المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 2 ص -3-            بسم الله الرحمن الرحيم
باب في الصلوات في السفينة
قال: "وإن استطاع الرجل الخروج من السفينة للصلاة فالأولى له أن يخرج ويصلي قائما على الأرض ليكون أبعد عن الخلاف وإن صلى فيها قاعدا وهو يقدر على القيام أو على الخروج أجزأه عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه استحسانا ولا يجزئه عندهما وهو القياس" ووجهه هو أن السفينة في حقه كالبيت حتى لا يصلي فيه بالإيماء تطوعا مع القدرة على الركوع والسجود فكما إذا ترك القيام في البيت مع قدرته عليه لا يجزئه في أداء المكتوبة فكذلك في السفينة لأن سقوط القيام في المكتوبة للعجز أو للمشقة وقد زال ذلك بقدرته على القيام أو على الخروج. وجه الاستحسان: أن الغالب في حال راكب السفينة دوران رأسه إذا قام والحكم ينبني على العام الغالب دون الشاذ النادر ألا ترى أن نوم المضطجع جعل حدثا على الغالب ممن حاله أن يخرج منه لزوال الاستمساك وسكوت البكر رضا لأجل الحياء بناء على الغالب من حال البكر والشاذ يلحق بالعام الغالب، فهذا مثله.
وفي حديث بن سيرين رضي الله تعالى عنه قال صلينا مع أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه في السفينة قعودا ولو شئنا لخرجنا إلى الحد وقال مجاهد رحمه الله صلينا مع جنادة بن أبي أمية قعودا في السفينة ولو شئنا لقمنا فدل على الجواز.
قال: "ولا يجوز للمسافر أن يتطوع في السفينة بالإيماء بخلاف راكب الدابة فإن الجواز له بالإيماء هناك لورود النص به وهذا ليس في معناه" لأن راكب الدابة ليس له موضع قرار على الأرض وراكب السفينة له فيها موضع قرار على الأرض فالسفينة في حقه كالبيت ألا ترى أنه لا يجريها بل هي تجري به قال الله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42] وراكب الدابة يجريها حتى يملك إيقافها متى شاء ولهذا جوزنا الصلاة على الدابة حيث كان وجهه وفي السفينة يلزمه التوجه إلى القبلة عند افتتاح الصلاة وكذلك كلما دارت السفينة يتوجه إليها لأنها في حقه كالبيت فيلزمه التوجه إلى القبلة لأداء الصلاة فيها ولا يصير مقيما بنية الإقامة وصاحب السفينة وغيره في هذا سواء لأن نية الإقامة حصلت في غير موضعها إلا أن تكون قريبة من قريته فحينئذ هو مقيم فيها في موضع إقامته فأما إذا كان مسافرا فيها فلا يصير مقيما بنية الإقامة.
قال: "ولا يجوز أن يأتم رجل من أهل السفينة بإمام في سفينة أخرى" لأن بينهما طائفة من النهر إلا أن يكونا مقرونين فحينئذ يصح الاقتداء لأنه ليس بينهما ما يمنع صحة

 

ج / 2 ص -4-            الاقتداء فكأنهما في سفينة واحدة لأن السفينتين المقرونتين في معنى ألواح سفينة واحدة وكذلك أن اقتدى من على الحد بإمام في سفينة لم يجز اقتداؤه إذا كان بينهما طريق أو طائفة من النهر وقد بينا هذا فيما سبق.
قال: "ومن وقف على الأطلال يقتدي بالإمام في السفينة صح اقتداؤه إلا أن يكون أمام الإمام" لأن السفينة كالبيت واقتداء الواقف على السطح بمن هو في البيت صحيح إذا لم يكن أمام الإمام.
قال: "ومن خاف فوت شيء من ماله وسعه أن يقطع صلاته ويستوثق من ماله وكذلك إذا انقلبت سفينته أو رأى سارقا يسرق شيئا من متاعه" لأن حرمة المال كحرمة النفس فكما يسعه أن يقطع صلاته إذا خاف على نفسه من عدو أو سبع فكذلك إذا خاف على شيء من ماله ولم يفصل في الكتاب بين القليل والكثير وأكثر مشايخنا رحمهم الله قدروا ذلك بالدرهم فصاعدا وقالوا ما دون الدرهم حقير فلا يقطع الصلاة لأجله. قال الحسن رحمه الله تعالى لعن الله الدانق ومن دنق الدانق. وإنما يقطع صلاته إذا احتاج إلى عمل كثير فأما إذا لم يحتج إلى شيء وعمل كثير بنى على صلاته لحديث أبي برزة الأسلمي رحمه الله تعالى أنه كان يصلي في بعض المغازي فانسل قياد الفرس من يده فمشى أمامه حتى أخذ قياد فرسه ثم رجع القهقري وأتم صلاته وتأويل هذا أنه لم يحتج إلى عمل كثير والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب السجدة
قال رضي الله عنه: "ويكره للمرء ترك آية السجدة من سورة يقرؤها" لأنه في صورة الفرار عن السجدة وليس ذلك من أخلاق المؤمنين ولأنه في صورة هجر آية السجدة وليس شيء من القرآن مهجورا ولأن القارئ مأمور باتباع التأليف قال الله تعالى:
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] أي تأليفه وبغير التأليف يكون مكروها وإذا قرأ آية السجدة من بين آي السورة فالأولى أن يقرأ معها آيات وإن اكتفى بقراءة آية السجدة لم يضره لأن قراءة آية السجدة من بين الآي كقراءة سورة من بين السور وذلك لا بأس به والمستحب أن يقرأ معها آيات ليكون أدل على المعنى والإعجاز ولأنه ربما يعتقد هو أو بعض السامعين منه زيادة فضيلة في آية السجدة ومن حيث إن قراءة الكل سواء فلهذا يستحب أن يقرأ معها آيات.
قال: "ومن قرأ آية السجدة أو سمعها وجب عليه أن يسجدها عندنا" وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه يستحب له ذلك ولا يجب عليه لحديث الأعرابي حين علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرائع وقال:
هل علي غيرها فقال: "لا إلا أن تطوع". فلو كانت سجدة التلاوة واجبة لما ترك البيان بعد السؤال وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه تلا آية السجدة على المنبر وسجد ثم تلاها في الجمعة الثانية فنشز الناس للسجود فقال إنها لم تكتب علينا إلا أن نشاء.

 

ج / 2 ص -5-            ولنا: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تلا بن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول أمر بن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار". والأصل أن الحكيم متى حكى عن غير الحكيم ولم يعقبه بالنكير فذلك دليل على أنه صواب ففيه دليل على أن بن آدم مأمور بالسجود والأمر للوجوب. وعن عثمان وعلي وبن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا السجدة على من تلاها السجدة على من سمعها على من جلس لها اختلفت ألفاظهم بهذه وعلى كلمة إيجاب ولأن الله تعالى وبخ تارك السجود بقوله: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 20-21]، والتوبيخ لا يكون إلا بترك الواجب وتأويل حديث عمر لم يكتب علينا التعجيل بها فأراد أن يبين للقوم التأخير عن حالة الوجوب وفي حديث الأعرابي بيان الواجبات ابتداء دون ما يجب بسبب من العبد ألا ترى أنه لم يذكر المنذورة؟.
قال: "فإن قرأها أو سمعها وهو جنب أو على غير وضوء لم يجزئه التيمم إذا كان يقدر على الماء" لأنه لا يفوته ولأنه باستعماله الماء يتوصل إلى أدائها بخلاف صلاة الجنازة والعيد.
قال: "ومن سمعها من صبي أو كافر أو جنب أو حائض فعليه أن يسجد" لأن المتلو قرآن من هؤلاء ولهذا منع الجنب والحائض من قراءته فتقرر السبب الموجب في حق السامع.
قال: وليس على الحائض سجدة قرأت أو سمعت" لأن السجدة ركن من الصلاة والحائض لا تلزمها الصلاة مع تقرر السبب وهو شهود الوقت فلا يلزمها السجدة أيضا بخلاف الجنب فإنه تلزمه الصلاة بسبب الوقت فتلزمه السجدة بالتلاوة أو السماع.
قال: "ويستوي في حق التالي إذا تلاها بالفارسية أو بالعربية وفي حق السامع" كذلك عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فهم أو لم يفهم بناء على أصله بالقراءة الفارسية وعندهما إن كان السامع يعلم أنه يقرأ القرآن فعليه سجود السجدة وإلا فلا وفي العربية عليه السجدة على كل حال ولكن يعذر بالتأخير ما لم يعلم.
قال: "وإن قرأها ومعه قوم فسمعوها سجد وسجدوا معه ولم يرفعوا رؤوسهم قبله" لأن التالي إمام السامعين هكذا قال عمر رضي الله تعالى عنه للتالي كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا معك فكانوا في حكم المقتدين من وجه فلا يرفعون رؤوسهم قبله لهذا وإن فعلوا أجزأهم لأنه لا مشاركة بينه وبينهم في الحقيقة ألا ترى أنه وأن تبين فساد سجدته بسبب لم تفسد عليهم؟.
قال: "وليس عليه في قراءة سجدة واحدة أو سماعها مرة بعد أخرى في مجلس واحد قائما أو قاعدا أو مضطجعا أكثر من سجدة واحدة" لما روي أن جبريل عليه السلام كان ينزل بالوحي فيقرأ آية السجدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ولا يسجد إلا مرة واحدة ولأن مبنى السجدة على التداخل فإن التلاوة من الأصم والسماع

 

ج / 2 ص -6-            من السميع موجبان لها ثم لو تلاها سميع لا يلزمه إلا سجدة واحدة وقد وجد في حقه التلاوة والسماع لأن السبب واحد وهو حرمة المتلو فالقراءة الثانية تكرار محض بسبب اتحاد المجلس فلا يتجدد به المسبب وهذا الحرف أصح من الأول فإنه لو تلاها وسجد ثم تلاها في مجلسه لم يلزمه أخرى والتداخل لا يكون بعد أداء الأول فدل أن الصحيح اتحاد السبب.
ولم يذكر الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكره أو سمع ذكره في مجلس مرارا فالمتقدمون من أصحابنا يجعلون هذا قياس السجدة فيقولون يكفيه أن يصلى عليه مرة واحدة لاتحاد السبب، وبعض المتأخرين يقولون يصلى عليه في كل مرة لأنه حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال:
"لا تجفوني بعد موتي"، قيل: وكيف تجفى يا رسول الله؟ قال: "أن أذكر في موضع فلا يصلى علي".
وحقوق العباد لا تتداخل ولهذا قالوا من عطس وحمد الله في مجلس ينبغي للسامع أن يشمته في كل مرة لأنه حق العاطس والأصح أنه إذا زاد على الثلاث لا يشمته.
وفي حديث عمر رضي الله تعالى عنه قال للعاطس بعد الثلاث قم فانتثر فإنك مزكوم إلا أن يكون ذهب من ذلك المكان ثم رجع فقرأها فعليه سجدة أخرى لأنه تجدد له بالرجوع مجلس آخر وبتجدد المجلس يتجدد السبب للتلاوة حكما. وعن محمد رحمه الله قال هذا إذا بعد عن ذلك المكان فأما إذا كان قريبا منه لم يلزمه سجدة أخرى فكأنه تلاها في مكانه لحديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنه كان يعلم الناس بالبصرة وكان يزحف إلى هذا تارة وإلى هذا تارة فيعلمهم آية السجدة ولا يسجد إلا مرة واحدة. وإن قرأ آية أخرى وهو في مجلسه فعليه سجدة أخرى لأن السبب قد تجدد فإن السجدة الثانية غير الأولى.
ثم ذكر عدد سجود القرآن وهي أربع عشرة سجدة عندنا. وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنه يقول عدد سجود القرآن إحدى عشرة سجدة وليس في المفصل عنده سجدة وكان يعد الأعراف والرعد والنحل وبني إسرائيل ومريم والحج الأولى منها والفرقان والنمل والم تنزيل وص وحم السجدة قال سعيد بن جبير وسألت ابن عمر رضي الله عنهم فعدهن كما عدهن ابن عباس رضي الله تعالى عنه إحدى عشرة سجدة وقال ليس في المفصل شيء منها وهكذا ذكر الكرخي رضي الله عنه في الجامع الصغير له وليس في المفصل عنده سجدة والذي في سورة ص عنده سجدة شكر.
والاختلاف بين العلماء في مواضع: منها في الحج عندنا سجدة التلاوة الأولى منهما وعند الشافعي رضي الله عنه سجدتان الأولى والثانية لحديث مسرع بن ماهان عن عقبة بن عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
في الحج سجدتان" أو قال: "فضلت الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأهما" وهو مروي عن عمر ومذهبنا مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي

 

ج / 2 ص -7-            الله عنهم، قال سجدة التلاوة هي الأولى والثانية سجدة الصلاة وهو الظاهر فقد قرنها بالركوع فقال اركعوا واسجدوا والسجدة المقرونة بالركوع سجدة الصلاة وتأويل الحديث فضلت الحج بسجدتين احداهما سجدة التلاوة والأخرى سجدة الصلاة. ويختلفون في التي في سورة ص عندنا وهي سجدة التلاوة وعند الشافعي رضي الله عنه سجدة الشكر وفائدة الاختلاف إذا تلاها في الصلاة عندنا يسجدها وعند الشافعي لا يسجدها واستدل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا في خطبته سورة ص فنشز الناس للسجود فقال: "علام نشزتم إنها توبة نبي".
ولنا: ما روي أن رجلا من الصحابة قال يا رسول الله رأيت فيما يرى النائم كأني أكتب سورة ص فلما انتهيت إلى موضع السجدة سجد الدواة والقلم فقال عليه الصلاة والسلام: "نحن أحق بها من الدواة والقلم"، فأمر حتى يكتب في مجلسه وسجدها مع أصحابه.
فإن قيل: في الحديث زيادة وهو أنه قال سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا.
قلنا: هذا لا ينفي كونها سجدة تلاوة فما من عبادة يأتي بها العبد إلا وفيها معنى الشكر ومراده من هذا بيان سبب الوجوب أنه كان توبة داود عليه السلام وإنما لم يسجدها في خطبته ليبين لهم أنه يجوز تأخيرها. وقد روى أنه سجدها في خطبته مرة وذلك دليل على الوجوب وعلى أنها سجدة تلاوة فقد قطع الخطبة لها. ويختلفون في التي في حم السجدة في موضعها فقال علي رضي الله تعالى عنه آخر الآية الأولى عند قوله:
{إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، وبه أخذ الشافعي، رضي الله تعالى عنه. وقال ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه: عند آخر الآية الثانية عند قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، وبه أخذنا لأنه أقرب إلى الاحتياط فإنها إن كانت عند الآية الثانية لم يجز تعجيلها وإن كانت عند الأولى جاز تأخيرها إلى الآية الثانية. ويختلفون في المفصل فعندنا فيه ثلاث سجدات. وقال مالك رضي الله تعالى عنه ليس في المفصل سجدة واحدة لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
ولنا: حديث علي رضي الله تعالى عنه عزائم سجود القرآن أربعة التي في الم تنزيل وحم السجدة وفي النجم واقرأ باسم ربك وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة
{وَالنَّجْمِ} بمكة فسجد وسجد الناس معه المسلمون والمشركون إلا شيخا وضع كفا من التراب على جبهته وقال إن هذا يكفيني فلقيته قتل كافرا ببدر وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، فسجد وسجد معه أصحابه.
قال: "فإن تلا آية السجدة راكبا أجزأه أن يومئ بها" وقال بشر لا يجزئه لأنها واجبة،

