فرغت من الصلاة فانصب للدعاء
وارغب إلى الله تعالى بالإجابة وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم في آخر صلاته يتعوذ بالله
من المغرم والمأثم ومن فتنة المحيا والممات.
ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن
مسعود رضي الله عنه، التشهد قال له: "وإذا قلت هذا فاختر من الدعاء أعجبه"، وكان ابن مسعود يدعو بكلمات منهن: اللهم إني أسألك من الخير كله
ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله
ما علمت منه وما لم أعلم.
قال: ثم يسلم تسليمتين إحداهما عن يمينه
السلام عليكم ورحمة الله والأخرى عن يساره مثل
ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"وتحليلها السلام"
وقد جاء أوان التحليل ومن تحرم للصلاة فكأنه
غاب عن الناس لا يكلمهم ولا يكلمونه وعند
التحليل يصير كأنه رجع إليهم فيسلم
والتسليمتان قول جمهور العلماء وكبار الصحابة
عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم. وكان مالك
رحمه الله تعالى يقول يسلم تسليمة واحدة تلقاء
وجهه وهكذا روت عائشة وسهل بن سعد الساعدي رضي
الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
والأخذ برواية كبار الصحابة أولى فإنهم كانوا
يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال:
"ليلني منكم أولوا الأحلام والنهي".
فأما عائشة رضي الله تعالى عنها فكانت تقف في
صف النساء وسهل بن سعد كان من جملة الصبيان
فيحتمل أنهما لم يسمعا التسليمة الثانية على
ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم
تسليمتين الثانية أخفض من الأولى. ثم في
التسليمة الأولى يحول وجهه على يمينه وفي
الثانية على يساره لحديث ابن مسعود رضي الله
عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحول
وجهه في التسليمة الأولى حتى يرى بياض خده
الأيمن أو قال الأيسر يحكي الراوي بهذا شدة
التفاته.
ج / 1 ص -33-
قال:
وينوى بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الحفظة
والرجال وبالتسليمة الثانية من عن يساره منهم"
لأنه يستقبلهم بوجهه ويخاطبهم بلسانه فينويهم
بقلبة فإن الكلام إنما يصير عزيمة بالنية قال
عليه الصلاة والسلام:
"إن الله تعالى وراء لسان كل متكلم فلينظر
امرؤ ما يقول"، وقد ذكر الحفظة هنا وأخر في الجامع الصغير حتى ظن بعض أصحابنا أن
ما ذكر هنا بناء على قول أبي حنيفة الأول في
تفضيل الملائكة على البشر وما ذكر في الجامع
الصغير بناء على قوله الآخر في تفضيل البشر
على الملائكة وليس كما ظنوا فإن الواو لا توجب
الترتيب ومن سلم على جماعة لا يمكنه أن يرتب
بالنية فيقدم الرجال على الصبيان ولكن مراده
تعميم الفريقين بالنية. وأكثر مشايخنا على أنه
يخص بهذه النية من يشاركه في الصلاة من الرجال
والنساء. فأما الحاكم الشهيد رحمه الله فكان
يقول: ينوي جميع الرجال والنساء من يشاركه ومن
لا يشاركه وهذا عندنا في سلام التشهد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إذا قال العبد السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين أصاب كل عبد صالح من أهل السماء
والأرض"، فأما في
سلام التحليل فيخاطب من بحضرته فيخصه بالنية
والمقتدي ينوي كذلك فكان بن سيرين يقول
المقتدي يسلم ثلاث تسليمات إحداهن لرد سلام
الإمام، وهذا ضعيف فإن مقصود الرد حاصل
بالتسليمتين إذ لا فرق في الجواب بين أن يقول
عليكم السلام وبين قوله السلام عليكم فإن كان
الإمام في الجانب الأيمن نواه فيهم وإن كان في
الجانب الأيسر نواه فيهم وإن كان بحذائه نواه
في الأولى عند أبي يوسف لأنه لما استوى
الجانبان في حقه ترجح الجانب الأيمن وقال محمد
ينويه في التسليمتين لأن له حظا من الجانبين.
قال: ويكره في الصلاة تغطية الفم" لحديث أبي
هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطي المصلي فاه"، ولأنه إن غطاه بيده فقد قال:
"كفوا أيديكم في الصلاة"، وإن غطاه بثوب فقد نهى عن التلثم في الصلاة وفيه تشبه بالمجوس في
عبادتهم النار.
قال: ويكره أن يصلي وهو معتجر لنهي الرسول
عليه الصلاة والسلام عن الاعتجار في الصلاة
وتفسيره أن يشد العمامة حول رأسه ويبدي هامته
مكشوفا كما يفعله الشطار. وقيل: أن يشد بعض
العمامة على رأسه وبعضها على بدنه. وعن محمد
قال لا يكون الاعتجار إلا مع تنقب وهو أن يلف
بعض العمامة على رأسه وطرفا منه يجعله شبه
المعجر للنساء وهو أن يلفه حول وجهه.
قال: ويكره أن يصلي وهو عاقص" لحديث أبي رافع
رضي الله عنه
"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل ورأسه معقوص" وأن الحسن بن علي رضي الله عنهما كان يصلى وهو عاقص شعره فقام أبو
هريرة رضي الله عنه إلى جنبه فحله فنظر إليه
شبه المغضب فقال أقبل على صلاتك يا ابن بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن هذا. والعقص
ج / 1 ص -34-
في
اللغة الإحكام في الشد حتى قيل في تفسيره أن
يجمع شعره على هامته ويشده بخيط أو بخرقة أو
بصمغ ليتلبد وقيل أن يلف ذوائبه حول رأسه كما
يفعله النساء في بعض أحوالهن.
قال: ويضع ركبتيه على الأرض قبل يديه إذا انحط
للسجود وقال ابن سيرين: يضع يديه قبل ركبتيه
لحديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يضع يديه قبل ركبتيه.
ولنا: حديث وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يضع يديه قبل ركبتيه.
وروى الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يبرك
المصلي بروك الإبل وقال:
"ليضع ركبتيه قبل يديه"، يعني أن الإبل في بروكها تبدأ باليد فينبغي أن يبدأ المصلي بالرجل
ولأنه يضع أولا ما كان أقرب إلى الأرض فيضع
ركبتيه ثم يديه ثم وجهه وفي الرفع يرفع أولا
ما كان أبعد عن الأرض فيرفع وجهه ثم يديه ثم
ركبتيه.
قال: ويخفي الإمام التعوذ والتسمية والتشهد
وآمين وربنا لك الحمد. أما التعوذ والتسمية
فقد بينا والتشهد كذلك فإنه لم ينقل الجهر
بالتشهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
والناس توارثوا الإخفاء بالتشهد من لدن رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا
والتوارث كالتواتر. وأما قوله: اللهم ربنا لك
الحمد فقد طعنوا فيه وقالوا من مذهب أبي حنيفة
أن الامام لا يقولها أصلا فكيف يستقيم جوابه
أنه يخفي بها ولكنا نقول عرف أبو حنيفة رحمه
الله تعالى أن بعض الأئمة لا يأخذون بقوله
لحرمة قول علي وابن مسعود رضي الله تعالى
عنهما ففرع على قولهما أنه يخفي بها إذا كان
يقولها كما فرع مسائل المزارعة على قول من يري
جوازها. فأما آمين فالإمام يقولها بعد الفراغ
من الفاتحة إلا على قول مالك رحمه الله وهو
رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى
لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا قال الإمام:
{وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا:
آمين"، والقسمة تقتضي أن الإمام لا يقولها.
ولنا: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
أمن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن فمن وافق
تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه
وفي الحديث الذي رووا زيادة فإنه قال:
"فقولوا
آمين فإن الإمام يقولها"، وهذا
اللفظ دليل على أن الإمام لا يجهر بها وهو قول
علمائنا ومذهب علي وابن مسعود رضي الله تعالى
عنهما وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه يجهر
بها وهو قول بن الزبير وأبي هريرة واستدل
بحديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا فرغ من الفاتحة في الصلاة قال
آمين ومد بها صوته. ولكنا نستدل بحديث ابن
مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال في صلاته: "آمين"، وخفض بها
صوته. وتأويل حديثهم أنه قال اتفاقا لا قصدا
أو كان لتعليم الناس أن الإمام يؤمن كما يؤمن
القوم فإنه دعاء فإن معناه على ما قال الحسن
اللهم أجب وفي قوله تعالى:
{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] ما يدل عليه فإن موسى عليه السلام كان يدعو، وهارون كان
يؤمن والإخفاء في الدعاء أولى. قال الله
تعالى:
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وقال عليه الصلاة والسلام:
"خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي".
ج / 1 ص -35-
وفي
التأمين لغتان: أمين بالقصر وآمين بالمد والمد
يدل على ياء النداء معناه يا آمين كما يقال في
الكلام: أزيد يعنى يا زيد وما كان من النفخ
غير مسموع فهو تنفس لا بد للحي منه فلا يفسد
الصلاة وإن كان مسموعا أفسدها في قول أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يفسدها في
قول أبي يوسف إلا أن يريد به التأفيف ثم رجع
وقال صلاته تامة وإن أراد به التأفيف واستدل
بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
في صلاة الكسوف:
"أف أف ألم تعدني أنك لا تعذبهم وأنا فيهم"، ولأن هذا تنفس وليس بكلام فالكلام ما يجري في مخاطبات الناس وله
معنى مفهوم ولهذا قال في قوله الأول إذا أراد
به التأفيف وهو في اللغة أفف يؤفف تأفيفا كان
قطعا ثم رجع فقال عينه ليس بكلام فلو بطلت
صلاته إنما تبطل بمجرد النية وذلك لا يجوز
وقاسه بالتنحنح والعطاس فإنه لا يكون قطعا وإن
سمع فيه حروف مهجاة وهو أصوب.
ولنا: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن
النبي عليه الصلاة والسلام مر بمولى له يقال
له رباح وهو ينفخ التراب من موضع سجوده فقال:
"أما علمت أن من نفخ في صلاته فقد تكلم"؟ ولأن قوله: أف من جنس كلام الناس لأنه حروف مهجاة وله معنى مفهوم
يذكر لمقصود قال الله تعالى:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا
تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] فجعله من القول والقائل يقول:
أفا وتفا لمن مودته
إن غبت عنه سويعة زالت
إن مالت الريح هكذا وكذا
مال مع الريح أينما مالت
والكلام مفسد للصلاة
بخلاف التنحنح فإنه لإصلاح الحلق ليتمكن به من
القراءة والعطاس مما لا يمكنه الامتناع منه
فكان عفوا بخلاف التأفيف فإنه بمنزلة ما لو
قال في الصلاة هر ونحوه. وتأويل حديث الكسوف
أنه كان في وقت كان الكلام في الصلاة مباحا ثم
انتسخ.
ولا بأس بأن يصلي الرجل في ثوب واحد متوشحا به
لما روي في حديث أم هانئ رضي الله تعالى عنها
"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح
ثمان ركعات في ثوب واحد متوشحا به" وسأل ثوبان
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في
ثوب واحد فقال:
"يا ثوبان أو
لكلكم ثوبان" أو قال:
"أو كلكم يجد ثوبين"؟.
وصفة التوشح أن يفعل بالثوب ما يفعله القصار
في المقصرة إذا لف الكرباس على نفسه. جاء في
الحديث
"إذا كان ثوبك
واسعا فاتشح به وإن كان ضيقا فاتزر به"،
وإنما يجوز هذا إذا كان الثوب صفيقا يحصل به
ستر العورة وإن كان رقيقا يصف ما تحته لا يحصل
به ستر العورة فلا تجوز صلاته وكذلك الصلاة في
قميص واحد "وذكر" بن شجاع رحمه الله تعالى أنه
إن لم يزره ينظر إن كان بحيث يقع بصره على
عورته في الركوع والسجود لا تجوز صلاته وإن
كان ملتحقا لا يقع بصره على عورته تجوز صلاته.
والحاصل أنه تكره الصلاة في إزار واحد لحديث
نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل
في
ج / 1 ص -36-
ثوب
واحد ليس على عاتقه منه شيء وسأل رجل ابن عمر
رضي الله عنهما عن الصلاة في ثوب واحد فقال
أرأيت لو أرسلتك في حاجة كنت منطلقا في ثوب
واحد فقال لا فقال الله أحق أن تتزين له. وروى
الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الصلاة
في إزار واحد فعل أهل الجفاء وفي ثوب واحد
متوشحا به أبعد عن الجفاء وفي إزار ورداء من
أخلاق الكرام.
ويكره للمصلي أن يرفع ثيابه أو يكفها أو يرفع
شعره لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي
صلى الله عليه وسلم:
"أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء وأن لا أكف ثوبا
ولا شعرا"، وقال:
"إذا طول أحدكم شعره فليدعه يسجد معه".
قال ابن مسعود رضي الله عنه له أجر بكل شعرة
ثم كفه الثوب والشعر لكيلا يتترب نوع تجبر
ويكره للمصلي ما هو من أخلاق الجبابرة، ويسجد
على جبهته وأنفه واظب على هذا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وفيه تمام السجود فإن سجد على
الجبهة دون الأنف جاز عندنا وعند الشافعي لا
يجوز وإن سجد على الأنف دون الجبهة جاز عند
أبي حنيفة رحمة الله ويكره ولم يجز عند أبي
يوسف ومحمد رحمه الله عليهما وهو رواية أسيد
بن عمرو عن أبي حنيفة رحمه الله.
أما الشافعي استدل بحديث أبي هريرة رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من لم يمس أنفه الأرض في
سجوده كما يمس جبهته فلا سجود له"،
والمراد بهذا عندنا نفي الكمال لا نفي الجواز.
واستدل أبو يوسف ومحمد رحمه الله عليهما بقول
النبي صلى الله عليه وسلم:
"السجود على الجبهة فريضة وعلى الأنف تطوع".
فإذا ترك ما هو الفرض لا يجزئه ثم الأنف تبع
للجبهة في السجود كما أن الأذن تبع للرأس في
المسح ولو اكتفى بمسح الأذن عن مسح الرأس لا
يجزئه فهذا مثله. وأبو حنيفة احتج بقول ابن
عمر رضي الله عنه فإن زيد بن ركانة كان يصلي
وعليه برنس فكان إذا سجد سقط على جبهته فناداه
ابن عمر رضي الله عنهما إذا أمسست أنفك الأرض
أجزأك ولأن المأمور به السجود على الوجه كما
فسر الأعضاء السبعة في الحديث المعروف: "الوجه
واليدان والركبتان والقدمان ووسط الوجه
الأنف"، فبالسجود عليه يكون ممتثلا للأمر وهو
أحد أطراف الجبهة فإن عظم الجبهة مثلث والسجود
على أحد أطرافه كالسجود على الطرف الآخر ولأن
الأنف مسجد حتى إذا كان بجبهته عذر يلزمه
السجود على الأنف وما ليس بمسجد لا يصير مسجدا
بالعذر في المسجد كالخد والذقن وإذا ثبت أنه
مسجد فبالسجود عليه يحصل امتثال الأمر. وقال
الله تعالى:
{يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107] والمراد: ما يقرب من الذقن والأنف أقرب إلى الذقن
من الجبهة فهو أولى بأن يكون مسجدا والله
أعلم.
باب افتتاح الصلاة
قال: وإذا انتهى الرجل إلى الإمام وقد سبقه
بركعتين وهو قاعد يكبر تكبيرة الافتتاح ليدخل
بها في صلاته ثم كبر أخرى ويقعد بها لأنه
التزم متابعة الإمام وهو قاعد والانتقال
ج / 1 ص -37-
من
القيام إلى القعود يكون بالتكبير. والحاصل أنه
يبدأ بما أدرك مع الإمام لقوله صلى الله عليه
وسلم:
"إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون عليكم
بالسكينة والوقار ما أدركتم فصلوا وما فاتكم
فاقضوا".
وكان الحكم في الابتداء أن المسبوق يبدأ بقضاء
ما فاته حتى أن معاذا رضي الله عنه جاء يوما
وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض
الصلاة فتابعه فيما بقي ثم قضى ما فاته فقال
عليه الصلاة والسلام:
"ما حملك على ما صنعت يا معاذ"؟ فقال: وجدتك
على حال فكرهت أن أخالفك عليه فقال عليه
الصلاة والسلام: "سن لكم معاذ سنة حسنة
فاستنوا بها". ثم لا خلاف أن المسبوق يتابع الإمام في التشهد ولا يقوم للقضاء
حتى يسلم الإمام.
وتكلموا أن بعد الفراغ من التشهد ماذا يصنع
فكان بن شجاع رحمه الله يقول يكرر التشهد وأبو
بكر الرازي يقول يسكت لأن الدعاء مؤخر إلى آخر
الصلاة والأصح أنه يأتي بالدعاء متابعة للإمام
لأن المصلي إنما لا يشتغل بالدعاء في خلال
الصلاة لما فيه من تأخير الأركان وهذا المعنى
لا يوجد هنا لأنه لا يمكنه أن يقوم قبل سلام
الإمام.
ويجوز افتتاح الصلاة بالتسبيح والتهليل
والتحميد في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله،
وفي قول أبي يوسف رحمه الله إذا كان يحسن
التكبير ويعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير لا
يصير شارعا بغيره وإن كان لا يحسنه أجزأه.
وألفاظ التكبير عنده أربعة الله أكبر الله
الأكبر الله الكبير الله كبير، وعند الشافعي
رضي الله تعالى عنه، لا يصير شارعا إلا
بلفظتي: الله أكبر، الله الأكبر، وعند مالك
رحمه الله: لا يصير شارعا إلا بقوله: الله
أكبر واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضع ويستقبل القبلة ويقول
الله أكبر".
وبهذا احتج الشافعي، ولكنه يقول: الله الأكبر
أبلغ في الثناء، بإدخال الألف واللام فيه فهو
أولى، وأبو يوسف استدل بقوله صلى الله عليه
وسلم:
"وتحريمها التكبير"، فلا بد من
لفظ التكبير.
وفي العبادات البدنية يعتبر المنصوص عليه، ولا
يشتغل بالتعليل حتى لا يقام السجود على الخد
والذقن مقام السجود على الجبهة والأنف.
والأذان لا ينادى بغير لفظ التكبير فالتحريم
للصلاة أولى. وأبو حنيفة، رحمه الله، ومحمد،
رحمه الله، استدلا بحديث مجاهد، رضي الله عنه،
قال: كان الأنبياء، صلوات الله عليهم، يفتتحون
الصلاة بلا إله إلا الله، ولأن الركن ذكر الله
تعالى على سبيل التعظيم، وهو الثابت بالنص،
قال الله تعالى:
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}
[الأعلى: 15] وإذا قال الله أعظم أو الله أجل
فقد وجد ما هو الركن.
فأما لفظ التكبير وردت به الأخبار فيوجب العمل
به حتى يكره افتتاح الصلاة بغيره لمن يحسنه
ولكن الركن ما هو الثابت بالنص. ثم من قال
الرحمن أكبر فقد أتى بالتكبير، قال الله
تعالى:
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا
الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] الآية والتكبير بمعنى التعظيم قال الله
ج / 1 ص -38-
تعالى:
{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}[يوسف: 31] أي عظمنه،
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] أي فعظم والتعظيم حصل بقوله الله أعظم.
فأما الأذان فالمقصود منه الإعلام وبتغيير
اللفظ يفوت ما هو المقصود فإن الناس لا يعلمون
أنه أذان. فإن قال الله لا يصير شارعا بهذا
اللفظ عند محمد رحمه الله لأن تمام التعظيم
بذكر الاسم والصفة. وعند أبي حنيفة رحمه الله
يصير شارعا لأن في هذا الاسم معنى التعظيم
فإنه مشتق من التأله وهو التحير. وإن قال
اللهم اغفر لي لا يصير شارعا لأن هذا سؤال
والسؤال غير الذكر.
قال عليه الصلاة والسلام، فيما يأثر عن ربه عز
وجل:
"من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"، فإن قال اللهم فالبصريون من أهل النحو قالوا الميم بدل عن ياء
النداء فهو كقولك يا الله فيصير شارعا عند أبي
حنيفة والكوفيون قالوا الميم بمعنى السؤال أي
يا الله آمنا بخير فلا يصير شارعا به ولو كبر
بالفارسية جاز عند أبي حنيفة رحمه الله بناء
على أصله أن المقصود هو الذكر وذلك حاصل بكل
لسان، ولا يجوز عند أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله إلا أن لا يحسن العربية. فأبو يوسف رحمه
الله تعالى مر على أصله في مراعاة المنصوص
عليه، ومحمد فرق فقال للعربية من الفضيلة ما
ليس لغيرها من الألسنة فإذا عبر إلى لفظ آخر
من العربية جاز وإذا عبر إلى الفارسية لا
يجوز.
وأصل هذه المسألة إذا قرأ في صلاته بالفارسية
جاز عند أبي حنيفة رحمه الله ويكره وعندهما لا
يجوز إذا كان يحسن العربية وإذا كان لا يحسنها
يجوز، وعند الشافعي رضي الله عنه لا تجوز
القراءة بالفارسية بحال ولكنه إن كان لا يحسن
العربية وهو أمي يصلي بغير قراءة وكذلك الخلاف
فيما إذا تشهد بالفارسية أو خطب الإمام يوم
الجمعة بالفارسية فالشافعي رحمه الله يقول إن
الفارسية غير القرآن قال الله تعالى:
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف: 3] وقال الله تعالى:
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} [فصلت: 44] الآية فالواجب قراءة القرآن فلا يتأدى بغيره بالفارسية
والفارسية من كلام الناس فتفسد الصلاة. وأبو
يوسف ومحمد رحمهما الله قالا القرآن معجز
والإعجاز في النظم والمعنى فإذا قدر عليهما
فلا يتأدى الواجب إلا بهما، وإذا عجز عن النظم
أتى بما قدر عليه كمن عجز عن الركوع والسجود
يصلي بالإيماء.
وأبو حنيفة رحمه الله استدل بما روي أن الفرس
كتبوا إلى سلمان رضي الله عنه أن يكتب لهم
الفاتحة بالفارسية فكانوا يقرؤون ذلك في
الصلاة حتى لانت ألسنتهم للعربية. ثم الواجب
عليه قراءة المعجز والإعجاز في المعنى فإن
القرآن حجة على الناس كافة وعجز الفرس عن
الإتيان بمثله إنما يظهر بلسانهم والقرآن كلام
الله تعالى غير مخلوق ولا محدث واللغات كلها
محدثة فعرفنا أنه لا يجوز أن يقال إنه قرآن
بلسان مخصوص. كيف
ج / 1 ص -39-
وقد
قال الله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] وقد كان بلسانهم. ولو آمن بالفارسية كان مؤمنا
وكذلك لو سمى عند الذبح بالفارسية أو لبى
بالفارسية فكذلك إذا كبر وقرأ بالفارسية.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه إذا
أذن بالفارسية والناس يعلمون أنه أذان جاز وإن
كانوا لا يعلمون ذلك لم يجز لأن المقصود
الإعلام ولم يحصل به. ثم عند أبي حنيفة رحمه
الله إنما يجوز إذا قرأ بالفارسية إذا كان
يتيقن بأنه معنى العربية فأما إذا صلى بتفسير
القرآن لا يجوز لأنه غير مقطوع به إذا افتتح
الصلاة قبل الإمام ثم كبر الإمام فصلى الرجل
بصلاته لا يجزئه لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به فلا تختلفوا عليه"، والائتمام لا يتحقق إذا لم يكبر الإمام وقد اختلف عليه حين كبر
قبله فلا يجزئه إلا أن يجدد التكبير بعد تكبير
الإمام بنية الدخول في صلاته وحينئذ يصير
قاطعا لما كان فيه شارعا في صلاة الإمام
والتكبيرة الواحدة تعمل هذين العملين كمن كان
في النافلة فكبر ينوي الفريضة ومن غير هذا
الباب إذا باع بألف ثم جدد بيعا بألفين كان
فسخا للأول وانعقاد عقد آخر.
وأشار في الكتاب إلى أنه بالتكبير قبل تكبير
الإمام يصير شارعا في الصلاة لأنه قال تكبيره
الثاني قطع لما كان فيه، فقيل تأويله إن لم
يكن نوى الاقتداء، وقيل إن نوى الاقتداء صار
شارعا في صلاة نفسه وهو قول أبي يوسف رحمه
الله. وعند محمد رحمه الله لا يصير شارعا في
الصلاة بناء على أصل وهو أن الجهة إذا فسدت
يبقى أصل الصلاة عند أبي يوسف رحمه الله وعند
محمد لا يبقى. وعن أبي حنيفة رحمه الله فيه
روايتان يأتي بيانه في موضعه. ثم الأفضل عند
أبي حنيفة أن يكبر المقتدي مع الإمام لأنه
شريكه في الصلاة وحقيقة المشاركة في المقارنة،
وعندهما الأفضل أن يكبر بعد تكبير الإمام لأنه
تبع للإمام وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام:
"إذا كبر الإمام فكبروا"، يشهد لهذا وكذلك سائر الأفعال.
وفي التسليم روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله:
إحداهما: أنه يسلم بعد الإمام
ليكون تحلله بعد تحلل الإمام.
والأخرى: أنه يسلم مع الإمام
كسائر الأفعال وإذا سلم الإمام ففي الفجر
والعصر يقعد في مكانه ليشتغل بالدعاء لأنه لا
تطوع بعدهما ولكنه ينبغي أن يستقبل القوم
بوجهه ولا يجلس كما هو مستقبل القبلة وإن كان
خير المجالس ما استقبلت به القبلة للأثر
المروى جلوس الإمام في مصلاه بعد الفراغ
مستقبل القبلة بدعة.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر استقبل
أصحابه بوجهه وقال:
"هل رأى أحد منكم رؤيا فيه بشرى بفتح مكة"؟ ولأنه يفتتن الداخل بجلوسه مستقبل القبلة لأنه يظنه في الصلاة
فيقتدي به وإنما يستقبلهم بوجهه إذا لم يكن
بحذائه مسبوق يصلي، فإن كان فلينحرف يمنة أو
يسرة،
ج / 1 ص -40-
لأن
استقبال المصلى بوجهه مكروه لحديث عمر رضي
الله تعالى عنه فإنه رأى رجلا يصلي إلى وجه
رجل فعلاهما بالدرة وقال للمصلي أتستقبل
الصورة وقال للآخر أتستقبل المصلي بوجهك؟.
فأما في صلاة الظهر والعشاء والمغرب يكره له
المكث قاعدا لأنه مندوب إلى التنفل بعد هذه
الصلوات والسنن لجبر نقصان ما يمكن في الفرائض
فيشتغل بها.
وكراهية القعود في مكانه مروى عن عمر وعلي
وابن مسعود وبن عمر رضي الله تعالى عنهم ولا
يشتغل بالتطوع في مكان الفريضة للحديث المروي:
"أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر بسبحته"؟ أي بنافلته ولأنه يفتتن به الداخل أي يظنه في الفريضة فيقتدي به
ولكنه يتحول إلى مكان آخر للتطوع استكثارا من
شهوده فإن مكان المصلي يشهد له يوم القيامة
والأولى أن يتقدم المقتدي ويتأخر الإمام ليكون
حالهما في التطوع خلاف حالهما في الفريضة.
فإن كان الإمام مع القوم في المسجد فإني أحب
لهم أن يقوموا في الصف إذا قال المؤذن حي على
الفلاح فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام
والقوم جميعا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله وإن أخروا التكبير حتى يفرغ المؤذن من
الإقامة جاز. وقال أبو يوسف رحمه الله لا يكبر
حتى يفرغ المؤذن من الإقامة. وقال زفر: إذا
قال المؤذن مرة قد قامت الصلاة قاموا في الصف
وإذا قال ثانيا كبروا وقال لأن الإقامة تباين
الأذان بهاتين الكلمتين فتقام الصلاة عندها.
وأبو يوسف احتج بحديث عمر رضي الله تعالى عنه
فإنه بعد فراغ المؤذن من الإقامة كان يقوم في
المحراب ويبعث رجالا يمنة ويسرة ليسووا الصفوف
فإذا نادوا استوت كبر ولأنه لو كبر الإمام قبل
فراغ المؤذن من الإقامة فات المؤذن تكبيرة
الافتتاح فيؤدي إلى تقليل رغائب الناس في هذه
الأمانة. وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله استدلا
بحديث بلال حيث قال لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: مهما سبقتني بالتكبير فلا تسبقني
بالتأمين فدل على أنه كان يكبر بعد فراغه من
الإقامة ولأن المؤذن بقوله قد قامت الصلاة
يخبر بأن الصلاة قد أقيمت وهو أمين فإذا لم
يكبر كان كاذبا في هذا الإخبار فينبغي أن
يحققوا خبره بفعلهم لتحقق أمانته وهذا إذا كان
المؤذن غير الإمام فإن كان هو الإمام لم
يقوموا حتى يفرغ من الإقامة لأنهم تبع للإمام
وإمامهم الآن قائم للإقامة لا للصلاة وكذلك
بعد فراغه من الإقامة ما لم يدخل المسجد لا
يقومون فإذا اختلط بالصفوف قام كل صف جاوزهم
حتى ينتهي إلى المحراب وكذلك إذا لم يكن
الإمام معهم في المسجد يكره لهم أن يقوموا في
الصف حتى يدخل الإمام لقوله عليه الصلاة
والسلام:
"لا تقوموا في
الصف حتى تروني خرجت"، وأن عليا
رضي الله تعالى عنه دخل المسجد فرأى الناس
قياما ينتظرونه فقال ما لي أراكم سامدين أي
واقفين متحيرين.
ومن تثاءب في الصلاة ينبغي له أن يغطي فاه
لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إذا تثاءب
ج / 1 ص -41-
أحدكم في
صلاته فليغط فاه فإن الشيطان يدخل فيه"
أو قال: "فمه"
ولأن ترك تغطية الفم عند التثاؤب في المحادثة
مع الناس تعد من سوء الأدب ففي مناجاة الرب
أولى.
قال: وأكره أن يكون الإمام على الدكان والقوم
على الأرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل
عن المنبر لصلاة الجمعة فلو لم يكره كون
الإمام على الدكان لصلى على المنبر ليكون أشهر
وإن حذيفة رضي الله تعالى عنه قام على دكان
يصلي لأصحابه فجذبه سلمان حتى أنزله فلما فرغ
قال أما علمت أن أصحابك يكرهون ذلك قال فلهذا
اتبعتك حين جذبتني.
وروي أن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه قام
بالمدائن على دكان يصلي بأصحابه فجذبه حذيفة
رضي الله تعالى عنه فلما فرغ قال أما سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن هذا قال
لقد تذكرت ذلك حين جذبتني. وفي قيامه على
الدكان تشبه باليهود وإظهار التكبر على القوم
وذلك مكروه فإن كان الإمام على الأرض والقوم
على الدكان فذلك مكروه في رواية الأصل لأن فيه
استخفافا من القوم لأئمتهم. وفي رواية الطحاوي
هذا لا يكره لأنه مخالف لأهل الكتاب وكذلك إن
كان مع الإمام بعض القوم لم يكره، ولم يبين في
الأصل حد ارتفاع الدكان وذكر الطحاوي أنه ما
لم يجاوز القامة لا يكره لأن القليل من
الارتفاع عفو ففي الأرض هبوط وصعود والكثير
ليس بعفو فجعلنا الحد الفاصل أن يجاوز القامة
لأن القوم حينئذ يحتاجون إلى التكلف للنظر إلى
الإمام وربما يشتبه عليهم حاله.
قال: ويجوز إمامه الأعمى والأعرابي والعبد
وولد الزنى والفاسق وغيرهم أحب إلي" والأصل
فيه أن مكان الإمامة ميراث من النبي صلى الله
عليه وسلم فإنه أول من تقدم للإمامة فيختار له
من يكون أشبه به خلقا وخلقا ثم هو مكان استنبط
منه الخلافة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما
أمر أبا بكر أن يصلي بالناس قالت الصحابة بعد
موته أنه اختار أبا بكر لأمر دينكم فهو
المختار لأمر دنياكم فإنما يختار لهذا المكان
من هو أعظم في الناس.
وتكثير الجماعة مندوب إليه قال عليه الصلاة
والسلام: "صلاة الرجل مع اثنين خير من صلاته وحده وصلاته مع الثلاثة خير من
صلاته مع اثنين وكلما كثرت الجماعة فهو عند
الله أفضل وفي تقديم المعظم تكثير الجماعة"، فكان
أولى. إذا ثبت هذا فنقول تقديم الفاسق للإمامة
جائز عندنا ويكره. وقال مالك رضي الله تعالى
عنه عنه لا تجوز الصلاة خلف الفاسق لأنه لما
ظهرت منه الخيانة في الأمور الدينية فلا يؤتمن
في أهم الأمور ألا ترى أن الشرع أسقط شهادته
لكونها أمانة؟
ولنا: حديث مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"الجهاد مع كل أمير والصلاة خلف كل إمام والصلاة على كل ميت". وقال صلى
الله عليه وسلم:
"صلوا خلف كل بر وفاجر"، ولأن الصحابة والتابعين كانوا لا يمتنعون من الاقتداء بالحجاج في
صلاة الجمعة وغيرها مع أنه كان أفسق أهل زمانه
حتى قال الحسن رحمه الله تعالى لو جاء كل أمة
بخبيثاتها ونحن جئنا بأبي
ج / 1 ص -42-
محمد
لغلبناهم وإنما يكره لأن في تقديمه تقليل
الجماعة وقلما يرغب الناس في الاقتداء به.
وقال أبو يوسف في الأمالي أكره أن يكون الإمام
صاحب هوى أو بدعة لأن الناس لا يرغبون في
الاقتداء به وإنما جاز إمامة الأعمى لأن النبي
صلى الله عليه وسلم استخلف بن أم مكتوم على
المدينة مرة وعتبان بن مالك مرة وكانا أعميين
والبصير أولى لأنه قيل لابن عباس رضي الله
تعالى عنهما بعد ما كف بصره ألا تؤمهم قال كيف
أؤمهم وهم يسوونني إلى القبلة ولأن الأعمي قد
لا يمكنه أن يصون ثيابه عن النجاسات فالبصير
أولى بالإمامة.
وأما جواز إمامة الأعرابي فإن الله تعالى أثنى
على بعض الأعراب بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ
اللَّهِ} [التوبة: 99] الآية وغيره أولى لأن الجهل عليهم غالب والتقوى فيهم
نادرة وقد ذم الله تعالى بعض الأعراب بقوله
تعالى:
{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} [التوبة: 97] وأما العبد فجواز إمامته لحديث أبي سعيد مولى أبي
أسيد قال عرست وأنا عبد فدعوت رهطا من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو ذر
فحضرت الصلاة فقدموني فصليت بهم وغيره أولى
لأن الناس قلما يرغبون في الاقتداء بالعبيد
والجهل عليهم غالب لاشتغالهم بخدمة المولى عن
تعلم الأحكام والتقوى فيهم نادرة وكذلك ولد
الزنى فإنه لم يكن له أب يفقهه فالجهل عليه
غالب والذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"ولد الزنى شر الثلاثة"، فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها هذا الحديث وقالت كيف يصح هذا
وقد قال الله تعالى:
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
[الأنعام: 6] ثم المراد شر الثلاثة نسبا أو
قاله في ولد زنا بعينه نشأ مرتدا فأما من كان
منهم مؤمنا فالاقتداء به صحيح.
قال: ويؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم
بالسنة وأفضلهم ورعا وأكبرهم سنا لحديث ابن
مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال:
"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى فإن كانوا سواء فأعلمهم بالسنة
فإن كانوا سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا سواء
فأكبرهم سنا وأفضلهم ورعا"، وزاد
في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها
"فإن
كانوا سواء فأحسنهم وجها" فبعض
مشايخنا اعتمدوا ظاهر الحديث وقالوا من يكون
أقرأ لكتاب الله تعالى يقدم في الإمامة لأن
النبي صلى الله عليه وسلم بدأ به وقال النبي
صلى الله عليه وسلم:
"أهل القرآن هم أهل الله وخاصته". والأصح أن الأعلم بالسنة إذا كان يعلم من القرآن مقدار ما تجوز به
الصلاة فهو أولى لأن القراءة يحتاج إليها في
ركن واحد والعلم يحتاج إليه في جميع الصلاة
والخطأ المفسد للصلاة في القراءة لا يعرف إلا
بالعلم. وإنما قدم الأقرأ في الحديث لأنهم
كانوا في ذلك الوقت يتعلمون القرآن بأحكامه
على ما روي أن عمر رضي الله تعالى عنه حفظ
سورة البقرة في ثنتي عشرة سنة فالأقرأ منهم
يكون أعلم فأما في زماننا فقد يكون الرجل
ماهرا في القرآن ولا حظ له في العلم فالأعلم
بالسنة أولى إلا أن يكون ممن يطعن عليه في
دينه فحينئذ لا يقدم لأن الناس لا يرغبون في
الاقتداء به.
ج / 1 ص -43-
فإن
استووا في العلم بالسنة فأفضلهم ورعا لقوله
صلى الله عليه وسلم:
"من صلى خلف عالم تقي فكأنما صلى خلف نبي". وقال صلى الله عليه وسلم: "ملاك دينكم الورع". وفي الحديث يقدم أقدمهم هجرة لأنها كانت فريضة يومئذ ثم انتسخ
بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا هجرة بعد الفتح". ولأن
أقدمهم هجرة يكون أعلمهم بالسنة لأنهم كانوا
يهاجرون لتعلم الأحكام، فإن كانوا سواء
فأكبرهم سنا لقوله صلى الله عليه وسلم:
"الكبر الكبر"، ولأن
أكبرهم سنا يكون أعظمهم حرمة عادة ورغبة الناس
في الاقتداء به أكثر.
والذي قال في حديث عائشة رضي الله عنها فإن
كانوا سواء فأحسنهم وجها، قيل: معناه أكثرهم
خبرة بالأمور كما يقال وجه هذا الأمر كذا وإن
حمل على ظاهره فالمراد منه أكثرهم صلاة بالليل
جاء في الحديث:
"من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار".
قال: ويكره للرجل أن يؤم الرجل في بيته إلا
بإذنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه"، ولأن في التقدم عليه ازدراء به بين عشيرته وأقاربه وذلك لا يليق
بحسن الخلق إلا أن يكون الضيف سلطانا فحق
الإمامة له حيث يكون وليس للغير أن يتقدم عليه
إلا بإذنه.
وإذا كان مع الإمام رجلان فإنه يتقدم الإمام
ويصلي بهما لأن للمثنى حكم الجماعة قال صلى
الله عليه وسلم:
"الأثنان فما فوقهما جماعة"،
وكذلك معنى الجمع من الاجتماع وذلك حاصل
بالمثنى. والذي روي أن ابن مسعود رضي الله
تعالى عنه صلى بعلقمة والأسود في بيت واحد
فقام في وسطهما قال إبراهيم النخعي رحمه الله
كان ذلك لضيق البيت، والأصح أن هذا كان مذهب
ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ولهذا قال في
الكتاب: وإن لم يتقدم الإمام وصلى بهما
فصلاتهم تامة لأن فعلهم حصل في موضع الاجتهاد
وأقل الجمع المتفق عليه ثلاثة والتقدم للإمامة
من سنة الجماعة ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى في صلاة الجمعة النصاب
ثلاثة سوى الإمام وإن كان القوم كثيرا فقام
الأمام وسطهم أو في ميمنة الصف أو في ميسرة
الصف فقد أساء الإمام وصلاتهم تامة. أما جواز
الصلاة فلأن المفسد تقدم القوم على الإمام ولم
يوجد وأما الكراهة فلأن النبي صلى الله عليه
وسلم تقدم للإمامة بأصحابه رضوان الله عليهم
وواظب على ذلك والإعراض عن سنته مكروه ولأن
مقام الإمام في وسط الصف يشبه جماعة النساء
ويكره للرجال التشبه بهن.
وإن تقدم المقتدي على الإمام لا يصح اقتداؤه
به إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه
يقول الواجب عليه المتابعة في الأفعال فإذا
أتي به لم يضره قيامه قدام الإمام.
ولنا: الحديث:
"ليس مع الإمام
من يقدمه"، ولأنه إذا
تقدم على الإمام اشتبه عليه حالة افتتاحه
واحتاج إلى النظر وراءه في كل وقت ليقتدي به
فلهذا لا يجوز. فإن كان مع الإمام واحد وقف
على يمين الإمام لحديث ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما قال بت عند خالتي ميمونة رضي الله
تعالى عنها لأراقب صلاة النبي صلى الله عليه
وسلم بالليل فانتبه فقال:
"نامت
ج / 1 ص -44-
العيون
وغارت النجوم وبقي الحي القيوم"، ثم قرأ آخر
سورة آل عمران:
{إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ}
[آل عمران: 190] إلى آخر الآية ثم قام إلى شن ماء معلق فتوضأ وافتتح
الصلاة فقمت وتوضأت ووقفت على يساره فأخذ
بأذني وأدارني خلفه حتى أقامني عن يمينه فعدت
إلى مكاني فأعادني ثانيا وثالثا فلما فرغ قال:
"ما منعك يا غلام أن تثبت في الموضع الذي أوقفتك". قلت أنت رسول الله ولا ينبغي لأحد أن يساويك في الموقف. فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". فإعادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه إلى الجانب الأيمن دليل
على أنه هو المختار إذا كان مع الإمام رجل
واحد.
وفي ظاهر الرواية لا يتأخر المقتدي عن الإمام
وعن محمد رحمه الله تعالى قال ينبغي أن تكون
أصابعه عند عقب الإمام وهو الذي وقع عند
العوام" وإن كان المقتدي أطول فكان سجوده قدام
الإمام لم يضره لأن العبرة بموضع الوقوف لا
بموضع السجود كما لو وقف في الصف ووقع في
سجوده أمام الإمام لطوله وإن صلى خلفه امرأة
جازت صلاته لحديث أنس رضي الله عنه أن جدته
مليكة رضي الله تعالى عنها دعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى طعام فقال:
"قوموا لأصلي بكم"، فأقامني
واليتيم من ورائه وأمي أم سليم وراءنا وصلاة
الصبي تخلق فبقي أنس رضي الله تعالى عنه واقفا
خلفه وحده وأم سليم وقفت خلف الصبي وحدها.
وفي الحديث دليل على أنه إذا كان مع الإمام
اثنان يتقدمهما الإمام ويصطفان خلفه. قال:
وكذلك إن وقف على يسار الإمام لأن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما وقف في الابتداء عن
يساره واقتدى به ثم جواز اقتدائه به وفي
الإدارة حصل خلفه فدل أن شيئا من ذلك غير
مفسد. قال: وهو مسيء من أصحابنا من قال هذه
الأساءة إذا وقف عن يسار الإمام لا خلفه لأن
الواقف خلفه أحد الجانبين منه على يمينه فلا
يتم إعراضه عن السنة بخلاف الواقف على يساره
والأصح أن جواب الإساءة في الفصلين جميعا لأنه
عطف أحدهما على الآخر بقوله وكذلك والله
سبحانه وتعالى أعلم.
باب الوضوء والغسل
قال: يبدأ في غسل الجنابة بيديه فيغسلهما ثم
يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة غير رجليه ثم
يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثم يتنحى
فيغسل قدميه. هكذا روت عائشة رضي الله تعالى
عنها وأنس وميمونة رضي الله تعالى عنهما
اغتسال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأكملها
حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها قالت:
"وضعت غسلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتسل به من الجنابة فأخذ
الإناء بشماله وأكفأه على يمينه فغسل يديه
ثلاثا ثم أنقى فرجه بالماء ثم مال بيديه على
الحائط فدلكهما بالتراب ثم توضأ للصلاة غير
غسل القدمين ثم أفاض الماء على رأسه وسائر
جسده ثلاثا ثم تنحى فغسل قدميه".
وفي ظاهر الرواية يمسح برأسه في الوضوء. وروى
الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله
ج / 1 ص -45-
تعالى
أنه لا يمسح لأنه قد لزمه غسل رأسه وفرضية
المسح لا تظهر عند وجوب الغسل. ويبدأ بغسل ما
على جسده من النجاسة لأنه إن لم يفعل ذلك
ازدادت النجاسة بإسالة الماء. والبداءة
بالوضوء قبل إفاضة الماء ليس بواجب عندنا. ومن
العلماء من قال هو واجب، ومنهم من فصل بين ما
إذا أجنب وهو محدث أو طاهر فقال إذا كان محدثا
يلزمه الوضوء لأنه قبل الجنابة قد كان لزمه
الوضوء والغسل فلا يسقط بالجنابة.
ولنا: قوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، والأطهار يحصل بغسل جميع البدن ولأن مبنى الأسباب
الموجبة للطهارة على التداخل ألا ترى أن
الحائض إذا أجنبت يكفيها غسل واحد ومن العلماء
من أوجب الوضوء بعد إفاضة الماء وقد روي إنكار
ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما. وسئل
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فقال
للسائل قد تعمقت أما يكفيك غسل جميع بدنك
والأصل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت".
والدلك في الاغتسال ليس بشرط إلا على قول
مالك" يقيسه بغسل النجاسة العينية.
ولنا: أن الواجب بالنص الإطهار والدلك يكون
زيادة عليه والدلك لمقصود إزالة عين من البدن
وليس على بدن الجنب عين يزيلها بالاغتسال فلا
حاجة إلى الدلك وإنما يؤخر غسل القدمين عن
الوضوء لأن رجليه في مستنقع الماء المستعمل
حتى لو كان على لوح أو حجر لا يؤخر غسل
القدمين. فالحاصل أن إمرار الماء على جميع
البدن فرض لقوله صلى الله عليه وسلم:
"تحت كل شعرة
جنابة ألا فبلوا الشعر وأنقوا البشرة".
وبإفاضة الماء ثلاثا يتضاعف الثواب وبتقديم
الوضوء تتم السنة وهو نظير لمراتب الوضوء على
ما بينا.
وأدنى ما يكفي في غسل الجنابة من الماء صاع
وفي الوضوء مد لحديث جابر رضي الله تعالى عنه
قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد
ويغتسل بالصاع فقيل له إن لم يكفنا فغضب وقال
لقد كفى من هو خير منكم وأكثر شعرا وهذ
التقدير ليس بتقدير لازم فإنه لو أسبغ الوضوء
بدون المد أجزأه لحديث عبد الرحمن بن زيد رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ
بثلثي مد وإن لم يكفه المد في الوضوء يزيد إلا
أنه لا يسرف في صب الماء لحديث سعيد رضي الله
عنه حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يتوضأ ويصب الماء صبا فاحشا فقال:
"إياك والسرف" قال: أو في الوضوء سرف قال: "نعم ولو كنت على ضفة نهر
جار".
ثم التقدير بالصاع لماء الإفاضة فإذا أراد
تقديم الوضوء زاد مدا له والتقدير بالمد في
الوضوء إذا كان لا يحتاج إلى الاستنجاء فإن
احتاج إلى ذلك استنجى برطل وتوضأ بمد وإن كان
لابسا للخف وهو لا يحتاج إلى الاستنجاء يكفيه
رطل كل هذا غير لازم لاختلاف طباع الناس
وأحوالهم.
وكذلك غسل المرأة من الحيض فالواجب فيهما
الإطهار. قال الله تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ
ج / 1 ص -46-
حَتَّى يَطْهُرْنَ}
[البقرة: 222] وإن لم تنقض رأسها إلا أن الماء
بلغ أصول شعرها أجزأها لحديث أم سلمة رضي الله
تعالى عنها فإنها قالت يا رسول الله صلى الله
عليك وسلم إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه إذا
اغتسلت فقال:
"لا يكفيك أن
تفيضى الماء على رأسك وسائر جسدك ثلاثا".
وبلغ عائشة رضي الله تعالى عنها أن ابن عمر
رضي الله تعالى عنه كان يأمر المرأة بنقض
رأسها في الاغتسال فقالت لقد كلفهن شططا إلا
أمرهن بجز نواصيهن وقال: إنما شرط تبليغ الماء
أصول الشعر لحديث حذيفة رضي الله تعالى عنه
فإنه كان يجلس إلى جنب امرأته إذا اغتسلت
ويقول يا هذه أبلغي الماء أصول شعرك ومتون
رأسك.
واختلف مشايخنا في وجوب بل الذوائب، فقال
بعضهم تبل ذوائبها ثلاثا مع كل بلة عصرة،
والأصح أن ذلك ليس بواجب لما فيه من الحرج.
وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا فبلوا الشعر وأنقوا البشرة"، يشهد للقول الأول. جنب اغتسل فانتضح من غسله في إنائه لم يفسد
عليه الماء، لقول ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما ومن يملك سيل الماء. ولما سئل الحسن عن
هذا فقال إنا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع
من هذا أشار إلى أن ما لا يستطاع الامتناع منه
يكون عفوا فإن كان ذلك الماء يسيل في إنائه لم
يجز الاغتسال بذلك الماء يريد به أن الكثير
يمكن التحرز عنه فلا يجعل عفوا. والحد الفاصل
بين القليل والكثير إن كان يستبين مواقع القطر
في الإناء يكون كثيرا.
قال: ولا يجوز التوضؤ بماء مستعمل في وضوء أو
في غسل شيء من البدن وقال مالك رحمه الله يجوز
لأن بدن الجنب والمحدث طاهر حتى لو عرق في
ثوبه أو لبس ثوبا مبلولا لم يفسد الثوب
واستعمال الماء في محل طاهر لا يغير صفته كما
لو غسل به إناء طاهر.
ولنا: قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن
فيه من جنابة"، فالتسوية بينهما تدل على أن الاغتسال يفسد الماء وقال علي وبن
عباس رضي الله تعالى عنهما في مسافر معه ماء
يحتاج إليه لشربه أنه يتيمم ويمسك الماء لعطشه
فلو لم يتغير الماء بالاستعمال لأمر بالتوضيء
في إناء ثم بالإمساك للشرب والعادة جرت بصب
الغسالة في السفر والحضر مع عزة الماء في
السفر فذلك دليل ظاهر على تغير الماء
بالاستعمال.
ثم اختلفوا في صفة الماء المستعمل فقال أبو
يوسف رحمه الله هو نجس إلا أن التقدير فيه
بالكثير الفاحش وهو روايته عن أبي حنيفة رضي
الله تعالى عنه. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه
نجس لا يعفي عنه أكثر من قدر الدرهم. وقال
محمد رحمه الله تعالى هو طاهر غير طهور وهو
رواية زفر وعافية القاضي عن أبي حنيفة رحمه
الله تعالى، وجه قول أبي: يوسف أن الحدث
الحكمى أغلظ من النجاسة العينية ثم إزالة
النجاسة العينية بالماء تنجسه فإزالة الحدث
الحكمي به أولى ولهذا قال في رواية الحسن رحمه
الله التقدير فيه بالدرهم كما في النجاسة
العينية ولكنه بعيد فإن للبلوى تأثيرا في
تخفيف النجاسة ومعنى
ج / 1 ص -47-
البلوى
في الماء المستعمل ظاهر فإن صون الثياب عنه
غير ممكن وهو مختلف في نجاسته فلذلك خف حكمه.
وجه قول محمد رحمه الله ما روي أن الصحابة
رضوان الله عليهم كانوا يتبادرون إلى وضوء
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمسحون به
أعضاءهم ومن لم يصبه أخذ بللا من كف صاحبه
والتبرك بالنجس لا يكون. والمعنى: إن أعضاء
المحدث طاهرة ولكنه ممنوع من إقامة القربة
فإذا استعمل الماء تحول ذلك المنع إلى الماء
فصارت صفة الماء كصفة العضو قبل الاستعمال
فيكون طاهرا غير طهور بخلاف ما إذا أزال
النجاسة بالماء فالنجاسة هناك تتحول إلى
الماء.
وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله أن المتوضئ
بالماء إن كان محدثا يصير الماء نجسا وإن كان
طاهرا لا يصير الماء نجسا ولكن باستعمال
الطاهر يصير الماء مستعملا إلا على قول زفر
والشافعي رحمهما الله تعالى فإنهما يقولان إذا
لم يحصل إزالة حدث أو نجاسة بالماء لا يصير
الماء مستعملا كما لو غسل به ثوبا طاهرا.
ولنا: أن إقامة القربة حصل بهذا الاستعمال قال
عليه الصلاة والسلام:
"الوضوء على الوضوء نور يوم القيامة"، فنزل ذلك منزلة إزالة الحدث به بخلاف غسل الثوب والإناء الطاهر
فإنه ليس فيه إقامة القربة. وذكر الطحاوي رحمه
الله أنه إذا تبرد بالماء صار الماء مستعملا،
وهذا غلط منه إلا أن يكون تأويله إن كان محدثا
فيزول الحدث باستعمال الماء وإن كان قصده
التبرد فحينئذ يصير مستعملا.
قال: وسؤر الآدمي طاهر، لما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم أتي بعس من لبن فشرب بعضه
وناول الباقي أعرابيا كان على يمينه فشربه ثم
ناوله أبا بكر رضي الله عنه فشربه ولأن عين
الآدمي طاهر وإنما لا يؤكل لكرامته لا لنجاسته
وسؤره متحلب من عينه وعينه طاهر فكذلك سؤره.
وكذلك سؤر الحائض لما روي أن عائشة رضي الله
عنها شربت من إناء في حال حيضها فوضع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فمه على موضع فيها
وشرب ولما قال لها:
"ناوليني الخمرة"1، فقالت: إني حائض فقال: "حيضتك ليست في يدك". إذا ثبت
هذا في اليد فكذلك في الفم. وكذلك سؤر الجنب
لما روي أن حذيفة رضي الله عنه استقبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يصافحه فحبس
يده وقال: إني جنب فقال عليه الصلاة والسلام: "إن المؤمن لا ينجس"، وكذلك سؤر المشرك عندنا. وبعض أصحاب الظواهر يكرهون ذلك لقوله
تعالى:
{إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، ولكنا نقول: المراد منه خبث الاعتقاد بدليل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الخمرة" بضم الخاء المعجمة وسكون الميم
وفتح الراء: هي حصيرة صغيرة من السعف، وتطلق
على غير ذلك كما في القاموس، كتبه مصصحه.
ج / 1 ص -48-
ما روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في
المسجد وكانوا مشركين ولو كان عين المشرك نجسا
لما أنزلهم في المسجد.
وكذلك سؤر ما يؤكل لحمه من الدواب والطيور،
لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ
بسؤر بعير أو شاة وقال:
"ما يؤكل لحمه فسؤره طاهر ما خلا الدجاجة
المخلاة فإن سؤرها مكروه لأنها تفتش الجيف
والأقذار فمنقارها لا يخلو عن النجاسة". ولكن مع هذا لو توضأ به جاز لأنه على يقين من طهارة منقارها وفي
شك من النجاسة والشك لا يعارض اليقين فإن كانت
الدجاجة محبوسة فسؤرها طاهر لأن منقارها عظم
جاف ليس بنجس ولأن عينها طاهر مأكول فكذلك ما
يتحلب منه والذي روي عن ابن عمر رضي الله
عنهما أنه كان يقول بحرمة الدجاجة شاذ غير
معمول به فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يأكل لحم الدجاجة. وصفة
المحبوسة أن لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها
فإنه إذا كان يصل ربما تفتش ما يكون منها فهي
والمخلاة سواء والذي بينا في سؤر هؤلاء فكذلك
في اللعاب والعرق إذا أصاب لعاب ما يؤكل لحمه
أو عرقه ثوب إنسان تجوز الصلاة فيه لأن ذلك
متحلب من عينه فكان طاهرا كلبنه.
قال: ولا يصح التطهر بسؤر ما لا يؤكل لحمه من
الدواب والسباع ولعابه يفسد الماء، وهنا
مسائل:
إحداها: سؤر الخنزير فإنه نجس
بالاتفاق لأن عينه نجس قال الله تعالى:
{أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] والرجس والنجس سواء.
والثانية: سؤر الكلب فإنه نجس
إلا على قول مالك رحمه الله بناء على مذهبه في
تناول لحمه. وكان يقول: الأمر بغسل الإناء من
ولوغ الكلب كان تعبدا لا للنجاسة كما أمر
المحدث بغسل أعضائه تعبدا أو كان ذلك عقوبة
عليهم والكلاب فيهم كانت تؤذي الغرباء فنهوا
عن اقتنائها وأمروا بغسل الإناء من ولوغها
عقوبة عليهم.
ولنا: حديث عطاء بن ميناء عن أبي هريرة رضي
الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "طهور إناء
إحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله ثلاثا".
وفي بعض الروايات قال:
"سبعا"، وتعفر الثامنة بالتراب. فقوله "طهور إناء أحدكم" دليل على تنجس
الإناء بولوغه وأن الأمر بالغسل للتنجيس لا
للتعبد فإن الجمادات لا يلحقها حكم العبادات
والزيادة في العدد والتعفير بالتراب دليل على
غلظ النجاسة. والصحيح من المذهب عندنا أن عين
الكلب نجس وإليه يشير محمد رحمه الله في
الكتاب في قوله وليس الميت بأنجس من الكلب
والخنزير. وبعض مشايخنا يقول عين الكلب ليس
بنجس ويستدلون عليه بطهارة جلده بالدباغ
وسنقرره من بعد.
وأما سؤر ما لا يؤكل لحمه من السباع كالأسد
والفهد والنمر عندنا نجس. وقال الشافعي رضي
الله تعالى عنه طاهر لحديث ابن عمر رضي الله
تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم
ج / 1 ص -49-
سئل
فقيل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر فقال: "نعم وبما أفضلت السباع كلها". وفي حديث
جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة وما
ينوبها من السباع فقال: "لها ما ولغت
في بطونها وما بقي فهو لنا شراب وطهور"،
ولأن عينها طاهرة بدليل جواز الانتفاع بها في
حالة الاختيار وجواز بيعها فيكون سؤرها طاهرا
كسؤر الهرة.
ولنا: ما روي أن ابن عمر وعمرو بن العاص رضي
الله عنهما وردا حوضا فقال عمرو بن العاص يا
صاحب الحوض أترد السباع ماءكم هذا فقال ابن
عمر رضي الله تعالى عنه يا صاحب الحوض لا
تخبرنا. فلولا أنه كان إذا أخبر بورود السباع
يتعذر عليهم استعماله لما نهاه عن ذلك.
والمعنى فيه أن عين هذه الحيوانات مستخبث غير
طيب فسؤرها كذلك كالكلب والخنزير وهذا لأن
سؤرها يتحلب من عينها كلبنها ثم لبنها حرام
غير مأكول فكذلك سؤرها وهو القياس في الهرة
أيضا لكن تركنا ذلك بالنص وهو قوله صلى الله
عليه وسلم:
"في الهرة ليست
بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات"،
أشار إلى العلة وهي كثرة البلوى لقربها من
الناس وهذا لا يوجد في السباع فإنها تكون في
المفاوز لاتقرب من الناس اختيارا.
وتأويل الحديثين: أنه كان ذلك في الابتداء قبل
تحريم لحم السباع أو السؤال وقع عن الحياض
الكبار وبه نقول أن مثلها لا ينجس بورود
السباع. فأما سؤر الحمار فطاهر عند الشافعي
رحمه الله تعالى وهو قول ابن عباس رضي الله
عنهما فإنه كان يقول الحمار يعلف القت والتبن
فسؤره طاهر وعندنا مشكوك فيه غير متيقن
بطهارته ولا بنجاسته فإن ابن عمر رضي الله
عنهما كان يقول إنه رجس فيتعارض قوله وقول ابن
عباس رضي الله عنهما وكذلك الأخبار تعارضت في
أكل لحمه، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم
"نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية" يوم خيبر، وروي أن أبجر بن غالب رضي الله عنه قال لم يبق لي من
مالي إلا حميرات فقال عليه الصلاة والسلام:
"كل من سمين مالك". وكذلك اعتبار سؤره بعرقه يدل على طهارته واعتباره بلبنه يدل على
نجاسته ولأن الأصل الذي أشار إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الهرة موجود في الحمار
لأنه يخالط الناس لكنه دون ما في الهرة فإنه
لا يدخل المضايق فلوجود أصل البلوى لا نقول
بنجاسته ولكون البلوى فيه متقاعدا لا نقول
بطهارته فيبقي مشكوكا فيه وأدلة الشرع أمارات
لا يجوز أن تتعارض والحكم فيها الوقف. وكان
أبو طاهر الدباس رحمه الله، ينكر هذا ويقول:
لا يجوز أن يكون شيء من حكم الشرع مشكوكا فيه
ولكن يحتاط فيه فلا يجوز أن يتوضأ به حالة
الاختيار وإذا لم يجد غيره يجمع بينه وبين
التيمم احتياطا فبأيهما بدأ أجزأه إلا على قول
زفر فإنه يقول يبدأ بالوضوء فلا يعتبر تيممه
ما دام معه ماء هو مأمور بالتوضؤ به ولكن نقول
الاحتياط في الجمع بينهما لا في الترتيب فإن
كان طاهرا فقد توضأ به قدم أوأخر وإن كان نجسا
ففرضه التيمم وقد أتى به.
ج / 1 ص -50-
ولا
يقال في هذا ترك الاحتياط من وجه لأنه إن كان
نجسا تتنجس به أعضاؤه وهذا لأن معنى الشك في
طهارته لا في كونه طاهرا لأن الحدث يقين فأما
العضو والثوب فطاهر بيقين فلا يتنجس بالشك
والحدث موجود بيقين فالشك وقع في طهارته
واليقين لا يزال بالشك وهو الصحيح من المذهب.
وذكر أبو يوسف في الإملاء عن أبي حنيفة رضي
الله تعالى عنه في لعاب الحمار إذا أصاب الثوب
تجوز الصلاة فيه ما لم يفحش. وقال أبو يوسف
رحمه الله تعالى أجزأه وإن فحش. وقال محمد
رحمه الله تعالى لو غمس فيه الثوب تجوز الصلاة
في ذلك الثوب وجميع ما بينا في الحمار كذلك في
البغل فإن والده غير مأكول اللحم، والصحيح في
عرقهما أنه طاهر وأشار في بعض النسخ إلى جواز
الصلاة فيه ما لم يفحش والأصح هو الأول فإن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب حمارا
معروريا، والحر حر تهامة ولا بد أن يعرق
الحمار ولأن معنى البلوى في عرقه ظاهر لمن
يركبه، فأما سؤر الفرس طاهر في ظاهر الرواية.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى أنه مكروه كلحمه. وجه ظاهر الرواية وهو
أن السؤر لمعنى البلوى أخف حكما من اللحم كما
في الحمار والبغل والكراهة التي في اللحم
تنعدم في السؤر ليظهر به خفة الحكم.
فأما سؤر حشرات البيت كالفأرة والحية ونحوهما
في القياس فنجس لأنها تشرب بلسانها ولسانها
رطب من لعابها ولعابها يتحلب من لحمها ولحمها
حرام ولكنه استحسن فقال طاهر مكروه لأن البلوى
التي وقعت الإشارة إليها في الهرة موجودة هنا
فإنها تسكن البيوت ولا يمكن صون الأواني عنها.
وأما سؤر سباع الطير كالبازي والصقر والشاهين
والعقاب وما لا يؤكل لحمه من الطير في القياس
نجس لأن ما لا يؤكل لحمه من سباع الطير معتبر
بما لا يؤكل لحمه من سباع الوحش ولكنا استحسنا
فقلنا بأنه طاهر مكروه لأنها تشرب بمنقارها
ومنقارها عظم جاف بخلاف سباع الوحش فإنها تشرب
بلسانها ولسانها رطب بلعابها ولأن في سؤر سباع
الطير تتحقق البلوى فإنها تنقض من الهواء فلا
يمكن صون الأواني عنها خصوصا في الصحاري بخلاف
سباع الوحش. وعن أبي يوسف رحمه الله قال ما
يقع على الجيف من سباع الطير فسؤره نجس لأن
منقاره لا يخلو عن نجاسة عادة.
وأما سؤر السنور ففي كتاب الصلاة قال وإن توضأ
بغيره أحب إلي وفي الجامع الصغير قال هو مكروه
وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال
أبو يوسف رحمه الله لا بأس بسؤره لحديث عائشة
رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصغي الإناء لهرة حتى تشرب ثم يتوضأ
بالباقي.
ولنا: حديث ابن عمر رضي الله عنهما يغسل
الإناء من ولوغ الهرة مرة وهو إشارة
ج / 1 ص -51-
إلى
الكراهة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
"الهرة سبع، وهي من السباع التي لا يؤكل لحمها" فهذا الحديث يدل على النجاسة وحديث عائشة رضي الله عنها يدل على
الطهارة فأثبتنا حكم الكراهة عملا بهما جميعا.
وكان الطحاوي رحمه الله يقول كراهة سؤره لحرمة
لحمه وهذا يدل على أنه إلى التحريم أقرب. وقال
الكرخي رحمه الله كراهة سؤره لأنه يتناول
الجيف فلا يخلو فمه عن النجاسة عادة وهذا يدل
على أن الكراهة كراهة تنزيه وهو الأصح والأقرب
إلى موافقة الأثر.
قال: وإن مات في الإناء ذباب أو عقرب أو غير
ذلك مما ليس له دم سائل لم يفسده عندنا وقال
الشافعي رضي الله عنه يفسده إلا ما خلق منه
كدود الخل يموت فيه وسوس الثمار يموت في
الثمار واستدل بقوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}
[المائدة: 3] فهو تنصيص على نجاسة كل ميتة وإذا تنجس بالموت تنجس ما
مات فيه إلا أن فيما خلق منه ضرورة ولا يمكن
التحرز عنه فصار عفوا لهذا.
ولنا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فأمقلوه ثم أمقلوه ثم انقلوه فإن في أحد
جناحيه سما وفي الآخر شفاء وأنه ليقدم السم
على الشفاء" ومعلوم أن الذباب إذا مقل مرارا في الطعام الحار يموت فلو كان
مفسدا لما أمر بمقله. وفي حديث سلمان الفارسي
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "ما ليس له دم
سائل إذا مات في الإناء فهو الحلال أكله وشربه
والوضوء به"، ولأن الحيوان إذا مات فإنما يتنجس لما فيه من الدم المسفوح حتى لو
ذكي فسال الدم منه كان طاهرا وهذا لأن المحرم
هو الدم المسفوح قال الله تعالى:
{أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] فما ليس له دم سائل لا يتناوله نص التحريم فلا ينجس
بالموت ولا يتنجس ما مات فيه قياسا على ما خلق
منه.
قال: وإن وقع فيه دم أو خمر أو عذرة أو بول
أفسده عندنا. وقال مالك رحمه الله لا يفسده
إلا أن يتغير به أحد أو صافه من لون أو ريح أو
طعم. واحتج بما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يتوضأ من بئر وهي بضاعة وهي بئر يلقي
فيه الجيف ومحايض النساء فلما ذكر له ذلك قال:
"خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير
لونه أو طعمه أو ريحه".
ولنا: قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن
فيه من الجنابة"، فلو لم يكن ذلك مفسدا للماء ما كان للنهي عنه معنى وفائدة وفيه
طريقتان:
إحداهما: أن الماء ينجس بوقوع
النجاسة فيه لأن صفة الماء تتغير بما يلقى فيه
حتى يضاف إليه كماء الزعفران وماء الباقلا.
والثانية: أن عين الماء لا
يتنجس ولكن يتعذر استعماله لمجاورة الفاسد لأن
النجاسة تتفرق في أجزاء الماء فلا يمكن
استعمال جزء من الماء إلا باستعمال جزء من
النجاسة واستعمال النجاسة حرام.
ج / 1 ص -52-
وأما
الحديث فقد قيل أن بئر بضاعة كان ماؤه جاريا
يسقى منه خمس بساتين، وعندنا الماء الجاري لا
يتنجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد
أوصافه. وقيل: إنما كان يلقي فيه الجيف في
الجاهلية فإن في الإسلام نهوا عن مثل هذا وكان
برسول الله صلى الله عليه وسلم من التنزه
والتقذر ما يمنعه من التوضىء والشرب من بئر
يلقى فيه ذلك في وقته وإنما أشكل عليهم أن ما
كان في الجاهلية هل يسقط اعتباره بتطهير البئر
في الإسلام؟. فأزال أشكالهم بما قال.
وإن بزق في الماء أو امتخط لم يفسده لأنه طاهر
لاقى طاهرا والدليل على طهارة البزاق أن النبي
صلى الله عليه وسلم استعان في محو بعض الكتابة
به والدليل على طهارة المخاط أن النبي صلى
الله عليه وسلم امتخط في صلاته فأخذه بثوبه
ودلكه ثم المخاط والنخامة سواء ولما رأى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي
الله عنه يغسل ثوبه من النخامة قال:
"ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك
إلا سواء". وإن أدخل جنب أو حائض أو محدث يده في الإناء قبل أن يغسلها وليس
عليها قذر لم يفسد الماء استحسانا وكان ينبغي
في القياس أن يفسده لأن الحدث زال عن يده
بإدخاله في الإناء فيصير الماء مستعملا كالماء
الذي غسل به يده.
وجه الاستحسان ما روي أن المهراس كان يوضع على
باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها
ماء فكان أصحاب الصفة رضوان الله عليهم
يغترفون منه للوضوء بأيديهم ولأن فيه بلوى
وضرورة فقد لا يجد شيئا يغترف به الماء من
الإناء العظيم، فيجعل يده لأجل الحاجة
كالمغرفة. وإذا ثبت هذا في المحدث فكذلك في
الجنب والحائض لما روي عن عائشة رضي الله
تعالى عنها أنها قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فربما بدأت
أنا وربما بدأ هو وكنت أقول أبق لي وهو يقول
بق لي".
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي قال
إذا أدخل الجنب يده أو رجله في البئر لم يفسده
وإن أدخل رجله في الإناء أفسده وهذا لمعنى
الحاجة ففي البئر الحاجة إلى إدخال الرجل لطلب
الدلو فجعل عفوا وفي الإناء الحاجة إلى إدخال
اليد فلا تجعل الرجل عفوا فيه وإن أدخل في
البئر بعض جسده سوى اليد والرجل أفسده لأنه لا
حاجة إليه. وقال في الأصل: إذا اغتسل الطاهر
في البئر أفسده، وهو بناء على ما تقدم أن
المستعمل للماء على قصد التقرب وإن كان طاهرا
فالماء بفعله يصير مستعملا فإذا اغتسل في
البئر صار الماء مستعملا. وقوله: أفسده دليل
على أن الصحيح من قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى أن الماء المستعمل نجس لأن الفاسد من
الماء هو النجس، وإذا انغمس فيه لطلب دلو وليس
على بدنه قذر لم يفسد الماء لأنه لم يوجد فيه
إزالة الحدث ولا إقامة القربة لما لم يغتسل
فيه. وإن انغمس في جب يطلب دلوا لم يفسد الماء
ولم يجزئه من الغسل في قول أبي يوسف رحمه الله
تعالى. وقال محمد رحمه الله تعالى: لا يفسد
الماء ويجزئه من الغسل.
ج / 1 ص -53-
وعن
أبي يوسف في الأمالى أن الماء يفسد ولا يجزئه
من الغسل. من أصحابنا من قال هذا الخلاف ينبني
على أصل وهو أن عند أبي يوسف الماء يصير
مستعملا بأحد شيئين إما بإزالة الحدث أو
بإقامة القربة فلو زال الحدث هنا صار الماء
مستعملا فلا يجزئه من الاغتسال فلهذا قال
الرجل بحاله والماء بحاله ومن أصل محمد أن
الماء لا يصير مستعملا إلا بإقامة القربة
والاغتسال يتحصل بغير نية فكان الرجل طاهرا
والماء غير مستعمل لعدم القصد منه إلى إقامة
القربة وهذا ليس بقوي فإن هذا المذهب غير
محفوظ عن محمد نصا ولكن الصحيح أن إزالة الحدث
بالماء مفسد للماء إلا عند الضرورة كما بينا
في الجنب يدخل يده في الإناء وفي البئر معنى
الضرورة موجود فإنهم إذا جاؤوا بغواص لطلب
دلوهم لا يمكنهم أن يكلفوه الاغتسال أولا
فلهذا لا يصير الماء مستعملا ولكن الرجل يطهر
لأن الماء مطهر من غير قصد. وجه رواية الإملاء
أنه كما أدخل بعض أعضائه في البئر صار الماء
مستعملا فبعد ذلك سواء اغتسل أو لم يغتسل لم
يطهره الماء المستعمل.
قال: وإن وقع في البئر بول ما يؤكل لحمه أفسده
في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، رحمهما الله
تعالى ولا يفسده في قول محمد ويتوضأ منه ما لم
يغلب عليه أواصل المسألة أن بول ما يؤكل لحمه
نجس عندهما طاهر عند محمد رحمه الله تعالى
واحتج بحديث أنس رضي الله تعالى عنه
"أن قوما من
عرنة جاؤوا إلى المدينة فأسلموا فاجتووا
المدينة فاصفرت ألوانهم وانتفخت بطونهم فأمرهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى
إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها" الحديث فلو لم يكن طاهرا لما أمرهم بشربه والعادة الظاهرة من أهل
الحرمين بيع أبوال الإبل في القوارير من غير
نكير دليل ظاهر على طهارتها. ولهما قول النبي
صلى الله عليه وسلم:
"استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه".
ولما ابتلي سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه
بضغطة القبر سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن سببه فقال:
"إنه كان لا يستنزه من البول"، ولم
يرد به بول نفسه فإن من لا يستنزه منه لا تجوز
صلاته وإنما أراد أبوال الإبل عند معالجتها.
والمعنى أنه مستحيل من أحد الغذاءين إلى نتن
وفساد فكان نجسا كالبعر. فأما حديث أنس رضي
الله تعالى عنه فقد ذكر قتادة عن أنس رضي الله
تعالى عنه أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل ولم
يذكر الأبوال وإنما ذكره في حديث حميد عن أنس
رضي الله تعالى عنهما والحديث حكاية حال فإذا
دار بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة سقط
الاحتجاج به ثم نقول خصهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بذلك، لأنه عرف من طريق الوحي أن
شفاءهم فيه ولا يوجد مثله في زماننا وهو كما
خص الزبير رضي الله تعالى عنه بلبس الحرير
لحكة كانت به وهي مجاز عن القمل فإنه كان كثير
القمل أو لأنهم كانوا كفارا في علم الله تعالى
ورسوله علم من طريق الوحي أنهم يموتون على
الردة ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر في النجس.
ج / 1 ص -54-
إذا
عرفنا هذا فنقول إذا وقع في الماء فعند محمد
رحمه الله هو طاهر فلا يفسد الماء حتى يجوز
شربه ولكن إذا غلب على الماء لم يتوضأ به
كسائر الطاهرات إذا غلبت على الماء. وعند أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله هو نجس فكان
مفسدا للماء والبئر والإناء فيه سواء وعلى قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجوز شربه
للتداوي وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". وعند محمد يجوز شربه للتداوي وغيره لأنه طاهر عنده وعند أبي يوسف
يجوز شربه للتداوى لا غير عملا بحديث العرنيين
ولا يجوز لغيره، ولو أصاب الثوب لم ينجسه عند
محمد رحمه الله تعالى حتى تجوز الصلاة فيه وإن
امتلأ الثوب منه. وعلى قول أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله تعالى ينجس الثوب إلا أنه
يجوز الصلاة فيه ما لم يكن كثيرا فاحشا لأنه
مختلف في نجاسته وفيه بلوى لمن يعالجها فخفت
نجاسته لهذين المعنيين فكان التقدير بالكثير
الفاحش. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى
الكثير الفاحش في الثوب الربع فصاعدا، قيل
أراد به ربع الموضع الذي أصابه من ذيل أو
غيره، وقيل: أراد به ربع جميع الثوب وهو
الصحيح وهذا لأن الربع ينزل منزلة الكمال
بدليل أن المسح بربع الرأس كالمسح بجميعه. وعن
أبي يوسف في روايته الكثير الفاحش شبر في شبر
وفي رواية ذراع في وعن محمد رحمه الله تعالى
فيما يقدر الكثير الفاحش على قوله كالأرواث
وغيره أنه قدر موضع القدمين وهذا قريب من شبر
في شبر.
ويستحب للرجل حين يبتدئ الوضوء أن يقول بسم
الله وإن لم يقل أجزأه. وعلى قول أصحاب
الظواهر التسمية من الأركان لا يجوز الوضوء
إلا بها لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا وضوء لمن لم يسم". وعندنا التسمية من سنن الوضوء لا من أركانه فإن الله تعالى بين
أركان الوضوء بقوله:
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}
[المائدة: 6] الآية ولم يذكر التسمية وعلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي الوضوء
ولم يذكر التسمية فتبين بهذا أن المراد من
قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا وضوء لمن لم يسم" نفي الكمال لا نفي الجواز كما قال في حديث آخر:
"من توضأ وسمى كان طهورا لجميع بدنه ومن توضأ ولم يسم كان طهورا لأعضاء
وضوئه"، وفي
الحديث المعروف:
"كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أقطع"، أي ناقص غير كامل وهذا بخلاف التسمية على الذبيحة فإنا أمرنا بها
إظهارا لمخالفة المشركين لأنهم كانوا يسمون
آلهتهم عند الذبح فكان الترك مفسدا وهنا أمرنا
بالتسمية تكميلا للثواب لا مخالفة للمشركين
فإنهم كانوا لا يتوضؤون فلم يكن الترك مفسدا
لهذا.
قال: وإن بدأ في وضوئه بذراعيه قبل وجهه أو
رجليه قبل رأسه أجزأه عندنا، ولم يجزه عند
الشافعي رضي الله عنه فإن الترتيب في الوضوء
عندنا سنة وعنده من الأركان واستدل بقوله
تعالى:
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية
والفاء للوصل والترتيب فظاهره يقتضي أنه يلزمه
وصل غسل الوجه بالقيام إلى الصلاة ولا يجوز
تقديم غيره عليه ثم إن الله تعالى عطف البعض
على
ج / 1 ص -55-
البعض
بحرف الواو وذلك موجب للترتيب كما في قوله
تعالى:
{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}
[الحج: 77] ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السعى بين
الصفا والمروة بأيهما نبدأ فقال:
"ابدؤا بما بدأ الله تعالى به"،
فدل على أن الواو للترتيب وقال عليه الصلاة
والسلام: "لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعة فيغسل وجهه ثم يديه"، ولا شك أن
حرف ثم للترتيب.
ولنا: ما ذكره أبو داود رحمه الله تعالى في
سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم فبدأ
بذراعيه ثم بوجهه والخلاف فيهما واحد. وروى
أنه صلى الله عليه وسلم نسى مسح رأسه في وضوئه
فتذكر بعد فراغه فمسحه ببلل في كفه ولأن الركن
تطهير الأعضاء وذلك حاصل بدون الترتيب ألا ترى
أنه لو انغمس في الماء بنية الوضوء أجزأه ولم
يوجد الترتيب ومواظبة النبي صلى الله عليه
وسلم على الترتيب في الوضوء لا تدل على أنه
ركن فقد كان يواظب على السنن كما واظب على
المضمضة والاستنشاق وأهل اللغة اتفقوا على أن
الواو للعطف مطلقا من غير أن تقتضي جمعا
ولاترتيبا فإن الرجل إذا قال جاءني زيد وعمرو
كان إخبارا عن مجيئهما من غير ترتيب في المجىء
قال الله تعالى:
{وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] فلا يدل ذلك على ترتيب الركوع على السجود وكذلك في
الآية أمر بغسل الأعضاء لا بالترتيب في الغسل
ألا ترى أن ثبوت الحدث في الأعضاء لا يكون
مرتبا فكذلك زواله والحديث محمول على صفة
الكمال وبه نقول.
وإن غسل بعض أعضائه وترك البعض حتى جف ما قد
غسل أجزأه لأن الموالاة سنة عندنا. وقال مالك
رحمه الله تعالى وهو أحد قولي الشافعي رحمه
الله تعالى الموالاة ركن فلا يجزئه تركه لأن
النبي صلى الله عليه وسلم واظب على الموالاة
فلو جاز تركه لفعله مرة تعليما للجواز. وقال
بن أبي ليلى إن كان في طلب الماء أجزأه لأن
ذلك من عمل الوضوء فإن كان أخذ في عمل آخر غير
ذلك وجف وجب علينا إعادة ما جف وجعله قياس
أعمال الصلاة إذا اشتغل في خلالها بعمل آخر.
ولنا: ما بينا أن المقصود تطهير الأعضاء وذلك
حاصل بدون الموالاة والمنصوص عليه في الكتاب
غسل الأعضاء فلو شرطنا الموالاة كان زيادة على
النص وقد بينا أن مواظبة رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد تكون لبيان السنة وأفعال الصلاة
تؤدي بناء على التحريمة والاشتغال بعمل آخر
مبطل للتحريمة فكان مفسدا بخلاف الوضوء فإن
أركان الوضوء لا تنبنى على التحريمة حتى لم
يكن الكلام في الوضوء مفسدا له والله أعلم.
قال: ولا يفسد خرء الحمام والعصفور الماء فإنه
طاهر عندنا وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه
نجس يفسد الماء والثوب والقياس ما قال لأنه
مستحيل من غذاء الحيوان إلى فساد لكن استحسنه
علماؤنا رحمهم الله تعالى لحديث ابن مسعود رضي
الله تعالى عنه أنه خرئت عليه حمامة فمسحه
بأصبعه وبن عمر رضي الله تعالى عنهما ذرق عليه
طائر فمسحه بحصاة وصلى ولم يغسله ولأن الحمام
تركت في المساجد حتى في المسجد
ج / 1 ص -56-
الحرام
مع علم الناس بما يكون منها وأصله حديث أبي
أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم شكر الحمامة وقال:
"إنها أوكرت على باب الغار حتى سلمت فجازاها
الله تعالى بأن جعل المساجد مأواها" فهو دليل على طهارة ما يكون منها.
قال: وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور ذكر في
الجامع الصغير أنه تجوز الصلاة فيه وإن كان
أكثر من قدر الدرهم في قول أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد رحمه الله
تعالى لا يجوز بمنزلة خرء ما لا يؤكل لحمه من
السباع والمعنى أنه مستحيل من غذائه إلى فساد.
واختلف مشايخنا رحمهم الله على قول أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله تعالى فمنهم من قال هو
نجس عندهما لكن التقدير فيه بالكثير الفاحش
لمعنى البلوى، والاصح أنه طاهر عندهما فإن
الخرء لا فرق فيه بين مأكول اللحم وغير مأكول
اللحم في النجاسة ثم خرء ما يؤكل لحمه من
الطيور طاهر فكذلك ما لا يؤكل لحمه.
قال: وبول الخفافيش لا يفسد الماء لأنه لا
يستطاع الامتناع منه ولا يستقذره الناس عادة"
ويفسده خرء الدجاج لأنه أشبه الأشياء بالعذرة
لونا ورائحة فكان نجسا نجاسة غليظة.
قال: وموت الضفدع والسمك والسرطان في الماء لا
يفسده لوجهين:
أحدهما: أن الماء معدنه
والشيء إذا مات في معدنه لا يعطي له حكم
النجاسة كمن صلى وفي كمه بيضة مذرة حال محها
دما تجوز صلاته وهذا لأن التحرز عن موته في
الماء غير ممكن.
والثاني: أنه ليس لهذه
الحيوانات دم سائل فإن ما يسيل منها إذا شمس
ابيض والدم إذا شمس اسود وهذا الحرف أصح لأنه
كما لا يفسد الماء بموت هذه الحيوانات فيه لا
يفسد غير الماء كالخل والعصير ويستوي إن تقطع
أو لم يتقطع إلا على قول أبي يوسف رحمه الله
فإنه يقول إذا تقطع في الماء أفسده بناء على
قوله إن دمه نجس وهو ضعيف فإنه لا دم في السمك
إنما هو ماء آجن ولو كان فيه دم فهو مأكول فلا
يكون نجسا كالكبد والطحال. وأشار الطحاوي رحمه
الله إلى أن الطافي من السمك يفسد الماء وهو
غلط منه فليس في الطافي أكثر من أنه غير مأكول
فهو كالضفدع والسرطان. وعن محمد رحمه الله
تعالى قال الضفدع إذا تفتت في الماء كرهت شربه
لا لنجاسته ولكن لأن أجزاء الضفدع فيه والضفدع
غير مأكول.
وإذا ماتت الفأرة في البئر فاستخرجت حين ماتت
نزح من البئر عشرون دلوا وإن ماتت في جب أريق
الماء وغسل الجب لأنه تنجس بموت الفأرة فيه
والقياس في البئر أحد شيئين أما ما قاله بشر
رحمه الله أنه يطم رأس البئر ويحفر في موضع
آخر لأنه وإن نزح ما فيها من الماء يبقى الطين
والحجارة نجسا ولا يمكن كبه ليغسل فيطم، وأما
ما نقل عن محمد رحمه الله تعالى قال اجتمع
رأيي ورأي أبي يوسف رحمه الله تعالى أن ماء
البئر في حكم الماء الجاري لأنه ينبع من أسفله
ويؤخذ من أعلاه فلا يتنجس بوقوع النجاسة فيه،
ج / 1 ص -57-
كحوض
الحمام إذا كان يصب فيه من جانب ويؤخذ من جانب
لم يتنجس بإدخال يد نجسه فيه.
ثم قلنا: وما علينا لو أمرنا بنزح بعض الدلاء
ولا نخالف السلف وتركنا القياس لحديث علي رضي
الله تعالى عنه قال في الفأرة تموت في البئر
ينزح منها دلاء وفي رواية سبع دلاء. وفي حديث
أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال في
الدجاجة تموت في البئر ينزح منها أربعون دلوا.
ولنا: حديث النخعي والشعبي في الفأرة تموت في
البئر ينزح منها عشرون دلوا. وروي عن أنس بن
مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال في الفأرة:
"تموت في البئر ينزح منها عشرون دلوا"، ولكنه شاذ.
وعن ابن عباس وبن عمر رضي الله تعالى عنهم في
الزنجي الذي وقع في بئر زمزم فمات أنهما أمرا
بنزح جميع الماء. ثم في الأصل جعله على ثلاث
مراتب في الفأرة عشرون دلوا وفي السنور
والدجاجة أربعون دلوا وفي الشاة والآدمي جميع
الماء.
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى جعله على خمس درجات في الجلة والفأرة
الصغيرة عشر دلاء وفي الفأرة الكبيرة عشرون
دلوا وفي الحمامة ثلاثون دلوا وفي الدجاجة
أربعون دلوا وفي الشاة والآدمي جميع الماء
وهذا لأنه إنما يتنجس من الماء ما جاوز
النجاسة والفأرة تكون في وجه الماء فإذا نزح
عشرون دلوا فالظاهر أنه نزح جميع ما جاوز
الفأرة فما بقي يبقى طاهرا والدجاجة تغوص في
الماء أكثر مما تغوص الفأرة فيتضاعف النزح
لهذا والشاة والآدمي يغوص إلى قعر الماء فيموت
ثم يطفو فلهذا نزح جميع الماء وهذا إذا لم
يتفسخ شيء من هذه الحيوانات فإن انتفخ أو تفسخ
نزح جميع الماء الفأرة وغيرها فيه سواء لأنه
ينفصل منها بلة نجسة وتلك البلة نجاسة مائعة
بمنزلة قطرة من خمر أو بول تقع في البئر ولهذا
قال محمد رحمه الله تعالى إذا وقع في البئر
ذنب فأرة ينزح جميع الماء لأن موضع القطع فيه
لا ينفك عن نجاسة مائعة بخلاف الفأرة فإن
غلبهم الماء في موضع وجب نزح جميع الماء.
فالمروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه إذا
نزح منها مائة دلو يكفي وهو بناء على آبار
الكوفة لقلة الماء فيها. وعن محمد رحمه الله
تعالى في النوادر أنه ينزح منها ثلاثمائة دلو
أو مائتا دلو وإنما أجاب بهذا بناء على كثرة
الماء في آبار بغداد. وقال أبو يوسف رحمه الله
تعالى ينزح قدر ما كان فيها من الماء قيل
معناه أنه ينظر إلى عمق البئر وعرضه فيحفر
حفيرة مثلها ويصب ما ينزح فيها فإذا امتلأت
فقد نزح ما كان فيها. وقيل يرسل قصبة في الماء
ويجعل على مبلغه علامة ثم ينزح عشر دلاء ثم
يرسل القصبة ثانيا فينظر كم انتقص فإن انتقص
العشر علم أن في البئر مائة دلو والأصح أنه
ينظر إليها رجلان
ج / 1 ص -58-
لهما
بصر في الماء فبأي مقدار قالا في البئر ينزح
ذلك القدر وهذا أشبه بالفقه فإن كان توضأ رجل
منها بعد ما ماتت الفأرة فيها فعليه إعادة
الوضوء والصلوات جميعا لأنه تبين أنه توضأ
بالماء النجس، وإن كان لا يدري متى وقع فيها
وقد كان وضوءه من ذلك البئر فإن كانت منتفخة
أعاد صلاة ثلاثة أيام ولياليها في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى احتياطا وإن كانت غير
منتفخة يعيد صلاة يوم وليلة. وقال أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى ليس عليه أن يعيد
شيئا من صلاته ما لم يعلم أنه توضأ منها وهو
فيها، والقياس ما قالا لأنه على يقين من طهارة
البئر فيما مضى وفي شك من نجاسته واليقين لا
يزال بالشك كمن رأى في ثوبه نجاسة لا يدرى متى
أصابته لا يلزمه إعادة شيء من الصلوات لهذا.
وكان أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول أولا بقول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى رأى طائرا في
منقاره فأرة ميتة وألقاها في بئر فرجع إلى هذا
القول وقال لا يعيد شيئا من الصلاة بالشك وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى يقول ظهر لموت الفأرة
سبب وهو وقوعها في البئر فيحال موتها عليه كمن
جرح إنسانا فلم يزل صاحب فراش حتى مات يحال
موته على تلك الحالة لأنه هو الظاهر من السبب
ثم الانتفاخ دليل تقادم العهد وأدنى حد
التقادم ثلاثة أيام ألا ترى أن من دفن قبل أن
يصلى عليه يصلى على قبره إلى ثلاثة أيام ولا
يصلى بعد ذلك لأنه يتفسخ في هذه المدة؟
وقولهما إن في نجاسة البئر فيما مضى شكا.
قلنا: يؤيد هذا الشك تيقن النجاسة في الحال
فوجب اعتباره والقول به للاحتياط فيه.
وفي مسألة الثوب قال معلى: الخلاف فيهما واحد
وعند أبي حنيفة رحمه الله إن كانت النجاسة
بالية يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها وإن كانت
طرية يعيد صلاة يوم وليلة ومن سلم فرق بينهما
لأبي حنيفة رحمه الله فقال الثوب كان يقع بصره
عليه في كل وقت فلو كانت فيه نجاسة فيما مضى
لرآها فأما البئر فمغيب عن بصره والموضع موضع
الاحتياط فإن كانت غير منتفخة قال أبو حنيفة
رحمه الله يعيد صلاة يوم وليلة لأنه لما وجب
عليه إعادة الصلاة أمرناه بإعادة صلاة يوم
وليلة احتياطا.
وإذا صلى وفي ثوبه من الروث أو السرقين أو بول
ما لا يؤكل لحمه من الدواب أو خرء الدجاجة
أكثر من قدر الدرهم لم تجز صلاته والأصل في
هذا أن القليل من النجاسة في الثوب لا يمنع
جواز الصلاة فيه عندنا. وقال الشافعي رحمه
الله إذا كان بحيث يقع بصره عليه يمنع جواز
الصلاة قال لأن الطهارة عن النجاسة العينية
شرط جواز الصلاة كالطهارة عن الحدث الحكمي
فكما أن الشرط ينعدم بالقليل من الحدث وكثيره
فكذلك ينعدم بالقليل من النجاسة وكثيرها.
وحجتنا ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه
سئل عن قليل النجاسة في الثوب فقال إن كان مثل
ظفري هذا لا يمنع جواز الصلاة ولأن القليل من
النجاسة لا يمكن التحرز عنه فإن الذباب يقعن
على النجاسات ثم يقعن على ثياب المصلي ولا بد
من
ج / 1 ص -59-
أن
يكون على أجنحتهن وأرجلهن نجاسة فجعل القليل
عفوا لهذا بخلاف الحدث فإنه لا بلوى في القليل
منه والكثير.
ثم إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا
يكتفون بالاستنجاء بالأحجار وقلما يتطيبون
بالماء والاستنجاء بالحجر لا يزيل النجاسة حتى
لو جلس بعده في الماء القليل نجسه فاكتفاؤهم
به دليل على أن القليل من النجاسة عفو ولهذا
قدرنا بالدرهم على سبيل الكناية عن موضع خروج
الحدث هكذا قال النخعي رحمه الله تعالى
واستقبحوا ذكر المقاعد في مجالسهم فكنوا عنه
بالدرهم. وكان النخعي يقول إذا بلغ مقدار
الدرهم منع جواز الصلاة. وكان الشعبي يقول لا
يمنع حتى يكون أكثر من قدر الدرهم وأخذنا بهذا
لأنه أوسع ولأنه قد كان في الصحابة رضوان الله
عليهم من هو مبطون ولوث المبطون أكثر ومع هذا
كانوا يكتفون بالاستنجاء بالأحجار والدرهم
أكبر ما يكون من النقد المعروف فأما المنقطع
من النقود كالسهيلي وغيره فقد قيل إنه يعتبر
به وهو ضعيف والتقدير بالدرهم فيما اتفقوا على
نجاسته كالخمر والبول وخرء الدجاج.
وفي الخرء إذا كان أكثر من وزن مثقال ولا عرض
له يمنع جواز الصلاة أيضا. فأما الروث
والسرقين فنقول روث ما لا يؤكل لحمه وما يؤكل
سواء وهو نجس عندنا. وقال مالك رحمه الله روث
ما يؤكل لحمه طاهر لما روى أن الشبان من
الصحابة في منازلهم في السفر كانوا يترامون
بالجلة فلو كانت نجسة لم يمسوها وقال لأنه
وقود أهل المدينة يستعملونه استعمال الحطب.
ولنا: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب
من ابن مسعود أحجارا للاستنجاء ليلة الجن
فأتاه بحجرين وروثة فأخذ الحجرين ورمى بالروثة
وقال:
"إنها ركس"،
أي نجس وقيل لمحمد رحمه الله لم قلت بطهارة
بول ما يؤكل لحمه ولم تقل بطهارة روثه قال لما
قلت بطهارته أجزت شربه فلو قلت بطهارة روثه
لأجزت أكله وأحد لا يقول بهذا. ثم التقدير فيه
عند أبي حنيفة رحمه الله بالدرهم وعند أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى بالكثير الفاحش
وقال زفر في روث ما يؤكل لحمه ما لم يكن كثيرا
فاحشا لم يمنع وفي روث ما لا يؤكل لحمه الجواب
ما قال أبو حنيفة رحمه الله واعتبر الروث
بالبول فقال في بول ما يؤكل لحمه التقدير
بالكثير الفاحش لكونه مختلفا في نجاسته فكذلك
في روثه. وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا في
الأرواث بلوى وضرورة خصوصا لسائر الدواب
وللبلوى تأثير في تخفيف حكم النجاسة فكان
التقدير فيه بالكثير الفاحش. وأبو حنيفة رحمه
الله يقول الروث منصوص على نجاسته كما روينا
في حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فتتغلظ
نجاسته ولا يعفى عنه أكثر من قدر الدرهم
كالخمر والبلوى لا تعتبر في موضع النص فإن
البلوي للآدمي في بوله أكثر وكذا في بول
الحمار فإنه يترشش فيصيب الثياب ومع
ج / 1 ص -60-
ذلك لا
يعفي عنه أكثر من قدر الدرهم لأنه منصوص على
نجاسته. وروي عن محمد رحمه الله تعالى قال في
الروث وإن كان كثيرا فاحشا لا يمنع جواز
الصلاة وهذا آخر أقاويله حين كان بالري وكان
الخليفة بها فرأى الطرق والخانات مملوءة من
الأرواث وللناس فيه بلوى عظيمة فاختار هذا
القول لهذا.
قال: وأدنى ما ينبغي أن يكون بين البئر
والبالوعة خمسة أذرع في رواية أبي سليمان
والنوادر والأمالى وفي رواية أبي حفص سبعة
أذرع، والحاصل إنه ليس فيه تقدير لازم بشيء
إنما الشرط أن لا يخلص من البالوعة والبئر شيء
وذلك يختلف باختلاف الأراضي في الصلابة
والرخاوة ألا ترى أنه قال فإن كان بينهما خمسة
أذرع فوجد في الماء ريح البول أو طعمه فلا خير
فيه وإن لم يوجد شيء من ذلك فلا بأس به وإن
كان بينهما أقل من خمسة أذرع فعرفنا أن
المعتبر هو الخلوص؟ ولا بأس بأن يغتسل الرجل
والمرأة من إناء واحد لحديث عائشة رضي الله
تعالى عنها وقد رويناه فإذا جاز أن يفعلا معا
فكذلك أحدهما بعد الآخر.
جاء في الحديث أن بعض أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم اغتسلت من إناء فأراد رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يتوضأ منه فقالت إني كنت
جنبا فقال عليه الصلاة والسلام: "الماء لا يجنب".
والذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن
يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة والمرأة بفضل
وضوء الرجل شاذ فيما تعم به البلوى فلا يكون
حجة.
وإذا نسي المضمضة والاستنشاق في الجنابة حتى
صلى لم يجزه، وهو عندنا فإن المضمضة
والاستنشاق فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء.
وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه سنتان فيهما،
وقال أهل الحديث فرضان فيهما، ومنهم من أوجب
الاستنشاق دون المضمضة، واستدلوا بمواظبة رسول
الله صلى الله عليه وسلم عليها في الوضوء
ولكنا نقول كان يواظب في العبادات على ما فيه
تحصيل الكمال كما يواظب على الأركان.
وفي كتاب الله تعالى أمر بتطهير أعضاء مخصوصة
والزيادة على النص لا تجوز إلا بما يثبت به
النسخ وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأعرابي الوضوء ولم يذكرهما فيه. والشافعي
رحمه الله تعالى استدل بقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] والإطهار إمرار الطهور على الظواهر من البدن والفم في
حكم الباطن بدليل أن الصائم إذا ابتلع بزاقه
لم يضره وبدليل الوضوء فالفم والأنف موضعهما
الوجه والغسل فرض فيهما وبدليل غسل الميت فإنه
ليس فيه مضمضة ولا استنشاق، وإمامنا في
المسألة بن عباس رضي الله عنهما فإنه قال هما
فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"تحت كل شعرة جنابة ألا فبلوا الشعر وأنقوا
البشرة وفي الفم بشرة". قال ابن الأعرابي: البشرة الجلدة التي تقي اللحم من الأذي وقال
صلى الله عليه وسلم: "من ترك
موضع شعرة
ج / 1 ص -61-
في
الجنابة عذبه الله بالنار"، كذا قال
علي رضي الله تعالى عنه فمن ثم عاديت شعري وفي
الأنف شعرات والمعنى أن للفم حكمين حكم الظاهر
من وجه حتى إذا أخذ الصائم الماء بفيه لم يضره
وحكم الباطن من وجه كما قال ففيما يعم جميع
الظاهر ألحقناه بالظاهر وفيما يخص بعضه
ألحقناه بالباطن لأنه لما جعل بعض ما هو ظاهر
من كل وجه عفوا فما هو باطن من وجه أولى ولأن
الجنابة تحل الفم والأنف بدليل أن الجنب ممنوع
عن قراءة القرآن والحدث لا يحلهما بدليل أن
المحدث لا يمنع من قراءة القرآن وفي غسل الميت
سقوط المضمضة والاستنشاق للتعذر لأنه لا يمكنه
كبه حتى يخرج الماء من فيه وبدونه يكون سقيا
لا مضمضة.
إذا ثبت هذا فنقول: في كل موضع ترك شيئا من
الفرائض لم يصح شروعه في الصلاة حتى إذا قهقه
لا يلزمه إعادة الوضوء، لأنه لم يصادف حرمة
الصلاة في كل موضع ترك شيئا من المسنون صح
شروعه في الصلاة فإذا قهقه فعليه إعادة الوضوء
وإن كان متنفلا فعليه إعادة الصلاة وإن مسح
رأسه بماء أخذه من لحيته لم يجزه لأنه مسح
بالماء المستعمل فإن الماء إذا فارق عضوه يصير
مستعملا وذلك مروي عن علي وبن عباس رضي الله
تعالى عنهما.
والذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ
الماء من لحيته واستعمله في لمعة رآها تأويله
في الجنابة وجميع البدن في الجنابة كعضو واحد
وإن كان في كفه بلل فمسحه به أجزأه لأن الماء
الذي بقي في كفه غير مستعمل فهو كالباقي في
إنائه وقال الحاكم وهذا إذا لم يكن استعمله في
شيء من أعضائه وهو غلط منه فإنه إذا استعمله
في شيء من المغسولات لم يضره لأن فرض الغسل
تأدى بما جرى على عضوه لا بالبلة الباقية في
كفه إلا أن يكون استعمله في المسح بالخف
وحينئذ الأمر على ما قاله الحاكم لأن فرض
المسح يتأدى بالبلة.
قال: ولا يجزئ مسح الرأس بأصبع ولا بأصبعين
ويجزئه بثلاثة أصابع. والكلام هنا في فصول.
أحدهما: في قدر المفروض من
مسح الرأس ففي الأصل ذكر قدر ثلاثة أصابع وفي
موضع الناصية وفي موضع ربع الرأس. وقال
الشافعي رحمه الله أدنى ما يتناوله الاسم ولو
ثلاث شعرات وقال مالك رحمه الله تعالى المفروض
مسح جميع الرأس وقال الحسن رحمه الله تعالى
أكثر الرأس واستدل مالك بفعل رسول صلى الله
عليه وسلم فإنه مسح رأسه بيديه كلتيهما أقبل
بهما وأدبر وبه استدل الحسن رضي الله تعالى
عنه إلا أنه قال الأكثر يقوم مقام الكل وقد
بينا أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يدل على
الركنية فقد يكون ذلك لاكمال الفريضة واعتبر
الممسوح بالمغسول وهو فاسد فإن المسح بنى على
التخفيف.
وفي كتاب الله تعالى ما يدل على التبعيض في
المسح وهو حرف الباء في قوله تعالى:
{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}
[المائدة: 6] ا فهو إشارة إلى البعض كما يقال كتبت بالقلم وضربت
بالسيف أي بطرف منه، ولهذا قال الشافعي: يتأدى
بادنى ما يتناوله الاسم ولكنا نقول من
ج / 1 ص -62-
مسح
ثلاث شعرات لا يقال إنه مسح برأسه عادة وفي
الآية ما يدل على البعض وهو مجمل في مقدار ذلك
البعض بيانه في فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم كما رواه المغيرة رضي الله تعالى عنه
"أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح على
ناصيته" وذلك
الربع فإن الرأس ناصية وقذال وفودان ولأن
الربع بمنزلة الكمال فإن من رأى وجه إنسان
يستجيز له أن يقول رأيت فلانا وإنما رأى أحد
جوانبه الأربعة.
إذا عرفنا هذا فنقول ذكر في نوادر بن رستم أنه
إذا وضع ثلاثة أصابع ولم يمرها جاز في قول
محمد رحمه الله تعالى في الرأس والخف ولم يجز
في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى
حتى يمرها بقدر ما تصيب البلة مقدار ربع الرأس
فهما اعتبرا الممسوح عليه ومحمد رحمه الله
تعالى اعتبر الممسوح به وهو عشرة أصابع وربعها
أصبعان ونصف إلا أن الأصبع الواحد لا يتجزأ
فجعل المفروض ثلاثة أصابع لهذا وإن مسح بأصبع
أو بأصبعين لم يجزه عندنا. وقال زفر رحمه الله
تعالى يجوز إذا مسح به مقدار ربع الرأس قال
لأن المعتبر إصابة البلة دون الأصابع حتى لو
أصاب رأسه ماء المطر أجزأه عن المسح.
ولنا: أنه كما وضع الأصابع صار مستعملا فلا
يجوز إقامة الفرض به بالإمرار، فإن قيل إذا
وضع ثلاثة أصابع ومسح بها جميع رأسه جاز وكما
لا يجوز إقامة الفرض بالماء المستعمل فكذلك
إقامة السنة بالممسوح قلنا: الرأس تفارق
المغسولات في المفروض دون المسنون ألا ترى أن
في المسنون يستوعب الحكم جميع الرأس كما في
المغسولات فكما أن في المغسولات الماء في
العضو لا يصير مستعملا فكذلك في حكم إقامة
السنة في الممسوح إلى هذا الطريق يشير محمد
رحمه الله تعالى حتى قال في نوادر بن رستم لو
أعاد الأصبع إلى الماء ثلاث مرات يجوز، وهكذا
قال محمد بن سلمة رحمه الله تعالى لو مسح
بأصبعه بجوانبه الأربعة يجوز، والأصح عندي أنه
لا يجوز وأن الطريقة غير هذا.
فقد ذكر في التيمم أنه إذا مسح بأصبع أو
بأصبعين لا يجوز فالاستيعاب هناك فرض وليس
هناك شيء يصير مستعملا ولكن الوجه الصحيح أن
المفروض هو المسح باليد فأكثر الأصابع يقوم
مقام الكل فإذا استعمل في مسح الرأس أو الخف
أو التيمم ثلاثة أصابع كان كالماسح بجميع يده
فيجوز وإلا فلا. وإن كان شعره طويلا فمسح ما
تحت أذنيه لم يجزه وإن مسح ما فوقهما أجزأه
لأن المسح على الشعر بمنزلة المسح على البشرة
التي تحته وما تحت الأذنين عنق وما فوقهما رأس
والأفضل أن يمسح ما أقبل من أذنيه وما أدبر مع
الرأس وإن غسل ما أقبل منهما مع الوجه جاز لأن
في الغسل مسحا وزيادة ولكن الأول أفضل لأن
الأذنين من الرأس والفرض في الرأس المسح بالنص
وإنما قلنا إنهما من الرأس لأنهما على الرأس
واعتبرا بآذان الكلاب والسنانير والفيل ومن
فغر فاه فيزول عظم اللحيين عن عظم الرأس وتبقى
الأذن مع الرأس وعلى هذا قلنا: لا
ج / 1 ص -63-
يأخذ
لأذنيه ماء جديدا. وقال الشافعي رحمه الله
تعالى يأخذ لأذنيه ماء جديدا. واستدل بما روى
أبو أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وأخذ لأذنيه
ماء جديدا وقال: "لأن الأذن مع
الرأس كالفم والأنف مع الوجه". ثم
يأخذ للمضمضة والاستنشاق ماء جديدا سوى ما
يقيم به فرض غسل الوجه فهذا مثله.
ولنا: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن
النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه
بماء واحد وقال: "الأذنان من الرأس". فإما أن
يكون المراد بيان الحقيقة وهو مشاهد لا يحتاج
فيه إلى بيانه أو يكون المراد أنهما ممسوحان
كالرأس وهذا بعيد فاتفاق العضوين في الفرض لا
يوجب إضافة أحدهما إلى الآخر فعرفنا أن المراد
أنهما ممسوحان بالماء الذي مسح به الرأس
وتأويل ما رواه أنه لم يبق في كفه بلة فلهذا
أخذ في أذنيه ماء جديدا.
وذكر الحاكم رحمه الله في المنتقى إذا أخذ
غرفة من الماء فتمضمض بها وغسل وجهه أجزأه.
وبعد التسليم قلنا المضمضة والاستنشاق مقدمان
على غسل الوجه فإذا أقامهما بماء واحد كان
المفروض تبعا للمسنون وذلك لا يجوز وها هنا
إذا أقامهما بماء واحد يكون المسنون تبعا
للمفروض وذلك مستقيم.
قال: وإن مسح أذنيه دون رأسه لم يجزه لأنه ترك
المفروض والمسنون لا يقوم مقام المفروض. فإن
قيل لكم أين ذهب قولكم الأذنان من الرأس؟
قلنا: هما من الرأس وليسا برأس كالثمار من
الشجرة وليست بشجرة والواحد من العشرة وليس
بعشرة والفقه فيه أن فرض المسح بالرأس ثابت
بالنص وكون الأذن من الرأس ثابت بخبر الواحد
فلا يتأدى به ما يثبت بالنص كمن استقبل الحطيم
بالصلاة فلا تجزئه وإن كان الحطيم من البيت
لأن فرضية استقبال الكعبة ثابت بالنص وكون
الحطيم من البيت ثابت بخبر الواحد فلا يتأدى
به ما ثبت بالنص.
ومن توضأ ومسح رأسه ثم جز شعره أو نتف إبطيه
أو قلم أظفاره أو أخذ من شاربه لم يكن عليه أن
يمس شيئا من ذلك الماء ولا أن يجدد وضوءه.
وكان بن جرير رحمه الله تعالى يقول عليه أن
يتوضأ. وكان إبراهيم رحمه الله تعالى يقول يجب
عليه إمرار الماء على ذلك الموضع وهو فاسد لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا وضوء إلا من حدث"، وفعله هذا تطهير فكيف يكون حدثا وإليه أشار علي رضي الله تعالى
عنه لما سئل عن هذا فقال ما ازداد إلا طهرا
ونظافة. قال: ثم المسح على الشعر مثل المسح
على البشرة التى تحته لا أنه بدل عنه بدليل أن
الأصبع إذا مسح على الشعر جاز ولا يجوز المصير
إلى البدل مع القدرة على الأصل فكان جز الشعر
بعد المسح كتقشير الجلد عن العضو المغسول بعد
الغسل فكما لا يلزمه امرار الماء ثمة فكذلك
هنا بخلاف الماسح على الخفين إذا نزعهما فإن
المسح لم
ج / 1 ص -64-
يكن
بمنزلة الغسل ولكن استتار القدم بالخف يمنع
سراية الحدث إلى القدم بدليل أنه لو كان رجله
باديا وقت الحدث لم يجزه المسح فبخلع الخف
يسري الحدث إلى القدم.
قال: وكذلك إن مس ذكره بعد الوضوء فلا وضوء
عليه وهذا عندنا. وقال الشافعي رحمه الله
تعالى إذا مس بباطن كفه من غير حائل فعليه
الوضوء والرجل والمرأة في مس الفرج سواء عنده
لحديث بسرة بنت صفوان رضي الله تعالى عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مس ذكره
فليتوضأ"، وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن
امرأة مست فرجها فقالت إن كانت ترى ماء هنالك
فلتتوضأ ولأن مس الذكر سبب لاستطلاق وكاء
المذي فيجعل به كالممذي كما أن التقاء
الختانين لما كان سببا لاستطلاق وكاء المني
جعل به كالممني وإقامة السبب الظاهر مقام
المعنى الخفي أصل في الشرع.
ولنا: حديث قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي أنه
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن مس ذكره
هل عليه أن يتوضأ فقال:
"لا هل هو إلا بضعة منك"؟
أو قال
"جذوة منك"؟
وعن جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وابن
مسعود رضي الله تعالى عنهم مثل قولنا حتى قال
بعضهم إن كان شيء منك نجسا فاقطعه "وقال"
بعضهم ما أبالي أمسسته أم أنفي وهو المعنى
فإنه عضو من أعضائه فإما أن يكون طاهرا أو
نجسا وليس في مس شيء من الطاهرات ولا من
النجاسات وضوء ولو مس ما يخرج منه لم ينتقض به
وضوءه وإقامة السبب الظاهر مقام المعنى الخفي
عند تعذر الوقوف على الخفي وذلك غير موجود هنا
فإن المذي يرى ويشاهد وهو فاسد على أصله فإن
من مس ذكر غيره عنده يجب الوضوء على الماس دون
الممسوس ذكره واستطلاق وكاء المذي هنا ينبغي
في حق الممسوس ذكره وحديث بسرة لا يكاد يصح
فقد قال يحيي بن معين ثلاث لا يصح فيهن حديث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها هذا وما
بال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا
بين يدي كبار الصحابة حتى لم ينقله أحد منهم
وإنما قاله بين يدي بسرة وقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في
خدرها ولو ثبت فتأويله من بال فجعل مس الذكر
كناية عن البول لأن من يبول يمس ذكره عادة
كقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}
[النساء: 43] والغائط هو المطمئن من الأرض كنى به عن الحدث لأنه
يكون في مثل هذه المواضع عادة. أو المراد
بالوضوء غسل اليد استحبابا، كما في قوله صلى
الله عليه وسلم:
"الوضوء
قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم"،
والمراد منه غسل اليد.
قال: وكذلك إذا نظر إلى فرج امرأة، لقول ابن
عباس رضي الله عنهما: الوضوء مما خرج وبمجرد
النظر لا يخرج منه شيء فهو والتفكر سواء.
قال: وفي المني الغسل لقوله صلى الله عليه
وسلم:
"إنما الماء من الماء"، يعنى الاغتسال من المني ومراده إذا خرج على وجه الدفق والشهوة فإن
خرج لا على هذه الصفة لحمله شيئا ثقيلا أو
سقوطه على ظهره يلزمه الاغتسال عند الشافعي
رحمه الله تعالى لعموم الحديث ولا يلزمه
ج / 1 ص -65-
عندنا
لأن خروجه بصفة خروج المذي فحكمه حكم المذي في
إيجاب الوضوء. ثم المعتبر عند أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى مفارقة المني عن مكانه على
وجه الشهوة والدفق وعند أبي يوسف رحمه الله
تعالى المعتبر ظهوره، بيانه في فصلين:
أحدهما: أن من احتلم فأمسك
ذكره حتى سكنت شهوته ثم سال منه المني فعليه
الغسل عندهما ولا غسل عليه عند أبي يوسف رحمه
الله تعالى.
والثاني: أن المجامع إذا
اغتسل قبل أن يبول ثم سال منه بقية المني
فعليه الاغتسال عندهما ثانيا وليس عليه ذلك
عند أبي يوسف رحمه الله تعالى.
قال: وفي المذي الوضوء، لحديث علي رضي الله
تعالى عنه قال كنت فحلا مذاء فاستحييت أن أسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته
تحتي فأمرت المقداد بن الأسود حتى سأله فقال: "كل فحل يمذي
وفيه الوضوء"، "وكذلك
الودي" فإنه الغليظ من البول فهو كالرقيق منه.
ثم فسر هذه المياه فقال "المني خائر أبيض
ينكسر منه الذكر" وذكر الشافعي رضي الله تعالى
عنه في كتابه أن له رائحة الطلع "والمذي رقيق
يضرب إلى البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله
والودي رقيق يخرج منه بعد البول" وتفسير هذه
المياه مروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها
بهذه الصفة.
قال: "ولا يجب الوضوء من القبلة ومس المرأة
بشهوة أو غير شهوة" وهو قول علي وبن عباس رضي
الله تعالى عنهم. وقال الشافعي رحمه الله
تعالى يجب الوضوء من ذلك وهو قول عمر وابن
مسعود رضي الله تعالى عنهما وهو اختلاف معتبر
في الصدر الأول حتى قيل ينبغي لمن يؤم الناس
أن يحتاط فيه، وقال مالك رحمه الله إن كان عن
شهوة يجب وإلا فلا. فالشافعي رحمه الله استدل
بقوله تعالى:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}
[النساء: 43] و[المائدة: 6]، وحقيقة المس باليد قال الله تعالى:
{فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}
[الأنعام: 7] ولا يعارض القراءة. ألا ترى قوله:
{أَوْ لامَسْتُمُ} فأكثر ما في الباب أن يثبت أن المراد بتلك القراءة الجماع فيعمل
بهما جميعا والمعنى ما ذكرنا أن التقبيل والمس
سبب لاستطلاق وكاء المذي فيقام مقام خروج
المذي حقيقة في ايجاب الوضوء أخذا بالاحتياط
في باب العبادة كما فعله أبو حنيفة رحمه الله
تعالى في المباشرة الفاحشة.
ولنا: حديث عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض
نسائه ثم صلى ولم يتوضأ. وعن عمر رضي الله
تعالى عنه أنه انصرف يوما من صلاته فلما فرغ
الناس رأوه يصلى في آخر الصفوف فقال إني توضأت
فمرت بي جاريتي رومية فقبلتها فلما افتتحت
الصلاة وجدت مذيا فقلت أمضي في صلاتي حياء
منكم ثم قلت لأن أراقب الله تعالى خير لي من
أن أراقبكم فانصرفت وتوضأت فهذا دليل رجوع عمر
رضي الله تعالى عنه لأنه افتتح الصلاة بعد
التقبيل حتى إذا أحس بالمذي انصرف وتوضأ، ولأن
عين المس
ج / 1 ص -66-
ليس
بحدث بدليل مس ذوات المحارم فبقي الحدث ما
يخرج عند المس وذلك ظاهر يوقف عليه فلا حاجة
إلى إقامة السبب الظاهر مقامه.
وأما الآية فقد قال ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما المراد بالمس الجماع، إلا أن الله تعالى
حيي يكني بالحسن عن القبيح كما كنى بالمس عن
الجماع وهو نظير قوله تعالى:
{وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ}
[البقرة: 237]، والمراد الجماع وهذا لأنه لو
حمل على الجماع كان ذكرا للحدث الكبرى بعد ذكر
الحدث الصغرى بقوله تعالى:
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43]. و[سورة المائدة: 6] فأما إذا حمل على المس باليد كان
تكرارا محضا. قال "فإن باشرها وليس بينهما ثوب
فانتشر لها فعليه الوضوء" عند أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله تعالى استحسانا وقال محمد
رحمه الله تعالى لا وضوء عليه وهو القياس لقول
ابن عباس رضي الله عنهما الوضوء مما خرج وقد
تيقن أنه لم يخرج منه شيء فهو كالتقبيل. ووجه
قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن
الغالب من حال من بلغ في المباشرة هذا المبلغ
خروج المذي منه حقيقة فيجعل كالممذي بناء
للحكم على الغالب دون النادر كمن نام مضطجعا
انتقض وضوءه وإن تيقن بأنه لم يخرج منه شيء
وكذلك من عدم الماء في المصر لا يجزئه التيمم
بناء على الغالب أن الماء في المصر لا يعدم.
وفسر الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
المباشرة الفاحشة بأن يعانقها وهما متجردان
ويمس ظاهر فرجه ظاهر فرجها. قال "وإذا التقى
الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم
ينزل" وهو قول المهاجرين عمر وعلي وابن مسعود
رضي الله تعالى عنهم فأما الأنصار كأبي سعيد
وحذيفة وزيد بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى
عنهم قالوا: لا يجب الاغتسال بالإكسال ما لم
ينزل وبه أخذ سليمان الأعمش رضي الله تعالى
عنه لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما الماء من الماء".
ولنا: حديث شاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"إذا التقى الختانان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل"، وهو قول المهاجرين عمر وعلي وابن مسعود والأصح أن عمر رضي الله
تعالى عنه لم يسوغ للأنصار هذا الاجتهاد حتى
قال لزيد أي عدو نفسك ما هذه الفتوى التي
تقشعت عنك فقال سمعت عمومتي من الأنصار يقلن
ذلك فجمعهن عمر وسألهن فقلن كنا نفعل ذلك على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نغتسل
فقال عمر أو كان يعلم به رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقلن لا فقال ليس بشيء وبعث إلى
عائشة رضي الله تعالى عنها فسألها فقالت فعلت
ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا
فقال عمر رضي الله تعالى عنه لزيد لئن عدت إلى
هذا لآذيتك. والمعنى أن هذا الفعل سبب
لاستطلاق وكاء المنى عادة فقام مقام خروج
المني احتياطا لأنه مغيب عن بصره فربما لم يقف
عليه ما خرج لقلته فالموضع موضع الاحتياط من
هذا الوجه.
ج / 1 ص -67-
قال:
"ولا يجب الغسل بالجماع فيما دون الفرج ما لم
ينزل" لأن ما دون الفرج ليس نظير الفرج في
استطلاق وكاء المنى بمسه. والدليل عليه حكم
الحد وإليه أشار علي رضي الله تعالى عنه في
الإكسال فقال يوجب فيه الحد ولا يوجب فيه صاعا
من ماء.
قال: "ومن احتلم ولم ير شيئا فلا غسل عليه"
لأنه تفكر في النوم فهو كالتفكر في اليقظة إذا
لم يتصل به الإنزال قال "فإن علم أنه لم يحتلم
ولكنه استيقظ فوجد على فخذه أو فراشه مذيا
فعليه الغسل" عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى احتياطا وقال أبو يوسف لا غسل عليه لأنه
بات طاهرا بيقين فلا يصبح جنبا بالشك وخروج
المذي يوجب الوضوء دون الاغتسال. وحجتهما في
ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:
"من أصبح فوجد ماء ولم يتذكر شيئا فليغتسل ومن
احتلم ثم أصبح على جفاف فلا غسل عليه"، ولسنا نوجب الاغتسال بخروج المذي إنما نوجبه بخروج المنى ولكن من
طبع المنى أن يرق بإصابة الهواء فالظاهر أن
هذا الخارج كان منيا قد رق قبل أن يستيقظ
ومراد محمد رحمه الله تعالى من قوله فوجد مذيا
ما يكون صورته صورة المذى لا حقيقة المذي.
ثم إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى في هذه
المسألة ومسئلة المباشرة الفاحشة ومسئلة
الفأرة المنتفخة أخذ بالاحتياط وأبو يوسف رحمه
الله تعالى وافقه في الاحتياط في مسألة
المباشرة لوجود فعل من جهته هو سبب خروج المذي
وخالفه في الفصلين الآخرين لانعدام الفعل منه
ومحمد رحمه الله وافقه في الاحتياط في مسألة
النائم لأنه غافل عن نفسه فلا يحس بما يخرج
منه فكان الموضع موضع الاحتياط بخلاف الفصلين
الآخرين فإن المباشر ليس بغافل عن نفسه فيحس
بما يخرج منه.
قال: "والمرأة كالرجل في الاحتلام" لحديث أم
سليم حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن المرأة ترى في منامها مثل ما يرى الرجل
فقال:
"إن كان منها مثل ما يكون من الرجل فلتغتسل". وروي عن محمد رحمه الله تعالى أن المرأة إذا تذكرت الاحتلام
والتلذذ ولم تر شيئا فعليها الغسل لأن منيها
يتدفق في رحمها فلا يظهر وهو ضعيف فإن وجوب
الغسل متعلق بخروج المني والمني يخرج منها عند
المواقعة كما يخرج من الرجل.
قال: "وإذا احتلمت المرأة ثم أدركها الحيض فإن
شاءت اغتسلت وإن شاءت أخرت حتى تطهر من الحيض"
لأن الاغتسال للتطهير حتى تتمكن به من أداء
الصلاة وهذا لا يتحقق من الحائض قبل انقطاع
الدم وإن شاءت اغتسلت لأن استعمال الماء يعين
على درور الدم. وكان مالك رحمه الله تعالى
يقول عليها أن تغتسل بناء على أصله أن الجنب
ممنوع عن قراءة القرآن والحائض لا تمنع. قال:
"وإذا عرق الجنب أو الحائض في ثوب لم يضره"
لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر
الحائض من نسائه بالاتزار ثم كان يعانقها طول
الليل والحر حر
ج / 1 ص -68-
الحجاز
فكانا يعرقان لا محالة ولم يتحرز رسول الله
صلى الله عليه وسلم من عرقها ولأنه ليس على
بدن الإنسان الجنب والحائض نجاسة عينية فهو
وأعضاء المحدث سواء.
قال: "وإذا وقعت الجيفة أو النجاسة في الحوض
فإن كان صغيرا فهو قياس الأواني والجباب يتنجس
والأصل فيه الحديث يغسل الإناء من ولوغ الكلب
سبعا وإن كان الحوض كبيرا فهو قياس البحر لا
يتنجس" لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر:
"هو الطهور ماؤه والحل ميتته". والفصل بين الصغير والكبير يعرف بالخلوص فإذا كان بحال لو ألقى
فيه الصبغ يظهر أثره في الجانب الآخر فهو صغير
لأنا علمنا أن النجاسة تخلص إلى الجانب الآخر
كما خلص اللون هكذا حكى عن الشيخ الإمام أبي
حفص الكبير رحمه الله تعالى.
والمذهب الظاهر في تفسير الخلوص أنه إذا كان
بحال لو حرك جانب منه يتحرك الجانب الآخر فهو
صغير وإن كان لا يتحرك الجانب الآخر فهو كبير.
وصفة التحريك المروى فيه عن أبي حنيفة رحمه
الله تعالى أنه اعتبر تحريك المتوضئ، وأبو
يوسف رحمه الله اعتبر تحريك المنغمس، فرواية
أبي حنيفة أوسع.
ثم قال بعض مشايخنا في الحوض الكبير: أنه لا
يتنجس بوقوع النجاسة فيه لأنه كالماء الجاري
والأصح أن الموضع الذي وقع فيه النجاسة يتنجس
وإليه إشار في الكتاب وقال "لا بأس بأن يتوضأ
من ناحية أخرى" ومعناه أنه يترك من موضع
النجاسة قدر الحوض الصغير ثم يتوضأ لأن
النجاسة لا تخلص إلى ما وراء ذلك هو مفسر في
الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى.
وعلى هذا قالوا: من استنجى في موضع من حوض لا
يجزئه أن يتوضأ من ذلك الموضع قبل تحريك
الماء، وأما التقدير بالمساحة فقد قال أبو
عصمة كان محمد رحمه الله تعالى يقدر في ذلك
عشرة في عشرة ثم رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى وقال لا أقدر فيه شيئا والمشهور عن
محمد رحمه الله أنه لما سئل عن هذا فقال إن
كان مثل مسجدي هذا فهو كبير فلما قام مسحوا
مسجده فروى أنه كان ثمانيا في ثمان وروى أنه
اثنا عشر في اثني عشر فكان من روى ثمانيا في
ثمان مسح المسجد من داخل ومن روى اثني عشر
مسحه من خارج ولا عبرة بعمق الماء حتى قالوا
إذا كان بحيث لا ينحسر بالاغتراف فهذا القدر
يكفي هذا كله في بيان مذهبنا.
وقال الشافعي: إذا كان الماء بقدر القلتين لا
يتنجس بوقوع النجاسة فيه حتى يتغير أحد أوصافه
والقلة اسم لجرة تحمل من اليمن تسع فيها
قربتين وشيئا فالقلتان خمس قرب كل قربة خمسون
منا فيكون جملته مائتين وخمسين منا. واستدل
بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل خبثا"، قلنا:
هذا ضعيف فقد قال الشافعي رحمه الله تعالى في
كتابه بلغني بإسناد لم يحضرني من ذكره "إذا
بلغ الماء قلتين" الحديث ومثل هذا دون
ج / 1 ص -69-
المرسل
ثم قيل معناه ليس لهذا القدر من القوة ما
يحتمل النجاسة فيتنجس به كما يقال مال فلان لا
يحتمل السرف لقلته. وقد تكلم الناس في القلة
فقيل إنها القامة وقيل: إنه رأس الجبل فيكون
معناه إذا بلغ ماء الوادي قامتين أو رأس
الجبلين ومثل هذا يكون معناه بحرا وبه نقول
وكان مالك رحمه الله تعالى يقول القليل
والكثير سواء لا يتنجس إلا بتغير أحد أوصافه
وقد بينا مذهبه.
قال: "ويتوضأ الرجل من الحوض الذي يخاف أن
يكون فيه قذر ولا يستيقنه قبل أن يسأل عنه"
لأن الأصل في الماء الطهارة فعليه التمسك به
حتى يتبين له غيره وخوفه بناء على الظن والظن
لا يغني من الحق شيئا وليس عليه أن يسأل عنه
لأن السؤال للحاجة عند عدم الدليل وأصل
الطهارة دليل مطلق له الاستعمال فلا حاجة إلى
السؤال ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنه أنكر
على عمرو بن العاص سؤاله بقوله يا صاحب الحوض
لا تخبرنا وكذلك إن أنتن من غير أن يكون فيه
جيفة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى
على بئر رومة فوجد ماءها منتنا فأخذه بفيه ثم
مجه في البئر فعاد الماء طيبا ولأن تغير اللون
قد يكون بوقوع الطاهر كالأوراق وغيرها وتغير
الرائحة يكون بطول المكث كما قيل الماء إذا
سكن منتنه تحرك نتنه وإذا طال مكثه ظهر خبثه
فلا يزول أصل الطهارة بهذا المحتمل فلهذا لا
ندع التوضؤ به.
قال: "وإذا نسى المتوضىء مسح رأسه فأصابه ماء
المطر مقدار ثلاثة أصابع فمسحه بيده أو لم
يمسحه أجزأه عن مسح الرأس" وكذلك الجنب إذا
وقف في المطر الشديد حتى غسله وقد أنقى فرجه
وتمضمض واستنشق وكذلك المحدث إذا جرى الماء
على أعضاء وضوئه لأن الماء مطهر بنفسه قال
الله تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] والطهور الطاهر في نفسه المطهر لغيره فلا يتوقف حصول
التطهر به على فعل يكون منه كالنار فإنه لا
يتوقف حصول الاحتراق بها على فعل يكون من
العبد وإذا ثبت هذا في المغسول ثبت في الممسوح
بطريق الأولى لأنه دون المغسول والمعتبر فيه
إصابة البلة. وعلى هذا الأصل قلنا بجواز
الوضوء والغسل من الجنابة بدون النية.
وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز إلا بالنية
لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى"، ولأنها طهارة هي عبادة فلا تتأدى بدون النية كالتيمم وهذا لأن
معنى العبادة لا يتحقق إلا بقصد وعزيمة من
العبد بخلاف غسل النجاسة فإنه ليس بعبادة.
ولنا: آية الوضوء ففيها تنصيص على الغسل
والمسح وذلك يتحقق بدون النية فاشتراط النية
يكون زيادة على النص إذ ليس في اللفظ المنصوص
ما يدل على النية والزيادة لا تثبت بخبر
الواحد ولا بالقياس بخلاف التيمم فإنه عبارة
عن القصد لغة قال الله تعالى:
{وَلا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
[البقرة: 267] ففي اللفظ ما يدل على اشتراط
النية فيه ولأنها طهارة بالماء فكانت كغسل
النجاسة.
ج / 1 ص -70-
وتأثير
ما قلنا أن الماء مطهر في نفسه والحدث الحكمي
دون النجاسة العينية فإذا عمل الماء في إزالة
النجاسة العينية بدون النية ففي إزالة الحدث
الحكمى أولى ونحن نسلم أن الوضوء بغير نية لا
يكون عبادة ولكن معنى العبادة فيها تبع غير
مقصود إنما المقصود إزالة الحدث وزوال الحدث
يحصل باستعمال الماء فوجد شرط جواز الصلاة وهو
القيام إليها طاهرا بين يدي الله تعالى فيجوز
كما لو لم يكن محدثا في الابتداء وبه نجيب عن
استدلاله بالحديث فإن المراد أن ثواب العمل
بحسب النية وبه نقول وعن التيمم فإن التراب
غير مزيل للحدث أصلا ولهذا لو أبصر المتيمم
الماء كان محدثا بالحدث السابق فلم يبق فيه
إلا معنى التعبد وذلك لا يحصل بدون النية.
يوضح الفرق أن النية تقترن بالفعل ولا بد من
الفعل في التيمم حتى إذا أصاب الغبار وجهه
وذراعيه لا يجزئه عن التيمم وفي الوضوء
والاغتسال لا معتبر بالفعل حتى إذا سال ماء
المطر على أعضائه زال به الحدث فكذلك بدون
النية.
قال: "ولا بأس بالتمسح بالمنديل بعد الوضوء
والغسل" لحديث قيس بن سعد رضي الله تعالى عنه
قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
يوم شديد الحر فوضعنا له ماء فاغتسل والتحف
بملحفة ورسية حتى أثر الورس في عكن رسول الله
ولأنه لا بأس بأن يلبس ثيابه فإن من اغتسل في
ليلة باردة لا يأمره أحد بالمكث عريانا حتى
يجف فلعله يموت قبله ولا فرق بين التمسح
بثيابه أو بمنديل ولأن المستعمل ما زايل العضو
فأما البلة الباقية غير مستعملة حتى لو جف كان
طاهرا فلا بأس بأن يمسح ذلك بالمنديل.
قال: "ولا بأس للجنب أن ينام أو يعاود أهله
قبل أن يتوضأ" لحديث الأسود عن عائشة رضي الله
تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يصيب من أهله ثم ينام من غير أن يمس ماء فإذا
انتبه ربما عاود وربما قام فاغتسل وفي حديث
أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة بغسل واحد
فكنا نتحدث بذلك فيما بيننا ونقول إن النبي
صلى الله عليه وسلم أعطي قوة أربعين رجلا.
قال: "وإن توضأ قبل أن ينام فهو أفضل" لحديث
عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم أصاب من أهله فتوضأ ثم نام وهذا لأن
الاغتسال والوضوء محتاج إليه للصلاة لا للنوم
و المعاودة إلا أنه إذا توضأ ازداد نظافة فكان
أفضل. "فإن أراد أن يأكل فالمستحب له أن يغسل
يديه ويتمضمض ثم يأكل" لحديث ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما أنه قال:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنب أيأكل
ويشرب قال: "نعم إذا توضأ" والمراد غسل اليد لأن يده لا تخلو عن نجاسة عادة فالمستحب إزالتها
بالماء وكذلك لو لم يتوضأ حتى شرب كان من وجه
شاربا للماء المستعمل فإن ترك ذلك لم يضره لأن
طهارة يده أصل وفي النجاسة شك.
قال: "وإن كانت الجبائر في موضع من مواضع
الوضوء مسح عليها" والأصل فيه ما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم شج وجهه يوم أحد فداواه
بعظم بال وعصب عليه فكان يمسح على
ج / 1 ص -71-
العصابة ولما كسرت إحدى زندى علي رضي الله
تعالى عنه يوم حنين حتى سقط اللواء من يده قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في
يساره فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة"،
فقال ماذا أصنع بجبائري فقال:
"امسح
عليها". والحاصل أنه إذا كان لا يضره الغسل بنوع من الماء حار أو بارد
فعليه أن يغسله وإن كان بحيث يضره المسح على
الجبائر لم يمسح عليه لأن الغسل أقوى من المسح
ولما سقط الغسل عن هذا الموضع لخوف الضرر
فكذلك المسح وإن كان لا يضره المسح مسح عليها
لأن الطاعة بحسب الطاقة، فإن ترك المسح وهو لا
يضره قال في الأصل لم يجزه في قول أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يذكر قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى وفي غير رواية الأصول
عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجزئه وقيل: هو
قوله الأول ثم رجع عنه إلى قولهما.
وجه قولهما: أنه لو ترك الغسل وهو لا يضره لم
يجزه فكذلك المسح اعتبارا للبدل بالأصل. وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى قال لو ألزمناه المسح
كان بدلا عن الغسل ونصب الإبدال بالآحاد من
الأخبار لا يجوز ثم وجوب البدل في موضع كان
يجب الأصل وها هنا لو كان هذا الموضع باديا لم
يجب غسله فكذلك لا يجب المسح على الجبيرة بدلا
عنه وبه فارق الخف.
قال: "وإن مسح على الجبائر ثم دخل في الصلاة
ثم سقطت الجبائر عنه مضى على صلاته" وهذا إذا
كان سقوطها عن غير برء فإن كان عن برء فعليه
غسل ذلك الموضع واستقبال الصلاة لزوال العذر
فأما إذا سقط عن غير برء فالمسح على الجبائر
كالغسل لما تحته ما دامت العلة باقية ولهذا لا
يتوقف بخلاف المسح بالخف.
قال: "وإن كانت الجراحة في جانب رأسه لم يجزه
إلا أن يمسح على الجانب الآخر مقدار المسح"
لأن المفروض من المسح مقدار ربع الرأس وقد وجد
هذا القدر من المحل صحيحا فلا حاجة به إلى
المسح على الجبائر والعراقيون يقولون في مثل
هذا إن ذهب عير فعير في الرباط.
قال: "وإذا قلس أقل من ملء فيه فلا وضوء عليه"
إلا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول
ثبت من أصلنا أن القلس حدث فلا فرق بين قليله
وكثيره كالخارج من السبيلين.
ولنا: قول علي رضي الله تعالى عنه حين عد
الأحداث فقال أو دسعة 1 تملأ الفم ولأن القياس
أن القلس لا يكون حدثا لأن الحدث خارج نجس
بقوة نفسه والقلس مخرج لا خارج فإن من طبع
الأشياء السيالة أنها لا تسيل من فوق إلى فوق
إلا بدافع دفعها أو جاذب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "أو دسعه" قال في اللسان ودسع فلان بقيئة
إذا رمى به، وفي حديث على، كرم الله وجهه،
وذكر ما يوجب الوضوء فقال: أو دسعة تملأ الفم
يريد الدفعة الواحدة من القئ اهـ "كتبه
مصححه".
ج / 1 ص -72-
جذبها
فهو كالدم إذا ظهر على رأس الجرح فمسحه، ولكنا
تركنا القياس عند ملء الفم بالآثار فبقي ما
دونه على أصل القياس ولأن في القليل منه بلوى
فإن من يملأ من الطعام إذا ركع في الصلاة يعلو
شيء إلى حلقه فللبلوى جعلنا القليل عفوا
والدليل عليه إذا تجشأ لم ينتقض وضوءه وهو لا
يخلو عن قليل شيء ولهذا خبث ريحه وبهذا فارق
الخارج من السبيلين فإن الفساء جعل حدثا.
وحد ملء الفم أن يعمه أو يمنعه من الكلام،
وقيل: أن يزيد على نصف الفم وعلى هذا حكاية
عابد ببلخ يقال له علي بن يونس أن ابنته سألته
فقالت إن خرج من حلقي شيء فقال لها إذا وجدت
طعمه في حلقك فأعيدى الوضوء ثم قال رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: "لا يا
علي حتى يملأ الفم"، قال فجعلت على نفسي أن لا
أفتي بعد هذا أبدا.
"فإن قاء ملأ الفم مرة أو طعاما أو ماء فعليه
الوضوء" لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى من
صلاته ما لم يتكلم".
وعلى قول الشافعي القيء ليس بحدث بناء على
قوله في الخارج من غير السبيلين على ما نبينه.
وقال الحسن رحمه الله تعالى إذا شرب الماء
وقاء من ساعته لا يخالطه شيء لا ينتقض وضوءه
وجعله قياس خروج الدمع والعرق والبزاق، وهذا
فاسد فإنه بالوصول إلى المعدة يتنجس فإنما
يخرج وهو نجس فكان كالمرة والطعام سواء.
وإن قاء بلغما أو بزاقا لم ينتقض وضوءه أما
البزاق طاهر وبخروج الطاهر من البدن لا ينتقض
الوضوء والبلغم كذلك في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله
تعالى هو نجس ينقض الوضوء إذا ملأ الفم، قيل
إنما أجاب أبو يوسف رحمه الله تعالى فيما يعلو
من جوفه وهما فيما ينحدر من رأسه، وهذا ضعيف
فالمنحدر من رأسه طاهر بالاتفاق سواء خرج من
جانب الفم أو الأنف لأن الرأس ليس بموضع
للنجاسات وإنما الخلاف فيما يعلو من الجوف
فأبو يوسف رحمه الله يقول البلغم إحدى الطبائع
الأربعة فكان نجسا كالمرة والصفراء ولأن خروجه
من موضع النجاسات فكان نجسا بالمجاورة. وأبو
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا البلغم
بزاق والبزاق طاهر ومعنى هذا أن الرطوبة في
أعلى الحلق ترق فتكون بزاقا وفي أسفله تثخن
فتكون بلغما وبهذا تبين أن خروجه ليس من
المعدة بل من أسفل الحلق وهو ليس بموضع
للنجاسة فالبلغم هو النخامة وقال صلى الله
عليه وسلم لعمار رضي الله تعالى عنه:
"ما نخامتك ودموع عينك والماء الذي في ركوتك إلا سواء".
قال "وإن قاء دما فعلى قول أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله تعالى ينتقض وضوءه بقليله
وكثيره" وقال محمد رحمه الله تعالى لا ينتقض
وضوءه حتى يملأ الفم لأنه أحد أنواع القيء
فيعتبر بسائر الأنواع. واحتجا بأن المعدة ليس
بموضع الدم فخروج الدم
ج / 1 ص -73-
من
فرجه في الجوف فإذا سال بقوة نفسه إلى موضع
يلحقه حكم التطهير كان ناقضا للوضوء كالسائل
من جرح في الظاهر. وروى الحسن بن زياد عن أبي
حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال هذا إذا قاء
دما رقيقا فإن كان شبه العلق لم ينتقض الوضوء
حتى يملأ الفم لأنه ليس بدم في الحقيقة إنما
هو سوداء محترق.
قال: "وإن خرج من جرحه دم أو صديد أو قيح فسال
عن رأس الجرح نقض الوضوء عندنا" وهو قول علي
وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما. وقال
الشافعي رحمه الله تعالى لا ينتقض الوضوء وهو
قول ابن عباس وأبي هريرة رضي الله تعالى
عنهما: واحتج الشافعي رحمه الله تعالى بقوله
صلى الله عليه وسلم:
"لا وضوء إلا من حدث"، قيل: وما
الحدث قال: "صوت أو ريح"
وهذا إشارة إلى موضع الحدث لا عينيه فدل أن
الحدث ما يكون من السبيل المعتاد والمعنى فيه
أن قليل الخارج من غير السبيل ليس بحدث
بالاتفاق وما يكون حدثا فالقليل منه والكثير
سواء كالخارج من السبيل والدليل عليه الريح
إذا خرج من الجرح لم يكن حدثا بخلاف ما إذا
خرج من السبيل وهذا لأن الشرع أقام المخرج
مقام الخارج في ثبوت حكم الحدث فما لا يخرج
منه إلا النجاسة جعل الخارج منه حدثا ونجسا
وما يختلف الخارج منه لم يكن حدثا وإن خرج منه
ما هو نجس تيسيرا للأمر.
ولنا: حديث زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الوضوء من كل دم سائل". وقال سلمان رضي الله تعالى عنه مر بي رسول الله صلى الله عليه
وسلم والدم يسيل من أنفي فقال:
"أحدث لما حدث بك وضوءا"،
والمعنى فيه أنه خارج نجس وصل إلى موضع يلحقه
حكم التطهير فكان حدثا كالخارج من السبيل وهذا
لأن الحكم للخارج دون المخرج حتى يختلف الواجب
باختلاف الخارج فخروج المني يوجب الغسل وخروج
المذي يوجب الوضوء والمخرج واحد وهو بخلاف
القليل الذي لم يسل لأنه ما صار خارجا إنما
تقشر عنه الجلد فظهر ما هو في موضعه والشيء في
موضعه لا يعطي له حكم النجاسة وفي السبيل وإن
قل ما ظهر فقد فارق مكانه وكذلك الريح إذا خرج
من السبيل ومعه قليل شيء وذلك كاف في انتقاض
الطهارة بخلاف الخارج من غير السبيل.
يقرر ما قلنا أنه وجب عليه غسل ذلك الموضع
لمعنى من بدنه، فيكون حدثا كالخارج من السبيل
بخلاف ما إذا لم يسل فإنه لم يلزمه غسل ذلك
الموضع وبخلاف ما إذا أصابته نجاسة لأن وجوب
غسله لم يكن لمعنى من بدنه فلا تتغير صفة
طهارة بدنه.
ثم حاصل المذهب أن الدم إذا سال بقوة نفسه حتى
انحدر انتقض به الوضوء وإن لم ينحدر ولكنه علا
فصار أكثر من رأس الجرح لم تنتقض به الطهارة
إلا في رواية شاذة عن محمد رحمه الله تعالى
فإنه إن مسحه قبل أن يسيل فإن كان بحال لو ترك
لسال فعليه
ج / 1 ص -74-
الوضوء
وإن كان بحال لو تركه لم يسل فلا وضوء عليه
لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال في
الدم إذ سال عن رأس الجرح فهو حدث وإلا فلا.
قال: "فإن بزق فخرج من بزاقه دم فإن كان
البزاق هو الغالب فلا وضوء عليه" لأن الدم ما
خرج بقوة نفسه وإنما أخرجه البزاق والحكم
للغالب. "وإن كان الدم هو الغالب فعليه
الوضوء" لأنه خارج بقوة نفسه وإن كانا سواء
ففي القياس لا وضوء عليه لأنه تيقن بصفة
الطهارة وهو في شك من الحدث ولكنه استحسن فقال
البزاق سائل بقوة نفسه فما ساواه يكون سائلا
بقوة نفسه أيضا ثم اعتبار أحد الجانبين يوجب
الوضوء واعتبار الجانب الآخر لا يوجب الوضوء
فالأخذ بالاحتياط أولى لقوله صلى الله عليه
وسلم:
"ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا وقد غلب
الحرام الحلال". وفي الكتاب قال: "أحب إلي أن يعيد الوضوء"، وهو إشارة إلى أنه غير
واجب وهو اختيار محمد بن إبراهيم الميداني
رحمه الله تعالى وأكثر المشايخ على أنه يجب
الوضوء لما بينا.
قال: "والقهقهة في الصلاة تنقض الوضوء والتبسم
لا ينقضه" أما التبسم فلحديث جرير بن عبد الله
البجلي قال ما رآني رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا تبسم ولو في الصلاة وروى أنه صلى
الله عليه وسلم تبسم في صلاته فلما فرغ سئل عن
ذلك فقال:
"أتاني جبريل
عليه الصلاة والسلام فقال من صلى عليك مرة صلى
الله عليه عشرا" فدل أن التبسم لا يضر المصلي.
فأما القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء قياسا
وهو قول الشافعي رحمه الله لأن انتقاض الوضوء
يكون بالخارج النجس ولم يوجد ولو كان هذا حدثا
لم يفترق الحال فيه بين الصلاة وغيرها كسائر
الأحداث وقاس بالقهقهة في صلاة الجنازة وسجدة
التلاوة.
واستحسن علماؤنا رحمهم الله لحديث زيد بن خالد
الجهني قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي بأصحابه رضوان الله عليهم إذ أقبل أعمى
فوقع في بئر أو ركية هناك فضحك بعض القوم فلما
فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قال:
"من ضحك منكم فليعد الوضوء والصلاة". وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:
"من ضحك في صلاته حتى قرقر فليعد الوضوء والصلاة"، وتركنا القياس بالسنة. والضحك في غير الصلاة ليس في معنى الضحك في
الصلاة لأن حال الصلاة حال المناجاة مع الله
تعالى فتعظم الجناية منه بالضحك في حال
المناجاة وصلاة الجنازة ليست بصلاة مطلقة
وكذلك سجدة التلاوة والمخصوص من القياس بالنص
لا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه.
قال: "ولا ينقض النوم الوضوء ما دام قائما أو
راكعا أو ساجدا أو قاعدا وينقضه مضطجعا أو
متكئا أو على إحدى أليتيه". أما نوم المضطجع
ناقض للوضوء وفيه وجهان:
أحدهما: أن عينه حدث بالسنة
المروية فيه لأن كونه طاهرا ثابت بيقين ولا
يزال اليقين إلا بيقين مثله وخروج شيء منه ليس
بيقين فعرفنا أن عينه حدث.
ج / 1 ص -75-
والثاني: وهو أن الحدث ما لا يخلو عنه النائم عادة فيجعل كالموجود حكما فإن
نوم المضطجع يستحكم فتسترخى مفاصله وإليه أشار
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "العينان وكاء
السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء"،
وهو ثابت عادة كالمتيقن به.
وكان أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه
يقول لا ينتقض الوضوء بالنوم مضطجعا حتى يعلم
بخروج شيء منه وكان إذا نام أجلس عنده من
يحفظه فإذا انتبه سأله فإن أخبر بظهور شيء منه
أعاد الوضوء. والمتكىء كالمضطجع لأن مقعده
زائل عن الأرض فأما القاعد إذا نام لم ينتقض
وضوءه. وقال مالك رحمه الله إن طال النوم
قاعدا انتقض وضوءه. وحجتنا حديث حذيفة رضي
الله تعالى عنه قال نمت قاعدا في المسجد حتى
وقع ذقني على صدري فوجدت برد كف على ظهري فإذا
هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعلي
في هذا وضوء فقال:
"لا حتى تضطجع". ولأنه
مقعده مستقر على الأرض فيأمن خروج شيء منه فلا
ينتقض وضوءه كما لو لم يطل نومه. فأما إذا نام
قائما أو راكعا أو ساجدا لم ينتقض وضوءه
عندنا، وعند الشافعي رضي الله عنه ينتقض وضوءه
لحديث صفوان بن عسال المرادي قال كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا
أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا من
جنابة لكن من بول أو غائط أو نوم فهذا دليل
على أن النوم حدث إلا أنا خصصنا نوم القاعد من
هذا العموم بدليل الإجماع فبقى ما سواه على
أصل القياس ولأن مقعده زائل عن الأرض في حال
نومه فهو كالمضطجع.
ولنا: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا وضوء على من نام قائما أو راكعا أو ساجدا إنما الوضوء على من نام
مضطجعا فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله"، وهو المعنى. فإن الاستمساك باق مع النوم في هذه الأحوال بدليل أنه
لم يسقط وبقاء الاستمساك يؤمنه من خروج شيء
منه فهو كالقاعد بخلاف المضطجع.
وعن أبي يوسف رحمه الله قال: إذا تعمد النوم
في السجود انتقض وضوءه وإن غلبته عيناه لم
ينتقض لأن القياس في نوم الساجد أنه حدث كنوم
المضطجع ومن الناس من يعتاد النوم على وجهه.
تركنا القياس للبلوى فيه للمتهجدين وهذا إذا
غلبته عيناه لا إذا تعمد.
وجه ظاهر الرواية ما روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "إذا نام العبد في سجوده يباهي الله تعالى به ملائكته فيقول انظروا إلى
عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي"،
وإنما يكون جسده في الطاعة إذا بقى وضوءه ولأن
الاستمساك باق فإنه لو زال لسقط على أحد شقيه.
وذكر بن شجاع عن محمد رحمه الله تعالى أن نوم
القائم والراكع والساجد إنما لا يكون حدثا إذا
كان في الصلاة فأما خارج الصلاة يكون حدثا،
وفي ظاهر الرواية لا فرق بينهما لبقاء
الاستمساك، فإن كان القاعد مستندا إلى شيء
فنام قال الطحاوي رحمه الله تعالى إن كان بحال
لو أزيل سنده عنه يسقط انتقض وضوءه لزوال
الاستمساك.
ج / 1 ص -76-
والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا
ينتقض وضوءه على كل حال لأن مقعده مستقر على
الأرض فيأمن خروج شيء منه. فإن نام قاعدا فسقط
روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال أن
انتبه قبل أن يصل جنبه إلى الأرض لم ينتقض
وضوءه لأنه لم يوجد شيء من النوم مضطجعا وهو
الحدث وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال ينتقض
وضوءه لزوال الاستمساك بالنوم حين سقط. وعن
محمد رحمه الله تعالى إن انتبه قبل أن يزايل
مقعده الأرض لم ينتقض وضوءه وإن زايل مقعده
الأرض قبل أن ينتبه انتقض وضوءه.
قال: "ولا ينقض الكلام الفاحش الوضوء" لحديث
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "الوضوء مما
خرج يعنى الخارج النجس". ولأنه لا كلام أفحش
من الردة والمتوضىء إذا ارتد نعوذ بالله ثم
أسلم فهو على وضوئه. والذي روى عن عائشة رضي
الله تعالى عنها أنها قالت للمتسابين إن بعض
ما أنتم فيه شر من الحدث فجددوا الوضوء إنما
أمرت به استحسانا ليكون الوضوء على الوضوء
مكفرا لذنوبهما.
قال: "ولا وضوء في شيء من الأطعمة ما مسته
النار وما لم تمسه فيه سواء" وأصحاب الظواهر
يوجبون الوضوء مما مسته النار، ومنهم من أوجب
من لحم الإبل خاصة لحديث أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"توضئوا مما مسته النار" وفي حديث آخر:
"توضئوا من لحوم الإبل ولا تتوضئوا من لحوم
الغنم".
ولنا: حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من كتف شاة
ثم صلى ولم يتوضأ وقال جابر توضأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلما فرغ قام ليخرج فرأى
عرقا أي عظما في يد بعض صبيانه فأكل منه ثم
صلى ولم يتوضأ. وحديث أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه ضعيف قد رده ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما فقال ألسنا نتوضأ بالحميم ولو ثبت
فالمراد منه غسل اليد بدليل حديث عكراش بن
ذؤيب قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيدي فأدخلني بيت أم سلمة رضي الله تعالى عنها
فأتينا بقصعة كثيرة الثريد والودك فجعلت آكل
من كل جانب فقال صلى الله عليه وسلم "كل مما يليك فإن الطعام واحد". ثم أتينا بطبق من رطب فجعلت آكل مما يليني فقال:
"أجل يدك فإن الرطب ألوان". ثم أتي بماء فغسل يديه وقال:
"هذا هو الوضوء مما مسته النار"، ولهذا فصل في روايته بين لحم الإبل وغيره لأن للحم الإبل من
اللزوجة ما ليس لغيره والمعنى أنه لو أكل
الطعام نيئا لم يلزمه الوضوء فالنار لا تزيده
إلا نظافة.
قال: "ويخلل لحيته وأصابعه في الوضوء" فإن لم
يخلل لحيته أجزأه وأما تخليل الأصابع سنة
لقوله صلى الله عليه وسلم:
"خللوا أصابعكم حتى لا يتخللها نار جهنم". وأما اللحية فقد روى المعلي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله
تعالى أن مواضع الوضوء ما ظهر منها وخلال
الشعر ليس من مواضع الوضوء وهذا إشارة إلى أنه
يلزمه إمرار الماء على ظاهر
ج / 1 ص -77-
لحيته.
ووجهه أن البشرة التي استترت بالشعر كان يجب
امرار الماء عليها قبل نبات الشعر فإذا استترت
بالشعر يتحول الحكم إلى ما هو الظاهر وهو
الشعر. وعن أبي حنيفة وزفر رحمهما الله تعالى
قالا إن مسح من لحيته ثلثا أو ربعا أجزأه،
ووجهه أن الاستيعاب في الممسوح ليس بشرط كما
في المسح بالرأس. وعن أبي يوسف رحمه الله
تعالى قال إن ترك مسح اللحية أجزأه لأنه لا
يجتمع في عضو واحد غسل ومسح وغسل الوجه فرض
فلا يجب المسح فيه واللحية من جملة الوجه فأما
تخليل اللحية فقد ذكر محمد رحمه الله تعالى في
شرح الآثار أنه بالخيار إن شاء فعل وإن شاء لم
يفعل فلم يعده من سنن الوضوء كما أشار إليه
أبو حنيفة رحمه الله تعالى لأنه باطن لا يبدو
للناظر. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى
التخليل سنة لحديث ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ وقال أنس
رضي الله تعالى عنه رأيت أصابع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في لحيته كأنها أسنان المشط
وقال:
"نزل علي جبريل
صلوات الله عليه فأمرني أن أخلل لحيتي إذا
توضأت".
قال: "وإذا حت النجاسة عن الثوب لم يجزه إلا
في المني اليابس خاصة" لأن الثوب رقيق تتداخل
النجاسة في أجزائه فلا يخرجه الماء فأما الحت
يزيل ما على ظاهره دون ما يتداخل في أجزائه.
فأما المنى فالكلام فيه في فصلين:
أحدهما: أنه نجس عندنا وقال
الشافعي رحمه الله طاهر لحديث ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما قال:
"المني كالمخاط
فأمطه عنك ولو بأذخرة" ولأنه أصل
لخلقة الآدمي فكان طاهرا كالتراب لاستحالة أن
يقال إن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
خلقوا من شيء نجس وهذا لأن المستحيل من غذاء
الحيوان إنما يكون نجسا إذا كان يستحيل إلى
نتن وفساد والمني غير مستحيل إلى فساد ونتن
فهو كاللبن والبيضة.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن
ياسر:
"إنما يغسل الثوب من خمس من البول والغائط والخمر والدم والمني"، ولأنه
خارج من البدن يجب الاغتسال بخروجه فكان نجسا
كدم الحيض وخروجه من مكان النجاسات فلا بد أن
يتنجس بالمجاورة وإن لم يكن نجسا في نفسه
وكونه أصل خلقه الآدمي لا ينفي صفة النجاسة
عنه كالعلقة والمضغة وأن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما شبهه بالمخاط في المنظر لا في
الحكم وأمر بالإماطة ليتمكن من غسله فإن قبل
الإماطة تنتشر النجاسة في الثوب إذا أصابه
الماء.
والفصل الثاني: أنه ما دام
رطبا لا يطهر إلا بالغسل فإن جف فحته وفرك
الثوب القياس أن لا يطهر لأنه دم إلا أنه نضيج
فهو كسائر أنواع الدم لا يطهر إلا بالغسل.
استحسن علماؤنا رحمهم الله تعالى فقالوا يطهر
بالفرك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لعائشة رضي الله تعالى عنها في المني:
"إذا رأيتيه رطبا فاغسليه وإذا رأيتيه يابسا
فافركيه". وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها كنت أفرك المني من ثوب رسول الله
وهو يصلي،
ج / 1 ص -78-
ولأن
جرم المني لا يتداخل في أجزاء الثوب بل هو على
ظاهره يزول بالفرك فهو نظير سيف المجاهد وسكين
القصاب إذا مسحه بالتراب يطهر به.
وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في
المني إذا أصاب البدن لا يطهر به إلا بالغسل
لأن لين البدن يمنع زوال أثره بالحت. وروى عن
محمد رحمه الله تعالى قال إذا كان المني غليظا
فجف يطهر بالفرك وإن كان رقيقا لا يطهر إلا
بالغسل وقال إذا أصاب المني ثوبا ذا طاقين
فالطاق الأعلى يطهر بالفرك والأسفل لا يطهر
إلا بالغسل لأنه إنما يصيبه البلة دون الجرم
وهذه مسألة مشكلة فإن الفحل لا يمني حتى يمذي
والمذي لا يطهر بالفرك إلا أنه جعل المذي في
هذه الحالة مغلوبا مستهلكا بالمني فكان الحكم
للمني دون المذي.
قال: "وإن أصابت النجاسة الخف أو النعل فما
دام رطبا لا يطهر إلا بالغسل" لأن المسح
بالأرض لا يزيله إلا في رواية عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى قال إذا مسح بالأرض حتى لم
تبق عين النجاسة ولا رائحتها يحكم بطهارة الخف
واعتبر البلوى فيه للناس. وإن كان يابسا فهو
على وجهين إما أن لا يكون للنجاسة جرم كالبول
والخمر فلا يطهر إلا بالغسل لأن البلة تداخلت
في أجزاء الخف وليس على ظاهره جرم حتى يزول
بالمسح بالأرض. فأما إذا كانت النجاسة لها جرم
كالعذرة والروث فمسحه بالأرض ففي القياس لا
يطهر إلا بالغسل وهو قول محمد وزفر رحمهما
الله تعالى لأن النجاسة تداخلت في أجزاء الخف
ألا ترى أنها بعد الجفاف تبقي متصلة بالخف فلا
يطهرها إلا الغسل كما إذا أصابت الثوب أو
البساط، استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما
الله تعالى فقالا يطهر بالمسح بالأرض لما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه في
صلاته فخلع الناس نعالهم فلما فرغ من صلاته
قال: "أتاني جبريل صلوات الله عليه وأخبرني أن فيهما أذى". فإذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه فإن رأى فيهما قذرا فليمسحه
بالأرض وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها يا
رسول الله إني ربما أمشي على مكان نجس ثم على
مكان طاهر فقال:
"الأرض يطهر بعضها بعضا"،
والمعنى فيه أن للجلد صلابة تمنع دخول أجزاء
النجاسة في باطنه ولهذه النجاسة جرم ينشف
البلة المتداخلة إذا جف فإذا مسحه بالأرض فقد
زال عين النجاسة فيحكم بطهارة الجلد كما كان
عليه قبل الإصابة بخلاف الثوب أو البساط فإنه
رقيق تتداخل أجزاء النجاسة في باطنه فلا يخرجه
إلا الماء فإن الماء للطافته يتداخل في أجزاء
الثوب فيخرج النجاسة ثم يخرج على أثرها
بالعصر.
قال: "ولا يجب عليه بتغميض الميت وغسله وحمله
وضوء ولا غسل إلا أن يصيب يده أو جسده شيء
فيغسله" لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
الوضوء مما خرج ولأن الميت المسلم طاهر ومس
الطاهر ليس بحدث ولو كان نجسا فمس النجس ليس
بحدث أيضا. والذي روي عن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من غمض ميتا
ج / 1 ص -79-
فليتوضأ
ومن غسل ميتا فليغتسل ومن حمل جنازة فليتوضأ"،
ضعيف قد رده ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
فقال أيلزمنا الوضوء بمس عيدان يابسة ولو ثبت
فالمراد من قوله:
"من غمض
ميتا فليتوضأ" غسل اليد
لأن ذلك لا يخلو عن قذارة عادة وقوله "من غسل
ميتا فليغتسل". إذا أصابته الغسالات النجسة
وقوله: "من حمل جنازة
فليتوضأ" إذا كان محدثا ليتمكن من أداء الصلاة عليه.
قال: "والحجامة توجب الوضوء وغسل موضع
المحجمة" وهو عندنا وعند الشافعي رضي الله
تعالى عنه يوجب غسل موضع المحجمة ولا يوجب
الوضوء لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
اغسل موضع المحاجم وحسبك. وعلماؤنا قالوا
معناه وحسبك من الاغتسال فإن أصحاب علي رضي
الله تعالى عنه كانوا يوجبون الاغتسال من ماء
الحمام وغسل الميت والحجامة فابن عباس رضي
الله تعالى عنهما قال هذا ردا عليهم فأما
الوضوء واجب بخروج النجس كما بينا فإن توضأ
ولم يغسل موضع المحجمة فإن كان أكثر من قدر
الدرهم لم تجزه الصلاة وإن كان دون ذلك
أجزأته. وعلى قول الشافعي رضي الله تعالى عنه
لا تجزئه فإن القليل من النجاسة كالكثير عنده
في المنع من جواز الصلاة.
قال: "وإن خرج من دبره دابة أو ريح ينتقض
وضوءه" والمراد بالدابة الدود وهو لا يخلو عن
قليل بلة تكون معه وقد بينا أن فيما يخرج من
الدبر القليل كالكثير في انتقاض الطهارة بخلاف
ما إذا سقط الدود عن رأس الجرح فإنه لا يخلو
عن بلة يسيرة وذلك القدر من الخارج ليس بناقض
للوضوء لأنه غير سائل بقوة نفسه فأما الريح
إذا خرج من الدبر كان ناقضا للوضوء لما روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه ويقول أحدثت أحدثت فلا ينصرفن
أحدكم من صلاته حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". فإن خرج الريح من الذكر فقد روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه حدث
لأنه خرج من موضع النجاسة، وعامة مشايخنا
يقولون هذا لا يكون حدثا وإنما هو اختلاج فلا
ينتقض به الوضوء. وكذلك إن خرج الريح من قبل
المرأة قال الكرخي رحمه الله تعالى إنه لا
يكون حدثا إلا أن تكون مفضاة يخرج منها ريح
منتن فيستحب لها أن تتوضأ ولا يلزمها ذلك لأنا
لا نتيقن بخروج الريح من موضع النجاسة.
قال: "وإن رعف قليلا لم يسل لم ينقض وضوءه"
ومراده إذا كان فيما صلب من أنفه لم ينزل إلى
ما لان منه فقد قال محمد رحمه الله تعالى في
النوادر إذا نزل الدم إلى قصبة الأنف انتقض به
الوضوء بخلاف البول إذا نزل إلى قصبة الذكر
لأن هناك النجاسة لم تصل إلى موضع يلحقه حكم
التطهير وفي الأنف قد وصلت النجاسة إلى موضع
يلحقه حكم التطهير فالاستنشاق في الجنابة فرض
وفي الوضوء سنة.
قال: "ويتوضأ صاحب الجرح السائل لوقت كل صلاة
ويصلي بذلك ما شاء من
ج / 1 ص -80-
الفرائض والنوافل ما دام في الوقت" وأصل
المسألة في المستحاضة فإن دم المستحاضة حدث
عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى خلافا
لمالك رحمه الله تعالى فإنه يقول ما ليس
بمعتاد من الخارج لا يكون حدثا. والدليل على
أنه حدث قوله صلى الله عليه وسلم:
"المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة"، ثم عندنا يلزمها الوضوء في كل وقت صلاة. وقال الشافعي رحمه الله
تعالى: تتوضأ لكل صلاة مكتوبة ولها أن تصلي ما
شاءت من النوافل بذلك ولا تجمع بين الفرضين
بوضوء واحد لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة
بنت قيس حين استحيضت:
"تؤضئي لكل صلاة"،
ومطلقه يتناول المكتوبة ولأن طهارتها طهارة
ضرورية لاقتران الحدث بها ويتجدد باعتبار كل
مكتوبة ضرورة فيلزمها وضوء جديد فأما النوافل
تبع للفرائض فثبوت حكم الطهارة في الأصل يوجب
ثبوته في التبع.
ولنا: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المستحاضة
تتوضأ لوقت كل صلاة"، وما روى
لكل صلاة فالمراد منه الوقت فالصلاة تذكر
بمعني الوقت. قال صلى الله عليه وسلم:
"إن للصلاة أولا وآخرا"، أي لوقت الصلاة والرجل يقول لغيره آتيك صلاة الظهر أي وقته
والمعنى فيه أن الأوقات مشروعة للتمكن من
الأداء فيها فإن الناس في الأداء مختلفون فمن
بين مطول وموجز فشرع للأداء وقت يفصل عنه
تيسيرا وإذا قام الوقت مقام الصلاة لهذا فتجدد
الضرورة يكون بتجدد الوقت وما بقي الوقت يجعل
الضرورة كالقائمة حكما تيسيرا عليها في إقامة
الوقت مقام الفعل وبعد ما فرغت من الأداء إن
بقيت طهارتها فلها أن تصلي فرضا آخر وإن لم
تبق طهارتها ليس لها أن تصلي النوافل لأن
الطهارة من شرطها.
ثم انتقاض طهارتها بخروج الوقت عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى وبدخول الوقت عند زفر
رحمه الله تعالى وبهما عند أبي يوسف رحمه الله
تعالى. ويتبين هذا الخلاف فيما إذا توضأت في
وقت الفجر فطلعت الشمس تنتقض طهارتها إلا على
قول زفر رحمه الله ولو توضأت في وقت الضحوة
فزالت الشمس لا تنتقض طهارتها إلا على قول أبي
يوسف وزفر رحمهما الله تعالى وهما يقولان
طهارتها قبل وقوع الحاجة غير معتبر فبدخول
الوقت تتجدد الحاجة لوجوب الأداء عليها
فيلزمها به الطهارة.
ولنا: أن انتقاض طهارتها بوقوع الاستغناء عنها
وذلك بخروج الوقت. ثم صاحب الجرح السائل عندنا
في معنى المستحاضة لأن الخارج من غير السبيل
حدث عندنا فيتوضأ لوقت كل صلاة ولو قلنا بما
قاله زفر رحمه الله لأدى إلى الحرج لأنه إذا
كان بيته بعيدا عن الجامع فلو انتظر للوضوء
زوال الشمس فاتته الصلاة فلا يجد بدا من أن
يتوضأ قبل الزوال.
قال: "وإن سال الدم بعد الوضوء حتى نفذ الرباط
فذلك لا يمنعه من أداء الصلاة ما بقى الوقت"
لأن فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها لما
قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أثج
الدم
ج / 1 ص -81-
ثجا
قال: "احتشي والتجمي وصلي".
وإن قطر الدم على الحصير قطرا فإن أصاب ثوبه
من ذلك الدم فعليه أن يغسله وهذا إذا كان
مفيدا بأن كان لا يصيبه مرة بعد أخرى حتى إذا
لم يغسله وصلى وهو أكثر من قدر الدرهم لم يجزه
إلا إذا لم يكن الغسل مفيدا بأن كان يصيبه
ثانيا وثالثا. وكان محمد بن مقاتل الرازي رحمه
الله يقول عليه غسل ثوبه في وقت كل صلاة مرة
بالقياس على الوضوء، وغيره من مشايخنا يقول لا
يلزمه ذلك لأن حكم الوضوء عرفناه بالنص ونجاسة
الثوب ليست في معنى الحدث حتى أن القليل منه
يكون عفوا فلا يلحق به فإن سال الدم من موضع
آخر أعاد الوضوء وإن كان الوقت باقيا لأن هذا
حدث جديد وتقدر طهارته بالوقت كان للحدث
الموجود باعتبار تحقق الضرورة فما يتجدد من
الحدث فهو كغيره.
قال: "ومن خاض ماء المطر إلى المسجد أو داس
الطين لم ينقض ذلك وضوءه" لأن انتقاض الوضوء
بالخارج النجس من البدن وروى أن عليا رضي الله
تعالى عنه خرج يوما والسماء تسكب فأخذ نعليه
بيده وخاض الماء حتى أتى المسجد فمسح قدميه
ودخل وصلى وهكذا روى عن أنس رضي الله تعالى
عنه فتبين أنه لا وضوء عليه ولا غسل القدمين
بل يمسح قدميه ويصلى هذا إذا كان التراب طاهرا
فإن الطين من الماء النازل من السماء والتراب
الطاهر طاهر فأما إذا كان أحدهما إما الماء
وإما التراب نجسا فالطين نجس لابد من غسله وهو
الصحيح من المذهب وإنما مسح قدميه خارج المسجد
كي لا يؤدي إلى تلويث المسجد.
وروي أن أبا حنيفة رحمه الله رأى رجلا يمسح
خفيه بأسطوانة المسجد فقال له لو مسحته بلحيتك
كان خيرا لك إلا أن يكون موضعا معدا لذلك في
المسجد فحينئذ لا بأس به لأن ذلك الموضع لا
يصلى فيه عادة.
قال: "ومن سال عليه من موضع شيء لا يدري ما هو
فغسله أحسن" لأن غسله لا يريبه وتركه يريبه
وقال صلى الله عليه وسلم:
"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، فإن تركه جاز لأنه على يقين من الطهارة في ثوبه وفي شك من حقيقة
النجاسة فإن كان في أكبر رأيه أنه نجس غسله
لأن أكبر الرأي فيما لا تعلم حقيقته كاليقين
قال صلى الله عليه وسلم:
"المؤمن ينظر بنور الله تعالى".
وكان شيخنا الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه
الله يقول في بلدتنا لا بد من غسله لأن الظاهر
أنه إنما يراق البول أو الماء النجس من
السطوح.
قال: "وإن انتضح عليه من البول مثل رؤوس الإبر
لم يلزمه غسله" لأن فيه بلوى فإن من بال في
يوم ريح لا بد أن يصيبه ذلك خصوصا في الصحاري
وقد بينا أن ما لا يستطاع الامتناع عنه يكون
عفوا.
قال: "ومن شك في بعض وضوئه وهو أول ما شك غسل
الموضع الذي شك فيه" لأن غسله لا يريبه ولأنه
على يقين من الحدث في ذلك الموضع وفي شك من
غسله ولم يرد
ج / 1 ص -82-
بهذا
اللفظ أنه لم يصبه قط مثل هذا إنما مراده أن
الشك في مثله لم يصر عادة له حتى قال بعد ذلك
"فإن كان يعرض له ذلك كثيرا لم يلتفت إليه"
لأنه من الوساوس والسبيل في الوساوس قطعها
وترك الالتفات إليها لأنه لو اشتغل بها لم
يتفرغ لأداء الصلاة فكلما قام إليها يبتلى
بمثل هذا الشك.
قال: "ومن شك في الحدث فهو على وضوئه وإن كان
محدثا فشك في الوضوء فهو على حدثه لأن الشك لا
يعارض اليقين وما تيقن به لا يرتفع بالشك" وعن
محمد رحمه الله تعالى قال المتوضىء إذا تذكر
أنه دخل الخلاء لقضاء الحاجة وشك أنه خرج قبل
أن يقضيها أو بعد ما قضاها فعليه أن يتوضأ لأن
الظاهر من حاله أنه ما خرج إلا بعد قضائها
وكذلك المحدث إذا علم أنه جلس للوضوء ومعه
الماء وشك في أنه قام قبل أن يتوضأ أو بعد ما
توضأ فلا وضوء عليه لأن الظاهر أنه لا يقوم
حتى يتوضأ والبناء على الظاهر واجب ما لم يعلم
خلافه.
قال: "ومن توضأ ثم رأى البلل سائلا عن ذكره
أعاد الوضوء" لأن البول سال منه وهو ناقض
للوضوء وإنما قال رآه سائلا لأن مجرد البلة
محتملة أن تكون من ماء الطهارة فإن علم أنه
بول ظهر عليه فعليه الوضوء وإن لم يكن سائلا
وإن كان الشيطان يريه ذلك كثيرا ولا يعلم أنه
بول أو ماء مضى على صلاته لأنه من جملة
الوساوس فلا يلتفت إليها لقوله صلى الله عليه
وسلم:
"إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه
ويقول أحدثت أحدثت فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو
يجد ريحا"، وفي
الحديث:
"إن شيطانا يقال له الولهان لا شغل له إلا الوسوسة في الوضوء"، فلا يلتفت
إلى ذلك وينبغي أن ينضح فرجه وإزاره بالماء
إذا توضأ قطعا لهذه الوسوسة حتى إذا أحس بشيء
من ذلك أحاله على ذلك الماء وقد روى أنس رضي
الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:
"كان ينضح إزاره بالماء إذا
توضأ". وفي بعض الروايات قال: "نزل علي جبريل عليه السلام وأمرني بذلك".
قال: "وليس دم البق والبراغيث بشيء لأنه ليس
بدم سائل ولا يستطاع الامتناع عنه" خصوصا في
زمن الصيف في حق من ليس له إلا ثوب واحد ينام
فيه كما كان لأصحاب الصفة على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وكذلك دم السمك ليس بشيء
يعني ليس بنجس وقد بينا أنه ليس بدم حقيقة.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله في
الكبار الذي يسيل منه دم كثير أنه نجس ولا
اعتماد على تلك الرواية وأما دم الحلم فإن كان
أكثر من قدر الدرهم أعاد ما صلى وهو عليه لأنه
دم سائل وقد روى أن الأذى الذي كان في نعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلع نعليه
في الصلاة كان دم حلم.