 

ج / 2 ص -8-            فلا يجوز أداؤها على الدابة من غير عذر كالمنذورة فإن الراكب إذا نذر أن يصلي ركعتين لم يجز أن يؤديهما على الدابة من غير عذر.
ولنا: أنه أداها كما التزمها فتلاوته على الدابة شروع فيما تجب به السجدة فكان نظير من شرع على الدابة في التطوع فكما تجوز هناك تجوزها هنا بخلاف النذر فإنه ليس بشروع في أداء الواجب فكان الوجوب بالنذر مطلقا فيقاس بما وجب بإيجاب الله تعالى.
قال: "وإن تلاها على الدابة فنزل ثم ركب وأداها بالإيماء جاز إلا على قول زفر رضي الله تعالى عنه" فإنه يقول لما نزل وجب عليه أداؤها على الأرض فكأنه تلاها على الأرض.
ولنا: أنه لو أداها قبل نزوله جاز، فكذلك بعد ما نزل وركب لأنه يؤديها بالإيماء في الوجهين وهو نظير ما تقدم لو افتتح الصلاة في وقت مكروه.
قال: "ومن تلاها ماشيا لم يجز أن يومئ لها" لأن السجدة ركن الصلاة فكما لا يصلي الماشي بالإيماء فكذلك لا يسجد بخلاف الراكب.
قال: "وإذا قرأها في صلاته وهو في آخر السورة إلا آيات بقين بعدها فإن شاء ركع وإن شاء سجد لها" هكذا روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا تلا آية السجدة في الصلاة ركع ولأن المقصود الخضوع والخشوع وذلك يحصل بالركوع كما يحصل بالسجود. واختلف مشايخنا في أن الركوع ينوب عن سجدة التلاوة أم السجود بعده فمنهم من قال الركوع أقرب إلى موضع التلاوة فهو الذي ينوب عنها والأصح أن سجدة الصلاة تنوب عن سجدة التلاوة لأن المجانسة بينهما أظهر ولأن الركوع افتتاح للسجود ولهذا لا يلزمه الركوع في الصلاة إن كان عاجزا عن السجود وإنما ينوب ما هو الأصل.
قال: "فإذا أراد أن يركع بها ختم السورة ثم ركع ونوى هكذا فسره الحسن عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما وإن أراد أن يسجد لها سجد عند الفراغ من آية السجدة ثم يقوم فيتلو بقية السورة ثم يركع إن شاء وإن شاء وصل إليها سورة أخرى فهو أحب إلي" لأن الباقي من خاتمة السورة دون ثلاث آيات فالأولى إذا قام من سجوده أن يقرأ ثلاث آيات لكيلا يكون بانيا للركوع على السجود.
قال: "وإن كانت السجدة عند ختم السورة فإن ركع لها فحسن وإن سجد لها ثم قام فلا بد أن يقرأ آيات من سورة أخرى ثم يركع" لكيلا يكون بانيا للركوع على السجود.
قال: "فإن لم يفعل ولكنه كما رفع رأسه ركع أجزأه ويكره ذلك" وإن كانت السجدة في وسط السورة فينبغي أن يسجد لها ثم يقوم فيقرأ ما بقي ثم يركع وإن ركع في موضع السجدة أجزأه وإن ختم السورة ثم ركع لم يجزئه ذلك عن السجدة نواها أو لم ينوها لأنها صارت دينا عليه بفوات محل الأداء فلا ينوب الركوع عنها. بخلاف ما إذا ركع عندها

 

ج / 2 ص -9-            فإنها ما صارت دينا بعد لبقاء محلها، وبخلاف ما إذا كانت قريبة من خاتمة السورة فإنها ما صارت دينا بعد حين لم يقرأ بعدها ما يتم به سنة القراءة وهو نظير من أراد دخول مكة فعليه الإحرام فإن لم يحرم ثم خرج من عامه ذلك وأحرم بحجة الإسلام ناب عما يلزمه لدخول مكة أيضا وإن تحولت السنة ثم أحرم بحجة الإسلام لم يجزئه عما لزمه لدخول مكة لأنها صارت دينا عليه بتحول السنة.
قال: "فإن أراد أن يركع بالسجدة بعينها فالقياس أن الركعة والسجدة في ذلك سواء وبالقياس نأخذ. وفي الاستحسان لا يجزئه إلا السجدة" وتكلموا في موضع هذا القياس والاستحسان من أصحابنا من قال مراده إذا تلاها في غير الصلاة وركع ففي القياس يجزئه لأن الركوع والسجود يتقاربان قال الله تعالى:
{وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 24]، أي ساجدا ويقال ركعت النخلة أي طأطأت رأسها والمقصود منهما الخضوع والخشوع فينوب أحدهما عن الآخر كما في الصلاة.
وفي الاستحسان: الركوع خارج الصلاة ليس بقربة فلا ينوب عما هو قربة بخلاف الركوع في الصلاة والأظهر أن مراده من هذا القياس والاستحسان في الصلاة إذا ركع عند موضع السجدة في الاستحسان لا يجزئه لأن سجدة التلاوة نظير سجدة الصلاة فكما أن إحدى السجدتين في الصلاة لا تنوب عن الأخرى والركوع لا ينوب عنهما فكذلك لا ينوب عن سجدة التلاوة وفي القياس يجوز التقارب بين الركوع والسجود فيما هو المقصود وكل واحد منهما في الصلاة قربة وأخذنا بالقياس لأنه أقوى الوجهين والقياس والاستحسان في الحقيقة قياسان وإنما يؤخذ بما يترجح بظهور أثره أو قوة في جانب صحته.
قال: "وإذا سلم من صلاته وعليه سجدة التلاوة ولا يذكرها فقد ذكرنا أن هذا سلام السهو فلا يخرج من الصلاة" حتى لو اقتدى به إنسان جاز اقتداؤه ويسجدها الإمام إذا ذكرها والمقتدي معه ثم يتشهد لأن عوده إلى السجدة ينقض القعدة.
قال: "فإن تكلم قبل أن يذكرها سقطت عنه" لأن الكلام قاطع لحرمة الصلاة وما وجب بالتلاوة في الصلاة كان من أعمال الصلاة فلا يؤدى بعد انقطاع حرمة الصلاة ولم تفسد صلاته لأنها ليست من جملة الأركان.
قال: "وإن وجبت عليه في غير الصلاة ثم ذكرها في الصلاة لم يقضها فيها" لأنها ليست بصلاتية وحرمة الصلاة تمنع من أداء ما ليس من أعمالها فيها وكذلك إن سمعها في صلاته ممن ليس معه في الصلاة لم يسجدها فيها لأنها ليست بصلاتية فإن سببها تلاوة في غير الصلاة فلا يؤديها حتى يفرغ منها وإن سجدها فيها لم تجزئه لأنه أداها قبل وقتها ولا تفسد صلاته إلا في رواية محمد رحمه الله تعالى وقد بيناه فيما تقدم.
قال: "فإن سجد للتلاوة لغير القبلة فإن كان عالما لم يجزئه وإن كان جاهلا أجزأه"،

 

ج / 2 ص -10-         يعني إذا اشتبهت عليه القبلة فتحرى وسجد إلى جهة وقد بينا أن الصلاة بالتحري تجوز إلى غير القبلة فالسجدة أولى وإن ضحك فيها أعادها كما لو تكلم ولم يعد الوضوء لأن الضحك عرف حدثا بالأثر وإنما ورد الأثر في صلاة مطلقة وهذه ليست بصلاة مطلقة وكانت قياس صلاة الجنازة.
قال: "ولا ينبغي للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في صلاة لا يجهر فيها بالقرآن" لأنه لو فعل ذلك وسجد لها اشتبه على القوم فيظنون أنه غلط فقدم السجود على الركوع وفيه من الفتنة ما لا يخفى فإن قرأ بها سجد لها لتقرر السبب في حقه وهو التلاوة وسجد القوم معه لوجوب المتابعة عليهم وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر فظننا أنه قرأ
{الم تَنْزِيلُ} السجدة.
قال: "ويكبر لسجدة التلاوة إذا سجد وإذا رفع رأسه" كما في سجدة الصلاة.
قال: ولا يسلم فيها، لأن السلام للتحليل عن التحريمة وليس فيها تحريمة ولم يذكر ماذا يقول في سجوده والأصح أنه يقول في سجوده من التسبيح ما يقول في سجدة الصلاة وبعض المتأخرين استحسن أن يقول فيها سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا لقوله تعالى:
{يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107] الآية. واستحسن أيضا أن يقوم فيسجد لأن الخرور سقوط من القيام والقرآن ورد به فإن لم يفعل لم يضره.
قال: "رجل قرأ آية السجدة خلف الإمام فسمعها الإمام والقوم فليس على أحد منهم أن يسجدها في الحال ولا بعد الفراغ من الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى. وقال محمد رحمه الله تعالى يسجدون إذا فرغوا من صلاتهم أما في الصلاة لا يسجدون" لأنه لو سجدها التالي وتابعه الإمام انقلب المتبوع تابعا وإن لم يتابعه الإمام كان هو مخالفا لإمامه وإن سجدها الإمام وتابعه التالي كان هذا خلاف موضوع السجدة فإن التالي المعتد به إمام السامعين وأما بعد الفراغ فمحمد رحمه الله تعالى يقول السبب الموجب للسجدة في حقهم قد وجد وهو التلاوة والسماع وحرمة الصلاة منعت الأداء فيها فيسجدون بعد الفراغ كما لو سمعوا من رجل ليس معهم في الصلاة وليس في هذا أكثر من أن المقتدي ممنوع من القراءة خلف الإمام وهذا لا يمنع وجوب السجدة بتلاوته كالجنب إذا تلاها، ولهما حرفان:
الأول: أن الإمام يحمل عن المقتدي فرضا كما يحمل عنه موجب السهو ثم سهو المقتدي يتعطل فكذلك تلاوته.
والثاني: أن هذه السجدة صلاتية لأن سببها تلاوة من يشاركهم في الصلاة والصلاتية إذا لم تؤد في الصلاة لا تؤدى بعد الفراغ منها كما لو تلاها الإمام ولم يسجد في الصلاة بخلاف ما إذا سمعوا ممن ليس معهم في الصلاة لأنها ليست بصلاتية ألا ترى أن المقتدي

 

ج / 2 ص -11-         إذا فتح على إمامه لم تفسد به الصلاة ومن ليس معه في الصلاة إذا فتح على المصلي فسدت صلاته وبه يتضح الفرق وليس هذا كقراءة الجنب لأنه غير ممنوع من قراءة القرآن الموجب للسجدة وهو ما دون الآية بخلاف المقتدي ولأن الجنب ممنوع عن القراءة غير مولي عليه والمقتدي مولى عليه في القراءة والمولى عليه في التصرف لا يتعلق بتصرفه حكم.
قال: "وإذا سمعها من الإمام من ليس معهم في الصلاة فعليه أن يسجدها" لتقرر السبب وهو السماع فإن دخل مع الإمام في صلاته فإن كان الإمام لم يسجدها بعد سجدها والداخل معه كما لو كان في صلاته عند القراءة وإن كان الإمام قد سجدها سقطت عن الرجل لأنه لا يمكنه أن يسجدها في الصلاة إذا يكون مخالفا لإمامه ولا يمكنه أن يسجدها بعد الفراغ لأنها صلاتية في حقه كما هي في حق الإمام فإنه شريك الإمام فيها والصلاتية لا تؤدى بعد الفراغ منها. وفي الأصل بعد ذكر هذه المسألة قال: "ألا ترى لو أن رجلا افتتح الصلاة مع الإمام وهو ينوي التطوع والإمام في الظهر ثم قطعها فعليه قضاؤها فإن دخل معه فيها ينوي صلاة أخرى تطوعا فصلاها معه لم يكن عليه قضاء شيء" وهذه المسألة مبتدأة وهي على ثلاثة أوجه إما أن ينوي قضاء الأولى أو لم يكن له نية أو نوى صلاة أخرى.
ففي الوجهين الأولين عندنا سقط عنه ما لزمه بالإفساد وقال زفر رضي الله تعالى عنه لا يسقط لأن ما لزمه بالإفساد صار دينا كالمنذورة فلا بد أن يتأدى خلف الإمام حين يصلي صلاة أخرى ولكنا نقول لو أتمها حين شرع فيها لم يلزمه شيء آخر فكذلك إذا أتمها بالشروع الثاني لأنه ما التزم بالشروع إلا أداء هذه الصلاة مع الإمام وقد أداها. فإن كان قد نوى تطوعا آخر فقد قال ها هنا ينوب عما لزمه بالإفساد وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله تعالى عنهما وفي زيادات الزيادات قال لا ينوب وهو قول محمد رضي الله تعالى عنه. ووجهه: أنه لما نوى صلاة أخرى فقد أعرض عما كان دينا في ذمته بالإفساد فلا ينوب هذا المؤدى عنه بخلاف الأول وجه قولهما أنه ما التزم في المرتين إلا أداء هذه الصلاة مع الإمام وقد أداها.
قال: "فإن قرأها المصلي وسمعها أيضا من أجنبي أجزأه سجدة واحدة" وروى بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه قال لا تجزئه لأن السماعية ليست بصلاتية والتي أداها صلاتية فلا تنوب عما ليست بصلاتية، وجه ظاهر الرواية أنه أدى ما لزمه بالتلاوة وهو أقوى من السماعية لأن لها حرمتين حرمة التلاوة لها وحرمة الصلاة وللسماعية حرمة واحدة والقوي ينوب عن الضعيف ولو استويا ناب أحدهما عن الثاني فلأن ينوب القوي عن الضعيف كان أولى.
قال: "وإن تلاها في الصلاة وسجد ثم أحدث فذهب وتوضأ ثم عاد إلى مكانه وبنى على صلاته ثم قرأ ذلك الأجنبي تلك السجدة فعلى هذا المصلي أن يسجدها إذا فرغ من

 