قال: "وإذا أراد أن يتوضأ بماء فأخبره بعض أنه
قذر لم يتوضأ به" لأن خبر الواحد في أمر الدين
حجة إذا كان المخبر ثقة حتى كان روايته الحديث
موجبا للعمل فكذلك إخباره بنجاسة الماء من أمر
الدين فيجب العمل بخبره.
ج / 1 ص -83-
قال:
"وإذا أدخل الصبي يده في كوز ماء ولا يعلم على
يده قذر فالمستحب أن لا يتوضأ به" لأنه لا
يتوقى النجاسات عادة فالظاهر أن يده لا تخلو
عن نجاسة فالاحتياط في التوضؤ بغيره وإن توضأ
به أجزأه لأنه على يقين من الطهارة وفي شك من
النجاسة وحاله كحال الدجاجة المخلاة وقد بينا
حكم سؤرها.
قال: "ولا بأس بالتوضؤ من حب يوضع كوزه في
نواحي الدار ما لم يعلم أنه قذر" لأنه عمل
الناس ويلحقهم الحرج في النزوع عن هذه العادة
والأصل فيه الطهارة فيتمسك به ما لم يعلم
بالنجاسة وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم في حجة الوداع استسقى العباس رضي الله
تعالى عنه فقال: ألا نأتيك بالماء من بعض البيوت فإن الناس يدخلون أيديهم في ماء
السقاية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن
منهم".
قال: "وإذا وقع بعر الغنم أو الإبل في البئر
لم يضره ما لم يكن كثيرا فاحشا" وفي القياس
يتنجس البئر لأنه بمنزلة الإناء يخلص بعضه إلى
بعض فيتنجس بوقوع النجاسة فيه ولكنا استحسنا
وقلنا بأنه لا ينجس للبلوى فيه فإن عامة
الآبار في الفيافي والمواشي تبعر حولها ثم
الريح تسفي به فتلقيه في البئر فلو حكمنا
بنجاسته كان فيه انقطاع السبل والرسل ولكن هذه
الرخصة في القليل دون الكثير وإذا كان كثيرا
فاحشا أخذنا فيه بالقياس فقلنا عليهم أن
ينزحوا ماء البئر كله، والكثير ما استكثره
الناظر إليه. وقيل: أن يغطي ربع وجه الماء،
وقيل: أن لا تخلو دلو عن بعرة وهو الصحيح.
وعن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في
الإملاء قال هذا إذا كان يابسا فإن كان رطبا
تفسد البئر بقليله وكثيره، ثم قال: لأن الرطب
ثقيل لا يسفي به الريح ولأنه ليس للرطب من
الصلابة والاستمساك ما لليابس. وعن أبي يوسف
رحمه الله تعالى أنهما سواء لأن اليابس
بالوقوع في البئر يصير رطبا وما على الرطب من
الرطوبة رطوبة الأمعاء وهذا كله في غير
المتفتت فإن كان متفتتا فقليله وكثيره سواء
لأن الماء يدخل في أجزائه فيتنجس ثم يخرج وهو
نجاسة مائعة. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى
أنه استحسن في القليل من المتفتت لأن البلوي
فيه قائمة.
وأما السرقين فقليله وكثيره سواء يفسد الماء
رطبا كان أو يابسا لأنه ليس له من الصلابة كما
للبعر. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال في
تبنة أو تبنتين من الأرواث تقع في البئر
استحسن أنه لا يفسده ولا أحفظه عن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وهو الأصح لقيام البلوى فيه
حتى قال خلف بن أيوب لو حلب عنزا فبعرت في
المحلب يرمى بالبعرة ويحل شربه لأن فيه بلوى
فإن العنز لا يمكن أن تحلب من غير أن تبعر في
المحلب.
قال: "ولا يتوضأ بشيء من الأشربة سوى الماء"
إلا بنبيذ التمر عند عدم الماء أما نبيذ التمر
ففي الأصل قال يتوضأ به عند عدم الماء ولو
تيمم مع ذلك أحب إلي. وفي الجامع
ج / 1 ص -84-
الصغير
قال يتوضأ به ولا يتيمم. وقال محمد رحمه الله
لابد من الجمع بينه وبين التيمم وهو رواية
الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقال أبو
يوسف يتيمم ولا يتوضأ به وهو قول الشافعي رحمه
الله تعالى. وروى نوح في الجامع عن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى أنه رجع إليه. واحتج أبو يوسف
بقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}
[النساء: 43] وخبر نبيذ التمر كان بمكة وآية
التيمم نزلت بالمدينة فانتسخ بها خبر نبيذ
التمر لأن نسخ السنة بالكتاب جائز والقياس
هكذا فإنه ليس بماء مطلق فلا يتوضأ به كسائر
الأنبذة.
ترك أبو حنيفة رحمه الله تعالى هذا القياس
بحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن
فلما انصرف إليه عند الصباح قال:
"أمعك ماء يا ابن مسعود" قال لا إلا نبيذ تمر في إداوة فقال: "تمرة
طيبة وماء طهور"،
وأخذه وتوضأ به. وعن علي وبن عباس رضي الله
تعالى عنهما قال نبيذ التمر طهور من لا يجد
الماء والقياس يترك بالسنة وبقول الصحابي إذا
كان فقيها، فأما آية التيمم تتناول حال عدم
الماء وهذا ماء شرعا كما قال صلى الله عليه
وسلم: "وماء طهور"،
وإنما جمع بينهما محمد رحمه الله تعالى لأن
الآية توجب التيمم والخبر يوجب التوضؤ بالنبيذ
فيجمع بينهما احتياطا وإذا قلنا بالاحتياط في
سؤر الحمار أنه يجمع بينه وبين التيمم فها هنا
أولى. وصفة نبيذ التمر الذي يجوز التوضؤ به أن
يكون حلوا رقيقا يسيل على الأعضاء كالماء فإن
كان ثخينا فهو كالرب لا يتوضأ به فإن كان
مشتدا فهو حرام شربه فكيف يجوز التوضؤ به وإن
كان مطبوخا فالصحيح أنه لا يجوز التوضؤ به
حلوا كان أو مشتدا لأن النار غيرته فهو كماء
الباقلا. فأما سائر الأنبذة فكان الأوزاعي
رحمه الله يقول بجواز التوضؤ بها بالقياس على
نبيذ التمر، وعندنا لا يجوز لأن نبيذ التمر
مخصوص من القياس بالأثر فلا يقاس عليه غيره.
واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى في الاغتسال
بنبيذ التمر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
فمنهم من لم يجوزه لأن الأثر في الوضوء خاصة،
والأصح أنه يجوز لأن المخصوص من القياس بالنص
يلحق به ما في معناه من كل وجه.
قال: "والإغماء ينقض الوضوء في الأحوال كلها"
لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ في مرضه
فلما أراد أن يقوم أغمي عليه فلما أفاق توضأ
ثانيا ولأن الإغماء في غفلة المرء عن نفسه فوق
النوم مضطجعا فإن هناك إذا نبه انتبه وها هنا
لا ينتبه وكذلك يقطع الصلاة لو عرض في خلال
الصلاة ويمنع من البناء عليها لأن البناء على
الصلاة عند سبق الحدث مستحسن فيما تعم به
البلوى والإغماء ليس من هذا في شيء. وكذلك لو
مات الإمام استقبل القوم الصلاة بإمام آخر لأن
عمله انقطع بموته قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"،
وهذا ليس من جملتها والبناء على المنقطع غير
ممكن فلهذا استقبلوا.
قال: "وليس الغسل بواجب يوم الجمعة ولكنه
سنة،" إلا على قول مالك رحمه الله
ج / 1 ص -85-
تعالى
وحجته ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "غسل
يوم الجمعة واجب على كل محتلم"؟
أو قال:
"حق".
ولنا: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل". ولما دخل عثمان رضي الله تعالى عنه المسجد يوم الجمعة وعمر رضي
الله عنه يخطب فقال أية ساعة المجيء هذه قال
مازدت بعد أن سمعت النداء على أن توضأت فقال
والوضوء أيضا وقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يأمرنا بالاغتسال في هذا اليوم ثم لم
يأمره بالانصراف فدل أنه ليس بواجب. وتأويل
الحديث مروي عن عائشة وبن عباس رضي الله تعالى
عنهما قالا كان الناس عمال أنفسهم وكانوا
يلبسون الصوف ويعرقون فيه والمسجد قريب السمك
فكان يتأذى بعضهم برائحة البعض فأمروا
بالاغتسال لهذا ثم انتسخ هذا حين لبسوا غير
الصوف وتركوا العمل بأيديهم. واختلف أبو يوسف
والحسن بن زياد رحمهما الله تعالى أن الاغتسال
يوم الجمعة لليوم أم للصلاة فقال الحسن رحمه
الله تعالى لليوم إظهارا لفضيلته كما قال صلى
الله عليه وسلم: "سيد الأيام
يوم الجمعة". وقال أبو
يوسف رحمه الله تعالى للصلاة لأنها مؤادة بجمع
عظيم فلها من الفضيلة ما ليس لغيرها وفائدة
هذا الاختلاف فيما إذا اغتسل يوم الجمعة ثم
أحدث فتوضأ وصلى الجمعة عند أبي يوسف رحمه
الله تعالى لا يكون مقيما للسنة وعند الحسن
رحمه الله: يكون.
والاغتسال في الحاصل أحد عشر نوعا خمسة منها
فريضة: الاغتسال من التقاء الختانين ومن انزال
الماء ومن الاحتلام ومن الحيض والنفاس. وأربعة
منها سنة الاغتسال يوم الجمعة ويوم عرفة وعند
الإحرام وفي العيدين. وواحد واجب: وهو غسل
الميت. وآخر مستحب: وهو الكافر إذا أسلم فإنه
يستحب له أن يغتسل به أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم من جاءه يريد الإسلام وهذا إذا لم
يكن جنبا فإن أجنب ولم يغتسل حتى أسلم فقد قال
بعض مشايخنا لا يلزمه الغسل لأن الكفار لا
يخاطبون بالشرائع، والأصح أنه يلزمه لأن بقاء
صفة الجنابة بعد إسلامه كبقاء صفة الحدث في
وجوب الوضوء به والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب البئر
قال: "وإذا ماتت الفأرة في البئر ينزح منها
عشرون دلوا أو ثلاثون بعد إخراج الفأرة فعشرون
واجب وثلاثون أحوط" وقد بينا هذا فيما مضى
وأصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنهم يطعنون في
هذا ويقولون دلو يميز الماء النجس من الطاهر
دلو كيس، وهذا طعن في السلف وقد بينا أن طهارة
البئر بنزح بعض الدلاء قول السلف من الصحابة
والتابعين رضوان الله عليهم. ثم هم قالوا
بالرأي ما هو أشد من هذا فقالوا في بئر فيها
قلتان من الماء ماتت فيها فأرة فنزح منها دلو
فإن حصلت الفأرة في الدلو فالماء الذي في
الدلو نجس والذي بقي في البئر طاهر، وإن بقيت
الفأرة في البئر فالماء الذي في الدلو طاهر
والذي في البئر نجس فدلوهم هذا أكيس.
ج / 1 ص -86-
قال:
"فإن نزح منها عشرون دلوا قبل إخراج الفأرة لم
تطهر" لأن بقاء الفأرة فيها بعد النزح كابتداء
الوقوع ولأن سبب نجاسة البئر حصول الفأرة
الميتة فيها ولا يمكن الحكم بالطهارة مع بقاء
السبب الموجب للنجاسة. قال "فإن أخرجت الفأرة
ثم نزح منها عشرون دلوا وهو يقطر فيها لم
يضرها ذلك" لأن النزح على وجه لا يقطر شيء منه
فيها متعذر وما لا يستطاع الامتناع عنه يكون
عفوا لقوله تعالى:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
قال: "وإن صب الدلو الآخر في بئر أخرى فعليهم
أن ينزحوا دلوا مثله كما لو صب في البئر
الأولى" لأن حال البئر الثانية بعد ما حصل هذا
الدلو فيها كحال البئر الأولى حين كان هذا
الدلو فيها. وإن صب الدلو الأول منها في بئر
طاهرة كان عليهم أن ينزحوا منها عشرين دلوا
لأن حال البئر الثانية بعد حصول هذا الدلو
فيها كحال البئر الأولى حين كان هذا الدلو
فيها ولو صب دلو في بئر أخرى قبل إخراج الفأرة
ينزح جميع ما في البئر الثانية كذا قاله
أستاذنا رضي الله تعالى عنه. وكان الكرخي رحمه
الله تعالى يقول لا أعرف هذه المسائل إلا
تقلدا فإن ماء الدلو الأخير نجس كماء الدلو
الأول والفرق بينهما بطريق المعنى غير ممكن
وشبه هذا بالثوب النجس إذا غسل ثلاثا فالماء
الثالث في النجاسة كالماء الأول إذا أصاب ثوبا
آخر نجسه.
وكان الإمام الحاكم الشهيد رحمه الله تعالى
يقول في مسألة الثوب على قياس مسألة البئر إذا
أصاب الماء الأول ثوبا لا يطهر إلا بالغسل
ثلاثا وإن أصابه الماء الثانى يطهر بالغسل
مرتين وإن أصابه الماء الثالث يطهر بالغسل مرة
والأصح الفرق بينهما فنقول النجاسة في الثوب
عينية وينجس الماء بحصول النجاسة فيه وفي هذا
لا فرق بين الماء الأول والثالث. فأما تنجيس
الماء فحكمي وطهارته بالنزح بغالب الرأي فكان
ماء الدلو الأخير أخف من الماء الذي في الدلو
الأول لأن عند نزح الدلو الأول يتيقن بكون
الماء النجس في البئر وهو ما جاوز الفأرة وعند
نزح الدلو الأخير لا يتيقن بذلك فلعل ما جاوز
الفأرة الماء الذي نزح فيما سبق من الدلاء
فهذا معنى قول محمد رحمه الله تعالى كلما نزح
الماء كان أطهر للبئر فلهذا فرقنا بين الدلو
الأول إذا صب في بئر أخرى وبين الدلو الأخير.
وإن صب الدلو الثاني فيها كان عليهم أن ينزحوا
منها تسعة عشر دلوا لأن حالها كحال البئر
الأولى وإن صبوا الدلو العاشر فيها كان عليهم
أن ينزحوا منها عشر دلاء هكذا ذكر في نسخ أبي
سليمان رحمه الله وفي نسخ أبي حفص رحمه الله
قال أحد عشر دلوا وهو الصواب فإن حال البئر
الثانية بعد ما صب الدلو العاشر فيها كحال
البئر الأولى حين كان هذا الدلو فيها. وتأويل
ما ذكر في نسخ أبي سليمان أنه ينزح منها عشر
دلاء سوى المصبوب فيها والمصبوب فيها واجب
النزح بيقين وإن أخرجت الفأرة فألقيت في البئر
الثانية وصب فيها عشرون دلوا من البئر الأولى
فعليهم إخراج الفأرة ونزح عشرين دلوا لما بينا
أن حال البئر الثانية كحال البئر
ج / 1 ص -87-
الأولى. وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى
أن عليهم أن ينزحوا منها عشرين دلوا سوى
المصبوب فيها وجعل المصبوب فيها كالفأرة في
البئر الأولى، والأصح هو الأول لأنا نتيقن أنه
ليس في هذه البئر إلا نجاسة فأرة ونجاسة
الفأرة يطهرها نزح عشرين دلوا.
قال: "وإذا خرجت الفأرة وجاءوا بدلو عظيم يسع
عشرين دلوا بدلوهم فاستقوا منها دلوا واحدا
أجزأهم وقد طهرت البئر" لأن النجس ما جاوز
الفأرة من الماء فلا فرق بين أن يؤخذ ذلك في
دلو واحد أو في عشرين دلوا. وكان الحسن بن
زياد رحمه الله تعالى يقول لا يطهر بهذا النزح
لأن عند تكرار نزح الماء ينبع من أسفله ويؤخذ
من أعلاه فيكون في حكم الماء الجاري وهذا لا
يحصل بنزح دلو عظيم منها. ونحن نقول لما قدر
الشرع الدلاء بقدر خاص عرفنا أن المعتبر قدر
المنزوح وأن معنى الجريان ساقط لأن ذلك يحصل
بدونه ويزداد بزيادته ولهذا قلنا لو نزحها
عشرة أيام ونحوه يطهر لوجود القدر مع عدم
الجريان ثم اللفظ المذكور في الكتاب يدل على
أنه يعتبر في كل بئر دلو تلك البئر لقوله
"بدلوهم" وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى أن المعتبر دلو يسع فيه صاعا من الماء
ليتمكن كل أحد من النزح به من رجل أو امرأة أو
صبي.
قال: "ولو توضأ رجل من هذه البئر بعد ما نحي
الدلو الأخير عن رأسها جاز وضوءه" لأنا حكمنا
بطهارة البئر فإن صب ذلك الدلو فيها لم يفسد
وضوء الرجل لأن تنجيس البئر حصل الآن وإن كان
الدلو بعد في البئر لم يفصل عن وجه الماء لا
يجوز لأحد أن يتوضأ بذلك الماء وإن فصل الدلو
عن وجه الماء وهو معلق في هواء البئر فتوضأ
رجل منها لم يجزه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى. وقال محمد رحمه الله تعالى
أجزأه. وجه قوله أن الماء الطاهر تميز عن
الماء النجس فكأنه نحى عن رأس البئر وكون
الماء النجس معلقا في هواء البئر لا يكون أقوى
من خمر أو بول في دلو معلق في هواء البئر فلا
يحكم هناك بنجاسة البئر بهذا وإنما جعل
التقاطر عفوا لأجل الضرورة كما بينا. ولأبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن الماء
النجس متصل بماء البئر حكما بدليل أن التقاطر
فيه يجعل عفوا ولولا الاتصال حكما لما جعل
التقاطر عفوا كما في البول والخمر فصار بقاء
الاتصال حكما كبقائه حقيقة ولو كان باقيا
حقيقة بأن لم يفصل عن وجه الماء فلا يحكم
بطهارة البئر وهذا لأن البئر موضع الماء
فأعلاه كأسفله كالمسجد لما كان موضع الصلاة
جعل كله كمكان واحد في حكم الاقتداء.
قال: "ولو غسل ثوب نجس في إجانة بماء نظيف ثم
في أخرى ثم في أخرى فقد طهر الثوب" وهذا
استحسان والقياس أن لا يطهر الثوب ولو غسل في
عشر إجانات وبه قال بشر بن غياث. ووجهه أن
الثوب النجس كلما حصل في الإجانة تنجس ذلك
الماء فإنما غسل الثوب بعد ذلك في الماء النجس
فلا يطهر حتى يصب عليه الماء أو يغسل في الماء
ج / 1 ص -88-
الجاري. وجه الاستحسان قوله صلى الله عليه
وسلم:
"طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله"،
ثلاثا فتبين بهذا الحديث أن الإناء النجس يطهر
بالغسل من غير حاجة إلى تقوير أسفله ليجري
الماء على النجاسة. والمعنى فيه أن الثياب
النجسة يغسلها النساء والخدم عادة وقد يكون
ثقيلا لا تقدر المرأة على حمله لتصب الماء
عليه والماء الجاري لا يوجد في كل مكان فلو لم
يطهر بالغسل في الاجانات أدى إلى الحرج.
ثم النجاسة على نوعين: مرئية وغير مرئية.
ثم المرئية لابد من إزالة العين بالغسل وبقاء
الأثر بعد زوال العين لا يضر هكذا قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم في دم الحيض:
"حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه ولا يضرك بقاء الأثر". ولأن المرأة إذا خضبت يدها بالحناء النجس ثم غسلته تجوز صلاتها
ولا يضرها بقاء أثر الحناء. وكان الفقيه أبو
جعفر رحمه الله تعالى يقول بعد زوال عين
النجاسة يغسل مرتين لأنه التحق بنجاسة غير
مرئية غسلت مرة.
فأما النجاسة التي هي غير مرئية فإنها تغسل
ثلاثا لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا
فإنه لا يدري أين باتت يده".
فلما أمر بالغسل ثلاثا في النجاسة الموهومة
ففي النجاسة المحققة أولى وهذا مذهبنا وعلى
قول الشافعي رضي الله عنه العبرة بغلبة الرأى
فيما سوى ولوغ الكلب حتى إن غلب على ظنه أنه
طهر بالمرة الواحدة يكفيه ذلك لظاهر قوله صلى
الله عليه وسلم:
"ثم اغسليه"
فلا يشترط فيه العدد. ولكنا نقول غلبة الرأى
في العام الغالب لا يحصل إلا بالغسل ثلاثا وقد
تختلف فيه قلوب الناس فأقمنا السبب الظاهر
مقامه تيسيرا وهو الغسل ثلاثا.
قال: "وإن أصابت النجاسة عضوا من أعضائه فأبو
يوسف رحمه الله تعالى أخذ فيه بالقياس فقال لا
يطهر بالغسل في الإجانات" لأن صب الماء عليه
ممكن من غير حرج ولأن استعمال الماء في العضو
في تغير صفة الماء أقوى منه في الثوب فإن
العضو الطاهر إذا غسل بالماء الطاهر صار
مستعملا بخلاف الثوب الطاهر فلا يمكن قياس
العضو على الثوب. ومحمد رحمه الله تعالى سوى
بين الثوب والعضو في أنه يطهر بالغسل في
الإجانات وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
قال لأن الضرورة تحققت في بعض الأعضاء فإن من
دمى أنفه أو فمه لا يمكنه صب الماء عليه حتى
يشرب الماء النجس أو يعلو على دماغه وفيه حرج
بين فأخذنا بالاستحسان في العضو كما أخذنا به
في الثوب.
ثم ماء الإجانات كلها نجس ولأن النجاسة تحولت
إلى الماء، فإن قيل: جزء من الماء الثالث قد
بقي في الثوب بعد العصر فكيف يحكم بطهارة
الثوب؟ قلنا ما لايستطاع الامتناع عنه يكون
عفوا مع أن الماء يتداخل في أجزاء الثوب فيخرج
النجاسة ثم يخرج على أثرها بالعصر فما بقي من
البلة بعد العصر لم تجاوزه النجاسة ألا ترى
أنه لو كان مكان النجاسة
ج / 1 ص -89-
صبغ
كالزعفران وغيره يتحول إلى الماء ولا يبقى شيء
من ذلك اللون في الثوب ببقاء البلة فكذلك
النجاسة.
قال: "جنب اغتسل في ثلاثة آبار وليس على بدنه
نجاسة عينية فقد أفسد ماء الآبار ولا يجزئه
غسله" في قول أبي يوسف. وقال محمد رحمه الله
تعالى يخرج من البئر الثالث طاهرا وهذا لأن
الحدث الحكمي معتبر بالنجاسة العينية فالآبار
كالإجانات. وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى
النجاسة لا تزول عن البدن بالغسل في الإجانات
فكذلك الحدث، قال: "ولو كان يزول بالغسل في
الآبار لكان يخرج الجنب من البئر الأولى
طاهرا" كما إذا صب الماء على بدنه مرة بعد
مرة. وعند محمد رحمه الله تعالى النجاسة
العينية عن البدن تزول بالغسل في الإجانات
فكذلك الجنابة قال ولما كان ثبوت هذا الحكم
بالقياس على النجاسة شرطنا فيه عدد الثلاث كما
يشترط في غسل النجاسة بخلاف صب الماء على
رأسه.
قال: "فأرة وقعت في بئر فماتت فيها ووقعت فأرة
أخرى في بئر أخرى فماتت فاستقى من إحداهما
عشرون دلوا وصب في الأخرى أجزأهم نزح عشرين
دلوا من البئر الثانية" والأصل أن الشيء ينتظم
ما هو مثله أو دونه لا ما هو فوقه فإذا كان ما
في البئر الثانية مثل ما صب فيها انتظم أحدهما
الآخر فتطهر بنزح عشرين دلوا من البئر الثانية
ولأن هذا في معنى ما لو ماتت فأرتان في بئر
وحكم الفأرتين كحكم الفأرة الواحدة في أن
البئر تطهر بنزح عشرين دلوا منها. وإن ماتت
فأرة في بئر ثالثة فصب منها عشرون دلوا أيضا
في هذه البئر فإنها تطهر بنزح أربعين دلوا لأن
المصبوب فيها أكثر فينتظم ما كان فيها فتطهر
بنزح القدر المصبوب فيها وذلك أربعون دلوا
ولأن هذه بمنزلة ثلاث فأرات ماتت في بئر وثلاث
فأرات في ظاهر الرواية كالدجاجة إلا في رواية
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال: "ما لم يكن
خمس فأرات لا يكون بمنزلة الدجاجة" فإذا كان
الثلاث كالدجاجة في ظاهر الرواية يطهرها نزح
أربعين دلوا وإن صبوا من البئر الثالثة فيها
دلوا أو دلوين فعليهم أن ينزحوا منها عشرين
دلوا مع هذه الزيادة لأن المصبوب فيها أكثر
فينتظم ما كان فيها وعن أبي يوسف رحمه الله
تعالى في هذه الفصول كلها أن بعد نزح القدر
المصبوب ينزح منها عشرون دلوا.
قال: "وإن ماتت فأرة في جب فصب ماؤها في بئر
فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى ينزح منها ما
صب فيها وبعده عشرون دلوا وعند محمد رحمه الله
تعالى ينظر إلى ماء الجب فإن كان عشرين دلوا
أو أكثر ينزح ذلك القدر وإن كان دون عشرين
دلوا ينزح منها عشرون" دلوا لأن الحاصل في
البئر نجاسة الفأرة.
قال: "وإن ماتت فأرة في سمن فإن كان جامدا
يرمى بها وما حولها ويؤكل ما بقي وإن كان
ذائبا لم يؤكل منه شيء" لحديث أبي موسى
الأشعري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم سئل عن فأرة ماتت في سمن فقال:
"إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا ما بقي وإن كان
ج / 1 ص -90-
ذائبا
فأريقوه"، ولأن في الجامد النجاسة إنما جاورت موضعا واحدا فإذا قور ذلك كان
الباقي طاهرا وفي الذائب النجاسة جاورت الكل
فصار الكل نجسا. وحد الجمود والذوب إذا كان
بحال لو قور ذلك الموضع لا يستوي من ساعته فهو
جامد وإن كان يستوي من ساعته فهو ذائب. ثم
الذائب لا بأس بالانتفاع به سوى الأكل من حيث
الاستصباح ودبغ الجلد به وكذلك يجوز بيعه مع
بيان عيبه عندنا فإذا باعه ولم يبين عيبه
فالمشترى بالخيار إذا علم به.
وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجوز شيء من ذلك
لأنه بصفة النجاسة صار كالخمر فإن عينه نجس
فلا يجوز بيعه ولا الانتفاع به ألا ترى أن
النبي صلى الله عليه وسلم في الجامد أمر
بالقاء ما حول الفأرة وفي الذائب أمر بإراقة
الكل فدل أنه لا يجوز الانتفاع به. وعلماؤنا
احتجوا بحديث علي رضي الله تعالى عنه في
النجاسة إذا وقعت في الدهن قال يستصبح به
ويدبغ به الجلود وفي حديث أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"فإن كان مائعا فانتفعوا به".
ولأن نجاسته لا لعينه بل لمجاورة النجاسة إياه
فكان بمنزلة الثوب النجس بخلاف الخمر فإن
عينها نجس. وتأويل حديث أبي موسى الأشعري رضي
الله تعالى عنه أن مراده صلى الله عليه وسلم
بيان حرمة الأكل فمعظم وجوه الانتفاع بالسمن
هو الأكل وإذا دبغ به الجلد ثم غسل بالماء طهر
به الجلد وما تشرب فيه عفو لأن عين الدهن يزول
بالغسل إنما بقي لينه وذلك غير معتبر.
قال: وإن ماتت فأرة في جب فيه خل فأدخل رجل
يده فيه ثم أدخلها قبل أن يغسلها في عشر خوابي
خل أو ماء فقد أفسدهن كلهن فإن كان في الخوابي
ماء فهذا الجواب قول أبي يوسف رحمه الله تعالى
فأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تخرج يده من الخابية الثالثة طاهرة بناء على
غسل العضو المتنجس في الإجانات كما بينا إلا
أن يكون مراده أدخلها في الخابية الأولى إلى
الإبط حتى تتنجس كلها، ثم أدخلها في الخابية
الثانية إلى الرسغ وكذلك في كل خابية زاد
قليلا فحينئذ الكل نجس كما قالا: فإن كان في
الخوابي خل فالجواب قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى. فأما عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى تخرج يده من الخابية الثالثة طاهرة وهو
بناء على أن أزالة النجاسات بالمائعات الطاهرة
سوى الماء لا يجوز عند محمد وزفر رحمهما الله
تعالى وكذا الشافعي رحمه الله تعالى الثوب
والبدن فيه سواء. وعند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى يجوز في الثوب والبدن جميعا وهو إحدى
الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى.
وفي الرواية الأخرى فصل بين الثوب والبدن فقال
في البدن لا تزول النجاسة عنه إلا بالماء وفي
الثوب تزول عنه بكل مائع طاهر ينعصر بالعصر،
فأما ما لا ينعصر كالدهن والسمن لا تجوز إزالة
النجاسة به. حجة محمد رحمه الله تعالى قوله
تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48]، فقد خص: الماء بكونه مطهرا واعتبر إزالة النجاسة
بإزالة الحدث لأن كل واحد منهما طهارة وهي شرط
الصلاة فإذا كان أحدهما لا يحصل إلا
ج / 1 ص -91-
بالماء
فكذلك الآخر ولا عبرة بزوال العين فكما تزول
بالأشياء الطاهرة تزول بالأشياء النجسة كبول
ما يؤكل لحمه ولم يعتبر ذلك فهذا مثله. وحجة
أبي حنيفة رحمه الله أن الثوب قبل إصابة
النجاسة كان طاهرا وبعد الإصابة الواجب إزالة
عين النجاسة حتى لو قطعه بالمقراض بقي الثوب
طاهرا وإزالة العين كما تحصل بالماء تحصل
بسائر المائعات وربما يكون تأثير الخل في قلع
النجاسة أكثر من تأثير الماء فإذا زالت به عين
النجاسة يبقى طاهرا كما كان بخلاف ما لا ينعصر
فإنه يتشرب في الثوب فتزداد به النجاسة ولا
تزول.
وفي بول ما يؤكل لحمه فقد قال بعض مشايخنا
رحمهم الله إن النجاسة الأولى تزول به لكن
تبقى نجاسة البول حتى يكون التقدير فيه
بالكثير الفاحش. والأصح أن التطهير بالنجس لا
يكون لما بين الوصفين من التضاد فأما الطهارة
عن الحدث فطهارة حكمية فيها معنى العبادة فلا
تجوز إلا بما تعبدنا به وإنما تعبدنا بالماء
لأنه أهون موجود لا يلحق الناس حرج في إفساده
بالاستعمال بخلاف سائر المائعات فإنها أموال
يلحق الناس حرج في فسادها بالاستعمال وأبو
يوسف رحمه الله لهذا المعنى فرق بين النجاسة
على البدن وعلى الثوب فقال ما كان على البدن
فهو نظير الحدث الحكمي لأن في تطهير البدن
معنى العبادة بخلاف ما لو كان على الثوب، قال:
"فإن صب خابية منها في بئر ماء فعليهم أن
ينزحوا الأكثر من عشرين دلوا ومن مقدار
الخابية" لأن الحاصل فيها نجاسة فأرة لا غير
وقد مر.
قال: "ولا بأس بلبس ثياب أهل الذمة والصلاة
فيها ما لم يعلم أن فيها قذرا" لأن الأصل في
الثوب الطهارة وخبث الكافر في اعتقاده لا
يتعدى إلى ثيابه فثوبه كثوب المسلم وعامة من
ينسج الثياب في ديارنا المجوس ولم ينقل عن أحد
التحرز عن لبسها وكفى بالإجماع حجة إلا الأزار
والسراويل فإنه يكره الصلاة فيهما قبل الغسل
وإن صلى جاز. أما الجواز فلأنه على يقين من
الطهارة وفي شك من النجاسة، وأما الكراهة
فلأنه يلي موضع الحدث وهم لا يحسنون الاستنجاء
ويعرقون فيهما لا محالة والظاهر أن إزارهم لا
ينفك عن نجاسة فتكره الصلاة فيه وهو نظير
كراهة سؤر الدجاجة المخلاة وقد روى أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الشرب في
أواني المجوس فقال: "إن لم تجدوا
منها بدا فاغسلوها ثم اشربوا فيها"،
وإنما أمر به لأن ذبائحهم كالميتة وأوانيهم
قلما تخلو عن دسومة فيها.
قال بعض مشايخنا، رحمهم الله تعالى: وكذلك
الجواب في ثياب بعض الفسقة من المسلمين فإن
الظاهر أنهم لا يتوقون إصابة الخمر لثيابهم في
حالة الشرب وقالوا في الديباج الذي ينسجه أهل
فارس لا تجوز الصلاة فيه لأنهم يستعملون فيه
عند النسج البول ويزعمون أنه يزيد في بريقه ثم
لا يغسلونه لأن ذلك يفسده فإن صح هذا لا يشكل
أنه لا تجوز الصلاة فيه والله سبحانه وتعالى
أعلم.
ج / 1 ص -92-
باب المسح على الخفين
أعلم أن المسح على الخفين جائز بالسنة فقد
اشتهر فيه الأثر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قولا وفعلا. من ذلك حديث المغيرة بن شعبة
رضي الله تعالى عنه قال: "توضأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم في سفر وكنت أصب الماء
عليه وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فأخرج يديه
من تحت ذيله ومسح على خفيه فقلت نسيت غسل
القدمين فقال: "لا بل أنت نسيت بهذا أمرني
ربي". ومن ذلك
حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى
عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
توضأ ومسح على خفيه فقيل له أكان ذلك بعد نزول
المائدة فقال وهل أسلمت إلا بعد نزول المائدة
وقال إبراهيم رحمه الله تعالى وكان يعجبهم
حديث جرير رضي الله عنه لأنه أسلم بعد نزول
المائدة وإنما قال هذا لما روى عن ابن عباس،
رضي الله تعالى عنهما قال سلوا هؤلاء الذين
يروون المسح هل مسح رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد نزول المائدة والله ما مسح رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعد نزول المائدة ولأن
أمسح على ظهر عنز في الفلاة أحب إلي من أن
أمسح على الخفين. وقد صح رجوعه عنه على ما قال
عطاء بن أبي رباح رضي الله تعالى عنه لم يمت
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى اتبع
أصحابه في المسح على الخفين.
والذي روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها لأن
تقطع قدماي أحب إلي من أن أمسح على الخفين فقد
صح رجوعها عنه على ما روى شريح بن هانئ قال
سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن المسح على
الخفين فقالت لا أدري سلوا عليا رضي الله
تعالى عنه فإنه كان أكثر سفرا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فسألنا عليا رضي الله
تعالى عنه فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يمسح على الخفين.
وفي رواية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول:
"يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها"، فبلغ ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها فقالت هو أعلم. ولكثرة
الأخبار فيه قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ما
قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار.
وقال أبو يوسف رحمه الله خبر المسح يجوز نسخ
الكتاب به لشهرته. وقال الكرخي رحمه الله
تعالى أخاف الكفر على من لم ير المسح على
الخفين لأن الآثار التي وردت فيه في حيز
التواتر، وهو مؤقت في حق المقيم بيوم وليلة
وفي حق المسافر بثلاثة أيام ولياليها لحديث
علي رضي الله تعالى عنه وحديث خزيمة بن ثابت
رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها". وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال خرجت إلى العراق فرأيت سعدا
يمسح على الخفين فقلت ما هذا فقال إذا رجعت
إلى أبيك فسله فسألت أبي فقال عمك أفقه منك
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على
الخفين وسمعته يقول:
"يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها". ولأن المسح رخصة لدفع المشقة وذلك مؤقت في حق المقيم بيوم وليلة
لأنه يلبس خفيه حين يصبح
ج / 1 ص -93-
ويخرج
فيشق عليه النزع قبل أن يعود إلى بيته ليلا
والمسافر يلحقه الحرج بالنزع في كل مرحلة فقدر
في حقه بثلاثة أيام ولياليها أدنى مدة السفر
إذ لا نهاية لأكثره.
وكان الحسن البصري رضي الله تعالى عنه يقول
المسح مؤبد للمسافر لحديث عمار بن ياسر رضي
الله عنه قال قلت:
يا رسول الله أمسح على الخفين يوما فقال:
"نعم"، فقلت يومين فقال: "نعم"، حتى أنتهيت
إلى سبعة أيام فقال: "إذا كنت في سفر فامسح ما
بدا لك". وتأويله: أن مراده صلى الله عليه وسلم بيان أن المسح مؤبد غير
منسوخ وأن ينزع في هذه المدة والأخبار
المشهورة لا تترك بهذا الشاذ. وكان مالك رحمه
الله تعالى يقول لا يمسح المقيم أصلا ويمسح
المسافر ما بدا له لحديث عقبة بن عامر الجهني
رضي الله تعالى عنه قال وفدت على عمر رضي الله
تعالى عنه من الشام فقال متى عهدك بالخف فقلت
منذ أسبوع قال: أصبت. وتأويله أن المراد بيان
أول اللبس وخروجه مسافرا لا أنه لم ينزع بين
ذلك. ثم ابتداء المدة من وقت الحدث لأن سبب
وجوب الطهارة الحدث واستتار القدم بالخف يمنع
سراية الحدث إلى القدم فما هو موجب لبس الخف
إنما يظهر عند الحدث فلهذا كان ابتداء المدة
منه ولأنه لا يمكن ابتداء المدة من وقت اللبس
فإنه لو لم يحدث بعد اللبس حتى يمر عليه يوم
وليلة لا يجب عليه نزع الخف بالاتفاق ولا يمكن
اعتباره من وقت المسح لأنه لو أحدث ولم يمسح
ولم يصل أياما لا إشكال أنه لا يمسح بعد ذلك
فكان العدل في الاعتبار من وقت الحدث.
قال: "وإنما يجوز المسح من كل حدث موجب للوضوء
دون الاغتسال" لحديث صفوان بن عسال المرادي
رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا
ثلاثة أيام ولياليها إلا من جنابة ولكن من بول
أو غائط أو نوم ولأن الجنابة ألزمته غسل جميع
البدن ومع الخف لا يتأتى ذلك والرجل معتبرة
بالرأس فمتى كان الفرض في الرأس المسح كان في
الرجل في حق لابس الخف كذلك وفي الجنابة الفرض
في الرأس الغسل فكذلك في الرجل عليه نزع الخف
وغسل القدمين.
قال: "وإنما يجوز المسح إذا لبس الخف على
طهارة كاملة" لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال،
حين مسح على خفيه:
"إني أدخلتهما وهما طاهرتان". ولأن موجب لبس الخف المنع من سراية الحدث إلى القدمين لا تحويل
حكم الحدث من الرجل إلى الخف وإنما يتحقق هذا
إذا كان اللبس على طهارة.
قال: "فإن غسل رجليه أولا ولبس خفيه ثم أحدث
قبل إكمال الطهارة لم يجز له أن يمسح عليهما"
لأن أول الحدث بعد اللبس ما طرأ على طهارة
كاملة فهو وما لبس قبل غسل الرجل سواء. وإن
أكمل وضوءه قبل الحدث جاز له أن يمسح عندنا
ولم يجز عند
ج / 1 ص -94-
الشافعي رحمه الله تعالى بناء على أن الترتيب
في الوضوء ليس بركن عندنا فأول الحدث بعد لبس
الخف طرأ على طهارة كاملة،
قال: "ولو توضأ وغسل إحدى رجليه ولبس الخف ثم
غسل الرجل الأخرى ولبس الخف ثم أحدث، جاز له
عندنا أن يمسح" وقال الشافعي رحمه الله تعالى
إن لم ينزع الخف الأول فلا يجوز له أن يمسح
وإن نزعه ثم لبسه جاز له المسح لأن الشرط أن
يكون لبسه بعد إكمال الطهارة، وهذا اشتغال بما
لا يفيد ينزع ثم يلبس من غير أن يلزمه فيه غسل
وهو ليس من الحكمة فلا يجوز له اشتراطه.
قال: "ومسح الخف مرة واحدة" وقال عطاء رضي
الله تعالى عنه ثلاثا كالغسل. ولنا حديث
المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهما قال
كأني أنظر إلى أثر المسح على ظهر خف رسول الله
صلى الله عليه وسلم خطوطا بالأصابع وإنما لم
تبق الخطوط إذا لم يمسحه إلا مرة واحدة ولأن
في كثرة إصابة البلة إفساد الخف وفيه حرج
فيكتفي فيه بالمرة الواحدة ويبدأ من قبل
الأصابع حتى ينتهي إلى أسفل الساق اعتبارا
بالغسل فالبداءة فيه من الأصابع لأن الله
تعالى جعل الكعبين غاية.
قال: "وإن مسح خفيه بأصبع أو أصبعين لم يجزه
حتى يمسح بثلاثة أصابع" وعلى قول زفر رضي الله
تعالى عنه يجزئه والكلام فيه مثل الكلام في
المسح بالرأس وقد مر.
قال: "والخرق اليسير في الخف لا يمنع من المسح
عليه وفي القياس يمنع" وهو قول الشافعي رحمه
الله تعالى لأن القدر الذي بدا من الرجل وجب
غسله اعتبارا للبعض بالكل وإذا وجب الغسل في
البعض وجب في الكل لأنه لا يتجزأ. ووجه
الاستحسان أن الخف قلما يخلو عن قليل خرق فإنه
وإن كان جديدا فآثار الزرور والاشافي خرق فيه
ولهذا يدخله التراب فجعلنا القليل عفوا لهذا.
فأما إذا كان الخرق كبيرا لا يجوز المسح عليه.
وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى إذا كان
بحيث يمكن المشي فيه سفرا يجوز المسح عليه لأن
الأصل في هذه الرخصة الصحابة رضوان الله تعالى
عليهم وعامتهم كانوا محتاجين لا يجدون إلا
الخلق من الخفاف وقد جوز لهم المسح، ولكنا
نقول الخرق اليسير إنما جعل عفوا للضرورة ولا
ضرورة في الكثير فيبقى على أصل القياس. والفرق
بين القليل والكثير ثلاث أصابع فإن كان يبدو
منه ثلاث أصابع لم يجز له أن يمسح عليه لأن
الأكثر معتبر بالكمال. وفي رواية الزيادات عن
محمد رحمه الله تعالى ثلاث أصابع من أصغر
أصابع الرجل لأن الممسوح عليه الرجل. وفي
رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
قال ثلاث أصابع من أصابع اليد لأن الممسوح به
اليد، وسواء كان الخرق في ظاهر الخف أو باطنه
أو من ناحية العقب ولكن هذا إذا كان يبدو منه
مقدار ثلاث أصابع فإن كان صلبا لا يبدو منه
شيء يجوز المسح عليه وإن كان يبدو في حالة
المشي دون حال وضع القدم على
ج / 1 ص -95-
الأرض
لم يجزه المسح لأن الخف يلبس للمشي. واختلف
مشايخنا رحمهم الله تعالى فيما إذا كان يبدو
ثلاثة أصابع من الأنامل والأصح أنه لا يجوز
المسح عليه وتجمع الخروق في خف واحد ولا تجمع
في خفين لأن أحد الخفين منفصل عن الآخر.
قال: "وإن مسح باطن الخف دون ظاهره لم يجزه"
فإن موضع المسح ظهر القدم لما روينا من حديث
المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه. وقال
الشافعي رحمه الله تعالى المسح على ظاهر الخف
فرض وعلى باطنه سنة فالأولى عنده أن يضع يده
اليمنى على ظاهر الخف ويده اليسرى على باطنه
فيمسح بهما على كل رجل. وعندنا المسح على ظاهر
الخف فقط لحديث علي رضي الله تعالى عنه قال لو
كان الدين بالرأى لكان باطن الخف أولى من
ظاهره ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يمسح على ظاهر خفيه دون باطنهما ولأن
باطن الخف لا يخلو عن لوث عادة فيصيب يده ذلك
اللوث وفيه بعض الحرج والمسح مشروع لدفع
الحرج.
قال: "ولا يجوز المسح على العمامة والقلنسوة"
ومن العلماء من جوزه لحديث بلال رضي الله
تعالى عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم مسح على عمامته، وجاء في الحديث أن النبي
صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأمرهم بأن
يمسحوا على المشاوذ والتساخين، فالمشاوذ:
العمائم، والتساخين: الخفاف.
ولنا حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال:
"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حسر
العمامة عن رأسه ومسح على ناصيته" وكأن بلالا
رضي الله عنه كان بعيدا منه فظن أنه مسح على
العمامة حين لم يضعها عن رأسه. وتأويل الحديث
الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم خص به تلك
السرية لعذرهم فقد كان عليه الصلاة والسلام
يخص بعض أصحابه بأشياء كما خص عبد الرحمن بن
عوف رضي الله تعالى عنه بلبس الحرير، وخزيمة
رضي الله تعالى عنه بشهادته وحده. ثم المسح
إنما يكون بدلا عن الغسل لا عن المسح والرأس
ممسوح فكيف يكون المسح على العمامة بدلا عنه
بخلاف الرجل ولأنه لا يلحقه كثير حرج في إدخال
اليد تحت العمامة والمسح على الرأس.
قال: "وكذلك المرأة لا تمسح على خمارها" لحديث
عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أدخلت يدها
تحت الخمار ومسحت برأسها وقالت بهذا أمرني
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مسحت على
خمارها فنفذت البلة إلى رأسها حتى ابتل قدر
الربع أجزأها حتى قال بعض مشايخنا رحمهم الله
تعالى إذا كان الخمار جديدا يجوز وإن لم يكن
جديدا لا يجوز لأن ثقوب الجديد لم تنسد
بالاستعمال فتنفذ البلة منها إلى الرأس.
قال: "وأما المسح على الجوربين فإن كانا
ثخينين منعلين يجوز المسح عليهما" لأن مواظبة
المشى سفرا بهما ممكن وإن كانا رقيقين لا يجوز
المسح عليهما لأنهما بمنزلة
ج / 1 ص -96-
اللفافة وإن كانا ثخينين غير منعلين لا يجوز
المسح عليهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
لأن مواظبة المشي بهما سفرا غير ممكن فكانا
بمنزلة الجورب الرقيق. وعلى قول أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى يجوز المسح عليهما.
وحكى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى في مرضه
مسح على جوربيه ثم قال لعواده فعلت ما كنت
أمنع الناس عنه فاستدلوا به على رجوعه،
وحجتهما حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى
عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح
على جوربيه وقد روى المسح على الجورب عن أبي
بكر وعلي وأنس رضي الله تعالى عنهم. وتأويله
عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه كان منعلا
أو مجلدا والثخين من الجورب أن يستمسك على
الساق من غير أن يشده بشيء. والصحيح من المذهب
جواز المسح على الخفاف المتخذة من اللبود
التركية لأن مواظبة المشي فيها سفرا ممكن.
قال "ويجوز المسح على الجرموقين فوق الخفين"
عندنا وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه إن لبس
الجرموقين وحدهما مسح وإن لبسهما فوق الخف لم
يمسح عليهما لأن ما تحتهما ممسوح والمسح لا
يكون بدلا عن المسح.
ولنا: حديث عمر رضي الله تعالى عنه قال رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على
الجرموقين ولأن الجرموق فوق الخف في معنى خف
ذي طاقين ولو لبس خفا ذا طاقين كان له أن يمسح
عليه فهذا مثله، وإنما يجوز المسح عندنا على
الجرموقين إذا لبسهما فوق الخفين قبل أن يحدث
ويمسح فأما إذا كان مسح على الخف أولا ثم لبس
الجرموق فليس له أن يمسح على الجرموق لأن حكم
المسح استقر على الخف فبهذا يتبين الجواب عما
قاله الشافعي رحمه الله تعالى عنه. وكذلك لو
أحدث بعد ما لبس الخف ثم لبس الجرموقين فليس
له أن يمسح على الجرموق لأن ابتداء مدة المسح
من وقت الحدث وقد انعقد في الخف فلا يتحول إلى
الجرموق بعد ذلك. وإن مسح على الخفين ثم نزع
أحدهما انتقض مسحه في الرجلين وعليه غسلهما.
وقال بن أبي ليلى رحمه الله لا شيء عليه.
وعن إبراهيم النخعي رحمه الله فيه ثلاثة أقوال
روى حماد رحمه الله تعالى عنه كما هو مذهبنا،
وروى بن أبي يعلى عن الحكم رحمه الله أنه لا
شيء عليه، وروى الحسن بن عمارة عن الحكم أن
عليه استقبال الوضوء.
وجه هذه الرواية: أن انتقاض الوضوء لا يحتمل
التجزؤ كانتقاضه بالحدث. ووجه الرواية الأخرى
أن الطهارة الكاملة لا تنتقض إلا بالحدث في
شيء من الأعضاء ونزع الخف ليس بحدث. ووجه
قولنا: أن استتار القدم بالخف كان يمنع سراية
الحدث إلى القدم وذلك الاستتار بالخلع يزول
فيسري ذلك إلى القدم فكأنه توضأ ولم يغسل
رجليه فعليه غسلهما والرجلان في حكم الطهارة
كشيء واحد فإذا وجب غسل إحداهما وجب غسل
الأخرى ضرورة أنه لا يجمع بين المسح والغسل في
عضو واحد.
ج / 1 ص -97-
قال:
"ولو مسح على الجرموقين ثم نزع أحدهما مسح على
الخف الظاهر وعلى الجرموق الباقي" وفي بعض
روايات الأصل قال ينزع الجرموق الثاني ويمسح
على الخفين. وقال زفر رحمه الله تعالى عنه
يمسح على الخف الذي نزع الجرموق عنه وليس عليه
في الآخر شيء. وجه قوله: أن الاستتار باق فكان
الفرض المسح ففيما زال الممسوح بالنزع عليه أن
يمسح وفيما كان الممسوح باقيا لا يلزمه شيء
بخلاف ما إذا خلع إحدى خفيه. ووجه ما ذكر في
بعض النسخ أن نزع أحد الجرموقين كنزعهما جميعا
كما إذا خلع أحد الخفين يكون كخلعهما. ووجه
ظاهر الرواية أنه في الابتداء لو لبس الجرموق
على إحدى الخفين كان له أن يمسح عليه وعلى
الخف الباقي فكذلك إذا نزع أحد الجرموقين إلا
أن حكم الطهارة في الرجلين لا يحتمل التجزؤ
فإذا انتقض في أحدهما بنزع الجرموق ينتقض في
الآخر فلهذا مسح على الخف الظاهر وعلى الجرموق
الباقي.
قال: "وإذا انقضى مدة مسحه ولم يحدث فعليه نزع
الخفين وغسل القدمين" لأن الاستتار كان مانعا
في المدة فإذا انقضى سرى ذلك الحدث إلى
القدمين فعليه غسلهما وليس عليه إعادة الوضوء
كما لو كانت السراية بخلع الخفين.
قال: "وإذا توضأ فنسى مسح خفيه ثم خاض الماء
فإنه يجزئه من المسح" لأن تأدى الفرض بإصابة
البلة ظاهر الخف وقد وجد، وهل يصير الماء
مستعملا بهذا قال أبو يوسف رحمه الله لا يصير
الماء مستعملا بهذا. وعن محمد رحمه الله تعالى
أن الماء يصير مستعملا ولا يجزئه من المسح إذا
كان الماء قليلا غير جار وأصل الخلاف في الرأس
فأبو يوسف رحمه الله يقول تأدى فرض المسح
بالبلة الواصلة إلى موضعها لا بالماء الباقي
في الإناء فبقى الإناء كما كان، ومحمد رحمه
الله يقول لو تأدى به الفرض لصار الماء
مستعملا بإزالة الحدث فإنما أخرج رأسه من
الماء المستعمل وذلك يمنع من جواز المسح به.
قال: "وإذا استكمل المقيم مسح الإقامة ثم سافر
نزع الخف" لأن حكم الحدث سرى إلى القدمين
بانقضاء مدة المسح فلا يتغير ذلك بالسفر.
قال: "وإن لبس خفيه وهو مقيم ثم سافر قبل أن
يحدث فله أن يمسح كمال مدة السفر" لأن ابتداء
المدة انعقد وهو مسافر. فأما إذا أحدث وهو
مقيم أو مسح قبل استكمال يوم وليلة ثم سافر
جاز له عندنا أن يمسح كمال ثلاثة أيام
ولياليها. وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا
يمسح إلا يوما وليلة قال لأن المدة انعقدت وهو
مقيم فلا يمسح أكثر من يوم وليلة والشروع في
مدة المسح كالشروع في الصلاة ومن افتتح الصلاة
في السفينة وهو مقيم ثم صار مسافرا لم يجز له
أن يتم صلاة السفر وإنما يتم صلاة المقيمين.
ولنا: أن المسح جاز له وهو مسافر فله أن يمسح
كمال مدة السفر كما لو سافر قبل
ج / 1 ص -98-
الحدث
وفعل الصلاة. دليلنا أنه بالحدث صار شارعا في
وقت المسح فوزانه أن لو دخل وقت الصلاة وهو
مقيم ثم صار مسافرا فهناك يصلي صلاة
المسافرين.
قال: "وإذا قدم المسافر مصره بعد ما مسح يوما
وليلة أو أكثر من ذلك فعليه نزع الخفين" لأنه
صار مقيما والمقيم لا يمسح أكثر من يوم وليلة
إلا أنه إذا كان قدومه بعد ما مسح يومين نزع
خفيه ولم يعد شيئا من الصلاة لأنه حين مسح كان
مسافرا.
قال: "وإذا توضأ ومسح على الجبائر ولبس خفيه
ثم أحدث فله أن يمسح على الخفين ما لم يبرأ
جرحه" لأن المسح على الجبائر كالغسل لما تحته
ما دامت العلة قائمة وقد بينا هذا فيما مضى
فكان اللبس حاصلا على طهارة تامة ما بقيت
العلة فله أن يمسح على الخفين فإن بريء جرحه
فعليه أن ينزع خفيه لأن المسح على الجبائر
طهارة تامة ما بقيت العلة واللبس بعد البرء
غير حاصل على طهارة تامة فلم يكن له أن يمسح
وإن لم يحدث بعد لبس الخف حتى بريء جرحه فإن
لم يحدث حتى غسل ذلك الموضع جاز له أن يمسح
على الخفين لأن أول الحدث بعد اللبس طرأ على
طهارة تامة وإن أحدث قبل غسل ذلك الموضع لم
يجز له أن يمسح الخف لأن أول الحدث بعد اللبس
طرأ على طهارة ناقصة.
قال: "وللماسح على الخفين أن يؤم الغاسلين"
لأنه صاحب بدل صحيح وحكم البدل حكم الأصل ولأن
المسح على الخف جعل كالغسل لما تحته في المدة
بدليل جواز الاكتفاء به مع القدرة على الأصل
وهو غسل الرجلين فكان الماسح في حكم الإمامة
كالغاسل.
قال: "وإذا أراد أن يبول فلبس خفيه ثم بال فله
أن يمسح على خفيه" لأن لبسهما حصل على طهارة
تامة ولما سئل أبو حنيفة رحمه الله عن هذا
فقال لا يفعله إلا فقيه فقد استدل بفعله على
فقهه لأنه تطرق به إلى رخصة شرعية.
قال: "وإذا بدا للماسح أن يخلع خفيه فنزع
القدم من الخف غير أنه في الساق بعد فقد انتقض
مسحه" لأن موضع المسح فارق مكانه فكأنه ظهر
رجله وهذا لأن ساق الخف غير معتبر حتى لو لبس
خفا لا ساق له جاز له المسح إذا كان الكعب
مستورا فيكون الرجل في ساق الخف وظهوره في
الحكم سواء. وإن نزع بعض القدم عن مكانه
فالمروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في
الإملاء أنه إذا نزع أكثر العقب انتقض مسحه
لأنه لا يمكنه المشى بهذه الصفة وللأكثر حكم
الكمال. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى إن نزع
من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع انتقض مسحه. وعن
محمد رحمه الله تعالى قال إن بقى من ظهر القدم
مقدار ثلاثة أصابع لم ينتقض مسحه لأنه لو كان
بعض رجله مقطوعا وقد بقى من ظهر القدم مقدار
ثلاثة أصابع فلبس عليه الخف جاز له أن يمسح
فهذا قياسه والله أعلم.
قال: "وإذا لبس الخفين على طهارة التيمم أو
الوضوء بنبيذ ثم وجد الماء نزع خفيه"،
ج / 1 ص -99-
لأن
طهارة التيمم غير معتبرة بعد وجود الماء وكذلك
طهارة النبيذ فصار بعد وجود الماء كأنه لبس
على غير طهارة.
قال: "وإذا لبست المستحاضة الخفين فإن كان
الدم منقطعا من حين توضأت إلى أن لبست الخفين
فلها أن تمسح كمال مدة المسح" لأن وضوءها رفع
الحدث السابق ولم يقترن الحدث بالوضوء ولا
باللبس فإنما طرأ أول الحدث بعد اللبس على
طهارة تامة فأما إذا توضأت والدم سائل أو سال
بعد الوضوء قبل اللبس فلبست الخفين كان لها أن
تمسح في الوقت إذا أحدثت حدثا آخر ولم يكن لها
أن تمسح بعد خروج الوقت عندنا. وقال زفر رحمه
الله تعالى لها أن تمسح كمال مدة المسح لأن
سيلان الدم عفو في حقها بدليل جواز الصلاة معه
فكان اللبس حاصلا على طهارة.
ولنا: أن سيلان الدم عفو في الوقت لا بعده حتى
تنتقض الطهارة بخروج الوقت وخروج الوقت ليس
بحدث فكان اللبس حاصلا على طهارة معتبرة في
الوقت لا بعد خروج الوقت فلهذا كان لها أن
تمسح في وقت الصلاة لا بعد خروج الوقت.
قال: "وإذ كان مع المسافر ماء قدر ما يتوضأ به
وفي ثوبه دم أكثر من قدر الدرهم غسل الدم بذلك
الماء ثم تيمم للحدث" وقال حماد بن أبي سليمان
رحمه الله تعالى يتوضأ بذلك الماء وهو رواية
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى. وقيل هذه أول
مسألة خالف فيها أبو حنيفة رحمه الله تعالى
استاذه. ووجه قول حماد رحمه الله تعالى أن حكم
الحدث أغلظ من حكم النجاسة بدليل أن القليل من
النجاسة عفو ومن الحدث لا وبدليل جواز الصلاة
في الثوب النجس إذا كان لا يجد ماء يغسله به
ولا تجوز الصلاة مع الحدث بحال فصرف الماء إلى
أغلظ الحدثين أولى. ووجه قول أبي حنيفة رحمه
الله أنه قادر على الجمع بين الطهارتين بأن
يغسل النجاسة بالماء فيطهر به الثوب ثم يكون
عادما للماء فيكون طهارته التيمم ومن قدر على
الجمع بين الطهارتين لا يكون له أن يأتي
بأحدهما ويترك الآخر فلهذا كان صرف الماء إلى
النجاسة أولى والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب.
باب التيمم
قال رضي الله تعالى عنه: التيمم في اللغة
القصد ومنه قول القائل:
وما أدري إذا يممت أرضا
أريد الخير أيهما يلينى
أي قصدت
وفي الشريعة عبارة عن القصد إلى الصعيد
للتطهير الاسم شرعي فيه معنى اللغة، وثبوت
التيمم بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً}
[النساء: 43 والمائدة: 6]، ونزول الآية في غزوة المريسيع حين عرس
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فسقط عقد
عائشة رضي
ج / 1 ص -100-
الله
عنها فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلى
الله عليه وسلم فبعث رجلين في طلبه ونزلوا
ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو
بكر رضي الله تعالى عنه على عائشة رضي الله
تعالى عنهما وقال حبست رسول الله صلى الله
عليه وسلم والمسلمين على غير ماء فنزلت آية
التيمم فلما صلوا جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب
عائشة رضي الله تعالى عنها فجعل يقول ما أكثر
بركتكم يا آل أبي بكر، وفي رواية يرحمك الله
يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله
للمسلمين فيه فرجا.
والسنة ما روى عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
"جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت"، وقال عليه
الصلاة والسلام: "التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم تجد الماء". إذا عرفنا هذا فنقول ينتظر من لا يجد الماء آخر الوقت ثم يتيمم
صعيدا طيبا وهذا إذا كان على طمع من وجود
الماء فإن كان لا يرجو ذلك لا يؤخر الصلاة عن
وقتها المعهود لأن الانتظار إنما يؤمر به إذا
كان مفيدا فإذا كان على طمع فالانتظار مفيد
لعله يجد الماء فيؤدي الصلاة بأكمل الطهارتين
وإذا لم يكن على طمع من الماء فلا فائدة في
الانتظار فلا يشتغل به.
ثم بين صفة التيمم فقال "يضع يديه على الأرض
ثم يرفعهما فينفضهما ويمسح بهما وجهه ثم يضع
يديه ثانية على الأرض ثم يرفعهما فينفضهما ثم
يمسح بهما كفيه وذراعيه من المرفقين. قال:
"فإن مسح وجهه وذراعيه ولم يمسح ظهر كفيه لم
يجزه" فقد ذكر الوضع والآثار جاءت بلفظ الضرب
قال صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر:
"أما يكفيك ضربتان"؟ والوضع جائز والضرب أبلغ ليتخلل التراب بين أصابعه وينفضهما مرة.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ينفضهما
مرتين وفي الحقيقة لا خلاف فإن ما التصق بكفه
من التراب إن تناثر بنفضة واحدة يكتفي بها وإن
لم يتناثر نفض نفضتين لأن الواجب التمسح بكف
موضوع على الأرض لا استعمال التراب فإن
استعمال التراب مثله. ثم التيمم ضربتان عند
عامة العلماء وكان بن سيرين يقول ثلاث ضربات
ضربة يستعملها للوجه وضربة في الذراعين وضربة
ثالثة فيهما وحديث عمار حجة عليه كما روينا
وكذلك ظاهر قوله تعالى:
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
مِنْهُ} [المائدة: 6] يوجب المسح دون التكرار.
ثم التيمم إلى المرافق في قول علمائنا
والشافعي، رحمهم الله تعالى. وقال الأوزاعي
والأعمش إلى الرسغين، وقال الزهري رحمه الله:
إلى الآباط وحديث عمار رضي الله عنه قد ورد
بكل ذلك فرجحنا روايته إلى المرفقين لحديثين:
أحدهما: حديث أبي أمامة
الباهلي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال:
"التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين".
ج / 1 ص -101-
والثاني: حديث الأشلع أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه "التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين"، والمعنى فيه: أن التيمم بدل عن الوضوء.
ثم الوضوء في اليدين إلى المرفقين فالتيمم
كذلك وتقريره أنه سقط في التيمم عضوان أصلا
وبقي عضوان فيكون التيمم فيهما كالوضوء في
الكل كما أن الصلاة في السفر سقط منه ركعتان
كان الباقي منها بصفة الكمال ولهذا شرطنا
الاستيعاب في التيمم حتى إذا ترك شيئا من ذلك
لم يجزه إلا في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه
الله تعالى قال الأكثر يقوم مقام الكمال لأن
في الممسوحات الاستيعاب ليس بشرط كما في المسح
بالخف والرأس.
فأما في ظاهر الرواية: الاستيعاب في التيمم
فرض كما في الوضوء ولهذا قالوا لا بد من نزع
الخاتم في التيمم ولا بد من تخليل الأصابع
ليتم به المسح. ومن قال التيمم إلى الرسغ
استدل بآية السرقة قال الله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ثم كان القطع من الرسغ، ولكنا نقول: ذاك عقوبة وفي
العقوبات لا يؤخذ إلا باليقين.
والتيمم عبادة وفي العبادات يؤخذ بالاحتياط.
ومن قال إلى الآباط قال اسم الأيدي مطلقا
يتناول الجارحة من رؤوس الأصابع إلى الآباط،
ولكنا نقول التيمم بدل عن الوضوء فالتنصيص على
الغاية في الوضوء يكون تنصيصا عليه في التيمم،
يقول في الكتاب وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى
سألت أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن التيمم
فقال الوجه والذراعان إلى المرفقين فقلت كيف
فمال بيده على الصعيد فأقبل بيده وأدبر ثم
نفضهما ثم مسح وجهه ثم أعاد كفيه جميعا على
الصعيد فأقبل بهما وأدبر ثم رفعهما ونفضهما ثم
مسح بكل كف ظهر ذراع الأخرى وباطنها إلى
المرفقين. وفي قوله: "أقبل بهما وأدبر" وجهان:
أحدهما: أنه قبل الوضع على
الأرض أقبل بهما وأدبر لينظر هل التصق بكفه
شيء يصير حائلا بينه وبين الصعيد.
والثاني: أقبل بهما على
الصعيد وأدبر بهما وهذا هو الأظهر.
قال: "وإن كان مع رفيق له ماء فطلب منه فلم
يعطه فتيمم وصلى أجزأه" لأنه عادم للماء حين
منعه صاحب الماء وهو شرط التيمم وإن لم يطلب
منه حتى تيمم وصلى لم يجزه لأن الماء مبذول في
الناس عادة خصوصا للطهارة فلا يصير عادما
للماء إلا بمنع صاحبه فلا يظهر ذلك إلا بطلبه
فإذا لم يطلب لا يجزئه. فأما إذا لم يكن مع
أحد من الرفقة ماء وتيمم وصلى جازت صلاته وإن
لم يطلب الماء عندنا. وقال الشافعي، رضي الله
تعالى عنه لا بد من طلب الماء أولا يمنة ويسرة
فيهبط واديا ويعلو شرفا إن كان ثمة لقوله
تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً}
[النساء: 43 والمائدة: 6]، وذلك لا يتبين إلا بطلبه. ولكنا نقول:
الطلب إنما يلزمه إذا كان على طمع من الوجود
فأما إذا لم يكن على طمع منه فلا فائدة في
ج / 1 ص -102-
الطلب،
وقد يلحقه الحرج فربما ينقطع عن أصحابه وما
شرع التيمم إلا لدفع الحرج قال الله تعالى:
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].
قال: "وكل شيء من الأرض تيمم به من تراب أو جص
أو نورة أو زرنيخ فهو جائز" في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى. وكان أبو يوسف رحمه
الله تعالى يقول أولا لا يجوز التيمم إلا
بالتراب والرمل ثم رجع فقال لا يجزئه إلا
بالتراب الخالص وهو قول الشافعي رضي الله
تعالى عنه، واحتج بقوله تعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه الصعيد هو التراب الخالص. وقال
صلى الله عليه وسلم:
"التراب
طهور المسلم"، والجص
والنورة ليسا بتراب فلا يجوز التيمم بهما وما
سوى التراب مع التراب بمنزلة سائر المائعات مع
الماء في الوضوء فكما يختص الوضوء بالماء دون
سائر المائعات فكذلك التيمم وفيه إظهار كرامة
الآدمي فإنه مخلوق من التراب والماء فخصا
بكونهما طهورا لهذا. وأبو يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى استدلا بالآية فإن الصعيد هو
الأرض.
قال صلى الله عليه وسلم:
"يحشر العلماء في صعيد واحد كأنها سبيكة فضة
فيقول الله تعالى يا معشر العلماء إني لم أضع
علمي فيكم إلا لعلمي بكم إني لم أضع حكمتي
فيكم وأنا أريد أن أعذبكم انطلقوا مغفورا لكم"، فدل
أن الصعيد هو الأرض. وقال صلى الله عليه وسلم:
"جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". ثم ما سوى
التراب من الأرض أسوة التراب في كونه مكان
الصلاة فكذلك في كونه طهورا، وبين أن الله يسر
عليه وعلى أمته وقد تدركه الصلاة في غير موضع
التراب كما تدركه في موضع التراب فيجوز التيمم
بالكل تيسيرا. ثم حاصل المذهب أن ما كان من
جنس الأرض فالتيمم به جائز وما لا فلا حتى لا
يجوز التيمم بالذهب والفضة لأنهما جوهران
مودعان في الأرض ليس من جنسه حتى يذوب بالذوب
وكذلك الرماد من الحطب لأنه ليس من جنس الأرض
هكذا ذكر الشيخ الإمام السرخسي وغيره من
مشايخنا رحمهم الله.
قال: "إن كان الملح جبليا يجوز لأنه من جنس
التراب وإن كان مائعا لا يجوز لأنه ليس من جنس
التراب داء سبخ" وأما الكحل والمرداء سبخ من
جنس الأرض فيجوز التيمم بهما والآجر كذلك لأنه
طين مستحجر فهو كالحجر الأصلى والتيمم بالحجر
يجوز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى وإن لم يكن عليه غبار. وعن محمد رحمه
الله تعالى فيه روايتان في إحدى الروايتين: لا
يجوز إلا أن يكون عليه غبار. والدليل على
الجواز حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
"أن النبي صلى الله عليه وسلم بال فسلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى كاد
الرجل يتوارى بحيطان المدينة "فضرب بيده على
الحائط فتيمم"، ثم رد عليه السلام"
وحيطانهم كانت من الحجر فدل على جواز التيمم بها. وكذلك الطين عند
أبي حنيفة رحمه الله تعالى يجوز به التيمم
لأنه من جنس الأرض، وفي إحدى الروايتين عن
محمد رحمه الله تعالى لا يجوز بالطين.
ج / 1 ص -103-
قال:
"وإذا نفض ثوبه أو لبده وتيمم بغباره وهو يقدر
على الصعيد أجزأه" في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى، ولا يجزئه عند أبي يوسف
رحمه الله تعالى إلا إذا كان لا يقدر على
الصعيد، ووجهه أن الغبار ليس بتراب خالص ولكنه
من التراب من وجه والمأمور به التيمم بالصعيد
فإن قدر عليه لم يجزه إلا بالصعيد وإن لم يقدر
فحينئذ تيمم بالغبار كما أن العاجز عن الركوع
والسجود يصلي بالإيماء. وأبو حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى احتجا بحديث عمر رضي الله
تعالى عنه فإنه كان مع أصحابه في سفر فنظروا
بالخابية فأمرهم أن ينفضوا لبودهم وسروجهم
ويتيمموا بغبارها ولأن الغبار تراب فإن من نفض
ثوبه يتأذى جاره من التراب إلا أنه دقيق وكما
يجوز التيمم بالخشن من التراب على كل حال
فكذلك بالدقيق منه.
قال: "وإن تيمم في أول الوقت أجزأه" وكذلك قبل
دخول الوقت عندنا وقال الشافعي رحمه الله
تعالى لا يجزئه قبل دخول الوقت لأنها طهارة
ضرورية فلا يعتد بها قبل تحقق الضرورة، لكنا
نستدل بقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}، فشرط عدم الماء فقط وجعله في حال عدم الماء كالوضوء ثم التوضؤ
بالماء قبل دخول الوقت لتقرر سببه وهو الحدث
فكذلك التيمم، فإن وجد الماء بعد ذلك فهو على
أوجه:
إن وجده قبل الشروع في الصلاة يبطل تيممه إلا
على قول أبي سلمة بن عبد الرحمن، رضي الله
عنهما قال: الطهارة متى صحت لا يرفعها إلا
الحدث ووجود الماء ليس بحدث، ولكنا نستدل
بقوله صلى الله عليه وسلم:
"التراب كافيك ولو إلى عشر حجج ما لم تجد
الماء فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك". ولأن التيمم لا يرفع الحدث ولكنه طهارة شرعا إلى غاية وهو وجود
الماء ومن حكم الغاية أن يكون ما بعدها خلاف
ما قبلها فعند وجود الماء يصير محدثا بالحدث
السابق. وإن وجد الماء في خلال الصلاة فعليه
أن يتوضأ ويستقبل القبلة عندنا وهو أحد أقاويل
الشافعي رحمه الله تعالى. وفي قول آخر يقرب
الماء منه حتى يتوضأ ويبني وأظهر أقاويله أنه
يمضي على صلاته. وجه قوله: أن الشروع في
الصلاة قد صح بطهارة التيمم فلا يبطل برؤية
الماء كما لو رأى بعد الفراغ من الصلاة وإذا
لم يبطل ما أدى فحرمة الصلاة تمنعه من استعمال
الماء فلا يكون واجدا للماء كما لو كان بينه
وبين الماء مانع أو كان على رأس البئر وليس
معه آلة الاستسقاء.
ولنا: أن طهارة التيمم انتهت بوجود الماء فلو
أتم صلاته أتمها بغير طهارة وذلك لا يجوز
وحرمة الصلاة إنما تمنعه من استعمال الماء أن
لو بقيت ولم تبق ها هنا لما بينا أن التيمم لا
يرفع الحدث فعند وجود الماء يصير محدثا بحدث
سابق على الشروع في الصلاة وذلك يمنعه من
البناء كخروج الوقت في حق المستحاضة لأن
البناء على الصلاة عرف بالأثر وذلك في حدث
يسبقه للحال فلهذا ألزمناه الوضوء واستقبال
الصلاة والشروع في الصلاة وإن صح
ج / 1 ص -104-
كما
قال إلا أن المقصود لم يحصل به لأنه اسقاط
الفرض عن ذمته ومتى قدر على الأصل قبل حصول
المقصود بالبدل سقط اعتبار البدل كالمعتدة
بالأشهر إذا حاضت.
وإن وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة والسلام
لم تلزمه الإعادة إلا على قول مالك رحمه الله
فإنه يقول إذا وجد الماء في الوقت يعيد الصلاة
لأن طهارة التيمم لضرورة التمكن به من أداء
الصلاة والأداء باعتبار الوقت فإذا ارتفعت هذه
الضرورة بوجود الماء في الوقت سقط اعتبار
التيمم كالمريض إذا أحج رجلا بماله ثم بريء
فعليه حجة الإسلام لبقاء الوقت فإن العمر للحج
كالوقت للصلاة.
ولنا: ما روي أن رجلين من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم صليا بالتيمم في الوقت ثم وجدا
الماء فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فسألا عن
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذي
أعاد:
"أتاك أجرك مرتين"، وللذي لم
يعد:
"أجزأتك صلاتك".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى العصر
بالتيمم وانصرف من ضيعته وهو ينظر إلى أبيات
ثم دخلها قبل غروب الشمس فلم يعد الصلاة،
والمعنى أن المقصود هو إسقاط الفرض عن ذمته
وقد حصل بالبدل فلا يعود إلى ذمته بالقدرة على
الأصل كالمعتدة بالأشهر إذا حاضت بعد انقضاء
العدة وهذا بخلاف الحج فإن جواز الإحجاج
باعتبار وقوع اليأس عن الأداء بالبدن وذلك لا
يحصل إلا بالموت وها هنا جواز التيمم باعتبار
العجز عن استعمال الماء وكان متحققا حين صلى.
قال: "ويؤم المتيمم المتوضئين" في قول أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وهو قول
ابن عباس رضي الله عنهما. وقال محمد رحمه الله
تعالى لا يؤم وهو قول علي رضي الله تعالى عنه
فإنه كان يقول لا يؤم المتيمم المتوضئين ولا
المقيد المطلقين ولأن طهارة المتيمم طهارة
ضرورة فلا يؤم من لا ضرورة له كصاحب الجرح
السائل لا يؤم الأصحاء. وهما استدلا بحديث
عمرو بن العاص رضي الله عنه فإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم جعله أميرا على سرية فلما
انصرفوا سألهم عن سيرته فقالوا كان حسن السيرة
ولكنه صلى بنا يوما وهو جنب فسأله عن ذلك فقال
احتلمت في ليلة باردة فخشيت الهلاك إن اغتسلت
فتلوت قول الله عز وجل:
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] فتيممت وصليت بهم فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم
في وجهه وقال:
"يا لك من
فقه عمرو بن العاص"، ولم
يأمرهم بإعادة الصلاة ولأن المتيمم صاحب بدل
صحيح فهو كالماسح على الخفين يؤم الغاسلين
وهذا لأن البدل عند العجز عن الأصل حكمه حكم
الأصل بخلاف صاحب الجرح فإنه ليس بصاحب بدل
صحيح.
قال: "والجنب والحائض والمحدث في التيمم سواء"
وهو قول علي وبن عباس رضي الله عنهما
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا يجوز
التيمم للحائض والجنب وروى أن عمار بن ياسر
رضي الله عنه قال لعمر رضي الله تعالى عنه أما
تذكر إذ كنت معك في الإبل فأجنبت فتمعكت في
التراب ثم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال:
"أصرت حمارا أما
ج / 1 ص -105-
يكفيك
ضربتان"؟ فقال له عمر اتق الله فقال إن شئت فلا أذكره أبدا فقال عمر إن شئت
فاذكره وإن شئت فلا تذكره ولما ذكر لابن مسعود
رضي الله عنه حديث عمار فقال لم يقنع به عمر
رضي الله عنه.
وأصل الاختلاف في قوله تعالى:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] فقال عمر وبن مسعود رضي الله عنهما المراد المس باليد
فجوز التيمم للمحدث خاصة. وقال علي وبن عباس
رضي الله عنهما المراد المجامعة فهذا القول
أولى فإن الله تعالى ذكر نوعي الحدث عند وجود
الماء في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] وقوله:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}
[المائدة: 6]، وذكر نوعي الحدث عند عدم الماء وأمر بالتيمم لهما
بصفة واحدة فكان الحمل على المجامعة أكثر
إفادة من هذا الوجه. والدليل على جوازه للحائض
والجنب حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن قوما
سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
إنا نكون في هذه الرمال وربما لا نجد الماء
شهرا وفينا الجنب والحائض فقال صلى الله عليه
وسلم:
"عليكم بأرضكم". وفي حديث
أبي ذر رضي الله عنه قال اجتمع عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة فقال لي:
"أبديها" فبدوت إلى الربذة فأصابتني الجنابة فأتيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: "ما لك"؟ فسكت، فقال: "ثكلتك
أمك ما لك"؟ فقلت: إني جنب فأمر جارية سوداء
فأتت بعس من ماء وسترتني بالبعير والثوب
فاغتسلت، فكأنما وضعت عن عاتقي حملا فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يكفيك التيمم
ولو إلى عشر حجج ما لم تجد الماء".
قال: "ويجوز للمريض أن يتيمم إذا لم يستطع
الوضوء أو الغسل" أما إذا كان يخاف الهلاك
باستعمال الماء فالتيمم جائز له بالاتفاق
لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43 وسورة المائدة: 6]. قال ابن عباس رضي الله عنه نزلت
الآية في المجدور والمقروح. وروى أن رجلا من
الصحابة كان به جدري فاحتلم في سفر فسأل
أصحابه فأمروه بالاغتسال فاغتسل فمات فلما
أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"قتلوه قتلهم
الله، كان يكفيه التيمم". وإن كان
يخاف زيادة المرض من استعمال الماء ولا يخاف
الهلاك جاز له التيمم عندنا. وقال الشافعي
رحمه الله تعالى لا يجوز لأن التيمم مشروع عند
عدم الماء وهو واجد للماء والعجز إنما يتحقق
عند خوف الهلاك ولا يجوز التيمم لمن لا يخاف
الهلاك.
ولنا: أن زيادة المرض بمنزلة الهلاك في إباحة
الفطر وجواز الصلاة قاعدا أو بالإيماء فكذلك
في حكم التيمم وهذا لأن حرمة النفس لا تكون
دون حرمة المال ولو كان يلحقه الخسران في
المال باستعمال الماء بأن كان لا يباع إلا
بثمن عظيم جاز له أن يتيمم فعند خوف زيادة
المرض أولى، هذا كله إذا كان يستضر بالماء فإن
كان لا يستضر بالماء ولكنه للمرض عاجز عن
التحرك للوضوء فظاهر المذهب أنه إن وجد من
يستعين به في الوضوء لا يجوز له التيمم وإن لم
يجد من يعينه في الوضوء فحينئذ يتيمم لتحقق
عجزه عن الوضوء وروي عن
ج / 1 ص -106-
محمد
رحمه الله تعالى، قال: "وإن لم يجد من يعينه
في الوضوء من الخدم فليس له أن يتيمم في المصر
إلا أن يكون مقطوع اليدين" ووجهه أن الظاهر
أنه في المصر يجد من يستعين به من قريب أو
بعيد والعجز بعارض على شرف الزوال فإذا لم يجد
من يوضئه جاز له التيمم لهذا ثم يصلي بتيممه
ما شاء من الصلاة ما لم يحدث أو تزل العلة
وكذلك المسافر يصلى بتيممه ما شاء ما لم يحدث
أو يجد الماء عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجمع بين
فريضتين بتيمم واحد وله أن يصلي من النوافل ما
شاء وحجته أنها طهارة ضرورة وباعتبار كل فريضة
تتجدد الضرورة فعليه تجديد الوضوء والنوافل
تبع للفرائض وهو نظير مذهبه في طهارة
المستحاضة وقد بينا، وحجتنا قوله صلى الله
عليه وسلم:
"التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم
يجد الماء"، فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طهارة التيمم ممتدا إلى
غاية وجود الماء ويتبين بهذا أنه في حال عدم
الماء كالوضوء ثم المتوضىء له أن يصلى بوضوء
واحد ما شاء ما لم يحدث فهذا مثله ولأن
بالفراغ من المكتوبة لم تنتقض طهارته حتى جاز
له أداء النافلة وإذا بقيت الطهارة فله أن
يؤدي الفرض لأن الشرط أن يقوم إليه طاهرا وقد
وجد.
قال: "وإن وجد المتيمم الماء فلم يتوضأ حتى
حضرت الصلاة وقد عدم ذلك الماء فعليه إعادة
التيمم" لأنه لما قدر على استعمال الماء بطل
تيممه وصار محدثا بالحدث السابق فهذا محدث لا
ماء معه فعليه التيمم للصلاة والله أعلم.
قال: "ولا يجوز بأقل من ثلاثة أصابع" فهو
والمسح بالرأس والخف سواء وقد بينا.
قال: "وإن أجنب المسافر ومعه من الماء مقدار
ما يتوضأ به يتيمم عندنا ولم يستعمل الماء"
وقال الشافعي رحمه الله تعالى يتوضأ بذلك
الماء ثم يتيمم. وكذلك المحدث إذا كان معه من
الماء ما يكفيه لغسل بعض الأعضاء عندنا يتيمم
وعنده يستعمل الماء فيما يكفيه ثم يتيمم،
واستدل بقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}، فذكره منكرا في موضع النفي وذلك يتناول القليل والكثير فما بقي
واجدا لشيء من الماء لا يجوز له أن يتيمم ولأن
الضرورة لا تتحقق إلا بعد استعمال الماء فيما
يكفيه فهو كمن أصابته مخمصة ومعه لقمة من
الحلال لا يكون له أن يتناول الميتة ما لم
يتناول تلك اللقمة الحلال ولا يبعد الجمع بين
التيمم واستعمال الماء كما قلتم في سؤر
الحمار.
ولنا: قوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}،
فإن المراد ماء يطهره. ألا ترى أن وجود الماء
النجس لا يمنعه عن التيمم ولأنه معطوف على ما
سبق وقد سبق بيان حكم الوضوء والاغتسال ثم عطف
عليه قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}، فيكون المفهوم منه ذلك الماء الذي يتوضؤن به ويغتسلون به عند
الجنابة وهو غير واجد لذلك الماء ولأنه إذا لم
يطهره استعمال هذا الماء لا يكون في استعماله
إلا مضيعة. ولأن الأصل لا يوفى بالأبدال
لأنهما لا يلتقيان،
ج / 1 ص -107-
كما لا
يكمل التكفير بالمال بالصوم ولا العدة بالشهور
بالحيض ولو قلنا يتيمم بعد استعمال الماء كان
فيه رفو الأصل بالبدل ولا نقول في مسألة
المخمصة أنه يلزمه مراعاة الترتيب فإن ما معه
من الحلال إذا كان لا يكفيه لسد الرمق فله أن
يتناول معه الميتة. وفي سؤر الحمار الجمع
بينهما عندنا للاحتياط لا لرفو الأصل بالبدل
ولذلك لو أنه وجد الماء بعد التيمم فإن كان
يكفيه لما خوطب به يبطل تيممه وإن كان لا
يكفيه لا يبطل تيممه اعتبارا للانتهاء
بالابتداء.
قال: "وإن تيمم للجنابة ثم أحدث ومعه من الماء
ما يتوضأ به توضأ به" لأن ذلك التيمم أخرجه من
الجنابة إلى أن يجد ما يكفيه للاغتسال فهو
الآن محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء
فيتوضأ به فإن توضأ به ولبس خفيه ثم مر بالماء
فلم يغتسل ثم حضرت الصلاة وعنده من الماء قدر
ما يوضئه فإنه يتيمم لأنه لما مر بما يكفيه
للاغتسال عاد جنبا كما كان فعليه أن يتيمم ولا
يلزمه نزع الخف إذ لا تيمم في الرجل.
قال: "فإن تيمم ثم حضرت الصلاة الأخرى وقد
سبقه الحدث فإنه يتوضأ" لأنه بالتيمم الأول
خرج من الجنابة إلى أن يجد ماء يكفيه للاغتسال
ولم يجد بعد فهذا محدث معه ماء يتوضأ به فعليه
أن يتوضأ وينزع خفيه لأنه لما مر بماء يكفيه
للاغتسال بعد لبس الخف وجب عليه نزع الخفين
فلا يكون له أن يمسح بعد ذلك وإن لم يكن مر
بالماء قبل ذلك مسح على خفيه لأن اللبس حصل
على طهارة كاملة ما لم يجد ما يكفيه للاغتسال
فكان له أن يمسح.
قال: "وإن كان مع المحدث ماء يكفيه للوضوء غير
أنه يخاف العطش تيمم ولم يتوضأ به" هكذا قال
علي وبن عباس رضي الله عنهما ولأنه يخاف
الهلاك من العطش إذا استعمل الماء فكان عاجزا
عن استعماله حكما بمنزلة ما لو كان بينه وبين
الماء عدو أو سبع وقد بينا أن حرمة النفس لا
تكون دون حرمة المال.
قال: "وإذا تيمم المسافر والماء منه قريب وهو
لا يعلم به أجزأه تيممه به" لأنه عاجز عن
استعمال الماء حين عدم آلة الوصول إليه وهو
العلم به فهو كما لو كان على رأس البئر وليس
معه آلة الاستقاء فله أن يتيمم. ولم يفسر حد
القرب في ظاهر الرواية في حالة العلم به
والمروي عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا كان
بينه وبين الماء دون ميل لا يجزئه التيمم وإن
كان ميلا أو أكثر أجزأه التيمم والميل ثلث
فرسخ. وقال الحسن بن زياد رحمه الله تعالى إذا
كان الماء أمامه يعتبر ميلين وإن كان يمنة أو
يسرة فميل واحد لأن الميل للذهاب ومثله في
الرجوع فكان ميلين. وقال زفر رحمه الله إذا
كان بحيث يصل إلى الماء قبل خروج الوقت لا
يجزئه التيمم وإن كان لا يصل إلى الماء قبل
خروج الوقت يجزئه التيمم وإن كان الماء قريبا
منه لأن التيمم لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة
في الوقت ولكنا نقول التفريط جاء من قبله
بتأخير الصلاة فليس له أن يتيمم إذا كان الماء
قريبا منه ومن العلماء من يقول إذا كان لا
يبلغه صوتهم فبعيد فحينئذ يجوز له التيمم.