ج / 2 ص -12-         صلاته" لأن بذهابه ورجوعه تجدد له مجلس آخر مما لا يكون من صلاته والسماعية ليست من صلاته فيجعل في حقها كأنه لم يكن في الصلاة ومن ليس في الصلاة إذا سمع وسجد ثم ذهب فتوضأ ثم عاد وسمع فعليه سجدة أخرى.
قال: "وإن قرأها في غير الصلاة وسجد ثم افتتح الصلاة في مكانه فقرأها فعليه سجدة أخرى" لأن التي وجبت للتلاوة في الصلاة صلاتية فلا تنوب عنها المؤداة قبل الشروع في الصلاة لأنها أضعف. وإن لم يكن سجد أولا حتى شرع في الصلاة في مكانه فقرأها فسجد أجزأته عنهما في ظاهر الرواية. وفي رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى وهو إحدى روايتي نوادر الصلاة لا تجزئه عن الأولى ووجهه أنه لا يمكن إدخال الثانية في الأولى لأنها أقوى ولا يمكن إدخال الأولى في الثانية لأنه خلاف موضوع التداخل فلا بد من اعتبار كل واحدة منهما على حدة الصلاتية تؤدى في الصلاة وغير الصلاتية وهي الأولى تؤدى بعد الفراغ منها. ووجه ظاهر الرواية أن السبب واحد فإن المتلو آية واحدة والمكان واحد والمؤداة أكمل من الأولى لأن لها حرمتين ولو كانت مثل الأولى لنابت عنها فإذا كانت أكمل من الأولى فأولى أن تنوب عنها.
قال: "رجل قرأ آية السجدة فسجدها ثم قرأها ثانية بعد ما أطال القعود أجزأته السجدة الأولى" لأنه لم يشتغل بين التلاوتين بعمل يقطع به المجلس وباتحاد المجلس يتحد السبب فإن أكل أو نام مضطجعا أو أخذ في بيع أو شراء أو عمل يعرف أنه قطع لما كان قبل ذلك ثم قرأ فعليه سجدة أخرى لأن المجلس يبتدل بهذه الأعمال ألا ترى أن القوم يجلسون لدرس العلوم فيكون مجلسهم مجلس الدرس ثم يشتغلون بالأكل فيصير مجلس الأكل ثم يقتتلون فيصير مجلسهم مجلس القتال وصار تبدل المجلس بهذه الأعمال كتبدله بالذهاب والرجوع.
قال: "وإن نام قاعدا أو أكل لقمة أو شرب شربة أو عمل عملا يسيرا ثم قرأها فليس عليه أخرى" لأن بهذا القدر لا يتبدل المجلس والقياس فيهما سواء أنه لا يلزمه أخرى لبقائه في مكانة حقيقة ولكنا استحسنا إذا طال العمل اعتبارا بالمخيرة إذا عملت عملا كثيرا خرج الأمر من يدها وكان قطعا للمجلس بخلاف ما إذا أكلت لقمة أو شربت شربة.
قال: "وإن قرأ بعدها سورة طويلة ثم أعاد قراءة تلك السجدة لم يكن عليه أن يسجدها" لأن مجلسه لم يتبدل بقراءة القرآن فإن قراءة القرآن من السجود فباتحاد المجلس يتحد السبب.
قال: "وإن قرأها في الركعة الأولى وسجدها ثم أعادها في الثانية أو الثالثة لم يكن عليه سجود" ولم يذكر ها هنا اختلافا وقال في الجامع الكبير في القياس وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الآخر ليس عليه سجدة أخرى وفي الاستحسان وهو قوله الأول وقول محمد رحمه الله تعالى عليه سجدة أخرى. وجه ذلك أن للقراءة في كل ركعة حكما على حدة حتى

 

ج / 2 ص -13-         يسقط به فرض القراءة فكانت الأعادة في الركعتين نظير الإعادة في الصلاتين. وجه القياس: أن المكان مكان واحد وحرمة الصلاة حرمة واحدة والمتلو آية واحدة فلا يجب إلا سجدة واحدة كما لو أعادها في الركعة الأولى وقد قررنا هذا الفصل فيما أمليناه من شرح الجامع.
قال: "وإذا قرأ الإمام سجدة في ركعة وسجدها ثم أحدث في الركعة الثانية فقدم رجلا جاء ساعتئذ فقرأ تلك السجدة فعليه أن يسجدها" لتقرر السبب في حقه وهو التلاوة ولم يوجد منه أداء قبل هذا وهو في هذه التلاوة مبتدى ء وعلى القوم أن يسجدوا معه لأنهم التزموا متابعته. وإذا سجدها في الصلاة ثم سلم وتكلم ثم قرأها في مكانه فعليه أن يسجدها. وفي نوادر أبي سليمان قال إذا سلم ثم قرأ فليس عليه أن يسجدها وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فموضوع المسألة هناك فيما إذا أعادها قبل أن يتكلم وبالسلام لم ينقطع فور الصلاة فكأنه أعادها في الصلاة وهنا موضوع المسألة فيما إذا تكلم وبالكلام ينقطع فور الصلاة ألا ترى أنه لو تذكر سجدة تلاوة بعد السلام يأتي بها وبعد الكلام لا يأتي بها فيكون هذا في معنى تبدل المجلس.
قال: "في الأصل وإن لم يسجدها في الصلاة حتى سجدها الآن أجزأه عنهما وهو سهو" وإن كان مراده أعادها بعد الكلام لأن الصلاتية قد سقطت عنه بالكلام إلا أن يكون مراده أعادها بعد السلام قبل الكلام فحينئذ يستقيم لأنه لم يخرج عن حرمة الصلاة وإنما كررها في الصلاة وسجد. وإن قرأها راكبا ثم نزل قبل أن يسير فقرأها فعليه سجدة واحدة استحسانا وفي القياس عليه سجدتان لتبدل مكانه بالنزول وفي الاستحسان النزول عمل يسير حتى لا يمنعه من البناء على الصلاة فلا يتبدل به المجلس فإن كان سار ثم نزل فعليه سجدتان لأن سير الدابة كمشيه فيتبدل به المجلس.
قال: "وإن قرأها على الأرض ثم ركب فقرأها قبل أن يسير سجدها سجدة واحدة على الأرض ولو سجدها على الدابة لا تجزئه عن الأولى" لأن المؤداة أضعف من الأولى وإن سجدها على الأرض فالمؤداة أقوى والمكان مكان واحد فتنوب المؤداة عنهما. وإن قرأها راكبا ثم نزل، ثم ركب فقرأها وهو في مكانه فعليه سجدة واحدة لما بينا أن المكان واحد والمتلو آية واحدة. وإن قرأها راكبا سائرا مرتين فإن كان في غير الصلاة فعليه سجدتان لأن سير الدابة مضاف إليه فإنه يملك إيقافها متى شاء فكان نظير مشيه وهو يتبدل به المجلس بخلاف راكب السفينة فإن السفينة في حقه كالبيت وهو لا يجريها بل هي تجري به.
وإن كان في الصلاة لم يكن عليه إلا سجدة واحدة لأن المكان وإن تفرق فإن حرمة الصلاة واحدة والسجدة من الصلاة لا من المكان فيراعي فيها اتحاد حرمة الصلاة. ومن أصحابنا من يقول هذا إذا أعادها في ركعة واحدة فإن أعادها في ركعتين ينبغي أن يكون على الخلاف الذي بينا في المصلي على الأرض. ومنهم من قال لا بل الجواب ها هنا في

 

ج / 2 ص -14-         الكل واحد والفرق لمحمد بينه وبين المصلي على الأرض أن هناك يركع ويسجد وذلك عمل كثير يتخلل بين التلاوتين والراكب يومئ وهو عمل يسير فلهذا لا يتجدد به وجوب السجدة.
قال: "فإن سمعها من غيره مرتين وهو يسير على الدابة فعليه سجدتان" لأن هذه ليست بصلاتية فيعتبر فيه اختلاف الأمكنة لاتحاد حرمة الصلاة فلهذا يلزمه بالسماع في كل مرة سجدة والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب المستحاضة
قال: "وإذا أدركها الحيض في شيء من الوقت وقد افتتحت الصلاة أو لم تفتتحها سقطت تلك الصلاة عنها أما إذا حاضت بعد دخول الوقت فليس عليها قضاء تلك الصلاة إذا طهرت عندنا" وقال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى عليها قضاؤها لأن الحيض يمنع وجوب الصلاة ولا يسقط الواجب وقد وجب عليها بإدراك جزء من أول الوقت بدليل أنها لو أدت كانت مؤدية للفرض. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه إذا مضى من الوقت مقدار ما يمكنها أن تصلي فيه ثم حاضت فعليها القضاء لأن التمكن من الأداء معتبر لتقرر الوجوب فإذا وجد تقرر وجوب الصلاة عليها فلا تسقط بعد ذلك بالحيض. وقال زفر رضي الله تعالى عنه إذا كان الباقي من الوقت حين حاضت مقدار ما يمكنها أن تصلي فيه فليس عليها قضاء تلك الصلاة وإن كان دون ذلك فعليها القضاء لأن الوجوب في أول الوقت موسع وإنما يضيق بآخر الوقت والقضاء يجب بالتفويت فما بقي من الوقت مقدار ما يمكن فيه أداء الصلاة لم تكن هي مفوتة بالتأخير شيئا حتى لا تكون آثمة مفرطة وإن كان الباقي دون ذلك فهي آثمة مفرطة وكانت مفوتة فيلزمها القضاء كما لو حاضت بعد خروج الوقت. ولكنا نقول ما بقي شيء من الوقت فالصلاة لم تصر دينا في ذمتها بل هي في الوقت عين وإنما تعذر عليها الأداء بسبب الحيض وذلك غير موجب للقضاء فأما بخروج الوقت فتصير الصلاة دينا في ذمتها والحيض لا يمنع كون الصلاة دينا في ذمتها.
وقد بينا فيما سبق أن الوجوب يتعلق بآخر الوقت لكونه مخيرا في أول الوقت وما لم يتقرر الوجوب لا يجب القضاء فإذا اقترن الحيض بوقت تقرر الوجوب فلم يتقرر الوجوب وإذا حاضت بعد خروج الوقت فلم يقترن الحيض بحال تقرر الوجوب فتقرر وعلى هذا لو نفست في آخر الوقت بالولادة أو بإسقاط سقط مستبين الخلق وكذلك لو أغمى على الرجل بعد دخول الوقت وطال إغماؤه ففي وجوب قضاء تلك الصلاة اختلاف على ما بينا وكذلك لو افتتحت الصلاة في الوقت ثم حاضت وهذا بخلاف التطوع فإنه لو أدركها الحيض بعد ما افتتحت التطوع كان عليها قضاء تلك الصلاة إذا طهرت لأنها بالشروع التزمت الأداء فكأنها التزمته بالنذر وفي الفريضة بالشروع ما التزمت شيئا وإنما شرعت للإسقاط لا للالتزام. فإذا

 

ج / 2 ص -15-         أدركها الحيض التحقت بما لو لم تشرع وإنما قلنا هذا لأن التزام ما هو لازم لا يتحقق ألا ترى أن من نذر أداء فريضة لم يلزمه بالنذر شيء.
قال: "وإذا طهرت من الحيض وعليها من الوقت مقدار ما تغتسل فيه فعليها قضاء تلك الصلاة" وإن كان عليها من الوقت مقدار ما لا تستطيع أن تغتسل فيه فليس عليها قضاء تلك الصلاة قال: "وهذا إذا كانت أيامها دون العشرة فأما إذا كانت أيامها عشرة فانقطع الدم وقد مر عليها من الوقت شيء قليل أو كثير فعليها قضاء تلك الصلاة" هكذا فسره في نوادر أبي سليمان رحمه الله تعالى لأنه إذا كانت أيامها عشرة فبمجرد انقطاع الدم تيقنا خروجها من الحيض لأن الحيض لا يكون أكثر من ذلك فإذا أدركت جزءا من الوقت لزمها قضاء تلك الصلاة سواء تمكنت فيه من الاغتسال أو لم تتمكن بمنزلة كافر أسلم وهو جنب أو صبي بلغ بالاحتلام في آخر الوقت فعليه قضاء تلك الصلاة سواء تمكن من الاغتسال في الوقت أو لم يتمكن.
وأما إذا كانت أيامها دون العشرة فمدة الاغتسال من جملة حيضها على ما قال الشعبي حدثني سبعة عشر نفرا من الصحابة أن الزوج أحق برجعتها ما لم تغتسل وهذا لأن صاحبة هذه البلوى لا تكاد ترى الدم على الولاء ولكنه يسيل تارة وينقطع أخرى فبمجرد الانقطاع لا تخرج من الحيض لجواز أن يعاودها فإذا اغتسلت يحكم بطهارتها شرعا، فإذا ثبت أن مدة الاغتسال من حيضها قلنا إذا أدركت من الوقت مقدار ما يمكنها أن تغتسل فيه وتفتتح الصلاة فقد أدركت جزأ من الوقت بعد الطهارة فعليها قضاء تلك الصلاة وإلا فلا. وعلى هذا حكم القربان للزوج إن كانت أيامها عشرة فمتى انقطع الدم جاز للزوج أن يقربها عندنا، وعند زفر رحمة الله تعالى ليس له ذلك ما لم تغتسل لقوله تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] والإطهار بالاغتسال.
ولنا: أن بمجرد انقطاع الدم تيقنا خروجها من الحيض والمانع من الوطء الحيض لا وجوب الاغتسال عليها ألا ترى أن الطاهرة إذا كانت جنبا فللزوج أن يقربها فكذلك هنا بعد التيقن بالخروج من الحيض للزوج أن يقربها، ولو كانت أيامها دون العشرة فانقطع دمها لم يكن للزوج أن يقربها ما لم تغتسل لأن مدة الاغتسال من حيضها فإن مضى عليها وقت صلاة فللزوج أن يقربها عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى ليس له ذلك لبقاء فرض الاغتسال عليها كما لو كان قبل مضي الوقت ولكنا نقول بمضي الوقت صارت الصلاة دينا في ذمتها وذلك من أحكام الطهارات فثبتت صفة الطهارة به شرعا كما ثبتت بالاغتسال ومن ضرورته انتفاء صفة الحيض فكان له أن يقربها.
قال: "وإذا كان حيضها خمسة أيام فزاد الدم عليها فالزيادة دم حيض معها إلى تمام العشرة" لأن عادة المرأة في جميع عمرها لا تبقى على صفة واحدة بل تزداد تارة وتنقص

 

ج / 2 ص -16-         أخرى بحسب اختلاف طبعها في كل وقت فما يمكن أن يجعل حيضا جعلناه لأن مبنى الحيض على الإمكان ألا ترى أن الصغيرة إذا بلغت فاستمر بها الدم يجعل حيضها عشرة للإمكان فهذا كذلك فإذا زاد على العشرة كان حيضها هي الخمسة والزيادة استحاضة لأن الحيض لا يكون أكثر من عشرة فتيقنا فيما زاد على العشرة أنها استحاضة وتيقنا في أيامها بالحيض بقي التردد فيما زاد عليه إلى تمام العشرة إن الحقناه بما قبله كان حيضا وإن الحقناه بما بعده كان استحاضة فلا تترك الصلاة فيه بالشك وإلحاقه بما بعده أولى لأنه ما ظهر إلا في الوقت الذي ظهرت فيه الاستحاضة متصلا به والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها".
قال: "ولو كان حيضها خمسة أيام في أول كل شهر فتقدم حيضها بيوم أو بيومين أو خمسة فهي حائض اعتبارا للمتقدم بالمتأخر" ولم يذكر الاختلاف في الأصل وذكر في نوادر أبي سليمان رضي الله تعالى عنه. والحاصل أن المتقدم إذا كان بحيث لا يمكن أن يجعل حيضا بانفراده وما رأت في أيامها بحيث يمكن أن يجعل حيضا فالمتقدم تبع لأيامها والكل حيض بالاتفاق لأن ما لا يستقل بنفسه تبع لما يستقل بنفسه. فأما إذا لم تر في أيامها شيئا ورأت قبل أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا من خمسة أيام أو ثلاثة أو رأت في أيامها مع ذلك يوما أو يومين أو رأت قبل أيامها يوما أو يومين لم يكن شيء من ذلك حيض عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لأنه دم مستنكر مرئي قبل وقته فهي كالصغيرة جدا إذا رأت الدم لا يكون حيضا وعندهما الكل حيض لوجود الإمكان فإنه مرئي عقيب طهر صحيح وباب الحيض مبني على الإمكان كما قررنا. فأما إذا رأت قبل أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا بانفراده وفي أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا بانفراده فعندهما الكل حيض إذا لم يجاوز العشرة. وعن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيه روايتان:
أحداهما: أن الكل حيض لأن ما رأت في أيامها كان أصلا مستقلا بنفسه فيستتبع ما قبله.
والرواية الأخرى: أن حيضها ما رأت في أيامها دون ما رأت قبلها وهو رواية المعلى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن كل واحد منهما لما كان مستقلا بنفسه لم يكن تبعا لغيره والمتقدم مستنكر مرئي قبل وقته وهو خلاف المتأخر لأن في المتأخر قد صارت هي حائضا بما رأت في أيامها فبقيت صفة الحيض لها بالمرئي بعده تبعا وفي المتقدم الحاجة في اثبات صفة الحيض لها ابتداء وذلك لا يكون بالمستنكر المرئي قبل وقته.
قال: "وإن كان حيضها مختلفا مرة تحيض خمسة ومرة سبعة فاستحيضت فإنها تدع الصلاة خمسة بيقين ثم تغتسل" لتوهم خروجها من الحيض وتصلي يومين بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تغتسل لتوهم خروجها من الحيض وليس لزوجها أن يقربها في هذين اليومين

 

ج / 2 ص -17-         احتياطا لجواز أنها حائض فيهما ولو كان هذا آخر عدتها لم يكن للزوج أن يراجعها في هذين اليومين احتياطا.
قال: "وليس لها أن تتزوج في هذين اليومين احتياطا" وهذا كله إذا لم ينقطع الدم في هذين اليومين فتأخذ بالاحتياط في كل جانب وقد بينا فيما سبق أن المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة ولها أن تصلي في الوقت ما شاءت بوضوء واحد من فرض أو نفل أو نذر أو فائتة.
قال: "فإن أحدثت حدثا آخر في الوقت فعليها إعادة الوضوء" لأن طهارتها تتقدر بالوقت في حق الدم السائل لأجل الضرورة ولا ضرورة في سائر الأحداث فهي فيها كغيرها من الأصحاء وكذلك إن توضأت للحدث أولا ثم سال دم الاستحاضة فعليها الوضوء لأن الوضوء الأول لما سبق دم الاستحاضة لم يكن واقعا عن دم الاستحاضة فالحكم لا يسبق سببه فكان ذلك في حكم دم الاستحاضة كالمعدوم.
قال: "ولو كان حيضها خمسة فحاضت ستة ثم حاضت حيضة أخرى سبعة ثم حاضت أخرى ستة فحيضها ستة وكلما عاودها الدم مرتين فحيضها ذلك" ومراده إذا استمر بها الدم واحتاجت إلى البناء وهذا الجواب وهو قوله حيضها ستة عندهم جميعا أما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى فإن العادة تنتقل بالمرة الواحدة فإنما تبنى على ما رأت آخر مرة لأن عادتها انتقلت إليها. وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا يحصل انتقال العادة بما دون المرتين ليتأكد بالتكرار فستة قد رأته مرتين فانتقلت إليها واليوم السابع إنما رأت الدم فيه مرة فلم يتأكد بالتكرار والبناء في زمان الاستمرار على ما تأكد بالتكرار هذا معنى قوله "كلما عاودها الدم مرتين فحيضها ذلك".
قال: "وإن كان حيضها خمسا فحاضتها وطهرت أربعة أيام ثم عاودها اليوم العاشر كله ثم انقطع فذلك كله حيض" ولا يجزئها صومها في الأربعة الأيام التي طهرت فيها عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن عنده الطهر المتخلل إذا كان دون خمسة عشر يوما لم يكن فاصلا عنده وهو روايته عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وكذلك على رواية محمد عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما لأن الدم محيط بطرفي العشرة وكذلك على رواية بن المبارك عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم لأنها رأت في أكثر الحيض مثل أقله وزيادة وكذلك على قول محمد رضي الله تعالى عنه لأن الدم غالب على الطهر في العشرة فأما قول الحسن رضي الله تعالى عنه فحيضها خمستها لأن عنده إذا بلغ الطهر المتخلل ثلاثة أيام يصير فاصلا والاستقصاء في بيان هذه الرواية في كتاب الحيض.
قال: والحمرة والصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض حتى ترى البياض الخالص وقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه: لا تكون الكدرة حيضا إلا بعد الحيض لأن الحيض:

 

ج / 2 ص -18-         الدم الخارج من الرحم دون الخارج من العرق ودم الحيض يجتمع في الطهر في الرحم ثم يخرج الصافي منه ثم الكدرة فأما دم العرق فيخرج منه الكدرة أولا ثم الصافي ومن أشكل عليه هذا فلينظر في حال المفتصد فإذا خرجت الكدرة أولا كان ذلك دليلا لنا على أنه دم عرق وأما إذا خرج الصافي منه أولا ثم الكدرة عرفنا أنه من الرحم فكان الكل حيضا ولكنا نقول ما يكون حيضا إذا رأته المرأة في آخر أيامها يكون حيضا إذا رأته في أول أيامها كالحمرة والصفرة وهذا لأن الحيض بالنص هو الأذى المرئي من موضع مخصوص والكل في صفة الأذى سواء.
قال: "وألوان الدم ستة والبيان الشافي فيه في كتاب الحيض" وإنما قال حتى ترى البياض الخالص لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النساء كن يبعثن بالكراسف إليها لتنظرها فكانت إذا رأت كدرة قالت لا حتى ترين القصة البيضاء يعني البياض الخالص. قيل هو بياض الخرقة، وقيل: هو شبه خيط دقيق أبيض تراه المرأة على الكرسف إذا طهرت.
قال: "فإن حاضت المرأة في شهر مرتين فهي مستحاضة" والمراد أنه لا يجتمع في شهر واحد حيضتان وطهران لأن أقل الحيض ثلاثة وأقل الطهر خمسة عشر. وقد ذكر في الأصل سؤالا "فقال" "لو رأت في أول الشهر خمسة ثم طهرت خمسة عشر ثم رأت الدم خمسة أليس قد حاضت في شهر مرتين" ثم أجاب فقال: "إذا ضممت إليها طهرا آخر كان أربعين يوما والشهر لا يشتمل على ذلك". ويحكي أن امرأة جاءت إلى علي رضي الله عنه فقالت إني حضت في شهر ثلاث مرات فقال رضي الله تعالى عنه لشريح ماذا تقول في ذلك فقال إن أقامت بينة من بطانتها ممن يرضى بدينه وأمانته قبل منها قال علي رضي الله عنه قالون وهي بلغة الرومية أصبت ومراد شريح من هذا تحقيق نفي أنها لا تجد ذلك وأن هذا لا يكون.
قال: "وما رأت النفساء من الدم زيادة على أربعين يوما فهي استحاضة تصلي فيها ويأتيها زوجها" لأن أكثر النفاس يتقدر بأربعين يوما عندنا وبيانه في كتاب الحيض فكانت الأربعون للنفاس كالعشرة للحيض فكما أن الزيادة على العشرة هناك تكون استحاضة فكذلك الزيادة على الأربعين ها هنا.
قال: "وإن طهرت قبل الأربعين اغتسلت وصلت" لأنه لا تقدير في أقل النفاس فإنه اسم للدم الخارج عقب الولادة مشتق من تنفس الرحم به والقليل والكثير فيه سواء فإذا طهرت كان عليها أن تغتسل وتصلي بناء على الظاهر لأن معاودة الدم إياها موهومة ولا يترك المعلوم بالموهوم.
قال: "فإن كانت عادتها في النفاس ثلاثين يوما فطهرت في عشرين يوما وصلت وصامت عشرة أيام ثم عاودها الدم فاستمر بها حتى جاوز الأربعين فهي مستحاضة فيما زاد على الثلاثين"،

 

ج / 2 ص -19-         لأن صاحبه العادة في النفاس كصاحبة العادة في الحيض وقد بينا هناك أنه متى زاد على عادتها وجاوز العشرة ترد إلى أيام عادتها وتجعل مستحاضة فيما زاد على ذلك فهذا مثله.
قال: "ولا يجزئها صومها في العشرة التي صامتها قبل الثلاثين" قال الحاكم "وهذا على مذهب أبي يوسف مستقيم وعلى مذهب محمد فيه نظر" وهذا لأن أبا يوسف يرى ختم النفاس بالطهر إذا كان بعده دم، كما يرى ختم الحيض بالطهر إذا كان بعده دم فيمكن جعل الثلاثين نفاسا لها عنده وإن كان ختمها بالطهر. ومحمد لا يرى ختم النفاس والحيض بالطهر فنفاسها عنده في هذا الفصل عشرون يوما فلا يلزمها قضاء ما صامت في العشرة الأيام التي بعد العشرين.
قال: "ودم الحامل ليس بحيض وإن كان ممتدا عندنا" وقال الشافعي رضي الله عنه هو حيض في حكم ترك الصوم والصلاة وحرمة القربان دون أقراء العدة قال لأن الحامل من ذوات الأقراء فإن المرأة إما صغيرة أو آيسة أو ذات قرء والحامل ليست بصغيرة ولا آيسة ولأن ما ينافي الأقراء ينافي الحبل كالصغر واليأس وإذا ثبت أنها من ذوات الإقراء وقد رأت من الدم ما يمكن أن يجعل حيضا جعل حيضا لها والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت أبي حبيش:
"إذا أقبل قرؤك فدعي الصلاة"، إلا أنا لا نجعل حيضها معتبرا في حكم أقراء العدة، لأنها لا تدل على فراغ الرحم في حقها وهي المقصود بأقراء العدة.
ومذهبنا مذهب عائشة رضي الله عنها فإنها قالت الحامل لا تحيض ومثل هذا لا يعرف بالرأي فيحمل على أنها قالت ذلك سماعا ثم إن الله تعالى أجرى العادة أن المرأة إذا حبلت انسد فم رحمها فلا يخلص شيء إلى رحمها ولا يخرج منه شيء فالدم المرئي ليس من الرحم فلا يكون حيضا والدليل عليه أنه لما نزل قوله تعالى:
{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 288]، قالت الصحابة: فإن كانت آيسة أو صغيرة فنزل قوله: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ} [الطلاق: 4]، فقالوا: فإن كانت حاملا فنزل قوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ففي هذا بيان أن الحامل لا تحيض وأنها ليست من ذوات الأقراء. وتبين بهذا أن قوله: "إذا أقبل قرؤك" يتناول الحائل دون الحامل.
قال: "فإن ولدت ولدا وفي بطنها آخر فالنفاس من الأول في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد وزفر رحمهما الله تعالى من الآخر" لأنها بعد وضع الأول حامل بعد والحامل لا تصير نفساء كما لا تحيض والدليل عليه حكم انقضاء العدة فإنه معتبر بالولد الآخر: وهما يقولان النفاس من تنفس الرحم بالدم من خروج النفس الذي هو الولد أو من خروج النفس الذي هو عبارة عن الدم وقد وجد ذلك كله بالولد الأول وإنما لا تحيض الحامل لانسداد فم الرحم وقد انفتح بالولد الأول فكان الدم المرئي بعده من الرحم وفي حكم انقضاء العدة العبرة بفراغ الرحم ولا يحصل ذلك إلا بالولد الآخر.

 

ج / 2 ص -20-         قال: "وإذا توضأت المستحاضة والدم سائل ولبست خفيها فلها أن تمسح عليهما ما دامت في وقت تلك الصلاة عندنا.
وقال زفر رضي الله عنه: تمسح كمال مدة المسح" وقد بينا هذا في باب المسح على الخفين.
قال: "وإذا وجب الوضوء بذهاب الوقت وهي في الصلاة استقبلت الصلاة وإذا وجب بسيلان الدم بنت على صلاتها" ومعنى هذا إذا كان الدم سائلا حين توضأت أو سال بعد الوضوء قبل خروج الوقت فخرج الوقت وهي في الصلاة فعليها أن تستقبل لأن خروج الوقت ليس بحدث ولكن عند خروج الوقت تنتقض طهارتها بالدم السائل مقرونا بالطهارة أو بعدها في الوقت وقد أدت جزءا من الصلاة بعد ذلك الدم وأداء جزء من الصلاة بعد سبق الحدث يمنع البناء عليها
فأما إذا توضأت والدم منقطع وخرج الوقت في خلال الصلاة قبل سيلان الدم ثم سال الدم فإنها تتوضأ وتبني لأن وجوب الوضوء بالدم السائل بعد خروج الوقت ولم يوجد بعده أداء شيء من الصلاة فكان لها أن تتوضأ وتبني.
قال: "وصاحب الرعاف السائل كالمستحاضة" فإنه يتوضأ لوقت كل صلاة.
قال: "وإن سال الدم من أحد المنخرين فتوضأ له ثم سال من المنخر الآخر فعليه الوضوء" لأن هذا حدث جديد لم يكن موجودا وقت الطهارة فلم تقع الطهارة له فهو والبول والغائط سواء. وإن كان سال منهما جميعا فتوضأ لهما ثم انقطع أحدهما فهو على وضوء ما بقى الوقت لأن وضوءه وقع لهما وما بقي بعد انقطاع أحدهما حدث كامل ألا ترى أنه لو لم يكن توضأ في الابتداء إلا لواحد كان يتقدر وضوؤه بالوقت لأجله فكذلك في حكم البقاء وما انقطع صار كأن لم يكن وعلى هذا حكم صاحب القروح إذا كان البعض سائلا ثم سال من آخر أو كان الكل سائلا فانقطع السيلان عن البعض والله تعالى أعلم.

باب صلاة الجمعة
قال: رضي الله عنه "اعلم أن الجمعة فريضة بالكتاب والسنة" أما الكتاب فقوله تعالى:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]. والأمر بالسعي إلى الشيء لا يكون إلا لوجوبه والأمر بترك البيع المباح لأجله دليل على وجوبه أيضا. والسنة حديث جابر رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا وتقربوا إلى الله بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا وتحببوا إلى الله بالصدقة في السر والعلانية تجبروا وتنصروا وترزقوا واعلموا أن الله تعالى كتب عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا فمن تركها تهاونا بها واستخفافا بحقها وله إمام جائر أو عادل فلا جمع الله شمله ألا فلا صلاة له ألا فلا صوم له إلا أن يتوب فإن تاب تاب الله عليه". وفي حديث ابن عباس وابن عمر، رضي الله عنهم، قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعواد منبره يقول: "لينتهين أقوام عن ترك الجمعة أو ليختمن الله على قلوبهم وليكونن من الغافلين".