ج / 1 ص -108-
قال:
"وإذا كان مع رفيقه ماء فعليه أن يسأله" إلا
على قول الحسن بن زياد رحمه الله تعالى فإنه
كان يقول السؤال ذل وفيه بعض الحرج وما شرع
التيمم إلا لدفع الحرج. ولكنا نقول ماء
الطهارة مبذول بين الناس عادة وليس في سؤال ما
يحتاج إليه مذلة فقد سأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعض حوائجه من غيره، فإن سأله فأبى
أن يعطيه إلا بالثمن فإن لم يكن معه ثمنه
يتيمم لعجزه عن استعمال الماء وإن كان معه
ثمنه فإن أعطاه بمثل قيمته في ذلك الموضع أو
بغبن يسير فليس له أن يتيمم وإن أبى أن يعطيه
إلا بغبن فاحش فله أن يتيمم.
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى يلزمه
الشراء بجميع ماله لأنه لا يخسر على هذه
التجارة، ولا نأخذ بهذا فإن حرمة مال المسلم
كحرمة نفسه فإذا كان يلحقه خسران في ماله
ففرضه التيمم والغبن الفاحش خسران وقد بين ذلك
في النوادر فقال إن كان الماء الذي يكفي
للوضوء يوجد في ذلك الموضع بدرهم فأبي أن
يعطيه إلا بدرهم ونصف فله أن يشتري وإن أبى أن
يعطيه إلا بدرهمين تيمم ولم يشتر فجعل الغبن
الفاحش في تضعيف الثمن. وإنما قلنا إذا كان
يعطيه بمثل الثمن فعليه أن يشتري لأن قدرته
على بدل الماء كقدرته على عينه كما أن القدرة
على ثمن الرقبة كالقدرة على عينها في المنع من
التكفير بالصوم. وقال أبو يوسف رحمه الله
تعالى في الإملاء سألت أبا حنيفة رضي الله
تعالى عنه عن المسافر لا يجد الماء أيطلبه عن
يمين الطريق وعن يساره قال إن طمع في ذلك
فليفعل ولا يبعد فيضر بأصحابه إن انتظروه أو
بنفسه إن انقطع عنهم ولا يطلب ذلك إلا أن يخبر
بماء فيطلبه الغلوة ونحوها لأن الطلب إنما
يؤمر به إذا كان على رجاء من وجوده فإن لم يكن
على رجاء منه فلا فائدة في الطلب وعدم الوجود
كالوجود يتحقق من غير تقدم الطلب يقال وجد
فلان لقطة وقال الله تعالى:
{وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}
[الضحى: 8].
قال: "وإن كان المسافر في ردغة وطين لا يجد
الماء ولا الصعيد نفض ثوبه أو لبده وتيمم
بغباره" ولا يؤمر بالتيمم بالطين وإن كان لو
فعل أجزأه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
لأن فيه تلويث الوجه وهو مثلة ولكنه ينفض لبده
فيتيمم بغباره وقد بينا فيه حديث عمر رضي الله
تعالى عنه فإن كان المطر عم جميع ذلك لطخ
بالطين بعض جسده فإذا جف حته وتيمم به وإن لم
يجف لم يصل بغير وضوء ولا تيمم وإن ذهب الوقت،
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يصلي ثم
يعيد إذا قدر على الطهور. ووجهه أنه لا ينبغي
أن يمضي وقت صلاة على المسلم ولا يتشبه فيه
بالمصلين فعليه أن يأتي بما قدر عليه تشبها
كمن تسحر بعد طلوع الفجر كان عليه الإمساك
تشبها بالصائمين ولكنا نقول الصلاة بغير طهارة
معصية والتشبه بالمطيعين لا يحصل بمباشرة
المعصية بخلاف الإمساك فإنه ليس بمعصية.
قال: "وإن وجد سؤر حمار أو بغل توضأ به وتيمم"
وإن قدم التيمم أجزأه إلا على قول زفر رحمه
الله تعالى فإنه يقول ما دام معه ما هو مأمور
باستعماله فلا عبرة بتيممه، ولكنا
ج / 1 ص -109-
نقول:
الاحتياط في الجمع بينهما لا في الترتيب فلا
يلزمه إعادة الترتيب وإن كان الأفضل أن يقدم
في التوضؤ به.
قال: "وإذا أصاب بدن المتيمم نجاسة لم ينقض
ذلك تيممه" ولكنه يمسح بخرقة أو تراب لتتقلل
به النجاسة ثم يصلى فإن صلى لم يمسحه وأجزأه
لأن المسح لا يزيل النجاسة فهو عاجز عن
إزالتها فجازت صلاته معها.
قال: "وإذا توضأ الكافر أو اغتسل ثم أسلم فله
أن يصلى بذلك الوضوء والاغتسال عندنا" خلافا
للشافعي رحمه الله تعالى بناء على ما تقدم من
اشتراط النية فعنده الوضوء لا يجزئ إلا بنية
القربة والكافر ليس من أهلها وعندنا يجزئ من
غير نية ويزول به الحدث فيصح من الكافر كغسل
النجاسة وروى أن عمر رضي الله تعالى عنه لما
طلب من أخته أن تناوله الصحيفة قبل أن يؤمن
حتى يغتسل ناولته فذلك دليل على صحة الاغتسال
من الكافر.
قال: "وإن تيمم الكافر في حال عدم الماء ثم
أسلم فليس له أن يصلي بذلك التيمم عند أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف
رحمه الله تعالى إذا تيمم بنية الإسلام أو
الطهر فله أن يصلى به بعد الإسلام". وجه قوله
أن التيمم يفارق الوضوء في اشتراط النية وبنية
الطهر صح لأنه من أهله ونية الإسلام نية قربة
فإذا اقترن بالتيمم نية القربة صح منه كما يصح
من المسلم.
ولنا: أن من شرط التيمم نية الصلاة به والكافر
ليس من أهلها والتيمم لا يصح بغير نية ونية
الإسلام لا تعتبر في التيمم إنما تعتبر نية
قربة ونية القربة لا تصح إلا بالطهارة. ألا
ترى أن المسلم إذا تيمم بنية الصوم أو الصدقة
لا تصح نيته ثم إصراره على الكفر إلى أن يفرغ
من التيمم معصية فكيف يصح فيه معنى القربة؟.
قال: "ولو توضأ المسلم أو اغتسل ثم ارتد نعوذ
بالله، لم يبطل وضوءه" لأن الردة ليست بحدث
وهو كفر والكفر لا يمنع ابتداء الوضوء فلا
يمنع البقاء بطريق الأولى. فإن قيل أليس أن
الردة تحبط عمله ووضوءه من عمله؟ قلنا: الردة
تحبط ثواب العمل وذلك لايمنع زوال الحدث كمن
توضأ على قصد المراءاة زال الحدث به وإن كان
لا يثاب على وضوئه. قال: "ولو تيمم المسلم ثم
ارتد لم يبطل تيممه" إلا على قول زفر رحمه
الله تعالى فإنه يقول الكفر يمنع ابتداء
التيمم فيمنع البقاء كمن صلى ثم ارتد بطلت
صلاته حتى لو أسلم في الوقت لم تلزمه الإعادة
ولكنا نقول تيممه قد صح باقتران نية القربة
فلا ينقضه إلا الحدث أو وجود الماء والردة
ليست بحدث وهذا لأن التيمم إنما يفارق الوضوء
في اشتراط النية وذلك في الابتداء لا في
البقاء ففي البقاء الوضوء والتيمم سواء فكما
يبقى وضوءه بعد ردته فكذلك تيممه.
قال: "وللمسافر أن يطأ جاريته وإن علم أنه لا
يجد الماء" وقال مالك رحمه الله
ج / 1 ص -110-
تعالى:
يكره ذلك. وروي أن رجلا سأل ابن عمر رضي الله
تعالى عنهما عن ذلك فقال أما ابن عمر فلا يفعل
ذلك وأما أنت إذا وجدت الماء فاغتسل. قال مالك
رحمه الله تعالى الضرورة لا تتحقق في اكتساب
سبب الجنابة في حال عدم الماء والصلاة مع
الجنابة أمر عظيم فلا ينبغي أن يتعرض لذلك من
غير ضرورة.
ولنا: قوله تعالى:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}،
فذلك يفيد إباحة الملامسة في حال عدم الماء ثم
التيمم للجنابة والحدث بصفة واحدة وكما يجوز
له اكتساب سبب الحدث في حال عدم الماء فكذلك
اكتساب سبب الجنابة لأن في منع النفس بعد غلبة
السبق بعض الحرج وما شرع التيمم إلا لدفع
الحرج.
قال: "ومن تيمم وهو يريد تعليم الغير ولا يريد
به الصلاة لم يجزه" لما بينا أن التيمم في
اللغة هو القصد وذلك يدل على اشتراط النية فيه
وظاهر ما يقول في الكتاب أنه يحتاج إلى نية
الصلاة. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن نية
الطهارة تكفي. وكان أبو بكر الرازي رحمه الله
تعالى يقول يحتاج إلى نية التيمم للحدث أو
الجنابة لأن التيمم لهما بصفة واحدة فلا يتميز
أحدهما عن الآخر إلا بالنية.
قال: "ولو تيمم بنية النفل جاز له أداء الفرض"
عندنا خلافا للشافعي رضي الله عنه وقد بينا
هذا أنه يعتبر الضرورة للتيمم، ثم أداء
النافلة بالتيمم يجوز عندنا كأداء الفرض. وقال
الزهري رضي الله تعالى عنه لا يجوز لأنه لا
ضرورة في أداء النافلة.
قال: "مسافرة طهرت من حيضها فلم تجد ماء
فتيممت وصلت فلزوجها أن يقربها" لأنا حكمنا
بطهارتها حين صح تيممها وتأكد ذلك بجواز
صلاتها ولم يذكر ما إذا تيممت ولم تصل، فقيل
هو على الاختلاف عند أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى ليس للزوج أن يقربها، وعند
محمد رحمه الله له ذلك بناء على قصد الرجعة،
والأصح أنه ليس للزوج أن يقربها عندهم جميعا
لأن محمدا رحمه الله تعالى إنما جعل التيمم
كالاغتسال فيما هو مبني على الاحتياط وهو قطع
الرجعة والاحتياط في الوطء تركه فلم يجعل
التيمم فيه قبل تأكده بالصلاة كالاغتسال كما
لم يفعله في الحل للأزواج.
قال: "مسافر مر بمسجد فيه عين ماء وهو جنب ولا
يجد غيره فإنه يتيمم لدخول المسجد" لأن
الجنابة تمنعه من دخول المسجد على كل حال
عندنا سواء قصد المكث فيه أو الاجتياز، وعند
الشافعي رحمه الله تعالى له أن يدخله مجتازا
لظاهر قوله تعالى:
{وَلا جُنُباً
إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}
[النساء: 43]، ولكن أهل التفسير قالوا إن
"إلا" هنا بمعنى ولا أي ولا عابري سبيل وهذا
محتمل فبقى المنع بقوله:
{لا تَقْرَبُوا}
[النساء: 43]. وهو عاجز عن الماء قبل دخول
المسجد فيتيمم ثم يدخل المسجد فيستقى منه وإن
لم يكن معه ما يستقى به ولا يستطيع أن يغترف
منه ولكنه يستطيع أن يقع فيه فإن كان ماء
جاريا أو حوضا
ج / 1 ص -111-
كبيرا
اغتسل فيه وإن كان عينا صغيرا فالاغتسال فيه
ينجس الماء ولا يطهره فلا يشتغل به ولكنه
يتيمم للصلاة وهذا إشارة منه إلى أنه لا يصلى
بالتيمم الأول لأن قصده عند ذلك دخول المسجد
ونية الصلاة شرطه لصحة التيمم في ظاهر الرواية
فلهذا تيمم ثانيا وكذلك لو تيمم لمس المصحف
فليس له أن يصلى به بخلاف ما إذا تيمم لسجدة
تلاوة لأن السجدة من أركان الصلاة فنيته
للسجدة عند التيمم كنية الصلاة فأما مس المصحف
ودخول المسجد ليس من أركان الصلاة فلا يصير
بنيته ذلك ناويا للصلاة.
قال: "ولا يتوضأ بسؤر الكلب" إلا على قول مالك
رحمه الله تعالى وقد بينا أن عنده سؤره طاهر
والأمر بغسل الإناء من ولوغه تعبد وعند عامة
العلماء سؤره نجس وظاهر قوله صلى الله عليه
وسلم:
"طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله
ثلاثا" دليل على نجاسته والتطهير لا يحصل بالنجس فكان فرضه التيمم.
قال: "ويتيمم لصلاة الجنازة في المصر إذا خاف
فوتها" وكذلك لصلاة العيد عندنا. وقال الشافعي
رحمه الله تعالى لا يتيمم لهما لأن التيمم
طهور شرع عند عدم الماء فمع وجوده لا يكون
طهورا ولا صلاة إلا بطهور. ومذهبنا مذهب ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما قال إذا فاجأتك
جنازة فخشيت فوتها فصل عليها بالتيمم ونقل عن
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في صلاة العيد
مثله وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم
رد السلام بطهارة التيمم حين خاف الفوت
لمواراة المسلم عن بصره فصار هذا أصلا إلى أن
كل ما يفوت لا إلى بدل يجوز أداؤه بالتيمم مع
وجود الماء وصلاة العيد تفوت لا إلى بدل لأنها
لا تقضى إذا فاتت مع الإمام وكذلك صلاة
الجنازة تفوت لا إلى بدل لأنها لا تعاد عندنا
وكأن الخلاف مبنى على هذا الأصل والفقه فيه أن
التوضؤ بالماء إنما يلزمه إذا كان يتوصل به
إلى أداء الصلاة وهنا لا يتوصل بالتوضؤ إلى
أداء الصلاة لأنه تفوته الصلاة لو اشتغل
بالوضوء فإذا سقط عنه الخطاب باستعمال الماء
صار وجود الماء كعدمه فكان فرضه التيمم وبهذا
فارق صلاة الجمعة فإنه لا يتيمم لها وإن خاف
الفوت لأن الوضوء هناك يتوصل به إلى الصلاة
وهو الطهر الذي هو أصل فرض الوقت فكان مخاطبا
باستعمال الماء وبخلاف سجدة التلاوة لأنها غير
مؤقتة فلا تفوته وبالوضوء يتوصل إلى أدائها
فلا يجزئه أداؤها بالتيمم لهذا.
قال: "وإن سبقه الحدث بعد ما شرع في صلاة
العيد فإن كان شروعه بالتيمم تيمم وبنى
بالاتفاق وإن كان شروعه بالوضوء تيمم للبناء"
عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وعندهما لا
يتيمم لأنه لا يخاف الفوت فإنه إذا ذهب للوضوء
كان له أن يبنى وإن عاد بعد فراغ الإمام. وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى يقول لما جاز الافتتاح
بطهارة التيمم فالبناء أجوز لأن حالة البناء
أسهل وخوف الفوت قائم فربما يبتلى بالمعالجة
مع الناس لكثرة ازدحامهم فتفسد صلاته ولا يصل
إلى الماء حتى تزول الشمس فتفوته بمضى الوقت.
وقيل: هذا
ج / 1 ص -112-
الجواب
بناء على جبائية الكوفة فإن الماء بعيد لا يصل
إليه حتى يعود إلى المصر فأما في ديارنا الماء
محيط بالمصلى فلا يتيمم للابتداء ولا للبناء
لأنه لا يخاف الفوت. وقد روى الحسن عن أبي
حنيفة رحمهم الله أن ولي الميت لا يصلى على
الجنازة بالتيمم بخلاف غيره لأنه لا يخاف
الفوت فإن الناس وإن صلوا عليها كان له حق
الإعادة.
قال: "ولا يجوز التيمم من مكان قد كان فيه بول
أو نجاسة وإن ذهب الأثر" وذكر بن كاسر النخعي
عن أصحابنا رضي الله تعالى عنهم أنه لا يجوز
لأنه حكم بطهارة ذلك المكان حين ذهب أثر
النجاسة بدليل جواز الصلاة عليها. وجه ظاهر
الرواية أن شرط جواز التيمم طيبة الصعيد كما
قال الله تعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}، وهذا المكان صار طاهرا وليس من ضرورة الطهارة الطيبة ولم يصر طيبا
ثم طهارة هذا المكان ثابتة بخبر الواحد
واشتراط الطهارة في الصعيد ثابت بنص مقطوع به
فلا يتأدى بما يثبت بخبر الواحد كمن استقبل
الحطيم في الصلاة دون البيت لا تجوز صلاته
لهذا وقد قررناه.
قال: "وإن افتتح الصلاة بالوضوء ثم سبقه الحدث
فلم يجد ماء تيمم وبنى" لأن افتتاح الصلاة
بالتيمم عند عدم الماء جائز فالبناء أجوز لأنه
بنى الضعيف على القوي وذلك مستقيم فإن وجد ماء
ينظر فإن كان بعد ما عاد إلى مكانه توضأ
واستقبل بالاتفاق وإن كان قبل أن يعود إلى
مكانه فالقياس يتوضأ ويستقبل الصلاة وهو قول
محمد رحمه الله تعالى لأن حرمة الصلاة باقية
بعد التيمم وهذا متيمم وجد الماء في خلال
صلاته فيتوضأ ويستقبل الصلاة. استحسن أبو
حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى فقالا
يتوضأ ويبنى ويجعل كأنه لم يتيمم أصلا ولكنه
كان في طلب الماء إلى أن يجد الماء بخلاف ما
إذا عاد إلى مكان الصلاة فإن هناك لو جعلناه
كأنه لم يتيمم كانت صلاته فاسدة وهذا لأنه
إنما لا يتوضأ للبناء إذا أدى شيئا من الصلاة
بطهارة التيمم وقبل العود إلى مكان الصلاة لم
يؤد شيئا بطهارة التيمم فكان له أن يتوضأ
ويبنى.
قال: "وإن كان الإمام متيمما فأحدث فاستخلف
متوضأ ثم وجد الماء الإمام الأول فسدت صلاته
وحده" لأن الإمامة تحولت منه إلى الثاني وصار
هو كواحد من القوم ففساد صلاته لا يفسد صلاة
غيره وإن كان الإمام متوضأ والخليفة متيمما
فوجد الخليفة الماء فسدت صلاته وصلاة الأول
والقوم جميعا لأن الإمامة تحولت إليه وصار
الأول كواحد من المقتدين به وفساد صلاة الإمام
تفسد صلاة القوم.
قال: "وإذا أم المتيمم المتوضئين فأبصر بعض
القوم الماء ولم يعلم به الإمام والآخرون حتى
فرغوا فصلاة الإمام والقوم تامة إلا من أبصر
الماء" فإن صلاته فاسدة عندنا. وقال زفر رضي
الله عنه تعالى لا تفسد صلاته وهو رواية عن
أبي يوسف رحمه الله، ووجهه أنه لا بد لفساد
الصلاة من سبب وهو في نفسه متوضئ فرؤية الماء
لا تكون مفسدا في حقه وإنما
ج / 1 ص -113-
تفسد
صلاته لفساد صلاة الإمام وصلاة الأمام هنا
صحيحة فلا معنى لفساد صلاته.
ولنا: أن طهارة الإمام معتبرة في حق المقتدي
بدليل أنه لو تبين أن الإمام محدث لم تجز صلاة
القوم وطهارته هنا تيمم فيجعل في حق من أبصر
الماء كأنه هو المتيمم فلهذا فسدت صلاته لأنه
اعتقد الفساد في صلاة إمامه لأنه عنده أنه
يصلى بطهارة التيمم مع وجود الماء والمقتدي
إذا اعتقد الفساد في صلاة إمامه تفسد صلاته
كما لو اشتبهت عليهم القبلة فتحرى الإمام إلى
جهة والمقتدي إلى جهة أخرى لا يصح اقتداؤه به
إذا كان عالما أن إمامه يصلي إلى غير جهته.
قال: "متيمم رأى في صلاته سرابا فظن أنه ماء
فمشى إليه فإذا هو سراب فعليه أن يستقبل
الصلاة" لأن مشيه كان على وجه الرفض لتلك
الصلاة بدليل أن ما ظن لو كان حقا كانت صلاته
فاسدة فلم يكن له أن يبني كما لو ظن في خلال
الصلاة أنه نسي مسح الرأس فمشى ليمسح ثم تذكر
أنه كان مسح فليس له أن يبني بخلاف ما إذا ظن
أنه سبقه الحدث فمشي ليتوضأ فعلم قبل أن يخرج
من المسجد أنه ليس بحدث كان له أن يبني لأن
انصرافه هناك كان لإصلاح الصلاة دون رفضها
بدليل أن ما ظن لو كان حقا كان له أن يتوضأ
ويبنى فما لم يفارق مكان الصلاة جعل كأنه في
موضعه فبنى لهذا.
قال: "ومن استيقن بالتيمم فهو على تيممه حتى
يستيقن بالحدث أو بوجود الماء" للأصل الذي
قدمناه في الوضوء أن اليقين لا يزول بالشك.
قال: "وإذا أراد التيمم فتمعك في التراب ودلك
بذلك جسده كله فإن كان أصاب التراب وجهه
وذراعيه وكفيه أجزأه" لأنه أتى بالواجب وزاد
عليه وقد بينا فيه حديث عمار رضي الله تعالى
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"كان يكفيك ضربتان"، يعنى ضربة للوجه وضربة للذراعين على ما عرف.
قال: "وإن بدأ بذراعيه في التيمم أو مكث بعد
تيمم وجهه ساعة ثم تيمم على ذراعيه أجزأه"
لأنه بدل عن الوضوء وقد بينا أن الترتيب
والموالاة في الوضوء مسنون لا يمنع تركه
الجواز فكذلك في التيمم.
قال: "وإذا تيمم جنب أو حائض من مكان ثم وضع
آخر يده على ذلك المكان فتيمم به أجزأه" لأن
الصعيد الباقي في المكان بعد تيمم الأول نظير
الماء الباقي في الإناء بعد وضوء الأول
واغتساله به فيكون طهورا في حق الثاني كذا
هذا.
قال: "وإذا تيمم وهو مقطوع اليدين من المرفقين
فعليه مسح موضع القطع من المرفق عندنا" خلافا
لزفر رحمه الله تعالى بناء على أن المرفق يدخل
في فرض الطهارة عندنا خلافا لزفر رحمه الله
تعالى ثم موضع القطع صار باديا في حقه فهو
نظير الكف في حق من هو صحيح اليدين فعليه مسحه
في التيمم وإن كان القطع من فوق المرفق لم يكن
ج / 1 ص -114-
عليه
مسحه لأن موضع الطهارة من يده فائت فإن ما فوق
المرفق ليس بموضع الطهارة.
قال: "وإذا تيمم وفي رحله ماء لا يعلم به بأن
كان نسيه بعد ما وضعه أو وضعه بعض أهله فصلاته
بالتيمم جائزة" عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله تعالى، ولا تجوز عند أبي يوسف رحمه الله
تعالى قال لأن الماء في السفر من أهم الأشياء
عند المسافر فقد نسي ما لا ينسى عادة فلا
يعتبر نسيانه كما لو كان الماء على ظهره أو
معلقا في عنقه فنسيه لا يعتبر نسيانه ولأن
جواز التيمم عند عدم الماء وهو واجد للماء
لكونه في رحله فإن رحله في يده فلا يجزئه
التيمم كالمكفر بالصوم إذا نسى الرقبة في ملكه
لا يجزئه لهذا.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى احتجا في
الكتاب وقالا بأن الله تعالى لم يكلفه إلا
علمه ومعنى هذا أن التكليف بحسب الوسع وليس في
وسعه استعمال الماء قبل علمه به وإذا لم يكن
مخاطبا باستعماله فوجوده كعدمه كالمريض ومن
يخاف العطش على نفسه تقديره أنه عدم آلة
الوصول إلى الماء وهو العلم به فكان نظير
الواقف على شفير البئر وليس معه آلة الاستقاء
ففرضه التيمم بخلاف الرقبة فالمعتبر هناك
ملكها حتى لو عرض إنسان عليه الرقبة كان له أن
لا يقبل ويكفر بالصوم وبالنسيان لم ينعدم ملكه
وهنا المعتبر القدرة على استعمال الماء حتى لو
عرض إنسان عليه الماء لا يجزئه التيمم
وبالنسيان زالت هذه القدرة فجاز تيممه وهو
بخلاف ما إذا كان عالما به وظن أنه قد نفد لأن
القدرة على الاستعمال ثابتة بعلمه فلا ينعدم
بظنه وعليه التفتيش فإذا لم يفعل لا يجزئه
التيمم بخلاف ما نحن فيه على ما بينا.
قال: "وإذا كان به جدرى أو جراحات في بعض جسده
فإن كان محدثا فالمعتبر أعضاء الوضوء" فإن كان
أكثره صحيحا فعليه الوضوء في الصحيح وإن كان
أكثره مجروحا فعليه التيمم دون غسل الصحيح منه
وإن كان جنبا فالعبرة بجميع الجسد فإن كان
أكثره مجروحا تيمم وصلى عندنا. وقال الشافعي
رحمه الله تعالى: يلزمه الغسل فيما هو صحيح في
الوجوه جميعا لأن سقوط الغسل عما هو مجروح
لضرورة الضرر في إصابة الماء والثياب والضرورة
تتقدر بقدرها. ولنا أن الأقل تابع للأكثر فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجدور:
"كان
يكفيه التيمم"، وأحد لا يقول أنه يغسل ما بين كل جدريين فدل على أن العبرة
للأكثر. وإذا كان الأكثر مجروحا فكأن الكل
مجروح وقد بينا أنه لا يجمع بين الأصل والبدل
على سبيل رفو أحدهما بالآخر فإذا كان الأكثر
مجروحا لم يكن له بد من التيمم فسقط فرض الغسل
لهذا.
قال: "وإن أجنب الصحيح في المصر فخاف أن يقتله
البرد إن اغتسل فإنه يتيمم" في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى كالمسافر إذا خاف ذلك وعندهما
يجزئه ذلك في السفر ولا يجزئه في المصر، قالا
لأن السفر يتحقق فيه خوف الهلاك من البرد فإنه
لا يجد ماء
ج / 1 ص -115-
سخينا
ولا ثوبا يتدفأ به ولا مكانا يأويه وأما المصر
لا يعدم أحد هذه الأشياء إلا نادرا ولا عبرة
بالنادر ولهذا لم يجعل عدم الماء في المصر
مجوزا للتيمم بخلاف خارج المصر. وأبو حنيفة
رحمه الله تعالى يقول المسافر يجوز له التيمم
مع وجود الماء لخوف الهلاك من البرد فإذا تحقق
ذلك في حق المقيم كان هو كالمسافر لأن معنى
الحرج من استعمال الماء ثابت فيهما ولأن من
جاز له التيمم مع وجود الماء فالمصر والسفر له
سواء كالمريض.
وأما المحبوس في السجن فإن كان في موضع نظيف
وهو لا يجد الماء كان أبو حنيفة رحمه الله
تعالى يقول إن كان خارج المصر صلى بالتيمم وإن
كان في المصر لم يصل وهو قول زفر رضي الله
تعالى عنه ثم رجع فقال يصلى ثم يعيد وهو قول
أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى. وجه قوله
الأول أن عدم الماء في المصر غير معتبر شرعا
حتى لا يسقط عنه الفرض بالتيمم ويلزمه الإعادة
فلم يكن التيمم طهورا له ولا صلاة إلا بطهور.
وجه قوله الآخر أن عدم الماء في المصر إنما لا
يعتبر لأنه لا يكون إلا نادرا فأما في السجن
فعدم الماء ليس بنادر فكان معتبرا فأمر
بالصلاة بالتيمم لعجزه عن الماء فأما الإعادة
ففي القياس لا يلزمه وهو رواية عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى كما لو كان في السفر وفي
الاستحسان يعيد لأن عدم الماء كان لمعنى من
العباد ووجوب الصلاة عليه بالطهارة لحق الله
تعالى فلا يسقط بما هو من عمل العباد بخلاف
المسافر فإن هناك جواز التيمم لعدم الماء لا
للحبس فلا صنع للعباد فيه فهو نظير المقيد إذا
صلى قاعدا تلزمه الإعادة إذا رفع القيد عنه
بخلاف المريض.
وإن كان محبوسا في مكان قذر لا يجد صعيدا طيبا
ولا ماء يتوضأ به فإنه لا يصلى في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه
الله تعالى يصلى بالإيماء تشبها بالمصلين.
واختلفت الروايات عن محمد رحمه الله تعالى
فذكر في الزيادات ونسخ أبي حفص رحمه الله
تعالى من الأصل كقول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى. وفي نسخ أبي سليمان رحمه الله تعالى
ذكر قوله كقول أبي يوسف رحمه الله تعالى،
ووجهه أن العاقل المسلم لا يجوز أن يمضى عليه
وقت الصلاة وهو لا يتشبه بالمصلين فيه بحسب
الإمكان والتكليف إنما يثبت بحسب وسعه.
ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الصلاة
بغير طهور معصية ولا يحصل التشبه بالمصلين
فيما هو معصية وقد تقدم نظيره. ومن نظائره
الهارب من العدو ماشيا والمشتغل بالقتال في
حال المسايفة والسابح في البحر بعد ما انكسرت
السفينة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى يصلون
بالإيماء تشبها ثم يعيدون. وعند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى لا يصلون لأن مع
العمل من القتال والسباحة والمشى لا تكون
الصلاة قربة وفي
ج / 1 ص -116-
الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل عن
أربع صلوات يوم الخندق لكونه كان مشغولا
بالقتال فدل أنه لا يصلى في هذه الحالة.
قال: "مسافر جنب غسل فرجه ووجهه وذراعيه ورأسه
ثم أهراق الماء فتيمم وافتتح الصلاة ثم قهقه
فيها ووجد الماء فعليه أن يغسل وجهه وذراعيه
ويمسح برأسه ويغسل ما بقي من بعض جسده" لأن
شروعه في الصلاة قد صح بالتيمم والقهقهة في
الصلاة لو طرأ على غسل جميع الأعضاء نقض
طهارته فيها فكذلك إذا طرأ على غسل بعض
الأعضاء بمنزلة سائر الأحداث. وعن أبي يوسف
رحمه الله تعالى في الإملاء قال القهقهة في
الصلاة ناقض للطهارة التي بها شرع في الصلاة
وشروعه في الصلاة هنا بالتيمم لا بغسل وجهه
وذراعيه ولا تنتقض بالقهقهة طهارته في الوجه
والذراعين ولا يلزمه إعادة الغسل فيهما كما لا
يلزمه إعادة الغسل فيما غسل من جسده سوى أعضاء
الوضوء.
قال: "جنب اغتسل فبقى على بدنه لمعة لم يصبها
الماء فإنه يتيمم ويصلى" لأن زوال الجنابة
معتبر ثبوتها حكما فكما لا يتحقق ثبوتها في
بعض البدن دون البعض فكذلك لا يتحقق زوالها ما
بقى شيء لم يصبه الماء فإن وجد الماء بعد ذلك
غسل ذلك الموضع لأنه قدر على ما يطهره ولا
يتيمم لأنه طاهر عن الحدث فإن كان أحدث قبل
غسل ذلك الموضع فالمسئلة على أوجه:
إن كان الماء الذي وجده يكفيه للمعة والوضوء
غسل اللمعة ليخرج من الجنابة ثم يتوضأ لأنه
محدث معه ما يوضئه. وإن كان لا يكفى لواحد
منهما يتيمم للحدث وتيممه للجنابة باق ولكنه
يستعمل ذلك الماء في اللمعة لتقليل الجنابة.
وإن كان يكفيه للمعة دون الوضوء غسل به اللمعة
ليخرج من الجنابة ثم يتيمم للحدث. وإن كان
يكفيه للوضوء دون اللمعة توضأ به وتيممه
للجنابة باق. وإن كان يكفيه لكل واحد منهما
على الانفراد غسل به اللمعة لتزول به الجنابة
فإن حكمها أغلظ من الحدث حتى يمنع الجنب من
القراءة دون المحدث ثم يتيمم للحدث فإن بدأ
بالتيمم للحدث أجزأه في رواية كتاب الصلاة ولم
يجزه في رواية الزيادات. وقيل ما ذكر في
الزيادات قول محمد رحمه الله تعالى، ووجهه أنه
تيمم ومعه ماء يكفيه للوضوء فلا يعتبر تيممه.
وما ذكر في الأصل قول أبي يوسف رحمه الله
تعالى ووجهه أن الماء مستحق للمعة فهو
كالمعدوم في حق الحدث كالمستحق للعطش وشبه هذا
بسؤر الحمار في أنه يجمع المسافر بين التوضؤ
به والتيمم والأولى أنه يبدأ بالوضوء به فإن
بدأ بالتيمم أجزأه فكذلك هنا.
قال: "متيمم افتتح الصلاة ثم وجد سؤر حمار مضى
على صلاته فإذا فرغ توضأ به وأعاد الصلاة" لأن
سؤر الحمار مشكوك في طهارته وشروعه في الصلاة
قد صح فلا ينتقض بالشك فلهذا يتم للصلاة ثم
يتوضأ به ويعيد احتياطا لجواز أن يكون سؤر
الحمار طاهرا.
ج / 1 ص -117-
قال:
"ولو وجد نبيذ التمر في خلال الصلاة فكذلك"
عند محمد رحمه الله تعالى يتم صلاته ثم يتوضأ
به ويعيد، لأنه كسؤر الحمار عنده، وعند أبي
يوسف رحمه الله تعالى يتم صلاته ولا يعيد لأن
النبيذ عنده ليس بطهور، وعند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى يقطع صلاته لأن نبيذ التمر بمنزلة
الماء عنده في حال عدم الماء فتنتقض صلاته
بوجوده فيتوضأ به ويستقبل. وإن وجد سؤر الحمار
والنبيذ جميعا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
تفسد صلاته فيتوضأ بهما ثم يستقبل لأن سؤر
الحمار إن كان طاهرا فالنبيذ معه ليس بطهور
فلهذا توضأ بهما، وعند أبي يوسف رحمه الله
تعالى يمضى في صلاته فإذا فرغ توضأ بهما وأعاد
الصلاة احتياطا.
فصل في ذكر المسائل المعدودة لأبي حنيفة رحمه
الله تعالى
إذا فرغ المصلي من تشهده
ولم يسلم حتى انقضى وقت مسحه أو وجد في خفه
شيئا فنزعه فانتقض به مسحه فسدت صلاته في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وكذلك المتيمم إذا
وجد الماء ومصلى الجمعة إذا خرج وقتها ومصلي
الفجر إذا طلعت عليه الشمس والعارى إذا وجد
ثوبا والأمى إذا تعلم القراءة والقارئ إذا
استخلف أميا والمومىء إذا قدر على الركوع
والسجود والمصلي إذا تذكر الفائتة وصاحب الجرح
السائل إذا بريء جرحه أو ذهب وقته وكذلك
المستحاضة ومصلي الفائتة إذا تغيرت الشمس.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قد
مضت في جميع ذلك وخرج بها عنها وجازت عنه.
فمن أصحابنا من قال: هذه المسائل تبتنى على
أصل وهو أن الخروج من الصلاة بصنع المصلى فرض
عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما ليس بفرض
واحتجاجهما بحديث عبد الله بن عمر رضي الله
تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا رفع المصلى رأسه من آخر سجدة وقعد قدر التشهد فقد تمت صلاته". ولأنه
بالاتفاق لو تكلم أو قهقه أو أحدث متعمدا أو
حادث المرأة الرجل في هذه الحالة لم تفسد
الصلاة ولو بقى عليه شيء من فرائض الصلاة
لفسدت في هذه الأمور كما تفسد قبل القعدة.
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن هذه عبادة لها
تحريم وتحليل فلا يخرج منها على وجه التمام
إلا بصنعه كالحج وتقريره أن بعد التشهد لو
أراد استدامة التحريمة إلى خروج الوقت أو إلى
دخول صلاة أخرى منع منه ولو لم يبق عليه شيء
من الصلاة لم يمنع من ذلك، وتأويل الحديث: أي
قارب التمام كما قال من وقف بعرفة فقد تم حجة
أي قارب التمام والكلام والحدث العمد
والمحاذاة والقهقهة صنع من جهته.
فإن قيل: فنزع الخف أيضا صنعه. قلنا: هو صنع
غير قاطع حتى إن غاسل الرجلين لو
ج / 1 ص -118-
فعله
في خلال الصلاة لا يضره ولهذا قيل تأويله إن
كان الخف واسع الساق لا يحتاج في نزعه إلى
المعالجة فإن كان يحتاج إلى ذلك فصلاته تامة
بالاتفاق.
فإن قيل: فالاستخلاف أيضا صنعه. قلنا: نعم
ولكنه صنع غير مفسد بدليل أنه لو استخلف
القارئ في خلال الصلاة لم يضره ولكن هذا ليس
بقوى لاستحالة أن يقال يتأدى فرض الصلاة
بالكلام والحدث العمد. ولو كان الخروج بصنع
المصلى فرضا لاختص بما هو قربة كالخروج من
الحج ولكن الصحيح لأبي حنيفة أن التحريمة
باقية بعد الفراغ من التشهد واعتراض المغير
للفرض في هذه الحالة كاعتراضه في خلال الصلاة
بدليل أن المسافر لو نوى الإقامة في هذه
الحالة يتغير فرضه كما لو نوى الإقامة في خلال
الصلاة وهذه العوارض مغيرة للفرض بخلاف الكلام
فإنه قاطع لا مغير والقهقهة والحدث العمد
والمحاذاة مبطل لا مغير.
فإن قيل: فطلوع الشمس في خلال الفجر مبطل لا
مغير وقد جعلتموه على الاختلاف. قلنا: لا كذلك
بل هو مغير للصلاة من الفرض إلى النفل فإنه لا
يصير خارجا به من التحريمة وجميع ما بينا فيما
إذا اعترض قبل السلام كذلك في سجود السهو أو
بعد ما سلم قبل أن يتشهد أو بعد التشهد وقبل
أن يسلم لأن التحريمة باقية فإن عرض له شيء من
ذلك بعد ما سلم قبل أن يسجد للسهو فصلاته تامة
أما عندهما فلا شك وعند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى لأنه بالسلام يخرج من التحريمة ولهذا لا
يتغير فرض المسافر بنية الإقامة في هذه الحالة
وكذلك إن كان يسلم إحدى التسليمتين لأن انقطاع
التحريمة يحصل بتسليمة واحدة وهذا كله بناء
على قولنا.
فأما عند الشافعي رحمه الله تعالى تفسد صلاته
بالكلام والحدث العمد والعوارض المفسدة في هذه
الحالة لأن الخروج بالسلام عنده من فرائض
الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "وتحليلها
التسليم". فكما أن التحريم من الصلاة مختص بما هو قربة فكذلك التحليل. ولنا
حديث بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما علمه التشهد قال له: "إذا قلت هذا أو
فعلت هذا فقد تمت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم
وإن شئت أن تقعد فاقعد".
ولأن التسليم خطاب منه للناس حتى لو باشره في
خلال الصلاة عمدا تفسد صلاته وما يكون من
أركان الصلاة لا يكون مفسدا للصلاة وتبين بهذا
أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:
"وتحليلها التسليم"، الإذن بانقضائها فإن من
تحرم للصلاة فكأنه غاب عن الناس لا يكلمهم ولا
يكلمونه وعند التسليم يصير كالعائد إليهم
فلهذا يسلم عليهم، لا أن التسليم من أركان
الصلاة ولو عرض له شيء من ذلك قبل أن يقعد قدر
التشهد أعاد الصلاة لأن القعدة من الأركان لما
روينا من حديث ابن مسعود.
ج / 1 ص -119-
وزعم
بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أن القدر
المفروض من القعدة ما يأتى فيه بكلمة
الشهادتين، والأصح أن المفروض قدر ما يتمكن
فيه من قراءة التشهد إلى قوله عبده ورسوله
فالتشهد إذا أطلق يفهم منه هذا. وفي الإملاء
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن أبا حنيفة
رحمه الله تعالى كان يقول أولا في الأمي يتعلم
السورة في خلال الصلاة أنه يقرأ ويبنى كالقاعد
يقدر على القيام ثم رجع عن ذلك وقال إن صلاة
الأمي ضرورة محضة حتى لا يجوز ترك القراءة مع
القدرة في النفل والفرض فهو قياس المومي يقدر
على الركوع والسجود والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الأذان
الأذان في اللغة الإعلام ومنه قوله تعالى:
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] الآية. وتكلموا في سبب ثبوته فروى أبو حنيفة رحمه الله
تعالى عن علقمة بن مرثد عن أبي بردة عن أبيه
قال مر أنصاري بالنبي صلى الله عليه وسلم فرآه
حزينا، وكان الرجل ذا طعام فرجع إلى بيته
واهتم لحزنه صلى الله عليه وسلم فلم يتناول
الطعام ولكنه نام فأتاه آت فقال: أتعلم حزن
رسول الله صلى الله عليه وسلم مم ذا هو من هذا
الناقوس فمره فليعلم بلالا الأذان وذكره إلى
آخره.
والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم
المدينة كان يؤخر الصلاة تارة ويعجلها أخرى
فاستشار الصحابة في علامة يعرفون بها وقت
أدائه الصلاة لكي لا تفوتهم الجماعة فقال
بعضهم ننصب علامة حتى إذا رآها الناس أذن
بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك وأشار بعضهم بضرب
الناقوس فكرهه لأجل النصارى وبعضهم بالنفخ في
الشبور 1، فكرهه لأجل اليهود وبعضهم بالبوق
فكرهه لأجل المجوس فتفرقوا قبل أن يجتمعوا على
شيء.
قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري: فبت
لا يأخذني النوم وكنت بين النائم واليقظان إذ
رأيت شخصا نزل من السماء وعليه ثوبان أخضران
وفي يده شبه الناقوس فقلت أتبيعنى هذا فقال ما
تصنع به فقلت نضربه عند صلاتنا فقال ألا أدلك
على ما هو خير من هذا؟ فقلت: نعم فقام على
حذم2 حائط مستقبل القبلة فأذن ثم مكث هنيهة ثم
قام فقال مثل مقالته الأولى وزاد في آخره: "قد
قامت الصلاة" مرتين. فأتيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأخبرته بذلك فقال:
"رؤيا صدق"،
أو قال:
"حق ألقها على بلال فإنه أمد صوتا منك". فألقيتها عليه فقام على سطح أرملة كان أعلى السطوح بالمدينة وجعل
يؤذن. فجاء عمر رضي الله تعالى عنه في إزار
وهو يهرول ويقول لقد طاف بي الليلة ما طاف
بعبد الله إلا أنه قد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الشبور" بالشين المعجمة: والباء الموحدة
على وزن تنورة هو البوق ينفخ فيه ما يفهم من
كلام القاموس ويفهم من كلام السيد عاصم أن
البوق أعمم وشبور في الفارسي بباؤه بثلاث نقط
اهـ. "كتبه مصححه".
2 "على حزم" بالحاء المهملة والذال المعجمة
المراد به قطعة حائط مرتفعة اهـ "كتبه مصححه".
ج / 1 ص -120-
سبقنى
فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا أثبت". وروى أن سبعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين رأوا تلك
الرؤيا في ليلة واحدة.
وكان أبو حفص محمد بن علي ينكر هذا ويقول
تعمدون إلى ما هو من معالم الدين فتقولون ثبت
بالرؤيا كلا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم
حين أسرى به إلى المسجد الأقصى وجمع له
النبيون أذن ملك وأقام فصلى بهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وقيل: نزل به جبريل عليه
الصلاة والسلام حتى قال كثير بن مرة أذن جبريل
في السماء فسمعه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه ولا منافاة بين هذه الأسباب فيجعل كأن ذلك
كان.
ثم يختلفون في الأذان في ثلاثة مواضع:
أحدهما: في الترجيع فإنه ليس
من سنة الأذان عندنا خلافا للشافعي رحمه الله
تعالى، وصفته أن يأتي بكلمة الشهادتين مرتين
يخفض بهما صوته ثم يرجع فيأتى بهما مرتين
أخريين يرفع بهما صوته واحتج الشافعي رحمه
الله تعالى بحديث أبي محذورة أن النبي صلى
الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة
والإقامة سبع عشرة كلمة ولا يكون تسع عشرة
كلمة إلا بالترجيع وروى أنه أمر بالترجيع نصا
وجعل كلمة الشهادتين قياس التكبير فكما أنه
يأتى بلفظة التكبير أربع مرات فكذلك كلمة
الشهادتين. ولنا حديث عبد الله بن زيد رضي
الله تعالى عنه فهو الأصل وليس فيه ذكر
الترجيع ولأن المقصود من الأذان قوله حى على
الصلاة حي على الفلاح ولا ترجيع في هاتين
الكلمتين ففيما سواهما أولى. وأما لفظ التكبير
فدليلنا فإن ذكر التكبير مرتين لما كان بصوت
واحد فهو كلمة واحدة.
فأما حديث أبي محذورة قلنا: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمر بالتكرار حالة التعليم
ليحسن تعلمه وهو كان عادته فيما يعلم أصحابه
فظن أنه أمره بالترجيع. وقيل: إن أبا محذورة
كان مؤذن مكة فلما انتهى إلى ذكر رسول الله
صلى الله عليه وسلم خفض صوته استحياء من أهل
مكة لأنهم لم يعهدوا ذكر اسم رسول الله صلى
الله عليه وسلم بينهم جهرا ففرك رسول الله صلى
الله عليه وسلم أذنه وأمره أن يعود فيرفع صوته
ليكون تأديبا له.
والثاني: في التكبير عندنا
أربع مرات، وعند مالك رحمه الله تعالى مرتين
وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قاسه
بكلمة الشهادتين يأتى بهما مرتين. ولنا حديث
عبد الله بن زيد وحديث أبي محذورة رضي الله
تعالى عنهما في الأذان تسع عشرة كلمة ولن يكون
ذلك إذا كان التكبير مرتين ثم قد بينا أن كل
تكبيرتين بصوت واحد فكأنهما كلمة واحدة فيأتى
بهما مرتين كما يأتى بالشهادتين.
والثالث: أن آخر الأذان: "لا
إله إلا الله"، وعلى قول أهل المدينة: "لا إله
إلا الله والله
ج / 1 ص -121-
أكبر
فاعتبروا آخره بأوله ويروون فيه حديثا ولكنه
شاذ فيما تعم به البلوى والاعتماد في مثله على
المشهور وهو حديث عبد الله بن زيد رضي الله
تعالى عنه على ما توارثه الناس إلى يومنا هذا.
قال: "وينبغي للمؤذن أن يستقبل القبلة في
أذانه حتى إذا انتهى إلى الصلاة والفلاح حول
وجهه يمينا وشمالا وقدماه مكانهما" ولأن
الأذان مناجاة ومناداة ففي حالة المناجاة
يستقبل القبلة وعند المناداة يستقبل من ينادي
لأنه يخاطبه بذلك كما في الصلاة يستقبل القبلة
فإذا انتهى إلى السلام حول وجهه يمينا وشمالا
لأنه يخاطب الناس بذلك فإذا فرغ من الصلاة
والفلاح حول وجهه إلى القبلة لأنه عاد إلى
المناجاة.
قال: "والإقامة مثنى مثنى كالأذان عندنا" وقال
الشافعي رحمه الله الإقامة فرادى فرادى إلا
قوله: "قد قامت الصلاة"، فإنها مرتان واستدل
بحديث أنس رضي الله تعالى عنه: :أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يشفع
الأذان ويوتر الإقامة: ولأن الأذان للإعلام فمع التكرار أبلغ في الإعلام والإقامة لإقامة
الصلاة فالإفراد بها أعجل لإقامة الصلاة فهو
أولى.
ولنا حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه
فهو الأصل كما بينا. ومر علي بمؤذن يوتر
الإقامة فقال اشفعها لا أم لك ولأنه أحد
الأذانين وهو مختص بقوله قد قامت الصلاة فلو
كان من سنته الأفراد لكان أولى به هذه الكلمة
وحديث أنس رضي الله تعالى عنه معناه أمر بلالا
أن يؤذن بصوتين ويقيم بصوت واحد بدليل ما روى
عن إبراهيم قال أول من أفرد الإقامة معاوية
رضي الله تعالى عنه وقال مجاهد رضي الله تعالى
عنه كانت الإقامة مثنى كالأذان حتى استخفه بعض
أمراء الجور فأفرده لحاجة لهم. وقال مالك رحمه
الله تعالى يفرد وقد قامت الصلاة أيضا ويروى
فيه حديثا عن سعد القرظي ولكنه شاذ فيما تعم
به البلوى والشاذ هي مسألة لا تكون حجة.
قال: "ويجعل أصبعيه في أذنيه عند أذانه" لقوله
صلى الله عليه وسلم لبلال:
"إذا أذنت فاجعل أصبعيك في
أذنيك فإنه أندى لصوتك". وقال
أبو جحيفة: رأيت بلالا يؤذن في صومعته يتبع
فاه ها هنا وها هنا وأصبعاه في أذنيه وإن لم
يفعل لم يضره لأن المقصود وهو الإعلام حاصل.
قال: "وإن استدار في صومعته لم يضره" لأنه
ربما لا يحصل المقصود بتحويل الوجه يمينا
وشمالا بدون الاستدارة لتباعد جوانب المحلة
فالاستدارة للمبالغة في الإعلام.
قال: "ولا يثوب في شيء من الصلاة إلا في الفجر
وكان التثويب الأول في الفجر بعد الأذان:
"الصلاة خير من النوم" مرتين، فأحدث الناس هذا
التثويب وهو حسن" أما معنى التثويب لغة
فالرجوع ومنه سمي الثواب لأن منفعة عمله تعود
إليه ويقال ثاب إلى المريض نفسه إذا برأ فهو
عود إلى الإعلام بعد الإعلام الأول بدليل ما
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
ج / 1 ص -122-
قال:
"إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله حصاص كحصاص 1 الحمار فإذا فرغ رجع
فإذا ثوب أدبر فإذا فرغ رجع فإذا أقام أدبر
فإذا فرغ رجع وجعل يوسوس إلى المصلى أنه كم
صلى"،
فهذا دليل على أن التثويب بعد الأذان.
وكان التثويب الأول: "الصلاة خير من النوم"
لما روي أن بلالا رضي الله تعالى عنه أذن
لصلاة الفجر ثم جاء إلى باب حجرة عائشة رضي
الله تعالى عنها فقال الصلاة يا رسول الله
فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها الرسول نائم
فقال بلال الصلاة خير من النوم فلما انتبه
أخبرته عائشة رضي الله تعالى عنها بذلك
فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله:
"فأحدث الناس هذا التثويب" إشارة إلى تثويب
أهل الكوفة فإنهم ألحقوا الصلاة خير من النوم
بالأذان وجعلوا التثويب بين الأذان والإقامة
حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين.
قال: "والتثويب في كل بلدة ما يتعارفونه أما
بالتنحنح أو بقوله الصلاة الصلاة أو بقوله قد
قامت الصلاة قد قامت الصلاة" لأنه للمبالغة في
الإعلام فإنما يحصل ذلك بما يتعارفونه.
قال: "ولا تثويب إلا في صلاة الفجر" لما روى
أن عليا رضي الله تعالى عنه رأى مؤذنا يثوب في
العشاء فقال أخرجوا هذا المبتدع من المسجد
ولحديث مجاهد رضي الله تعالى عنه قال دخلت مع
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مسجدا نصلي فيه
الظهر فسمع المؤذن يثوب فغضب وقال قم حتى نخرج
من عند هذا المبتدع فما كان التثويب على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في صلاة
الفجر ولأن صلاة الفجر تؤدى في حال نوم الناس
ولهذا خصت بالتطويل في القراءة فخصت أيضا
بالتثويب لكي لا تفوت الناس الجماعة وهذا
المعنى لا يوجد في غيرها. وفسره الحسن عن أبي
حنيفة رحمهما الله تعالى قال يؤذن للفجر ثم
يقعد بقدر ما يقرأ عشرين آية ثم يثوب ثم يقعد
مثل ذلك ثم يقيم لحديث بلال رضي الله تعالى
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
"إذا أذنت فأمهل الناس قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه
والمعتصر 2 من قضاء حاجته".
وإنما استحسن التثويب لأن الدعاء إلى الصلاة
في الأذان كان بهاتين الكلمتين فيستحسن
التثويب بهما أيضا.
هذا اختيار المتقدمين، وأما المتأخرون
فاستحسنوا التثويب في جميع الصلوات لأن الناس
قد ازداد بهم الغفلة وقلما يقومون عند سماع
الأذان فيستحسن التثويب للمبالغة في الإعلام
ومثل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "حصاص كحصاص" بضم الحاء المهملة بضم الخاء
المهملة هو شدة العدو وحدته وقيل: أن يميصع
الحمار بذتبه ويصر بأذبيه ويعدو وقيل هو
الضراط اهـ "كتبه مصححه"
2 "المعتصر" قال في المختار والمعتصر والعاصر:
الذي يصيب من الشيء ويأخذه منه اهـ.
ج / 1 ص -123-
وقد
روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال لا
بأس بأن يخص الأمير بالتثويب فيأتى بابه فيقول
السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته
حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين
الصلاة يرحمك الله لأن الأمراء لهم زيادة
اهتمام بأشغال المسلمين ورغبة في الصلاة
بالجماعة فلا بأس بأن يخصوا بالتثويب وقد روى
عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه لما كثر
اشتغاله نصب من يحفظ عليه صلاته غير أن محمدا
رحمه الله تعالى كره هذا وقال أفا لأبي يوسف
حيث خص الأمراء بالذكر والتثويب لما روي أن
عمر رضي الله تعالى عنه حين حج أتاه مؤذن مكة
يؤذنه بالصلاة فانتهره وقال ألم يكن في أذانك
ما يكفينا؟.
قال: "ويترسل في الأذان ويحدر 1 في الإقامة"
لحديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لبلال: "إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر". ولأن المقصود من الأذان الإعلام فالترسل فيه أبلغ في الإعلام
والمقصود من الإقامة إقامة الصلاة فالحدر فيها
أبلغ في هذا المقصود.
قال: "فإن ترسل فيهما أو حدر فيهما أو ترسل في
الإقامة وحدر في الأذان أجزأه" لأنه أقام
الكلام بصفة التمام وحصل المقصود وهو الإعلام
فترك ما هو زينة فيه لا يضره.
قال: "ويجوز الأذان والإقامة على غير وضوء
ويكره مع الجنابة حتى يعاد أذان الجنب ولا
يعاد أذان المحدث". وروى الحسن عن أبي حنيفة
رحمهما الله تعالى أنه يعاد فيهما وعن أبي
يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يعاد فيهما،
ووجهه أن الأذان ذكر والجنب والمحدث لا يمنعان
من ذكر الله تعالى وما هو المقصود به وهو
الإعلام حاصل. ووجه رواية الحسن رحمه الله
تعالى أن الأذان مشبه بالصلاة ولهذا يستقبل
فيه القبلة والصلاة مع الحدث لا تجوز فما هو
من أسبابه مشبه به يكره معه ثم المؤذن يدعو
الناس إلى التأهب للصلاة فإذا لم يكن متأهبا
لها دخل تحت قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44].
وجه ظاهر الرواية ما روى أن بلالا ربما أذن
وهو على غير وضوء ثم الأذان ذكر معظم فيقاس
بقراءة القرآن والمحدث لا يمنع من ذلك ويمنع
منه الجنب فكذلك الأذان. وفي ظاهر الرواية جعل
الإقامة كالأذان في أنه لا بأس به إذا كان
محدثا. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما
الله تعالى الفرق بينهما فقال أكره الإقامة
للمحدث لأن الإقامة يتصل بها إقامة الصلاة فلا
يتمكن من ذلك مع الحدث بخلاف الأذان.
قال: "ويكره الأذان قاعدا" لأنه في حديث
الرؤيا قال فقام الملك على حذم حائط ولأن
المقصود الإعلام وتمامه في حالة القيام ولكنه
يجزئه لأن أصل المقصود حاصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "ويحدر" بضم الدال المهملة بمعنى يسرع، يقال
حدر في قراءته وأذانه يحدر حدرا إذا أسرع اهـ
"كتبه مصححه"
ج / 1 ص -124-
قال:
"ولا بأس بأن يؤذن واحد ويقيم آخر" لما روى أن
عبد الله بن زيد رضي الله عنه سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يكون له في الأذان نصيب
فأمر بأن يؤذن بلال ويقيم هو ولأن كل واحد
منهما ذكر مقصود فلا بأس بأن يأتى بكل واحد
منهما رجل آخر والذي روى أن الحرث الصدائي أذن
في بعض الأسفار وبلال كان غائبا فلما رجع بلال
وأراد أن يقيم قال صلى الله عليه وسلم:
"إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم"،
إنما قاله على وجه تعليم حسن العشرة لا أن
خلاف ذلك لا يجزئ.
قال: "وإن ترك استقبال القبلة في أذانه أجزأه
وهو مكروه" لأن المقصود به حصل وهو الإعلام
والكراهية لمخالفته السنة.
قال: "ويؤذن المسافر راكبا إن شاء" لما روى أن
بلالا في السفر ربما أذن راكبا ولأن المسافر
له أن يترك الأذان أصلا فله أن يأتى به راكبا
بطريق الأولى.
قال: "وينزل للإقامة أحب إلي" لأن الإقامة
يتصل بها إقامة الصلاة وإنما يصلى على الأرض
فينزل للإقامة لهذا.
قال: "وإن اقتصر المسافر بالإقامة أجزأه" لأن
السفر عذر مسقط لشطر الصلاة فلأن يكون مسقطا
لأحد الأذانين أولى ولأن الأذان لإعلام الناس
حتى يجتمعوا وهم في السفر مجتمعون والإقامة
لإقامة الصلاة وهم إليها محتاجون فيؤتى بها في
السفر ويكره تركه لهذا. والأولى أن يؤتى بهما
لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لمالك بن الحويرث وابن عم له:
"إن سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكثركما
قرآنا". وقال صلى الله عليه وسلم:
"من أذن في أرض قفر وأقام صلى بصلاته ما بين الخافقين من الملائكة ومن
صلى بغير أذان وإقامة لم يصل معه إلا ملكاه".
قال: "وليس على النساء أذان ولا إقامة" لأنهما
سنة الصلاة بالجماعة وجماعتهن منسوخة لما في
اجتماعهن من الفتنة وكذلك إن صلين بالجماعة
صلين بغير أذان ولا إقامة لحديث رابطة قالت
كنا جماعة من النساء عند عائشة رضي الله عنها
فأمتنا وقامت وسطنا وصلت بغير أذان ولا إقامة
ولأن المؤذن يشهر نفسه بالصعود إلى أعلى
المواضع ويرفع صوته بالأذان والمرأة ممنوعة من
ذلك لخوف الفتنة فإن صلين بأذان وإقامة جازت
صلاتهن مع الإساءة لمخالفة السنة والتعرض
للفتنة.
قال: "وإن صلى أهل المصر بجماعة بغير أذان ولا
إقامة فقد أساءوا" لترك سنة مشهورة وجازت
صلاتهم لأداء أركانها والأذان والإقامة سنة
ولكنهما من أعلام الدين فتركهما ضلالة هكذا
قال مكحول. السنة سنتان: سنة أخذها هدى وتركها
لا بأس به وسنة أخذها هدى وتركها ضلالة
كالأذان والإقامة وصلاة العيدين وعلى هذا قال
محمد رحمه الله تعالى إذا أصر أهل المصر على
ترك الأذان والإقامة أمروا بهما فإن أبوا
قوتلوا على ذلك بالسلاح كما يقاتلون عند
الإصرار على ترك الفرائض والواجبات، فأما في
السنن فيؤدبون
ج / 1 ص -125-
على
تركها ولا يقاتلون على ذلك ليظهر الفرق بين
الواجب وغير الواجب، ومحمد رحمه الله تعالى
يقول ما كان من أعلام الدين فالإصرار على تركه
استخفاف بالدين فيقاتلون على ذلك لهذا.
قال: "فإن صلى رجل في بيته فاكتفى بأذان الناس
واقامتهم أجزأه" لما روي أن بن مسعود رضي الله
تعالى عنه صلى بعلقمة والأسود في بيت فقيل له
ألا تؤذن فقال أذان الحي يكفينا وهذا بخلاف
المسافر فإنه يكره له تركهما وإن كان وحده لأن
المكان الذي هو فيه لم يؤذن فيه لتلك الصلاة
فأما هذا الموضع الذي فيه المقيم أذن وأقيم
فيه لهذه الصلاة فله أن يتركهما.
قال: "وإن أذن وأقام فهو حسن" لأن المنفرد
مندوب إلى أن يؤدي الصلاة على هيئة الصلاة
بالجماعة ولهذا كان الأفضل أن يجهر بالقراءة
في صلاة الجهر وكذلك إن أقام ولم يؤذن فهو حسن
لأن الأذان لإعلام الناس حتى يجتمعوا وذلك غير
موجود هنا والإقامة لإقامة الصلاة وهو يقيمها.
قال: "وليس لغير الصلوات الخمس والجمعة أذان
ولا إقامة" أما لصلاة العيد فلحديث جابر بن
سمرة رضي الله تعالى عنه قال صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في العيدين بغير أذان ولا
إقامة وكذلك توارثه الناس إلى يومنا هذا. وأما
في صلاة الوتر فلأنها لا تؤدى بالجماعة إلا في
التراويح في ليالي رمضان وعند أدائها هم
مجتمعون وأما في السنن والنوافل فلأنها لا
تؤدى بالجماعة إلا التراويح في ليالي رمضان
وهي تبع لصلاة العشاء وقد أذن وأقيم لها وهم
مجتمعون عند أدائها.
فأما الجمعة يؤذن لها ويقام لأنها فرض مكتوب
والأذان له منصوص في القرآن قال الله تعالى: {إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ}
[الجمعة: 9]. واختلفوا في الأذان المعتبر الذي
يحرم عنده البيع ويجب السعى إلى الجمعة، فكان
الطحاوى يقول: هو الأذان عند المنبر بعد خروج
الإمام فإنه هو الأصل الذي كان للجمعة على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما روى عن
السائب بن يزيد قال كان الأذان للجمعة على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يخرج فيستوي
على المنبر وهكذا في عهد أبي بكر وعمر رضي
الله تعالى عنهما ثم أحدث الناس الأذان على
الزوراء في عهد عثمان فكان الحسن بن زياد يقول
المعتبر هو الأذان على المنارة لأنه لو انتظر
الأذان عند المنبر يفوته أداء السنة وسماع
الخطبة وربما تفوته الجمعة إذا كان بيته بعيدا
عن الجامع والأصح أن كل أذان يكون قبل زوال
الشمس فذلك غير معتبر والمعتبر أول الأذان بعد
زوال الشمس سواء كان على المنبر أو على
الزوراء.
قال: "ولا يتكلم المؤذن في أذانه وإقامته"
لأنه ذكر معظم كالخطبة فيكره التكلم في
ج / 1 ص -126-
خلاله
لما فيه من ترك الحرمة وروى المعلى عن أبي
يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يكره
رد السلام في خلال الأذان، وكان الثورى رحمه
الله تعالى يقول لا بأس برد السلام لأنها
فريضة، ولكنا نقول يحتمل التأخير إلى أن يفرغ
من أذانه.
قال: "وإن أذن قبل دخول الوقت لم يجزه ويعيده
في الوقت" لأن المقصود من الأذان إعلام الناس
بدخول الوقت فقبل الوقت يكون تجهيلا لا إعلاما
ولأن المؤذن مؤتمن. قال صلى الله عليه وسلم:
"الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة
واغفر للمؤذنين". وفي الأذان قبل الوقت إظهار الخيانة فيما اؤتمن فيه ولو جاز
الأذان قبل الوقت لأذن عند الصبح خمس مرات
لخمس صلوات وذلك لا يجوزه أحد، ولا خلاف فيه
إلا في صلاة الفجر فقد قال أبو يوسف رحمه الله
تعالى آخرا لا بأس بأن يؤذن للفجر في النصف
الآخر من الليل وهو قول للشافعي رضي الله عنه
واستدلا بتوارث أهل الحرمين.
ولما روي أن بلالا كان يؤذن على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالليل فدل أنه لا بأس به
ولأن وقت الفجر مشتبه وفي مراعاته بعض الحرج،
ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قاسا الأذان
للفجر بالأذان لسائر الصلوات بالمعنى الذي
بينا وفي الأذان للفجر قبل الوقت إضرار بالناس
لأنه وقت نومهم فيلتبس عليهم وذلك مكروه وقد
روى أن الحسن البصرى رحمه الله تعالى كان إذا
سمع من يؤذن قبل طلوع الفجر قال علوج فراح لا
يصلون إلا في الوقت لو أدركهم عمر لأدبهم فأما
أذان بلال فقد أنكر عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم الأذان بالليل وأمره أن ينادى على
نفسه إلا أن العبد قد زام فكان يبكي ويطوف حول
المدينة ويقول ليت بلالا لم تلده أمه وابتل من
نضح دم جبينه وإنما قال ذلك لكثرة معاتبة رسول
الله صلى الله عليه وسلم إياه.
وقيل: إن أذان بلال ما كان لصلاة الفجر ولكن
كان لينام القائم ويقوم النائم فقد كانت
الصحابة فرقتين فرقة يتهجدون في النصف الأول
من الليل وفرقة في النصف الآخر وكان الفاصل
أذان بلال. وإنما كان صلاة الفجر بأذان بن أم
مكتوم كما قال صلى الله عليه وسلم:
"لا يغرنكم
أذان بلال فإنه يؤذن ليرجع قائمكم ويتسحر
صائمكم ويقوم نائمكم فكلوا واشربوا حتى يؤذن
ابن أم مكتوم"، وكان هو
أعمى لا يؤذن حتى يسمع الناس يقولون أصبحت
أصبحت.
قال: "وإذا دخل القوم مسجدا قد صلى فيه أهله
كرهت لهم أن يصلوا جماعة بأذان وإقامة ولكنهم
يصلون وحدانا بغير أذان ولا إقامة" لحديث
الحسن قال كانت الصحابة إذا فاتتهم الجماعة
فمنهم من اتبع الجماعات ومنهم من صلى في مسجده
بغير أذان ولا إقامة وفي الحديث أن النبي صلى
الله عليه وسلم خرج ليصلح بين الانصار فاستخلف
عبد الرحمن بن عوف فرجع بعد ما صلى فدخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيته وجمع أهله فصلى
بهم بأذان وإقامة فلو كان يجوز إعادة الجماعة
في المسجد لما ترك الصلاة في المسجد والصلاة
فيه أفضل وهذا عندنا.
وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: لا بأس
بتكرار الجماعة في مسجد واحد، لأن
ج / 1 ص -127-
جميع
الناس في المسجد سواء وإنما بنى لإقامة الصلاة
بالجماعة وهو قياس المساجد على قوارع الطرق
فإنه لا بأس به بتكرار الجماعة فيها.
ولنا: أنا أمرنا بتكثير الجماعة وفي تكرار
الجماعة في مسجد واحد تقليلها لأن الناس إذا
عرفوا أنهم تفوتهم الجماعة يعجلون للحضور
فتكثر الجماعة وإذا علموا أنه لا تفوتهم
يؤخرون فيؤدى إلى تقليل الجماعات وبهذا فارق
المسجد الذي على قارعة الطريق لأنه ليس له قوم
معلومون فكل من حضر يصلى فيه فإعادة الجماعة
فيه مرة بعد مرة لا تؤدي إلى تقليل الجماعات
ثم في مسجد المحال إن صلى غير أهلها بالجماعة
فلأهلها حق الإعادة لأن الحق في مسجد المحلة
لأهلها ألا ترى أن التدبير في نصب الإمام
والمؤذن إليهم فليس لغيرهم أن يفوت عليهم
حقهم. فأما إذا صلى فيه أهلها أو أكثر أهلها
فليس لغيرهم حق الإعادة إلا في رواية عن أبي
يوسف رحمه الله تعالى قال إن وقف ثلاثة أو
أربعة ممن فاتتهم الجماعة في زاوية غير الموضع
المعهود للإمام فصلوا بأذان وإقامة فلا بأس به
وهو حسن لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى بأصحابه فدخل أعرابي وقام يصلي فقال صلى
الله عليه وسلم:
"ألا أحد يتصدق على هذا يقوم فيصلى معه"؟
فقام أبو بكر رضي الله عنه وصلى معه.
قال: "ومن فاتته صلاة عن وقتها فقضاها في وقت
آخر أذن لها وأقام واحدا كان أو جماعة" لأن
النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة التعريس بعد
ما انتبه مع أصحابه بعد طلوع الشمس فقضى الفجر
بأذان وإقامة أمر بلالا بهما، وشغل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق
فقضاهن بعد هوي من الليل قال بن مسعود رضي
الله تعالى عنه أمر بلالا فأذن وأقام للأولى
ثم أقام لكل صلاة بعدها وقال جابر رضي الله
تعالى عنه أمره فأذن وأقام لكل صلاة وقال أبو
سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أمره بالإقامة
لكل صلاة.
قال: "وإن اكتفوا بالإقامة جاز" لأن الأذان
لإعلام الناس حتى يجتمعوا وذلك معدوم في
القضاء والإقامة لإقامة الصلاة وإن إذن وأقام
فهو حسن ليكون القضاء على سنن الأداء.
قال: "ولا يجوز لمن فاته ظهر أمسه أن يقتدى
بمن يصلي ظهر يوم غير ذلك" وها هنا مسائل
إحداها اقتداء المتنفل بالمفترض فهو جائز
بالاتفاق لقوله صلى الله عليه وسلم:
"سيكون أمراء
بعدي يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فإذا فعلوا
فصلوا أنتم في بيوتكم ثم صلوا معهم واجعلوا
صلاتكم معهم سبحة"، أي نافلة.
ولأن المقتدي بنى صلاته على صلاة إمامه كما أن
المنفرد يبنى آخر صلاته على أول صلاته وبناء
النفل على تحريمة انعقدت للفرض يجوز وكذلك
اقتداء المتنفل بالمفترض فأما المفترض إذا
اقتدى بالمتنفل عندنا فلا يصح الأقتداء. وقال
الشافعي رضي الله تعالى عنه: يصح لحديث معاذ
رضي الله تعالى عنه أنه كان يصلى مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ثم يأتى قومه فيصلي بهم
ولأن المشاركة بين الإمام والمقتدي في
ج / 1 ص -128-
التحريمة. والنفل والفرض يستدعي كل واحد منهما
تحريمة مطلقة. فكما يجوز اقتداء المتنفل
بالمفترض فكذلك المفترض بالمتنفل.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"الإمام ضامن"، معناه
تتضمن صلاته صلاة القوم وتضمين الشيء فيما هو
فوقه يجوز وفيهما هو دونه لا يجوز وهو المعنى
في الفرق فإن الفرض يشتمل على أصل الصلاة
والصفة والنفل يشتمل على أصل الصلاة فإذا كان
الإمام مفترضا فصلاته تشتمل على صلاة المقتدي
وزيادة فصح اقتداؤه به وإذا كان الإمام متنفلا
فصلاته لا تشتمل على ما تشتمل عليه صلاة
المقتدي فلا يصح اقتداؤه به لأنه بنى القوي
على أساس ضعيف.
وحديث معاذ تأويله كان يصلى مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم بنية النفل ليتعلم منه سنة
القراءة ثم يأتي قومه فيصلي بهم الفرض، وهذا
على أن تغاير الفرضين عندنا يمنع صحة الاقتداء
حتى إذا اقتدى مصلي الظهر بمصلي العصر أو مصلي
عصر يومه بمصلي عصر أمسه لم يجز الاقتداء.
وعند الشافعي رحمه الله يجوز وإذا اقتدى مصلي
الظهر بمصلي الجمعة أو مصلي الظهر بالمصلي على
الجنازة فله فيه وجهان، وهذا الخلاف ينبنى على
أصل نذكره بعد هذا هو أن المشاركة بين الإمام
والمقتدي لا تقوى عنده حتى إذا تبين أن الإمام
محدث فصلاة المقتدي عنده صحيحة. وعندنا
المشاركة تقوى بينهما فتغاير الفرضين يمنع صحة
المشاركة ثم المذكور في هذا الباب أنه يصير
شارعا في التطوع مقتديا بالإمام حتى لو ضحك
قهقهة يلزمه الوضوء لأن الاقتداء في أصل
الصلاة صحيح إنما لا يصح في الجهة وفي باب
الحدث قال "لا يصير شارعا" حتى لو قهقه لا
يلزمه الوضوء وما ذكر هنا قول أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله تعالى بناء على أصلهما أن
أصل الصلاة ينفصل عن الجهة ابتداء وبقاء وما
ذكر بعد هذا قول محمد رحمه الله تعالى بناء
على مذهبه أن الجهة متى فسدت صار خارجا من
الصلاة وعليه نص في زيادات الزيادات.
قال: "ويجوز أذان العبد والأعمى وولد الزنى
والأعرابي" لأن المقصود وهو الإعلام حاصل
وغيرهم أولى. أما العبد فلأنه مشغول بخدمة
المولى لا يتفرغ لمحافظة المواقيت وروى أن
وفدا جاؤوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه فقال من يؤذن لكم فقالوا عبيدنا قال إن
هذا لنقص بكم. وأما الأعمى فهو محتاج إلى
الرجوع إلى غيره في معرفة المواقيت وكان
لإبراهيم النخعي رحمه الله تعالى مؤذن أعمى
يقال له معبد فقال له لا تكن آخر من يقيم ولا
أولهم. وأما ولد الزنى والأعرابي فالغالب
عليهم الجهل وقد بينا أن الأذان ذكر معظم
فيختار له من يكون محترما في الناس متبركا به
ولهذا قال "أحب إلي أن يكون المؤذن عالما
بالسنة" وفيه حديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال:
"يؤمكم قراؤكم ويؤذن لكم خياركم".
قال: "وإن أذن للقوم غلام مراهق أجزأهم" لحصول
المقصود بأذانه وهو الإعلام. والبالغ
ج / 1 ص -129-
أولى
لأنه أقرب إلى مراعاة الحرمة ولأن الصبي غير
مخاطب بالصلاة والأذان للمكتوبات خاصة فالأولى
أن يؤذن من هو مخاطب بالمكتوبات.
قال: "وإن أذنت لهم امرأة جاز" لحصول المقصود
وهو مكروه لأن أذان النساء من المحدثات لم يكن
في السلف وكل محدثة بدعة ولأن في صوتها فتنة
وهي منهية عن الخروج إلى الجماعات والأذان
لإقامة الصلاة بالجماعة.
قال: "ويؤذن المؤذن حيث يكون أسمع للجيران"
لأن المقصود اعلامهم ويرفع صوته لأن الإعلام
لا يحصل إلا به وفي الحديث يشهد للمؤذن من سمع
صوته أو يستغفر للمؤذن مدى صوته.
قال: "ولا يجهد نفسه فربما يضره ذلك" ورأى عمر
رضي الله تعالى عنه مؤذن بيت المقدس يجهد نفسه
فقال أما تخشى أن ينقطع مريطاؤك والمريطاء عرق
مستبطن بالصلب فإذا انقطع لم يكن معه حياة.
قال: "ولا أكره له أن يتطوع في صومعته" لما
روي أن بلالا رضي الله تعالى عنه كان ربما
تطوع في صومعته ولأنه بمنزلة السطح فلا بأس
بالصلاة عليه.
قال: "وأحب إلي أن يجزم قوله الله أكبر" وقد
بينا هذا في تكبيرة الافتتاح.
قال: "والتلحين في الأذان مكروه" لما روى أن
رجلا جاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال إني
أحبك في الله فقال إني أبغضك في الله فقال لم
قال لأنه بلغني أنك تغنى في أذانك يعني
التلحين وأما التفخيم فلا بأس به لأنه إحدى
اللغتين.
قال: "وإن افتتح الأذان فظن أنها الإقامة
فأقام في آخرها بأن قال: "قد قامت الصلاة" ثم
علم فإنه يتم الأذان ثم يقيم وإن كان في
الإقامة فظن أنها الأذان فصنع فيها ما صنع في
الأذان أعادها من أولها" لأن هنا وقع التعيين
في جميعها وفي الأول في آخرها وحقيقة المعنى
في الفرق أن المقصود من الأذان إعلام الناس
ليحضروا وبالإقامة في آخرها لا يفوت هذا
المقصود بل يزداد لأن الناس يعجلون على ظن
أنها الإقامة فلهذا لا يعيدها وعند الإقامة
إقامة الصلاة والتعجيل للإدراك فإذا صنع في
الإقامة ما يصنع في الأذان يفوت هذا المقصود
لأن الناس يظنون أنه الأذان فينتظرون الإقامة
فلهذا يعيد الإقامة من أولها.
قال: "فإن غشى عليه ساعة في الأذان أو الإقامة
ثم أفاق فأحب إلي أن يبتدئها من أولها" ألا
ترى أنه لو غشى عليه في الصلاة لم يبن على
صلاته فكذلك فيما هو من أسباب الصلاة.
قال: "وإن رعف فيها أو أحدث فذهب وتوضأ ثم جاء
فأحب إلي أن يبتدئها من أولها" لأن بذهابه
انقطع النظم فربما يشتبه على الناس أنه كان
يؤذن أو يتعلم كلمات الأذان،
ج / 1 ص -130-
والأولى له إذا أحدث في أذانه أو إقامته أن
يتمها ثم يذهب فيتوضأ ويصلى لأن ابتداء الأذان
أو الإقامة مع الحدث يجوز فإتمامه أولى.
قال: "وإذ قدم المؤذن في أذانه أو إقامته بعض
الكلمات على بعض فالأصل فيه أن ما سبق أداؤه
يعتد به حتى لا يعيده في أذانه" وما يقع مكررا
لا يعتد به فكأنه لم يكرر.
قال: "وإذا وقع في إقامته فمات أو أغمى عليه
فأحب إلي أن يبتدئ الإقامة غيره من أولها" لأن
عمله قد انقطع بالموت ولا بناء على المنقطع.
قال: "مؤذن أذن ثم ارتد فإن اعتدوا بأذانه
وأمروا من يقيم ويصلى بهم أجزأهم" لأن المقصود
وهو الإعلام قد حصل بأذانه وبطلان ثواب عمله
بالردة في حقه لا يبطله في حق غيره كما لو
ارتد الإمام بعد فراغه من الصلاة تبطل صلاته
ولا تبطل في حق القوم.
قال: "ويقعد المؤذن بين الأذان والإقامة في
جميع الصلوات إلا في المغرب في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى أما في سائر الصلوات فيكره له
أن يصل الإقامة بالأذان ولا يقعد بينهما" لما
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال:
"اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله"، والأولى به في الصلاة التي قبلها تطوع مسنون أو مستحب أن يتطوع
بين الأذان والإقامة جاء في تأويل قوله تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ
صَالِحاً}
[فصلت: 33] أنه المؤذن يدعو الناس بأذانه
ويتطوع بعده قبل الإقامة فأما في صلاة المغرب
فيكره له وصل الإقامة بالأذان كما في غيرها،
والأفضل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن
يفصل بينهما بسكتة وذكر الحسن رحمه الله تعالى
عنه بقدر ما يقرأ ثلاث آيات. وقال أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى الأفضل أن يفصل
بينهما بجلسة مقدار جلسة الخطيب بين الخطبتين
لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان
يفصل بين أذان المغرب والإقامة بجلسة ولأن
السكتة تشبه السكتات بين كلمات الأذان فلا
يتحقق بها الفصل فالجلسة للفصل أولى. وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى قال أمرنا بتعجيل
المغرب. قال صلى الله عليه وسلم:
"لا تزال
أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب"،
وقال:
"بادروا بالمغرب قبل اشتباك النجوم ولا تتشبهوا باليهود فإنهم يصلون
والنجوم مشتبكة"،
والفصل بالسكتة أقرب إلى تعجيل المغرب. وحديث
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، محمول على حالة
العذر لكبر أو مرض وبه نقول.
قال: "ويكره أن يؤذن في مسجدين ويصلى في
أحدهما" لأنه بعد ما صلى يكون متنفلا بالأذان
في المسجد الثاني والتنفل بالأذان غير مشروع
ولأن الأذان مختص بالمكتوبات فإنما يؤذن ويقيم
من يصلى المكتوبة على أثرهما وهو في المسجد
الثاني يصلى النافلة على أثرهما.
قال: "ويكره للإمام والمؤذن طلب الأجر على ذلك
من القوم" لأنهما يعملان لأنفسهما فكيف
يشترطان الأجر على غيرهما ثم هما خليفتان
للرسول في الدعاء والإمامة وقال الله
ج / 1 ص -131-
تعالى:
{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فمن يكون خليفته ينبغي أن يكون مثله وقال عثمان بن
أبي العاص الثقفي رضي الله تعالى عنه آخر ما
عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن صل بالناس
صلاة أضعفهم وإذا اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على
الأذان أجرا". وقال رجل لعمر رضي الله تعالى عنه إني أحبك في الله فقال إنى
أبغضك في الله قال ولم قال لأنه بلغنى أنك
تأخذ على الأذان أجرا فإن عرف القوم حاجته
فواسوه بشيء فما أحسن ذلك بعد أن لا يكون عن
شرط لأنه فرغ نفسه لحفظ المواقيت وإعلامه لهم
فربما لا يتفرغ للكسب فينبغي لهم أن يهدوا
إليه بهدية فقد كان الأنبياء والرسل صلوات
الله وسلامه عليهم يقبلون الهدية وعلى هذا
قالوا الفقيه الذي يفتى في بلدة أو قرية لا
يحل له أن يأخذ على الفتيا شيئا عن شرط فإن
عرفوا حاجته فأهدوا إليه فهو حسن لأنه محسن
إليهم في تفريغ نفسه عن الكسب وحراسة أمر
دينهم فينبغي أن يقابلوا إحسانه بالإحسان
إليه.
قال: "والذي يواظب على الصلوات كلها أولى
بالأذان من غيره" لأن صوته يصير معهودا للقوم
فلا يقع الاشتباه وإن أذن السوقي في صلاة
الليل وأذن في صلاة النهار غيره فذلك جائز
أيضا، لأن السوقي محتاج إلى الكسب فيلحقه
الحرج بالرجوع إلى المحلة في وقت كل صلاة.
قال: "وإذا أذن السكران أو المجنون فأحب إلي
أن يعيدوا" لأن معنى التعظيم لا يحصل بأذانهما
وعامة كلام السكران والمجنون هذيان فلا يحصل
به الإعلام فربما يشتبه على الناس فالأولى
إعادة أذانهم.
قال: "ولا يجوز لأهل المسجد أن يقتسموا المسجد
وينصبوا وسطه حائطا" لأن بقعة المسجد تحررت عن
حقوق العبد فصار خالصا لله تعالى والقسمة من
التصرفات في الملك فلا يشتغل بها في المسجد
كالزراعة وغيرها فإن فعلوا ذلك فليصل كل فريق
منهم بإمام ومؤذن على حدة ما لم ينتقضوا
القسمة لأنهما في حكم مسجدين متجاورين فينبغي
أن يكون لكل واحد منهما إمام ومؤذن على حدة
والله أعلم.
باب مواقيت الصلاة
أعلم أن الصلاة فرضت لأوقاتها قال الله تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] ولهذا تكرر وجوبها بتكرار الوقت، وتؤدى في مواقيتها.
قال الله تعالى:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] أي فرضا مؤقتا. وقال صلى الله عليه وسلم: "من حافظ
على الصلوات الخمس في مواقيتها كان له عند
الله عهدا يغفر له يوم القيامة"، وتلا قوله
تعالى:
{إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [سورة مريم: 87].
وللمواقيت إشارة في كتاب الله تعالى:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] أي صلوا لله. فقوله:
{حِينَ تُمْسُونَ}، المراد به: العصر وعند بعضهم:
ج / 1 ص -132-
المغرب،
{وَحِينَ تُصْبِحُونَ}
الفجر،
{وَعَشِيّاً}
[الروم: 18] العشاء،
{وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] الظهر. وقال الله تعالى:
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 18] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه دلوك الشمس الزوال
فالمراد به الظهر. وقال ابن مسعود رضي الله
تعالى عنه: دلوكها: غروبها والمراد المغرب
{إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ} العشاء،
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}: صلاة
الفجر. وقال الله تعالى: {حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}
[البقرة: 238] وهو العصر. وقال الله تعالى:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114]، وقال الحسن: الفجر
{وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} قال محمد بن كعب رضي الله تعالى عنه المغرب والعشاء.
ثم بدأ ببيان وقت الفجر لأنه متفق عليه لم
يختلفوا في أوله ولا في آخره.
قال: "وقت صلاة الفجر من حين يطلع الفجر
المعترض في الأفق إلى طلوع الشمس" والفجر
فجران كاذب تسميه العرب ذنب السرحان وهو
البياض الذي يبدو في السماء طولا ويعقبه ظلام
والفجر الصادق وهو البياض المنتشر في الأفق
فبطلوع الفجر الكاذب لا يدخل وقت الصلاة ولا
يحرم الأكل على الصائم ما لم يطلع الفجر
الصادق، لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا يغرنكم الفجر المستطيل ولكن كلوا واشربوا
حتى يطلع الفجر المستطير"، يعني المنتشر في الأفق وقال:
"الفجر هكذا"، ومد يده، عرضا "لا هكذا"، ومد يده طولا، والأصل حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أمنى جبريل عليه السلام عند البيت فصلى بي
الفجر في اليوم الأول حين طلع الفجر وفي اليوم
الثاني حين أسفر جدا ثم قال ما بين هذين وقت
لك ولأمتك وهو وقت الأنبياء قبلك".
وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن للصلاة أولا وآخرا وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وآخره حين
تطلع الشمس".
وفي حديث أبى موسى رضي الله عنه أن رجلا سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواقيت
الصلاة فلم يجبه ولكنه صلى الفجر في اليوم
الأول حين طلع الفجر وفي اليوم الثاني حين
كادت الشمس تطلع ثم قال: "أين السائل عن الوقت الوقت بين هذين". والدليل على أن آخر الوقت حين تطلع الشمس قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أدرك ركعة
من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدرك".
وفي حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال:
قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في
رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل
طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" ثم تلا
قوله تعالى:
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِهَا} [طه:
130].
قال: "ووقت الظهر من حين تزول الشمس إلى أن
يكون ظل كل شيء مثله" في قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى: وقال أبو حنيفة، رحمه الله
تعالى: لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل
قامتين، ولا خلاف في أول وقت الظهر أنه يدخل
بزوال الشمس إلا شيئا نقل
ج / 1 ص -133-
عن بعض
الناس إذا صار الفيء بقدر الشراك لحديث إمامة
جبريل عليه السلام قال صلى الله عليه وسلم:
"صلى بي الظهر في اليوم الأول حين صار الفيء بقدر الشراك". ولكنا نستدل بقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي لزوالها والمراد من الفيء مثل الشراك الفيء الأصلى الذي يكون
للأشياء وقت الزوال وذلك يختلف باختلاف
الأمكنة والأوقات فاتفق ذلك القدر في ذلك
الوقت. وقد قيل لا بد أن يبقى لكل شيء فيء عند
الزوال في كل موضع إلا بمكة والمدينة في أطول
أيام السنة فلا يبقى بمكة ظل على الأرض
وبالمدينة تأخذ الشمس الحيطان الأربعة وذلك
الفيء الأصلي غير معتبر في التقدير بالظل قامة
أو قامتين بالاتفاق. وأصح ما قيل في معرفة
الزوال قول محمد بن شجاع رضي الله عنه أنه
يغرز خشبة في مكان مستو ويجعل على مبلغ الظل
منه علامة فما دام الظل ينقص من الخط فهو قبل
الزوال وإذا وقف لا يزداد ولا ينتقص فهو ساعة
الزوال وإذا أخذ الظل في الزيادة فقد علم أن
الشمس قد زالت.