 

ج / 2 ص -21-         والأمة أجمعت على فرضيتها وإنما اختلفوا في أصل الفرض في الوقت فمن العلماء من يقول أصل الفرض الجمعة في حق من تلزمه إقامتها وكانت فريضة الجمعة بزوال الشمس في هذا اليوم كفريضة الظهر في سائر الأيام وهو قول الشافعي. وأكثر العلماء على أن أصل فرض الوقت في هذا اليوم ما هو في سائر الأيام وهو الظهر ولكنه مأمور بإسقاط هذا الفرض بالجمعة إذا استجمع شرائطها لأن أصل الفرض في حق كل أحد ما يتمكن من أدائه ولا يتمكن من أداء الجمعة بنفسه وإنما يتمكن من أداء الظهر ولو جعلنا أصل الفرض الجمعة لكان الظهر خلفا عن الجمعة عند فواتها وأربع ركعات لا تكون خلفا عن ركعتين فعلمنا أن أصل الفرض الظهر ولكنه مأمور بإسقاط هذا الفرض عن نفسه بأداء الجمعة إذا استجمع شرائطها فهي تختص بشرائط منها في المصلي ومنها في غيره.
قال: "أما الشرائط في المصلي لوجوب الجمعة فالإقامة والحرية والذكورة" والصحة لحديث جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا مسافر ومملوك وصبي وامرأة ومريض فمن استغنى عنها بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد". والمعنى أن المسافر تلحقه المشقة بدخول المصر وحضور الجمعة وربما لا يجد أحدا يحفظ رحله وربما ينقطع عن أصحابه فلدفع الحرج أسقطها الشرع عنه والمملوك مشغول بخدمة المولى فيتضرر منه المولى بترك خدمته وشهود الجمعة وانتظاره الإمام فلدفع الضرر عنه أسقطها الشرع عنه كما أسقط عنه الجهاد بخلاف الظهر فإنه يتمكن من أدائه حيث هو بنفسه فلا ينقطع عن خدمة المولى أو ذلك القدر مستثنى عنه من حق المولى إذ ليس فيه ضرر كثير عليه وتحمل الضرر اليسير لا يدل على تحمل الضرر الكثير.
قال: "والمرأة كذلك مشغولة بخدمة الزوج منهية عن الخروج شرعا" لما في خروجها إلى مجمع الرجال من الفتنة والمريض يلحقه الحرج في شهود الجمعة وانتظار الإمام، وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه الأعمى لا يلزمه شهود الجمعة وإن وجد قائدا لأنه عاجز عن السعي بنفسه ويلحقه من الحرج ما يلحق المريض. وعندهما إذا وجد قائدا تلزمه لأنه قادر على السعي وإنما لا يهتدي إلى الطريق فهو كالضال إذا وجد من يهديه إلى الطريق غير أن هذه شرائط الوجوب لا شرائط الأداء حتى أن المسافر والمملوك والمرأة والمريض إذا شهدوا الجمعة فأدوها جازت لحديث الحسن رضي الله تعالى عنه كن النساء يجمعن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال لهن: لا تخرجن إلا تفلات أي غير متطيبات ولأن سقوط فرض السعي عنهم لا لمعنى في الصلاة بل للحرج والضرر فإذا تحملوا التحقوا في الأداء بغيرهم.
قال: "فأما الشرائط في غير المصلي لأداء الجمعة فستة المصر والوقت والخطبة والجماعة والسلطان والإذن العام".

 

ج / 2 ص -22-         أما المصر فهو شرط عندنا وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه ليس بشرط فكل قرية سكنها أربعون من الرجال لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا تقام بهم لما روي أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد المدينة جمعت بجواثى وهي قرية من قرى عبد القيس بالبحرين وكتب أبو هريرة إلى عمر رحمه الله تعالى يسأله عن الجمعة بجواثى فكتب إليه أن جمع بها وحيثما كنت.
ولنا: قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع". وقال علي رضي الله تعالى عنه لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع ولأن الصحابة حين فتحوا الأمصار والقرى ما اشتغلوا بنصب المنابر وبناء الجوامع إلا في الأمصار والمدن وذلك اتفاق منهم على أن المصر من شرائط الجمعة وجوائي مصر بالبحرين وتسمية الراوي إياها بالقرية لا ينفي ما ذكرنا من التأويل قال الله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92]. ومعنى قول عمر رضي الله تعالى عنه وحيثما كنت أي مما هو مثل جواثي من الأمصار.
وظاهر المذهب في بيان حد المصر الجامع أن يكون فيه سلطان أو قاض لإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام. وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أن يتمكن كل صانع أن يعيش بصنعته فيه ولا يحتاج فيه إلى التحول إلى صنعة أخرى. وقال ابن شجاع رضي الله تعالى عنه أحسن ما قيل فيه أن أهلها بحيث لو اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم ذلك حتى احتاجوا إلى بناء مسجد الجمعة فهذا مصر جامع تقام فيه الجمعة. ثم في ظاهر الرواية لا تجب الجمعة إلا على من سكن المصر والأرياف المتصلة بالمصر. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن كل من سمع النداء من أهل القرى القريبة من المصر فعليه أن يشهدها وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه لظاهر قوله تعالى:
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ} [الجمعة: 9] الآية. وقال مالك رضي الله تعالى عنه من سكن من المصر على ثلاثة أميال أو دونها فعليه أن يشهدها وقال الأوزاعي رضي الله تعالى عنه من كان يمكنه أن يشهدها ويرجع إلى أهله قبل الليل فعليه أن يشهدها والصحيح ما قلنا إن كل موضع يسكنه من إذا خرج من المصر مسافرا فوصل إلى ذلك الموضع كان له أن يصلي صلاة السفر فليس عليه أن يشهدها لأن مسكنه ليس من المصر ألا ترى أن المقيم في المصر لا يكون مقيما في هذا الموضع؟.
وأما الوقت فمن شرائط الجمعة يعني به وقت الظهر لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه إلى المدينة قبل هجرته قال له:
"إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة". وكتب إلى سعد بن زرارة رحمه الله تعالى: "إذا زالت الشمس من اليوم الذي يتجهز فيه اليهود لسبتهم فازدلف إلى الله تعالى بركعتين". والذي روي أن ابن مسعود أقام الجمعة ضحى معناه بالقرب منه، ومقصود الراوي أنه ما أخرها بعد الزوال. وكان

 

ج / 2 ص -23-         مالك رضي الله عنه يقول تجوز إقامتها في وقت العصر بناء على مذهبه من تداخل الوقتين وقد بينا فساده.
قال: "والخطبة من شرائط الجمعة" لحديث بن عمر وعائشة رضي الله عنهما إنما قصرت الجمعة لمكان الخطبة ولظاهر قوله تعالى:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] يعني الخطبة والأمر بالسعي دليل على وجوبها ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صلى الجمعة في عمره بغير خطبة فلو جاز لفعله تعليما للجواز.
قال بعض مشايخنا: الخطبة تقوم مقام ركعتين ولهذا لا تجوز إلا بعد دخول الوقت والأصح أنها لا تقوم مقام شطر الصلاة فإن الخطبة لا يستقبل القبلة في أدائها ولا يقطعها الكلام ويعتد بها وإن أداها وهو محدث أو جنب فيه تبين ضعف قوله: إنها بمنزلة شطر الصلاة.
قال: "والجماعة من شرائطها" لظاهر قوله تعالى:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ولأنها سميت جمعة وفي هذا الاسم ما يدل على اعتبار الجماعة فيها. ويختلفون في مقدار العدد فقال أبو حنيفة رضي الله عنه ثلاثة نفر سوى الإمام. وقال أبو يوسف رضي الله عنه اثنان سوى الإمام لأن المثنى في حكم الجماعة حتى يتقدم الإمام عليهما وفي الجماعة معنى الاجتماع وذلك يتحقق بالمثنى. وجه قولهما الاستدلال بقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وهذا يقتضي مناديا وذاكرا وهو المؤذن والإمام والاثنان يسعون لأن قوله: {فَاسَعَوْا} لا يتناول إلا المثنى ثم ما دون الثلاث ليس بجمع متفق عليه فإن أهل اللغة فصلوا بين التثنية والجمع فالمثنى وإن كان فيه معنى الجمع من وجه فليس بجمع مطلق واشتراط الجماعة ثابت مطلقا ثم يشترط في الثلاثة أن يكونوا بحيث يصلحون للإمامة في صلاة الجمعة حتى أن نصاب الجمعة لا يتم بالنساء والصبيان ويتم بالعبيد والمسافرين لأنهم يصلحون للإمامة فيها. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه النصاب أربعون رجلا من الأحرار المقيمين وهذا فاسد فإن مصعب بن عمير أقام الجمعة بالحديبية مع اثني عشر رجلا وأسعد بن زرارة أقامها بتسعة عشر رجلا. ولما نفر الناس في اليوم الذي دخل فيه العير المدينة كما قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 9]، بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اثني عشر رجلا فصلى بهم الجمعة ولا معنى لاشتراط الإقامة والحرية فيهم لأن درجة الإمامة أعلى فإذا لم يشترط هذا في الصلاحية للإمامة فكيف يشترط فيمن يكون مؤتما ولا وجه لمنع هذا فقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بمكة وهو كان مسافرا، حتى قال لأهل مكة: "أتموا يا أهل مكة صلاتكم فإنا قوم سفر".
قال: "والسلطان من شرائط الجمعة عندنا" خلافا للشافعي رضي الله عنه وقاسه بأداء سائر المكتوبات فالسلطان والرعية في ذلك سواء.

 

ج / 2 ص -24-         ولنا: ما روينا من حديث جابر رضي الله عنه وله إمام جائر أو عادل فقد شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام لإلحاقه الوعيد بتارك الجمعة وفي الأثر أربع إلى الولاة منها الجمعة. ولأن الناس يتركون الجماعات لإقامة الجمعة ولو لم يشترط فيها السلطان أدى إلى الفتنة لأنه يسبق بعض الناس إلى الجامع فيقيمونها لغرض لهم وتفوت على غيرهم وفيه من الفتنة ما لا يخفى فيجعل مفوضا إلى الإمام الذي فوض إليه أحوال الناس والعدل بينهم لأنه أقرب إلى تسكين الفتنة.
والإذن العام من شرائطها حتى إن السلطان إذا صلى بحشمه في قصره فإن فتح باب القصر وأذن للناس إذنا عاما جازت صلاته شهدها العامة أو لم يشهدوها وإن لم يفتح باب قصره ولم يأذن لهم في الدخول لا يجزئه لأن اشتراط السلطان للتحرز عن تفويتها على الناس ولا يحصل ذلك إلا بالإذن العام وكما يحتاج العامة إلى السلطان في إقامتها فالسلطان يحتاج إليهم بأن يأذن لهم إذنا عاما بهذا يعتدل النظر من الجانبين.
قال: "فإن صلى الإمام بأهل المصر الظهر يوم الجمعة أجزأهم وقد أساؤوا في ترك الجمعة" أما الجواز فلأنهم أدوا أصل فرض الوقت ولو لم نجوزها لهم أمرناهم بإعادة الظهر بعد خروج الوقت والأمر بإعادة الظهر عند تفويتها في الوقت وما فوتوها وأما الإساءة فلتركهم أداء الجمعة بعد ما استجمعوا شرائطها وفي حديث ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع على قلبه".
قال: "ويخطب الإمام يوم الجمعة قائما" لما روى أن ابن مسعود رضي الله عنه لما سئل عن هذا فقال أليس تتلو قوله تعالى:
{وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة: 11]، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائما حين انفض عنه الناس بدخول العير المدينة وهكذا جرى التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. والذي روى عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان يخطب قاعدا إنما فعل ذلك لمرض أو كبر في آخر عمره وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما خطبة واحدة فلما أسن جعلها خطبتين يجلس بينهما جلسة، ففي هذا دليل أنه يجوز الاكتفاء بالخطبة الواحدة بخلاف ما يقوله الشافعي رضي الله تعالى عنه وفي هذا دليل على أن الجلسة بين الخطبتين للاستراحة وليست بشرط عندنا خلافا للشافعي رضي الله تعالى عنه أنها شرط.
قال: "إمام خطب جنبا ثم اغتسل فصلى بهم أو خطب محدثا ثم توضأ فصلى بهم أجزأهم عندنا وعند أبي يوسف رضي الله تعالى عنه لا يجزئهم" وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه لأن الخطبة بمنزلة شطر الصلاة حتى لا يجوز أداؤها إلا في وقت الصلاة وفي الأثر إنما قصرت الجمعة لمكان الخطبة فكما تشترط الطهارة في الصلاة فكذلك في الخطبة.

 

ج / 2 ص -25-         ولنا: أن الخطبة ذكر والمحدث والجنب لا يمنعان من ذكر الله ما خلا قراءة القرآن في حق الجنب وليست الخطبة نظير الصلاة ولا بمنزلة شطرها بدليل أنها تؤدى غير مستقبل بها القبلة ولا يفسدها الكلام وتأويل الأثر أنها في حكم الثواب كشطر الصلاة لا في اشتراط شرائط الصلاة فيها وقد ذكرنا في باب الأذان أنه يعاد أذان الجنب ولم يذكر إعادة خطبة الجنب ولا فرق بينهما في الحقيقة غير أن الأذان لا يتعلق به حكم الجواز فذكر استحباب الإعادة والخطبة يتعلق بها حكم الجواز فذكر الجواز هنا واستحباب الإعادة ها هنا كهو في الأذان.
قال: "وينبغي للإمام أن يقرأ سورة في خطبته" لقوله تعالى:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204]، قيل: الآية في الخطبة سماها قرآنا لما فيها من قراءة القرآن وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغهم ما أنزل الله تعالى في خطبته وذكر السورة لأنها أدل على المعنى والإعجاز، ولو اكتفى بقراءة آية طويلة جاز أيضا لأن فرض القراءة في الصلاة يتأدى بهذا فسنة القراءة في الخطبة أولى.
قال: "وإذا أحدث الإمام يوم الجمعة بعد الخطبة وأمر رجلا يصلي بالناس فإن كان الرجل شهد الخطبة جاز ذلك" لأنه قام مقام الأول وهو مستجمع شرائط افتتاح الجمعة ويستوي إن كان الإمام مأذونا في الاستخلاف أو لم يكن بخلاف القاضي فإنه إذا لم يكن مأذونا في الاستخلاف لا يكون له أن يستخلف لأن القضاء غير مؤقت لا يفوت بتأخيره عند العذر والجمعة مؤقتة تفوت بتأخيرها عند العذر إذا لم يستخلف ومن ولاه لما أمره بذلك مع علمه أنه قد يعرض له عارض يمنعه من أدائها في الوقت فقد صار راضيا باستخلافه.
وإن لم يكن المأمور شهد الخطبة لم يجز له أن يصلي بهم الجمعة لأن الخطبة من شرائط افتتاح الجمعة وهو المفتتح لها فإذا لم يستجمع شرائطها لم يجز له افتتاحها كالأول إذا لم يخطب وهذا بخلاف ما لو افتتح الأول الصلاة ثم سبقه الحدث فاستخلف من لم يشهد الخطبة أجزأهم لأن هناك الثاني بان وليس بمفتتح والخطبة من شرائط الافتتاح وقد وجد ذلك في حق الأصيل فيتعين اعتباره في حق التبع. فإن قيل: لو أفسد الباني صلاته ثم افتتح بهم الجمعة جاز أيضا وهو مفتتح في هذه الحالة. قلنا نعم، ولكنه لما صح شروعه في الجمعة وصار خليفة الأول التحق بمن شهد الخطبة حكما فلهذا جاز له افتتاحها بعد الإفساد.
قال: "وإن كان المأمور جنبا وقد شهد الخطبة فلما أمره الإمام بذلك أمر هو رجلا طاهرا قد شهد الخطبة فصلى بهم أجزأه" لأن استخلاف الإمام إياه يثبت له ولاية إقامة الجمعة بدليل أنه لو اغتسل وصلى بهم أجزأهم فيفيده ولاية الاستخلاف أيضا، بخلاف ما

 