واختلفوا في آخر وقت الظهر، فعندهما إذا صار
ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر
وهو رواية محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى وإن لم يذكره في الكتاب نصا في خروج وقت
الظهر. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما
الله تعالى أنه لا يخرج وقت الظهر حتى يصير
الظل قامتين. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما
الله تعالى أنه إذا صار الظل قامة يخرج وقت
الظهر ولا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل
قامتين، وبينهما وقت مهمل وهو الذي تسميه
الناس بين الصلاتين كما أن بين الفجر والظهر
وقتا مهملا، واستدل بحديث إمامة جبريل صلوات
الله وسلامه عليه فإنه قال:
"صلى بي العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله وصلى بي الظهر في
اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله" أو قال:
"حين صلى العصر بالأمس" وهكذا
في حديث أبي هريرة وأبي موسى رضي الله عنهما
في بيان المواقيت قولا وفعلا. وأبو حنيفة رحمه
الله تعالى استدل بالحديث المعروف.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنما مثلكم ومثل أهل الكتابين من قبلكم كمثل
رجل استأجر أجيرا فقال من يعمل لي من الفجر
إلى الظهر بقيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل
لي من الظهر إلى العصر بقيراط فعملت النصارى
ثم قال من يعمل لي من العصر إلى المغرب
بقيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى
وقالوا نحن أكثر عملا وأقل أجرا قال الله
تعالى فهل نقصت من حقكم شيئا قالوا لا قال
فهذا فضلى أوتيه من أشاء".
بين أن المسلمين أقل عملا من النصارى فدل أن
وقت العصر أقل من وقت الظهر وإنما يكون ذلك
إذا امتد وقت الظهر إلى أن يبلغ الظل قامتين.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم"، وأشد ما يكون من الحر في ديارهم إذا صار ظل كل شيء مثله ولأنا
عرفنا دخول وقت الظهر بيقين ووقع الشك في
خروجه إذا صار الظل قامة لاختلاف
ج / 1 ص -134-
الآثار
واليقين لا يزال بالشك. والأوقات ما استقرت
على حديث إمامة جبريل عليه السلام ففيه أنه
صلى الفجر في اليوم الثاني حين أسفر والوقت
يبقى بعده إلى طلوع الشمس وفيه أيضا أنه صلى
العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل
والوقت يبقى بعده.
وقال مالك رحمه الله تعالى: إذا زالت الشمس
دخل وقت الظهر فإذا مضى بقدر ما يصلى فيه أربع
ركعات دخل وقت العصر فكان الوقت مشتركا بين
الظهر والعصر إلى أن يصير الظل قامتين لظاهر
حديث إمامة جبريل عليه السلام فإنه ذكر أنه
صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى
العصر في اليوم الأول، وهذا فاسد عندنا فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل وقت
صلاة حتى يخرج وقت صلاة أخرى". وتأويل حديث
إمامة جبريل:
"صلى بي
الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء
مثله"،
أي قرب منه و"صلى بي العصر في اليوم الأول حين
صار ظل كل شيء مثله"، أي تم وزاد عليه وهو
نظير قوله تعالى:
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] أي قارب بلوغ أجلهن وقال تعالى:
{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] أي تم عدتهن.
وحكى أبو عصمة عن أبي سليمان عن أبي يوسف
رحمهم الله تعالى قال خالفت أبا حنيفة رحمه
الله تعالى في وقت العصر فقلت أوله إذا زاد
الظل على قامة اعتمادا على الآثار التى جاءت
به وهو إشارة إلى ما قلنا، فأما آخر وقت العصر
غروب الشمس عندنا. وقال الحسن بن زياد رضي
الله تعالى عنه تغير الشمس إلى الصفرة وهو قول
الشافعي رحمه الله تعالى لحديث إمامة جبريل
عليه السلام:
"وصلى بي العصر في اليوم الثاني حين كادت الشمس تتغير".
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد
أدرك"، أي أدرك الوقت ولكن يكره تأخير العصر إلى أن تتغير الشمس لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"تلك صلاة المنافقين يقعد أحدهم حتى إذا كانت
الشمس بين قرني الشيطان قام ينقر أربعا لا
يذكر الله تعالى فيها إلا قليلا".
وقال بن مسعود رضي الله تعالى عنه ما أحب أن
يكون لي صلاة حين ما تحمار الشمس بفلسين.
واختلفوا في تغير الشمس أن العبرة للضوء أم
للقرص فكان النخعي يعتبر تغير الضوء، والشعبي
يقول العبرة لتغير القرص وبهذا أخذنا لأن تغير
الضوء يحصل بعد الزوال فإذا صار القرص بحيث لا
تحار فيه العين فقد تغيرت.
قال: "ووقت المغرب من حين تغرب الشمس إلى أن
يغيب الشفق عندنا" وقال الشافعي رحمه الله
تعالى ليس للمغرب إلا وقت واحد مقدر بفعله
فإذا مضى بعد غروب الشمس مقدار ما يصلى فيه
ثلاث ركعات خرج وقت المغرب لحديث إمامة جبريل
عليه السلام فإنه صلى المغرب في اليومين في
وقت واحد.
ج / 1 ص -135-
ولنا:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
"إن أول وقت المغرب حين تغيب الشمس وآخره حين يغيب الشفق". وتأويل حديث إمامة جبريل عليه السلام أنه أراد بيان وقت استحباب
الأداء وبه نقول أنه يكره تأخير المغرب بعد
غروب الشمس إلا بقدر ما يستبرئ فيه الغروب"
رواه الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى،
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي
بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء".
وأخر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أداء
المغرب يوما حتى بدا نجم فأعتق رقبة وعمر رضي
الله تعالى عنه رأى نجمين طالعين قبل أدائه
فأعتق رقبتين، فهذا بيان كراهية التأخير.
فأما وقت الإدراك يمتد إلى غيبوبة الشفق
والشفق البياض الذي بعد الحمرة في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى وهو قول أبي بكر وعائشة
رضي الله تعالى عنهما وإحدى الروايتين عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما. وفي قول أبي يوسف
ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى الحمرة التي
قبل البياض وهو قول عمر وعلي وبن مسعود رضي
الله تعالى عنهم واحدي الروايتين عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما وهكذا روى أسد بن عمرو
عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى. ووجه هذا أن
الطوالع ثلاثة والغوارب ثلاثة ثم المعتبر
لدخول الوقت الوسط من الطوالع وهو الفجر
الثاني فكذلك في الغوارب المعتبر لدخول الوقت
الوسط وهو الحمرة فبذهابها يدخل وقت العشاء
وهذا لأن في اعتبار البياض معنى الحرج فإنه لا
يذهب إلا قريبا من ثلث الليل.
وقال الخليل بن أحمد: راعيت البياض بمكة فما
ذهب إلا بعد نصف الليل. وقيل لا يذهب البياض
في ليالي الصيف أصلا بل يتفرق في الأفق ثم
يجتمع عند الصبح فلدفع الحرج جعلنا الشفق
الحمرة. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال
الحمرة أثر الشمس والبياض أثر النهار فما لم
يذهب كل ذلك لا يصير إلى الليل مطلقا وصلاة
العشاء صلاة الليل كيف وقد جاء في الحديث وقت
العشاء إذا ملأ الظلام الظراب وفي رواية إذا
ادلهم الليل أي استوى الأفق في الظلام وذلك لا
يكون إلا بعد ذهاب البياض فبذهابه يخرج وقت
المغرب ويدخل وقت العشاء. فأما آخر وقت العشاء
فقد قال في الكتاب إلى نصف الليل والمراد بيان
وقت إباحة التأخير فأما وقت الإدراك فيمتد إلى
طلوع الفجر الثاني حتى إذا أسلم الكافر أو بلغ
الصبي قبل طلوع الفجر فعليه صلاة العشاء وهذا
عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى آخر وقت
العشاء حين يذهب ثلث الليل لحديث إمامة جبريل
عليه الصلاة والسلام:
"وصلى بي
العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل".
ولنا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر وصلاة العشاء صلاة الليل فيبقى وقتها
ما بقي الليل"،
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا يخرج
ج / 1 ص -136-
وقت صلاة
حتى يدخل وقت صلاة أخرى" دليل لنا
أيضا أن ثبت هذا اللفظ ولكنه شاذ والمشهور
اللفظ الذي روينا.
قال: "والتنوير بصلاة الفجر أفضل من التغليس
بها عندنا" وقال الشافعي التغليس بها أفضل
وذكر الطحاوي إن كان من عزمه تطويل القراءة
فالأفضل أن يبدأ بالتغليس ويختم بالإسفار وإن
لم يكن من عزمة تطويل القراءة فالإسفار أفضل
من التغليس واستدل الشافعي بحديث عائشة رضي
الله عنها قالت كن النساء ينصرفن من الصلاة مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن متلفعات
بمروطهن ما يعرفن من شدة الغلس وقال أنس رضي
الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى
الفجر ولا يعرف أحدنا من إلى جنبه من شدة
الغلس ولأن في هذا إظهار المسارعة في أداء
العبادة وهو مندوب إليه لقوله تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133].
ولنا حديث رافع بن خديج، أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال:
"أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر". وحديث الصديق عن بلال رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال:
"نوروا بالفجر"، أو قال:
"أصبحوا بالصبح يبارك لكم".
ولأن في الإسفار تكثير الجماعة وفي التغليس
تقليلها وما يؤدي إلى تكثير الجماعة فهو أفضل
ولأن المكث في مكان الصلاة حتى تطلع الشمس
مندوب إليه قال صلى الله عليه وسلم:
"من صلى الفجر ومكث حتى تطلع الشمس فكأنما أعتق أربع رقاب من ولد
إسماعيل، وإذا أسفر بها تمكن من إحراز هذه
الفضيلة وعند التغليس قلما يتمكن منها". فأما حديث
عائشة رضي الله عنها فالصحيح من الروايات
إسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة
الفجر. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ما
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة
قبل ميقاتها إلا صلاة الفجر صبيحة الجمعة فإنه
صلاها يومئذ بغلس فدل أن المعهود إسفاره بها
فإن ثبت التغليس في وقت فلعذر الخروج إلى سفر
أو كان ذلك حين يحضر النساء الصلاة بالجماعة
ثم انتسخ ذلك حين أمرن بالقرار في البيوت.
قال: "والأفضل في صلاة الظهر أن يؤخرها ويبرد
بها في الصيف وفي الشتاء يعجلها بعد الزوال".
وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه إن كان يصلي
وحده يعجلها بعد الزوال في كل وقت وإن كان
يصلى بالجماعة يؤخر يسيرا واستدل بحديث خباب
بن الأرت رضي الله تعالى عنه قال شكونا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في
خيامنا فلم يشكنا أي لم يجبنا إلى شكوانا فدل
أنه كان يعجل الظهر. وأصحابنا استدلوا بقوله
صلى الله عليه وسلم:
"أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم".
وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان
النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فلما زالت
الشمس جاء بلال ليؤذن فقال له أبرد هكذا مرارا
فلما صار للتلال فيء قال أذن ولأن في التعجيل
في الصيف تقليل الجماعات وإضرارا بالناس فإن
الحر يؤذيهم. وتأويل حديث خباب أنهم طلبوا ترك
الجماعة أصلا على أن معنى قوله: فلم يشكنا، أي
لم يدعنا في
ج / 1 ص -137-
الشكاية بل أزال شكوانا بأن أبرد بها. فأما في
الشتاء فالمستحب تعجيلها لحديث أنس رضي الله
تعالى عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي
الظهر في الشتاء فلا يدري أن ما مضى من النهار
أكثر أم ما بقى.
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين وجهه إلى
اليمن: "إذا كان الصيف فأبرد فإن تقيلوك فأمهلهم حتى يدركوا وإذا كان الشتاء
فصل الظهر حين تزول الشمس فإن الليالي طوال"، فأما العصر فالمستحب تأخيرها في الصيف والشتاء عندنا بعد أن
يؤديها والشمس بيضاء نقية لم يدخلها تغير.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى المستحب تعجيلها
لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس
طالعة في حجرتي ولحديث أنس رضي الله تعالى
عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى العصر
فيذهب الذاهب إلى العوالي وينحر الجزور ويطبخ
ويأكل قبل غروب الشمس.
ولنا: حديث بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى العصر
والشمس بيضاء نقية وهذا منه بيان تأخير للعصر
وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنتم أشد
تأخيرا للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تأخيرا
للعصر منكم وقيل سميت العصر لأنها تعصر أي
تؤخر ولأن في تأخير العصر تكثير النوافل وأداء
النافلة بعدها مكروه ولهذا كان التعجيل في
المغرب أفضل لأن أداء النافلة قبلها مكروه
ولأن المكث بعد العصر إلى غروب الشمس في موضع
الصلاة مندوب إليه قال عليه الصلاة والسلام:
"من صلى العصر ومكث في المسجد إلى غروب الشمس فكأنما أعتق ثمانية من
ولد إسماعيل عليه السلام"
وإذا أخر العصر يتمكن من إحراز هذه الفضيلة
فهو أفضل. فأما حديث عائشة رضي الله تعالى
عنها فقد كانت حيطان حجرتها قصيرة فتبقى الشمس
طالعة فيها إلى أن تتغير وحديث أنس فقد كان
ذلك في وقت مخصوص لعذر.
فأما صلاة المغرب فالمستحب تعجيلها في كل وقت
وقد بينا أن تأخيرها مكروه وكان عيسى بن أبان
رحمه الله تعالى يقول الأولى تعجيلها للآثار
ولكن لا يكره التأخير مطلقا ألا ترى أن بعذر
السفر والمرض تؤخر المغرب ليجمع بينها وبين
العشاء فعلا فلو كان المذهب كراهة التأخير لما
أبيح ذلك بعذر السفر والمرض كما لا يباح تأخير
العصر إلى أن تتغير الشمس، واستدل فيه بما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف
في صلاة المغرب ليلة وإنما يحمل ذلك على بيان
امتداد الوقت وإباحة التأخير.
فأما صلاة العشاء فالمستحب عندنا تأخيرها إلى
ثلث الليل ويجوز التأخير بعد ذلك إلى نصف
الليل ويكره التأخير بعد ذلك. وقال الشافعي
رضي الله تعالى عنه المستحب تعجيلها بعد
غيبوبة الشفق لحديث نعمان بن بشير قال: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يصلى العشاء حين
ج / 1 ص -138-
يسقط
القمر الليلة الثالثة وذلك عند غيبوبة الشفق
يكون ولأن في تعجيلها تكثير الجماعة خصوصا في
زمان الصيف.
ولنا: ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر
العشاء إلى ثلث الليل ثم خرج فوجد أصحابه في
المسجد ينتظرونه فقال:
"أما إنه لا ينتظر هذه الصلاة في هذا الوقت
أحد غيركم ولولا سقم السقيم وضعف الضعيف لأخرت
العشاء إلى هذا الوقت".
وفي حديث آخر لولا أن أشق على أمتى لأخرت
العشاء إلى ثلث الليل وكتب عمر رضي الله تعالى
عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه
أن صل العشاء حين يذهب ثلث الليل فإن أبيت
فإلى نصف الليل فإن نمت فلا نامت عيناك وفي
رواية فلا تكن من الغافلين. والحاصل أن
الشافعي رضي الله تعالى عنه يختار أداء الصلاة
في أول الوقت لقوله عليه الصلاة والسلام:
"أول
الوقت رضوان الله وآخره عفو الله"،
والعفو يكون بعد التقصير ولأن فيه إحراز
الفضيلة قبل أن يعترض عليه عذر يعجزه عن
إحرازها، وأصحابنا اختاروا التأخير ففيه
انتظار للصلاة.
وقال صلى الله عليه وسلم: "المنتظر للصلاة في
الصلاة ما دام ينتظرها"، وفي التأخير تكثير
الجماعة أيضا وفيه تقليل النوم فهو أفضل وما
كان امتداد الوقت إلا للتيسير وفي التأخير
إظهار معنى التيسير وهو الذي أشار إليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم في قوله:
"وآخره عفو الله". فالمراد
بالعفو الفضل قال تعالى:
{وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ}
[البقرة: 219]. ولا يجوز أن يحمل العفو ها هنا
على التجاوز عن التقصير فقد ذكر في إمامة
جبريل عليه السلام تأخير الأداء للصلاة في
اليوم الثاني إلى آخر الوقت وما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقصد إلى شيء يكون فيه
تقصير فإن الزلة التي تجوز على الأنبياء صلوات
الله عليهم أجمعين ما تكون من غير تقصير.
قال: "وفي يوم الغيم المستحب تأخير الفجر
والظهر والمغرب وتعجيل العصر والعشاء" وروى
الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى:
التأخير في جميع الصلوات في يوم الغيم أفضل
ووجهه أنه أقرب إلى الاحتياط فأداء الصلاة في
وقتها أو بعد ذهابه يجوز ولا يجوز أداؤها قبل
دخول الوقت. ووجه ظاهر الرواية أن في الفجر
المستحب التأخير لأنه لو عجل بها لم يأمن أن
يقع قبل طلوع الفجر الثاني ولأن الناس يلحقهم
الحرج في التعجيل عند الظلمة بسبب الغيم فيؤخر
ليكون فيه تكثير الجماعة. وكذلك في الظهر يؤخر
لكيلا يقع قبل الزوال ويعجل العصر لكيلا يقع
في حال تغيير الشمس ويؤخر المغرب لكيلا يقع
قبل غروب الشمس، وتعجل العشاء لدفع الحرج عن
الناس فإنهم يتضررون بالمطر يأخذهم قبل الرجوع
إلى منازلهم وعند الغيم ينتظر المطر ساعة
فساعة فتعجل العشاء لينصرفوا إلى منازلهم قبل
أن يمطروا.
قال: "ولا يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما في
حضر ولا في سفر" ما خلا عرفة ومزدلفة فإن
الحاج يجمع بين الظهر والعصر بعرفات فيؤديهما
في وقت الظهر وبين المغرب
ج / 1 ص -139-
والعشاء بمزدلفة فيؤديهما في وقت العشاء عليه
اتفق رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه فعله وفيما سوى هذين الموضعين لا يجمع
بينهما وقتا عندنا. وقال الشافعي رحمه الله
يجمع بينهما لعذر السفر والمطر. وقال مالك
رحمه الله ولعذر المرض أيضا، وهو أحد قولى
الشافعي رحمه الله تعالى. وقال أحمد بن حنبل
يجوز الجمع بينهما في الحضر من غير عذر السفر
واحتجوا بحديث معاذ أن النبي صلى الله عليه
وسلم جمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين إذا جد
به السفر. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
قال صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
سبعا جمعا وثمانيا جمعا فالمراد بالسبع المغرب
والعشاء وبالثمان الظهر والعصر وعن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أيضا قال: جمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين
المغرب والعشاء بالمدينة من غير عذر. ولنا
قوله تعالى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى}
[البقرة: 238] أي في مواقيتها. وقال تعالى:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] أي فرضا مؤقتا.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
"من جمع بين صلاتين في وقت واحد فقد أتى بابا من الكبائر". وقال عمر رضي الله تعالى عنه إن من أكبر الكبائر الجمع بين
الصلاتين، فكما لا يجمع بين العشاء والفجر ولا
بين الفجر والظهر لاختصاص كل واحد منهما بوقت
منصوص عليه شرعا فكذلك الظهر مع العصر والمغرب
مع العشاء. وتأويل الأخبار أن الجمع بينهما
كان فعلا لا وقتا وبه نقول وبيان الجمع فعلا
أن المسافر يؤخر الظهر إلى آخر الوقت ثم ينزل
فيصلى الظهر ثم يمكث ساعة حتى يدخل وقت العصر
فيصليها في أول الوقت وكذلك يؤخر المغرب إلى
آخر الوقت ثم يصليها في آخر الوقت والعشاء في
أول الوقت فيكون جامعا بينهما فعلا. الدليل
عليه حديث نافع قال خرجنا مع ابن عمر رضي الله
تعالى عنهما من مكة فاستصرخ بامرأته فجعل يسير
حتى غربت الشمس فنادى الركب الصلاة فلم يلتفت
إليهم حتى إذا دنا غيبوبة الشفق نزل فصلى
المغرب ثم مكث حتى غاب الشفق، ثم صلى العشاء
ثم قال هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا جد به السير. وعن علي رضي الله تعالى
عنه أنه فعل مثل ذلك في بعض أسفاره صلى المغرب
في آخر الوقت والعشاء في أوله وتعشى بينهما.
وفي الحقيقة تنبنى هذه المسألة على أصل وهو أن
عنده بين وقت الظهر والعصر تداخلا حتى إذا بلغ
الصبي أو أسلم الكافر في وقت العصر يلزمهما
قضاء الظهر وكذلك المغرب مع العشاء. وعندنا لا
تداخل بل كل واحد منهما مختص بوقته، ودليلنا
ما روينا لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت
الأخرى.
قال: "ووقت الوتر من حين يصلى العشاء إلى
الفجر والأفضل تأخيرها إلى آخر الليل" لحديث
خارجة بن حذافة رضي الله تعالى عنهما، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله تعالى
أمدكم
ج / 1 ص -140-
بصلاة هي
خير لكم من حمر النعم ألا وهي الوتر فصلوها ما
بين العشاء إلى طلوع الفجر". وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: من كل الليل أوتر رسول الله صلى
الله عليه وسلم، من أوله وأوسطه وآخره وانتهى
وتره إلى السحر وقال صلى الله عليه وسلم:
"صلاة الليل
مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر يوتر لك ما
قبله".
وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يوتر من أول
الليل وعمر رضي الله تعالى عنه من آخر الليل
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله
تعالى عنه:
"أخذت بالثقة"،
ولعمر رضي الله تعالى عنه: "أخذت
بفضل القوة". فإن أوتر في وقت العشاء قبل أن يصلى العشاء وهو ذاكر لذلك لم يجزه
بالاتفاق لأنه أداها قبل وقتها أو ترك الترتيب
المأمور به من بناء الوتر على العشاء. فأما
إذا صلى العشاء بغير وضوء وهو لا يعلم به ثم
جدد الوضوء فأوتر ثم علم أنه كان صلى العشاء
بغير وضوء فعليه إعادة العشاء دون الوتر في
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الترتيب
كان ساقطا عنه بعذر النسيان. وعندهما يلزمه
اعادة الوتر لأن عندهما دخول وقت الوتر بعد
أداء العشاء على وجه الصحة ولم يوجد فكان
مصليا قبل وقته، وعند أبي حنيفة رحمه الله
يدخل وقت الوتر بدخول وقت العشاء إنما كان
عليه مراعاة الترتيب وقد سقط ذلك بالنسيان،
وإنما ينبني هذا على اختلافهم في صفة الوتر
فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى واجب أو فرض
فلا يكون تبعا للعشاء، وعندهما سنة فكان تبعا
للعشاء وسيأتي بيان هذا الفصل.
قال: "ولا يتطوع بعد طلوع الفجر إلا بركعتي
الفجر إلى أن تطلع الشمس وترتفع" واعلم بأن
الأوقات التي تكره فيها الصلاة خمسة ثلاثة
منها لا يصلى فيها جنس الصلوات: عند طلوع
الشمس إلى أن تبيض وعند غروبها إلا عصر يومه
فإنه يؤديها عند الغروب والأصل فيه حديث عقبة
بن عامر رضي الله تعالى عنه قال:
"ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلى فيهن وأن نقبر
فيهن موتانا عند طلوع الشمس حتى ترتفع وعند
زوالها حتى تزول وحين تضيف للغروب حتى تغرب". وفي
حديث الصنابحى أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وقال:
"إنها تطلع بين قرني الشيطان كأن الشيطان يزينها في عين من يعبدونها
حتى يسجدوا لها فإن ارتفعت فارقها فإذا كان
عند قيام الظهيرة قارنها فإذا مالت فارقها
فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها فلا
تصلوها في هذه الأوقات".
وفي حديث عمر بن عنبسة قال: قلت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم:
هل من الليل والنهار ساعة لا يصلى فيها؟ فقال: "إذا صليت المغرب
فالصلاة مشهودة مقبولة إلى أن تصلى الفجر ثم
أمسك حتى تطلع الشمس ثم الصلاة مشهودة مقبولة
إلى وقت الزوال ثم أمسك فإنها ساعة تسعر فيها
جهنم ثم الصلاة مشهودة مقبولة إلى أن تصلى
العصر ثم أمسك حتى تغرب الشمس". والأمكنة في هذا النهى سواء عندنا لعموم الآثار. وقال الشافعي لا
بأس بالصلاة في هذه الأوقات بمكة لحديث روي
إلا بمكة، ولم تثبت هذه الزيادة عندنا لأنها
شاذة فلا تعارض المشاهير.
ج / 1 ص -141-
وعن
أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال لا بأس
بالصلاة في هذه الأوقات وقت الزوال يوم الجمعة
وقد روي شاذا إلا يوم الجمعة به أخذ أبو يوسف
وقال للناس بلوى في تحية المسجد عند الزوال
يوم الجمعة فالآثار التي روينا توجب الكراهة
في الكل. ثم كل وقت ينهى فيه عن عبادة لا
يختلف الحال فيه بين الجمعة وغيرها وبين مكة
وغيرها كالنهي عن الصوم في يوم العيد، وفي هذه
الأوقات الثلاثة لا تؤدي الفرائض عندنا. وقال
الشافعي: النهى عن أداء النوافل فأما الفرائض
فلا بأس بأدائها في هذه الأوقات لقوله صلى
الله عليه وسلم:
"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها".
ولنا: حديث ليلة التعريس فإن النبي صلى الله
عليه وسلم لما نزل آخر الليل قال:
"من يكلؤنا الليلة"؟ فقال بلال أنا فناموا فما أيقظهم إلا حر الشمس وفي رواية انتبهوا
وقد بدا حاجب الشمس فقال عليه الصلاة والسلام
لبلال:
"أين ما وعدتنا"؟ قال: ذهب بنفسي الذي ذهب بنفوسكم فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أرواحنا بيد الله تعالى"،
وأمرهم فانتقلوا عن ذلك الوادي ثم نزلوا فأوتر
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أذن بلال
فصلى ركعتي الفجر، ثم قام فصلى بهم قضاء" وإنما انتقل من ذلك الوادي لأنه تشاءم والأصح أنه أراد أن ترتفع
الشمس فلو جاز الفجر المكتوبة في حال طلوع
الشمس لما أخر بعد الانتباه والآثار المروية
في النهى عامة في جنس الصلوات وبها يثبت تخصيص
هذه الأوقات من الحديث الذي رواه الخصم.
قال: "ولا يصلى في هذه الأوقات على الجنازة
أيضا" لقوله: "وأن نقبر فيهن موتانا". فليس
المراد به الدفن لأن ذلك جائز بالاتفاق ولكنه
كناية عن الصلاة على الجنازة أيضا.
قال: "ولا يسجد فيهن للتلاوة أيضا" لأن
الكراهة للتحرز عن التشبه بمن يعبد الشمس
والتشبه يحصل بالسجود والنهي عن الصلاة على
الجنازة وعن سجدة التلاوة في هذه الأوقات مروى
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ولو أدى سقط
عنه لأن الوجوب في هذا الوقت والنهي ليس لمعنى
في عين السجود والصلاة فلا يمنع الجواز "إلا
عصر يومه فإنه يؤديها عند غروب الشمس" لأن هذا
الوقت سبب لوجوبها حتى لو أسلم الكافر أو بلغ
الصبي في هذا الوقت يلزمه أداؤها فيستحيل أن
يجب عليه الأداء في هذا الوقت ويكون ممنوعا من
الأداء وعلى هذا لو غربت الشمس وهو في خلال
العصر يتم الصلاة بالاتفاق، ولو طلعت الشمس
وهو في خلال الفجر فسدت صلاته عندنا، وعند
الشافعي لا تفسد اعتبارا بحالة الغروب واستدل
بقوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدرك". والفرق بينهما عندنا أن بالغروب يدخل وقت الفرض فلا يكون منافيا
للفرض وبالطلوع لا يدخل وقت الفرض فكان مفسدا
للفرض كخروج وقت الجمعة في خلالها مفسد للجمعة
لأنه لا يدخل وقت مثلها.
قال: "والأصح عندي في الفرق أن الطلوع بظهور
حاجب الشمس وبه لا تنتفي الكراهة
ج / 1 ص -142-
بل
تتحقق فكان مفسدا للفرض والغروب بآخره وبه
تنتفي الكراهة" فلم يكن مفسدا للعصر لهذا،
وتأويل الحديث أنه لبيان الوجوب بإدراك جزء من
الوقت قل أو كثر. وعن أبي يوسف أن الفجر لا
يفسد بطلوع الشمس ولكنه يصبر حتى إذا ارتفعت
الشمس أتم صلاته وكأنه استحسن هذا ليكون مؤديا
بعض الصلاة في الوقت ولو أفسدناها كان مؤديا
جميع الصلاة خارج الوقت وأداء بعض الصلاة في
الوقت أولى من أداء الكل خارج الوقت.
ووقتان آخران: ما بعد العصر قبل تغير الشمس
وما بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فإنه لا
يصلى فيهما شيء من النوافل لحديث ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما قال شهد عندي رجال مرضيون
وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد
العصر حتى تغرب الشمس وهذا الحديث يرويه أبو
سعيد الخدري ومعاذ بن عفراء رضوان الله عليهم
وجماعة ولكن يجوز أداء الفريضة في هذين
الوقتين وكذلك الصلاة على الجنازة وسجدة
التلاوة إنما النهى عن التطوعات خاصة ألا ترى
أنه يؤدي فرض الوقت فيهما فكذلك سائر الفرائض.
فأما الصلوات التي لها سبب من العباد كركعتي
الطواف وركعتي تحية المسجد لا تؤدى في هذين
الوقتين عندنا، خلافا للشافعي رحمه الله تعالى
واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا دخل أحدكم المسجد فليحيه بركعتين". ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما صلى في مسجد الخيف
رجلين لم يصليا معه فقال:
"ما بالكما لم تصليا معنا"؟ فقالا: إنا صلينا
في رحالنا فقال: "إذا صليتما في رحالكما ثم
أتيتما إمام قوم فصليا معهم"، فقد جوز لهما الإقتداء بالإمام بعد الفجر تطوعا.
ولنا: ما روي أن عمر رضي الله تعالى عنه طاف
بالبيت سبعا بعد صلاة الفجر ثم خرج من مكة حتى
إذا كان بذي طوى فطلعت الشمس صلى ركعتين فقال
ركعتان مكان ركعتين فقد أخر ركعتي الطواف إلى
ما بعد طلوع الشمس. وتأويل الحديث الذي روى
أنه كان قبل النهي عن الصلاة في هذا الوقت.
فكذلك المنذورة لا تؤدي في هذين الوقتين لأن
وجوبها بسبب من العبد فهي كالتطوع وركعتي
الطواف وكذلك بعد طلوع الفجر قبل أن يصلى
الفجر لا يصلى تطوعا إلا ركعتي الفجر لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يتطوع في هذا
الوقت مع حرصه على الصلاة حتى كان يقول:
"وجعلت قرة عيني في الصلاة".
فان قيل: لم يذكر في هذا الكتاب وقتا آخر وهو
بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب والتطوع فيه
مكروه أيضا. قلنا: نعم ولكن هذا النهي ليس
لمعنى في الوقت بل لما فيه من تأخير المغرب
كالنهي عن الصلاة عند الخطبة ليس لمعنى بل لما
فيه من الاشتغال عن سماع الخطبة فلهذا لم
يذكره هنا.
قال: "وإذا نسي الفجر حتى زالت الشمس ثم ذكرها
بدأ بها ولو بدأ بالظهر لم يجزه عندنا" لأن
الترتيب بين الفائتة وفرض الوقت مستحق عندنا
وهو مستحب عند الشافعي،
ج / 1 ص -143-
رحمه
الله تعالى. فإذا بدأ بالظهر جاز عنده لأن ما
بعد زوال الشمس وقت للظهر بالآثار المشهورة
وأداء الصلاة في وقتها يكون صحيحا كما إذا كان
ناسيا للفائتة ثم الترتيب في أداء الصلوات في
أوقاتها لضرورة الترتيب في أوقاتها وذلك لا
يوجد في الفوائت لأنها صارت مرسلة عن الوقت
ثابتة في الذمة فكان قياس قضاء الصوم مع
الأداء. ولنا قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة
أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها"،
فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت
التذكر وقتا للفائتة فمن ضرورتها أن لا يكون
وقتا لغيرها.
وأداء الصلاة قبل وقتها لا يجوز، بخلاف حالة
النسيان فإنه ليس بوقت للفائتة فكان وقتا لفرض
الوقت. ثم القضاء بصفة الأداء فكما يراعي
الترتيب بين الفجر والظهر أداء في الوقت فكذلك
قضاء بعد خروج الوقت والأصل فيه حديث ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما قال صلى الله عليه وسلم:
"من نسى صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام
فليصل معه وليجعلها تطوعا ثم ليقض ما ذكره ثم
ليعد ما كان فيه"،
وبعين هذا نقول، وفيه تنصيص على أن الترتيب
شرط ثم يسقط الترتيب بثلاثة أشياء.
أحدهما: النسيان لما روى أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب يوما ثم
قال: "هل رآني أحد منكم صليت العصر"؟ فقالوا: لا فصلى العصر ولم يعد المغرب.
والثاني: ضيق الوقت حتى إذا
كان بحيث لو اشتغل بالفائتة خرج الوقت قبل
أداء فرض الوقت فليس عليه مراعاة الترتيب لأنه
ليس من الحكمة تدارك الفائتة بتفويت مثلها ولو
اشتغل بالفائتة فإنه فرض الوقت ولكن هنا في
هذا الفصل لو بدأ بالفائتة أجزأه بخلاف الأول
فإن هناك هو مأمور بالبداءة بالفائتة ولو بدأ
بفرض الوقت لم يجزه لأن النهى عن البداءة بفرض
الوقت هناك لمعنى في عينها ألا ترى أنه ينهى
عن الاشتغال بالتطوع أيضا والنهي متى لم يكن
لمعنى في عين المنهي عنه لا يمنع جوازه.
والثالث: كثرة الفوائت فإنه
يسقط به الترتيب عندنا وحد الكثرة أن تصير
الفوائت ستا لأن واحدة منها تصير مكررة وهذا
يرجع إلى ضيق الوقت أيضا فلو أمرناه بمراعاة
الترتيب مع كثرة الفوائت لفاته فرض الوقت عن
وقته. وعن زفر أنه تلزمه مراعاة الترتيب في
صلاة شهر فكأنه جعل حد الكثرة بأن يزيد على
شهر. وكان بشر المريسي يقول من ترك صلاة لم
يجزه صلاة في عمره بعد ذلك ما لم يقضها إذا
كان ذاكرا لها لأن كثرة الفوائت تكون عن كثرة
تفريطة فلا يستحق به التخفيف ثم عند كثرة
الفوائت كما لا تجب مراعاة الترتيب بينها وبين
فرض الوقت لا يجب مراعاة الترتيب فيما بين
الفوائت، وعند قلة الفوائت يجب لما روى أن
النبي صلى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات
يوم الخندق فقضاهن بعد هوى من الليل مرتبا ثم
قال:
"صلوا كما رأيتموني أصلى". وروى بن سماعة عن محمد رحمه الله تعالى أن بدخول وقت السادسة لا
تجب مراعاة الترتيب وجعل أول وقت السادسة
كآخره،
ج / 1 ص -144-
وهذا
لا يصح فبدخول وقت السادسة لا تدخل الفوائت في
حد التكرار وإنما تدخل الفوائت في حد التكرار
بخروج وقت السادسة.
قال: "وإن ذكر الوتر في الفجر فسد فرضه إذا
كان الوقت واسعا" في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى، وعندهما لا يفسد لأن الوتر أضعف من
الفجر والضعيف لا يفسد القوي. واستدل أبو
حنيفة رحمه الله تعالى بقوله صلى الله عليه
وسلم:
"من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا ذكره فإن ذلك وقته". فقد ذكر في الوتر ما ذكر في سائر المكتوبات فدل على وجوب الترتيب
بين الوتر والمكتوبة ولا يبعد إفساد القوى بما
هو أضعف منه لمراعاة الترتيب كالمصلى إذا قعد
قدر التشهد ثم تذكر سجدة التلاوة فسجد لها
تبطل القعدة والسجدة أضعف من القعدة. وفي
الحقيقة هذه المسألة تنبنى على معرفة صفة
الوتر فنقول لا خلاف بيننا أن الوتر أقوى من
سائر السنن حتى أنها تقضى إذا انفردت بالفوات
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
ليلة التعريس بدأ بقضاء الوتر؟ والذي روى لا
وتر بعد الصبح المراد النهي عن تأخيرها لا نفي
قضائها وكذلك تقضى بعد صلاة الفجر قبل طلوع
الشمس فدل أنها أقوى من السنن وهي دون الفرائض
حتى لا يكفر جاحدها ولا يؤذن لها ولا تصلى
بالجماعة إلا في شهر رمضان.
واختلفوا وراء هذا فروى حماد بن زيد عن أبي
حنيفة رحمه الله تعالى أن الوتر فريضة. وروى
يوسف بن خالد السمتي عنه أنها واجبة وهو
الظاهر من مذهبه. وروى أسد بن عمرو عنه أنها
سنة مؤكدة وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى وحجتهما حديث الأعرابي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم علمه خمس صلوات في اليوم
والليلة فقال هل علي غيرهن فقال: "لا
إلا أن تطوع".
وروى أن رجلا من الأنصار يقال له أبو محمد قال
الوتر فريضة فبلغ ذلك عبادة بن الصامت فقال
كذب أبو محمد سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "فرض الله على عباده في اليوم والليلة خمس صلوات" وقال على الوتر سنة وليس بحتم وفي القرآن إشارة إلى ما قلنا فإن
الله تعالى قال:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى}
[البقرة: 238] ولن تتحقق الوسطى إلا إذا كان عدد الواجبات خمسا.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بحديث أبي
بسرة الغفاري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله تعالى زادكم صلاة ألا وهي الوتر
فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر"، فبهذا تبين أن وجوب الوتر كان بعد سائر المكتوبات لأنه قال:
"زادكم" وأضاف إلى الله تعالى لا إلى نفسه
والسنن تضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكذلك الزيادة إنما تتحقق في الواجبات لأنها
محصورة بعدد النوافل فإنها لا نهاية لها.
وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: الوتر
ثلاث ركعات كالمغرب وفي رواية وتر الليل كوتر
النهار ثم وتر النهار واجب فكذلك وتر الليل.
وفي اتفاق الصحابة رضوان الله
ج / 1 ص -145-
عليهم
على تقدير التراويح بعشرين ركعة دليل على أن
الواجبات في اليوم والليلة عشرون ركعة وذلك لا
يكون إلا إذا كان الوتر واجبا غير أن وجوب
الوتر ثبت بدليل موجب للعمل غير موجب علم
اليقين فلهذا لا يكفر جاحده وتحط رتبته بسائر
المكتوبات فلا يسمى فرضا مطلقا أما الفرض خمس
صلوات كما ذكروا من الآثار فيه والفرق بين
الفرض والواجبات ظاهر عندنا.
قال: "فإن افتتح تطوعا ثم تذكر فائتة عليه لم
يفسد تطوعه" لأن وجوب مراعاة الترتيب مختص
بالواجبات فإنها مؤقتة دون التطوعات ولو تذكر
فائتة في خلال الفرض انقلبت صلاته تطوعا فإذا
تذكر في التطوع لأن يبقى تطوعا كان أولى.
قال: "والتطوع قبل الظهر أربع ركعات لا فصل
بينهن وبعدها ركعتان" ومراده السنة ولكنه في
الكتاب يسمى السنن تطوعات والأصل في سنن
الصلاة حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من ثابر على ثنتى عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في
الجنة ركعتين قبل الفجر وأربعا قبل الظهر
وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد
العشاء".
وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ذكر
عشر ركعات ركعتين قبل الظهر وفي حديث ابن عمر
ذكر ثنتى عشرة ركعة ولكن ذكر أربعا قبل الظهر
بتسليمتين وبه أخذ الشافعي رحمه الله تعالى
ونحن أخذنا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها
وقلنا الأربع قبل الظهر بتسليمة واحدة لحديث
أبي أيوب الأنصاري قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى بعد الزوال
أربع ركعات فقلت ما هذه الصلاة التي تداوم
عليها فقال: "هذه ساعة تفتح فيها أبواب السماء
فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح"، فقلت: أفي
كلهن قراءة فقال: "نعم"، فقلت: أبتسليمة واحدة
أم بتسليمتين فقال: "بتسليمة واحدة".
فأما قبل العصر فإن تطوع بأربع ركعات فهو حسن
لحديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى قبل العصر أربع ركعات كانت له جنة من النار ولا تطوع بعدها". والذي روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر في
بيت أم سلمة رضي الله تعالى عنها ركعتين
فسألته أم سلمة رضي الله تعالى عنها فقال:
"ركعتان بعد الظهر شغلني الوفد عنهما
فقضيتهما"، فقالت: أنقضيهما نحن؟ فقال: "لا".
وكذلك لا تطوع بعد غروب الشمس قبل المغرب
وبعده ركعتان لما ذكرنا من الآثار. وإن تطوع
بعد المغرب بست ركعات فهو أفضل لحديث ابن عمر
رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله
عليه وسلم:
"من صلى بعد المغرب ست ركعات كتب من الأوابين"، وتلا قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الإسراء: 25]، ولم يذكر التطوع قبل العشاء وإن تطوع بأربع ركعات
فحسن لأن العشاء نظير الظهر من حيث إنه يجوز
التطوع قبلها وبعدها.
فأما التطوع بعد العشاء فركعتان فيما روينا من
الآثار وإن صلى أربعا فهو أفضل،
ج / 1 ص -146-
لحديث
ابن عمر رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا من
صلى بعد العشاء أربع ركعات كن له كمثلهن من
ليلة القدر.
فأما قبل الفجر فركعتان اتفقت الآثار عليهما
وهو أقوى السنن لحديث عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تأويل قوله تعالى:
{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] أنه الركعات بعد المغرب.
قال: "ويكره الكلام بعد انشقاق الفجر إلى أن
يصلى الفجر الأخير" لما روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان في سفر مع أصحابه والحادي
يحدوا، فلما طلع الفجر قال: "أمسك فإنها
ساعة ذكر" وكان الكلام عزيزا على ابن مسعود في هذا الوقت، أي شديدا. ولأن هذه
ساعة يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار جاء
في تأويل قوله تعالى:
{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] أنه يشهده ملائكة الليل والنهار فلا ينبغي أن
يشهدوهم إلا على خير.
قال: "والتطوع بعد الجمعة أربع لا فصل بينهن
إلا بتشهد وقبل الجمعة أربع" أما قبل الجمعة
فلانها نظير الظهر والتطوع قبل الظهر أربع
ركعات وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطوع قبل
الجمعة أربع ركعات واختلفوا بعدها، قال ابن
مسعود رضي الله عنه أربعا وبه أخذ أبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى لحديث أبي هريرة رضي
الله تعالى عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"من كان مصليا
بعد الجمعة فليصل أربع ركعات".
وقال علي رضي الله عنه يصلى بعدها ستا أربعا
ثم ركعتين وبه أخذ أبو يوسف رحمه الله. وقال
عمر: ركعتين ثم أربعا فمن الناس من رجح قول
عمر بالقياس على التطوع بعد الظهر وأبو يوسف
رحمه الله أخذ بقول علي رضي الله عنه فقال
يبدأ بالأربع لكيلا يكون متطوعا بعد الفرض
مثلها، وهذا ليس بقوى فإن الجمعة بمنزلة أربع
ركعات لأن الخطبة شطر الصلاة.
قال: "ولا صلاة قبل صلاة العيد" فإن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يتطوع قبل العيد مع حرصه
على الصلاة ولما قدم على الكوفة خرج يوم العيد
فرأى بعض الناس في الصلاة فقال ما لهم أيصلون
العيد قبلنا قيل لا ولكنهم يتطوعون فقال ألا
أحد ينهاهم قيل له أنههم أنت فقال إني أحتشم
قوله تعالى:
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى}
[العلق]، 69 فنهاهم بعض الصحابة. وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول
إنما يكره له ذلك في المصلى لكيلا يشبه على
الناس فأما في بيته فلا بأس بأن يتطوع بعد
طلوع الشمس وغيره من أصحابنا يقول لا يفعل ذلك
في بيته ولا في المصلى فأول الصلاة بعد طلوع
الشمس في هذا اليوم صلاة العيد.
قال: "وإن تطوع بعدها بأربع ركعات بتسليمة
فحسن" لحديث علي رضي الله عنه قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
"من صلى بعد العيد أربع ركعات كتب الله له بكل
نبت نبت وبكل ورقة حسنة".
قال: "وطول القيام أحب إلي من كثرة السجود"
لما روى
"أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل
ج / 1 ص -147-
الصلاة
فقال: "طول القنوت" وسئل عن أفضل الأعمال
فقال: "أحمزها"، أي أشقها على البدن وطول القيام أشق ولأن فيه جمعا بين فرضين
القيام والقراءة وكل واحد منهما فرض، وعن أبي
يوسف رحمه الله تعالى قال إن كان له ورد من
القرآن يقرؤه فكثرة السجود أحب إلي وأفضل لأنه
يقرأ فيه ورده لا محالة وإن لم يكن فطول
القيام أحب.
قال: "والتطوع بالليل ركعتان ركعتان أو أربع
أربع أو ست ست أو ثمان ثمان أي ذلك شئت" لما
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى
بالليل خمس ركعات سبع ركعات تسع ركعات إحدى
عشرة ركعة ثلاث عشرة ركعة. الذي قال خمس ركعات
ركعتان صلاة الليل وثلاث وتر الليل. والذي قال
تسع ست صلاة الليل وثلاث وتر. والذي قال ثلاث
عشرة ركعة ثمان صلاة الليل وثلاث وتر وركعتان
سنة الفجر. وكان يصلى هذا كله في الابتداء ثم
فضل البعض عن البعض هكذا ذكره حماد بن سلمة
ولم يذكر كراهة الزيادة على ثمان ركعات
بتسليمة والأصح أنه لا يكره لأن فيه وصلا
بالعبادة وذلك أفضل.
ثم قال: "والأربع أحب إلي" وهذا قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى. فأما عندهما والشافعي
فالأفضل ركعتان لحديث ابن عمر رضي الله عنهما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل
مثنى مثنى ففي كل ركعتين فسلم"،
واستدلالا بالتراويح فإن الصحابة اتفقوا على
أن كل ركعتين منها بتسليمة فدل أن ذلك أفضل.
ولنا: ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها
أنها سئلت عن قيام رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ليالي رمضان فقالت كان قيامه في رمضان
وغيره سواء، كان يصلى بعد العشاء أربع ركعات
لا تسل عن حسنهن وطولهن ثم أربعا لا تسل عن
حسنهن وطولهن ثم كان يوتر بثلاث ولأن في
الأربع بتسليمة معنى الوصل والتتابع في
العبادة فهو أفضل والتطوع نظير الفرائض والفرض
في صلاة الليل العشاء وهي أربع بتسليمة فكذلك
النفل وأما قوله: "ففي كل ركعة فسلم" معناه
فتشهد والتشهد يسمى سلاما لما فيه من السلام
وصلاة التراويح إنما جعلوها ركعتين بتسليمة
واحدة ليكون أروح على البدن وما يشترك فيه
العامة يبنى على اليسر فأما الأفضل فهو أشق
على البدن.
وأما تطوع النهار فالأفضل أربع ركعات بتسليمة
عندنا على قياس الفرائض في صلاة النهار ولحديث
بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يواظب في صلاة الضحي على
أربع ركعات وعند الشافعي رحمه الله تعالى
الأفضل ركعتان بتسليمة لما فيها من زيادة
التكبير والتسليم ولحديث عمارة بن رؤبيه أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاة
الضحى بركعتين وإنما بدأ بما هو أفضل وتأويل
الأثر الذي جاء لا يصلى بعد صلاة مثلها في ترك
القراءة في الأخريين وهذا الأثر مروى عن عمر
وعلي وبن مسعود رضي الله تعالى عنهم وبظاهره
أخذ الشافعي فقال الأربع قبل الظهر بتسليمتين
لكيلا يكون مصليا بعد صلاة
ج / 1 ص -148-
مثلها
وكذلك بعد العشاء يتطوع بركعتين لهذا. ونحن
نقول المراد صفة القراءة لا عدد الركعات فإن
في الفرض القراءة في ركعتين بفاتحة الكتاب
وسورة وفي النفل في كل ركعة ألا ترى أن التطوع
قبل الفجر ركعتان والمخالفة في صفة القراءة
بالتطويل في الفرض دون السنة لا في عدد
الركعات.
قال: "رجل افتتح التطوع ينوى أربع ركعات ثم
تكلم فعليه قضاء ركعتين" في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى لأن كل شفع من التطوع
صلاة على حدة ألا ترى أن فساد الشفع الثاني لا
يوجب فساد الشفع الأول فلا يصير شارعا في
الشفع الثاني ما لم يفرغ من الأول وبدون
الشروع أو النذر لا يلزمه شيء. وعن أبي يوسف
رحمه الله تعالى في رواية بن سماعة أنه يلزمه
الأربع ولا يلزمه أكثر من أربع ركعات وإن
نواها. وفي رواية بشر بن أبي الأزهر يلزمه ما
نوى وإن نوى مائة ركعة. ووجهه أن لشروع ملزم
كالنذر فنيته عند الشروع كتسميته عند النذر
فيلزمه ما نوى. ووجه الرواية الأخرى أن التطوع
نظير الفرائض وأربع بالتسليمة مشروع في
الفرائض فيلزمه بالشروع في التطوع بخلاف ما
زاد عليه. وبعض المتأخرين من أصحابنا اختاروا
قوله فيما يؤدي من الأربع بتسليمة كالأربع قبل
الظهر ونحوها.
قال: "فإن صلى أربع ركعات بغير قراءة فعليه
قضاء ركعتين" في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله تعالى. وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى
عليه قضاء الأربع، قال: لأن ترك القراءة لا
يفسد التحريمة ألا ترى أن ابتداء التحريمة
صحيح قبل مجيء أوان القراءة فصح قيامه إلى
الشفع الثاني وقد أفسد كل واحد منهما بترك ما
هو ركن وهو القراءة فيلزمه قضاء الكل. وأما
عند محمد رحمه الله فالتحريمة تنحل بترك
القراءة في الأوليين لأن مع صفة الفساد لا
بقاء لتحريمة الصلاة فلا يصح قيامة إلى الشفع
الثاني. وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بصفة
الفساد لا تنحل التحريمة ولكنها تضعف فقيامه
إلى الشفع الثاني حصل بصفة الفساد والضعف فلا
يكون ملزما إياه ما لم يؤكده كما قال في
الشروع في صوم يوم النحر وهذه على ثمانية
أوجه:
أحدها: ما بينا.
والثاني: إذا قرأ في الأوليين
ولم يقرأ في الأخريين فعليه قضاء الأخريين لأن
شروعه في الشفع الثاني بعد إتمام الأول صحيح
وقد أفسده بترك القراءة.
والثالث: إذا قرأ في الأخريين
دون الأوليين فعليه قضاء ركعتين أما عند أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى فالتحريمة
لم تنحل فصار شارعا في الشفع الثاني وقد أتمها
فعليه قضاء ما أفسد وهو الشفع الأول. وعند
محمد رحمه الله تعالى التحريمة انحلت بترك
القراءة في الأوليين فعليه قضاؤها فقط
والأخريان لا يكونان قضاء عن الأوليين لأنه
بناهما على تلك التحريمة والتحريمة الواحدة لا
يتسع فيها القضاء والأداء.
ج / 1 ص -149-
والرابع: إذا قرأ في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين فعند أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله تعالى يلزمه قضاء أربع
ركعات، وعند محمد رحمه الله تعالى يلزمه قضاء
ركعتين ومحمد مر على أصله أن التحريمة انحلت
بترك القراءة في إحدى الأوليين. وأبو يوسف
رحمه الله تعالى مر على أصله أن التحريمة
باقية فصح شروعه في الشفع الثاني وقد أفسده.
فأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقد جرت
محاورة بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
في مذهبه حتى عرض عليه الجامع الصغير فقال أبو
يوسف رويت لك عنه أن عليه قضاء ركعتين وقال
محمد رحمه الله تعالى بل رويت لي أن عليه قضاء
أربع ركعات وقيل ما حفظه أبو يوسف رحمه الله
تعالى هو قياس مذهبه لأن التحريمة ضعفت
بالفساد بترك القراءة في ركعة فلا يلزمه الشفع
الثاني بالشروع فيه بهذه التحريمة. والاستحسان
ما حفظه محمد رحمه الله تعالى لأن الشروع وإن
حصل بصفة الفساد فقد أكده بوجود القراءة في
ركعة فصار ذلك ملزما إياه لتأكده. والدليل على
أن التأكد يحصل بالقراءة في ركعة قوله لا صلاة
إلا بقراءة وبالقراءة في كل ركعة تكون صلاته
بقراءة ولهذا قال بعض العلماء لا تجب القراءة
في كل صلاة إلا في ركعة.
والوجه الخامس: قرأ في
الأوليين وإحدى الأخريين فعليه قضاء ركعتين.
والسادس: قرأ في الأخريين
وإحدى الأوليين فعليه قضاء ركعتين أيضا وهو
ظاهر.
والسابع: قرأ في إحدى
الأوليين فقط فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى
عليه قضاء أربع ركعات، وعند أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى عليه قضاء ركعتين لأنه لم
يؤكد الشفع الثاني بالقراءة في ركعة منها.
والثامن: قرأ في إحدى
الأخريين فقط فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى
عليه قضاء أربع ركعات، وعند محمد رحمه الله
تعالى عليه قضاء ركعتين وهو الأصح عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لم يؤكد الشفع
الأول بالقراءة فلا يصح شروعه في الشفع الثاني
فإن ترك القراءة في الأوليين ثم اقتدى به رجل
في الأخريين فصلاهما معه فعليه قضاء الأوليين
كما يقضى الإمام لأنه لما شارك الإمام في
التحريمة فقد التزم ما التزمه الإمام بهذه
التحريمة وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله تعالى. فأما عند محمد رحمه الله تعالى
تحريمة الإمام قد انحلت فلم يصح اقتداء الرجل
به وليس عليه قضاء شيء وإن دخل معه في
الأوليين رجل فلما فرغ منها تكلم الرجل ومضى
الإمام في صلاته حتى صلى أربع ركعات فعلى
الرجل الذي كان خلفه أن يقضى ركعتين وهما
الأوليان فقط وإن كانت الصلاة كلها صحيحة لم
يكن على الرجل قضاء ركعتين لأنه خرج من صلاة
الإمام قبل قيام الإمام إلى الشفع الثاني.
وقد بينا أن الإمام إنما يلزمه الشفع الثاني
بالقيام إليها فإذا خرج هذا الرجل من صلاته
ج / 1 ص -150-
قبل
قيام الإمام إلى الشفع الثاني لم يلزمه شيء من
هذا الشفع وإنما يلزمه قضاء الشفع الأول إن
كان فسد بترك القراءة فيهما أو في إحداهما وإن
حصل أداؤهما بصفة الصحة فليس عليه قضاء شيء.
قال: "ولو صلى الرجل الفجر ثم ذكر أنه لم يصل
ركعتي الفجر لم يقضهما" في قول أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله تعالى. وقال محمد رحمه الله
تعالى أحب ألي أن يقضيهما إذا ارتفعت الشمس.
أما سائر السنن إذا فاتت عن موضعها لم تقض
عندنا، خلافا للشافعي رضي الله تعالى عنه،
ودليلنا حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها حين
قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أنقضيها نحن؟ فقال: "لا".
ولأن السنة عبارة عن الاقتداء برسول الله صلى
الله عليه وسلم فيما تطوع به، وهذا المقصود لا
يحصل بالقضاء بعد الفوات وهي مشروعة للفصل بين
الأذان والإقامة فلا يحصل هذا بالقضاء بعد
الفراغ من المكتوبة فأما سنة الفجر فلو فاتت
مع الفجر قضاها معه استحسانا لحديث ليلة
التعريس فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
ركعتي الفجر ثم صلى الفجر. ولأن لهذه السنة من
القوة ما ليس لغيرها قال صلى الله عليه وسلم:
"صلوها فإن فيها الرغائب". وإن انفردت بالفوات لم تقض عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله
تعالى لأن موضعها بين الأذان والإقامة وقد فات
ذلك بالفراغ من الفرض. وعند محمد رحمه الله
تعالى يقضيها إذا ارتفعت الشمس قبل الزوال
هكذا روى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
ولأن ما قبل الزوال في حكم أول النهار وعند
الشافعي رحمه الله تعالى يقضيها قبل طلوع
الشمس بناء على أصله في الصلوات التي لها سبب
والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب القيام في الفريضة
قال محمد رحمه الله
تعالى في الأصل بلغنا عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
"من أم قوما فليصل بهم صلاة أضعفهم فإن فيهم
الكبير والمريض وذا الحاجة"، وفي هذا دليل أنه لا ينبغي للإمام أن يطول القراءة على وجه يمل
القوم لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إن من الأئمة الطرادين". ولما
شكا قوم معاذا رضي الله تعالى عنه إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم تطويل القراءة دعاه
قال الراوي: فما رأيته في موعظة أشد منه في
تلك الموعظة قال:
"أفتان أنت يا معاذ"؟ قالها ثلاثا، "أين أنت من {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1]
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}
[الشمس: 1]"؟ وقال صلى الله عليه وسلم:
"تكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله تعالى
لا يمل حتى تملوا". وقال أنس رضي الله تعالى عنه ما صليت خلف أحد أتم وأخف مما صليت
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ
المعوذتين في صلاة الفجر يوما فلما فرغ قالوا:
أوجزت، قال: "سمعت بكاء صبي فخشيت على أمه أن
تفتن"، فدل أن الإمام ينبغي له أن يراعى حال قومه.
قال: ويقرأ الإمام في الفجر في الركعتين جميعا
بأربعين آية مع فاتحة الكتاب، يعنى
ج / 1 ص -151-
سواها
وفي الجامع الصغير قال بأربعين خمسين ستين.
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى
قال ما بين الستين إلى مائة آية، وهذا لاختلاف
الآثار فيه فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في
الفجر يوم الجمعة {الم تَنْزِيلُ}
[السجدة: 1-2] و{هَلْ
أَتَى عَلَى الإَنْسَانِ}
[الإنسان: 1]. وعن مورق العجلى قال تلقفت:
سورة ق واقتربت من في رسول الله صلى الله عليه
وسلم من كثرة قراءته لهما في صلاة الفجر. وعن
أبي هريرة رضي الله عنه: "أنه صلى الله عليه
وسلم قرأ
{وَالْمُرْسَلاتِ}
[المرسلات:
1] و{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] في صلاة الفجر وفي رواية، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}
[التكوير: 1] و{إِذَا
السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}
[الانفطار: 1] وأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه
قرأ في الفجر سورة البقرة فلما فرغ قال له عمر
كادت الشمس تطلع يا خليفة رسول الله فقال لو
طلعت لم تجدنا غافلين. وعمر رضي الله تعالى
عنه قرأ في الفجر سورة يوسف فلما انتهى إلى
قوله:
{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى} [يوسف: 86] خنقته العبرة فركع فلما اختلفت الآثار اختلفت الروايات
فيه كما بينا.
ووجه التوفيق: أن القوم إن كانوا من علية
الرجال يرغبون في العبادة قرأ مائة آية كما في
رواية الحسن وإن كانوا كسالى غير راغبين في
العبادة يقرأ أربعين آية كما في الأصل وإن
كانوا فيما بين ذلك يقرأ خمسين ستين كما في
الجامع الصغير.
وقيل: يبنى على كثرة اشتغال القوم وقلة ذلك
ويختلف ذلك باختلاف الأوقات. وقيل: يبنى على
طول الليالي وقصرها. وقيل: يبنى على حال نفسه
في الخفة والثقل وحسن الصوت والحاصل أنه يتحرز
عما ينفر القوم عنه لكيلا يؤدي إلى تقليل
الجماعة.
ويقرأ في الظهر بنحو ذلك أو دونه لحديث أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه حزرنا قراءة رسول
الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر في
الركعتين بثلاثين آية قال سجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم في صلاة الظهر فظننا أنه قرأ
{الم تَنْزِيلُ}
السجدة. وعن النعمان بن بشير: "أن النبي صلى
الله عليه وسلم قرأ في الجمعة سورة الجمعة
والمنافقين"، والقراءة في الظهر نحو القراءة
في الجمعة.
قال: "ويقرأ في العصر بعشرين آية مع فاتحة
الكتاب" لحديث أبي هريرة رضي الله عنه وجابر
بن سمرة رضي الله تعالى عنهما كان النبي صلى
الله عليه وسلم يقرأ في العصر بعشرين آية سورة
سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية وفي
العشاء مثل ذلك في رواية الأصل وفي رواية
الحسن مثل قراءته في الظهر وفي المغرب بسورة
قصيرة خمس آيات أو ستا مع فاتحة الكتاب لحديث
عمر رضي الله تعالى عنه فإنه كتب إلى أبي موسى
الأشعري رضي الله تعالى عنه أن اقرأ في الفجر
والظهر بطوال المفصل وفي العصر والعشاء بأوساط
المفصل وفي المغرب بقصار المفصل، ومن أصحابنا
من تكلف فيه لمعنى قال الفجر يؤدي في حال نوم
الناس فيطول القراءة فيها لكي لا تفوتهم
الجماعة وكذلك الظهر في الصيف فإن الناس
يقيلون، وأما العصر يؤدي في حال حاجة الناس
إلى الرجوع إلى منازلهم فلتكن القراءة فيها
ج / 1 ص -152-
دون
ذلك، وكذلك العشاء تؤدي في حال عزم الناس على
النوم والمغرب تؤدى في حال عزم الناس على
الأكل فلتكن القراءة فيها أقصر لقلة صبر الناس
على الأكل خصوصا للصائمين.
قال: "وما قرأ في الوتر من شيء فهو حسن" وقد
بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قرأ
في الركعة الأولى من الوتر بسبح اسم ربك
الأعلى وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون وفي
الثالثة بقل هو الله أحد". والكلام فيه في
فصول:
أحدها: أن الوتر ثلاث ركعات
لا يسلم إلا في آخرهن عندنا. وقال الشافعي
رحمه الله تعالى ركعة واحدة. وقال مالك رحمه
الله تعالى: ثلاث ركعات بتسليمتين. واستدل
الشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام:
"إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل
القرآن". ومالك استدل بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال النبي صلى
الله عليه وسلم:
"صلاة
الليل مثني مثني فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة
يوتر لك ما قبله". وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه يوتر بركعة واحدة.
ولنا: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها كما
روينا في صفة قيام رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ثم يوتر بثلاث وبعث بن مسعود رضي الله
تعالى عنه أمه لتراقب وتر رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فذكرت أنه أوتر بثلاث ركعات قرأ في
الأولى سبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية قل يا
أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد
وقنت قبل الركوع وهكذا ذكر ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما حين بات عند خالته ميمونة ليراقب
وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما رأى
عمر رضي الله تعالى عنه سعدا يوتر بركعة فقال
ما هذه البتيراء لتشفعنها أو لأوذينك وإنما
قال ذلك لأن الوتر اشتهر أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن البتيراء. وقال ابن مسعود
رضي الله تعالى عنه والله ما أخرت ركعة قط
ولأنه لو جاز الاكتفاء بركعة في شيء من
الصلوات لدخل في الفجر قصر بسبب السفر ولا حجة
له فيما روى فإن الله تعالى وتر لا من حيث
العدد.
والفصل الثاني: أنه يقنت في
الوتر في جميع السنة عندنا لما روينا. وعند
الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يقنت إلا في
النصف الأخير من رمضان لما روي أن عمر رضي
الله تعالى عنه لما أمر أبي بن كعب بالإمامة
في ليالي رمضان أمره بالقنوت في النصف الأخير
منه وتأويله عندنا أن المراد بالقنوت طول
القراءة لا القنوت في الوتر.
والثالث: أنه يقنت قبل الركوع
عندنا لما روينا من الآثار ولأن القنوت في
معنى القراءة فإن قوله: اللهم إنا نستعينك
مكتوب في مصحف أبي وبن مسعود في سورتين
فالقراءة قبل الركوع فكذلك القنوت. وعند
الشافعي رحمه الله تعالى بعد الركوع ولا أثر
له في قنوت الوتر في ذلك إنما الأثر في القنوت
في صلاة الفجر فقاس به القنوت في الوتر.
قال: "ولا قنوت في شيء من الصلوات سوى الوتر
عندنا" وقال الشافعي رحمه الله تعالى يقنت في
صلاة الفجر في الركعة الثانية بعد الركوع
واستدل بحديث أنس رضي الله
ج / 1 ص -153-
تعالى
عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في
صلاة الفجر إلى أن فارق الدنيا وقد صح قنوته
فيها فمن قال إنه انتسخ فعليه اثباته بالدليل
وقد صح أن عليا رضي الله تعالى عنه في حروبه
كان يقنت على من ناواه في صلاة الفجر.
ولنا: حديث بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة الفجر
شهرا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه
وهكذا عن أنس رضي الله تعالى عنه قال قنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر شهرا
أو قال: أربعين يوما يدعو على رعل وذكوان
ويقول في قنوته:
"اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين
كسني يوسف". فلما نزل قوله تعالى:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}[آل عمران: 128] الآية ترك ذلك. وقال أبو عثمان النهدي رضي الله
تعالى عنه صليت خلف أبي بكر سنين وخلف عمر
كذلك فلم أر واحدا منهما يقنت في صلاة الفجر.
ورووا القنوت ورووا تركه كذلك ففعله المتأخر
ينسخ فعله المتقدم وقد صح أنه كان يقنت في
صلاة المغرب كما يقنت في صلاة الفجر ثم انتسخ
أحدهما بالاتفاق فكذلك الآخر.
قال: "وكان يقال مقدار القيام في القنوت إذا
السماء انشقت وليس فيها دعاء مؤقت" يريد به
سوى قوله اللهم إنا نستعينك فالصحابة اتفقوا
على هذا في القنوت والأولى أن يأتي بعده بما
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن
علي رضي الله تعالى عنهما في قنوته:
"اللهم اهدني فيمن هديت" إلى
آخره، والقراءة أهم من القنوت فإذا لم يؤقت في
القراءة في شيء في الصلاة ففي دعاء القنوت
أولى. وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى
التوقيت في الدعاء يذهب برقة القلب، ومشايخنا
قالوا: مراده في أدعية المناسك فأما في الصلاة
إذا لم يؤقت فربما يجرى على لسانه ما يفسد
صلاته.
قال: "ويرفع يديه حين يفتتح القنوت" للحديث
المعروف: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن في افتتاح الصلاة وقنوت الوتر وفي
العيدين وعند استلام الحجر وعلى الصفا والمروة
وبعرفات وبجمع وعند المقامين وعند الجمرتين". ثم
يكفيهما، قيل معناه يرسلهما ليكون حال الدعاء
مخالفا لحال القراءة. وقيل: يضع إحداهما على
الأخرى لأن القنوت مشبه بالقراءة وهو الأصح
فالوضع سنة القيام فكل قيام فيه ذكر فإنه يطول
فالوضع فيه أولى.
وعن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه قال
الدعاء أربعة دعاء رغبة ودعاء رهبة ودعاء تضرع
ودعاء خفية. ففي دعاء الرغبة يجعل بطون كفيه
نحو السماء وفي دعاء الرهبة يجعل ظهر كفيه إلى
وجهه كالمستغيث من الشيء وفي دعاء التضرع يعقد
الخنصر والبنصر ويحلق بالإبهام والوسطى ويشير
بالسبابة ودعاء الخفية ما يفعله المرء في نفسه
وعلى هذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى في
الإملاء يستقبل بباطن كفيه القبلة عند افتتاح
ج / 1 ص -154-
الصلاة
واستلام الحجر وقنوت الوتر وتكبيرات العيد
ويستقبل بباطن كفيه السماء عند رفع الأيدي على
الصفا والمروة وبعرفات وبجمع وعند الجمرتين
لأنه يدعو في هذه المواقف بدعاء الرغبة.
والاختيار الإخفاء في دعاء القنوت في حق
الإمام والقوم لقوله صلى الله عليه وسلم:
"خير الدعاء الخفي". وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الإمام يجهر والقوم يؤمنون على
قياس الدعاء خارج الصلاة.
قال: "وإذا أم الرجل نساء في مسجد جماعة ليس
معهن رجل فلا بأس بذلك" لما روى عن عمر رضي
الله تعالى عنه أنه أمر أبي بن كعب أن يصلي
بالرجال في ليالي رمضان وسليمان بن أبي حثمة
بأن يصلى بالنساء ولأن المسجد ليس بموضع
الخلوة فلا بأس للرجل أن يجمع معهن فيه فأما
في غير المسجد من البيوت ونحوها فإنه يكره ذلك
إلا أن يكون معهن ذو رحم محرم منهن لقوله صلى
الله عليه وسلم: "ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فإن ثالثهما الشيطان". وبتفرد
النساء يزداد معنى خوف الفتنة فلا تزول
الكراهة إلا أن يكون معهن محرم لحديث أنس رضي
الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى بهم في بيتهم قال فأقامني واليتيم من
ورائه وأقام أمي أم سليم وراءنا ولأن بوجود
المحرم يزول معنى خوف الفتنة ويستوى إن كان
المحرم لهن أو لبعضهن وتجوز الصلاة بكل حال
لأن الكراهة لمعنى في غير الصلاة.
قال: "رجل فاتته الصلاة بالجماعة في مسجد حيه
فإن أتى مسجدا آخر يرجو إدراك الجماعة فيه
فحسن وإن صلى في مسجد حيه فحسن" لحديث الحسن
قال كانوا إذا فاتتهم الجماعة فمنهم من يصلى
في مسجد حيه ومنهم من يتبع الجماعة ومراده
الصحابة ولأن في كل جانب مراعاة جهة وترك أخرى
في أحد الجانبين مراعاة حرمة مسجده وترك
الجماعة وفي الجانب الآخر مراعاة فضيلة
الجماعة وترك حق مسجده فإذا تعذر الجمع بينهما
مال إلى أيهما شاء والأولى في زماننا إن لم
يدخل مسجده بعد أن يتبع الجماعة فإن دخل مسجده
صلى فيه. قال: "ولا بأس بأن يتطوع قبل
المكتوبة إذا لم يخف فوات الوقت" وكان الكرخي
رحمه الله تعالى يستدل بهذا اللفظ أن له أن
يترك الأربع قبل الظهر إذا فاتته الجماعة لأنه
قال لا بأس بأن يفعل فدل أن له أن يترك وهو
الذي وقع عند العوام والمعنى فيه أن من فاتته
الجماعة فهو كالمدد لهم فليعجل أداء الفريضة
ليلحق بهم في أن لا يتطوع قبل المكتوبة إذا لم
يخف فوات الوقت والأصح أنه لا ينبغي له أن
يدعه لأن التطوع مشروع جبرا لنقصان الفرائض
وحاجة من فاتته الجماعة إلى هذا أمس.
قال: "وإذا أخذ المؤذن في الإقامة كرهت للرجل
أن يتطوع لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أقيمت
الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" إلا
ركعتي الفجر فإني لم أكرههما، وكذلك إذا انتهى
إلى المسجد وقد افتتح القوم صلاة الفجر يأتي
بركعتي الفجر إن رجا أن يدرك مع الإمام ركعة
ج / 1 ص -155-
في
الجماعة وهذا عندنا. وقال الشافعي رحمه الله
تعالى يدخل مع الإمام على قياس سائر التطوعات.
ولنا: ما روى عن بن مسعود رضي الله تعالى عنه
أنه دخل المسجد والإمام في صلاة الفجر فقام
إلى سارية من سواري المسجد وصلى ركعتي الفجر
ثم دخل مع الإمام وعن أبي عثمان النهدي قال
إني لأذكر أن أبا بكر كان يفتتح صلاة الفجر
فيدخل الناس ويصلون ركعتي الفجر ثم يدخلون معه
وهذا بناء على أن عندنا لا يقضى هاتين
الركعتين بعد الفوات فيحرزهما إذا طمع في
إدراك ركعة من الصلاة كإدراك جميع الصلاة قال
صلى الله عليه وسلم:
"من أدرك ركعة
من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدرك".
وعند الشافعي رحمه الله تعالى يقضيهما بعد
الفراغ من الصلاة فيشتغل بإحراز فضيلة تكبيرة
الافتتاح وإن خاف فوت الجماعة دخل مع القوم
لأن أداء الصلاة بالجماعة من سنن الهدى.
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عليكم
بالجماعات فإنها من سنن الهدى ولو صليتم في
بيوتكم كما فعل هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم
ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم وقال عمر رضي الله
تعالى عنه لقد هممت أن آمر من يصلى بالناس ثم
أنظر إلى من لم يشهد الجماعة فآمر فتياني أن
يحرقوا بيوتهم فدل أن الجماعة أقوى السنن
فيشتغل بإحراز فضيلتها ولم يذكر إذا كان يرجو
إدراك التشهد وقيل على قول أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله إدراك التشهد كإدراك ركعة
كما في صلاة الجمعة فيبدأ بركعتي الفجر. وعند
محمد رحمه الله تعالى لا يعتبر إدراك التشهد
كإدراك ركعة فيدخل مع الإمام.
قال: "رجل سلم على تمام من صلاته في نفسه، ثم
اقتدى به رجل وكبر ثم ذكر الإمام أن عليه سجدة
التلاوة أو أنه لم يقرأ التشهد في الرابعة
فاقتداء الرجل به صحيح" لأن سلام الإمام سهو
وسلام السهو لا يخرجه من الصلاة فحصل الاقتداء
في حال بقاء تحريمة الإمام فإن عاد الإمام إلى
سجدة التلاوة أو قرأ قراءة التشهد تابعه الرجل
ثم يقوم لإتمام صلاته بعد فراغ الإمام من
التشهد أو من سجود السهو. وإن لم يعد الإمام
إليها لم تفسد صلاته لأن ما تذكر ليس من
الأركان وكذلك لا تفسد صلاة المقتدى فيقوم
لإتمام صلاته. وإن ذكر الإمام أن عليه سجود
السهو فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم
الله تعالى اقتداء الرجل به موقوف فإن عاد
الإمام إلى سجود السهو صح الاقتداء وتابعه
الرجل وإن لم يعد لا يصح اقتداؤه به. وعند
محمد وزفر رحمهم الله تعالى الاقتداء صحيح على
كل حال. وقال بشر: لا يصح الاقتداء على كل حال
لأن مذهبه أن سجود السهو ليس من الصلاة فإنه
يؤدي بعد السلام، وعندنا سجود السهو من الصلاة
لأنه جبر لنقصانها. ثم عند محمد وزفر رحمهما
الله تعالى من سلم وعليه سجود سهو لا يصير
خارجا من الصلاة لأنه قد بقى عليه واجب من
واجبات الصلاة، فهو كسجدة التلاوة وقراءة
التشهد، ولو
ج / 1 ص -156-
خرج من
الصلاة لم يعد فيها إلا بتحريمة جديدة فإذا لم
يخرج صح اقتداء الرجل به على كل حال. وعند أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله بالسلام يخرج من
الصلاة لأن السلام محلل قال صلى الله عليه
وسلم: "وتحليلها
التسليم"، وقد أتى به في موضعه مع العلم بحاله فيعمل عمله في التحليل إلا
أنه إذا عاد يعود إلى حرمة الصلاة ضرورة ولا
تتحقق تلك الضرورة قبل عوده فيخرج بالسلام من
الصلاة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثم يعود
إليها بالعود إلى سجود السهو. وعند أبي يوسف
رحمه الله تعالى يتوقف حكم خروجه من الصلاة
فلهذا كان الاقتداء به موقوفا وينبني على هذا
الأصل أربع مسائل:
إحداها: ما بينا.
والثانية: إذا نوى المسافر
الإقامة بعد ما سلم وعليه سجود السهو فعند أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لا يتعين
فرضه ويسقط عنه سجود السهو، وعند محمد وزفر
رحمهما الله تعالى يتعين فرضه فيقوم لإتمام
صلاته.
والثالثة: إذا ضحك قهقهة في
هذه الحالة لم يلزمه الوضوء في قول أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله تعالى. وقال محمد رحمه
الله تعالى: يلزمه الوضوء لصلاة أخرى.
والرابعة: إذا اقتدى به رجل
بنية التطوع ثم تكلم قبل عود الإمام إلى سجود
السهو فليس عليه قضاء شيء عند أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله تعالى وإن عاد الإمام إلى
سجود السهو بعد ذلك. وعند محمد رحمه الله
تعالى عليه قضاء التطوع لأن أقتداءه به حصل في
حال بقاء الحرمة فصار شارعا في التطوع ثم
مفسدا فعليه القضاء والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الحدث في الصلاة
مصل سبقه الحدث في
الصلاة من بول أو غائط أو ريح أو رعاف بغير
قصده انصرف فتوضأ وبني على صلاته ما لم يتكلم
استحسانا وإن تكلم واستقبل فهو أفضل وفي
القياس عليه استقبال الصلاة بعد الوضوء وهو
قول الشافعي رحمه الله تعالى وكان مالك رحمه
الله تعالى يقول يبنى ثم رجع عنه فعابه محمد
رحمه الله تعالى في كتاب الحجج برجوعه من
الآثار إلى القياس.
وجه القياس: أن الطهارة شرط بقاء الصلاة كما
هو شرط ابتدائها فكما لا يتحقق شروعه في
الصلاة بدون هذا الشرط فكذلك بقاؤها ولأن
الحدث مناف للصلاة قال صلى الله عليه وسلم:
"لا صلاة إلا
بطهور"، ولا بقاء للعبادة مع وجود ما ينافيها. وجه قولنا حديث عائشة رضي
الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال:
"من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى من
صلاته ما لم يتكلم".
وإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه سبقه الحدث في
الصلاة فتوضأ وبنى وعمر رضي الله تعالى عنه
سبقه الحدث فاستخلف وتوضأ وبنى على صلاته وعلي
رضي الله
ج / 1 ص -157-
تعالى
عنه كان يصلى خلف عثمان فرعف فانصرف وتوضأ
وبنى على صلاته وهو مروي عن بن مسعود وبن عباس
رضي الله تعالى عنهم والقياس يترك بالآثار.
ثم الذي سبقه الحدث إما أن يكون منفردا وإما
أن يكون مقتديا أو إماما. فأما المنفرد يذهب
فيتوضأ ثم يتخير بين إتمام بقية الصلاة في
بيته وبين الرجوع إلى مصلاه ليكون مؤديا جميع
الصلاة في مكان واحد وهو أفضل وإن أتم في بيته
فلم يوجد منه إلا ترك المشي في الصلاة وذلك لا
يضره.
وأما المقتدي إذا فرغ من الوضوء فإن لم يفرغ
إمامه من الصلاة فعليه أن يعود ولو أتم بقية
صلاته في بيته لا يجزئه لأن بينه وبين إمامه
ما يمنع صحة الإقتداء وإن كان قد فرغ إمامه
يخير هو كما بينا وإن كان أماما تأخر وقدم
رجلا ممن خلفه يصلى بالقوم والشافعي رحمه الله
تعالى في هذا يوافقنا فإن على أصله بحدث
الإمام لا تفسد صلاة القوم لأنه لو ظهر أنه
كان محدثا جاز صلاة القوم فيستخلف لهم ثم
يتوضأ ويستقبل، وعندنا يستخلف لأنه عجز عن
إتمام ما ضمن لهم الوفاء به فيستعين بمن قدر
عليه، والدليل على جواز هذا أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما أمر أبا بكر رضي الله
تعالى عنه أن يصلى بالناس وجد في نفسه خفة
فخرج يهادي بين اثنين بعد ما افتتح أبو بكر
الصلاة فلما سمع أبو بكر حس رسول الله صلى
الله عليه وسلم، تأخر وتقدم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وإنما تأخر لأنه عجز عن المضي
لقوله تعالى:
{لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[الحجرات: 1] فصار هذا أصلا في حق كل إمام عجز عن الإتمام أنه يتأخر
ويستخلف ثم يتوضأ ويبنى على صلاته ما لم يتكلم
فإن تكلم واستقبل فهو أفضل ليكون أبعد عن شبهة
الاختلاف وأقرب إلى الاحتياط فإن كان حين يرجع
إلى أهله بال واستمشى لم يبن على صلاته لأن
هذا حدث عمد فهو بمنزلة الكلام أو فوقه في
إفساد الصلاة وجواز البناء كان بالآثار في
الحدث الذي يسبقه فلا يقاس من يتعمد الحدث لأن
فيما يسبقه بلوى وضرورة بخلاف ما يتعمده ولهذا
لو ابتلى بالجنابة في خلال الصلاة لم يبن بعد
الاغتسال لأنه مما لا تعم به البلوى.
قال: "فإن تكلم في صلاته ناسيا أو عامدا مخطئا
أو قاصدا استقبل الصلاة" وقال الشافعي رحمه
الله تعالى إذا كان ناسيا أو مخطئا لا يستقبل
إلا إذا طال كلامه واحتج بقوله تعالى:
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُمْ بِهِ}[الأحزاب: 5] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، واعتماده على حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشى إما الظهر وإما
العصر فسلم على رأس ركعتين فقام رجل يقال له
ذو اليدين فقال أقصرت الصلاة أم نسيتها فقال:
"كل ذلك لم يكن"، فقال: بعض ذلك قد كان فنظر
إلى أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقال:
"أحق ما يقول ذو اليدين"؟ فقالا: نعم فأتم
صلاته وسجد للسهو فقد
تكلم ناسيا ثم بنى
ج / 1 ص -158-
على
صلاته. وقاس الكلام بالسلام لأن كل واحد منهما
قاطع ثم في السلام فصل بين العمد والنسيان
فكذلك الكلام بخلاف الحدث فإنه مناف للصلاة،
ثم في السلام فصل بين العمد والنسيان، فكذلك
الكلام بخلاف الحدث فإنه مناف للصلاة، لأنه
ينعدم به شرطها فسوينا بين النسيان والعمد
لهذا.
ولنا: ما روينا وليبن على صلاته ما لم يتكلم
فدل أن بعد الكلام لا يجوز البناء قط وفي حديث
بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قدم من
الحبشة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الصلاة فسلم عليه فلم يرد عليه السلام قال
فأخذني ما قرب وما بعد فلما فرغ قال:
"يا ابن مسعود
أن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء وإن مما
أحدث أن لا يتكلم في الصلاة". وفي حديث معاوية بن الحكم رضي الله تعالى عنه قال صليت خلف رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فعطس بعض القوم فقلت
يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل
أماه ما لي أراكم تنظرون إلي شزرا فضربوا
بأيديهم على أفخاذهم فعلمت أنهم يسكتونني فلما
فرغ النبي صلى الله عليه وسلم فوالله ما رأيت
معلما أحسن تعليما منه صلى الله عليه وسلم، ما
نهرني ولا زجرني ولكن قال: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي للتسبيح
والتهليل وقراءة القرآن وما لا يصلح للصلاة
فمباشرته مفسدة للصلاة". ألا ترى أن الأكل والشرب مبطل للصلاة ناسيا أو عامدا لهذا والخروج
في الاعتكاف كذلك والجماع في الإحرام كذلك
ولهذا لو طال الكلام كان مفسدا ولو كان
النسيان فيه عذرا لاستوى فيه أن يطول أو يقصر
كالأكل في الصوم.
والقياس في السلام أنه مفسد وإن كان ناسيا
ولكن استحسنا ما فيه لمعنى لا يوجد ذلك في
الكلام وهو أن السلام من جنس أركان الصلاة فإن
المتشهد يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم
وعلى عباد الله الصالحين وهو اسم من أسماء
الله تعالى وإنما أخذ حكم الكلام لكاف الخطاب
وإنما يتحقق معنى الخطاب فيه عند القصد وإذا
كان ناسيا شبهناه بالأذكار وإذا كان عالما
شبهناه بالكلام فأما الكلام فهو ليس من أذكار
الصلاة فكان منافيا للصلاة على كل حال والخطأ
والنسيان عذر في رفع الإصر وعليه تحمل الآية
والخبر. فأما حديث ذي اليدين فقد كان في وقت
كان الكلام فيه مباحا في الصلاة ثم انتسخ
الكلام في الصلاة ألا ترى أن ذا اليدين كان
عامدا بالكلام وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله
تعالى عنهما ولم يأمرهم بالاستقبال.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وإسلام أبي هريرة رضي
الله تعالى عنه بعد فتح خيبر وقد قال صلى بنا
وحرمة الكلام في الصلاة كانت ثابتة حين جاء من
الحبشة وذلك في أول الهجرة؟
قلنا: معنى قوله بنا بأصحابنا ولا وجه للحديث
إلا هذا لأن ذا اليدين قتل ببدر واسمه مشهور
في شهداء بدر وذلك قبل خيبر بزمان طويل.
قال: "وإن قهقه في صلاة استقبل الصلاة والوضوء
عندنا ناسيا كان أو عامدا" لأن القهقهة أفحش
من الكلام عند المناجاة ولهذا جعلت ناقضة
للوضوء ثم سوى بين النسيان.
ج / 1 ص -159-
والعمد، وفي القهقهة أولى والبناء لأجل البلوى
وذلك لا يتحقق في القهقهة وإن قهقه بعد ما قعد
قدر التشهد قبل أن يسلم لم تفسد صلاته كما لو
تكلم في هذه الحالة لأنه لم يبق عليه شيء من
أركان الصلاة ولكن يلزمه الوضوء لصلاة أخرى
عندنا ولا يلزمه عند زفر رحمه الله تعالى قال
القهقهة عرفناها حدثا بالنص بخلاف القياس
والنص ورد بإعادة الصلاة والوضوء بالقهقهة فكل
قهقهة توجب إعادة الصلاة توجب الوضوء وما لا
يوجب إعادة الصلاة لا يوجب الوضوء لأنه ليس في
معنى المنصوص من كل وجه.
ولنا: أن الضحك صادف حرمة الصلاة لبقائها ما
لم يسلم حتى لو نوى المسافر الإقامة في هذه
الحالة لزمه الاتمام وبالنص صار الضحك حدثا
لمصادفته حرمة الصلاة فإن الجناية تفحش
بالقهقهة في حالة المناجاة وذلك باق ببقاء
التحريمة فألزمناه الوضوء لهذا فأما إعادة
الصلاة فلبقاء البناء عليه وعجزه عنه بالقهقهة
لفساد ذلك الجزء ولم يبق عليه البناء هنا فلم
تلزمه الإعادة لهذا وكذلك لو قهقه في سجدتي
السهو لأن العود إليهما يرفع السلام دون
القعدة فكأنه قهقه بعد القعدة قبل السلام إلا
في رواية شاذة عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن
العود إلى سجود السهو يرفع القعدة كالعود إلى
سجدة التلاوة فعلى تلك الرواية تلزمه إعادة
الصلاة.