ج / 2 ص -26-         إذا كان المأمور الأول لم يشهد الخطبة فأمر غيره ممن شهد الخطبة لم يجز له أن يصلي بهم الجمعة لأن أمر الإمام إياه لم يفده ولاية إقامة الجمعة بنفسه فلا يفيده ولاية الاستخلاف الذي هو تبع له وكذلك إن كان المأمور الأول صبيا أو معتوها أو كافرا أو امرأة فأمر غيره بذلك لم يجز له إقامة الجمعة بأمره لأنه لم يفده ولاية إقامتها بنفسه وولاية الاستخلاف تثبت تبعا لثبوت ولاية الإقامة بنفسه.
قال: "وإذا أحدث الإمام قبل افتتاح الصلاة فلم يأمر أحدا فتقدم صاحب الشرط إماما أو القاضي أو أمر رجلا قد شهد الخطبة فتقدم وصلى بهم أجزأهم" لأن اقامة الجمعة من أمور العامة وقد فوض إلى القاضي وصاحب الشرط ما هو من أمور العامة فنزلا فيه منزلة الإمام في الإمامة والاستخلاف.
قال: "ولا ينبغي للإمام أن يتكلم في خطبته بشيء من حديث الناس" لأنه ذكر منظوم والتكلم في خلاله يذهب بهاءه فلا يشتغل به كما في خلال الأذان والذي روي أن عثمان رضي الله عنه كان يسأله الناس عن سعر الشعير وعن سعر الزيت فقد كان ذلك قبل الشروع في الخطبة لا في خلالها والذي روى أن عمر رضي الله عنه قال لعثمان رضي الله عنه حين دخل وهو يخطب أية ساعة المجيء هذه الحديث فقد كان ذلك منه أمرا بالمعروف والخطبة كلها وعظ وأمر بمعروف والذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إذ دخل أعرابي وقال هلكت المواشي وتقطعت السبل وخشينا القحط فاستسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل كان ذلك قبل نزول قوله تعالى:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} [الأعراف: 204] الآية. وقيل: كان ملكا مقيضا هبط في الجمعتين ليذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء الاستسقاء ودعاء الفرج من خوف الغرق والخطبة فيها الدعاء.
قال: "ولا ينبغي للقوم أن يتكلموا والإمام يخطب" لقوله تعالى:
{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] الآية. ولأنه في الخطبة يخاطبهم بالوعظ فإذا اشتغلوا بالكلام لم يفد وعظه إياهم شيئا وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لصاحبه والإمام يخطب انصت فقد لغا ومن لغا فلا صلاة له". وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة في خطبته فقال أبو الدرداء لأبي بن كعب رحمهما الله تعالى متى أنزلت هذه السورة فلم يجبه فلما فرغ من صلاته قال أما أن حظك من صلاتك ما لغوت فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوه، فقال عليه الصلاة والسلام: "صدق أبي".
وسمع ابن عمر رجلا يقول لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب متى تخرج القافلة فقال صاحبه غدا فلما فرغ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من صلاته قال للمجيب أما أنك فقد لغوت وأما صاحبك هذا فحمار. فإن كان بحيث لا يسمع الخطبة فظاهر الجواب أنه يسكت لأن المأمور به شيئان الاستماع والإنصات فمن قرب من الإمام فقد قدر عليهما،

 

ج / 2 ص -27-         ومن بعد عنه فقد قدر على أحدهما وهو الإنصات فيأتي بما قدر عليه وكان محمد بن سلمة رضي الله تعالى عنه يختار السكوت ونصير بن يحيى رضي الله تعالى عنه يختار قراءة القرآن في نفسه والحكم بن زهير كان ينظر في الفقه وهو من كبار أصحابنا وكان مولعا بالتدريس. قال الحسن بن زياد رضي الله تعالى عنه ما دخل العراق أحد أفقه من الحكم بن زهير، قلت فهل يردون السلام ويشمتون العاطس ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقرؤون القرآن قال أحب إلي أن يستمعوا. فقد أظرف في هذا الجواب ولم يقل لا ولكنه ذكر ما هو المأمور به وهو الاستماع والإنصات ولم يذكر أن العاطس هل يحمد الله تعالى والصحيح أنه يقوله في نفسه فذلك لا يشغله عن الاستماع.
وأما التشميت ورد السلام فلا يأتي بهما عندنا خلافا للشافعي رضي الله تعالى عنه، وهو رواية عن أبي يوسف رضي الله تعالى عنه لأن رد السلام فرض والاستماع سنة. ولكنا نقول: رد السلام إنما يكون فريضة إذا كان السلام تحية وفي حالة الخطبة المسلم ممنوع من السلام فلا يكون جوابه فرضا كما في الصلاة ثم ما طلب أبو الدرداء من أبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما من تاريخ المنزل فقد كان فرضا عليهم ليعرفوا آية الناسخ من المنسوخ وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من اللغو في حالة الخطبة فكذلك رد السلام.
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الخطيب إذا قال:
{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ}[الأحزاب: 56] ينبغي لهم أن يصلوا عليه وهو اختيار الطحاوي لأنه يبلغهم أمرا فعليهم الامتثال. وجه ظاهر الرواية أن حالة الخطبة كحالة الصلاة في المنع من الكلام فكما أن الإمام لو قرأ هذه الآية في صلاته لم يشتغل القوم بالصلاة عليه فكذلك إذا قرأها في خطبته.
قال: "الإمام إذا خرج فخروجه يقطع الصلاة حتى يكره افتتاحها بعد خروج الإمام وينبغي لمن كان فيها أن يفرغ منها" يعني يسلم على رأس الركعتين لحديث ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم موقوفا عليهما ومرفوعا إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام وقال عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنهما الصلاة في حالة الخطبة خطيئة ولأن الاستماع واجب والصلاة تشغله عنه ولا يجوز الاشتغال بالتطوع وترك الواجب وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه يأتي بالسنة وتحية المسجد إذا دخل والإمام يخطب لحديث سليك الغطفاني أنه دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أركعت ركعتين؟". فقال لا فقال: "قم فاركعهما". ودخل أبو الدرداء المسجد ومروان يخطب فركع ركعتين ثم قال لا أتركهما بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهما ما قال.
وتأويل حديث سليك أنه كان قبل وجوب الاستماع ونزول قوله:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ}[الأعراف: 204]. وقيل لما دخل وعليه هيئة رثة ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطبة لأجله وانتظره

 

ج / 2 ص -28-         حتى قام وصلى ركعتين والمراد أن يرى الناس سوء حاله فيواسوه بشيء وفي زماننا الخطيب لا يترك الخطبة لأجل الداخل فلا يشتغل هو بالصلاة. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يكره الكلام بعد خروج الإمام قبل أن يأخذ في الخطبة وبعد الفراغ من الخطبة قبل الاشتغال بالصلاة كما تكره الصلاة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تكره الصلاة في هذين الوقتين ولا يكره الكلام لما جاء في الحديث: "خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام".
ولأن الصلاة تمتد وربما لا يمكنه قطعها حين يأخذ الإمام في الخطبة والكلام يمكن قطعه متى شاء والنهي عنه لوجوب استماع الخطبة فيقتصر على حالة الخطبة. وأبو حنيفة رضي الله عنه استدل بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول" الحديث، إلى أن قال: "فإذا خرج الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر". وإنما يطوون الصحف إذا طوى الناس الكلام وأما إذا كانوا يتكلمون فهم يكتبونه عليهم قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18]. ولأن الامام إذا صعد المنبر ليخطب فكان مستعدا لها فيجعل كالشارع فيها من وجه ألا ترى أن في كراهة الصلاة جعل الاستعداد لها كالشروع فيها فكذلك في كراهة الكلام ووجوب الإنصات غير مقصور على حال تشاغله بالخطبة حتى يكره الكلام في حالة الجلسة بين الخطبتين.
قال: "وينبغي للرجل أن يستقبل الخطيب بوجهه إذا أخذ في الخطبة وهكذا نقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يفعله" لأن الخطيب يعظهم ولهذا استقبلهم بوجهه وترك استقبال القبلة فينبغي لهم أن يستقبلوه بوجوههم ليظهر فائدة الوعظ وتعظيم الذكر كما في غير هذا من مجالس الوعظ ولكن الرسم الآن أن القوم يستقبلون القبلة ولم يؤمروا بترك هذا لما يلحقهم من الحرج في تسوية الصفوف بعد فراغه لكثرة الزحام إذا استقبلوه بوجوههم في حالة الخطبة.
قال: "وإذا خطب بتسبيحة واحدة أو بتهليل أو بتحميد أجزأه في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يجزئه حتى يكون كلاما يسمى خطبة وقال الشافعي رضي الله عنه لا يجزئه حتى يخطب خطبتين يقرأ فيهما شيئا من القرآن ويجلس بينهما جلسة" واستدل بالتوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، والتوارث كالتواتر. ولكنا قد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم في الابتداء كان يخطب خطبة واحدة فلما أسن جعلها خطبتين وجلس بينهما فدل على أنه إنما فعل ذلك ليكون أروح عليه لا لأنه شرط. وأبو يوسف ومحمد قالا الشرط الخطبة ومن قال الحمد لله أو قال لا إله إلا الله فهذه الكلمة لا تسمى خطبة وقائلها لا يسمى خطيبا فما لم يأت بما يسمى خطبة لا يتم شرط الجمعة.

 

ج / 2 ص -29-         وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بما روى أن عثمان رضي الله عنه لما استخلف صعد المنبر فقال الحمد لله فارتج عليه فقال إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يعدان لهذا المكان مقالا، أو قال يرتادان أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال وستأتي الخطب الله أكبر ما شاء الله فعل ونزل وصلى الجمعة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل أنه يكتفى بهذا القدر.
ولما أتى الحجاج العراق صعد المنبر فقال الحمد لله فارتج عليه فقال يا أيها الناس قد هالني كثرة رؤوسكم وإحداقكم إلي بأعينكم وإني لا أجمع عليكم بين الشح والعي إن لي نعما في بني فلان فإذا قضيتم الصلاة فانتهبوها ونزل وصلى معه من بقي من الصحابة كابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهما ولأن المنصوص عليه الذكر قال الله تعالى:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة: 9] وقد بينا أن الذكر بها ثبت بالنص والذكر يحصل بقوله الحمد لله فما زاد عليه شرط الكمال لا شرط الجواز وهو نظير ما قال أبو حنيفة إن فرض القراءة يتأدى بآية واحدة ثم قوله الحمد لله كلمة وجيزة تحتها معان جمة تشتمل على قدر الخطبة وزيادة والمتكلم بقوله الحمد لله كالذاكر لذلك كله فيكون ذلك خطبة لكنها وجيزة وقصر الخطبة مندوب إليه جاء عن عمر رضي الله عنه قال طولوا الصلاة وقصروا الخطبة وقال ابن مسعود رضي الله عنه: طول الصلاة وقصر الخطبة من فقه الرجل إلا أن الشرط عند أبي حنيفة رضي الله عنه أن يكون قوله الحمد لله على قصد الخطبة حتى إذا عطس وقال الحمد لله يريد به الحمد على عطاسه لا ينوب عن الخطبة هكذا نقل عنه مفسرا في الأمالي.
قال: "والأذان إذا صعد الإمام المنبر فإذا نزل أقام الصلاة بعد فراغه من الخطبة" هكذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده إلى أن أحدث الناس الأذان على الزوراء على عهد عثمان رضي الله عنه وقد بينا ذلك في باب الأذان.
قال: رجل ذكر في الجمعة أن عليه الفجر فهذا على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يخاف فوت الجمعة لو اشتغل بالفجر فعليه أن يقطع الجمعة ويبدأ بالفجر ثم بالجمعة لمراعاة الترتيب فإنه واجب عندنا.
والثاني: أن يخاف فوت الوقت لو اشتغل بالفجر فهذا يتم الجمعة لأن الترتيب عنه ساقط بضيق الوقت.
والثالث: أن يخاف فوت الجمعة دون الوقت لو اشتغل بالفجر فهذا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى نظير الفصل الأول يلزمه مراعاة الترتيب وعند محمد رحمه الله تعالى نظير الفصل الثاني لأن شروعه في الجمعة قد صح وهو يخاف فوتها لو اشتغل بالفجر، فلا يلزمه مراعاة الترتيب كما لو تذكر العشاء في خلال الفجر، وهو يخاف

 

ج / 2 ص -30-         طلوع الشمس لو اشتغل بالعشاء بل أولى فإن هناك لا يفوته أصل الصلاة إنما يفوته الأداء في الوقت وها هنا يفوته أصل الصلاة وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا الجمعة في هذا اليوم كالظهر في سائر الأيام فكما أنه لو تذكر الفجر في خلال الظهر وهو يخاف فوت الجماعة دون الوقت يلزمه مراعاة الترتيب فكذلك ها هنا وهذا لأن أصل فرض الوقت لا يفوته وقد بينا أنها كالظهر وهو يتمكن من أدائها في الوقت مع مراعاة الترتيب بخلاف ما إذا كان يخاف فوت الوقت.
قال: "رجل زحمه الناس يوم الجمعة فلم يستطع أن يسجد فوقف حتى سلم الإمام فهذا واللاحق سواء يمضي في صلاته بغير قراءة" لأنه أدرك أولها فكان مقتديا في الإتمام ولا قراءة عليه كالذي نام أو سبقه الحدث فإن لم يقم في الركعة الثانية مقدار قراءة الإمام ولكنه كما استتم قائما ركع أجزأه لأن الركن أصل القيام في كل ركعة لا امتداده ألا ترى أن الإمام في سائر الصلوات لو لم يطول القيام في الشفع الثاني أجزأه لأنه لا قراءة فيهما فهذا مثله.
قال: "ولا يجزئه التيمم في الجمعة وإن خاف فوتها" لأنها تفوت إلى خلف وهو الظهر وقد بينا هذا في باب التيمم.
قال: "مريض لا يستطيع أن يشهد الجمعة فصلى الظهر في بيته بأذان وإقامة فهو حسن" لأن هذا اليوم في حقه كسائر الأيام إذ ليس عليه شهود الجمعة فيه.
قال: "ومن صلى الظهر لمرض أو سفر أو بغير عذر ثم صلى الجمعة مع الإمام فالجمعة هي الفريضة عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى إن كان مريضا أو مسافرا ففرضه الظهر وإن لم يكن له عذر ففرضه الجمعة ولا يجزئه الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة" فالكلام في فصلين:
أحدهما في المعذور: وجه قول زفر رحمه الله تعالى أن هذا اليوم في حقه كسائر الأيام وفي سائر الأيام لو صلى الظهر في بيته ثم أدرك الجماعة كان فرضه ما أدى في بيته فكذلك هنا. ولكنا نقول الجمعة أقوى من الظهر ولا يظهر الضعيف في مقابلة القوى وإنما فارق المريض الصحيح في الترخص بترك السعي إلى الجمعة فإذا شهدها فهو والصحيح سواء فيكون فرضه الجمعة.
والفصل الثاني في الصحيح المقيم: إذا صلى الظهر في بيته ولم يشهد الجمعة أجزأه عندنا وقد أساء. وقال زفر رحمه الله تعالى لا يجزئه الظهر إلا بعد فراغ الإمام من الجمعة. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يجزئه الظهر إلا بعد خروج الوقت لأن من أصل زفر والشافعي أن الفرض في حقه الجمعة والظهر بدل فإنه مأمور بالسعي إلى الجمعة وترك الاشتغال بالظهر ما لم يتحقق فوت الجمعة وهذا صورة الأصل والبدل فإذا أدى البدل مع قدرته على الأصل لا يجزئه وعند زفر رحمه الله تعالى فوات الأصل بفراغ الإمام لأنه