قال: وإن قهقه الإمام والقوم جميعا فإن كان
الإمام سبق بها فعليه إعادة الوضوء وليس ذلك
على القوم" لأنهم صاروا خارجين من الصلاة
بخروج الإمام منها فضحكهم لم يصادف حرمة
الصلاة. "وإن قهقه القوم أولا ثم الإمام فعلى
الكل إعادة الوضوء" لأن قهقهة القوم صادفت
حرمة الصلاة وكذلك قهقهة الإمام لأنه لا يصير
خارجا منها بخروج القوم وإن ضحكوا معا فكذلك
لأن ضحك القوم لما اقترن بضحك الإمام كان
مصادفا حرمة الصلاة في حقهم فإن خروجهم من حكم
خروج الإمام فيعقبه ولا يقترن به.
قال "إمام أحدث فقدم رجلا قد فاتته ركعة فعليه
أن يصلى بهم بقية صلاة الإمام" والأولى للإمام
أن يقدم مدركا لا مسبوقا لأن المدرك أقدر على
إتمام صلاته من المسبوق وقال صلى الله عليه
وسلم:
"من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه
فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين". ولكن مع هذا المسبوق شريكه في التحريمة وصحة الاستخلاف بوجود
المشاركة في التحريمة والحاجة إلى إصلاح صلاته
فجاز تقديمه وقام مقام الأول فيتم ما بقى على
الأول فإذا انتهى إلى موضع السلام تأخر وقدم
رجلا من المدركين ليسلم بهم لأنه عاجز عن
السلام لبقاء ركعة عليه فيستعين بمن يقدر عليه
فإن إتمامه بعد سلام الإمام فلهذا قدم مدركا
ليسلم بهم ثم يقوم فيقضى ما بقى عليه من
صلاته.
قال: "فإن توضأ الأول وصلى في بيته ما بقي من
صلاته، فإن كان صلى بعد فراغ الإمام الثاني من
بقية صلاته فصلاته تامة" لأن الإمامة تحولت
إلى الثاني وصار الأول كواحد من
ج / 1 ص -160-
المقتدين به. وقد بينا أن المقتدي إذا أتم
بقية صلاته في بيته بعد فراغ الإمام جاز ولو
صلى قبل أن يفرغ الإمام الثاني فصلاته فاسدة
كغيره من المقتدين إذا سبقه الحدث.
قال: "فإن قعد الإمام الثاني في الرابعة قدر
التشهد ثم قهقه فعليه إعادة الوضوء والصلاة"
لأنه قد بقى عليه ركعة فضحكه حصل في خلال
الصلاة في حقه وصلاة القوم تامة لأنه لم يبق
عليهم البناء. وروى عن أبي يوسف رحمه الله
تعالى أنه قال صلاة القوم فاسدة لفساد ما مضى
ولو ضحكوا بأنفسهم في هذه الحالة كانت صلاتهم
تامة فضحك الإمام في حقهم لا يكون أكثر تأثيرا
من ضحكهم. فأما الإمام الأول فإن كان قد فرغ
من صلاته خلف الإمام الثاني مع القوم فصلاته
تامة كغيره من المدركين وإن كان في بيته لم
يدخل مع الإمام الثاني في الصلاة فصلاته
فاسدة. وفي رواية أبي حفص رحمه الله تعالى قال
صلاته تامة.
وجه هذه الرواية أنه مدرك لأول صلاته فيكون
كالفارغ بقعدة الإمام قدر التشهد. والرواية
الأولى أصح وأشبه بالصواب لأنه قد بقي عليه
البناء وضحك الإمام في حقه في المنع من البناء
كضحكه ولو ضحك هو في هذه الحالة فسدت صلاته
فكذلك ضحك الإمام في حقه. ورواية أبي حفص رحمه
الله تعالى كأنه غلط وقع من الكاتب لأنه اشتغل
بتقسيم ثم أجاب في الفصلين بأن صلاته تامة
وظاهر هذا التقسيم يستدعى المخالفة في الجواب.
قال: "رجل سلم في الركعتين من الظهر ناسيا ثم
ذكر فظن أن ذلك يقطع الصلاة فاستقبل التكبير
ينوى به الدخول في الظهر ثانية وهو إمام قوم
وكبروا معه ينوون معه ذلك فهم على صلاتهم
الأولى يصلون ما بقى منها ويسجدون للسهو" لما
بينا أن سلام الإمام لا يقطع التحريمة فهم في
صلاتهم بعد قد نووا إيجاد الموجود وذلك لغو
بقى مجرد التكبير وهو لا يقطع الصلاة بخلاف من
كان في الظهر فنوى العصر وكبر لأنه نوى إيجاد
ما ليس بموجود فصار خارجا من الأولى داخلا في
الثانية. فإن صلوا العصر أربع ركعات هكذا فإن
قعدوا في الثانية جازت صلاتهم وما زادوا من
الركعتين نافلة لهم فإن لم يقعدوا في الثانية
فسدت صلاتهم لاشتغالهم بالنفل قبل إكمال الفرض
حتى لو سلم ساهيا بعد ثلاث ركعات فجدد التكبير
وصلى أربع ركعات لا تجزئه صلاته لأنه لم يقعد
بعد الركعة الرابعة حتى صلى ركعة أخرى وذلك
مفسد لفرضه.
قال "رجل صلى ركعة ثم جاء قوم فاقتدوا به،
فلما فرغ من صلاته وقعد قدر التشهد قهقه أو
أحدث متعمدا فصلاته تامة" لأنه لم يقعد بعد
الركعة الرابعة حتى صلى ركعة أخرى وذلك مفسد
للصلاة لأنه لم يبق عليه البناء وصلاة القوم
فاسدة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقال
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا تفسد
لأنه لا سبب لإفساد صلاتهم فإن الضحك والحدث
لم يوجدا منهم فلو فسدت صلاتهم إنما تفسد
بفساد صلاة
ج / 1 ص -161-
الإمام، ولم تفسد صلاة الإمام هنا فهو قياس
ضحكه بعد السلام ولأن الإمام لما قعد قدر
التشهد فقد صار المسبوق في حكم المنفرد يقوم
لإتمام صلاته ألا ترى أن سلام الإمام وكلامه
لا يؤثر في حقه ولا يمنعه من البناء فكذلك ضحك
الإمام وحدثه. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال
ما لم يسلم الإمام فالمسبوق مقتد به ألا ترى
أنه لو نوى الإمامة أثر ذلك في حق المسبوق
وأنه ممنوع من القيام حتى يسلم الإمام.
والضحك والحدث إذا لاقى جزءا من الصلاة كان
مفسدا لذلك الجزء وبفساد ذلك الجزء من صلاة
الإمام يفسد مثله من صلاة المقتدي إلا أن
الإمام لم يبق عليه البناء بفساد ذلك الجزء
ولا يضره والمسبوق قد بقى عليه البناء ففساد
ذلك الجزء يمنعه من بناء ما بقى عليه فيلزمه
الاستقبال ألا ترى أنه لو ضحك بنفسه أو أحدث
في هذه الحالة لزمه الاستقبال فكذلك فعل
الإمام في حقه بخلاف السلام والكلام فالسلام
منه للصلاة والكلام قاطع لا مفسد لأنه لا يفوت
به شرط الصلاة وهو الطهارة فلم يؤثر ذلك في حق
المسبوق فأما الضحك والحدث مفسد لا قاطع لأنه
يفوت به شرط الصلاة وهو الطهارة ولهذا قيل لو
تكلم الإمام بعد ما قعد قدر التشهد فعلى القوم
أن يسلموا ولو أحدث الإمام متعمدا أو قهقه لم
يسلم القوم وخروج الإمام من المسجد في كونه
قاطعا لكلامه فلا يفسد صلاة المسبوقين.
قال: "وإذا افتتح الرجل صلاة المكتوبة في
المسجد وحده ثم أقيم له فيها ففي ذوات الأربع
كالظهر والعصر والعشاء إن كان صلى ركعة أضاف
إليها أخرى وقعد وسلم ثم دخل مع الإمام" لأنه
لو قطعها كذلك كان مبطلا عمله فإن الركعة
الواحدة لا تكون صلاة فيضيف إليها ركعة أخرى
ليصير شفعا ثم يسلم فيدخل مع الإمام لإحراز
فضيلة الجماعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة".
فإن قيل كيف يقطع فرضه بعد الشروع فيها؟.
قلنا: لا يقطعها رافضا لها وإنما يقطعها
ليعيدها على أكمل الوجوه وذلك جائز كما يقطع
الظهر إذا أقيمت الجمعة وكذلك إن قام إلى
الثالثة ولم يقيدها بالسجدة عاد فقعد وسلم
لكيلا تفوته فضيلة الجماعة ولا يسلم كما هو
قائما لأن ما أتى به من القعدة كان سنة وقعدة
الختم فرض فعليه أن يعود إلى القعدة ثم يسلم
ليكون متنفلا بركعتين فإن قيد الثالثة بالسجدة
مضى في صلاته لأنه أتى بأكثرها وللأكثر حكم
الكمال فإذا فرغ منها دخل مع الإمام في الظهر
والعشاء بنية النفل لأن التنفل بعدهما جائز
ولو خرج من المسجد ربما توهم أنه ممن لا يرى
الجماعة فلهذا دخل معه فأما في العصر لا يدخل
لأن التنفل بعده مكروه كما بينا. وعند الشافعي
رضي الله تعالى عنه يدخل بناء على أصله في
الصلاة التي لها سبب، فإذا لم يدخل معه خرج من
المسجد لأن في المكث تطول مخالفته للإمام وفي
الخروج إنما يظهر مخالفته في لحظة فهو أولى.
ولم يذكر في الكتاب أنه إذا كان في الركعة
ج / 1 ص -162-
الأولى
ولم يقيدها بالسجدة كيف يصنع والصحيح أنه
يقطعها ليدخل مع الإمام فيحرز به ثواب تكبيرة
الافتتاح لأن ما دون الركعة ليس لها حكم
الصلاة حتى أن من حلف أن لا يصلى لا يحنث على
ما دون الركعة ألا ترى أنه من الركعة الثالثة
يعود إذا لم يقيدها بالسجدة فكذلك في الركعة
الأولى يقطعها ليدخل مع الإمام.
"فأما في الفجر فإن كان صلى ركعة قطعها" لأنه
لو أدى ركعة أخرى تم فرضه وفاتته الجماعة
فالأولى أن يقطعها ليعيدها على أكمل الوجوه.
"وإن كان قيد الركعة الثانية بسجدة أتمها"
لأنه أدى أكثرها ثم أنه لا يدخل مع الإمام
لأنه يكون متنفلا بعد الفجر وذلك مكروه والذي
روى من حال الرجلين حين صلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مسجد الخيف صلاة الفجر كما
روينا فقد ذكر أبو يوسف رحمه الله تعالى في
الإملاء: أن تلك الحادثة كانت في صلاة الظهر
ولئن كانت في صلاة الفجر فقد كان في وقت لم
ينههم عن صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس
ثم انتسخ بالنهي.
"وأما المغرب فإن صلى ركعة قطعها" لأنه لو
أضاف إليها ركعة أخرى كان مؤديا أكثر الصلاة
فلا يمكنه القطع بعد ذلك ولو قطع كان متنفلا
بركعتين قبل المغرب وذلك منهي عنه فلهذا قطع
صلاته ليعيدها على أكمل الوجوه وإن كان قيد
الركعة الثانية بسجدة أتم صلاته لأنه قد أدى
أكثرها ثم لا يدخل مع الإمام وذلك مروي عن بن
عمر رضي الله تعالى عنهما وإنما لا يدخل لا
لأن التنفل بعد المغرب منهى عنه ولكن لأنه لو
دخل معه فإما أن يسلم معه فيكون متنفلا بثلاث
ركعات وهو غير مشروع أو يضيف إليها ركعة أخرى
فيكون مخالفا لإمامه فلهذا لا يدخل معه.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يدخل معه
فإذا فرغ الإمام قام فصلى ركعة أخرى ليصير
شفعا له ولا يبعد أن يقوم لإتمامه بعد فراغ
الإمام كالمسبوق وهو بالشروع قد التزم ثلاث
ركعات فكأنه التزمها بالنذر فيلزمه أربع.
وعندنا أن دخل فعل كما قال أبو يوسف رحمه الله
تعالى. وقال بشر المريسي يسلم مع الإمام لأن
هذا التغير كان بحكم الاقتداء وذلك جائز
كالمسبوق يدرك الإمام في القعدة يقعد معه
وابتداء الصلاة لا يكون بالقعدة وجاز ذلك بحكم
الاقتداء فهذا مثله.
قال: "وإذا صلى الظهر في بيته يوم الجمعة ثم
صلى الجمعة مع الإمام فالجمعة فرضه ويصير
الظهر تطوعا له" لأن بأداء الظهر ما سقط عنه
الخطاب بالسعي إلى الجمعة فكان في أدائها
مفترضا ولا يجتمع فرضان في وقت واحد فمن ضرورة
كون الجمعة فرضا له أن ينقلب ما قبله تطوعا،
وهذا بخلاف ما إذا صلى الظهر في بيته يوم
الخميس ثم أدركها بالجماعة فصلاها فالأولى فرض
والثانية تطوع بعد أداء الفرض وهو غير مخاطب
بشهود الجماعة في تلك الصلاة فإن شهدها كان
متنفلا.
ج / 1 ص -163-
يوضح
الفرق أن الجمعة أقوى من الظهر لأنها تستدعى
من الشرائط ما لا يستدعيه الظهر والضعيف لا
يظهر في مقابلة القوى وإذا ظهر القوى بأدائه
لإسقاط فرض الوقت به سقط اعتبار الضعيف وكان
تطوعا فأما الظهر المؤدى في الجماعة في حكم
القوة كالمؤدى في بيته فإن أحدهما يستدعى شرطا
لا يستدعيه الآخر فإذا استويا ترجح السابق
منهما لإسقاط فرض الوقت به فكانت الثانية
نفلا.
قال: "وإذا أحدث الإمام فلم يقدم أحدا حتى خرج
من المسجد فإن صلاة القوم فاسدة" لأنهم مقتدون
فيها ولم يبق لهم إمام في مكانه وهو في المسجد
ولم يبين في الكتاب حال الإمام. وذكر الطحاوي
رحمه الله تعالى أن صلاته تفسد أيضا لأن بعد
سبق الحدث كان الاستخلاف ليصير هو في حكم
المقتدي به كغيره فبترك الاستخلاف لما فسدت
صلاة القوم فلأن تفسد صلاته كان أولى. وذكر
أبو عصمة رحمه الله تعالى أن صلاته لا تفسد
لأنه في حق نفسه كالمنفرد فلا تفسد صلاته
بالخروج من المسجد بعد سبق الحدث،
فعلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله تعالى: فساد
صلاة القوم بطريق القياس على فساد صلاة إمامهم
وعلى ما ذكره أبو عصمة وهو الأصح فساد صلاة
القوم استحسان فكان ينبغي في القياس أن لا
تفسد فإن بعد حدث الإمام بقوا مقتدين به حتى
لو وجد الماء في المسجد فتوضأ وعاد إلى مكانه
وأتم بهم الصلاة أجزأهم فكذلك بعد خروجه،
ولكنه استحسن وأراه قبيحا أن يكون القوم في
الصلاة في مسجد وإمامهم في أهله فأما ما دام
في المسجد فكأنه في المحراب لأن المسجد في
كونه مكان الصلاة كبقعة واحدة فليس بينه
وبينهم ما ينافي الاقتداء فأما بعد خروجه فقد
صار بينه وبينهم ما ينافي الأقتداء فلهذا فسدت
صلاتهم.
قال: "فإن قدموا رجلا قبل خروج الإمام من
المسجد فصلاته وصلاتهم تامة" لأن تقديم القوم
إياه كاستخلاف الإمام الأول ألا ترى أن في
الإمامة العظمى لا فرق بين اجتماع الناس على
رجل وبين استخلاف الإمام الأعظم وهذا لأن
الإمام في الاستخلاف ينظر لهم في إصلاح صلاتهم
فيكون لهم أن ينظروا إلى أنفسهم أيضا فإن قدم
كل فريق من القوم رجلا فسدت صلاتهم لأنها
افتتحت بإمام واحد فلا يجوز إتمامها بإمامين
ولو جاز ذلك لجاز بأكثر من اثنين فينوى كل
واحد أن يؤم نفسه وهذا إذا استوى الفريقان في
العدد لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
فأما إذا اقتدى جماعة من القوم بأحد الإمامين
إلا رجلا أو رجلين اقتديا بالثاني فصلاة من
اقتدى به الجماعة صحيحة وصلاة الآخرين فاسدة
لقوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ في النار". وقال عمر رضي الله تعالى عنه في الشورى إن اتفقوا على شيء وخالفهم
واحد فاقتلوه.
ج / 1 ص -164-
فأما
إذا اقتدى بكل إمام جماعة وأحد الفريقين أكثر
عددا من الآخر فقد قال بعض مشايخنا صلاة
الأكثرين جائزة ويتعين الفساد في الآخرين كما
في الواحد والمثنى، والأصح أن تفسد صلاة
الفريقين لأن كل واحد منهما جمع تام يتم به
نصاب الجمعة فيكون الأقل مساويا للأكثر حكما
كالمدعيين يقيم أحدهما شاهدين والآخر عشرة من
الشهود.
وكذلك إن كان الإمام هو الذي قدم رجلين فهذا
وتقديم القوم إياهما سواء وإن وصل أحدهما إلى
موضع الإمامة قبل الآخر تعين للإمامة وجاز
صلاته وصلاة من اقتدى به لأن الاستخلاف كان
للضرورة وقد ارتفعت بوصوله إلى موضع الإمامة
فاستخلاف الآخر وجوده كعدمه.
قال: "وإن أحدث الإمام ولم يكن خلفه إلا رجل
واحد صار هو إماما قدمه الإمام أو لم يقدمه
نوى هو الإمامة أو لم ينو" لأنه تعين
للاستخلاف فإن صلاحيته للاستخلاف بكونه شريك
الإمام في الصلاة ولا مزاحم له والحاجة في هذا
إلى الاستخلاف أو النية للتمييز وذلك عند
المزاحمة لا عند التعين فإذا توضأ الإمام رجع
ودخل مع هذا في صلاته لأن الإمامة تحولت إليه
وإن لم يرجع الإمام حتى أحدث هذا فخرج من
المسجد فسدت صلاة الإمام الأول لأنه في حكم
المقتدى به ولم يبق له إمام في المسجد وإن لم
يخرج حتى رجع الأول ثم خرج الثاني فقد صار
الإمام هو الأول لأنه متعين لإصلاح الصلاة وإن
جاء ثالث واقتدى بالثاني ثم سبقه الحدث فخرج
من المسجد تحولت الإمامة إلى الثالث لكونه
متعينا فإن أحدث فخرج من المسجد قبل رجوع أحد
الأولين فسدت صلاتهما لأنه لم يبق لهما إمام
في المسجد وإن كان قد رجع أحد الأولين قبل
خروج الثالث تحولت الإمامة إليه بخروج الثالث
فإن كانا رجعا جميعا فإن استخلف الثالث أحدهما
صار هو الإمام وإن لم يستخلف حتى خرج فسدت
صلاتهما لأنه ليس أحدهما بأولى بالإمامة من
الآخر. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى إذا أحدث وليس معه إلا رجل واحد فوجد
الماء في المسجد فتوضأ قال يتم صلاته مقتديا
بالثاني لأنه متعين للإمامة فبنفس انصرافه
تتحول الإمامة إليه وإن كان معه جماعة فتوضأ
في المسجد عاد إلى مكان الإمامة وصلى بهم لأن
الإمامة لم تتحول منه إلى غيره في هذه الحالة
إلا بالاستخلاف ولم يوجد.
قال: "إمام أحدث فانفتل وقدم رجلا جاء ساعتئذ
فإن كان كبر قبل الحدث من الإمام صح استخلافه"
لأنه شريك الإمام في الصلاة وإن لم يكن كبر
فلما استخلفه كبر ينوى الاقتداء به صح
الاستخلاف أيضا إلا على قول بشر فإنه يقول لا
يصح اقتداؤه بالإمام لأن حدث الإمام في حق
المقتدي كحدثه بنفسه وكونه محدثا يمنع الشروع
في الصلاة ابتداء فيمنع من الاقتداء به أيضا
فإن بقاء الاقتداء بعد الحدث عرفناه بالسنة
والابتداء ليس في معنى البقاء، ولكنا نقول
التحريمة في حق الإمام باقية حتى إذا عاد بنى
على صلاته، وكذلك صفة
ج / 1 ص -165-
الإمامة له ما لم يخرج من المسجد حتى لو توضأ
في المسجد وعاد إلى مكان الإمامة جاز فاقتداء
الغير به صحيح في هذه الحالة وإذا صح الاقتداء
جاز استخلافه وإن كان حين كبر نوى أن يصلى بهم
صلاة مستقبلة ولم ينو الاقتداء بالأول فصلاته
تامة لأنه افتتحها منفردا بها وقد أداها وصلاة
القوم فاسدة لأنهم كانوا مقتدين بالأول فلا
يمكنهم إتمامها مقتدين بالثاني فإن الصلاة
الواحدة لا تؤدى بإمامين بخلاف خليفة الأول
فإنه قائم مقامه فكأنه هو بعينه فكان الإمام
واحدا معنى وإن كان مثنى في الصورة وهنا
الثاني ليس بخليفة الأول فإنه لم يقيد به قط
فتحقق أداء الصلاة الواحدة خلف إمامين صورة
ومعنى فلهذا لا يجزئهم.
قال "إمام أحدث وهو مسافر وخلفه مقيمون
ومسافرون، فقدم مقيما صح ذلك" لأن المقيم
شريكه في هذه الصلاة ولا يتغير به فرض
المسافرين بخلاف ما لو نوى الأول الإقامة
لأنهم لما قصدوا الاقتداء بالأول فقد ألزموا
أنفسهم حكم الاقتداء وما قصدوا الاقتداء
بالثاني إنما لزمهم الاقتداء لضرورة الحاجة
إلى إصلاح صلاتهم والثابت بالضرورة لا يعدو
موضع الضرورة وعلى هذا قلنا لو قدم مسافرا
فنوى الثاني الإقامة لا يتغير فرض المسافرين
ثم على الثاني أن يتم بهم صلاة المسافرين لأنه
خليفة الأول فيأتى بما كان على الأول فإذا قعد
قدر التشهد قدم مسافرا ليسلم بهم لأنه عاجز عن
التسليم بنفسه لبقاء البناء عليه ثم يقوم هو
مع المقيمين فيتمون صلاتهم وحدانا هكذا قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين صلى
بعرفات:
"أتموا يا أهل مكة صلاتكم فإنا قوم سفر". فإن اقتدوا فيما يقضون فسدت صلاتهم لأن الاقتداء في موضع يحق فيه
الانفراد كالانفراد في موضع يحق فيه الاقتداء
لما بينهما من المخالفة في الحكم وإن مضى
الإمام الثاني في صلاته حتى أتمها صلاة
الإقامة والقوم معه فإن قعد في الثانية قدر
التشهد فصلاته وصلاة المسافرين تامة لأنه في
حق نفسه منفرد لا تتعلق صلاته بصلاة غيره
والمسافرون إنما اشتغلوا بالنفل بعد إكمال
الفرض فلا يضرهم فأما صلاة المقيمين فاسدة لأن
عليهم الانفراد في الأخريين فإذا اقتدوا به
فسدت صلاتهم فإن لم يقعد الثاني في الركعتين
فسدت صلاته وصلاة القوم كلهم لأنه خليفة الأول
فيفترض عليه ما على الأول والأول لو ترك
القعدة الأولى فسدت صلاته وصلاة القوم فكذلك
الثاني إذا تركها فتفسد به صلاة الإمام الأول
أيضا لأنه كغيره من المقتدين به.
قال: "إمام افتتح الصلاة فركع قبل أن يقرأ ثم
رفع رأسه فقرأ وركع وسجد وأدرك معه رجل هذا
الركوع الثاني فهو مدرك للركعة" لأن الركوع
الأول انتقض بالثاني فإن الأول سبق أوانه لأن
أوان الركوع بعد القراءة فما سبقه كان منتقضا
والركوع الثاني حصل في أوانه فهو المعتد به
وقد أدركه الرجل وإن كان قرأ قبل الركوع الأول
فالركوع هو الأول ومن أدرك الركوع الثاني لا
يصير به مدركا للركعة لأن الأول حصل في أوانه
فهو المعتد به والثاني وقع مكررا ولا تكرار في
الركوع في ركعة واحدة فالمنتقض ما وقع مكررا.
وذكر
ج / 1 ص -166-
في باب
السهو في نوادر أبي سليمان أن المعتبر هو
الركوع الثاني ومدركه مدرك للركعة، ووجهه أن
اعتبار الركوع باتصال السجود به وإنما اتصل
السجود بالركوع الثاني دون الأول فكان المنتقض
هو الأول. والأصح ما ذكر في كتاب الصلاة أن
الفرض بالركوع الأول صار مؤدى، فيقف ينتظر
السجود فيجعل السجود متصلا به حكما وكذلك إن
كان الإمام أحدث حين فرغ من الركوع واستخلف
رجلا فإن الخليفة يعتد بذلك الركوع إن كان
الإمام قرأ قبله وإن لم يكن قرأ قبله لم يعتد
به لأنه قائم مقام الأول فحاله في هذا كحال
الأول.
قال: "إمام أحدث فقدم رجلا على غير وضوء
فصلاته وصلاة القوم فاسدة" لأن المحدث لا يصلح
للاستخلاف فاشتغاله باستخلاف من لا يصلح خليفة
له إعراض منه عن صلاته فتفسد صلاته وصلاة
القوم وهذا عندنا فإن حدث الإمام إذا تبين
للقوم بعد الفراغ فصلاتهم فاسدة فكذلك في حالة
الاستخلاف. وعند الشافعي رحمه الله تعالى إذا
اقتدوا به مع العلم بأنه محدث لا يصح الاقتداء
به وإذا لم يعلموا به فصلاتهم تامة في حالة
الاستخلاف واستدل بحديث روى عن عمر رضي الله
تعالى عنه أنه أم في صلاة أصحابه ثم ظهر أنه
كان جنبا فأعاد ولم يأمرهم بالإعادة.
ولنا: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"من أم قوما ثم ظهر أنه كان محدثا أو جنبا أعاد صلاته وأعادوا"، وقد روى
نحو هذا عن عمر وعلي حتى ذكر أبو يوسف في
الأمالي أن عليا رضي الله تعالى عنه صلى
بأصحابه يوما ثم علم أنه كان جنبا فأمر مؤذنه
بن التياح أن ينادى ألا إن أمير المؤمنين كان
جنبا فأعيدوا صلاتكم. وتأويل حديث عمر ما ذكره
في بعض الروايات أنه رأى أثر الاحتلام في ثوبه
بعد الفراغ ولم يعلم متى أصابه فأعاد صلاته
احتياطا. وعندنا في هذا الموضع لا يجب على
القوم إعادة الصلاة وكذلك لو قدم الإمام
المحدث صبيا فسدت صلاتهم وصلاته لأن صلاة
الصبي تخلق واعتياد أو نافلة فلا يصلح هو
خليفة للإمام في الفرض كما لا يصلح للإمامة في
هذه الصلاة أصلا بنفسه وهذا بناء على أصلنا
أيضا. فأما الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه
يجوز الاقتداء بالصبي في المكتوبة وهو بناء
على اقتداء المفترض بالمتنفل وقد مر.
وأما الاقتداء بالصبي في التطوع فقد جوزه محمد
بن مقاتل الرازي للحاجة إليه، والأصح عندنا
أنه لا يجوز لأن نفل الصبي دون نفل البالغ حتى
لا يلزمه القضاء بالإفساد وبناء القوى على
الضعيف لا يجوز كيف وقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"الإمام ضامن" والصبي لا يصلح ضامنا لفلس فكيف يصح منه الضمان لصلاة المقتدى؟
وكذلك إن قدم الإمام المحدث امرأة فصلاته
وصلاتها وصلاة القوم كلهم فاسدة لأن المرأة لا
تصلح لإمامة الرجال قال عليه الصلاة والسلام:
"أخروهن من حيث أخرهن الله"، فاشتغاله باستخلاف من لا يصلح خليفة له إعراض منه عن الصلاة فتفسد
صلاته وبفساد صلاته تفسد صلاة القوم، لأن
ج / 1 ص -167-
الإمامة لم تتحول منه إلى غيره. وعند زفر رحمه
الله تعالى صلاة النساء صحيحة إنما تفسد صلاة
الرجال لأن المرأة تصلح لإمامة النساء إنما لا
تصلح لإمامة الرجال وفيما ذكرنا الجواب عن
كلامه.
قال: "أمي صلى بقوم أميين وقارئين فصلاة
الإمام والقوم كلهم فاسدة" عند أبي حنيفة.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: صلاة
الإمام والأميين تامة لأن الأمي صاحب عذر فإذا
اقتدي به من هو في مثل حاله ومن لا عذر به
جازت صلاته وصلاة من هو في مثل حاله كالعاري
يؤم العراة واللابسين والمومىء يؤم من يصلي
بالإيماء ومن يصلي بالركوع والسجود وصاحب
الجرح السائل يؤم من هو في مثل حاله والأصحاء.
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى طريقان:
أحدهما: أنه لما جاؤوا
مجتمعين لأداء هذه الصلوات بالجماعة فالأمي
قادر على أن يجعل صلاته بالقراءة بأن يقدم
القارئ فتكون قراءة إمامه قراءة له. قال صلى
الله عليه وسلم:
"من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، فإذا تقدم بنفسه فقد ترك أداء الصلاة بالقراءة مع قدرته عليه
بنفسه فتفسد صلاته وصلاة القوم أيضا بخلاف
سائر الأعذار فلبس الإمام لا يكون لبسا
للمقتدين والركوع والسجود من الإمام لا ينوب
عن المقتدى ووضوء الإمام لا يكون وضوءا
للمقتدي فهو غير قادر على إزالة هذا العذر
بتقديم من لا عذر له.
فإن قيل: لو كان الإمام يصلى وحده وهناك قارئ
يصلى بتلك الصلاة جازت صلاة الأمي ولم ينظر
إلى قدرته على أن يجعل صلاته بقراءة بالاقتداء
بالقارىء.
قلنا ذكر أبو حازم أن على قياس قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى لا تجوز صلاته وهو قول مالك
رحمه الله تعالى وبعد التسليم قلنا لم يظهر
هناك من القارئ رغبة في أداء الصلاة بالجماعة
فلا يعتبر وجوده في حق الأمي بخلاف ما نحن
فيه.
والطريق الثاني: أن افتتاح
الكل للصلاة قد صح لأنه أوان التكبير فالأمي
قادر عليه كالقارىء فبصحة الاقتداء صار الأمي
متحملا فرض القراءة عن القارئ ثم جاء أوان
القراءة وهو عاجز عن الوفاء بما تحمل فتفسد
صلاته وبفساد صلاته تفسد صلاة القوم بخلاف
سائر الأعذار فإنها قائمة عند الافتتاح فلا
يصح الاقتداء ممن لا عذر له بصاحب العذر
ابتداء.
فإن قيل لو اقتدى القارئ بالأمي بنية النفل لا
يلزمه القضاء ولو صح شروعه في الابتداء للزمه
القضاء.
قلنا: إنما لا يلزمه القضاء لأنه صار شارعا في
صلاة لا قراءة فيها والشروع كالنذر ولو نذر
صلاة بغير قراءة لا يلزمه شيء إلا في رواية عن
أبي يوسف رحمه الله فكذلك إذا شرع فيها.
قال: "أمي تعلم سورة وقد صلى بعض صلاته فقرأها
فيما بقى فصلاته فاسدة مثل
ج / 1 ص -168-
الآخرين" لزوال أميته في خلال الصلاة وكذلك لو
كان قارئا في الابتداء فصلى بعض الصلاة بقراءة
ثم نسى فصار أميا فصلاته فاسدة مثل الآخرين
وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وعند زفر
رحمه الله تعالى لا تفسد في الموضعين جميعا.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إذا تعلم
السورة استقبل وإذا نسي بنى استحسانا لزفر
رحمه الله تعالى إذ فرض القراءة في الركعتين
ألا ترى أن القارئ لو ترك القراءة في الركعتين
الأوليين وقد قرأ الأخريين أجزأه فإذا كان
قارئا في الابتداء فقد أدى فرض القراءة في
الأوليين فعجزه عنه بعد ذلك لا يضره كتركه مع
القدرة وإذا تعلم السورة وقرأ في الأخريين فقد
أدى فرض القراءة فلا يضره عجزه عنه في
الابتداء كما لا يضره تركه.
وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا إذا
تعلم السورة في خلال الصلاة فلو استقبلها كان
مؤديا لها على أكمل الوجوه فأمرناه بالاستقبال
فأما إذا نسي القراءة فلو أمرناه بالاستقبال
كان مؤديا جميع الصلاة بغير قراءة فالأولى هو
البناء ليكون مؤديا بعضها بقراءة. وأبو حنيفة
رحمه الله تعالى يقول حين افتتحها وهو أمي فقد
انعقدت صلاته بصفة الضعف فحين تعلم السورة فقد
قوي حاله وبناء القوي على الضعيف لا يجوز
كالعاري إذا وجد الثوب في خلال الصلاة
وكالمتيمم إذا وجد الماء في خلالها وإذا كان
قارئا في الابتداء فقد التزم أداء جميع الصلاة
بقراءة ثم عجز عن الوفاء بما التزم فكان عليه
الاستقبال في الفصلين هذا وكذلك إن كان الإمام
قارئا فقرأ في الركعتين الأوليين ثم أحدث
فاستخلف أميا فسدت صلاتهم إلا على قول زفر
رحمه الله تعالى فإنه يقول الإمام الأول أدى
فرض القراءة وليس في الأخريين قراءة فاستخلاف
القارئ والأمي فيه سواء.
ولنا: أن القراءة فرض في جميع الصلاة تؤدي في
موضع مخصوص فإذا كان الإمام قارئا فقد التزم
أداء جميع الصلاة بقراءة والأمي عاجز عن ذلك
فلا يصلح خليفة له واشتغاله باستخلاف من لا
يصلح خليفة له يفسد صلاته كما لو استخلف صبيا
أو امرأة وعلى هذا لو رفع رأسه من آخر السجدة
ثم سبقه الحدث فاستخلف أميا فسدت صلاته وصلاة
القوم عندنا فأما إذا قعد قدر التشهد ثم أحدث
فاستخلف أميا فهو على الخلاف المعروف بين أبي
حنيفة رحمه الله تعالى وصاحبيه.
قال: "أمي اقتدى بقارىء بعد ما صلى ركعة فلما
فرغ الإمام قام الأمي لإتمام صلاته فصلاته
فاسدة في القياس" وهو قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى، وفي الاستحسان يجزئه وهو قولهما. وجه
القياس أنه بالاقتداء بالقارىء قد التزم أداء
هذه الصلاة بقراءة وقد عجز عن ذلك حين قام
للقضاء لأنه منفرد فيما يقضى فلا تكون قراءة
الإمام له قراءة فتفسد صلاته. وجه الاستحسان
أنه إنما يلتزم القراءة ضمنا للاقتداء وهو
مقتد فيما بقى على الإمام لا فيما سبقه به
الإمام يوضحه أنه لو بنى كان مؤديا بعض الصلاة
بالقراءة، ولو
ج / 1 ص -169-
استقبل
كان مؤديا جميعها بغير قراءة وأداء البعض مع
القراءة أولى من أداء الكل بغير قراءة.
قال: "رجل صلى أربع ركعات تطوعا ولم يقعد في
الثانية ففي القياس لا يجزئه وهو قول محمد
وزفر رحمهما الله" لأن كل شفع من التطوع صلاة
على حدة تفترض القعدة في آخرها فترك القعدة
الأولى هنا كتركها في صلاة الفجر والجمعة
فتفسد به الصلاة. وفي الاستحسان تجزئه وهو قول
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله تعالى بالقياس
على الفريضة لأن حكم التطوع أخف من حكم
الفريضة ويجوز أداء الفريضة أربع ركعات بقعدة
واحدة فكذلك التطوع ألا ترى أن في التطوع يجوز
الأربع بتسليمة واحدة وبتحريمة واحدة بالقياس
على الفرض فكذلك في القعدة وعلى هذا قالوا لو
صلى التطوع بثلاث ركعات بقعدة واحدة ينبغي أن
يجوز بالقياس على صلاة المغرب، والأصح أنه لا
يجوز لأن التطوع بالركعة الواحدة غير مشروع
فيفسد ما اتصل به القعدة وبفسادها يفسد ما
قبله.
واختلف مشايخنا فيمن تطوع بست ركعات بقعدة
واحدة، فجوزها بعضهم بالقياس على التحريمة
والتسليمة، والأصح أنه لا يجوز لأن استحسانه
في الأربع كان بالقياس على الفريضة وليس في
الفرائض ست ركعات يجوز أداؤها في قعدة واحدة
فيعاد فيه إلى أصل القياس لهذا.
قال: "امرأة صلت خلف الإمام وقد نوى الإمام
إمامة النساء فوقفت في وسط الصف فإنها تفسد
صلاة من عن يمينها ومن عن يسارها ومن خلفها
بحذائها عندنا استحسانا" وقال الشافعي رضي
الله تعالى عنه لا تفسد صلاة أحد بسبب
المحاذاة لأن محاذاة المرأة الرجل لا تكون
أقوى من محاذاة الكلب أو الخنزير إياه وذلك
غير مفسد لصلاة الرجل ولو فسدت الصلاة بسبب
المحاذاة لكان الأولى أن تفسد صلاتها لأنها
منهية عن الخروج إلى الجماعة والاختلاط
بالصفوف يدل عليه أن المحاذاة في صلاة الجنازة
أو سجدة التلاوة غير مفسد على الرجل صلاته
فكذلك في سائر الصلوات.
ولنا: أنه ترك المكان المختار له في الشرع
فتفسد صلاته كما لو أخرها وشرها أولها
فالمختار للرجال التقدم على النساء فإذا وقف
بجنبها أو خلفها، فقد ترك المكان المختار له
وترك فرضا من فروض الصلاة أيضا فإن عليه أن
يؤخرها عند أداء الصلاة بالجماعة قال عليه
الصلاة والسلام:
"أخروهن من حيث أخرهن الله"،
والمراد من الأمر بتأخيرها لأجل الصلاة فكان
من فرائض صلاته وهذا لأن حال الصلاة حال
المناجاة فلا ينبغي أن يخطر بباله شيء من
معاني الشهوة فيه ومحاذاة المرأة إياه لا تنفك
عن ذلك عادة فصار الأمر بتأخيرها من فرائض
صلاته فإذا ترك تفسد صلاته وإنما لا تفسد
صلاتها لأن الخطاب بالتأخير للرجل وهو يمكنه
أن يؤخرها من غير أن يتأخر بأن يتقدم عليها
ولهذا لم تفسد صلاة الجنازة بالمحاذاة لأنها
ليست بصلاة مطلقة هي مناجاة بل هي قضاء لحق
الميت.
ج / 1 ص -170-
ثم ليس
لها في الصلاة على الجنازة مقام لكونها منهية
عن الخروج في الجنائز ولا تفسد صلاة من هو على
يمين من هو على يمينها ومن على يسار من هو على
يسارها إذ هناك حائل بينها وبينهما بمنزلة
الاسطوانة أو كان من الثياب. فإن كان صف تام
من النساء وراءهن صفوف من الرجال فسدت صلاة
تلك الصفوف كلها استحسانا. والقياس مثل الأول
أنه لا تفسد إلا صلاة صف واحد خلف صفوف النساء
لأن تحقق المحاذاة في حقهم، ولكنه استحسن حديث
عمر رضي الله تعالى عنه موقوفا عليه ومرفوعا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق أو صف من النساء فلا صلاة له". ولأن الصف
من النساء بمنزلة الحائط بين المقتدى وبين
الإمام ووجود الحائط الكبير الذي ليس عليه
فرجة بين المقتدى والإمام يمنع صحة الاقتداء
فكذلك في الصف من النساء.
فأما المرأتان والثلاث إذا وقفن في الصف
فالمروى عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أن
المرأتين تفسدان صلاة أربعة نفر من عن يمينهما
ومن عن يسارهما ومن خلفهما بحذائهما والثلاث
يفسدن صلاة من عن يمينهن ومن عن يسارهن وثلاثة
ثلاثة خلفهن إلى آخر الصفوف وقال الثلاث جمع
متفق عليه فهو قياس الصف التام فأما المثنى
فليستا بجمع تام فهما قياس الواحدة لا يفسدان
إلا صلاة من خلفهما.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى روايتان في
إحداهما جعل الثلاث كالاثنتين وقال لا يفسدن
إلا صلاة خمسة نفر من عن يمينهن ومن عن يسارهن
ومن خلفهن بحذائهن لأن الأثر جاء في صف تام
والثلاث ليس بصف تام من النساء. وفي الرواية
الأخرى جعل المثنى كالثلاث وقال يفسدان صلاة
من عن يمينهما ومن عن يسارهما وصلاة رجلين
خلفهما إلى آخر الصفوف لأن للمثنى حكم الثلاث
في الاصطفاف حين يصطفان خلف الإمام قال عليه
الصلاة والسلام:
"الاثنان
فما فوقهما جماعة فإن وقفت بحذاء الإمام تأتم
به وقد نوى إمامتها فسدت صلاة الإمام والقوم
كلهم لأن صلاة الإمام بسبب المحاذاة في صلاة
مشتركة تفسد وبفساد صلاته تفسد صلاة القوم".
وكان محمد بن مقاتل يقول لا يصح اقتداؤها لأن
المحاذاة اقترنت بشروعها في الصلاة ولو طرأت
كانت مفسدة لصلاتها فإذا اقترنت منعت صحة
اقتدائها، وهذا فاسد لأن المحاذاة لا تؤثر في
صلاتها وإنما تبطل صلاتها بفساد صلاة الإمام
فلا تفسد صلاة الإمام إلا بعد شروعها لأن
المحاذاة ما لم تكن في صلاة مشتركة لا تؤثر في
صلاتها إلا فسادا حتى أن الرجل والمرأة إذا
وقفا في مكان واحد فصلى كل واحد منهما وحده لا
تفسد صلاة الرجل لأن الترتيب في المقام إنما
يلزمه عند المشاركة كالترتيب بين المقتدي
والإمام والأصل فيه حديث عائشة رضي الله تعالى
عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يصلى بالليل وأنا نائمة بين يديه معترضة
كاعتراض الجنازة فكان إذا سجد خنست رجلى وإذا
قام مددتهما.
ج / 1 ص -171-
وأما
إذا لم ينو الإمام إمامتها لم تكن داخلة في
صلاته فلا تفسد الصلاة على أحد بالمحاذاة
عندنا. وقال زفر رحمه الله تعالى يصح اقتداؤها
به وإن لم ينو إمامتها، والقياس ما قاله زفر
فإن الرجل صالح لإمامة الرجال والنساء جميعا
ثم اقتداء الرجال بالرجل صحيح وإن لم ينو
الإمامة فكذلك اقتداء النساء واستدل بالجمعة
والعيدين فإن اقتداء المرأة بالرجل صحيح فيهما
وإن لم ينو إمامتها.
ولنا: أن الرجل لما كان يلحق صلاته فساد من
جهة المرأة أمكنه التحرز عنه بالنية كالمقتدى
لما كانت صلاته يلحقها فساد من جهة الإمام
أمكنه التحرز عنه بالنية وهو أن لا ينوي
الاقتداء به وهذا لأنا لو صححنا اقتداءها بغير
النية قدرت على إفساد صلاة الرجل كل امرأة متى
شاءت بأن تقتدي به فتقف إلى جنبه وفيه من
الضرر ما لا يخفى. وفي صلاة الجمعة والعيدين
أكثر مشايخنا قالوا لا يصح اقتداؤها به ما لم
ينو إمامتها وإن كان الجواب مطلقا في الكتاب.
ومنهم من سلم فقال الضرورة في جانبها ها هنا
لأنها لا تقدر على أداء صلاة العيد والجمعة
وحدها ولا تجد إماما آخر تقتدي به والظاهر
أنها لا تتمكن من الوقوف بجنب الإمام في هذه
الصلوات لكثرة الازدحام فصححنا اقتداءها به
لدفع الضرر عنها بخلاف سائر الصلوات. وروى
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى
أنها إذا وقفت خلف الإمام جاز اقتداؤها به وإن
لم ينو إمامتها ثم إذا وقفت إلى جنبه فسدت
صلاتها لا صلاة الرجل وهذا قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى الأول، ووجهه أنها إذا وقفت خلفه
فقصدها أداء الصلاة لافساد صلاة الرجل فلا
يشترط نية الإمامة فإذا وقفت إلى جنبه فقد
قصدت إفساد صلاته فرد قصدها بإفساد صلاتها إلا
أن يكون الرجل قد نوى إمامتها فحينئذ هو ملتزم
بهذا الضرر.
قال: "وإذا سبق الرجل المرأة ببعض الصلاة فلما
سلم الإمام قاما يقضيان فوقفت بحذاء الرجل لم
تفسد صلاته ولو كانا لاحقين بأن أدركا أول
الصلاة ثم ناما أو سبقهما الحدث فوقفت المرأة
بحذائه فيما يتمان فصلاة الرجل فاسدة" لأن
المسبوق فيما يقضي كالمنفرد حتى تلزمه القراءة
وسجود السهو إذا سها فلم توجد المحاذاة في
صلاة مشتركة فأما اللاحق فيما يتم كالمقتدي
حتى لا يقرأ ولو سها لا يلزمه سجود السهو
فوجدت المحاذاة في صلاة مشتركة. وفقه هذا
الحرف أن اللاحق لما اقتدى بالإمام في أول
الصلاة قد التزم أداء جميع الصلاة بصفة
الاقتداء فلا يجوز أداؤه بدون هذه الصفة فأما
المسبوق إنما التزم بحكم الاقتداء ما بقى على
الإمام دون ما فرغ منه لأن ذلك لا يتصور
فجعلناه كالمنفرد فيما يقضى بهذا.
قال: "وإن كان الإمام يصلي الظهر فائتمت به
امرأة تريد التطوع وقد نوى الإمام إمامتها ثم
وقفت بحذائه فسدت صلاته وصلاتها" لأن اقتداء
المتنفل بالمفترض صحيح فوجدت المحاذاة في صلاة
مشتركة وعليها قضاء التطوع لأن الفساد كان بعد
صحة شروعها
ج / 1 ص -172-
بسبب
فساد صلاة الإمام وإن كانت نوت العصر لم تجزها
صلاتها ولم تفسد على الإمام صلاته لأن تغاير
الفرضين يمنع صحة الاقتداء على ما مر في باب
الأذان وما ذكرنا ها هنا دليل على أنها لا
تصير شارعة في الصلاة أصلا بخلاف ما ذكره في
باب الأذان ففيه روايتان، وبعض مشايخنا قال
الجواب ما ذكر في باب الأذان ومعنى ما ذكر ها
هنا أن الإمام لم ينو إمامتها في صلاة العصر
فتجعل هي في الاقتداء به بنية العصر بمنزلة ما
لم ينو إمامتها فلهذا لا تصير شارعة في صلاة
التطوع.
قال: "ويصلى العراة وحدانا قعودا بإيماء" وقال
بشر المريسى رحمه الله تعالى يصلون قياما
بركوع وسجود وهو قول الشافعي رضي الله تعالى
عنه لأنهم عجزوا عن شرط الصلاة وهو ستر العورة
فهم قادرون على أركانها فعليهم الإتيان بما
قدروا عليه وسقط عنهم ما عجزوا عنه. ومذهبنا
مروي عن بن عباس وبن عمر رضي الله تعالى عنهم
قالا العاري يصلى قاعدا بالإيماء ولأن القعود
والإيماء أستر لهم وفي القيام والركوع والسجود
زيادة كشف العورة وذلك حرام في الصلاة وغير
الصلاة فكل ركوع وسجود لا يمكنه أن يأتي به
إلا بكشف العورة فذلك حرام فلا يكون من أركان
صلاته فلهذا لا يلزمه القيام والركوع والسجود.
وإن صلوا جماعة قياما بركوع وسجود أجزأهم لأن
تمام الستر لا يحصل بالقعود فتركه لا يمنع
جواز الصلاة وإنما أمرناهم بترك الجماعة
ليتباعد بعضهم من بعض فلا يقع بصر بعضهم على
عورة البعض لأن الستر يحصل به ولكن الأولى
لإمامهم إذا صلوا بجماعة أن يقوم وسطهم لكيلا
يقع بصرهم على عورته وإن تقدمهم جاز أيضا
وحالهم في حال الموضع كحال النساء في الصلاة
فالأولى أن يصلين وحدهن فان صلين بالجماعة
قامت إمامهن وسطهن وإن تقدمتهن جاز فكذلك حال
العراة.
وإن كان مع العاري ثوب فيه نجاسة فإن كان قدر
الربع من الثوب طاهرا يلزمه أن يصلى فيه فلو
صلى عريانا لم تجز لأن الربع بمنزلة الكمال في
بعض الأحكام ألا ترى أن نجاسة الربع في حالة
الاختيار في المنع من جواز الصلاة كنجاسة الكل
فكذلك طهارة الربع في حالة الضرورة كطهارة
الكل لوجوب الصلاة فيه وأما إذا كان الثوب كله
مملوءا دما أو كان الطاهر منه دون ربعه فعند
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يخير
بين أن يصلي عريانا وبين أن يصلي فيه وهو
الأفضل. وقال محمد رحمه الله تعالى لا تجزئه
الصلاة إلا فيه لأن الصلاة في الثوب النجس
أقرب إلى الجواز من الصلاة عريانا فإن القليل
من النجاسة في الثوب لا يمنع الجواز فكذلك
الكثير في قول بعض العلماء.
وقال عطاء: من صلى وفي ثوبه سبعون قطرة من دم
جازت صلاته ولم يقل أحد بجواز الصلاة عريانا
في حالة الاختيار ولأنه لو صلى عريانا كان
تاركا لفرائض منها ستر العورة،
ج / 1 ص -173-
ومنها
القيام والركوع والسجود فإذا صلى فيه كان
تاركا فرضا واحدا وهو طهارة الثوب فهذا الجانب
أهون. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها ما خير
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا
اختار أهونهما، فمن ابتلى ببليتين فعليه أن
يختار أهونهما وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما
الله تعالى قالا الجانبان في حكم الصلاة سواء
على معنى أن كل واحد منهما ضرورة محضة لا تجوز
عند الاختيار في النفل ولا في الفرض يعنى
الصلاة عريانا والصلاة في ثوب مملوء دما وإنما
يعتبر التفاوت في حكم الصلاة فإذا استويا خير
بينهما والأولى أن يصلى فيه لأن ستر العورة
غير مختص بالصلاة وطهارة الثوب عن النجاسة
تختص بها فلهذا كان الأفضل أن يصلى فيه.
قال: "وإذا أحدث الرجل في ركوعه أو سجوده فذهب
وتوضأ وجاء لم يجزئه الاعتداد بالركوع والسجود
الذي أحدث فيه" لأن الحدث قد نقضه ومعنى هذا
أن القياس أن يفسد جميع الصلاة بالحدث تركناه
بالنص المجوز للبناء على الصلاة فبقى معمولا
به في حق الركن الذي أحدث فيه لأن انتقاض ذلك
الركن لا يمنع من البناء ولأن تمام الركن
بالانتقال عنه ولا يمكن أن يجعل رفع رأسه بعد
الحدث إتماما لذلك الركن لأنه جزء من صلاته
وأداء جزء من صلاته بعد سبق الحدث مفسد لصلاته
وإذا جاء بعد الوضوء فعليه إتمام ذلك الركن
ولا يمكنه إتمامه إلا بإعادته فعليه الإعادة
لهذا.
قال: "فإن كان إماما فأحدث وهو راكع فتأخر
وقدم رجلا مكث الرجل راكعا كما هو حتى يكون
قدر ركوعه" لأن الاستدامة فيما يستدام
كالإنشاء والثاني قائم مقام الأول وعلى الأول
إنشاء الركوع فعلى الثاني استدامته أيضا فإن
لم يحدث ولكن تذكر في الركوع في الركعة
الثانية أنه ترك سجدة من الركعة الأولى فخر
ساجدا ثم رفع رأسه فإن احتسب بذلك الركوع جاز
وإن أعاده فهو أحب إلي لأن تذكره السجود غير
ناقض لركوعه ولأن رفع رأسه يمكن أن يجعل
إتماما للركوع بعد تذكره السجدة ألا ترى أنه
لو أخرها إلى آخر صلاته جاز فلهذا كان له أن
يعتد به والإعادة أفضل لأنه ما قصد إتمام
الركن بالانتقال عنه إنما قصد إذا تذكر. وقال
زفر رحمه الله عليه أن يعيد القيام والقراءة
والركوع لأن من أصله أن مراعاة الترتيب في
أفعال الصلاة ركن واجب فالتحقت هذه السجدة
بمحلها وبطل ما أدى من القيام والقراءة
والركوع لترك الترتيب، فأما عندنا مراعاة
الترتيب ليست بركن ألا ترى أن المسبوق يبدأ
بما أدرك مع الإمام فيه ولو كان الترتيب ركنا
لما جاز له تركها بعذر الجماعة كالترتيب بين
الصلوات ولئن كان الترتيب واجبا فقد سقط بعذر
النسيان. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن
عليه إعادة الركوع لا محالة وهو بناء على أصله
أن القومة التي بين الركوع والسجود ركن حتى لو
تركها لا تجوز صلاته.
وأصل المسألة أن الاعتدال في أركان الصلاة سنة
موكدة أو واجب عند أبي حنيفة
ج / 1 ص -174-
ومحمد
رحمهما الله تعالى، وعند أبي يوسف والشافعي
رحمهما الله تعالى هو ركن حتى أنه إن لم يتم
ركوعه وسجوده في الصلاة ولم يقم صلبه تجوز
صلاته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى
ويكره أشد الكراهة. وروى عن أبي حنيفة رحمه
الله تعالى قال أخشى أن لا تجوز صلاته. وعند
أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى لا تجوز
صلاته أصلا لحديث الأعرابي فإنه دخل المسجد
وخفف فقال له عليه الصلاة والسلام:
"ارجع فصل فإنك لم تصل"، حتى فعل ذلك ثلاثا ثم حين علمه قال له:
"اركع حتى يطمئن كل عضو منك ثم ارفع رأسك حتى يطمئن كل عضو منك"، الحديث
ورأى حذيفة بن اليمان رجلا يصلى ولا يتم
الركوع والسجود فقال مذ كم تصلى هكذا فقال مذ
كذا فقال إنك لم تصل منذ كذا ومثل هذا لا يعلم
بالرأي وإنما يقال سماعا.
ولنا: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
كان في المسجد مع أصحابه فدخل رجل وصلى وخفف
فلما خرج أساءوا القول فيه فقالوا أخرها ثم لم
يحسن أداءها فقال عليه الصلاة والسلام:
"ألا أحد
يشترى صلاته منه"؟ فخرج أبو
هريرة رضي الله تعالى عنه فاشتراها بدرهم فأبى
فما زال يزيد حتى ضجر الرجل فقال لو أعطيتني
ملء الأرض ذهبا ما بعتكها فعاد إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال:
"ألم أنهكم عن المصلين فقد جعل فعله صلاة معتبرة".
وسئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن صلاة
الأعراب الذين ينقرون نقرا فقال ذلك خير من لا
شيء ولأن الركنية لا تثبت إلا باليقين وإنما
ورد النص بالركوع والسجود ومطلق الاسم يتناول
الأدنى فبقيت الركنية بذلك القدر والزيادة على
ذلك للإكمال ولكن ترك ما هو لإكمال الفريضة
مما ليس بركن لا يفسده وقد نص عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي فيما
علمه فإنه قال: "إذا فعلت ذلك فقد أتممت صلاتك وإن نقصت من ذلك فقد نقصت صلاتك".
إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي يوسف رحمه الله
تعالى: القومة التي بين الركوع والسجود ركن
فإنه إذا تذكر السجدة في الركوع إما السجدة
الصلاتية أو التلاوية فخر لها ساجدا ولم يأت
بتلك القومة فعليه إعادة الركوع ليأتي بتلك
القومة. وعندنا تلك القومة ليست بركن فتركها
لا يفسد الصلاة والأولى الإعادة ليأتى بها. ثم
قدر الركن من الركوع أدنى الانحطاط على وجه
يسمى راكعا في الناس وفي السجود إمساس جبهته
أو أنفه على الأرض عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى والمفروض من الرفع بين السجدتين قدر ما
يزايل جبهته وأنفه الأرض ليتحقق به الفصل بين
السجدتين. وقال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى
لا يجوز إلا أن يرفع بقدر ما يكون إلى القعود
أقرب منه إلى السجود والأول أقيس.
قال: "وإذا أدرك الرجل ركعة مع الإمام من
المغرب فلما سلم الإمام قام يقضى قال يصلى
ركعة ويقعد" وهذا استحسان والقياس يصلى ركعتين
ثم يقعد لأنه يقضى ما فاته فيقضى كما فاته
ويؤيد هذا القياس بالسنة وهو قوله صلى الله
عليه وسلم:
"وما فاتكم فاقضوا". ووجه
ج / 1 ص -175-
الاستحسان أن هذه الركعة ثانية هذا المسبوق
والقعدة بعد الركعة الثانية في صلاة المغرب
سنة وهذا لأن الثانية هي الثالثة للأولى
والثانية للأولى في حقه هذه الركعة.
وروى أن جندبا ومسروقا رضي الله تعالى عنهما
ابتليا بهذا فصلى جندب ركعتين ثم قعد ومسروق
ركعة ثم قعد ثم صلى ركعة أخرى فسألا عن ذلك بن
مسعود رضي الله تعالى عنه فقال كلاكما أصاب
ولو كنت أنا لصنعت كما صنع مسروق. وتأويل قوله
"كلاكما أصاب" طريق الاجتهاد فأما الحق فواحد
غير متعدد، ثم ما يصلى المسبوق مع الإمام آخر
صلاته حكما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله تعالى، وعند محمد رحمه الله تعالى في
القراءة والقنوت هو آخر صلاته وفي حكم القعدة
هو أول صلاته ومذهبه مذهب بن مسعود ومذهبهما
مذهب علي رضي الله تعالى عنه.
وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه هو أول صلاته
فعلا وحكما لأنه لا يتصور الآخر إلا بعد الأول
في الأداء ألا ترى أن تكبيرة الافتتاح في حقه
أول الصلاة فكذلك ما بعده، ولكنا نقول لو كان
هذا مؤديا لأول الصلاة كان مخالفا لإمامه ولا
يصح الاقتداء به كيف وقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"ما فاتكم فاقضوا"، فهو نص على أنه مؤد مع الإمام ما أدرك لا ما فاته، ولكن محمد رحمه
الله تعالى جعله في حكم القراءة هكذا احتياطا
حتى تلزمه القراءة فيما يقضى لأن القراءة
مكررة في صلاة واحدة وكذلك في حكم القنوت لأنه
يتكرر في صلاة واحدة فلو جعلنا ما يؤديه مع
الإمام أول الصلاة للزمه القنوت فيما يقضى
فيؤدي إلى تكرار القنوت في صلاة واحدة فأما في
حكم القعدة فتتم الصلاة بقعدة هي ركن ولن يكون
ذلك إلا بعد أن يجعل ما يؤديه مع الإمام أول
الصلاة فلهذا قعد إذا صلى ركعة.
وحكي عن يحيى البناء وكان من أصحاب محمد رحمه
الله تعالى أنه سأله عن هذه المسألة فأجاب بما
قلنا فقال على وجه السخرية هذه صلاة معكوسة
فقال محمد رحمه الله تعالى لا أفلحت قال وكان
كما قال أفلح أصحابه ولم يفلح بدعائه.
قال: "وأحب أن يكون بين يدي المصلى في الصحراء
شيء أدناه طول ذراع" لما روى عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا صلى أحدكم في الصحراء فليتخذ بين يديه سترة"، وكانت العنزة تحمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركز في
الصحراء بين يديه فيصلى إليها حتى قال عون بن
جحيفة عن أبيه رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالبطحاء في قبة حمراء من أدم فركز بلال
العنزة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلى إليها والناس يمرون من ورائها وإنما قال
بقدر ذراع طولا ولم يذكر العرض وكان ينبغي أن
تكون في غلظ أصبع لقول بن مسعود يجزئ من
السترة السهم فإن المقصود أن يبدو للناظر
فيمتنع من المرور بين يديه وما دون هذا لا
يبدو للناظر من بعد.
وإذا اتخذ السترة فليدن منها لما جاء في
الحديث "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليرهقها"، وإن لم يكن بين يديه شيء فصلاته جائزة لأن الأمر باتخاذ السترة
ليس لمعنى
ج / 1 ص -176-
راجع
إلى عين الصلاة، فلا يمنع تركه جواز الصلاة
وإن مر بين يديه مار من رجل أو امرأة أو حمار
أو كلب لم يقطع صلاته عندنا. وقال أصحاب
الظواهر مرور المرأة والحمار والكلب بين يدى
المصلى يفسد صلاته لحديث أبي ذر رضي الله
تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:
"يقطع الصلاة المرأة
والحمار والكلب"، وفي بعض الروايات قال: "الكلب الأسود"، فقيل له وما بال الأسود من
غيره فقال: "أشكل على ما أشكل". فسألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:
"الكلب الأسود شيطان".
ولنا: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى
عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يقطع الصلاة مرور شيء
وادرؤوا ما استطعتم". والحديث
الذي رووا ردته عائشة رضي الله تعالى عنها
فإنها قالت لعروة يا عروة ماذا يقول أهل
العراق قال يقولون تقطع الصلاة المرأة والحمار
والكلب فقالت يا أهل العراق والشقاق والنفاق
قرنتموني بالكلاب والحمير كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصلى بالليل وأنا معترضة بين
يديه كاعتراض الجنازة.
والدليل على أن مرور المرأة لا يقطع الصلاة ما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى في
بيت أم سلمة فأراد عمر بن أبي سلمة أن يمر بين
يديه فأشار عليه فوقف ثم أرادت زينب أن تمر
بين يديه فأشار عليها فلم تقف فلما فرغ من
صلاته قال:
"هن أغلب صاحبات يوسف يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام".
والدليل على أن مرور الحمار والكلب لا يقطع
الصلاة حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
قال زرت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخي
الفضل على حمار في البادية فنزلنا فوجدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي فصلينا معه
والحمار يرتع بين يديه.
وينبغي أن يدفع المار عن نفسه لكيلا يشغله عن
صلاته عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:
"وادرءوا ما
استطعتم"، إلا أنه يدفعه بالإشارة أو الأخذ بطرف ثوبه على وجه ليس فيه مشي
ولا علاج. ومن الناس من قال إن لم يقف بإشارته
جاز دفعه بالقتال لحديث أبي سعيد الخدري رضي
الله تعالى عنه أنه كان يصلى فأراد أن يمر بن
مروان بين يديه فأشار عليه فلم يقف فلما حاذاه
ضربه على صدره ضربة أقعده على إسته فجاء إلى
أبيه يشكو أبا سعيد فدعاه فقال لم ضربت ابني
فقال ما ضربت ابنك إنما ضربت الشيطان قال لم
تسمى ابني شيطانا قال لأني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "إذا صلى أحدكم فأراد مار أن يمر بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله
فإنه شيطان"،
ولكنا نستدل بقوله عليه الصلاة والسلام: "أن
في الصلاة لشغلا"، يعنى
بأعمال الصلاة. وتأويل حديث أبي سعيد رضي الله
عنه أنه كان في وقت كان العمل مباحا في
الصلاة.
"ويكره للمار أن يمر بين يدي المصلي" لقوله:
"لو علم المار بين يدي المصلى ما
ج / 1 ص -177-
عليه
لوقف ولو إلى أربعين"، ولم يوقت يوما ولا شهرا
ولا سنة. وحد المرور بين يديه غير منصوص في
الكتاب، وقيل إلى موضع سجود، وقيل بقدر
الصفين. وأصح ما قيل فيه أن المصلى لو صلى
بخشوع فإلى الموضع الذي يقع بصره على المار
يكره المرور بين يديه وفيما وراء ذلك لا يكره.
وحكى أبو عصمة عن محمد رحمه الله تعالى إذا لم
يجد سترة يخط بين يديه فإن الخط وتركه سواء
لأنه لا يبدو للناظر من بعد. ومن الناس من
يقول يخط بين يديه إما طولا شبه ظل السترة أو
عرضا شبه المحراب لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إذا صلى أحدكم في الصحراء فليتخذ بين يديه
سترة فإن لم يجد فليخط بين يديه خطا"، ولكن
الحديث شاذ فيما تعم به البلوي فلم نأخذ به
لهذا.
قال: "وإذا انفرد المصلى خلف الإمام عن الصف
لم تفسد صلاته" وقال أهل الحديث منهم أحمد بن
حنبل رحمه الله تعالى تفسد صلاته لقوله صلى
الله عليه وسلم:
"لا صلاة لمنفرد خلف الصف". وعن وابصة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلى في حجرة من
الأرض، فقال:
"أعد صلاتك
فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف".
ولنا: حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال
فأقامني واليتيم من ورائي وأمي أم سليم وراءنا
فقد جوز اقتداءها وهي منفردة خلف الصف وفي هذا
الحديث دليل على أنها تفسد صلاة الرجل لأنه
أقامها خلفهما مع النهي عن الأنفراد فما كان
ذلك إلا صيانة لصلاتهما وأن أبا بكر رضي الله
تعالى عنه دخل المسجد ورسول الله صلى الله
عليه وسلم راكع، فكبر وركع ثم دب حتى لصق
بالصف فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم
من صلاته قال: "زادك الله
حرصا ولا تعد"، أو قال:
"لا تعد"، فقد جوز اقتداءه به وهو خلف الصف.
يدل عليه أنه لو كان بجنبه مراهق تجوز صلاته
بالاتفاق وصلاة المراهق تخلق فهو في الحقيقة
منفرد خلف الصف ولذلك لو تبين أن من كان بجنبه
كان محدثا تجوز صلاته وهو منفرد خلف الصف.
وتأويل الحديث نفي الكمال، لقوله صلى الله
عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد". والأمر بالإعادة شاذ ولو ثبت فيحتمل أنه كان بينه وبين الإمام ما
يمنع الاقتداء وفي الحديث ما يدل عليه فإنه
قال: في حجرة من الأرض أي ناحية ولكن الأولى
عندنا أن يختلط بالصف إن وجد فرجة وإن لم يجد
وقف ينتظر من يدخل فيصطفان معه فإن لم يدخل
أحد وخاف فوت الركعة جذب من الصف إلى نفسه من
يعرف منه علما وحسن الخلق لكيلا يصعب عليه
فيصطفان خلفه، فإن لم ينجر إليه أحد حينئذ يقف
خلف الصف بحذاء الإمام لأجل الضرورة فإن كان
بين الإمام وبين المقتدى حائط أجزأته. وفي
رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا
تجزئه وإليه أشار في الأصل في تعليل مسألة
المحاذاة.
وفي الحاصل هذا على وجهين: إن كان الحائط
قصيرا دليلا يعنى به الصغير جدا حتى يتمكن كل
أحد من الركوب عليه كحائط المقصورة لا يمنع
الاقتداء، وإن كان كبيرا فإن كان
ج / 1 ص -178-
عليه
باب مفتوح أو خوخة فكذلك وإن لم يكن عليه شيء
من ذلك ففيه روايتان:
وجه الرواية التي قال لا يصح الاقتداء أنه
يشتبه عليه حال إمامه، ووجه الرواية الأخرى ما
ظهر من عمل الناس كالصلاة بمكة فإن الإمام يقف
في مقام إبراهيم وبعض الناس يقفون وراء الكعبة
من الجانب الآخر فبينهم وبين الإمام حائط
الكعبة ولم يمنعهم أحد من ذلك فإن كان بينهما
طريق يمر الناس فيه أو نهر عظيم لم تجز صلاته
لما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه من كان
بينه وبين الإمام نهر أو طريق فلا صلاة له وفي
رواية فليس معه والمراد طريق تمر فيه العجلة
فما دون ذلك الطريق لا طريق والمراد من النهر
ما تجرى فيه السفن فما دون ذلك بمنزلة الجدار
لا يمنع صحة الاقتداء فإن كانت الصفوف متصلة
على الطريق جاز الاقتداء حينئذ لأن باتصال
الصفوف خرج هذا الموضع من أن يكون ممرا للناس
وصار مصلى في حكم هذه الصلاة وكذلك إن كان على
النهر جسر وعليه صف متصل فبحكم اتصال الصفوف
صار في حكم واحد فيصح الاقتداء.
قال: "والفتح على الإمام لا يفسد الصلاة" يعنى
المقتدي فأما غير المقتدى إذا فتح على المصلى
تفسد به صلاة المصلى وكذلك المصلى إذا فتح على
غير المصلى لأنه تعليم وتعلم والقارئ إذا
استفتح غيره فكأنه يقول بعد ما قرأت ماذا
فذكرني والذي يفتح عليه كأنه يقول بعد ما قرأت
كذا فخذ مني ولو صرح بهذا لم يشكل فساد صلاة
المصلى فأما المقتدي إذا فتح على إمامه هكذا
في القياس، ولكنه استحسن لما روى "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة المؤمنين فترك حرفا، فلما فرغ
قال: "ألم يكن فيكم أبي"؟ فقالوا: نعم يا رسول
الله، فقال: "هلا فتحت علي"؟ فقال: ظننت أنها
نسخت فقال: "لو نسخت لأنبأتكم بها".
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال إذا استطعمك
الإمام فأطعمه وابن عمر قرأ الفاتحة في صلاة
المغرب فلم يتذكر سورة فقال نافع:
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[الزلزلة: 1]، فقرأها ولأن المقتدي يقصد إصلاح صلاته فإن قرأ الإمام
فلتحقق حاجته، قلنا: لا تفسد صلاته وبهذا لا
ينبغي أن يعجل بالفتح على الإمام ولا ينبغي
للإمام أن يحوجه إلى ذلك بل يركع أو يتجاوز
إلى آية أو سورة أخرى فإن لم يفعل وخاف أن
يجري على لسانه ما يفسد الصلاة فحينئذ يفتح
لقول علي رضي الله تعالى عنه إذا استطعمك
الإمام فأطعمه وهو مليم أي مستحق اللوم لأنه
أحوج المقتدي إلى ذلك. وقد قال بعض مشايخنا
ينوي بالفتح على إمامه التلاوة وهو سهو فقراءة
المقتدي خلف الإمام منهي عنها والفتح على
إمامه غير منهي عنه ولا يدع نية ما رخص له
بنية شيء هو منهي عنه وإنما هذا إذا أراد أن
يفتح على غير إمامة فحينئذ ينبغي أن ينوي
التلاوة دون التعليم فلا يضره ذلك.
قال: وقتل الحية والعقرب في الصلاة لا يفسدها،
لقوله عليه الصلاة والسلام:
"اقتلوا الأسودين ولو كنتم في الصلاة". ولدغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقرب في صلاته فوضع عليه نعله
ج / 1 ص -179-
وغمزه
حتى قتله فلما فرغ قال:
"لعن الله
العقرب لا تبالي نبيا ولا غيره"، أو
قال:
"مصليا ولا غيره".
ولأنه رخص للمصلي أن يدرأ عن نفسه ما يشغله عن
صلاته وهذا من جملة ذاك. وقيل: هذا إذا أمكنه
قتل الحية بضربة واحدة كما فعله رسول الله صلى
الله عليه وسلم في العقرب. فأما إذا احتاج إلى
معالجة وضربات فليستقبل الصلاة كما لو قاتل
إنسانا في صلاته لأن هذا عمل كثير، والأظهر أن
الكل سواء فيه لأن هذا عمل رخص فيه للمصلي فهو
كالمشى بعد الحدث والاستقاء من البئر والتوضؤ.
"وإذا رمى طائرا بحجر لم تفسد صلاته" لأن هذا
عمل قليل ولكنه مكروه لأنه اشتغال بما ليس من
أعمال الصلاة ولم يذكر الكراهة في قتل الحية
والعقرب لأنه محتاج إلى ذلك لدفع أذاها عن
نفسه وليس في أذى الطير ما يحوجه إلى هذا لدفع
أذاها عن نفسه فلهذا ذكر الكراهة فيه. "وإن
أخذ قوسا ورمى به فسدت صلاته" وبعض أهل الأدب
عابوا عليه في هذا اللفظ وقالوا الرمى بالقوس
اسقاطه من يده وإنما يقال يرمى إذا رمى بالسهم
غير أن المقصود لمحمد كان تعليم عامة الناس
ووجد هذا اللفظ معروفا في لسان العامة فلهذا
ذكره وإنما فسدت صلاته لأنه عمل كثير فإن أخذ
القوس وتثقيف السهم عليه والمد حتى رمى عمل
كثير يحتاج فيه إلى استعمال اليدين والناظر
إليه من بعيد لا يشك أنه في غير الصلاة فكان
مفسدا لهذا. وكذلك لو ادهن أو سرح رأسه أو
أرضعت المرأة صبيها.
من أصحابنا من جعل الفاصل بين العمل القليل
والكثير أن يحتاج فيه إلى استعمال اليدين حتى
قالوا إذا زر قميصه في الصلاة فسدت صلاته وإذا
حل إزاره لم تفسد. والأصح أن يقال فيه إن كل
عمل إذا نظر إليه الناظر من بعيد لا يشك أنه
في غير الصلاة فهو مفسد لصلاته وكل عمل لو نظر
إليه الناظر فربما يشتبه عليه أنه في الصلاة
فذلك غير مفسد فما ذكر من الأعمال إذا نظر
الناظر إليه لا يشك أنه في غير الصلاة فإن
المرأة إذا حملت صبيها أو أرضعته لم يشكل على
أحد أنها في غير الصلاة وقد روينا أن النبي
صلى الله عليه وسلم قرأ المعوذتين في صلاة
الفجر ثم قال:
"سمعت بكاء صبي فخشيت على أمه أن تفتتن". فلو كان الإرضاع غير مفسد للصلاة لما ترك رسول الله صلى الله عليه
وسلم سنة القراءة لأجل بكائه. وإن قاتل في
صلاته فسدت صلاته لأن النبي صلى الله عليه
وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق لكونه
مشغولا بالقتال فلو جازت الصلاة مع القتال لما
أخرها.
وكذلك إن أكل أو شرب في الصلاة ناسيا أو
عامدا. بخلاف الصوم فإنه يفصل بين النسيان
والعمد لأنه قد اقترن بحال المصلى ما يذكره
فإن حرمة الصلاة مانعة من التصرف في الطعام
المؤدي إلى الأكل فلهذا سوى بين النسيان
والعمد وفي الصوم لم يقترن بحاله ما يذكره فإن
الصوم لا يمنعه ما يؤدي إلى الأكل وهو التصرف
في الطعام ثم الأكل عمل لو نظر إليه الناظر لا
يشك أنه في غير الصلاة وعلى هذا قال محمد مضغ
العلك في الصلاة.
ج / 1 ص -180-
فسدها
لأن الناظر إليه من بعيد لا يشك أنه في غير
الصلاة وإن كان في أسنانه شيء فابتلعه لم يضره
لأن ما يبقى بين الأسنان في حكم التبع لريقه
فلهذا لا يفسد الصوم وهذا إذا كان دون الحمصة
فإن ذلك يبقى بين الأسنان عادة وكذلك إن قلس
أقل من ملء الفم ثم رجع فدخل جوفه وهو لا
يملكه فهذا بمنزلة ريقه ألا ترى أنه لا ينقض
وضوءه فكذلك لا يفسد صلاته والمتهجد بالليل قد
يبتلى بهذا خصوصا في ليالي رمضان إذا امتلأ من
الطعام عند الفطر فللبلوى قلنا لا تفسد صلاته.
قال: "وإن انتضح البول على المصلى أكثر من قدر
الدرهم من موضع فانفتل فغسله لم يبن على
صلاته" وفي الإملاء عن أبي يوسف رحمه الله
تعالى قال يبنى لأن هذا بعض ما ورد به النص
فقد روينا في الرعاف ومن رعف يحتاج إلى غسل
أنفه إلى الوضوء فإذا كان له أن يبنى ثمة فها
هنا أولى. وجه ظاهر الرواية أن البناء على
الصلاة حكم ثبت بالآثار بخلاف القياس فلا يلحق
به إلا ما يكون في معناه من كل وجه وهذا ليس
في معنى المنصوص عليه لأن الانصراف هناك كان
للوضوء ولا بد منه والانصراف ها هنا لغسل
النجاسة عن الثوب وقد لا يحتاج إليه بأن يكون
عليه ثوبان فيلقى ما تنجس من ساعته فلهذا
أخذنا فيه بالقياس وقلنا لا يبنى.
قال: "وإن سال من دمل به دم توضأ وغسل وبنى
على صلاته كما لو رعف" ومراده من هذا إذا سال
بغير فعله فأما إذا عصره حتى سال أو كان في
موضع ركبتيه فانفتح من اعتماده على ركبتيه في
سجوده فهذا بمنزلة الحدث العمد قال لا يبنى
على صلاته وإن أصابته بندقة فشجته فسال منه دم
لم يبن على صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله
تعالى يبنى إذا توضأ لأن عمر رضي الله تعالى
عنه لما طعن في المحراب استخلف عبد الرحمن بن
عوف ولو فسدت صلاته لفسدت صلاة القوم فلم
يستخلفه ولأن الحدث سبقه بغير صنعه فهو كالحدث
السماوي.
ولنا: أن الحدث كان بصنع العباد فيمنعه كما لو
كان بصنعه لأن هذا ليس في معنى المنصوص عليه
فإن الحدث السماوي العذر المانع من المضي ممن
له الحق وهنا العذر من غير من له الحق وبينهما
فرق فإن المريض يصلى قاعدا ثم لا يعيد إذا برأ
والمقيد يصلى قاعدا ثم تلزمه الإعادة عند
إطلاقه وحديث عمر رضي الله تعالى عنه كان قبل
افتتاح الصلاة ليفتتح الصلاة ألا ترى أنه روى
أنه لما طعن قال آه قتلني الكلب من يصلى
بالناس ثم قال تقدم يا عبد الرحمن وهذا كلام
يمنع البناء على الصلاة.
قال: "وإن نام في صلاته فاحتلم في القياس
يغتسل ويبنى" يريد القياس على الاستحسان في
الحدث الصغرى ولكنى أستحسن أن يستقبل يريد
العود إلى القياس الأول لأن هذا ليس في معنى
المنصوص عليه فإنه يحتاج في الاغتسال إلى كشف
العورة ولا
ج / 1 ص -181-
حتاج
إليه في الوضوء ولأن المصلى قد يبتلى بالحدث
الصغرى عادة فمن النادر أن يبتلى بالحدث
الموجب للاغتسال والنادر ليس في معنى ما تعم
به البلوى.
قال: "وإذا سقط عن المصلى ثوبه فقام عريانا
وهو لا يعلم ثم تذكر من ساعته فتناول ثوبه
ولبسه فإنه يمضى على صلاته" وفي القياس يستقبل
الصلاة لوجود انكشاف العورة في الصلاة وهو
مناف لما ابتدأها ولكنه استحسن فقال الانكشاف
الكثير في المدة اليسيرة بمنزلة الانكشاف
اليسير في المدة الطويلة وذلك لا يمنع جواز
الصلاة فهذا مثله وهذا إذا لم يؤد ركنا ولم
يمكث عريانا بقدر ما يتمكن فيه من أداء ركن،
فإن مكث عريانا ذلك القدر فليس له أن يبنى
قياسا واستحسانا وكذلك إن سال عليه نجاسة
كثيرة وعليه ثوبان فإن ألقى النجس من ساعته
فهو على القياس والاستحسان كما مر وإن أدي
ركنا أو مكث بقدر ما يتمكن من أداء ركن استقبل
الصلاة.
قال: "وإذا صلت المرأة وربع ساقها مكشوف أعادت
الصلاة" وإن كان أقل من ذلك لم تعد عند أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. وقال أبو يوسف
رحمه الله تعالى لا تعيد حتى يكون النصف
مكشوفا. فالحاصل أن ستر العورة فرض لقوله
تعالى:
{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأعراف: 31] والمراد ستر العورة لأجل الصلاة لا لأجل الناس والناس
في الأسواق أكثر منهم في المساجد ورأس المرأة
عورة قال عليه الصلاة والسلام: "لا يقبل الله
صلاة امرأة حائض إلا بخمار"، أي صلاة
بالغة فإن الحائض لا تصلى.
ثم القليل من الانكشاف عفو عندنا خلافا
للشافعي رحمه الله تعالى وهو نظير القليل من
النجاسة. ودليلنا فيه ضرورة وبلوى خصوصا في حق
الفقراء والذين لا يجدون إلا الخلق من الثياب
فقد روى عن عمرو بن أبي سلمة قال كنت أؤم
أصحابي يعنى الصبيان وعلي إزار متخرق فكانوا
يقولون لأمي غطى عنا إست ابنك فدل أن القليل
من الانكشاف عفو لا يمنع جواز الصلاة والكثير
يمنع فقدر أبو يوسف ذلك بالنصف لأن القلة
والكثرة من الأسماء المشتركة فإن الشيء إذا
قوبل بما هو أكثر منه يكون قليلا وإذا قوبل
بما هو أقل منه يكون كثيرا فإذا كان المكشوف
دون النصف فهو في مقابلة المستور قليل وإذا
كان أكثر من النصف فهو في مقابلة المستور
كثير. وفي النصف سواء روايتان عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى.
في إحداهما لا يمنع لأن الانكشاف الكثير مانع
ولم يوجد. وفي الأخرى استوى الجانب المفسد
والمجوز فيغلب المفسد احتياطا للعبادة. وأبو
حنيفة ومحمد رحمهما الله قدرا الكثير بالربع
فإن الربع يحكى الكمال ألا ترى أن المسح بربع
الرأس كالمسح بجميعه ومن نظر إلى وجه إنسان
يستجيز من نفسه أن يقول رأيت فلانا وإنما رأى
أحد جوانبه الأربعة والذي بينا في الرأس كذلك
في البطن والشعر والفخذ فأما في القبل والدبر
فقد ذكر الكرخي أن التقدير فيهما بالدرهم دون
الربع لأنها عورة غليظة، فتقاس بالنجاسة
الغليظة،
ج / 1 ص -182-
وهذا
ليس بقوى فإنه ليس في هذا إظهار معنى التغليظ
لأن الدبر مقدر بالدرهم فعلى قياس قوله إذا
انكشف الدبر ينبغي أن تجوز الصلاة حتى تكون
أكثر من الدرهم فإن قدر الدرهم من الصلاة لا
يمنع جواز الصلاة حتى يكون أكثر منه. والأصح
أن التقدير بالربع في الكل وإليه أشار في
الزيادات.
قال: "وإذا صلت وشيء من رأسها وشيء من بطنها
وشيء من عورتها باد فإن كان ذلك إذا جمع بلغ
قدر ربع عضو يمنع جواز الصلاة" وإلا فلا.
قال: "وتقعد المرأة في صلاتها كأستر ما يكون
لها" لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لتلك المرأة:
"ضمي بعض اللحم إلى الأرض"،
ولأن مبنى حالها على التستر في خروجها فكذلك
في صلاتها ينبغي أن تتستر بقدر ما تقدر عليه.
قال عليه الصلاة والسلام:
"المرأة عورة مستورة".
قال: "رجل دعا في صلاته فسأل الله تعالى الرزق
والعافية لم تفسد صلاته" لقوله تعالى:
{ادْعُوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}[الأعراف:
55] وقال عليه الصلاة والسلام:
"وأما في سجودكم فاجتهدوا بالدعاء فإنه قمن أن
يستجاب لكم". وحاصل المذهب عندنا أنه إذا دعا في صلاته بما في القرآن أو بما
يشبه ما في القرآن لم تفسد صلاته، وإن دعا بما
يشبه كلام الناس نحو قولهم اللهم ألبسني ثوبا
اللهم زوجني فلانة تفسد صلاته. وقال الشافعي
رضي الله تعالى عنه إذا دعا في صلاته بما يباح
له أن يدعو به خارج الصلاة لم تفسد صلاته
لقوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}[النساء: 32] وقال عليه الصلاة والسلام:
"سلوا الله حوائجكم حتى الشسع لنعالكم والملح لقدوركم"، وأن عليا رضي الله تعالى عنه في حروبه كان يقنت في صلاة الفجر
يدعو على من ناواه.
ولنا: حديث معاوية بن الحكم فقد جعل قوله
يرحمك الله من جنس كلام الناس وقال إن صلاتنا
هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس فهو
كلامهم وأن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى
عنه رأى ابنا له يدعو في صلاته فقال إياك أن
تكون من المعتدين فإني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:
"سيكون في أمتي أقوام يعتدون في الدعاء"، وتلا قوله تعالى:
{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[الأعراف: 55]، ثم قال أما يكفيك أن تقول اللهم إني أسألك الجنة وما
قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما
قرب إليها من قول وعمل؟ ولا حجة في حديث علي
فإنهم لم يسوغوا له ذلك الاجتهاد حتى كتب إليه
أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أما بعد
فإذا أتاك كتابي فأعد صلاتك. وفي الأصل قال
أرأيت لو أنشد شعرا أما كان مفسدا لصلاته ومن
الشعر ما هو ذكر نحو قول القائل:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال: "وإذا مر المصلي
بآية فيها ذكر الجنة فوقف عندها وسأل أو بآية
فيها ذكر النار
ج / 1 ص -183-
فوقف
عندها وتعوذ بالله منها فهو حسن في التطوع إذا
كان وحده" لحديث حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه
صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"فما مر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف وسأل
الله الجنة وما مر بآية فيها ذكر النار إلا
وقف وتعوذ بالله جل وعلا وما مر بآية فيها مثل
إلا وقف وتفكر". فأما إذا كان إماما كرهت له
ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يفعله في المكتوبات والأئمة بعده إلى يومنا
هذا فكان من جملة المحدثات وربما يمل القوم
بما يصنع وذلك مكروه ولكن لا تفسد صلاته لأنه
لا يزيد في خشوعه والخشوع زينة الصلاة وكذلك
إن كان خلف الإمام فإنه يستمع وينصت لأن القوم
بالاستماع أمروا وإلى الإنصات ندبوا وعلى هذا
وعدوا الرحمة لقوله تعالى:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف:
204].
ويترتب هذا الفصل على اختلاف العلماء في قراءة
المقتدى خلف الإمام. فالمذهب عند أهل الكوفة
أنه لا يقرأ في شيء من الصلوات، وعند أهل
المدينة منهم مالك رحمه الله تعالى يقرأ في
صلاة الظهر والعصر ولا يقرأ في صلاة الجهر،
وعند الشافعي رحمه الله تعالى يقرأ في كل صلاة
إلا أن في صلاة الجهر أوان قراءة الفاتحة بعد
فراغ الإمام منها فإن الإمام ينصت حتى يقرأ
المقتدى الفاتحة واستدل بقول النبي صلى الله
عليه وسلم:
"لا صلاة إلا
بقراءة" وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: صلينا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فلما فرغ
قال: "لعلكم تقرؤون خلفي"؟ فقلنا نعم، فقال: "لا تقرؤون إلا بفاتحة الكتاب
فإنه لا صلاة إلا بها"، وفي رواية:
"لا صلاة لمن لم يقرأها".
والمعنى فيه: أن القراءة ركن من أركان الصلاة
فلا تسقط بسبب الاقتداء عند الاختيار كالركوع
والسجود بخلاف ما إذا أدرك الإمام في الركوع
لأن تلك الحالة حالة الضرورة فإنه يخاف فوت
الركعة بسبب الضرورة وقد تسقط بعض الأركان ألا
ترى أن القيام بعد التكبير ركن وقد يسقط هذا
للضرورة.
ولنا: قوله تعالى:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف: 204] وأكثر أهل التفسير على أن هذا خطاب للمقتدى ومنهم من
حمله على حال الخطبة ولا تنافي بينهما ففيه
بيان الأمر بالاستماع والأنصات في حالة الخطبة
لما فيها من قراءة القرآن قال صلى الله عليه
وسلم:
"من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، وقال في الحديث المعروف "وإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا". ومنع المقتدى من القراءة خلف الإمام مروى عن ثمانين نفرا من كبار
الصحابة وقد جمع أساميهم أهل الحديث. وقال سعد
بن أبي وقاص من قرأ خلف الإمام فسدت صلاته
والمعنى فيه أن القراءة غير مقصودة لعينها بل
للتدبر والتفكر والعمل به.
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنزل القرآن
ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملا وحصول هذا
المقصود عند قراءة الإمام وسماع القوم فإذا
اشتغل كل واحد منهم بالقراءة لا يتم هذا
المقصود وهذا نظير الخطبة فالمقصود منها الوعظ
والتدبر وذلك بأن يخطب الإمام ويستمع القوم لا
أن يخطب كل واحد منهم لنفسه دل عليه إذا أدرك
الإمام في حالة الركوع،
ج / 1 ص -184-
فإن
خاف فوت الركعة سقط عنه فرض القراءة ولو كان
من الإركان في حق المقتدى لما سقط بهذا العذر
كالركوع والسجود ولا يقال إن ركن القيام يسقط
فإنه لا بد من أن يكبر قائما وفرض القيام
يتأدي بأدنى ما يتناوله الاسم، ولا حجة لهم في
الحديث فإنه بقراءة الإمام تصير صلاة القوم
بالقراءة كما أن بخطبة الإمام تصير صلاتهم
جميعا بالخطبة.
وحديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه
يحمل على أنه كان ركنا في الابتداء ثم منعهم
عن القراءة خلفه بعد ذلك ألا ترى أنه لما سمع
رجلا يقرأ خلفه قال ما لي أنازع في القرآن؟
والقراءة مخالفة لسائر الأركان فما هو المقصود
بها لا يحصل بفعل الإمام بخلاف القراءة على ما
مر. ومذهب مالك رضي الله تعالى عنه مروى عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإن رجلا سأله
اقرأ خلف الإمام فقال له أما في الظهر والعصر
فنعم.
قال: "وإذا مرت الخادم بين يدي المصلى فقال
سبحان الله أو أومأ بيده ليصرفها لم تقطع
صلاته" لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم
أشار على زينب فلم تقف وقال صلى الله عليه
وسلم:
"إذا نابت أحدكم نائبة فليسبح فإن التسبيح
للرجال والتصفيق للنساء". قال في الكتاب: "وأحب إلي أن لا يفعل" معناه ولا يجمع بين التسبيح
والإشارة باليد فإن له بأحدهما كفاية. فمنهم
من قال المستحب أن لا يفعل شيئا من ذلك.
وتأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
كان في وقت كان العمل فيه مباحا في الصلاة فإن
استأذن عليه إنسان فسبح وأراد إعلامه أنه في
الصلاة لحديث علي رضي الله عنه كان لي مدخلان
من رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل يوم
بأيهما شئت دخلت فكنت إذا أتيت الباب، "فإن لم
يكن في الصلاة فتح الباب فدخلت وإن كان في
الصلاة رفع صوته بالقراءة فانصرفت". ولأنه قصد
بهذا صيانة صلاته ولو لم يفعل ربما يلح
المستأذن حتى يبتلى هو بالغلط في القراءة، وإن
أخبر بخبر يسوءه فاسترجع لذلك فإن أراد جوابه
قطع صلاته وإن لم يرد جوابه لم يقطع لأن مطلق
الكلام محمول على قصد التكلم فإذا أراد به
الجواب كان جوابا ومعنى استرجاعه: أعينوني
فإني مصاب ولو صرح بهذا لم يشكل فساد صلاته
فكذلك إذا أراده بالاسترجاع وإذا أخبر بخبر
يسره فقال الحمد لله أو أخبر بما يتعجب منه
فقال سبحان الله وأراد جواب المخبر فقد قطع
صلاته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى.
وقال أبو يوسف: التحميد وأشباه ذلك لا يقطع
الصلاة وإن أراد به الجواب لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال:
"إنما هي للتسبيح والتهليل وقراءة القرآن"،
فما تلفظ به شرعت الصلاة لأجله فلو فسدت صلاته
إنما تفسد بنيته ومجرد نية الكلام غير مفسد.
ولم يذكر خلاف أبي يوسف في مسألة الاسترجاع
والأصح أن الكل على الخلاف ومن سلم قال
الاسترجاع إظهار المصيبة وما شرعت الصلاة
لأجله والتحميد إظهار الشكر والصلاة شرعت
لأجله.
ولنا: قوله عليه الصلاة والسلام:
"من سبح من غير غضب ولا عجب فله من الأجر
ج / 1 ص -185-
كذا" وإنما جعله مسبحا إذا لم يقصد به التعجب فثبت له أنه إذا قصد به
التعجب كان متعجبا لا مسبحا وهذا لأن الكلام
مبنى على غرض المتكلم فمن رأى رجلا اسمه يحيى
وبين يديه كتاب فقال:
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}[مريم: 12] وأراد به خطابه، لم يشكل على أحد أنه متكلم لا قارئ.
وإذا قيل للمصلى بأي موضع مررت فقال ببئر
معطلة وقصر مشيد وأراد الجواب لا يشكل أنه
متكلم به وإذا أنشد شعرا فيه ذكر اسم الله لم
يشكل أنه كان منشدا لا ذاكرا حتى تفسد صلاته
فكذلك فيما نحن فيه.
قال: "وإذا قرأ في صلاته في المصحف فسدت
صلاته" عند أبي حنيفة. وعند أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى صلاته تامة ويكره ذلك وقال
الشافعي رضي الله عنه لا يكره لحديث ذكوان
مولى عائشة رضي الله تعالى عنها أنه كان يؤمها
في شهر رمضان وكان يقرأ في المصحف ولأنه ليس
فيه إلا حمل المصحف بيده والنظر فيه ولو حمل
شيئا آخر لم تفسد صلاته فكذلك المصحف إلا
أنهما كرها ذلك لأنه تشبه بفعل أهل الكتاب.
والشافعي رحمه الله تعالى قال ما نهينا عن
التشبه بهم في كل شيء فإنا نأكل كما يأكلون.
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى طريقان:
أحدهما: أن حمل المصحف وتقليب
الأوراق والنظر فيه والتفكر فيه ليفهم عمل
كثير وهو مفسد للصلاة كالرمى بالقوس في صلاته
وعلى هذا الطريق يقول إذا كان المصحف موضوعا
بين يديه أو قرأ بما هو مكتوب على المحراب لم
تفسد صلاته. والأصح أن يقول إنه يلقن من
المصحف فكأنه تعلم من معلم وذلك مفسد لصلاته
ألا ترى أن من يأخذ من المصحف يسمى صحفيا ومن
لا يحسن قراءة شيء عن ظهر قلبه يكون أميا يصلى
بغير قراءة فدل أنه متعلم من المصحف وعلى هذا
الطريق لا فرق بين أن يكون موضوعا بين يديه أو
في يديه وليس المراد بحديث ذكوان أنه كان يقرأ
من المصحف في الصلاة إنما المراد بيان حاله
أنه كان لا يقرأ جميع القرآن عن ظهر القلب
والمقصود بيان أن قراءة جميع القرآن في قيام
رمضان ليس بفرض.
قال: "رجل صلى ومعه جلد ميتة مدبوغ فلا بأس
بذلك عندنا" وقال مالك رحمه الله تعالى لا
تجوز صلاته ولا ينتفع عنده بجلد الميتة وإن
كان مدبوغا إلا في الجامد من الأشياء واستدل
بحديث عبد الله بن حكيم الليثي قال أتانا كتاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بسبعة
أيام وفيه
"لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب".
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما
إهاب دبغ فقد طهر".
وتأويل حديث عبد الله أنه كان قبل الدباغة قال
الأصمعي رحمه الله تعالى إلاهاب اسم لجلد لم
يدبغ فإذا دبغ يسمى أديما ثم المحرم بالموت ما
يدخل تحت مصلحة الأكل. قال صلى الله عليه
وسلم: "إنما حرم من الميتة أكلها".
ج / 1 ص -186-
وبالدباغ خرج الجلد من أن يكون صالحا للأكل
وتبين أن نجاسته بما اتصل به من الدسومات
النجسة وقد زال ذلك بالدباغ فصار طاهرا كالخمر
تخلل.
وأصح ما قيل في حد الدباغ عندنا ما يعصمه من
النتن والفساد حتى إذا شمسه أو تربه كان ذلك
دباغا عندنا، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه
لا يكون دباغا إلا بما يزيل الدسومات النجسة
عنه وذلك باستعمال الشب والقرض والعفص.
ودليلنا فيه أن المقصود اخراجه من أن يكون
صالحا لمنفعة الأكل وقد حصل ذلك وبه تبين أنه
لم يبق فيه الدسومات النجسة فإنها لو بقيت فيه
لأنتن بمضي الزمان وكذلك جلود السباع عندنا ما
يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه. وقال الشافعي رضي
الله تعالى عنه ما لا يؤكل لحمه لا يطهر جلده
بالدباغ وقاس بجلد الخنزير والأدمي.
ولنا: عموم الحديث:
"أيما
اهاب دبغ فقد طهر"، وما طهر
من لبس الناس كجلد الثعلب والفيل والسمور
ونحوها في الصلاة وغير الصلاة من غير نكير
منكر يدل على طهارته بالدباغ. فأما جلد
الخنزير فقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى
أنه يطهر بالدباغ أيضا. وفي ظاهر الرواية لا
يحتمل الدباغة فإن له جلودا مترادفة بعضها فوق
بعض كما للآدمى وإنما لا يطهر لعدم احتماله
المطهر وهو الدباغ أو لأن عينه نجس وجلده من
عينه. فأما في سائر الحيوانات النجس ما اتصل
بالعين من الدسومات وعلى هذا جلد الكلب يطهر
عندنا بالدباغ. وقال الحسن بن زياد رحمه الله
تعالى لا يطهر وهو قول الشافعي رضي الله تعالى
عنه لأن عين الكلب نجس عندهما، ولكنا نقول:
الانتفاع به مباح في حالة الاختيار فلو كان
عينه نجسا لما أبيح الانتفاع به فإن كان الجلد
غير مدبوغ فصلى فيه أو صلى ومعه شيء كثير من
لحم الميتة فصلاته فاسدة لأنه حامل للنجاسة
وإن صلى ومعه شيء من أصوافها وشعورها أو عظم
من عظامها فصلاته تامة عندنا. وقال الشافعي
رضي الله تعالى عنه فيهما حياة. وقال مالك رضي
الله تعالى عنه في العظم حياة دون الشعر
واستدلوا بقوله تعالى:
{قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس: 78]. ولأنه ينمو بتمادي الروح فكان فيه حياة فيحله الموت
فيتنجس به ومالك يقول العظم يتألم ويظهر ذلك
في السن بخلاف الشعر.
ولنا: أنه مبان من الحي فلا يتألم به ويجوز
الانتفاع. وقال صلى الله عليه وسلم:
"ما أبين من الحي فهو ميت". فلو كان فيه حياة لما جاز الانتفاع به ولا نقول إن العظم يتألم بل
ما هو متصل به فاللحم يتألم وبين الناس كلام
في السن أنه عظم أو طرف عصب يابس فإن العظم لا
يحدث في البدن بعد الولادة. وتأويل قوله
تعالى:
{مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}، أي النفوس.
وفي العصب روايتان: في إحدى الروايتين فيها
حياة لما فيها من الحركة وينجس بالموت ألا ترى
أنه يتألم الحي بقطعه بخلاف العظم فإن قطع قرن
البقرة لا يؤلمها فدل أنه ليس في العظام حياة
فلا يتنجس بالموت وإليه أشار رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين مر بشاة ملقاة
ج / 1 ص -187-
لميمونة فقال:
"هلا انتفعتم بإهابها"؟ فقيل إنها ميتة فقال: "إنما حرم من الميتة
أكلها".
وهذا نص على أن ما لا يدخل تحت مصلحة الأكل لا
يتنجس بالموت، وعلى هذا شعر الآدمي طاهر عندنا
خلافا للشافعي رضي الله تعالى عنه فإن النبي
صلى الله عليه وسلم حين حلق شعره قسم شعره بين
أصحابه فلو كان نجسا لما جاز لهم التبرك به
ولكن لا ينتفع به لحرمته لا لنجاسته وكذلك
عظمه لا ينتفع به لحرمته. والذي قيل إذا طحن
سن الآدمي مع الحنطة لم يؤكل وذلك لحرمة
الآدمي لا لنجاسته. فأما الخنزير فهو نجس
العين عظمه وعصبه في النجاسة كلحمه، فأما شعره
فقد قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: يجوز
استعماله للخراز لأجل الضرورة وفي طهارته عنه
روايتان: في رواية طاهر وهكذا روى عن أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى أنه طاهر لما كان
الانتفاع به جائزا ولهذا جوز أبو حنيفة بيعه
لأن الانتفاع لا يتأدى به إلا بعد الملك، وهو
نجس في إحدى الروايتين لأن الثابت بالضرورة لا
يعدوا موضعها.
وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه ألحق
الفيل بالخنزير والأصح أنه كسائر الحيوانات
عظمه طاهر وقد جاء في حديث ثوبان أن النبي صلى
الله عليه وسلم اشترى لفاطمة سوارين من عاج
وظهر استعمال الناس العاج من غير نكير فدل على
طهارته.
قال: "رجل صلى وقدامه عذرة قال لا يفسد ذلك
صلاته" لأن شرط الصلاة طهارة مكان الصلاة وقد
وجد فالنجاسة فيما وراء ذلك لا تضره والمستحب
أن يبعد من موضع النجاسة عند أداء الصلاة لأن
لمكان الصلاة حرمة فيختار لها أقرب الأماكن
إلى الحرمة وإن كانت النجاسة في موضع قيامه
فصلاته فاسدة إذا كانت كثيرة لأن القيام ركن
فلا يتأدى على مكان نجس وكونه على النجاسة
ككون النجاسة عليه في إفساد الصلاة فإن كانت
النجاسة في موضع سجوده فكذلك عند أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى وهو الظاهر من قول
أبي حنيفة. وروى أبو يوسف عنه أن صلاته جائزة،
ووجهه أن فرض السجود يتأدى بوضع الأرنبة على
الأرض عنده وذلك دون مقدار الدرهم.
ووجه ظاهر الرواية: أن السجود فرض فإذا وضع
الجبهة والأنف تأدى الفرض بالكل كما إذا طول
القراءة أو طول الركوع كان مؤديا للفرض. وأداء
الكل بالفرض في المكان النجس لا يجوز والجبهة
والأنف أكثر من قدر الدرهم. وقد روى عن أبي
يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا سجد على مكان
نجس ثم أعاد على مكان طاهر جاز. وقال زفر رحمه
الله تعالى لا تجوز صلاته. وجه قوله: أن
السجدة قد فسدت بأدائها على مكان نجس والصلاة
الواحدة لا تتجزأ فإذا فسد بعضها فسد كلها كما
لو أقام على النجاسة عند التحريم.
ووجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى: أن الركن
لا يتأدى على مكان نجس فكأنه لم يؤدها أصلا
حتى أداها على مكان طاهر وهكذا نقول إذا كان
عند التحرم على مكان
ج / 1 ص -188-
نجس
يصير كأنه لم يتحرم للصلاة أصلا حتى لو كان
متطوعا لا يلزمه القضاء. وإن كانت النجاسة في
موضع الكفين أو الركبتين جازت صلاته عندنا.
وقال زفر رحمه الله تعالى لا تجزئه لأن أداء
السجدة بوضع اليدين والركبتين والوجه جميعا
فكانت النجاسة في موضع الركبتين كهي في موضع
الوجه فأكثر ما في الباب أن له بدا من موضع
اليدين والركبتين وهذا لا يدل على الجواز لا
إذا وضع يده على المكان النجس كما لو لبس
ثوبين بأحدهما نجاسة كثيرة لا تجوز صلاته وله
بد من لبس الثوب النجس كما بالاكتفاء بثوب
واحد.
ولنا: أن وضع اليدين والركبتين على مكان نجس
كترك الوضع أصلا وترك وضع اليدين والركبتين في
السجود لا يمنع الجواز، كما قاله ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما مثل الذي يصلى وهو عاقص شعره
كمثل الذي يصلى وهو مكتوف وبه فارق الوجه فإن
ترك الوضع فيه يمنع جواز السجود بخلاف الثوبين
فإن اللابس للثوب مستعمل له فإذا كان نجسا كان
حاملا للنجاسة فلهذا تفسد صلاته كما لو كان
يمسكه بيده والمصلى ليس بحامل للمكان حتى تفسد
صلاته بهذا الطريق بل الطريق ما قلناه أن ما
وضعه على مكان نجس يجعل كأنه لم يضعه أصلا.
قال: "رجل صلى على مكان من الأرض قد كان فيه
نجاسة فجفت وذهب أثرها جازت صلاته عندنا" وقال
زفر رحمه الله تعالى لا تجزئه لأن الشرط طهارة
المكان ولم يوجد بدليل أن التيمم لا يجوز بهذا
الموضع.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"أيما أرض جفت فقد زكت"، أي
طهرت، وقال:
"زكاة الأرض يبسها". ثم النجاسة تحرقها الشمس وتفرقها الريح وتحول عينها الأرض وينشفها
الهواء فلا تبقى عينها بعد تأثير هذه الأشياء
فيها فتعود الأرض كما كانت قبل الإصابة وقد مر
الفرق بين الصلاة والتيمم.
والصحيح من الجواب: أنه لا فرق بين موضع تقع
عليه الشمس أو لا تقع وبين موضع فيه حشيش نابت
أو ليس فيه لأن الحشيش تابع للأرض. فإن أصاب
الموضع ماء فابتل أو ألقى من ترابه في ماء
قليل ففيه روايتان.
إحداهما: أنه يعود نجسا كما
قبل الجفاف.
والأخرى، وهو الأصح أنه لا
يتنجس لأن بعد الحكم بطهارته لم يوجد إلا
إصابة الماء والماء لا ينجس شيئا بخلاف ما إذا
أصابت النجاسة البساط فذهب أثرها لأن النجاسة
تتداخل في أجزاء البساط فلا يخرجها إلا الغسل
بالماء وليس من طبع البساط أن يحول شيئا إلى
طبعه ومن طبع الأرض تحويل الأشياء إلى طبعها
فإن الثياب إذا طال مكثها في التراب تصير
ترابا فإذا تحولت النجاسة إلى طبع الأرض بذهاب
أثرها حكمنا بطهارة الموضع لهذا وإن كان الأثر
باقيا لم تجز الصلاة لأن طهور الأثر دليل على
بقاء النجاسة.
قال: ولا بأس بأن يصلى على الثلج إذا كان
ممكنا يستطيع أن يسجد عليه، معناه: أن
ج / 1 ص -189-
يكون
موضع سجوده متلبدا لأنه حينئذ يجد جبينه حجم
الأرض فأما إذا لم يكن متلبدا حتى لا يجد
جبينه حجم الأرض حينئذ لا يجزئه لأنه بمنزلة
السجود على الهواء على هذا السجود على الحشيش
أو القطن إن شغل جبينه فيه حتى وجد حجم الأرض
أجزأ وإلا فلا وكذلك إذا صلى على طنفسة محشوة
جازت صلاته إذا كان متلبدا إلا على قول مالك
رحمه الله تعالى وقد روى عن بعض الصحابة قال
ما أبالي صليت على عشر طنافس أو أكثر وكذلك
الصلاة على الحصير لأنه عمل الناس في مساجدهم
بخلاف ما يقوله بعض من لا يعتد بقوله إنه لا
يجوز الصلاة على الحصير لأن سائلا سأل عائشة
رضي الله تعالى عنها هل صلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم على الحصير؟ فإني سمعت قول
الله تعالى:
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً}[الإسراء: 8] فقالت: لا ولكن هذا الحديث شاذ فقد اشتهر عن عائشة رضي
الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يصلى على الخمرة وهو اسم لقطعة حصير
ومعنى قول الله تعالى:
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} أي محتبسا. وجاء في الحديث: "الصلاة على ما تنبته الأرض أفضل من
الصلاة على ما لم تنبته الأرض". فلهذا اختاروا
الحشيش والحصير على البساط.
قال: "ويكره أن يكون قبله المسجد إلى حمام أو
قبر أو مخرج" لأن جهة القبلة يجب تعظيمها
والمساجد كذلك قال الله تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ}[النور:
36]. ومعنى التعظيم لا يحصل إذا كانت قبلة
المسجد إلى هذه المواضع التي لا تخلو عن
الأقذار. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما
الله تعالى قال هذا في مساجد الجماعة فأما في
مسجد الرجل في بيته فلا بأس بأن يكون قبلته
إلى هذه المواضع لأنه ليس له حرمة المساجد حتى
يجوز بيعه وللناس فيه بلوى بخلاف مسجد
الجماعة. ولو صلى في مثل هذا المسجد جازت
صلاته إلا على قول بشر بن غياث المريسى وكذلك
لو صلى في أرض مغصوبة أو صلى وعليه ثوب مغصوب
عنده لا يجوز لأن العبادة لا تتأدي بما هو
منهى عنه، والنهي عندنا إذا لم يكن لمعنى في
الصلاة لا يمنع جوازها.
وأصل النهي في هذا الباب حديث أبي هريرة رضي
الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن الصلاة في سبع مواطن: المجزرة والمزبلة
والمقبرة والحمام وقوارع الطريق ومعاطن الإبل
وفوق ظهر بيت الله.
فأما المجزرة والمزبلة فموضع النجاسات لا يجوز
الصلاة فيها لإنعدام شرطها وهو الطهارة من حيث
المكان.
وأما المقبرة، فقيل: إنما نهى عن ذلك لما فيه
من التشبه باليهود، كما قال صلى الله عليه
وسلم:
"لعن الله
اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلا تتخذوا
قبرى بعدي مسجدا". ورأى عمر رضي الله تعالى عنه رجلا يصلى بالليل إلى قبر فناداه:
القبر القبر، فظن الرجل أنه يقول: القمر،
ج / 1 ص -190-
فجعل
ينظر إلى السماء فما زال به حتى بينه فعلى هذا
القول تجوز الصلاة وتكره. وقيل: معنى النهى أن
المقابر لا تخلو عن النجاسات فالجهال يستترون
بما يشرف من القبور فيبولون ويتغوطون خلفه
فعلى هذا لا تجوز الصلاة لانعدام طهارة
المكان.
ومعنى النهي في الحمام: أنه مصب الغسالات
والنجاسات عادة فعلى هذا إذا صلى في موضع جلوس
الحمامى لا يكره. وقيل معنى النهى: أن الحمام
بيت الشيطان فعلى هذا الكراهة في كل موضع منه
سواء غسل ذلك الموضع أو لم يغسل.
ومعنى النهي في قوارع الطريق: أنه يستضر به
المار فعلى هذا إذا كان الطريق واسعا لا يكره
وحكي بن سماعة أن محمدا رحمه الله تعالى كان
يصلى على الطريق في البادية. وقيل: معنى النهى
في قوارع الطرق أنها لا تخلو عن الأرواث
والأبوال عادة فعلى هذا لا فرق بين الطريق
الواسع والضيق.
ومعنى النهى في معاطن الإبل، قيل، لأنها لا
تخلو عن النجاسة عادة إلا أنه جاء في الحديث:
"صلوا في مرابض
الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل".
وفيما يكون منها المعاطن والمرابض سواء. وقيل
معنى النهي أن الإبل ربما تصول على المصلى
فيبتلى بما يفسد صلاته وهذا لا يتوهم من
الغنم.
وأما فوق ظهر بيت الله: النهى عندنا لأن
الإنسان منهى عن الصعود على سطح الكعبة لما
فيه من ترك التعظيم فلا يمنع جواز الصلاة.
وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه هذا النهي
لافساد صلاته حتى إذا صلى على سطح الكعبة وليس
بين يديه سترة لا تجوز صلاته عنده على ما بينه
في آخر الكتاب.
قال: "ومن زحمه الناس فلم يجد موضعا للسجود
فسجد على ظهر رجل أجزأه" لقول عمر رضي الله
تعالى عنه اسجد على ظهر أخيك فإنه مسجد لك
وقال في خطبته حين طلب من الناس أن يوسع
المسجد أيها الناس إن هذا مسجد بناه رسول الله
صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار معه
فمن لم يجد موضعا فليسجد على ظهر أخيه.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى قال: إن كان السجود على ظهر شريكه في
الصلاة يجوز وإلا فلا لأن الجواز للضرورة وذلك
عند المشاركة في الصلاة. ومن أصحابنا من قال
المراد ظهر القدم فأما إذا سجد على ظهره فهو
راكع لا ساجد فلا يجزئه وهو قول الحسن بن
زياد. والأصح أنه يجوز لأن الرخصة فيه ثابتة
شرعا للضرورة ومن اقتدى بإمام ينوى صلاته ولم
يدر أنها الظهر أو الجمعة أجزأه أيهما كان
لأنه بني صلاته على صلاة الإمام وذلك معلوم
عند الإمام فالعلم في حق الأصل يغني عنه في حق
التبع والبناء والأصل فيه حديث علي وأبي موسى
رضي الله تعالى عنهما فإنهما قدما من اليمن
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
بم أهللتما؟ فقالا: بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجوز ذلك
لهما،
ج / 1 ص -191-
وإن لم
يكن معلوما عندهما وقت الإهلال. فإن لم ينو
صلاة الإمام ولكنه نوى الظهر والاقتداء إذا
كان إمامه في الجمعة فصلاته فاسدة لأنه يؤدي
غير صلاة الإمام وتغاير الفرضين يمنع
الاقتداء. وفي غير رواية أبي سليمان قال إذا
نوى صلاة الإمام والجمعة فإذا هي الظهر جازت
صلاته وهذا صحيح فقد تحقق البناء بنية صلاة
الإمام ولا يعتبر بما زاد بعد ذلك وهو كمن نوى
الاقتداء بهذا الإمام وعنده أنه زيد فإذا هو
عمرو وكان الاقتداء صحيحا بخلاف ما إذا نوى
الاقتداء بزيد فإذا هو عمرو.
قال: "وإذا صلى الرجل المكتوبة كرهت له أن
يعتمد على شيء إلا من عذر" لأن في الاعتماد
تنقيص القيام ولا يجوز ترك القيام في المكتوبة
إلا من عذر فكذلك يكره تنقيصه بالاعتماد إلا
من عذر وإن فعل جازت صلاته لوجود أصل القيام،
ولم يبين الاعتماد في التطوع فقيل لا بأس به
لأن ترك القيام يجوز في التطوع فتنقيصه أولى،
وقيل: بل يكره لأن في الاعتماد بعض التنعم
والتجبر ولا ينبغي للمصلي أن يفعل شيئا من ذلك
بغير عذر وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم
رأى في المسجد حبلا ممدودا فقال:
"لمن هذا"؟
فقيل: لفلانة تصلى بالليل فإذا أعيت اتكأت
فقال: "لتصل فلانة بالليل ما بسطت فإذا أعيت
فلتنم".
قال: "ومن نسى تكبيرة الافتتاح حتى قرأ لم يكن
داخلا في الصلاة" وكان عطاء يقول تكبيرة
الركوع تنوب عن تكبيرة الافتتاح، وهذا فاسد
فإن أركان الصلاة لا تكون إلا بعد التحريمة
والتحريم للصلاة بالتكبير يكون فإذا لم يكبر
للافتتاح لم يكن داخلا في الصلاة.
قال: "وإذا افتتح التطوع قائما ثم أراد أن
يقعد من غير عذر فله ذلك عند أبي حنيفة
استحسانا" وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى لا يجزئه قياسا لأن الشروع ملزم كالنذر
ومن نذر أن يصلي ركعتين قائما لم يجزه أن يقعد
فيهما فكذلك إذا شرع قائما لم يجزه أن يقعد
فيهما فكذلك إذا شرع قاعدا. وأبو حنيفة يقول
القعود في التطوع بلا عذر كالقعود في الفرض
بعذر ثم هناك لا فرق بين حال الابتداء أو
البقاء فكذلك هنا وهذا لأنه في الابتداء كان
مخيرا بين القيام والقعود وخياره فيما لم يؤد
باق والشروع إنما يلزمه ما باشر ولا صحة لما
باشر إلا به وللركعة الأولى صحة بدون القيام
في الركعة الثانية بدليل حالة العذر فلم يلزمه
القيام بالشروع بخلاف النذر فهو التزام
بالتسمية وقد نص فيه على صفة القيام، ولا
رواية فيما إذا أطلق النذر فقيل يلزمه بصفة
القيام اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما يوجب
الله تعالى عليه مطلقا. وقيل: لا يلزمه لأن
القيام وراء ما به يتم التطوع ولا يلزمه إلا
بالتنصيص عليه كالتتابع في الصوم. وقيل: هو
على الخلاف على قياس ما مر في الشروع فإن
افتتحها قاعدا فقضي بعضها قائما وبعضها قاعدا
أجزأه لما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح التطوع
قاعدا فيقرأ ورده حتى إذا بقى عشر آيات أو
نحوها قام مقام قراءته ثم ركع وسجد وهكذا كان
يفعل في الركعة الثانية فقد انتقل
ج / 1 ص -192-
من
القعود إلى القيام ومن القيام إلى القعود فدل
أن ذلك جائز في التطوع.
قال: "وإذا افتتح التطوع على غير وضوء أو في
ثوب نجس لم يكن داخلا في صلاته ولا يلزمه
القضاء" لأن الشروع لم يصح ووجوب القضاء
والإتمام ينبني عليه.
"وإن افتتحها نصف النهار أو حين تحمر الشمس أو
عند طلوعها فإن صلى كذلك فقد أساء ولا يبنى
عليه" لأنه أداها كما شرع فيها وإن قطعها
فعليها القضاء إلا على قول زفر رحمه الله
تعالى فإنه يعتبر الشروع في الصلاة في الأوقات
المكروهة بالشروع في صوم يوم النحر لعله أن
يرتكب المنهي والفرق لنا أن بالشروع هناك يصير
صائما مرتكبا للمنهي وها هنا بنفس الشروع لا
يصير مصليا ما لم يقيد الركعة بالسجدة وارتكاب
المنهى فيه ولأن هناك لا يتصور الأداء بذلك
الشروع إلا بصفة الكراهة وها هنا يتصور بأن
يصبر حتى يذهب الوقت فلهذا ألزمناه القضاء
والفرق بين هذا وبين ما سبق أن الشروع كالنذر
والنذر بالصلاة في هذه الأوقات يصح فكذلك
الشروع فأما النذر بالصلاة بغير وضوء لا يصح،
وهنا مسائل:
إذا نذر أن يصلى ركعتين بغير وضوء أو عريانا
أو بغير قراءة فعلى قول أبي يوسف رحمه الله
تعالى في المواضع كلها يلزمه ما سمى في الصلاة
الصحيحة وما زاد في كلامه فهو لغو.
وعند زفر رحمه الله تعالى لا يلزمه شيء في
الأحوال كلها لأن ما سماه في نذره ليس بقربة.
وعند محمد رحمه الله إذا سمى ما لا يجوز أداء
الصلاة معه بحال كالصلاة بغير طهارة لا يلزمه
شيء وإذا سمى ما يجوز أداء الصلاة معه في بعض
الأحوال كالصلاة بغير قراءة تلزمه.
قال: "وإن افتتح صلاة التطوع وقت طلوع الشمس
ثم قطعها ثم قضاها وقت تغير الشمس أجزأه" لأنه
لو أتمها في ذلك الوقت أجزأه فكذلك إذا قضاها
في مثل ذلك الوقت.
قال: "وإذا صلت المرأة وهي حاملة ابنتها
أجزأها" لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم:
"كان يصلى
في بيته وأمامة بنت أبي العاص يحملها على
عاتقه فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها".
قال: "وهي مسيئة في ذلك" لأنها شغلت نفسها بما
ليس من أعمال صلاتها وأدنى ما فيه أن ذلك
يمنعها من سنة الاعتماد.
"فإن قيل: ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان
لا يفعل في صلاته ما هو مكروه.
قلنا: تأويله أنه كان في وقت كان العمل في
الصلاة مباحا أو لم يكن الاعتماد سنة.
قال: "وإن صلى وفي فمه شيء يمسكه جازت صلاته"
وهذا إذا كان في فمه درهم أو دينار أو لؤلؤة
على وجه لا يمنعه من القراءة فإن كان يمنعه من
القراءة لا تجوز صلاته لأنه أكل وكذلك إن كان
في فمه سكرة لا تجوز صلاته لأنه أكل ولذلك إن
كان في كفه متاع يمسكه جازت صلاته كما لو ترك
الاعتماد أو وضع اليدين على الركبتين في
الركوع. والمصلى قاعدا تطوعا أو فريضة بعذر
يتربع ويقعد كيف شاء من غير كراهة إن شاء
محتبيا وإن شاء متربعا لأنه لما جاز له ترك
أصل القيام فترك صفة القعود أولى. وقال زفر
رحمه الله
ج / 1 ص -193-
تعالى:
يقعد على ركبتيه كما يفعله في التشهد. وقال
أبو يوسف يؤدي جميع صلاته متربعا في حال قيامه
فإذا أراد أن يركع قعد على ركبتيه ليكون أيسر
عليه.
قال: "وإذا صلى فوق المسجد مقتديا بالإمام
أجزأه" لحديث أبي هريرة أنه وقف على سطح
المسجد واقتدى بالإمام وهو في جوفه وهذا إذا
كان وقوفه خلف الإمام أو بحذائه فإذا كان
متقدما عليه لم يجزه كما لو افتتحها في جوف
المسجد.
قال: "وكذلك إن كان على سطح بجنب المسجد وليس
بينهما طريق" وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه
لا يصح اقتداؤه لأنه ترك مكان الصلاة بالجماعة
من غير ضرورة.
ولنا: أن اقتداءه وهو على سطح بجنب المسجد
بمنزلة اقتدائه به وهو في جوف المسجد معه لأنه
لا يشتبه عليه حال إمامه وليس بينهما مانع من
الاقتداء فلهذا جوزناه.
قال: "ولا بأس بالصلاة في بيت في قبلته تماثيل
مقطوعة الرأس" لأن التمثال تمثال برأسه فبقطع
الرأس يخرج من أن يكون تمثالا بيانه فيما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه ثوب
عليه تمثال طائر فأصبحوا وقد محا وجهه وروى أن
جبريل صلوات الله عليه استأذن على رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأذن له فقال: "كيف أدخل وفي
البيت قرام فيه تمثال خيول ورجال فإما أن تقطع
رؤسها أو تتخذ وسائد فتوطأ". ولأن بعد قطع الرأس صار بمنزلة تماثيل الشجر وذلك غير مكروه إنما
المكروه تمثال ذى الروح هكذا روى عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أنه نهى مصورا عن
التصوير فقال كيف أصنع وهو كسبي قال إن لم يكن
بد فعليك بتمثال الإشجار وإن عليا رضي الله
تعالى عنه قال من صور تمثال ذى الروح كلف يوم
القيامة أن ينفخ فيه الروح وليس بنافخ. وإن لم
تكن مقطوعة الرأس كرهتها في القبلة لأن فيه
تشبيها بمن يعبد الصور ولكن هذا إذا كان كبيرا
يبدو للناظرين من بعيد فإن كان صغيرا فلا بأس
لأن من يعبد الصورة لا يعبد الصغير منها جدا
وقد كان على خاتم أبي موسى ذبابتان ولما وجد
خاتم دانيال صلوات الله وسلامه عليه كان على
فصه أسدان بينهما رجل يلحسانه كأنه كان يحكى
بهذا ابتداء حاله أو لأن التمثال في شريعة من
قبلنا كان حلالا.
قال الله تعالى:
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ
مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ}[سبأ: 13]. وكما يكره في القبلة يكره في السقف أو عن يمين القبلة أو
عن يسارها لأن الأثر قد جاء أن الملائكة لا
تدخل بيتا فيه كلب أو صورة فيجب تنزيه مواضع
الصلاة عن ذلك إلا أنه إذا كانت الصورة على
الحائط الذي هو خلف المصلى فالكراهة فيه أيسر
لأن معنى التعظيم والتشبيه بمن يعبد الصور
تنعدم هنا وكذلك إن كانت الصورة على الأرض
والأزر والستور وأما على البساط فنقول اتخاذ
الصورة على البساط مكروه ولكن لا بأس بالنوم
والجلوس عليه لأن البساط يوطأ فلا يحصل فيه
معنى التعظيم وكذلك الوسادة ألا ترى أنه قال
في حديث جبريل: "أو تتخذ وسائد فتوطأ". فإن
كان المصلى على البساط إن كانت الصورة في موضع
وجهه أو
ج / 1 ص -194-
أمامه
فهو مكروه لأن فيه معنى التعظيم يحصل بتقرب
الوجه من الصورة وإن كانت في موضع قدميه فلا
بأس به لأن معنى التعظيم فيه لا يحصل فصلاته
جائزة على كل حال لأن الكراهة ليست لمعنى راجع
إلى الصلاة.
قال: "رجل قارئ دخل في صلاة أمي تطوعا أو في
صلاة امرأة أو جنب ثم أفسدها على نفسه فليس
عليه قضاؤها" لأن شروعه في الصلاة لم يصح حين
اقتدى بمن لا يصلح إماما له ولا يتمكن من أداء
الصلاة خلفه ووجوب القضاء يكون بالإفساد بعد
صحة الشروع.
قال: "وإذا وقفت جارية مراهقة تعقل الصلاة
بجنب رجل خلف الإمام وهما في صلاته فسدت صلاة
الرجل" استحسانا وفي القياس لا تفسد لأن صلاة
غير البالغة تخلق وليست بصلاة حقيقية. ووجه
الاستحسان أنها تؤمر بالصلاة وتضرب على ذلك
كما ورد به الحديث فكانت كالبالغة في المشاركة
في أصل الصلاة وعليه ينبنى الفساد بسبب
المحاذاة لأنها تشتهى فلا يصفو قلب الرجل عن
الشهوة في حال المناجاة عند محاذاتها وهذا
المعنى موجود هنا قال ألا ترى أنها لو صلت
بغير وضوء أو عريانة أمرتها أن تعيد الصلاة
لأنها إنما تؤمر بالصلاة لتتعود فلا يشق عليها
إذا بلغت وذلك إذا أدت بصفة يجوز أداؤها بتلك
الصفة بعد البلوغ بحال فإن أدت بغير طهارة أو
عريانة لا يحصل هذا المقصود فلهذا أمرت
بالإعادة ولو صلت بغير قناع في القياس تؤمر
بالإعادة كما إذا صلت عريانة لأن الرأس منها
عورة، ولكنه استحسن فقال تجزئها صلاتها لقول
النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"،
معناه صلاة بالغة فثبت أن صلاة غير البالغة
تجوز بغير الخمار ولأن من البالغات من تصلى
بغير قناع وهي المملوكة وتجوز صلاتها فصلاة
غير البالغة أولى بخلاف العريانة.
قال: "وللأمة أن تصلى بغير قناع" لحديث عمر
رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا رأى جارية
متقنعة علاها بالدرة وقال ألقى عنك الخمار يا
دفار أتتشبهين بالحرائر وكذلك المكاتبة
والمدبرة وأم الولد لأن الرق قائم فيهن فليس
لرءوسهن حكم العورة فإن أعتقت في صلاتها أخذت
قناعها ومضت في صلاتها استحسانا. وفي القياس:
تستقبل كالعريانة إذا وجدت ثوبا في خلال
الصلاة. وجه الاستحسان: أن فرض الستر لزمها في
خلال الصلاة مقصورا عليها وقد أتت به كما
لزمها بخلاف العريانة لأن فرض الستر كان عليها
قبل الشروع ولكنها كانت عريانة بعذر العجز
فإذا أزيل استقبلت كالمتيمم إذا وجد الماء في
خلال الصلاة توضأ واستقبل والمتوضىء إذا سبقه
الحدث توضأ وبنى على صلاته فهذا مثله.
باب صلاة المريض
الأصل في صلاة المريض
قوله تعالى:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ}[آل
عمران: 191]. قال الضحاك في تفسيره: هو بيان
حال المريض في أداء الصلاة على حسب الطاقة
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمران
بن حصين يعوده في مرضه، فقال:
كيف أصلى؟
ج / 1 ص -195-
فقال
عليه الصلاة والسلام:
"صل قائما فإن لم تستطع
فقاعدا فإن لم تستطع فعلى الجنب تؤمىء ايماء
فإن لم تستطع فالله أولى بالعذر"، أى بقبول العذر منك. ولأن الطاعة على حسب الطاقة قال الله تعالى:
{لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:
286] ولقوله تعالى:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:
16].
فإذا عرفنا هذا فنقول: المريض إذا كان قادرا
على القيام يصلى قائما فإذا عجز عن القيام
يصلى قاعدا بركوع وسجود وإذا كان عاجزا عن
القعود يصلى بالإيماء لأنه وسع مثله فإن كان
قادرا على القيام في أول الصلاة وعجز عن
القيام فإنه يقعد وفرق بين هذا وبين الصوم فإن
المريض إذا كان قادرا على الصوم في بعض اليوم
ثم عجز فإنه لا يصوم أصلا وهنا يصلى. وجه
الفرق بينهما وذلك لأن في الصوم لما أفطر في
آخر اليوم لم يكن فعله في أول اليوم معتدا فلا
يشتغل به وفي الصلاة وإن قعد في آخره ولكن
فعله في أول الصلاة وقع معتدا فيشتغل به وأما
إذا كان قادرا على القيام وعاجزا عن الركوع
والسجود فإنه يصلى قاعدا بإيماء وسقط عنه
القيام لأن هذا القيام ليس بركن لأن القيام
إنما شرع لافتتاح الركوع والسجود به فكل قيام
لا يعقبه سجود لا يكون ركنا.
ولأن الإيماء إنما شرع للتشبه بمن يركع ويسجد
والتشبه بالقعود أكثر ولهذا قلنا بأن المومىء
يجعل السجود أخفض من ركوعه لأن ذلك أشبه
بالسجود إلا أن بشرا يقول إنما سقط عنه بالمرض
ما كان عاجزا عن إتيانه فأما فيما هو قادر
عليه لا يسقط عنه ولكن الانفصال عنه على ما
بينا إن كان عاجزا عن القعود يصلى بالإيماء
مضطجعا مستلقيا على قفاه ووجهه نحو القبلة عند
علمائنا رحمهم الله تعالى وهو مذهب عبد الله
بن عمر رضي الله تعالى عنهما. وقال الشافعي
رحمه الله تعالى يضطجع على جنبه الأيمن ووجهه
نحو القبلة واحتج بحديث عمران بن حصين قال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فعلى الجنب تومئ إيماء" فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على الجنب.
ولأن فيما قلنا وجهه إلى القبلة وكما إذا
احتضر يضطجع على شقه الأيمن هكذا يصلى أيضا
وكذلك يوضع في القبر هكذا. إلا أن أصحابنا
قالوا: بأنه إذا استلقى على قفاه كان أقرب إلى
استقبال القبلة فالجانبان منه إلى القبلة
ووجهه إلى ما هو القبلة، وفيما قاله الشافعي
رحمه الله تعالى وجهه إلى رجله وذا ليس بقبلة
وكذلك إذا قدر على القيام فوجهه أيضا يكون إلى
القبلة بخلاف ما إذا احتضر فإن هناك لم يكن
مرضه على شرف الزوال فافترقا من هذا الوجه.
وأما الجواب عن احتجاجه بحديث عمران بن حصين
رضي الله تعالى عنه فلما قيل بأن مرضه كان
باسورا فلا يمكنه أن يستلقى على قفاه. والثاني
وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فعلى
الجنب تومئ إيماء"، يعنى ساقطا على الجنب،
كقوله: "فإذا وجبت جنوبها"، أي سقطت فكذلك
هنا.
ج / 1 ص -196-
قال:
المومىء إذا اقتدى بالمومىء يصح اقتداؤه به،
لقوله عليه الصلاة والسلام: "الإمام ضامن"
معناه صلاة الإمام تتضمن صلاة المقتدى وتضمن
الشيء إنما يتحقق فيما هو مثله أو فوقه ولا
يتحقق فيما هو دونه وها هنا حال المقتدي مثل
حال الإمام أو دونه فيصح اقتداؤه به. فإذا
عرفنا هذا فنقول بأن الإمام إن كان قائما أو
قاعدا أو موميا يصح اقتداؤه به لأن حاله مثل
حال الإمام أو دونه فإن كان الإمام قارئا
والمقتدى قارئا أو أميا يصح اقتداؤه به لأن
حاله مثل حال الإمام أو دونه فأما إذا كان
الإمام قاعدا والمقتدى قائما يصح عند أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى استحسانا،
وعند محمد رحمه الله تعالى لا يصح قياسا.
وجه قول محمد رحمه الله تعالى ما روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا يؤمن أحد بعدي جالسا"، وهذا نص عن علي رضي الله عنه أنه قال لا يؤم المتيمم المتوضئين
ولا المقيد المطلقين وهذا نص والمعنى فيه وذلك
أن الإمام صاحب عذر فمن كان حاله مثل حال
الإمام يصح اقتداؤه به وما لا فلا كإمامة صاحب
الجرح السائل للأصحاء ولأصحاب الجروح. وتأثير
هذا الكلام وهو أن القيام ركن والمقتدى ينفرد
بهذا الركن فلو قلنا بأنه يصح اقتداؤه به يكون
هذا مقتديا بالبعض دون البعض وهذا لا يجوز.
ووجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله
تعالى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
صلى بأصحابه وكان قاعدا وهم قيام خلفه فإنه
لما ضعف في مرضه قال: "مروا أبا بكر يصلي
بالناس". فقالت عائشة لحفصة قولي له إن أبا
بكر رجل أسيف إذا وقف في مكانك لا يملك نفسه
فلو أمرت غيره فقالت ذلك كرتين فقال:
"إنكن صاحبات يوسف مروا أبا بكر يصلي بالناس".
فلما شرع أبو بكر في الصلاة وجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم خفة في نفسه فخرج وهو يهادي
بين الفضل ابن عباس وبين علي وكان رجلاه تخطان
الأرض حتى دخل المسجد فسمع أبو بكر حس مجيء
النبي صلى الله عليه وسلم فتأخر وتقدم النبي
صلى الله عليه وسلم وقعد وكان أبو بكر يصلى
بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقوم
يكبرون بتكبير أبي بكر وأبو بكر يكبر بتكبير
رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة يكبرون
بتكبير أبي بكر وهذا آخر فعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مرضه فيكون ناسخا لما كان
قبله على ما جاء في حديث جابر رضي الله تعالى
عنه أنه قال سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن فرسه فجحش شقه الأيسر فلم يخرج أياما
فالصحابة دخلوا عليه فوجدوه في الصلاة قاعدا
فاقتدوا به قياما فأشار إليهم أن اقعدوا فلما
فرغ من صلاته قال:
"إنما جعل
الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا على أئمتكم فإن
صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعين وإن صلى قائما
فصلوا قياما أجمعين ولا يؤمن أحد بعدى جالسا"، ولكنا نقول صار هذا منسوخا بفعله الآخر وهو ما روينا في حديث مرض
موته صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث علي، رضي الله تعالى عنه قلنا لا
يمكن العمل به لأن في الحديث زيادة وهو قوله
ولا الماسح للغاسلين وبالإجماع إمامة الماسح
للغاسل جائزة، فدل أنه لا يمكن
ج / 1 ص -197-
العمل
به. والفقه فيه أن الإمام صاحب بدل صحيح
فاقتداء صاحب الأصل به صحيح كالماسح على
الخفين إذا أم الغاسلين بخلاف صاحب الجرح
السائل ونحوه لأنه ليس بصاحب بدل صحيح ولأن
بين القيام والقعود تقاربا في الصلاة حتى يجوز
القعود في التطوع من غير عذر وهذا لأن القائم
كلا الجانبين منه مستو فالقاعد أحد الجانبين
منه منثن فكان بينهما تقارب فيصح اقتداؤه به
كاقتداء القائم بالراكع.
وإن كان الإمام يصلي بالإيماء مضطجعا والمقتدى
يصلى بركوع وسجود لا يصح اقتداؤه به عندنا
خلافا لزفر رحمه الله هو يقول كل واحد منهما
مؤد ما هو مستحق عليه بصفة الصحة فيصح اقتداؤه
به نظيره اقتداء المتوضىء بالمتيمم والغاسل
بالماسح، ولكنا نقول بان حال المقتدى فوق
الإمام لأن الاكتفاء بالإيماء مع القدرة على
الركوع والسجود يمنع جواز الصلاة فيمنع صحة
الاقتداء ولأن الإيماء ليس ببدل عن الركوع
والسجود لأنه بعضه فلو قلنا بأنه يصح اقتداؤه
به يكون هذا اقتداء بالبعض دون البعض وهذا لا
يجوز بخلاف التيمم والمسح فإن التيمم بدل عن
الوضوء والمسح بدل عن الغسل فيصح اقتداؤه به
بالإجماع.
فإن كان الإمام يصلى قاعدا بالإيماء والمأموم
يصلى قائما بالإيماء يصح اقتداؤه به لأن هذا
القيام ليس بركن حتى كان الأولى تركه فيجعل
كأن لم يكن ولو كان معدوما أصلا يصح اقتداؤه
به لأن هذا اقتداء القاعد بالقاعد فكذلك هنا
فإن كان الإمام يصلي بالإيماء مضطجعا والمقتدى
يصلي بالإيماء قاعدا أو قائما لا يصح اقتداؤه
بالإجماع لأن حاله فوق حال الإمام فيمنع صحة
الاقتداء.
قال: "فإن نزع الماء من عينيه وأمر بأن يستلقى
على قفاه أياما ونهى عن القيام والقعود له أن
يصلى بالإيماء مضطجعا عند علمائنا" وقال مالك
رحمه الله ليس له ذلك واحتج بما روى عن عبد
الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال له
طبيب بعد ما كف بصره لو صبرت أياما مستلقيا
على قفاك لصحت عيناك فشاور في ذلك عائشة رضي
الله تعالى عنها والصحابة فلم يرخصوا له في
ذلك وقالوا له أرأيت لو مت في هذه الأيام كيف
تصنع بصلاتك فلو جاز ذلك لجوزوا له، إلا أن
علماءنا قالوا بأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس
ثم إذا خاف الهلاك على نفسه من عدو أو سبع كان
معه له أن يصلى مستلقيا على قفاه فكذلك هنا
وأما حديث عبد الله بن عباس قلنا يحتمل أنه
إنما لم يرخصوا له في ذلك لأنه لم يظهر عندهم
صدق ذلك الطبيب فيما يدعى فلهذا لم يرخصوا له.
قال: "ولو أن المريض إذا صلى إلى غير القبلة
متعمدا لا تجوز وإن أخطأ تجوز" معناه إذا
اشتبهت عليه القبلة فتحرى إلى جهة وصلى إليها
ثم تبين أنه أخطأ القبلة تجوز صلاته وإن تعمد
لا تجوز لحديث علي رضي الله تعالى عنه أنه قال
قبلة المتحري جهة قصده. فالحاصل أن المريض
إنما يفارق الصحيح فيما هو عاجز عنه، وأما
فيما هو قادر عليه هو
ج / 1 ص -198-
والصحيح سواء ثم الصحيح إذا اشتبهت عليه
القبلة في المغارة فتحرى إلى جهة وصلى إليها
ثم تبين أنه أخطأ القبلة تجوز صلاته ولو تعمد
لا تجوز فكذلك هذا. وقال محمد بن مقاتل الرازي
رحمه الله تعالى إذا كان وجهه إلى غير القبلة
ولا يمكنه أن يحول وجهه إلى القبلة ولا يجد
أحدا بأن يحول وجهه إلى القبلة له أن يصلى إلى
غير القبلة فإذا برأ أعاد الصلاة. ولكنا نقول
في ظاهر الرواية لا يجب عليه إعادة الصلاة لأن
التوجه إلى القبلة شرط جواز الصلاة والقيام
والقراءة والركوع والسجود أركان الصلاة ثم ما
سقط عنه من الأركان بعذر المرض لا يجب عليه
إعادة الصلاة فكذلك ما سقط عنه من الشروط بعذر
المرض لا يجب عليه إعادة الصلاة. وأما إذا صلى
بغير طهارة أو بغير قراءة أو عريانا لا تجوز
صلاته لما بينا أنه فيما هو قادر عليه هو
والصحيح سواء ثم الصحيح إذا صلى بغير طهارة أو
بغير قراءة أو عريانا لا تجوز صلاته فكذلك
هنا.
قال: "قوم مرضى في بيت مظلم اشتبهت عليهم جهة
القبلة صلوا بجماعة فتحرى كل واحد منهم إلى
جهة وصلى إليها جازت صلاة الكل" لأنها تجوز من
الأصحاء بهذه الصفة فمن المرضى أولى قال
الحاكم رحمه الله تعالى "إنما جازت صلاة
المقتدى إذا كان المقتدى لا يعلم أنه خالف
إمامه فأما إذا علم أنه خالف إمامه لا تجوز
صلاته" لأنه اعتقد فساد صلاة الإمام والأصل أن
المقتدى إذا اعتقد فساد صلاة الإمام تفسد
صلاته وهذا بخلاف ما إذا صلى في جوف الكعبة
وإن علم أنه خالف إمامه جازت صلاته لأنه ما
اعتقد فساد صلاة الإمام إلا إذا كان مقدما على
الإمام فحينئذ لا تجوز صلاته.
قال: "مريض متحر أو مسافر متحر تبين له في
خلال الصلاة أنه أخطأ القبلة له أن يحول وجهه
إلى القبلة ويبنى على صلاته ولا يجب عليه أن
يستقبل" لحديث أهل قباء أخبروا في خلال الصلاة
أن القبلة حولت من بيت المقدس إلى الكعبة
فاستداروا كهيئتهم وهم في ركوع فجوز لهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم. ولأن المؤدي حصل
بالاجتهاد وهذا اجتهاد آخر والاجتهاد لا ينقض
باجتهاد مثله كالقاضي إذا قضى في حادثة
بالاجتهاد ثم ظهر أن اجتهاده كان خطأ في تلك
الحادثة باجتهاد آخر لا ينقض قضاؤه فكذلك ها
هنا.
قال: "المريض المومىء إذا وجب عليه سجدتا
السهو يومئ إيماء لسهوه" لأن سجدتي السهو دون
الصلبية وتلك تتأدى بالإيماء فهذا أولى فلو
أنه عجز عن الإيماء بالرأس سقط عنه الصلاة عند
علمائنا الثلاثة. وقال زفر والحسن رحمهما الله
تعالى يومئ بعينيه وإن عجز عن الإيماء
بالعينين قال زفر رحمه الله تعالى وحده يومئ
بالقلب لأنه وسع مثله. ولكنا نقول بأن الإيماء
عبارة عن الإشارة والإشارة إنما تكون بالرأس
فأما العين يسمي انحاء ولا يسمي إيماء وبالقلب
يسمى نية وعزيمة وبمجرد النية لا تتأدي الصلاة
ونصب الأبدال بالرأى لا يجوز. ثم إذا برأ ينظر
إن كان معتقا بعد هذه الحالة حتى إذا برأ يجب
إعادة الصلاة.
ج / 1 ص -199-
فإن
كان مغمي عليه ينظر إذا كان مغمى عليه يوما
وليلة أو أقل يجب عليه إعادة الصلاة وإن كان
أكثر من يوم وليلة لا يجب عليه إعادة الصلاة
عند علمائنا. وقال بشر تجب عليه إعادة الصلاة
وإن طال الإغماء. هو يقول الإغماء نوع مرض فلا
يسقط القضاء كالنوم. وقال الشافعي رضي الله
تعالى عنه إذا استوعب وقت صلاة كاملة لا يجب
عليه إعادة الصلاة ويقول وجوب القضاء ينبنى
على وجوب الأداء ولا يجب عليه الأداء فلا يجب
عليه القضاء.
ولنا: ما روى عن علي رضي الله تعالى عنه أنه
أغمي عليه في أربع صلوات فقضاهن وعن عمار بن
ياسر أنه أغمي عليه يوما وليلة فقضاهما وعبد
الله بن عمر أغمي عليه ثلاثة أيام ولياليها
فلم يقضها. والفقه فيه هو أن الإغماء إذا طال
يجعل كالطويل عادة وهو الجنون والصغر وإذا قصر
يجعل كالقصير عادة وهو النوم فيحتاج إلى الحد
الفاصل بين القصير والطويل فإن كان يوما وليلة
أو أقل فهو قصير لأن الصلاة لم تدخل في حد
التكرار وإن كان أكثر من يوم وليلة يكون طويلا
لأن الصلاة دخلت تحت حد التكرار. وروى عن أبي
حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال إذا أغمى
عليه يوما وليلة يجب عليه القضاء ولكن يعتبر
بالساعات لا بالصلوات والأول أصح.
قال: "وإذا لم يستطع السجود لمرض أو جرح أو
خوف فهو كله سواء ويومئ" لأنه وسع مثله.
قال: "فإن عجز عن القراءة تسقط عنه القراءة"
لأن القراءة ركن كما أن القيام ركن فلو عجز عن
القيام سقط عنه القيام فكذلك هنا.
قال: "وإن كان على جبهته جراحة ولا يمكنه أن
يسجد على الجبهة قال يسجد على أنفه" لأن الأنف
مسجد كالجبهة.
قال: "ويكره للمريض المومئ أن يرفع إليه عود
أو وسادة ليسجد عليه" لما روى عن النبي صلى
الله عليه وسلم، أنه دخل على مريض ليعوده
فوجده يسجد على عوده فقال له: "إن قدرت أن
تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأوم برأسك".
وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه دخل
على أخيه عتبة يعوده في مرضه فرأى عودا يرفع
بين يديه وكان يسجد عليه فأخذ العود من يد من
كان في يديه وقال: إن هذا شيء عرض لكم الشيطان
فأوم بسجودك وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى
عنه رأى مريضا يفعل هكذا فقال أتتخذون مع الله
آلهة فدل أنه يكره له ذلك. وإن سجد هل يجوز له
ذلك قال ينظر إن خفض رأسه للركوع ثم للسجود
يجوز بالإيماء لا بوضع الرأس على العود حتى
أنه لو رفع العود إلى جبهته ووضع عليه جبهته
لا يجوز لأنه ترك ركنا من أركان الصلاة وهو
الإيماء فقلنا بأنه لا يجوز وأما إذا سجد على
الوسادة يجزئه لما روى عن أم سلمة أنها كان
بها رمد فسجدت على المرفقة فجوز لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
ج / 1 ص -200-
قال
"ولو أن المريض إذا صلى بالإيماء مضطجعا ثم
قدر على الركوع والسجود في آخر الصلاة يجب
عليه أن يستقبل الصلاة" ولا يبنى إلا على قول
زفر رحمه الله تعالى وهذا بناء على أصل وهو أن
المنفرد يبني آخر صلاته على أول صلاته
كالمقتدى يبني صلاته على صلاة الإمام ففي كل
موضع يصح الاقتداء يصح البناء وإلا فلا فنقول
بأن الإمام إذا صلى بالإيماء مضطجعا والمقتدي
يصلى بالركوع والسجود لا يصح اقتداؤه به فكذلك
هنا لا يجوز له البناء. وأما إذا صلى قاعدا
بالركوع والسجود ثم برأ وقدر على القيام في
بعض الصلاة له أن يبنى على صلاته ولا يجب عليه
أن يستقبل لأن الإمام إذا صلى قاعدا والمقتدى
قائما يصح الاقتداء به عند أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله تعالى فكذلك يصح البناء وأما
إذا شرع في الصلاة قائما ثم عجز عن القيام في
خلال الصلاة وقعد له أن يبنى على صلاته لأن
هذا بناء القوى على الضعيف وذلك يصح والله
سبحانه وتعالى أعلم.
باب سجود السهو
الأصل في سجود السهو ما روي أن النبي صلى الله
عليه وسلم سها في صلاته فسجد. وفي حديث ثوبان
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل سهو
سجدتان بعد السلام". وكان أبو الحسن الكرخي
يقول هو واجب استدلالا بما قال محمد رحمه الله
تعالى إذا سها الإمام وجب على المؤتم أن يسجد.
ووجهه أنه جبر لنقصان العبادة فكان واجبا
كدماء الجبر في باب الحج وهذا لأن أداء
العبادة بصفة الكمال واجب وصفة الكمال لا تحصل
إلا بجبر النقصان. وغيره من أصحابنا كان يقول
إنه سنة استدلالا بما قال محمد رحمه الله
تعالى إن العود إلى سجود السهو لا يرفع التشهد
ولو كان واجبا لكان رافعا للتشهد كسجدة
التلاوة ولأنه يجب بترك بعض السنن والخلف لا
يكون أقوى فوق الأصل.
إذا عرفنا هذا فنقول إذا سها ولم يدر أثلاثا
صلى أم أربعا وذلك أول ما سها استقبل الصلاة
لحديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من شك في
صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا
فليستقبل".
ولأن الاستقبال لا يريبه والمضى يريبه بعد
الشك والاحتياط في العبادة ليؤديها بكمالها
واجب. ومعنى قوله وذلك أول ما سها أن السهو
ليس بعادة له لأنه لم يسه في عمره قط وإن لقى
ذلك غير مرة تحرى الصواب وأتم الصلاة على ذلك
لحديث بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "من شك في صلاته فليتحر الصواب". ولأنا لو أمرناه بالاستقبال يقع في الشك ثانيا وثالثا إذا صار ذلك
عادة له فيتعذر عليه المضى في الصلاة فلهذا
تحرى.
وشهادة القلب في التحرى تكفى عندنا لقوله صلى
الله عليه وسلم:
"المؤمن ينظر بنور الله". وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يكفى ما لم ينضم إليه دليل
آخر لأنه مجرد الظن وإن الظن لا يغنى من الحق
شيئا وإن لم يكن له تحر أخذ بالأقل لحديث عبد
الرحمن بن
ج / 1 ص -201-
عوف،
رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"من شك في صلاته فليأخذ بالأقل وليصل حتى يشك في الزيادة كما يشك في
النقصان".
ولأنه متيقن بوجوب الأداء عليه فلا يترك هذا
اليقين إلا بيقين مثله وذلك في الأقل إلا أنه
في كل موضع يتوهم أنه آخر صلاته فيقعد لا
محالة لأن قعدة الختم ركن والاشتغال بالنافلة
قبل إكمال الفرض مفسد لصلاته، ثم يسجد للسهو
بعد السلام عندنا. وقال الشافعي رضي الله
تعالى عنه قبل السلام لحديث عبد الله بن بحينة
أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو
قبل السلام وما روى بعد السلام أي بعد التشهد
كما قلتم في قوله: "وفي كل ركعتين فسلم"، أي فتشهد ولأن سجود السهو مؤدى في حرمة الصلاة ولهذا لو أدرك
الإمام فيه صح اقتداؤه به والسلام محلل له
فينبغي أن يتأخر عن كل ما يؤدي في حرمة الصلاة
فكان هذا قياس سجدة التلاوة.
ولنا: حديث بن مسعود وعائشة وأبي هريرة رضي
الله تعالى عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم
سجد للسهو بعد السلام وما روى قبل السلام أي
قبل السلام الثاني فإن عندنا يسلم بعد سجود
السهو أيضا إذ بما وقع الاختلاف في فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصار إلى قوله وفي
حديث ثوبان:
"لكل سهو سجدتان بعد السلام". ولأن سجود السهو مؤخر عن محله فلو كان مؤدى قبل السلام لكان
الأولى أن يؤدى في محله كسجدة التلاوة وإنما
كان مؤخرا ليتأخر أداؤه عن كل حالة يتوهم فيها
السهو وفيما قبل السلام يتوهم السهو فيؤخر عنه
لهذا ولكنه جبر لنقصان الصلاة فبالعود إليه
يكون عائدا إلى حرمة الصلاة ضرورة فلهذا يسلم
بعده.
وقال مالك، رحمه الله تعالى: أن كان سهوه عن
نقصان سجد قبل السلام لأنه جبر للنقصان ولو
كان عن زيادة سجد بعد السلام لأنه ترغيم
للشيطان إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى قال
له بين يدي الخليفة أرأيت لو زاد ونقص كيف
يصنع فتحير مالك رحمه الله تعالى.
"ومن سها عن قيام أو قعود فعليه سجود السهو"
لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قام من الثانية إلى
الثالثة ولم يقعد فسبحوا له فلم يعد وسجد
لسهوه ولأنه تارك للقعدة مقدم للقيام على وقته
وكذلك إن قعد في موضع القيام فهو زائد في
صلاته قعدة ليست منها مؤخر للقيام عن وقته
فيتمكن النقصان في فعله فلهذا سجد للسهو.
قال: "فإن سها عن قراءة التشهد في القعدة
الأولى وتكبيرات العيد أو قنوت الوتر ففي
القياس لا يسجد للسهو" لأن هذه الأذكار سنة
فبتركها لا يتمكن كثير نقصان في الصلاة كما
إذا ترك الثناء والتعوذ ولهذا كان مبنى الصلاة
على الأفعال دون الأذكار وسجود السهو عرف بفعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نقل ذلك
عنه صلى الله عليه وسلم إلا في الأفعال.
وجه الاستحسان: أن هذه السنة تضاف إلى جميع
الصلاة. يقال تكبيرات العيد وقنوت الوتر وتشهد
الصلاة فبتركها يتمكن النقصان والتغير للصلاة.
فأما ثناء الافتتاح غير
ج / 1 ص -202-
مضاف
إلى جميع الصلاة بل الافتتاح والتعوذ غير مضاف
إلى الصلاة بل هو للقراءة فبتركه لا يتمكن
النقصان والتغير في الصلاة.
قال: "وإن سها عن التكبيرات سوى تكبيرة
الافتتاح "فعليه سجود السهو عند مالك" رحمه
الله تعالى إذا سها عن ثلاث تكبيرات فعليه
سجود السهو بالقياس على تكبيرات العيد" ولكنا
نقول تكبيرة الانتقال سنة لا تضاف إلى جميع
الصلاة فبتركها لا يتمكن التغير في الصلاة
وكذلك لو سها عن تسبيحات الركوع والسجود لأنها
سنة تضاف إلى ركن منها لا إلى جميعها فكان
كالتعوذ وثناء الافتتاح.
قال: "وإن سها عن القراءة في الأوليين فعليه
سجود السهو" لأن القراءة ركن والأوليان تعينتا
لأداء هذا الركن واجبا وبترك الواجب يتمكن
النقصان في الصلاة.
قال: "وإن سها عن فاتحة الكتاب في الركعة
الأولى وبدأ بغيرها فلما قرأ بعض السورة تذكر
يعود فيقرأ بفاتحة الكتاب ثم السورة" لأن
الفاتحة سميت فاتحة الكتاب لافتتاح القراءة
بها في الصلاة فإذا تذكر في محله كان عليه
مراعاة الترتيب كما لو سها عن تكبيرات العيد
حتى اشتغل بالقراءة ثم تذكر عاد إلى التكبيرات
ثم القراءة بعدها وعليه سجدتا السهو لأن
الترتيب في القراءة واجب فبتركه يتمكن
النقصان.
قال: "وإن قرأ في الأوليين سورة ولم يقرأ
بفاتحة الكتاب لم يعد قراءة الفاتحة في
الأخريين" لأن الأخريين محل الفاتحة أداء فلا
يكون محلا لها قضاء فإنه لو قضى الفاتحة قرأها
مرتين وذلك غير مشروع في قيام واحد.
قال: "ولو قرأ الفاتحة في الأوليين ولم يقرأ
السورة قضاها في الأخريين" لحديث عمر رضي الله
تعالى عنه أنه ترك القراءة في ركعة من صلاة
المغرب فقضاها في الركعة الثالثة وجهر بها
وعثمان رضي الله تعالى عنه ترك قراءة السورة
في الأوليين من صلاة العشاء فقضاها في
الأخريين وجهر ولأن الأخريين ليستا بمحل
للسورة أداء فتكونان محلا لها قضاء. ثم قال في
الكتاب وجهر، قال البلخي أي بالسورة خاصة لأن
القضاء بصفة الأداء فأما الفاتحة فهو مؤد
فيخافت بها في الأخريين. والأصح أنه يجهر بهما
لأن القراءة في قيام واحد لا يكون بعضه جهرا
دون البعض وقد وجب عليه الجهر بالسورة فيجهر
بالفاتحة أيضا.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يخافت فيهما
لأن افتتاحه القراءة بالفاتحة والسنة المخافتة
في الأخريين فكذلك ما ينبني عليها. وعنه في
رواية أخرى أنه لا يقضى السورة في الأخريين
كما لا يقضى الفاتحة لأنها سنة فات موضعها.
وعن الحسن بن زياد رحمه الله تعالى أنه يقضى
الفاتحة في الأخريين كما يقضى السورة لأن
الفاتحة أوجب من غيرها فالقضاء فيها أولى.
ولكنا نقول الفاتحة لافتتاح القراءة بها وذلك
لا يحصل إذا قضاها في الآخريين لأنه لا يقرأ
بعدها السورة وهذا كله إذا تذكر بعد ما قيد
الركعة بالسجدة فإن تذكر
ج / 1 ص -203-
قراءة
السورة في الركوع أو بعد ما رفع رأسه منها عاد
إلى قراءة السورة وانتقض به ركوعه لأن القراءة
ركن فإذا طولها فالكل فرض فلمراعاة الترتيب
بين الفرائض ينتقض الركوع لبقاء محل القراءة
ما لم يقيد الركعة بالسجدة.
قال: "وإذا قرأ في كل ركعة من صلاته بآية
أجزأه" في قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه
الآخر قصيرة كانت أو طويلة. وفي قوله الأول
وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا
تجزئ ما لم يقرأ في كل ركعة ثلاث آيات قصار أو
آية طويلة. وفي بعض الروايات عن أبي يوسف رحمه
الله تعالى لا يجزئه أقل من ثلاث آيات، لأن
الواجب عليه قراءة المعجزة وهي السورة وأقصرها
الكوثر وهي ثلاث آيات ولأنه لا بد أن يأتي بما
يسمى به قارئا. ومن قال:
{ثُمَّ نَظَرَ}[المدثر:21]،
أو قال:
{مُدْهَامَّتَانِ}[الرحمن: 64]، لا يسمى به قارئا. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل
بقوله تعالى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20]،
والذي تيسر عليه قراءة آية واحدة فيكون ممتثلا
للأمر ولأنه يتعلق بالقراءة حكمان جواز الصلاة
وحرمة القراءة على الجنب والحائض ثم في أحد
الحكمين لا فرق بين الآية القصيرة والطويلة
فكذلك في الحكم الآخر وهو بناء على الأصل الذي
بيناه لأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الركن
يتأدي بأدنى ما يتناوله الاسم.
"وإن جهر الإمام فيما يخافت فيه أو خافت فيما
يجهر به يسجد للسهو" لأن مراعاة صفة القراءة
في كل صلاة بالجهر والمخافتة واجب على الإمام
فإذا ترك فقد تمكن النقصان والتغير في صلاته
فعليه السهو. وذكر في نوادر أبي سليمان رحمه
الله تعالى إن جهر فيما يخافت فعليه السهو قل
أو كثر ذلك وإن خافت فيما يجهر فإن كان في
أكثر الفاتحة أو في ثلاث آيات من غير الفاتحة
فعليه السهو وإلا فلا. ووجهه: أن صفة المخافتة
في صلوات النهار ألزم من صفة الجهر في صلوات
الليل ألا تري أن المنفرد في صلاة الجهر يتخير
وفي صلاة المخافتة لا يتخير فبنفس الجهر في
صلوات المخافتة يتمكن النقصان وبنفس المخافتة
في صلوات الجهر لا يتمكن النقصان ما لم يكن في
مقدار ثلاث آيات أو أكثر. وروى بن سماعة عن
محمد رحمه الله تعالى التسوية بين الفصلين أنه
إن تمكن التغير في ثلاث آيات أو أكثر فعليه
سجود السهو وإلا فلا. وروى الحسن عن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى في آية واحدة وهو بناء على ما
سبق أن عندهما لا يتأدى فرض القراءة إلا بثلاث
آيات فما لم يتمكن التغير في هذا المقدار لا
يجب سجود السهو. وعند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى يتأدى الفرض بآية واحدة فإذا تمكن
التغير في هذا القدر وجب السهو.
قال: "وإن كان منفردا فليس عليه سجود السهو
بهذا" أما في صلاة الجهر هو مخير بين الجهر
والمخافتة فلا يتمكن النقصان في صلاته جهر أو
خافت وأما في صلاة المخافتة فجهر المنفرد بقدر
إسماعه نفسه وهو غير منهى عن ذلك فلهذا لا
يلزمه السهو.
ج / 1 ص -204-
قال:
"وسهو الإمام يوجب عليه وعلى المؤتم سجدتى
السهو" لأنه شريك الإمام تبع له وقد تقرر
السبب الموجب في حق الأصل فيجب على التبع
بوجوبه على الأصل وسهو المؤتم لا يوجب شيئا
أما على الإمام فلا إشكال لأنه ليس بتبع
للمؤتم وأما على المؤتم فلأنه لو سجد كان
مخالفا لإمامه وقد قال عليه الصلاة والسلام: "فلا تختلفوا عليه".
قال: "وإذا سلم في الرابعة ساهيا بعد قعود
مقدار التشهد ولم يقرأ التشهد أو كان عليه
سجدة تلاوة أو سجدة صلاتية عاد إلى قضاء ما
عليه" لأن سلامه سلام سهو وقد بقى عليه واجب
محل أدائه قبل السلام وقد ذكرنا أن بسلام
السهو لا يصير خارجا من الصلاة ثم إن عاد إلى
سجدة التلاوة أو قراءة التشهد انتقض به القعدة
كما لو عاد إلى سجدة صلاتية لأن قراءة التشهد
واجبة محله قبل الفراغ من القعدة وكذلك سجدة
التلاوة محلها قبل القعدة فالعود إليها يرفع
القعدة كالعود ألى الصلاتية حتى لو تكلم قبل
أن يقعد بعدها فسدت صلاته لترك القعدة الأخيرة
بخلاف العود إلى سجود السهو فإنه رافع للسلام
دون القعدة لأن محله بعد الفراغ من القعدة
والسلام إلا أن ارتفاع السلام به للضرورة حتى
يكون مؤديا في حرمة الصلاة ولا ضرورة إلى
ارتفاع القعدة به حتى لو تكلم بعد ما سجد قبل
أن يقعد فصلاته تامة وإن كان قد سلم عامدا فقد
قطع صلاته بسلام العمد فإن كان ما ترك سجدة
صلاتية فعليه إعادة الصلاة لأنها ركن. وإن كان
ما ترك سجدة التلاوة أو قراءة التشهد فليس
عليه إعادة لأنها واجبة وترك الواجب يوجب
الكراهة والنقصان ولا يفسد الصلاة لأن حكم
الجواز متعلق بأداء الأركان.
وعن زفر رحمه الله تعالى التسوية بين سجدة
التلاوة والصلاتية والفرق بينهما واضح فإن
سجدة الصلاتية من موجبات التحريمة وسجدة
التلاوة ليست من موجبات التحريمة ولكنها وجبت
بعارض قراءة آية السجدة فبتركها لا تفسد
الصلاة وإنما يتمكن النقصان وليس عليه سجود
السهو كما يجب عند تمكن السهو ولا سهو إذا كان
عامدا.
قال: "وإذا شك في شيء من صلاته ثم استيقن به
فإن طال تفكره حين شك حتى شغله عن شيء من
صلاته سجد للسهو وإن بطل تفكره فليس عليه سهو"
وفي القياس هما سواء ولا سهو عليه لأنه لا
يتمكن النقصان في صلاته حين تذكر أنه أداها
على وجهها ومجرد التفكر لا يوجب عليه السهو
كما لو شك في صلاته قبل هذا ثم تذكر أنه أداها
لا سهو عليه وإن طال تفكره. وجه الاستحسان أنه
إذا طال تفكره حتى شغله عن شيء من صلاته فقد
تمكن النقصان بتأخير الركن عن أوانه بخلاف ما
إذا لم يطل تفكره ثم السهو إنما يوجب السجدة
إذا كان هذا في هذه الصلاة فإذا شك في صلاة
أخرى لم يكن سهوه في هذه الصلاة فلهذا لا سهو
عليه.
قال: "وإذا نهض من الركعتين ساهيا فلم يستتم
قائما فقعد فعليه سجود السهو" لتمكن السهولة
في صلاته. وفي ظاهر الرواية إذا لم يستتم
قائما يعود وإذا استتم قائما لا يعود لأنه
ج / 1 ص -205-
جاء في
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قام
من الثانية إلى الثالثة قبل أن يقعد فسبحوا به
فعاد وروى أنه لم يعد ولكنه سبح بهم فقاموا.
ووجه التوفيق بين الحديثين أن ما روى أنه عاد
كان قبل أن يستتم قائما وما روى أنه لم يعد
كان بعد ما استتم قائما وهذا لأنه لما استتم
قائما اشتغل بفرض القيام وليس من الحكمة ترك
الفرض للعود إلى السنة بخلاف ما قبل أن يستتم
قائما. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال
إن كان إلى العود أقرب يعود لأنه كالقاعد وإن
كان أقرب إلى القيام لا يعود كما لو استتم
قائما.
قال: "وإذا سها في صلاته مرات لا يجب عليه إلا
سجدتان" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"سجدتان
تجزئان عن كل زيادة أو نقصان". ولأن
سجود السهو إنما يؤخر إلى آخر الصلاة لكيلا
يتكرر في صلاة واحدة بتكرر السهو.
قال: "وإذا أراد أن يقرأ سورة فأخطأ وقرأ
غيرها لم يكن عليه سجود السهو" لأن ما قرأ وما
أراد أن يقرأ في حكم الصلاة سواء فلا يتمكن
النقصان في صلاته بهذا السبب وإذا سجد للسهو
قبل السلام أجزأه لأن فعله حصل في موضع
الاجتهاد ولأنا لو أمرناه بالإعادة بعد
التسليم كان ساجدا للسهو مرتين في صلاة واحدة
ولم يقل به أحد ولأن يكون فعله على وجه قال به
بعض العلماء أولى من أن يكون على وجه لم يقل
به أحد.
قال: "وإن كان شك في سجود السهو عمل بالتحري
ولم يسجد للسهو" لما بينا أن تكرار سجود السهو
في صلاة واحدة غير مشروع ولأنه لو سجد بهذا
السهو ربما يسهو فيه ثانيا وثالثا فيؤدي إلى
ما لا نهاية له. وحكي أن محمدا رحمه الله
تعالى قال للكسائي وكان بن خالته لم لا تشتغل
بالفقه مع هذا الخاطر فقال من أحكم علما فذلك
يهديه إلى سائر العلوم فقال محمد رحمه الله
تعالى إني ألقى عليك شيئا من مسائل الفقه فخرج
جوابه من النحو فقال هات فقال ما تقول فيمن
سها في سجود السهو ففكر ساعة فقال لا سهو عليه
فقال من أي باب من النحو خرجت هذا الجواب فقال
من باب إن المصغر لا يصغر فتعجب من فطنته.
قال: "وإن سلم وهو يريد أن لا يسجد لسهوه لم
يكن ذلك قطعا ويسجد" لأن أوان السجود ما بعد
السلام فلم يفته بهذا السلام شيء ونيته أن لا
يسجد حديث النفس فلا يعتد حكما كما لو نوى أنه
يتكلم في حال صلاته لم تفسد صلاته.
قال: "وإن سبقه الحدث بعد ما سلم وبعد ما سجد
سجدة واحدة للسهو توضأ وعاد فأتم" لأن حرمة
الصلاة باقية وسبق الحدث لا يمنعه من البناء
بعد الوضوء وإن كان إماما استخلف من يتم
بالقوم كما لو سبقه الحدث في خلال الصلاة.
قال: "وإذا أحدث الإمام في خلال صلاته وقد سها
فاستخلف رجلا يسجد خليفته للسهو بعد السلام"
لأنه قائم مقام الأول فعليه أن يأتي بما كان
يأتي به الأول. وإن سها خليفته فيما
ج / 1 ص -206-
يتم
أيضا كفته سجدتان كما لو كان الأول سها مرتين
لأن الثاني قائم مقامه.
قال: "وإن لم يكن الإمام الأول سها لزمه سجود
السهو لسهو الثاني" لأنه صار مقتديا بالثاني
كغيره من القوم فيلزمه السهو لسهو إمامه ألا
ترى أن الثاني لو أفسد الصلاة على نفسه فسدت
على الأول فكذلك بسهوة يتمكن النقصان في حق
الأول.
قال: "ولو سها الأول بعد الاستخلاف لا يوجب
سهوه شيئا" لأنه صار في حكم المقتدى ألا ترى
أنه لو أفسد صلاته لم تفسد به صلاة الثاني ولا
صلاة القوم؟.
قال: "ويسجد المسبوق مع الإمام سجود السهو قبل
أن يقوم إلى قضاء ما سبق به" وعن إبراهيم
النخعي رحمه الله تعالى أنه لا يسجد معه لأن
أوان سجود السهو بعد السلام وهو لا يتابعه في
السلام فكيف يتابعه فيما يؤدي بعد السلام؟
ولكنا نقول بأن سجود السهو وجب على الإمام
لعارض في صلاته فيتابعه المسبوق فيها كما
يتابعه في سجدة التلاوة ولأن أوان قيامه إلى
القضاء ما بعد فراغ الإمام فما دام الإمام
مشغولا بواجب من واجبات الصلاة مؤديا في حرمة
الصلاة لا يمكنه أن يقوم إلى القضاء فعليه
متابعة الإمام فيها وإن لم يفعل سجد في آخر
صلاته استحسانا وفي القياس لا يسجد لأن وجوب
هذه السجدة عليه في حالة الاقتداء وقد صار
منفردا فيما يقضى وكان هذا بمنزلة ما لو اشتغل
بصلاة أخرى لأن حكم صلاة المنفرد مخالف لحكم
صلاة المقتدى. ووجه الاستحسان في ذلك أنه يبنى
ما يقضي على تلك التحريمة وهو بعد القضاء
منفرد في الأفعال مقتد في التحريمة حتى لا يصح
اقتداء الغير به فلهذا يسجد لذلك السهو.
قال: "وإن سها فيما يقضى كفاه سجدتان لسهوه"
ولما عليه من قبل الإمام لأن التحريمة واحدة
فبتكرر السهو فيها لا يتكرر السجود وإن كان قد
سجد مع الإمام لسهوه سجد في آخر صلاته لأن ما
أداه مع الإمام كان بطريق المتابعة فلا ينوب
عما لزمه مقصودا بنفسه.
فإن قيل: قد تكرر عليه سجود السهو في تحريمة
واحدة.
قلنا: التحريمة واحدة صورة فأما الأفعال
مختلفة في الحكم لكونه منفردا فيما يقضى بعد
أن كان مقتديا في أصل الصلاة فنزل هذا بمنزلة
اختلاف الصلوات.
قال: "وإذا دخل المسبوق في صلاته بعد ما سلم
قبل أن يسجد سجد معه الإمام" لأن الإمام حين
عاد إلى سجود السهو صح اقتداء المقتدى به
فيتابعه فيما أدرك معه وإن لم يسجد معه قضى في
آخر صلاته استحسانا كما بينا.
قال: "وإذا دخل في صلاته بعد ما سجد سجدة
واحدة وهو في الثانية فإنه يسجدها معه" وهو لا
يقضى الأول وكذلك إذا دخل في صلاته بعد ما
سجدها لم يقضها لأن الوجوب عليه بحكم المتابعة
وإنما يتحقق ذلك فيما لم يفرغ الإمام منه قبل
اقتدائه به فأما فيما فرغ منه الإمام فلا
متابعة ولا يتقرر السبب في حقه.
ج / 1 ص -207-
قال:
"ولا يتابع المسبوق الإمام في التكبير في أيام
التشريق" بخلاف سجود السهو لأن التكبير غير
مؤدى في حرمة الصلاة حتى أن من اقتدى به في
حالة التكبير لا يصح اقتداؤه به وكذلك لا يسلم
بعد التكبير بخلاف سجود السهو لأنه مؤدي في
حرمة الصلاة حتى يسلم بعده ويصح اقتداء
المقتدى به في هذه الحالة والتكبير في هذا
كالتلبية في حق المحرم بعد فراغه من الصلاة
فكما لا يتابعه المسبوق في التلبية فكذلك في
التكبير إلا أنه إن تابعه في التكبيرات لا
تفسد صلاته لأنه من أذكار الصلاة وإن تابعه في
التلبية تفسد صلاته لأنه من جنس الكلام فإنه
إجابة للداعى والدليل عليه كاف الخطاب فيه.
قال: "وإذا ذكر سجدتين من ركعتين بدأ بالأولى
منهما" لأن القضاء معتبر بالأداء كما أن
الثانية تترتب على الأولى في الأداء فكذلك في
القضاء. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه من
ترك سجدة وصلى بعدها ركعة أو ركعتين يأتي بتلك
السجدة ويعيد ما صلى بعدها لأنه حصل قبل أوانه
وهو بناء على أصله أن زيادة ركعة أو ركعتين
كزيادة ما دون الركعة في احتمال الإلغاء، فأما
عندنا: زيادة الركعة الواحدة لا تحتمل الإلغاء
والركعة تتقيد بالسجدة الواحدة فأداء الركعة
الثانية إذا معتبر فليس عليه إلا قضاء المتروك
وترك السجود مخالف لترك الركوع لأن كل سجود لم
يسبقه ركوع لا يعتد به فإن السجود تتقيد
الركعة به وذلك لا يتحقق قبل الركوع، وكذلك
إذا كانت إحداهما لتلاوة. وقال زفر رحمه الله
يبدأ بالصلاتية لأنها أقوى، ولكنا نقول القضاء
معتبر بالأداء فإذا كانت سجدة التلاوة من
الركعة الأولى والصلاتية من الركعة الثانية
بدأ بالتلاوة لتقدم وجوبها.