 

ج / 2 ص -31-         يشترط السلطان لإقامة الجمعة. وعند الشافعي رحمه الله تعالى فوات الأصل بخروج الوقت لأن السلطان عنده ليس بشرط لإقامة الجمعة، فأما عندنا فأصل فرض الوقت الظهر قال عليه الصلاة والسلام: "وأول وقت الظهر حين تزول الشمس"، ولم يفصل بين هذا اليوم وغيره ولأنه ينوي القضاء في الظهر إذا أداه بعد خروج الوقت. فلو لم يكن أصل فرض الوقت في حقه الظهر لما احتاج إلى نية القضاء بعد فوات الوقت. فإذا ثبت أن أصل الفرض هو الظهر وقد أداه في وقته فيجزئ عنه. وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى قال لا أدري ما أصل فرض الوقت في هذا اليوم ولكن يسقط الفرض عنه بأداء الظهر أو الجمعة يريد به أن أصل الفرض أحدهما لا بعينه ويتعين بفعله.
قال: "ولو صلى الظهر ثم سعى إلى الجمعة فوجد الإمام قد فرغ منها فإن كان خروجه من بيته بعد فراغ الإمام منها فليس عليه إعادة الظهر وإن كان قبل فراغ الإمام منها فعليه إعادة الظهر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ليس عليه إعادة الظهر ما لم يفتتح الجمعة مع الإمام" وجه قولهما أنه أدى فرض الوقت بأداء الظهر فلا ينتقض إلا بما هو أقوى منه وهو الجمعة فأما مجرد السعي فليس بأقوى مما أدى ولا يجعل السعي إليها كمباشرتها في ارتفاض الظهر به كالقارن إذا وقف بعرفات قبل أن يطوف لعمرته يصير رافضا لها ولو سعى إلى عرفات لا يصير به رافضا لعمرته. وجه قوله أن السعي من خصائص الجمعة لأنه أمر به فيها دون سائر الصلوات فكان الاشتغال بما هو من خصائصها كالاشتغال بها من وجه فيصير به رافضا للظهر ولكن السعي إليها إنما يتحقق قبل فراغ الإمام منها لا بعده وفي مسألة القارن في القياس ترتفض عمرته بالسعي إلى عرفات وفي الاستحسان لا ترتفض لأن السعي هناك منهى عنه قبل طواف العمرة فضعف في نفسه وها هنا مأمور به فكان قويا في نفسه.
قال: "وإذا لم يفرغ الإمام من الجمعة حتى دخل وقت العصر فسدت الجمعة" لأن الوقت من شرائطها فإذا فات قبل الفراغ منها كان بمنزلة فواته قبل الشروع فيها لأن شرائط العبادة مستدامة من أولها إلى آخرها كالطهارة للصلاة فإن قهقه لم يلزمه وضوء وهذا قول محمد رضي الله عنه وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله لأن التحريمة انحلت بفساد الجمعة فأما عند أبي يوسف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله فلم تحل التحريمة بفساد الفريضة فإذا قهقه فعليه الوضوء لمصادفة القهقهة حرمة الصلاة.
قال: "وإذا فزع الناس فذهبوا بعد ما خطب الإمام لم يصل الجمعة إلا أن يبقى معه ثلاثة رجال سواء" لأن الجماعة من شرائط افتتاح الجمعة، وقد بينا اختلافهم في مقدارها. وإن بقي معه ثلاثة من العبيد أو المسافرين يصلي بهم الجمعة لأنهم يصلحون للإمامة فيها بخلاف ما إذا بقي ثلاثة من النساء أو الصبيان وإن كان صلى بالناس ركعة ثم ذهبوا أتم صلاته جمعة عندنا.

 

ج / 2 ص -32-         وقال زفر رحمه الله تعالى: يستقبل الظهر إذا ذهبوا قبل أن يقعد مقدار التشهد لأن الجماعة شرط الجمعة كالوقت. ولكنا نقول: الجماعة شرط افتتاح الجمعة وقد وجد ذلك حتى صلى بهم ركعة فكان له أن يتمها جمعة بخلاف الوقت فإنه شرط الأداء لا شرط الافتتاح وتمام الأداء بالفراغ من الصلاة ألا ترى أن المسبوق إذا أدرك ركعة مع الإمام قام بعد فراغه فأتم الجمعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدرك". ومثله لو خرج الوقت قبل فراغه من قضاء الركعة الثانية فسدت به جمعته فاتضح الفرق. ولو ذهبوا بعد ما كبر الإمام وكبروا معه قبل تقييد الركعة بالسجدة فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه يستقبل الظهر وعندهما يتمها جمعة لأن الافتتاح بالتكبير يحصل وقد كان شرط الجماعة موجودا عنده وقياسا بالخطبة فإن الإمام بعد ماكبر لو سبقه الحدث فاستخلف من لم يشهد الخطبة أتم الجمعة وكان استخلافه إياه بعد التكبير كاستخلافه بعد أداء ركعة فهذا مثله.
وأبو حنيفة، رحمه الله يقول الجماعة شرط صلاة الجمعة ولا يصير مصليا ما لم يقيد الركعة بالسجدة فكان ذهاب الجماعة قبل تقييدها كذهابهم قبل التكبير ثم الجماعة شرط الافتتاح وما لم يقيد الركعة بالسجدة فهو مفتتح لكل ركن بخلاف ما بعد تقييد الركعة بالسجدة فإنه معيد للأركان لا مفتتح وليس كالخطبة فإن الذي يستخلفه هناك بان على صلاته وشرط الخطبة موجود في حق الأصل وها هنا الإمام أصل في افتتاح الأركان فلا بد من وجود شرط الجماعة عند افتتاح كل ركن.
قال: "رجل صلى الجمعة بالناس بغير إذن الإمام أو خليفته أو صاحب الشرط أو القاضي لم يجزئهم" لما بينا أن السلطان شرط لأقامتها وقد عدم ولم يذكر أنه لو مات من يصلي الجمعة بالناس فاجتمعوا على رجل فصلى بهم الجمعة هل يجزئهم والصحيح أنه يجزئهم فقد ذكر بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى أنه لو مات عامل إفريقية فاجتمع الناس على رجل فصلى بهم الجمعة أجزأهم لأن عثمان رحمه الله تعالى لما حصر اجتمع الناس على علي رضي الله عنه فصلى بهم الجمعة ولأن الخليفة إنما يأمر بذلك نظرا منه لهم فإذا نظروا لأنفسهم واتفقوا عليه كان ذلك بمنزلة أمر الخليفة إياه.
قال: "ومن صلى الجمعة في الطاقات أو في السدة أو في دار الصيارفة أجزأه إذا كانت الصفوف متصلة" لأن اتصال الصفوف يجعل هذا الموضع في حكم المسجد في صحة الاقتداء بالإمام بدليل سائر الصلوات والاصطفاف بين الاسطوانتين غير مكروه لأنه صف في حق كل فريق وإن لم يكن طويلا وتخلل الاسطوانة بين الصف كتخلل متاع موضوع أو كفرجة بين رجلين وذلك لا يمنع صحة الاقتداء ولا يوجب الكراهة.
قال: "ومن أدرك الإمام في التشهد في الجمعة أو في سجدتي السهو فاقتدى به فقد

 

ج / 2 ص -33-         أدركها، ويصليها ركعتين في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى يصلي أربعا" لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدرك وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا". وهما استدلا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا"، وقد فاته ركعتان ثم هو بإدراك التشهد مدرك للجمعة بدليل أنه ينويها دون الظهر حتى لو نوى الظهر لم يصح اقتداؤه به ثم الفرض بالاقتداء تارة يتعين إلى الزيادة كما في حق المسافر يقتدي بالمقيم وتارة إلى النقصان كما في حق الجمعة.
ثم في اقتداء المسافر بالمقيم لا فرق بين الركعة وما دونها في تعين الفرض به فكذا هنا وتأويل الحديث:
"وإذا أدركهم جلوسا": قد سلموا والقياس ما قالا إلا أن محمدا رحمه الله تعالى احتاط وقال يصلي أربعا احتياطا وذلك جمعته ولهذا ألزمه القراءة في كل ركعة وكذلك تلزمه القعدة الأولى على ما ذكره الطحاوي عنه كما هو لازم للإمام وفي رواية المعلى عنه لا تلزمه القعدة الأولى لأنه ظهر من وجه فلا تكون القعدة الأولى فيه واجبة وهذا الاحتياط لا معنى له فإنه إن كان ظهرا فلا يمكنه أن يبنيها على تحريمة عقدها للجمعة وإن كان جمعة فلا تكون الجمعة أربع ركعات.
قال: "إمام خطب يوم الجمعة فلما فرغ منها قدم أمير آخر يصلي فإن صلى القادم بخطبة الأول صلى الظهر" لأن الخطبة من شرائط افتتاح الجمعة وهو غير موجود في حقه وإن خطب خطبة أخرى صلى ركعتين لاستجماع شرائط الجمعة وإن كان صلى الأول الجمعة بالناس فإن لم يعلم بقدوم الثاني أجزأهم لأنه لا ينعزل ما لم يعلم بقدوم الثاني وإن علم به لم يجزئهم إلا أن يكون الثاني أمر بإقامتها فحينئذ يجزئهم لأنه مستجمع لشرائطها وقد قيل لا يجزئهم لأن الثاني لما لم يملك إقامتها لعدم شهود الخطبة لم يصح أمره الأول بها وقد بينا هذا فيما سبق.
قال: "ويكره أن يصلي الظهر يوم الجمعة في المصر جماعة في سجن أو في غير سجن" هكذا روي عن علي رضي الله عنه ولأن الناس أغلقوا أبواب المساجد في وقت الظهر يوم الجمعة في الأمصار فدل أنه لا يصلي جماعة فيها ولأن المأمور به في حق من يسكن المصر في هذا الوقت شيئان ترك الجماعة وشهود الجمعة وأصحاب السجن قدروا على أحدهما وهو ترك الجماعة فيأتون بذلك ولو جوزنا للمعذور إقامة الظهر بالجماعة في المصر ربما يقتدي بهم غير المعذور وفيه تقليل الناس في الجامع وهذا بخلاف القرى فإنه ليس على من يسكنها شهود الجمعة فكان هذا اليوم في حقهم كسائر الأيام.
قال: "والخطبة يوم الجمعة قبل الصلاة" هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بينا أنها من شرائط الجمعة.
قال: "ويجهر بالقراءة في صلاة الجمعة به جرى التوارث" وهكذا نقل عن رسول

 

ج / 2 ص -34-         الله صلى الله عليه وسلم حتى حفظ عنه أصحابه ما قرأ فيها ونقلوه قال أبو هريرة رضي الله عنه قرأ في الركعة الأولى سورة الجمعة وفي الثانية المنافقين وقال النعمان بن بشير رحمه الله تعالى قرأ في الأولى سبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية هل أتاك حديث الغاشية.
قال: "ومن أدرك الإمام بعد ما رفع رأسه من الركوع فأحدث الإمام وقدمه سجد بهم السجدتين ولم يحتسب بهما من صلاته" لأنه خليفة الأول فيأتي بما كان يأتي الأول إلا أن شرط الاحتساب بهما لم يوجد في حقه وهو تقدم الركوع. فإن قيل: فإذا لم يحتسب بهما كان تطوعا في حقه فكيف يجوز اقتداء القوم به وهم مفترضون قلنا لا كذلك بل هما فرض في حقه حتى لو تركهما لم تجز صلاته ولكنه لا يحتسب بهما لانعدام شرط الاحتساب في حقه.
قال: "وإذا أمر الإمام مسافرا أو عبدا يقيم الجمعة بالناس جاز ذلك إلا عند زفر رحمة الله تعالى" وقد بينا هذا.
قال: "وما قرأ من القرآن في الجمعة فهو حسن كما في سائر الصلوات" إلا أنه لا يوقت لذلك شيئا لأنه يؤدي إلى هجر ما سوى ما وقته وليس شيء من القرآن مهجورا إلا أن يتبرك بقراءة سورة ثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها فيها فيقتدي به.
قال: "وإذا قام الإمام من الركعة الثانية في الجمعة ولم يقعد فإنه يعود ويقعد" لأنها قعدة الختم في هذه الصلاة فيعود إليها كما في سائر الصلوات والجمعة في حق المقيم كالظهر في حق المسافر.
قال: "وللرجل أن يحتبي في يوم الجمعة في المسجد إن شاء" لأن قعوده لانتظار الصلاة فيقعد كما شاء وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم في التطوعات في بيته كان يقعد محتبيا فإذا جاز ذلك في الصلاة ففي حالة انتظارها أولى والله تعالى أعلم.

باب صلاة العيدين
الأصل في العيدين حديث أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال:
"قد أبدلكم الله سبحانه وتعالى بهما خيرا منهما الفطر والأضحى". واشتبه المذهب في صلاة العيد أنها واجبة أم سنة فالمذكور في الجامع الصغير أنها سنة لأنه قال في العيدين يجتمعان في يوم واحد فالأولى منهما سنة. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه تجب صلاة العيد على من تجب عليه صلاة الجمعة. وقال في الأصل "لا يصلي التطوع في الجماعة ما خلا قيام رمضان وكسوف الشمس" فهو دليل على أن صلاة العيد واجبة والأظهر أنها سنة ولكنها من معالم الدين أخذها هدي وتركها ضلالة وإنما يكون الخروج في العيدين على أهل الأمصار دون أهل القرى والسواد لما روينا لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع والمراد بالتشريق صلاة العيد على ما جاء في الحديث: "لا ذبح إلا بعد التشريق".