قال: "وإذا سلم وانصرف ثم تذكر أن عليه سجدة
صلاتية أو سجدة تلاوة فإن كان في المسجد ولم
يتكلم عاد إلى صلاته استحسانا" وفي القياس إذا
صرف وجهه عن القبلة لم يمكنه أن يعود إلى
صلاته وهي رواية عن محمد رحمه الله تعالى فإن
صرف الوجه عن القبلة مفسد للصلاة كالكلام
فيمنعه من البناء. وجه الاستحسان هو أن المسجد
مكان الصلاة فبقاؤه فيه كبقائه في مكان
الصلاة، والدليل على أنه في حكم مكان واحد صحة
الاقتداء بالإمام لمن هو في المسجد وإن كان
بينهما فرجة صرف الوجه عن القبلة غير مفسد
للصلاة كما في حق الملتفت في الصلاة وإن كان
قد خرج من المسجد استقبل الصلاة في الصلاتية
خاصة لما بينا أنها ركن والخروج من مكان
الصلاة يمنعه من البناء. وإن كان في الصحراء
فإن تذكر قبل أن يجاوز أصحابه عاد في الصلاة
لأن بحكم اتصال الصفوف صار ذلك الموضع كالمسجد
بدليل صحة الاقتداء، ولم يذكر في الكتاب إذا
كان يمشى أمامه قيل وقته بقدر الصفوف خلفه
اعتبارا لأحد الجانبين بالآخر، والأصح أنه إذا
جاوز موضع سجوده فذلك في حكم خروجه من المسجد
يمنعه من البناء بعد ذلك.
قال: "رجل صلى الظهر خمس ركعات ولم يقعد في
الرابعة، قال: صلاته فاسدة".
ج / 1 ص -208-
وقال
الشافعي رضي الله تعالى عنه لا تفسد لما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا
ولم ينقل أنه كان قعد في الرابعة ولا أنه أعاد
صلاته وهو بناء على الأصل الذي بينا أن الركعة
الكاملة في احتمال النقص وما دونها سواء فكما
أنه لو تذكر قبل أن يقيد الخامسة بالسجدة تمكن
من إصلاح صلاته بالعود إلى القعود فكذلك بعد
ما قيدها بالسجدة. ولنا أنه اشتغل بالنفل قبل
إكمال الفريضة ولأن القعدة من أركان الصلاة
والركعة الخامسة نفل لا محالة لأن الظهر لا
يكون أكثر من أربع ركعات ومن ضرورة استحكام
شروعه في النفل خروجه عن الفرض والخروج من
الفرض قبل إكماله مفسد للفرض بخلاف ما قبل
تقيد الركعة بالسجدة لأن ما دون الركعة ليس
لها حكم الصلاة حتى أن من حلف أن لا يصلي لم
يحنث بما دون الركعة فلم يستحكم شروعه في
النفل بما دون الركعة. والحديث تأويله أنه كان
قعد قدر التشهد في الرابعة بدليل أنه قال صلى
الظهر والظهر اسم لجميع أركان الصلاة ومنها
القعدة وهو الظاهر فإنما قام إلى الخامسة على
تقدير أنها هي القعدة الأولى حملا لفعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم على ما هو أقرب إلى
الصواب. قال "وأحب إلي أن يشفع الخامسة بركعة
ثم يسلم ثم يستقبل الظهر" وهو قول أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله تعالى. فأما عند محمد
رحمه الله تعالى فبالفساد يصير خارجا من
الصلاة لأن للصلاة عنده جهة واحدة ولأن ترك
القعدة في التطوع في كل شفع عنده مفسد للصلاة.
فأما عندهما تفسد الفريضة ويبقى أصل الصلاة
تطوعا فيشفعها بركعة واحدة لأن ترك القعدة
عقيب كل شفع عندهما غير مفسد للتطوع وإن كان
قعد في الرابعة قدر التشهد فقد تمت الظهر
والخامسة تطوع لأن قيامه إلى النافلة كان بعد
إكمال الفرض فلا يفسد به الفرض ويشفع الخامسة
بركعة فيكون متطوعا بركعتين وإن لم يفعل فلا
شيء عليه. وقال زفر رحمه الله تعالى عليه قضاء
ركعتين وهو بناء على ما إذا شرع في صوم أو في
صلاة على ظن أنه عليه لأن شروعه ها هنا في
الخامسة على ظن أنها عليه والأولى أن يشفعها
بركعة لأن ما دون الركعة لا يكون صلاة تامة
كما قال بن مسعود رضي الله تعالى عنه: والله
ما أخرت ركعة قط، وإذا شفعها بركعة فعليه أن
يسجد للسهو استحسانا وفي القياس لا سهو عليه
لأن تمكن السهو كان في الفرض وقد أدى بعدها
صلاة أخرى. وفي الاستحسان إنما بنى النفل على
التحريمة التي يمكن فيها السهو فيأتي بسجود
السهو لبقاء التحريمة وهو قياس المسبوق الذي
قدمناه. والاصح أن هاتين الركعتين لا تنوبان
عن السنة التي بعد الظهر لأن شروعه كان لا عن
قصد ولهذا لم يلزمه والسنة ما شرع فيه عن قصد
الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
واظب عليه.
قال: "رجل افتتح الصلاة فقرأ وركع ولم يسجد ثم
قام فقرأ وسجد ولم يركع فهذا قد صلى ركعة" لأن
ركوعه الأول توقف على أن يتقيد بالسجدة
والقيام والقراءة بعده غير
ج / 1 ص -209-
معتد
به. فحين سجد تقيد ركوعه به فكان مصليا ركعة
واحدة وكذلك إن ركع أولا ثم قرأ وركع وسجد
فإنما صلى ركعة لأن ركوعه الأول حصل في أوانه
والثاني وقع مكررا فلا يعتد به فبسجوده يتقيد
الركوع الأول وكذلك إن قرأ أولا وسجد سجدتين
ولم يركع ثم قام فقرأ وركع ولم يسجد ثم قام
فقرأ وسجد ولم يركع فإنما صلى ركعة لأن سجوده
الأول حصل قبل أوانه فلا يعتد به فحين قرأ
وركع توقف هذا الركوع على التقيد بسجود بعده
فحين سجد بعد القراءة تقيد به ذلك الركوع فكان
مصليا ركعة. وكذلك إن ركع في الأولى ولم يسجد
وركع في الثانية ولم يسجد وسجد في الثالثة ولم
يركع فإنما صلى ركعة واحدة لأن الركوع الأول
توقف على السجود فحين سجد في الثالثة تقيد بها
الركوع الأول فصار مصليا ركعة وعليه سجود
السهو لتمكن السهو له بما زاد ولا تفسد صلاته
إلا في رواية عن محمد رحمه الله تعالى فإنه
يقول زيادة السجدة الواحدة كزيادة الركعة بناء
على أصله أن السجدة الواحدة قربة بيانه في
سجود الشكر. فأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى السجدة الواحدة ليست بقربة
إلا سجدة التلاوة وزيادة ما دون الركعة لا
يكون مفسدا للصلاة.
قال: "وإذا سها المصلى فسجد في ركعة واحدة
ثلاث سجدات أو ركع ركوعين لم تفسد صلاته" لما
بينا أنه إنما زاد ما دون الركعة.
قال: "وإذا سها الإمام ثم أحدث فاستخلف مسبوقا
فأتم المسبوق بقية صلاة الإمام تأخر من غير أن
يسلم" لأن عليه القضاء لما فاته فكان عاجزا عن
التسليم وأوان سجود السهو ما بعد التسليم
فقلنا يتأخر ويقدم مدركا يسلم بهم ويسجد سجدتي
السهو وسجد هو معهم كما لو كان الإمام الأول
هو الذي يسجد لسهوه ثم يقوم إلى قضاء ما سبق
به وحده وإن لم يسجد مع خليفته سجد للسهو في
آخر صلاته استحسانا وقد بينا هذا في حق الإمام
الأول فكذلك هنا.
قال: "وكذلك المقيم خلف المسافر يتابعه في
سجود السهو" ثم يقوم إلى إتمام صلاته وإن سها
فيما يقضى سجد أيضا. وهذه ثلاث فصول:
أحدها: في المسبوق وقد بيناه.
والثاني: في اللاحق إذا نام
خلف الإمام أو أحدث فذهب وتوضأ ثم جاء فإنه
يبدأ بإتمام صلاته أولا ولا يتابع الإمام في
سجود السهو قبل إتمام صلاته لأن اللاحق في حكم
المقتدى فيما يتم وسهو المقتدى متعطل ولهذا لا
يقرأ فيما يتم والمسبوق يقضى كالمنفرد ولهذا
تلزمه القراءة فيلزمه سجود السهو أيضا ولا
يقوم إلى القضاء إلا بعد إتمام خروج الإمام من
صلاته وذلك بعد سجود السهو.
والثالث: في المقيم خلف
المسافر إذا قام إلى إتمام صلاته لم تلزمه
القراءة فيما يتم
ج / 1 ص -210-
رواية
واحدة لأن فرض القراءة في الأوليين وقراءة
الإمام فيهما تكون قراءة له فأما في حكم السهو
ففي الكتاب جعله كالمسبوق فقال يتابع الإمام
في سجود السهو وإذا سها فيما يتم فعليه سجود
السهو أيضا لأنه في الإتمام غير مقتد وكيف
يكون مقتديا فيما ليس على إمامه والإمام لو
أتم صلاته أربعا كان متنفلا في الأخريين ولو
جعلناه مقتديا فيهما كان كاقتداء المفترض
بالمتنفل. وذكر الكرخي رحمه الله تعالى في
مختصره أنه كاللاحق لا يتابع الإمام في سجود
السهو وإذا سها فيما يتم لم يلزمه سجود السهو
لأنه مدرك لأول الصلاة فكان في حكم المقتدى
فيما يؤديه بتلك التحريمة كاللاحق.
قال: "وإن سجد اللاحق مع الإمام للسهو لم
يجزه" لأنه سجد قبل أوانه في حقه فعليه أن
يعيد إذا فرغ من قضاء ما عليه ولكن لا تفسد
صلاته لأنه ما زاد إلا سجدتين.
فإن قيل: أليس أن المسبوق لو تابع الإمام في
سجود السهو تبين أنه لم يكن على الإمام سهو
فصلاة المسبوق فاسدة وما زاد إلا سجدتين؟.
قلنا فساد صلاته ليس للزيادة بل لأنه اقتدى في
موضع كان عليه الانفراد في ذلك الموضع ومثله
غير موجود ها هنا فاللاحق مقتد في جميع ما
يؤدي، فلهذا لم تفسد صلاته.
قال: "ولو كان الإمام لم يقرأ في الأوليين ثم
اقتدى به إنسان في الأخريين فقرأ الإمام فيهما
ثم قام المسبوق إلى قضاء ما سبق به فعليه
القراءة وإن ترك ذلك لم تجزئه صلاته" لأن
الإمام قضى في الأخريين ما فاته من القراءة في
الأوليين والفائت إذا قضى التحق بمحله فكأنه
قرأ في الأوليين ما فاته من القراءة فلهذا يجب
على المسبوق القراءة أيضا بخلاف المقيم خلف
المسافر فإن القراءة من الإمام في الأوليين
كانت أداء والمقيم شريكه فيهما وكذلك إذا كان
المسبوق قرأ خلف الإمام فيما صلى معه فعليه
القراءة فيما يقضى لأن قراءته فيما هو مقتد
فيه مكروهة غير معتد بها فلا يتأدى بها فرض
القراءة في حقه.
قال: "وإذا قام المسبوق إلى قضاء ما عليه بعد
ما تشهد الإمام قبل أن يسلم فقضاه أجزأه" لأن
قيامه حصل بعد فراغ الإمام من أركان الصلاة
ولكنه مسيء في ترك الانتظار لسلام الإمام فإن
أوان قيامه للقضاء ما بعد خروج الإمام من
الصلاة فإن قام إليه وقضى قبل أن يقعد الإمام
قدر التشهد لم يجزه لأن قيامه كان قبل أوانه
فإن الإمام لم يفرغ من أركان الصلاة بعد لأن
القعدة من أركانها. ثم فسر هذه المسألة في
نوادر أبي سليمان فقال إن كان مسبوقا بركعة أو
بركعتين فإن قرأ بعد فراغ الإمام من التشهد
مقدار ما يتأدى به فرض القراءة جازت صلاته
وإلا فلا لأن قيامه وقراءته غير معتد بهما ما
لم يفرغ الإمام من التشهد. ويجعل هو في الحكم
كالقاعد معه لأن ذلك مستحق عليه فإنما تعتبر
قراءته بعد فراغ الإمام من التشهد وإن كان
مسبوقا بثلاث ركعات فإن لم يركع حتى فرغ
الإمام من التشهد ثم ركع وقرأ في الركعتين بعد
هذه جازت صلاته وإن كان ركع قبل فراغ الإمام
من التشهد لم تجزه صلاته لأن القيام فرض في كل
ركعة فلا يعتد بقيامه ما لم يفرغ الإمام من
التشهد.
ج / 1 ص -211-
ففرض
القراءة هو الركعتان فإذا فرغ الإمام من
التشهد قبل أن يركع هو فقد وجد القيام في هذه
الركعة والقراءة في الركعتين بعده فتجوز صلاته
وإن كان ركع قبل فراغ الإمام من التشهد فلم
يوجد منه قيام معتد به في هذه الركعة فلهذا
فسدت صلاته وإن كان قام بعد ما تشهد الإمام
وعليه سجود السهو فقرأ وركع فإنه يرفض ذلك
ويخر فيسجد مع الإمام لأنه لم يستحكم انفراده
بأداء ما دون الركعة فعليه أن يعود إلى متابعة
الإمام ثم يقوم للقضاء ولا يعتد بما كان يصنع
لأنه صار رافضا لها بالعود إلى المتابعة فإن
لم يعد إلى المتابعة جازت صلاته ويسجد للسهو
في آخر صلاته استحسانا.
قال: "وإن كان ركع وسجد ثم عاد الإمام إلى
سجود السهو، لم يعد إلى متابعته" لأنه قد
استحكم انفراده بأداء ركعة كاملة وإن عاد إلى
متابعته فسدت صلاته لأنه اقتدى في موضع كان
عليه الانفراد في ذلك الموضع. وهذه ثلاث فصول:
أحدها: في السهو وقد بيناه.
والثاني: في الصلاتية إذا
تذكر الإمام سجدة صلاتية بعد ما قام المسبوق
إلى القضاء فإن لم يكن قيد الركعة بالسجدة عاد
إلى متابعة الإمام فيها وسجد وإن لم يفعل
فصلاته فاسدة وإن كان قيد ركعته بالسجدة
فصلاته فاسدة عاد إلى المتابعة أو لم يعد لأن
الصلاتية من أركان الصلاة ألا ترى أن الإمام
لو لم يأت بها كانت صلاته فاسدة فكذلك إذا لم
يتابعه المسبوق بها وبعد إكمال الركعة هو عاجز
عن المتابعة.
والثالث: إذا تذكر الإمام
سجدة التلاوة فإن كان المسبوق لم يقيد ركعته
بالسجدة فعليه أن يعود إلى متابعة الإمام وإن
لم يفعل فصلاته فاسدة لأن عود الإمام إلى سجدة
التلاوة يرفع القعدة بدليل أنه لو لم يقعد
بعدها لم تجز صلاته والقعدة من أركانها
كالصلاتية وإن كان المسبوق قيد ركعته بالسجدة
قبل أن يعود الإمام إلى سجدة التلاوة ثم عاد
الإمام فإن تابعه المسبوق فصلاته فاسدة رواية
واحدة، وإن لم يتابعه ففيه روايتان قال في
الأصل صلاته فاسدة أيضا لأن عود الإمام إلى
سجدة التلاوة ينقض القعدة وهو والصلاتية سواء.
وفي نوادر أبي سليمان لا تفسد صلاته لأنه لو
ترك تلك القعدة جازت صلاته بخلاف الصلاتية.
وفقه هذا أن قعوده كان معتدا به وإنما انتقض
في حقه بالعود إلى سجدة التلاوة وذلك بعد ما
استحكم انفراد المسبوق عنه فلا يتعدى حكمه ألا
ترى أن إماما لو صلى بقوم ثم ارتد بطلت صلاته
ولا تبطل صلاة القوم وكذلك لو صلى الظهر بقوم
يوم الجمعة ثم راح إلى الجمعة فأدركها انقلب
المؤدي في حقه تطوعا وبقى فرضا في حق القوم.
قال: "وإذا اقتدى أحد المسبوقين بالآخر فيما
يقضيان فسدت صلاة المؤتم" لأنه اقتدى في موضع
كان عليه الانفراد ولأنه كان مقتديا بالإمام
الأول في بعض صلاته والآخر ليس بخليفة الأول
وكان هذا أداء صلاة بإمامين وذلك لا يجوز لما
بينا. وكذلك المقيمان خلف
ج / 1 ص -212-
المسافر إذا قاما إلى إتمام صلاتهما فاقتدى
أحدهما بالآخر فصلاة المقتدى فاسدة لما بينا.
قال: "وإذا اقتدى مصلى التطوع بمصلى الظهر في
القعدة الأخيرة فعليه قضاء أربع ركعات" وكذلك
لو اقتدى به في أول الصلاة ثم قطعها لأنه صار
بالاقتداء ملتزما صلاة الإمام وصلاة الإمام
أربع ركعات.
قال: "وإذا افتتح الظهر وهو ينوى أن يصليها
ستا ثم بدا له فسلم على الأربع تمت صلاته،
وليس عليه شيء لأنه أساء فيما نوى ثم ندم
والندم توبة ومجرد النية لا يوجب شيئا ما لم
يشرع وإنما حصل شروعه في الظهر والظهر لا يكون
أكثر من أربع ركعات وقد أداها. "وكذلك لو
افتتحها المسافر ينوى أن يصليها أربعا ثم بدا
له فصلى ركعتين فصلاته تامة" لأن الظهر في حق
المسافر ركعتان كالفجر في حق المقيم فنية
الزيادة على ذلك لغو وكذلك لو نوى أن يقطعها
بكلام أو غيره فتلك النية ساقطة ما لم يعمل
بها لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا أو يعملوا".
قال: "وإذا لم يقرأ في ركعة من التطوع أو في
ركعة من الفجر فسدت صلاته" لأن فرض القراءة في
الركعتين والقراءة في الركعة الواحدة وإن طالت
لا تنوب عن القراءة في الركعتين ولا يمكنه أن
يصلي بعد الركعة ركعتين لأن الفجر لا يكون
ثلاث ركعات فلهذا تعين جهة الفساد في صلاته.
قال: "وإذا توهم مصلى الظهر أنه قد أتمها فسلم
ثم علم أنه صلى ركعتين وهو على مكانه فإنه
يتمها ثم يسجد للسهو" لأن سلامه كان سهوا فلم
يصر به خارجا من الصلاة وهذا بخلاف ما إذا ظن
أنه مسافر أو أنه يصلى الجمعة فسلم على رأس
الركعتين فصلاته فاسدة لأنه علم بالقدر الذي
أدى فسلامه سلام عمد وذلك قاطع لصلاته وظنه
ليس بشيء فأما إذا كان عنده أن هذه هي القعدة
الأخيرة فسلامه سلام سهو فلم تفسد به صلاته.
قال: "وإذا لم يسلم ولكنه نوى القطع لصلاته
والدخول في صلاة أخرى تطوعا وهو ساه وقد كبر
ثم ذكر ذلك فإنه يمضى على التطوع ثم يعيد
الظهر" لأن تكبيره بنية التطوع قطع لما كان
فيه وشروع في التطوع فيتم ما شرع فيه ثم يعيد
ما كان قطعه قبل إتمامه.
قال: "وإذا سها الإمام في صلاة الخوف سجد
للسهو وتابعه فيهما الطائفة الثانية فأما
الطائفة الأولى فإنما يسجدون إذا فرغوا من
الإتمام" لأن الطائفة الثانية بمنزلة
المسبوقين لم يدركوا مع الإمام أول الصلاة
والطائفة الأولى بمنزلة اللاحقين قد أدركوا مع
الإمام أول الصلاة.
قال: "رجل افتتح الصلاة فقرأ ثم شك في تكبيرة
الافتتاح وأعاد التكبير والقراءة ثم علم أنه
كان كبر فعليه سجود السهو" لأن زاد على
التكبيرة والقراءة ساهيا وكذلك إن كان ركع قبل
أن يشك بنى على ذلك الركوع وليس تكبير الثاني
يقطع الصلاة لأنه نوى عندها إيجاد الموجود
ونية الإيجاد فيما هو موجود لغو بقى مجرد
التكبير وهو ليس يقطع الصلاة.
ج / 1 ص -213-
وإن
كان في الظهر فتوهم أنه في العصر وصلى في ذلك
ركعة أو ركعتين فلا سهو عليه لأنه ما عين شيئا
من أفعال الصلاة وتعين النية كأصلها شرط
افتتاح الصلاة لا شرط البقاء فإن تفكر في ذلك
تفكرا شغله عن ركن فعليه سجود السهو وقد بينا.
قال: "وإذا قعد المصلي في آخر صلاته قدر
التشهد ثم شك في شيء من صلاته حتى شغله ذلك عن
التسليم ثم ذكر أنه في الصلاة فسلم فعليه سجود
السهو" لتأخيره السلام ولهذا قلنا أوان سجود
السهو ما بعد السلام لأن بعد الفراغ من التشهد
قبل السلام أوان وجوب سجود السهو فيؤخر الإداء
عنه كما قبل القعدة وإن عرض له ذلك بعد ما سلم
تسليمة واحدة فلا سهو عليه لأنه بالتسليمة
الواحدة صار خارجا من الصلاة والثانية لتعميم
القوم بها فلم يتمكن له سهو في صلاته.
قال: "وإذا أحدث في صلاته فذهب فتوضأ فعرض له
هذا الشك حتى شغله عن وضوئه ساعة فعليه سجدتا
السهو" لأن حرمة الصلاة باقية بعد الحدث فإنما
تمكن له هذا السهو في صلاته.
قال: "وإذا صلى ركعتين تطوعا وسها فيهما فسجد
لسهوه بعد التسليم ثم أراد أن يبنى عليهما
ركعتين لم يكن له ذلك" لأنه لو فعل كان سجوده
للسهو في وسط الصلاة وذلك غير مشروع بخلاف
المسافر إذا صلى الظهر ركعتين وسجد للسهو ثم
نوى الإقامة فإنه يقوم لإتمام صلاته لأن هناك
إن حصل سجود السهو في خلال الصلاة فذلك لمعنى
شرعي لا يفعل مباشرة باختياره. وحقيقة الفرق
أن السلام محلل ثم بالعود إلى سجود السهو تعود
حرمة الصلاة للضرورة وهذه الضرورة فيما يرجع
إلى إكمال تلك الصلاة لا في صلاة أخرى ونية
الإقامة عملها في وجوب إكمال تلك الصلاة فيظهر
عود الحرمة في حقها فأما كل شفع من التطوع
صلاة على حدة ولم تعد الحرمة في حق صلاة أخرى
فلهذا لا يمكنه أن يبنى عليها ركعتين.
قال: "رجل صلى العشاء فسها فيها فقرأ آية
التلاوة ولم يسجدها وترك سجدة من ركعة ساهيا
ثم سلم فإن كان ناسيا للكل لم تفسد صلاته" لأن
هذا سلام السهو. "وإن كان ذاكرا للصلاتية حين
سلم فصلاته فاسدة" لأنه سلام عمد. "وإن كان
ذاكرا لسجدة التلاوة ناسيا للصلاتية فصلاته
فاسدة" أيضا وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى أنه لا تفسد صلاته، ووجهه أن
سجدة التلاوة من الواجبات دون الأركان فسلامه
فيما هو ركن سلام سهو وذلك لا يفسد الصلاة.
ووجه ظاهر الرواية أنه سلم وهو ذاكر لواجب
يؤدى قبل السلام فكان سلامه قطعا لصلاته وإنما
قطعها قبل إتمام أركانها ولأنا لو لم تفسد
صلاته حتى يأتي بالصلاتية لزمنا أن نقول يأتي
بسجدة التلاوة أيضا لبقاء التحريمة ولا وجه
إلى
ج / 1 ص -214-
ذلك،
فقد سلم وهو ذاكر للتلاوة فكان قطعا في حقه.
وقراءة التشهد الأخير في هذا الحكم كسجدة
التلاوة لأنه واجب ليس بركن.
قال: "وإذا قرأ الرجل في الصلاة شيئا من
التوراة والأنجيل والزبور وهو يحسن القرآن أو
لا يحسنه لم تجزئه" لأنه كلام ليس بقرآن ولا
تسبيح ومعنى هذا أن قد ثبت لنا أنهم قد حرفوا
وبدلوا فلعل ما قرأ مما حرفوه وهذا كلام الناس
ولأن النقل المتواتر الذي لا يثبت كلام الله
إلا به غير موجود فيما هو في أيديهم الآن
والواجب عليه بالنص قراءة القرآن وهذا ليس
بقرآن فلا يقطع القول بأن ما قرأ كلام الله
تعالى فلهذا فسدت صلاته. وقيل: هذا إذا لم يكن
موافقا لما في القرآن وأما إذا كان ما قرأ
موافقا لما في القرآن تجوز به الصلاة عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لأنه تجوز قراءة القرآن
بالفارسية وغيرها من الألسنة فيجعل كأنه قرأ
القرآن بالسريانية والعبرانية فتجوز الصلاة
عنده لهذا.
قال: "وإن نسي القنوت في الوتر ثم ذكر بعد ما
رفع رأسه من الركوع لم يقنت" لأنه سنة فاتت عن
موضعها فإن أوان القنوت قبل الركوع وما كان
سنة في محله يكون بدعة في غير محله ولأنه لو
قنت لكان بعد الركوع والفرض لا ينتقض بالسنة
وبه فارق قراءة السورة لأن القراءة ركن وإذا
قرأ السورة كان مفترضا فيما يقرأ فينتقض به
الركوع.
قال: وإذا تذكر القنوت وهو راكع ففيه روايتان:
في إحداهما يعود لأن حالة الركوع كحالة القيام
ولهذا لو أدرك الإمام فيها كان مدركا للركعة
ولهذا يعود لتكبيرات العيد إذا ذكرها في
الركوع فكذلك للقنوت.
وفي الرواية الأخرى لا يعود للقنوت لأن الركوع
فرض ولا يترك الفرض بعد ما اشتغل به للعود إلى
السنة كما لو قام إلى الثالثة قبل أن يقعد
بخلاف تكبيرات العيد فإنها لم تسقط فالركوع
محل لها حتى إذا أدرك الإمام في الركوع يأتى
بها فلهذا يعود لأجلها فأما القنوت فقد سقط
بالركوع لأنه ليس بمحل له فالقنوت مشبه
بالقراءة وحالة الركوع ليس بحالة القراءة فبعد
ما سقط لا يعود لأجله وعليه سجدة السهو على كل
حال عاد أو لم يعد قنت أو لم يقنت لتمكن
النقصان في صلاته لسهوه.
قال: "ولو صلى ركعتين تطوعا فسها فيهما وتشهد
ثم قام فصلى ركعتين فعليه أن يسجد لسهوه في
الأوليين" لأن الشفع الثاني مبني على التحريمة
التي تمكن فيها السهو فلا يمنعه من أداء سجود
السهو والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب صلاة المسافر
قال رضي الله تعالى عنه: "وأقل ما يقصر فيه
الصلاة في السفر إذا قصد مسيرة ثلاثة أيام"
وفسره في الجامع الصغير بمشي الأقدام وسير
الإبل فهو الوسط لأن أعجل السير سير البريد
وأبطأ السير سير العجلة وخير الأمور أوسطها
وهذا مذهب ابن عباس رضي الله تعالى
ج / 1 ص -215-
عنهما
وإحدى الروايتين عن بن عمر رضي الله تعالى
عنهما وعنه في رواية أخرى التقدير بيوم وليلة
وهو قول الزهري والأوزاعي رحمهما الله تعالى.
وقال مالك رحمه الله تعالى أربعة برد كل بريد
اثنا عشر ميلا واستدل بحديث مجاهد وعطاء أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة فيما دون مكة إلى عسفان وذلك أربعة برد". وقال
الشافعي رضي الله تعالى عنه في قول التقدير
بيوم وليلة، وفي قول التقدير بستة وأربعين
ميلا لحديث مجاهد رضي الله تعالى عنه قال سألت
بن عمر رضي الله تعالى عنه عن أدنى مدة السفر
فقال أتعرف السويداء فقلت قد سمعت بها فقال
كنا إذا خرجنا إليها قصرنا ومن السويداء إلى
المدينة ستة وأربعون ميلا، وقال نفاة القياس:
لا تقدير لأدنى مدة السفر لظاهر قوله تعالى:
{وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ}[النساء: 101] الآية. فإثبات التقدير يكون زيادة، ولكنا نقول: ثبت
بالنص أن المراد السفر وقد قال في آية أخرى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ}[البقرة: 184] والخارج إلى حانوت أو إلى ضيعة لا يسمى مسافرا فلا بد
من إثبات التقدير لتحقيق اسم السفر وإنما
قدرنا بثلاثة أيام لحديثين:
أحدهما: قوله صلى الله عليه
وسلم:
"لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا
ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها"، معناه ثلاثة أيام وكلمة فوق صلة كما في قوله تعالى:
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}[الأنفال: 12]، وهي لا تمنع من الخروج لغيره بدون المحرم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "يمسح المقيم يوما
وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها"، فهو
تنصيص على أن مدة السفر لا تنقص عما يمكن
استيفاء هذه الرخصة فيها، والمعنى فيه: أن
التخفيف بسبب الرخصة لما فيه من الحرج والمشقة
ومعنى الحرج والمشقة أن يحتاج إلى أن يحمل
رحله من غير أهله ويحطه في غير أهله وذلك لا
يتحقق فيما دون الثلاثة لأن في اليوم الأول
يحمل رحله من غير أهله وفي اليوم الثاني إذا
كان مقصده يحطه في أهله وإذا كان التقدير
بثلاثة أيام ففي اليوم الثاني يحمل رحله من
غير أهله ويحطه في غير أهله فيتحقق معنى الحرج
فلهذا قدرنا بثلاثة أيام ولياليها ولهذا قدر
بعض أصحابنا بثلاث مراحل لأن المعتاد من السفر
في كل يوم مرحلة واحدة خصوصا في أقصر أيام
السنة. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قدر
بيومين والأكثر من اليوم الثالث فأقام الأكثر
من اليوم الثالث مقام الكمال وهكذا رواه الحسن
عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبن سماعة عن
محمد رحمهما الله تعالى لأنه إذا بكر واستعجل
في اليوم الثالث وصل إلى المقصد قبل غروب
الشمس فأقمنا الأكثر من اليوم الثالث مقام
الكمال.
ولا معنى للتقدير بالفراسخ، فإن ذلك يختلف
باختلاف الطرق في السهول والجبال والبحر والبر
وإنما التقدير بالأيام والمراحل وذلك معلوم
عند الناس فيرجع إليهم عند الاشتباه فإذا قصد
مسيرة ثلاثة أيام قصر الصلاة حين تخلف عمران
المصر لأنه ما دام في
ج / 1 ص -216-
المصر
فهو ناوي السفر لا مسافر فإذا جاوز عمران
المصر صار مسافرا لاقتران النية بعمل السفر
والأصل فيه حديث علي رضي الله تعالى عنه حين
خرج من البصرة يريد الكوفة صلى الظهر أربعا ثم
نظر إلى خص أمامه فقال لو جاوزنا ذلك الخص
صلينا ركعتين.
قال: "وأقل مدة الإقامة خمسة عشر يوما" وهو
قول ابن عمر. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه
أربعة أيام وهو قول عثمان رضي الله تعالى عنه
فإنه كان يقول من أقام أربعا صلى أربعا، ولم
يأخذ به لحديث جابر رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة صبيحة
الرابع من ذي الحجة وخرج منها إلى منى في
الثامن من ذي الحجة وكان يقصر الصلاة حتى قال
بعرفات: "يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر".
وإنما قدرنا بخمسة عشر يوما لأن التقدير إنما
يكون بالأيام أو بالشهور والمسافر لا يجد بدا
من المقام في المنازل أياما للاستراحة أو لطلب
الرفقة فقدرنا أدنى مدة الإقامة بالشهور وذلك
نصف شهر ولأن مدة الإقامة في معنى مدة الطهر
لأنه يعيد ما سقط من الصوم والصلاة فكما يتقدر
"أدنى مدة الإقامة في معنى الطهر بخمسة عشر
يوما" فكذلك أدنى مدة الإقامة ولهذا قدرنا
أدنى مدة السفر بثلاثة أيام اعتبارا بأدنى مدة
الحيض. واستدل الشافعي رضي الله تعالى عنه بما
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص
للمهاجرين بالمقام بمكة بعد قضاء المناسك
ثلاثة أيام فهو دليل على أن بالزيادة على ذلك
يثبت حكم الإقامة، ولكنا نقول: إنما قدرنا
بهذا لأنه علم أن حوائجهم كانت ترتفع في هذه
المدة لا لتقدير أدنى مدة الإقامة.
قال: "وإذا قدم الكوفي مكة وهو ينوى أن يقيم
فيها وبمنى خمسة عشر يوما فهو مسافر" لأن نية
الإقامة ما يكون في موضع واحد فإن الإقامة ضد
السفر والانتقال من أرض إلى أرض يكون ضربا في
الأرض ولو جوزنا نية الإقامة في موضعين جوزنا
فيما زاد على ذلك فيؤدي إلى القول بأن السفر
لا يتحقق لأنك إذا جمعت إقامة المسافر المراحل
ربما يزيد ذلك على خمسة عشر يوما وهذا إذا نوى
الإقامة في موضعين بمكة ومنى والكوفة والحيرة
فإن كان عزم على أن يقيم بالليالي في أحد
الموضعين ويخرج بالنهار إلى الموضع الآخر فإن
دخل أولا الموضع الذي عزم على المقام فيه
بالنهار لا يصير مقيما وإن دخل الموضع الذي
عزم على الإقامة فيه بالليالي يصير مقيما ثم
بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافرا لأن
موضع إقامة الرجل حيث يثبت فيه ألا ترى أنك
إذا قلت للسوقي أين تسكن يقول في محلة كذا وهو
بالنهار يكون في السوق.
وكان سبب تفقه عيسى بن أبان هذه المسألة فإنه
كان مشغولا بطلب الحديث قال فدخلت مكة في أول
العشر من ذي الحجة مع صاحب لي وعزمت على
الإقامة شهرا فجعلت أتم الصلاة فلقيني بعض
أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى فقال أخطأت
فإنك تخرج إلى منى وعرفات فلما رجعت من منى
بدا لصاحبي أن يخرج، وعزمت أن
ج / 1 ص -217-
أصاحبه
فجعلت أقصر الصلاة فقال لي صاحب أبي حنيفة
أخطأت فإنك مقيم بمكة فما لم تخرج منها لا
تكون مسافرا فقلت أخطأت في مسألة في موضعين
ولم ينفعني ما جمعت من الأخبار فدخلت مجلس
محمد رحمه الله تعالى واشتغلت بالفقه.
قال: "فإن لم يعزم على الإقامة مدة معلومة
ولكنه مكث أياما في المصر وهو على عزم الخروج
لا يصير مقيما عندنا وإن طال مكثه" وقال
الشافعي رضي الله تعالى عنه إذا زاد على ثمان
عشرة ليلة أتم الصلاة لأن النبي صلى الله عليه
وسلم أقام بمكة بعد الفتح ثمان عشرة ليلة وكان
يقصر الصلاة والقياس أن السفر ينعدم بالمقام
لأنه ضده تركناه في هذه المدة للنص فبقى ما
رواه على أصل القياس.
ولنا: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم:
أنه أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة وبن
عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وأنس
أقام بنيسابور شهرا يقصر الصلاة وعلقمة بن قيس
أقام بخوارزم سنين يقصر الصلاة ولأنه لو خرج
خلف غريم له لم يصر مسافرا ما لم ينو أدنى مدة
السفر وإن طاف جميع الدنيا فكذلك لا يصير
مقيما ما لم ينو المكث أدنى مدة الإقامة وإن
طال مقامه اتفاقا.
قال: "وإن خرج من مصره مسافرا بعد ما دخل وقت
الصلاة صلى صلاة المسافر عندنا" وقال بن شجاع
رحمه الله تعالى يصلى صلاة المقيم. وقال
الشافعي رضي الله تعالى عنه إذا مضى من الوقت
مقدار ما يصلى فيه أربع ركعات ثم خرج مسافرا
صلى أربعا وهو بناء على أن وجوب الصلاة عندهما
بأول الوقت فإذا كان مقيما في أول الوقت وجب
عليه صلاة المقيمين فلا يسقط ذلك بالسفر.
وعندنا الوجوب يتعلق بآخر الوقت لأنه مخير في
أول الوقت بين الأداء والتأخير والوجوب ينفي
التخير والتخير ينفي الوجوب ولو مات في الوقت
لقى الله تعالى ولا شيء عليه فدل أن الوجوب
يتعلق بأخر الوقت، فإذا كان مسافرا في آخر
الوقت كان عليه صلاة السفر.
وقال زفر رحمه الله تعالى: إذا خرج مسافرا وقد
بقي من الوقت مقدار ما يمكنه أن يصلي فيه يصلي
صلاة السفر وإن كان الباقي من الوقت ما دون
ذلك صلي صلاة المقيم لأن التأخير لا يسعه إلى
وقت لا يتمكن فيه من أداء الصلاة في الوقت،
ولكنا نقول: جزء من الوقت بمنزلة جميعه ألا
ترى أن إدراك جزء من الوقت وإن قل سبب لوجوب
الصلاة فوجود السفر في ذلك الجزء كوجوده في
جميع الوقت، والدليل عليه أن الصلاة لا تصير
دينا في ذمته إلا بخروج الوقت فإذا صار مسافرا
قبل أن يصير دينا في ذمته صلى صلاة المسافرين
فإذا صارت دينا في ذمته بخروج الوقت قبل أن
يصير مسافرا لا يتغير ذلك بالسفر ويعتبر جانب
السفر بجانب الإقامة فإنه لو دخل مصره قبل
فوات الوقت صلى صلاة المقيمين، وإن كان الباقي
من
ج / 1 ص -218-
الوقت
شيئا يسيرا فكذلك في جانب السفر ولا يحتاج إلى
نية الإقامة إذا دخل مصره لأن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يخرج مسافرا إلى الغزوات ثم
يعود إلى المدينة ولا يجدد نية الإقامة.
قال: "وإذا قرب المسافر مصره فحضرت الصلاة صلى
صلاة المسافر ما لم يدخل مصره" لأن عليا رضي
الله تعالى عنه صلى صلاة السفر وهو ينظر إلى
بيوت الكوفة حين قدمها من البصرة وهكذا روى عن
بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال للمسافر صل
ركعتين ما لم تدخل منزلك ولأنه في موضع لو خرج
من المصر إليه على قصد السفر صار مسافرا فلأن
يبقى مسافرا بعد وصوله إليه أولى، وإن كان خرج
من مصره مسافرا ثم بدا له أن يرجع إلى مصره
لحاجة له قبل أن يسير مسيرة ثلاثة أيام صلى
صلاة المقيم في انصرافه لأنه فسخ عزيمة السفر
بعزمه على الرجوع إلى وطنه وبينه وبين وطنه
دون مسيرة السفر فصار مقيما من ساعته بخلاف
الأول فإنه ماض على سفره ما لم يدخل مصره.
قال: "رجل خرج من مصره مسافرا فحضرت الصلاة
فافتتحها ثم أحدث فانفتل ليأتي مصره فتوضأ ثم
علم أن إمامه ما صلى فإنه يتوضأ ويصلى صلاة
المقيم فإن تكلم صلى صلاة المسافر" لأنه من
عزم على الانصراف إلى أهله فقد صار مقيما وبعد
ما صار مقيما في صلاته لا يصير مسافرا فيها
ألا ترى أن المسافر إذا نوى الإقامة في خلال
الصلاة يصح والمقيم في السفينة إذا جرت به
السفينة لا يصير مسافرا في هذه الصلاة لأن
السفر عمل وحرمة الصلاة تمنعه عن مباشرة العمل
فأما الإقامة ترك السفر وحرمة الصلاة لا تمنع
من ذلك فإذا تكلم فقد ارتفعت حرمة الصلاة وهو
متوجه أمامه على عزم السفر فصار مسافرا والأصل
أن النية متى تجردت عن العمل لا تكون مؤثرة
فإذا نوى الإقامة في موضع الإقامة فقد اقترنت
النية بعمل الإقامة فصار مقيما وإذا نوى السفر
فقد تجردت النية عن العمل ما لم يخرج فلا يصير
مسافرا وهو نظير ما لو نوى في عبد التجارة أن
يكون للخدمة صار للخدمة ولو نوى في عبد الخدمة
أن يكون للتجارة لا يصير لها ما لم يتجر فيه.
قال: "مسافر صلى في سفره أربعا أربعا فإن كان
قعد في كل ركعتين قدر التشهد فصلاته تامة
والأخريان تطوع له وإن كان لم يقعد فصلاته
فاسدة عندنا" وقال مالك رضي الله تعالى عنه
يعيد ما دام في الوقت على كل حال. وقال
الشافعي رضي الله تعالى عنه صلاته تامة وكان
الأربع فرضا له، وهو بناء على أن القصر عزيمة
في حق المسافر عندنا. وقال الشافعي رضي الله
تعالى عنه رخصة واستدل بقوله:
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}[النساء: 101]، فهو تنصيص على أن أصل الفرض أربع والقصر رخصة وعن
علي بن ربيعة الوالبي قال سألت عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه ما بالنا نقصر الصلاة في
السفر ولا نخاف شيئا وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ}[النساء: 3 والتوبة: 28]؟ فقال: أشكل علي ما أشكل عليك فسألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"إنها صدقة تصدق الله
ج / 1 ص -219-
عليكم
فاقبلوا صدقته"، فهو تنصيص على أن القصر رخصة وأن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت
تتم الصلاة في السفر وعثمان رضي الله تعالى
عنه صلى بعرفات أربع ركعات واعتبر الصلاة
بالصوم فإن السفر مؤثر فيها ثم الفطر رخصة ومن
صام في السفر كان مؤديا للفرض فكذلك القصر في
الصلاة.
ولنا: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت
فرضت الصلاة في الأصل ركعتين إلا المغرب فإنها
وتر النهار ثم زيدت في الحضر وأقرت في السفر
على ما كانت وعن عمر رضي الله تعالى عنه قال
صلاة المسافر ركعتان تام غير قصر على لسان
نبيكم وعن بن عمر رضي الله تعالى عنه قال صلاة
المسافر ركعتان من خالف السنة فقد كفر وبن
عباس رضي الله تعالى عنه قال صلاة المسافر
ركعتان وصلاة الفجر ركعتان. وسأله رجلان
أحدهما كان يتم الصلاة في السفر والثاني يقصر
عن حالهما فقال للذي قصر أنت الذي أكملت وقال
للآخر أنت قصرت.
ولما صلى عثمان رضي الله تعالى عنه بعرفات
أربعا قال بن مسعود رضي الله تعالى عنه صليت
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا
المقام ركعتين ومع أبي بكر وعمر رضي الله
تعالى عنهما ركعتين ثم اختلفت بكم الطرق فليت
حظى من الأربع مثل حظي من الركعتين فلما بلغ
ذلك إلى عثمان قال إني تأهلت بمكة وسمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من تأهل
ببلدة فهو من أهلها". فإنكار
عبد الله بن مسعود واعتذار عثمان دليل على أن
فرض المسافر ركعتان إلا أن بن مسعود أحب أن
يأمن عثمان غيره لتكون إقامة الصلاة على هيئة
فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعثمان رضي
الله تعالى عنه أقام بنفسه لكثرة الأعراب
بعرفات كيلا يظن ظان أن الصلاة في حق المقيم
ركعتان والمعنى فيه أن الشفع الثاني ساقط عن
المسافر لا إلى بدل وبقاء الفرضية يوجب القضاء
أو الأداء فحين لم يثبت في حقه واحد منهما
عرفنا أنه لم تبق الفرضية فيما زاد على
الركعتين في حقه وأن الظهر في حقه كالفجر في
حق المقيم. ثم المقيم إذا صلى أربعا فإن لم
يقعد في الثانية فسدت صلاته لاشتغاله بالنفل
قبل إكمال الفرض وإن قعد في الثانية جازت
صلاته والأخريان تطوع له فكذلك هنا وبه فارق
الصوم فإن الفرضية لما بقيت هناك لم ينفك عن
قضاء أو أداء.
وتأويل حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ما قيل
إنها كانت تتنقل من بيت بعض أولادها إلى بيت
بعض فلم تكن مسافرة وفي قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"فاقبلوا صدقته"،
ما يدل على أن القصر عزيمة لأنه أمر به والأمر
يدل على الوجوب وتأويل الآية التجوز في
القراءة والأركان عند الخوف فأما صلاة المسافر
عرفناه بالسنة كما روينا من الآثار.
قال: "مسافر صلى الظهر ركعتين وسلم وعليه سهو
ثم نوى الإقامة فصلاته تامة" لأن نيته لم
تصادف حرمة الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى، فلا يتغير به
ج / 1 ص -220-
فرضه
وليس عليه سجود السهو لأنه لو سجد للسهو كان
عائدا إلى حرمة الصلاة فيتغير فرضه بنية
الإقامة ويكون سجوده في خلال الصلاة وكما يسجد
بترك الإتمام للصلاة فلا فائدة في الاشتغال به
وإن كان بنية الإقامة بعد ما عاد إلى سجود
السهو قام فأتم صلاته لأن نيته حصلت في حرمة
الصلاة. وعند محمد رحمه الله تعالى هما سواء
يقوم فيتم صلاته ثم يسجد للسهو لأن عنده
بالسلام لا يصير خارجا من الصلاة إذا كان عليه
سهو وقد بينا هذا.
قال: "مسافر أم مسافرين ومقيمين فصلى بهم ركعة
وسجدة ثم أحدث فقدم رجلا دخل معه في الصلاة
ساعتئذ وهو مسافر فلا ينبغي لذلك الرجل أن
يتقدم" لأن غيره أقدر على إتمام صلاة الإمام
وإن تقدم جاز لأنه شريك الإمام وينبغي له أن
يسجد تلك السجدة لأنه خليفة الأول فيبدأ بما
كان على الإمام الأول أن يبدأ به فإن لم يفعله
ولكنه صلى بهم ركعة وسجدة ثم أحدث فقدم رجلا
جاء ساعتئذ فذهب وتوضأ ورجع الإمام الأول
والثاني قال يسجد الثالث السجدة الأولى لأنه
خليفة الإمامين، ويسجدها معه الإمام الأول
والقوم لأنهم صلوا تلك الركعة فإنما بقى عليهم
تلك السجدة ولا يسجدها الإمام الثاني لأنه
مسبوق في تلك الركعة فعليه إعادتها فلا يبدأ
بالسجدة منها.
وفي نوادر أبي سليمان قال: يسجدها معهم لأنه
كالمقتدى بالإمام الثالث فيتابعه فيما يأتي به
وإن لم يكن محسوبا من صلاته كمن أدرك الإمام
في السجود ثم سجد السجدة الأخرى وسجدها معه
الإمام الثاني والقوم لأنهم صلوا هذه الركعة
ولا يسجدها معه الإمام الأول إلا أن يكون صلى
تلك الركعة وانتهى إلى هذه السجدة فحينئذ
سجدها لأنه لاحق فيبدأ بالأول فالأول ولهذا
قلنا يصلى الإمام الأول الركعة الثانية بغير
قراءة ثم يتشهد الإمام الثالث ويتأخر ويقدم
رجلا قد أدرك أول الصلاة فيسلم بهم لأنه عاجز
عن السلام بنفسه فيستعين بمن يقدر عليه ثم
يسجد للسهو ويسجدون معه ثم يقوم الثاني فيقضي
الركعة التي سبق بها بقراءة ويكمل المقيمون
صلاتهم. ثم ذكر بعد هذا فصلين في المقيمين.
أحدهما: في اللاحقين إذا صلى
الأئمة الأربعة كل واحد منهم ركعة وسجدة ثم
أحدث الرابع وقدم خامسا وجاء الأئمة الأربعة
فإنه ينبغي للخامس أن يبدأ بالسجدة الأولى
ويسجدها معه الأئمة والقوم لأنهم صلوا تلك
الركعة ثم يسجد السجدة الثانية ويسجدونها معه
غير الإمام الأول فإنه لم يؤد تلك الركعة بعد
إلا أن يكون عجل فصلى الركعة الثانية وأدرك
الإمام في السجدة الثانية فحينئذ سجد الثالثة
ويسجدها معه ثم يسجد الثالثة ويسجدونها معه من
غير الإمام الأول والثاني لأنهما لم يصليا
الركعة الثانية ثم يسجد الرابعة ويسجدونها معه
غير الإمام الأول والثاني والثالث لأنهم ما
صلوا هذه الركعة بعد ثم يقوم الإمام الأول
فيقضى ثلاث ركعات والإمام الثاني ركعتين
والإمام الثالث الركعة الرابعة بغير
ج / 1 ص -221-
قراءة
لأنهم مدركون لأول الصلاة ثم يسلم الخامس
ويسجد للسهو والقوم معه وكل إمام فرغ من إتمام
صلاته وأدركه تابعه في سجود السهو ومن لم يفرغ
أخر سجود السهو إلى آخر صلاته.
والفصل الثاني: في الأئمة
الأربعة إذا كانوا مسبوقين وقد صلى كل واحد
منهم ركعة وسجدة ثم أحدث الرابع وقدم رجلا
خامسا وتوضأ الأئمة الأربعة وجاءوا فينبغي
للخامس أن يسجد السجدة الأولى ويسجدها معه
القوم والأمام الأول ولا يسجدها معه الإمام
الثاني والثالث والرابع لأنهم مسبوقون في تلك
الركعة. وفي رواية النوادر يسجدونها معه
للمتابعة ثم يسجد السجدة الثانية ويسجدها معه
القوم والإمام الثاني لأنه صلى تلك الركعة بعد
ولا يسجدها معه الإمام الأول لأنه ما صلى تلك
الركعة بعد ولا الثالث ولا الرابع لأنهما
مسبوقان في هذه الركعة إلا على رواية النوادر
ثم يسجد الثالثة ويسجدها معه القوم والإمام
الثالث لأنهم صلوا هذه الركعة ولم يسجدوا هذه
السجدة ثم يسجد الرابعة ويسجدها معه القوم
والإمام الرابع ثم يتشهد ويتأخر ويقدم سادسا
ليسلم بهم ويسجد سجدتي السهو ثم يقوم الخامس
فيصلى أربع ركعات لأنه مسبوق فيها فيقرأ في
الأوليين وفي الأخريين هو بالخيار وأما الإمام
الأول يقضى ثلاث ركعات بغير قراءة لأنه أدرك
أول الصلاة ولا قراءة على اللاحق فيما يقضى
والإمام الثاني يقضى ركعتين بغير قراءة لأنه
لاحق فيهما ثم ركعة بقراءة والإمام الثالث
يقضى الرابعة أولا بغير قراءة ثم يقضى ركعتين
بقراءة لأنه مسبوق فيهما والإمام الرابع يقضى
ثلاث ركعات يقرأ في ركعتين منها وفي الثالثة
هو بالخيار لأنه مسبوق فيها.
فإن قيل: لماذا أورد هذا المسائل مع تيقن كل
عاقل بأنها لا تقع ولا يحتاج إليها؟.
قلنا: لا يتهيأ للمرء أن يعلم ما يحتاج إليه
إلا بتعلم ما لا يحتاج إليه فيصير الكل من
جملة ما يحتاج إليه لهذا الطريق وإنما يستعد
للبلاء قبل نزوله.
قال: "مسافر أم مسافرين فصلى بهم ركعة ثم نوى
الإقامة فعليه أن يكمل بهم الصلاة" لأن نيته
استندت إلى أول الصلاة وهم قد التزموا متابعته
فعليهم ما عليه من إتمام الصلاة بخلاف ما إذا
كان الناوى للإقامة خليفة الإمام المسافر لأن
القوم ما التزموا متابعته وإنما لزمهم ذلك
لضرورة إصلاح صلاتهم ففيما وراء ذلك ليس عليهم
متابعته.
قال: "إمام أحدث فاستخلف مدركا ثم نام خلفه
حتى صلى الإمام ركعة وقدمه فإن تأخر هو وقدم
غيره فهو أولى" لأن غيره أقدر على إتمام صلاة
الإمام فإنه محتاج إلى البداءة بما فرغ منه
الإمام وإن لم يفعل ولكنه أشار عليهم بأن
ينتظروه ليصلى ركعة أولا ثم يصلى بهم بقية
الصلاة جاز أيضا لأنه شريك الإمام، فيصلح أن
يكون خليفة الإمام وإن لم يفعل ولكنه صلى بهم
الثلاث ركعات بقية صلاة الإمام وتشهد ثم قدم
مدركا وسلم بهم وقام وقضى ما عليه أجزأه ذلك
عندنا. وقال زفر رحمه الله تعالى لا يجزئه
لأنه مأمور بالبداءة
ج / 1 ص -222-
بالركعة الأولى فإذا لم يفعل فقد ترك الترتيب
المأمور به فتفسد صلاته كالمسبوق إذا بدأ
بقضاء ما فاته قبل أن يتابع الإمام فيما أدرك
معه.
ولنا: أن مراعاة الترتيب في أفعال الصلاة
الواحدة واجبة وليست بركن ألا ترى أنه لو ترك
سجدة من الركعة الأولى إلى آخر صلاته لم تفسد
صلاته وأن المسبوق إذا أدرك الإمام في السجود
يتابعه فيه فدل أن مراعاة الترتيب في صلاة
واحدة ليست بركن فتركها لا يفسد الصلاة بخلاف
المسبوق ففساد صلاته هناك للعمل بالمنسوخ لا
لترك الترتيب ولأن حكم ما هو مسبوق فيه مخالف
لحكم ما أدركه معه لأنه فيما هو مسبوق فيه
كالمنفرد فإذا انفرد في موضع يحق عليه
الاقتداء تفسد صلاته وها هنا حكم الكل واحد في
حقه فترك الترتيب لا يكون مفسدا صلاته.
قال: "وإن صلى بهم ركعة ثم ذكر ركعته تلك
فالأفضل أن يومئ إليهم لينتظروه حتى يقضي تلك
الركعة ثم يصلى بهم بقية الصلاة" كما كان في
الابتداء يفعله وإن لم يفعل وتأخر حين تذكر
ذلك وقدم رجلا منهم فصلى بهم فهو أفضل أيضا
كما في الابتداء وإن لم يفعل ولكنه صلى بهم
وهو ذاكر لركعته أجزأه أيضا لما بينا.
قال: "وليس للمسافر أن يقتدي بالمقيم بعد فوات
الوقت وللمقيم أن يقتدي بالمسافر في الوقت
وبعد فوات الوقت" أما في الوقت فلأن النبي صلى
الله عليه وسلم جوز اقتداء أهل مكة بعرفات حين
قال:
"أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سفر". وكذلك بعد فوات الوقت لأن فرض المقيم لا يتعين بالاقتداء. وأما
اقتداء المسافر بالمقيم في الوقت يجوز ويتغير
فرضه هكذا روى عن بن عمر وبن عباس رضي الله
تعالى عنهما وبعد فوات الوقت لا يصح اقتداؤه
لأن فرضه لا يتغير بالاقتداء فإن المغير للفرض
إما نية الإقامة أو الاقتداء بالمقيم ثم الفرض
بعد خروج الوقت لا يتغير بنية الإقامة فكذلك
الاقتداء بالمقيم وإذا لم يتغير فرضه كان هذا
عقدا لا يفيد موجبه ولو صلى ركعتين وسلم كان
قد فرغ قبل إمامه وإن أتم أربعا كان خالطا
النفل بالمكتوبة قصدا وذلك لا يجوز ثم القعدة
الأولى نفل في حق الإمام فرض في حقه واقتداء
المفترض بالمتنفل لا يجوز على ما بينا هذا
الفروق كما أمليناه من شرح الجامع.
قال: "والغلام المراهق إذا كان معه رجل في
الصف أجزأهما ذلك"، لحديث أنس رضي الله تعالى
عنه فأقامني واليتيم من ورائه.
قال: "رجل ترك صلاة واحدة ثم صلى شهرا وهو
ذاكر لها فعليه أن يقضى تلك الصلاة وحدها
استحسانا" وإن كان صلى يوما أو أقل من ذلك
أعاد ما صلى بعدها في هذه عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى وهذه المسألة التي يقال لها واحدة
تفسد خمسا وواحدة تصحح خمسا لأنه إن صلى
السادسة قبل الاشتغال بالقضاء صح الخمس عنده
وإن أدى المتروكة قبل أن يصلي السادسة فسد
الخمس. وعلى قولهما عليه قضاء الفائتة وخمس
صلوات بعدها وهو
ج / 1 ص -223-
القياس، لأن الخمس فسدت بسبب ترك الترتيب حتى
لو اشتغل بالقضاء في ذلك الوقت كان عليه قضاء
الكل فبتأخر القضاء لا ينقلب صحيحا. وأبو
حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول الفساد كان
بوجوب مراعاة الترتيب وقد سقط ذلك عنه
بالاتفاق عند تطاول الزمان، والدليل عليه أنه
لو أعادها غير مرتب يجوز فكيف يلزمه إعادتها
لترك الترتيب مع أنه ليس عليه مراعاة الترتيب
بالإعادة ولا يبعد أن يتوقف حكم الصلاة
المؤداة على ما تبين في الثاني كمصلى الظهر
يوم الجمعة إن أدرك الجمعة تبين أن المؤداة
كانت تطوعا وإلا كان فرضا وصاحبة العادة إذا
انقطع دمها فيما دون عادتها وصلت صلوات ثم
عاودها الدم تبين أنها لم تكن صلاة صحيحة وإن
لم يعاودها كانت صحيحة. قال "وإذا زاد على
أيام عادتها فإذا انقطع لتمام العشرة تبين أن
الكل حيض وليس عليها قضاء الصلوات وإن جاوزها
كان عليها قضاء الصلوات".
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إذا
صلى الحاج المغرب في طريق المزدلفة فعليهم
إعادتها إن وصل إلى المزدلفة قبل طلوع الفجر
وإن لم يصل فليس عليهم إعادتها فهذا مثله.
وحاصل كلام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن هذه
الصلوات مؤداة في أوقاتها والفساد بسبب ترك
الترتيب فساد ضعيف فلا يبقى حكمه بعد سقوط
الترتيب. وهما يقولان: ما يحكم بفساده لمراعاة
الترتيب لا يصح لسقوط الترتيب كمن افتتح
الصلاة في أول الوقت وهو ذاكر للفائتة فطولها
حتى يضيق الوقت لم يحكم بجوازها. إلا أن أبا
حنيفة رحمه الله تعالى قال هناك لم يسقط
الترتيب لأن بعد السقوط لا يعود الترتيب وهناك
إذا خرج الوقت فعليه مراعاة الترتيب. وعلى قول
زفر رحمه الله تعالى يلزمه إعادة المتروكة
وصلاة شهر بعده بناء على مذهبه في حد الكثرة
التي سقط بها الترتيب وقد بينا.
قال: "رجل صلى الظهر على غير وضوء ثم صلى
العصر على وضوء ذاكرا لذلك وهو يظن أنه يجزئه
فعليه أن يعيدهما جميعا" لوجوب مراعاة الترتيب
وظنه جهل فلا يسقط عنه ما هو مستحق عليه. وكان
الحسن بن زياد رحمه الله تعالى يقول إنما يجب
مراعاة الترتيب على من يعلم فأما من لا يعلم
فليس عليه ذلك لأنه ضعيف في نفسه فلا يثبت
حكمه في حق من لا يعلم به. وكان زفر رحمه الله
تعالى يقول إذا كان عنده أن ذلك يجزئه فهو في
معنى الناسي للفائتة فيجزئه فرض الوقت.
ولنا: أن نقول إذا كان الرجل مجتهدا قد ظهر
عنده أن مراعاة الترتيب ليس بفرض فهو دليل
شرعي وكذلك إذا كان ناسيا فهو معذور غير مخاطب
بأداء الفائتة قبل أن يتذكر فأما إذا كان
ذاكرا وهو غير مجتهد فمجرد ظنه ليس بدليل شرعي
فلا يعتبر فإن أعاد الظهر وحدها ثم صلى المغرب
وهو يظن أن العصر له جائز قال يجزئه المغرب
ويعيد العصر فقط لأن ظنه هذا استند إلى خلاف
معتبر بين العلماء فكان دليلا شرعيا. وحاصل
الفرق أن فساد الصلاة بترك الطهارة فساد قوى
مجمع عليه فيظهر أثره فيما يؤدي بعده فأما
فساد العصر بسبب تذكر الترتيب
ج / 1 ص -224-
فساد
ضعيف مختلف فيه فلا يتعدى حكمه إلى صلاة أخرى
فهو كمن جمع بين حر وعبد في البيع بثمن واحد
بطل العقد فيهما بخلاف ما إذا جمع بين قن
ومدبر.
قال: "رجل أسلم في دار الحرب فمكث فيها شهرا
ولم يصل ولم يعلم أن عليه الصلاة فليس عليه
قضاؤها" وقال زفر رحمه الله تعالى عليه قضاؤها
لأن بقبول الإسلام صار ملتزما لما هو من
أحكامه ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله به
وذلك غير مسقط للقضاء بعد تقرر السبب الموجب
كالنائم إذا انتبه بعد مضي وقت الصلاة عليه.
وجه قولنا: أن ما يجب بخطاب الشرع لا يثبت
حكمه في حق المخاطب قبل علمه به ألا ترى أن
أهل قباء افتتحوا الصلاة إلى بيت المقدس بعد
فرضية التوجه إلى الكعبة وجوز لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأنه لم يبلغهم. وشرب بعض
الصحابة الخمر بعد نزول تحريمها قبل علمه بذلك
وفيه نزل قوله تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ
فِيمَا طَعِمُوا}[المائدة:
93]، وهذا لأن الخطاب بحسب الوسع وليس في وسع
المخاطب الائتمار قبل العلم فلو ثبت حكم
الخطاب في حقه كان فيه من الحرج ما لا يخفى
ولهذا قلنا إن عزل الوكيل والحجر على المأذون
لا يثبت في حقه ما لم يعلم.
"وإن كان ذميا أسلم في دار الإسلام فعليه
قضاؤها استحسانا" وفي القياس لا قضاء عليه
أيضا وهو الحد لما بينا. ووجه الاستحسان هو أن
الخطاب شائع في دار الإسلام فيقوم شيوع الخطاب
مقام العلم لأنه ليس في وسع المبلغ أن يبلغ كل
أحد إنما الذي وسعه أن يجعل الخطاب شائعا وهذا
لأنه في دار الإسلام يسمع الأذان والإقامة
ويرى شهود الناس الجماعات في كل وقت فإنما
يشتبه عليه ما لا يشتبه ولأن في دار الإسلام
يجد من يسأل منه فترك السؤال تقصير منه بخلاف
دار الحرب، فإن بلغه في دار الحرب رجل واحد
فعليه القضاء فيما ترك بعد ذلك عندهما وهو
إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ما لم يخبره رجلان أو رجل وامرأتان لا يلزمه
القضاء لأن هذا خبر ملزم ومن أصله اشتراط
العدد في الخبر الملزم كما قال في حق الحجر
على المأذون وعزل الوكيل والإخبار بجناية
العبد. وجه الرواية الأخرى وهو الأصح أن كل
أحد مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ قال عليه
الصلاة والسلام:
"نضر الله
أمرا سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها
إلى من لم يسمعها"، فهذا المبلغ نظير الرسول من المولى والموكل، وخبر الرسول هناك
ملزم فها هنا كذلك.
قال: "رجل ترك الظهر والعصر من يومين مختلفين
لا يدرى لعل الظهر الذي ترك أولا أو العصر
فإنه يتحرى في ذلك" لأن عليه مراعاة الترتيب
ولا يتوصل إليها إلا بالتحرى فعليه أن يتحرى
كما إذا اشتبهت عليه القبلة فإن لم يكن له في
ذلك رأي وأراد الأخذ بالثقة صلاهما ثم أعاد
الأولى منهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وقالا ليس عليه سوى
ج / 1 ص -225-
التحري، لأنا نعلم يقينا أنه ما ترك إلا
صلاتين فكيف يلزمه قضاء ثلاث صلوات وهذا نظير
من اشتبهت عليه القبلة لا يؤمر بالصلاة إلى
الجهات كلها احتياطا. وأبو حنيفة رحمه الله
تعالى يقول الأخذ بالاحتياط في العبادات أصل
وفي إعادة الأولى منهما تيقن بأداء ما كان
عليه من الترتيب بخلاف أمر القبلة فإن الصلاة
إلى غير جهة القبلة لا تكون قربة فلا يحصل
معنى الاحتياط بمباشرة ما ليس بقربة. فأما ها
هنا إعادة الأولى إما أن تكون فرضا أو نفلا
وهو قربة وهو نظير من تذكر فائته لا يدرى أيما
هي من صلوات اليوم أو الليلة فعليه صلاة يوم
وليلة احتياطا وكذلك لو تذكر أنه ترك سجدة من
صلاة. وكان محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله
تعالى يقول يعيد الفجر والمغرب ثم يصلى أربعا
بنية ما عليه. ومن أصحابنا من يقول يصلى أربع
ركعات بنية ما عليه بثلاث قعدات، وهذا كله
فاسد فإن القضاء لا يتأدى إلا بتعيين النية
وفيما قالوا تضييع النية فكيف يتأدى به
القضاء؟ والصحيح ما قلنا أنه يعيد صلاة يوم
وليلة احتياطا فهذا مثله.
قال: "رجل أم نساء ليس معهن رجل فأحدث فذهب
وتوضأ فصلاته تامة وصلاة النسوة فاسدة" لأن
الإمام في حق نفسه كالمنفرد لا تتعلق صلاته
بصلاة غيره ولم يبق للنسوة إمام في المسجد
فتفسد صلاتهن لهذا.
قال: "فإن استخلف امرأة فسدت صلاته وصلاتهن"
وقال زفر رحمه الله تعالى تجوز صلاة النسوة
لأن المرأة تصلح لإمامة النساء دون الرجال
بدليل الابتداء، ولكنا نقول اشتغاله باستخلاف
من لا يصلح أن يكون خليفة له مفسد لصلاته
فإنما فسدت صلاته قبل تحول الإمامة منه إلى
غيره فتفسد به صلاة المقتدين.
قال: "فإن تقدمت امرأة منهن من غير أن يقدمها
قبل أن يخرج من المسجد فهذا والأول سواء" وهذا
جواب مبهم فقد تقدم فصلان حكمهما مختلف ثم ذكر
الفصل الثالث ولم يبين بأي فصل يعتبره. فمن
أصحابنا من قال معناه هذا واستخلاف الإمام
إياها سواء حتى تفسد صلاة الإمام لما بينا في
باب الحدث لأنه لا فرق بين تقدم واحد من القوم
وبين تقديم الإمام إياه. والأصح أن هذا نظير
الفصل الأول حتى لا تفسد صلاة الإمام لأنه لم
يشتغل باستخلاف من لا يصلح خليفة له وليس
للنساء عليه ولاية في إفساد الصلاة فصار في
حقه كأن لم يقدم واحدة منهن فتجوز صلاته لأنه
في حق نفسه كالمنفرد.
قال: "مسافر صلى الظهر ركعتين بغير قراءة ثم
نوى المقام فعليه أن يصلى ركعتين بقراءة" وهو
والمقيم فيه سواء عند أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى. وقال محمد رحمه الله
تعالى: صلاته فاسدة وهذا بناء على ما سبق أن
فساد الصلاة بترك القراءة يخرجه من حرمة
الصلاة عند محمد رحمه الله تعالى ولا يخرجه
منها عندهما. وأما على سبيل الابتداء فها هنا
حجة محمد رحمه الله تعالى أن ظهر المسافر كفجر
المقيم ثم الفجر في
ج / 1 ص -226-
حق
المقيم يفسد بترك القراءة فيهما أو في إحداهما
على وجه لا يمكنه إصلاح صلاته إلا بالاستقبال
فكذلك الظهر في حق المسافر إذ لا تأثير لنية
الإقامة في رفع الفساد. ولهما أن نية الإقامة
في آخر الصلاة كهي في أولها ولو كان مقيما في
أولها لم تفسد صلاته بترك القراءة في الأوليين
فهذا مثله وتبين بهذا أن المفسد لم يتقرر لأن
صلاة المسافر بعرض أن يلحقه مدد نية الإقامة
والمفسد خلو الصلاة عن القراءة في ركعتين منها
ولا يتحقق ذلك بترك القراءة في الأوليين بخلاف
فجر المقيم وكذلك إن قام إلى الثالثة وركع ثم
نوى الإقامة إلا أنه إن كان لم يقرأ في
الأوليين يعيد القراءة وإن كان قرأ في
الأوليين يعيد القيام والركوع لأن ما أدى كان
نفلا لأنه حين قام إلى الثالثة لم يكن نوى
الإقامة فكانت هذه الركعة بقدر ما أدى إلى وقت
نية الإقامة نافلة فلا تنوب عن الفرض فكان
عليه الإعادة لهذا.
قال: "مسافر دخل في صلاة المقيم ثم ذهب الوقت
لم تفسد صلاته" لأن الإتمام لزمه بالشروع مع
الإمام في الوقت فالتحق بغيره من المقيمين
بخلاف ما لو اقتدى به بعد خروج الوقت فإن
الإتمام لم يلزمه بهذا الاقتداء فإن أفسدها
الإمام على نفسه كان على المسافر أن يصلى صلاة
السفر لأن وجوب الإتمام عليه بمتابعة الإمام
وقد زال ذلك بالإفساد.
فإن قيل: فقد كان هو مقيما في هذه الصلاة عند
خروج الوقت فبأن صار في حكم المسافر بعد خروج
الوقت لا يتغير ذلك الفرض.
قلنا: لم يكن مقيما فيها وإنما يلزمه الإتمام
لمتابعة الإمام ألا ترى أنه لو أفسد الاقتداء
في الوقت كان يصلى صلاة السفر والقصر في السفر
في الظهر والعصر والعشاء لأن القصر عبارة عن
سقوط شطر الصلاة وفي هذه الصلاة بعد سقوط
الشطر تبقى صلاته كاملة بخلاف الفجر فإن بعد
سقوط الشطر منها لا يبقى إلا ركعة وهي لا تكون
صلاة تامة وكذلك في المغرب بعد سقوط شطر منها
لا تبقى صلاة تامة فلهذا لم يدخلها القصر
والسنن والتطوعات لا يدخلها القصر بسبب السفر
لأن القصر في الصلاة بسبب السفر توقيف لم يعرف
بالرأي ومن الناس من قال بترك السنن في السفر
ويروون عن بعض الصحابة أنه قال لو أتيت بالسنن
لأتممت الفريضة وتأويل هذا عندنا في حالة
الخوف على وجه لا يمكنه المكث في موضع لأداء
السنن.
قال: "ويخفف القراءة في جميع الصلوات" لما روي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر
في السفر:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون: 1] و{قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:
1] وأطال القراءة في صلاة الفجر ولأن السفر
لما أسقط عنه شطر الصلاة دفعا للحرج فلأن يسقط
مراعاة سنة القراءة أولى ولكن المستحب أن تكون
قراءته في الفجر والظهر أطول اعتبارا بحالة
الإقامة، فيقرأ
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}
و{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وما أشبههما. وفي العصر والمغرب والعشاء {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وما أشبهها.
قال: "ودخول المسافر في صلاة المقيم يلزمه
الإكمال إن دخل في أولها أو في آخرها
ج / 1 ص -227-
قبل
السلام" لأن الاقتداء بالمقيم في تغير الفرض
كنية الإقامة ولا فرق فيه بين أول الصلاة
وآخرها فهذا مثله.
قال: "وتوطين أهل العسكر أنفسهم على الإقامة
وهم في دار الحرب محاصرون لأهل المدينة ساقط
وهم مسافرون" لحديث ابن عباس رضي الله تعالى
عنه أن رجلا سأله فقال إنا نطيل الثوى في دار
الحرب فقال صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك ولأن
نية الإقامة لا تصح إلا في موضع الإقامة ودار
الحرب ليس بموضع لإقامة المحاربين من المسلمين
لأنه غير متمكن من الفرار بنفسه بل هو بين أن
يهزم العدو فيفر وبين أن ينهزم فيفر ولأن فناء
البلدة تبع لجوفها والبلدة في يد أهل الحرب
فالموضع الذي فيه العسكر كان في أيديهم أيضا
حكما. وكذلك إذا نزلوا المدينة وحاصروا أهلها
في الحصن فلا قرار لهم ما داموا محاربين فكأن
نية الإقامة في غير موضع الإقامة مقاس نية
السفر في غير موضعها وكذلك إن حاربوا أهل
البغي في دار الإسلام وحاصروهم.
وقال زفر رحمه الله تعالى في الفصلين جميعا:
إن كانت الشوكة والغلبة للعدو لم تصح نيتهم
الإقامة وإن كانت الشوكة لهم صحت نيتهم
الإقامة لأنهم يتمكنون من الفرار باعتبار
الظاهر. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إن
كانوا في الأخبية والفساطيط خارج البلدة لم
تصح نيتهم الإقامة وإن كانوا في البيوت
والأبنية صحت نيتهم الإقامة لأن الأبنية موضع
الإقامة دون الصحراء، وعلى هذا اختلف
المتأخرون في الذين يسكنون الأخبية في دار
الإسلام كالأعراب والأتراك، فمنهم من يقول لا
يكونون مقيمين أبدا لأنهم ليسوا في موضع
الإقامة، والأصح أنهم مقيمون لأن الإقامة
للمرء أصل والسفر عارض وهم لا ينوون السفر قط
إنما ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى
مرعى فكانوا مقيمين باعتبار الأصل.
قال: "وإذا مر الإمام بمدينة وهو مسافر فصلى
بهم الجمعة أجزأه وأجزأهم" وقال زفر رحمه الله
تعالى لا يجوز لأنه لا جمعة على المسافر. قال
صلى الله عليه وسلم:
"أربعة لا جمعة
عليهم المسافر والمريض والعبد والمرأة"،
فكان هذا في معنى اقتداء المفترض بالمتنفل.
ولكنا نقول: قد أقام رسول الله صلى الله عليه
وسلم الجمعة بمكة وهو كان مسافرا بها ثم صلاة
الجمعة من غيره في هذا الموضع إنما تجوز بأمره
فلأن تجوز منه أولى وإنما لا يجب الحضور على
المسافر لدفع الحرج فإذا حضر وأدى كان مفترضا
كالمريض وكذلك الأمير يطوف في بلاد عمله وهو
مسافر فهو والإمام سواء في هذا.
قال: "ويصلى المسافر التطوع على دابته بإيماء
حيثما توجهت به" لحديث بن عمر رضي الله تعالى
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى
على دابته تطوعا حيثما توجهت به وتلا قوله
تعالى:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة: 115]. وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم في غزوة إنما يتطوع على دابته
بالإيماء ووجهه إلى المشرق إلا أن في حديث بن
عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان ينزل للوتر
والمكتوبة وفي حديث جابر، رضي الله تعالى عنه،
ج / 1 ص -228-
ذكر
أنه كان يوتر على دابته وينزل للمكتوبة ولو لم
يكن له في التطوع على الدابة من المنفعة إلا
حفظ اللسان وحفظ النفس عن الوساوس والخواطر
الفاسدة لكان ذلك كافيا.
قال: "وإن كان على سرجه قذر فكذلك تجوز صلاته"
وكان محمد بن مقاتل وأبو حفص النجاري رحمهما
الله تعالى يقولان لا تجوز إذا كانت النجاسة
في موضع الجلوس أو في موضع الركابين أكثر من
قدر الدرهم اعتبارا للصلاة على الدابة بالصلاة
على الأرض وكانا يقولان تأويل ما ذكره من
القذارة عرق الدابة. وأكثر مشايخنا رحمهم الله
تعالى يقولون تجوز لما قال في الكتاب والدابة
أشد من ذلك يعنى أن باطنها لا يخلو عن
النجاسات ويترك عليها الركوع والسجود مع
التمكن من النزول والأداء والأركان أقوى من
الشرائط فإذا سقط اعتبار الأركان هنا لحاجة
فشرط طهارة المكان أولى ثم الإيماء لا يصيب
موضعه إنما هو إشارة في الهواء وإنما يشترط
طهارة الموضع الذي يؤدي عليه ركنا وهو لا يؤدي
على موضع سرجه وركابيه ركنا فلا تضره
نجاستهما.
وكذلك المقيم يخرج من مصره فرسخين أو ثلاثة
فله أن يتطوع على دابته لأنه في معنى المسافر
يحتاج إلى قطع الوساوس عن نفسه ولا سير على
الدابة ها هنا مديد كسير المسافر. ولم يذكر في
الكتاب إذا كان راكبا في المصر هل يتطوع على
دابته وذكر في الهارونيات أن عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى لا يجوز التطوع على الدابة في
المصر، وعند محمد رحمه الله تعالى يجوز ويكره،
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا بأس به.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال التطوع على
الدابة بالإيماء جوزناه بالنص بخلاف القياس
وإنما ورد النص به خارج المصر والمصر في هذا
ليس في معنى خارج المصر لأن سيره على الدابة
في المصر لا يكون مديدا عادة فرجعنا فيه إلى
أصل القياس.
وحكى أن أبا يوسف رحمه الله تعالى لما سمع هذا
من أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال حدثني فلان
عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب
الحمار في المدينة يعود سعد بن عبادة وكان
يصلى وهو راكب فلم يرفع أبو حنيفة رحمه الله
تعالى رأسه قيل إنما لم يرفع رجوعا منه إلى
الحديث، وقيل: بل هذا حديث شاذ فيما تعم به
البلوى والشاذ في مثله لا يكون حجة عنده فلهذا
لم يرفع رأسه. وأبو يوسف رحمه الله تعالى أخذ
بالحديث ومحمد رحمه الله تعالى كذلك إلا أنه
كره ذلك في المصر لأن اللغط يكثر فيها فلكثرة
اللغط ربما يبتلى بالغلط في القراءة فلذلك
كره.
قال: "ولا يصلى المسافر المكتوبة على الدابة
من غير عذر" لأن المكتوبة في أوقات محصورة فلا
يشق عليه النزول لأدائها فيها بخلاف التطوع
فإنه ليس بمقدر بشيء فلو ألزمناه النزول
لأدائها تعذر عليه إذا ما ينشطه فيه من
التطوعات أو ينقطع سفره. وكذلك ينزل
ج / 1 ص -229-
للوتر
عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنها واجبة
وعندهما له أن يؤتر على الدابة لما روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مع أصحابه
في سفر فمطروا فأمر مناديا ينادى حتى نادى
صلوا على رواحلكم فنزل بن رواحة فطلب موضعا
يصلى فيه فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فدعاه فلما أقبل إليه فقال:
"أما أنه يأتيكم وقد لقن حجته قال ألم تسمع ما
أمرت به أما لك في أسوة قال يا رسول الله أنت
تسعى في رقبة قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم
يظهر فكاكها قال ألم أقل لكم إنه يأتيكم وقد
لقن حجته ثم قال له إني لأرجو على هذا أن أكون
أخشاكم لله تعالى"، فقد جوز لهم الصلاة على الدابة عند تعذر النزول بسبب المطر فكذلك
بسبب الخوف من سبع أو عدو ولأن مواضع الضرورة
مستثناة.
قال: "وإذا افتتح التطوع على الأرض ثم ركب
فأتمها راكبا لم تجزه ولو افتتحها راكبا ثم
نزل فأتمها أجزأه" قيل لأن النزول عمل يسير
والركوب عمل كثير لأنه يحتاج فيه إلى استعمال
اليدين عادة وفي النزول يجعل رجليه من جانب
فينزل من غير حاجة إلى معالجة. وقيل: إذا
افتتح على الأرض فلو أتمها راكبا كان دون ما
شرع فيها لأنه شرع فيها بركوع وسجود والإيماء
دون ذلك والراكب إذا نزل يؤديها أتم مما شرع
فيها لأنه شرع فيها بالإيماء ويؤديها بركوع
وسجود. وعن زفر رحمه الله تعالى فيهما جميعا
يبنى لأنه لما جاز له افتتاح التطوع على
الدابة بالإيماء مع القدرة على النزول
فالإتمام أولى. وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى
فيهما جميعا يستقبل لأنه لو بنى بعد النزول
كان هذا بناء القوي على الضعيف وذلك لا يجوز
كالمريض المومىء يقدر على الركوع والسجود في
خلال الصلاة. وفي ظاهر الرواية فرق فقال هناك
ليس له أن يفتتح بالإيماء على الدابة مع
القدرة على الركوع والسجود فكذلك إذا قدر على
ذلك في خلال الصلاة لا يبنى وبينا له أن يفتتح
بالأيماء على الدابة مع القدرة على الركوع
والسجود فقدرته على ذلك بالنزول لا تمنعه من
البناء.
قال: "ومن قال لله علي أن أصلي ركعتين فصلاهما
على الدابة من غير عذر لم يجز" اعتبارا بما
يوجبه على نفسه بما أوجب الله عليه وكذلك إن
سمع تلاوة على الأرض فسجدها على الدابة
بالإيماء لم تجزه لأنها لزمته بالسجود بالسماع
على الأرض حيث سمعها قبل الركوب ولو سمعها وهو
راكب فسجدها بالإيماء جاز لأنه أداها كما لو
التزمها ولو سجد على الأرض أجزأه لأنه أداها
أتم مما التزمها.
قال: "رجلان في محل اقتدى أحدهما بالآخر في
التطوع أجزأهما" كما لو كانا على الأرض إذ ليس
بين المقتدى والإمام ما يمنع من الاقتداء
ويكره له أن يأتم إذا كان عن يسار الإمام
اعتبارا بما لو كان على الأرض. وإن كان كل
واحد منهما على دابة لم تجز صلاة المؤتم لأن
بين الدابتين طريقا والطريق العظيم بين
المقتدي والإمام يمنع الاقتداء. وعن محمد بن
الحسن رحمه الله تعالى قال أستحسن أن يجوز
اقتداؤه بالإمام إذا كانت دابتهم
ج / 1 ص -230-
بالقرب
من دابة الإمام على وجه لا يكون الفرجة بينهم
وبين الإمام إلا بقدر الصف بالقياس على الصلاة
على الأرض.
قال: "ونية اللاحق للإقامة وهو في قضاء ما
عليه وقد فرغ الإمام من صلاته ساقطة لا يلزمه
الإتمام" لأنه فيما يتم مقتد بالإمام فنيته في
هذه الحالة كنية إمامه ونية الإمام للإقامة لا
يلزمه إتمام هذه الصلاة ويعني بعد ما فرغ منها
فكذلك نيته.
فإن قيل: نية المقتدي معتبرة في حقه ما لم
يخرج من حرمة الصلاة وفي حق الإمام إنما تعتبر
بخروجه عن حرمة الصلاة.
قلنا: المقتدي تبع فيجعل كالخارج من الصلاة
حكما لخروج إمامه منها وكذلك لو دخل مصره فإن
دخول موضع الإقامة ونية الإقامة في الحكم سواء
ونية المسبوق في قضاء ما عليه للإقامة أو
دخوله مصره يلزمه الإتمام لأن المسبوق فيما
يقضى كالمنفرد ونية المنفرد الإقامة معبر فرضه
في الوقت فكذلك نية المسبوق لأنه أصل بنفسه
ونية المنفرد الإقامة بعد خروج الوقت في صلاة
افتتحها في الوقت ساقطة وكذلك دخوله المصر لأن
بخروج الوقت صار صلاة السفر دينا في ذمته فلا
يتغير بإقامته فأما في الوقت لا يصير دينا في
ذمته بعد ألا ترى أن في الوقت يسقط بعذر الحيض
وبعد خروج الوقت لا يسقط؟.
قال: "خراساني قدم الكوفة فأقام بها شهرا ثم
خرج منها إلى الحيرة فوطن نفسه على إقامة خمسة
عشر يوما ثم خرج منها يريد خراسان ويمر
بالكوفة فإنه يصلى ركعتين" لأن وطنه بالكوفة
كان وطنا مستعارا فانتقض بمثله. فالحاصل أن
الأوطان ثلاثة وطن قرار ويسمى الوطن الأصلي
وهو أنه إذا نشأ ببلدة أو تأهل بها توطن بها.
ووطن مستعار وهو أن ينوى المسافر المقام في
موضع خمسة عشر يوما وهو بعيد عن وطنه الأصلي.
ووطن سكني وهو أن ينوى المسافر المقام في موضع
أقل من خمسة عشر يوما أو خمسة عشر يوما وهو
قريب من وطنه الأصلي. ثم الوطن الأصلي لا
ينقضه إلا وطن أصلي مثله والوطن المستعار
ينقضه الوطن الأصلي ووطن مستعار مثله والسفر
لا ينقضه وطن السكنى لأنه دونه ووطن السكنى
ينقضه كل شيء إلا الخروج منه لا على نية
السفر. وقد قررنا هذا الأصل فيما أمليناه من
شرح الزيادات فأكثر المسائل على هذا الأصل
بخروجها ثمة والقدر الذي ذكرنا ها هنا ما بينا
أنه حين توطن بالحيرة خمسة عشر يوما كان هذا
وطنا مستعارا له فانتقض به وطنه بالكوفة
والتحق بمن لم يدخلها قط فلهذا يصلى بها
ركعتين وإن لم يوطن على إقامة خمسة عشر يوما
بالحيرة صلى بالكوفة أربعا ما لم يخرج منها
فإن الحيرة كانت وطن السكنى له فلم ينتقض به
وطنه بالكوفة فهو مقيم بها ما لم يخرج على قصد
خراسان منها.
قال: "كوفي خرج إلى القادسية لحاجة ثم خرج
منها إلى الحفيرة، ثم خرج من الحفيرة
ج / 1 ص -231-
يريد
الشام وله بالقادسية نقل يريد أن يحمله منها
من غير أن يمر بالكوفة فإنه يصلى بها ركعتين"
لأن القادسية كانت وطن السكنى في حقه سواء عزم
على الإقامة بها خمسة عشر يوما أو لم يعزم
لأنه من فناء الوطن الأصلي فإن بينها وبين
الكوفة دون مسيرة السفر فلما خرج إلى الحفيرة
انتقض وطنه بالقادسية لأن وطن السكنى ينقضه
مثله وقد ظهر له بالحفيرة وطن السكنى فالتحق
بمن لم يدخل القادسية فلهذا صلى بها ركعتين
وشرطه أن لا يمر بالكوفة لأنه إذا كان يمر بها
فقد عزم على الرجوع إلى وطنه الأصلي وبينه
وبين وطنه الأصلي دون مسيرة السفر فكان مقيما
من ساعته.
قال: "وإن كان لم يأت الحفيرة ولكنه خرج من
القادسية لحاجة حتى إذا كان قريبا من الحفيرة
بدا له أن يرجع إلى القادسية فيحمل ثقله منها
ويرتحل إلى الشام ولا يمر بالكوفة صلى أربعا
حتى يرتحل من القادسية استحسانا" وفي القياس
يصلى ركعتين لأن وطن السكنى الذي كان له
بالقادسية قد انتقض بخروجه منها على قصد
الحفيرة كما ينتقض لو دخلها، ولكنه استحسن
فقال القادسية كانت لي وطن السكنى ولم يظهر له
بقصد الحفيرة وطن سكني آخر ما لم يدخلها فبقى
وطنه بالقادسية أرأيت لو خرج منها لبول أو
غائط أو تشييع جنازة أو لاستقبال قادم أكان
ينتقض وطنه بهذا القدر من الخروج لا ينتقض
فكذلك بالخروج إلى الحفيرة ما لم يدخلها فلهذا
صلى بالقادسية أربعا حتى يرتحل منها.
تم الباب، والله تعالى أعلم بالصواب
وبتمامه يتم الجزء الأول من التقسيم الذي
أجرينا الطبع على اعتباره
ويتلوه الجزء الثاني وأوله: باب الصلاة في
السفينة |