 

ج / 2 ص -35-         والحاصل أنه يشترط لصلاة العيد ما يشترط لصلاة الجمعة إلا الخطبة فإنها من شرائط الجمعة وليست من شرائط العيد ولهذا كانت الخطبة في الجمعة قبل الصلاة وفي العيد بعدها لأنها خطبة تذكير وتعليم لما يحتاج إليه في الوقت فلم تكن من شرائط الصلاة كالخطبة بعرفات والخطبة يوم الجمعة بمنزلة شطر الصلاة لما ذكرنا. والدليل على أن الخطبة في العيد بعد الصلاة ما روي أن مروان رحمه الله تعالى لما خطب في العيد قبل الصلاة قام رجل فقال أخرجت المنبر يا مروان ولم يخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطبت قبل الصلاة ولم يخطب هو قبلها وإنما كان يخطب بعد الصلاة فقال مروان ذاك شيء قد ترك فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، يعني أضعف أفعال الإيمان.
فقد كانت الخطبة بعد الصلاة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين حتى أحدث بنو أمية الخطبة قبل الصلاة لأنهم كانوا في خطبتهم يتكلمون بما لا يحل فكان الناس لا يجلسون بعد الصلاة لسماعها فأحدثوها قبل الصلاة ليسمعها الناس والخطبة في العيدين كهي في الجمعة يخطب خطبتين يجلس بينهما جلسة خفيفة ويقرأ فيها سورة من القرآن، ويستمع لها القوم وينصتوا له لأنه يعظهم فإنما ينفع وعظه إذا استمعوا.
قال: "وليس في العيدين أذان ولا إقامة" هكذا جرى التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهو دليل على أنها سنة.
قال: "وإن خطب أولا ثم صلى أجزأهم" كما لو ترك الخطبة أصلا.
قال: "والتكبير في صلاة العيد تسع خمس في الركعة الأولى فيها تكبيرة الافتتاح والركوع وأربع في الثانية فيها تكبيرة الركوع ويوالي بين القراءة في الركعتين" وهذه مسألة اختلف الصحابة رضوان الله عليهم فيها والذي بينا قول ابن مسعود رضي الله عنه وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله.
وقال علي رضي الله عنه في الفطر يكبر إحدى عشرة تكبيرة ستا في الأولى وخمسا في الثانية فيها تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع والزوائد ثمان تكبيرات وفي الأضحى خمس تكبيرات تكبيرة الافتتاح وتكبيرتا الركوع وتكبيرتان زائدتان واحدة في الأولى والأخرى في الثانية ومن مذهبه البداءة بالقراءة في الركعتين ثم بالتكبير.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ثلاث روايات روي عنه كقول ابن مسعود وهي شاذة والمشهور عنه روايتان إحداهما أنه يكبر في العيدين ثلاث عشرة تكبيرة تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع وعشر زوائد خمس في الأولى وخمس في الثانية. وفي الرواية

 

ج / 2 ص -36-         الأخرى: اثنتي عشرة تكبيرة تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع وتسع زوائد خمس في الأولى وأربع في الثانية.
وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه رجع إلى هذا وهو قول الشافعي رضي الله عنه وعليه عمل الناس اليوم لأن الولاية لما انتقلت إلى بني العباس أمروا الناس بالعمل في التكبيرات بقول جدهم ومن مذهبه البداءة بالتكبير في كل ركعة. وإنما أخذنا بقول ابن مسعود رضي الله عنه لأن ذلك شيء اتفقت عليه جماعة من الصحابة منهم أبو مسعود البدري وأبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم فإن الوليد بن عقبة أتاهم فقال هذا العيد فكيف تأمرونني أن أفعل فقالوا لابن مسعود علمه فعلمه بهذه الصفة ووافقوه على ذلك وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة العيد أربعا ثم قال:
"أربع كأربع الجنائز فلا يشتبه عليكم"، وأشار بأصابعه وحبس إبهامه ففيه قول وعمل وإشارة واستدلال وتأكيد.
وإنما قلنا بالموالاة بين القراءتين لأن التكبيرات يؤتى بها عقب ذكر هو فرض ففي الركعة الأولى يؤتى بها عقيب تكبيرة الافتتاح وفي الثانية عقيب القراءة ولأنه يجمع بين التكبيرات ما أمكن ففي الركعة الأولى يجمع بينها وبين تكبيرة الافتتاح وفي الثانية يجمع بينها وبين تكبيرة الركوع، ولم يبين مقدار الفصل بين التكبيرات في الكتاب وروي عن أبي حنيفة رحمه الله قال ويسكت بين كل تكبيرتين بقدر ثلاث تسبيحات. وقال ابن أبي ليلى: يأخذ بأي هذه التكبيرات شاء وهو رواية عن أبي يوسف لأن الظاهر أن كل واحد منهم إنما أخذ بما رآه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سمعه منه فإن هذا شيء لا يعرف بالرأي ولكنا نقول الآخر ناسخ للأول فلا وجه لإثبات التخيير بين القليل والكثير.
قال: "ويرفع يديه في سائر هذه التكبيرات إلا في تكبيرتي الركوع" وحكى أبو عصمة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه لا يرفع يديه في شيء منها لما جاء في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في الصلاة إلا في تكبيرة الافتتاح.
ولنا: ما روينا: لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن وفيها في العيدين ولأن هذا تكبير يؤتى به في قيام مستو فترفع اليد فيه كتكبيرة القنوت وتكبيرة الافتتاح وهذا لأن المقصود إعلام من لا يسمع بخلاف تكبيرتي الركوع لأنه يؤتى بهما في حالة الانتقال فلا حاجة إلى رفع اليد للإعلام.
قال: "ولا شيء على من فاتته صلاة العيد مع الإمام" وقال الشافعي رضي الله عنه يصلي وحده كما يصلي مع الإمام وهذا غير صحيح فالصلاة بهذه الصفة ما عرفت قربة إلا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فعلها إلا بالجماعة ولا يجوز أداؤها إلا بتلك الصفة وإذا فاتت فليس لها خلف لأن وقتها بعد طلوع الشمس وهذا ليس بوقت لصلاة واجبة في سائر

 

ج / 2 ص -37-         الأيام. بخلاف من فاتته الجمعة فإنه يصلي الظهر لأن وقتها بعد الزوال وهو وقت لوجوب الظهر في سائر الأيام ولكنه إن أحب صلى ركعتين إن شاء وإن شاء أربعا كصلاة الضحى في سائر الأيام لحديث عمارة بن رويبة رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الضحى بركعتين ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب على أربع ركعات في صلاة الضحى والذي يختص بهذا اليوم حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من صلى بعد العيد أربع ركعات كتب الله تعالى له بكل نبت نبت وبكل ورقة حسنة".
قال: "وإذا خرج الإمام إلى الجبانة لصلاة العيد فإن استخلف رجلا يصلي بالناس في المسجد فحسن وإن لم يفعل فلا شيء عليه" لما روينا أن عليا رضي الله عنه لما قدم الكوفة استخلف من يصلي بالضعفة صلاة العيد في الجامع وخرج إلى الجبانة مع خمسين شيخا يمشي ويمشون ويكبر ويكبرون ولأن في الاستخلاف نظرا منه للضعفاء وهو حسن وإن لم يفعل فلا شيء عليه لأن من له قدرة على الخروج لا يترك الخروج إلى الجبانة ومن هو عاجز عن ذلك فليس عليه شهودها.
قال: "فإن أحدث الرجل في الجبانة فخاف إن رجع إلى المصر أن تفوته الصلاة وهو لا يجد الماء يتيمم ويصلي" وقد بينا هذا في باب التيمم غير أن اللفظ المذكور هنا يقوي قول من قال من أصحابنا إن هذا في جبانة الكوفة لأن الماء بعيد وأما في ديارنا فلا يجوز لأن الماء محيط بالمصلى وقد قال وهو لا يجد الماء إلا أنه قال بعده وصلاة العيد بمنزلة صلاة الجنازة لأنها إن فاتت لم يكن عليه قضاؤها فهذا يدل على أنه متى خاف الفوت يجوز له أداؤها بالتيمم في أي موضع كان.
قال: "وكذلك إن كان الإمام هو الذي أحدث" وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه ليس للإمام أن يتيمم لأنه لا يخاف الفوت فإنه لا يجوز للناس أن يصلوها دونه. وجه ظاهر الرواية أنه يخاف الفوت بخروج الوقت فربما تزول الشمس قبل فراغه من الوضوء وكذلك إن أحدث بعد ما دخل في الصلاة وقد بينا الاختلاف في هذا بين أبي حنيفة وصاحبيه.
قال: "وأي سورة قرأ في صلاة العيد جاز" وقد بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ فيها سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية فإن تبرك بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة هاتين السورتين فحسن ولكن يكره له أن يتخذ شيئا من القرآن حتما في صلاة لا يقرأ فيها غيره فربما يظن ظان أنه لا تجوز تلك الصلاة إلا بقراءة تلك السورة فكان هو مدخلا في الدين ما ليس منه وقال عليه الصلاة والسلام:
"من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد".
قال: "وليس قبل العيدين صلاة" لما روينا عن علي رضي الله عنه أنه كره ذلك لمن رآه يفعله.

 

ج / 2 ص -38-         قال: "والمسبوق بركعة في العيد إذا قام يقضي ما فاته بنى على رأي نفسه في عدد التكبيرات ومحلها إذا كان رأيه مخالفا لرأي إمامه" لأنه فيما يقضي كالمنفرد إن كان يرى قول ابن مسعود رضي الله عنه كما فعله الإمام بدأ بالقراءة ثم بالتكبير وبه أجاب في الجامع والزيادات وفي نوادر أبي سليمان في أحد الموضعين وقال في الموضع الآخر يبدأ بالتكبير وهو القياس لأنه يقضي ما فاته فيقضيه كما فاته ولكنه استحسن فقال لو بدأ بالتكبير كان مواليا بين التكبيرات فإن في الركعة المؤداة مع الإمام كانت البداءة بالقراءة والموالاة بين التكبيرات لم يقل بها أحد من الصحابة ولو بدأ بالقراءة كان فعله موافقا لقول علي رضي الله عنه ولأن يفعل كما قال بعض الصحابة أولى من عكسه ولأنه لو بدأ بالقراءة كان آتيا بالتكبيرات عقيب ذكر هو فرض جامعا بينها وبين تكبير الركوع وهو أصل ابن مسعود رحمه الله تعالى كما بينا.
قال: "وليس على النساء خروج في العيدين وقد كان يرخص لهن في ذلك فأما اليوم فإني أكره ذلك" يعني للشواب منهن فقد أمرن بالقرار في البيوت ونهين عن الخروج لما فيه من الفتنة فأما العجائز فيرخص لهن في الخروج إلى الجماعة لصلاة المغرب والعشاء والفجر والعيدين ولا يرخص لهن في الخروج لصلاة الظهر والعصر والجمع في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يرخص للعجائز في حضور الصلوات كلها وفي الكسوف والاستسقاء لأنه ليس في خروج العجائز فتنة والناس قل ما يرغبون فيهن وقد كن يخرجن إلى الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يداوين المرضى ويسقين الماء ويطبخن، وأبو حنيفة رضي الله عنه قال في صلوات الليل تخرج العجوز مستترة وظلمة الليل تحول بينها وبين نظر الرجال إليها بخلاف صلوات النهار والجمعة تؤدى في المصر فلكثرة الزحام ربما تصرع وتصدم وفي ذلك فتنة فإن العجوز إذا كان لا يشتهيها شاب يشتهيها شيخ مثلها وربما يحمل فرط الشبق الشاب على أن يشتهيها ويقصد أن يصدمها
فأما صلاة العيد فتؤدي في الجبانة فيمكنها أن تعتزل ناحية عن الرجال كيلا تصدم. ثم إذا خرجن في صلاة العيد ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى يصلين لأن المقصود بالخروج هو الصلاة وقال عليه الصلاة والسلام:
"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن تفلات"، أي غير متطيبات. وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى لا يصلين العيد مع الإمام وإنماخروجهن لتكثير سواد المسلمين جاء في حديث أم عطية أن النساء كن يخرجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين، حتى ذوات الخدور والحيض ومعلوم أن الحائض لا تصلي فظهر أن خروجهن لتكثير سواد المسلمين فكذلك في زماننا.
قال: "وللمولى منع عبده من حضور الجمعة والجماعة والعيدين" لأن خدمته حق مولاه،

 

ج / 2 ص -39-         وفي خروجه إبطال حق المولى في خدمته وإضرار به فكان له أن يمنعه من ذلك وإنما لا يمنعه من أداء المكتوبات لأن ذلك صار مستثنى من حق المولى. واختلف مشايخنا فيما إذا حضر مع مولاه ليحفظ دابته، فمنهم من قال: ليس له أن يصلي الجمعة والعيدين بغير رضاه، والأصح أن له ذلك إذا كان لا يخل بحق مولاه في إمساك دابته.
قال: "ولا يخرج المنبر في العيدين" لما روينا وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب في العيدين على ناقته والناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا اتفقوا على ترك إخراج المنبر ولهذا اتخذوا في المصلى منبرا على حدة من اللبن والطين واتباع ما اشتهر العمل به في الناس واجب.
قال: "وإذا كبر الإمام أكثر من تسع تكبيرات اتبعه المؤتم" إلا أن يكبر ما لم يقل به أحد من الصحابة لأن الإمام مجتهد فإذا حصل فعله في موضع الاجتهاد وجب متابعته لقوله عليه الصلاة والسلام:
"فلا تختلفوا عليه". وإذا كبر ما لم يقل به أحد من الصحابة كان فعله خطأ مخالفا للإجماع ولا متابعة في الخطأ. فأكثر مشايخنا على أنه يتابعه إلى ثلاث عشرة تكبيرة ثم يسكت بعد ذلك. وقال بعضهم: يتابعه إلى ست عشرة تكبيرة لأن فعله إلى هذا الموضع محتمل للتأويل فلعله ذهب إلى أن مراد ابن عباس رضي الله عنهما ثلاث عشرة تكبيرة زوائد فإذا ضممت إليها تكبيرة الافتتاح وتكبيرتي الركوع صارت ست عشرة تكبيرة فلاحتمال هذا التأويل لا يتيقن بخطئه فيتابعه وهذا إذا كان سمع التكبير من الإمام فإن كان يكبر بتكبير المنادي فلا ينبغي له أن يدع شيئا من التكبيرات وإن كثرت لجواز أن هذا الخطأ من المنادي فلو ترك شيئا منها كان المتروك ما أتى به الإمام والمأتي به ما أخطأ به المنادي فلهذا لا يدع شيئا منها.
وقد قالوا: إذا كان يكبر بتكبير المنادي ينبغي أن ينوي الصلاة عند كل تكبيرة لجواز أن ما تقدم منه كان خطأ من المنادي وإنما كبر الإمام للافتتاح الآن. ثم لا خلاف أنه يأتي بثناء الافتتاح عقيب تكبيرة الافتتاح قبل الزوائد إلا في قول بن أبي ليلى فإنه يقول يأتي بالثناء بعد تكبيرات الزوائد فأما التعوذ فيأتي به عند أبي يوسف رحمه الله تعالى عقيب ثناء الافتتاح قبل التكبيرات الزوائد. وعند محمد رحمه الله بعد الزوائد حين يريد القراءة لأنها للقراءة عنده وبيان هذا فيما أمليناه من شرح الزيادات والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب التكبير في أيام التشريق
اتفق المشايخ من الصحابة عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أنه يبدأ بالتكبير من صلاة الغداة من يوم عرفة وبه أخذ علماؤنا رضي الله عنهم في ظاهر الرواية لقوله تعالى:
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}[البقرة: 203]، وهي أيام العشر عند المفسرين، فيقتضي أن يكون التكبير فيها مشروعا إلا ما قام عليه الدليل وعن عبد الله بن عمر، رضي

 

ج / 2 ص -40-         الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل ما قلت وقالت الأنبياء قبلي يوم عرفة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد".
ولأن هذه التكبيرات لإظهار فضيلة وقت الحج ومعظم أركان الحج الوقوف فينبغي أن يكون التكبير مشروعا في وقته ولهذا قال مكحول البداءة بها من صلاة الظهر يوم عرفة لأن وقت الوقوف بعد الزوال ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه إلى صلاة العصر من يوم النحر يكبر في العصر ثم يقطع وبه أخذ أبو حنيفة رضي الله عنه لأن البداءة لما كانت في يوم يؤدى فيه ركن الحج فالقطع مثله يكون في يوم النحر الذي يؤدى فيه ركن الحج من الطواف ولأن رفع الأصوات بالتكبير في أدبار الصلوات خلاف المعهود فلا يثبت إلا باليقين واليقين فيما اتفق عليه كبار الصحابة وقال علي رضي الله تعالى عنه إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق يكبر في العصر ثم يقطع وهو إحدى الروايتين عن عمر رضي الله عنه وفي الأخرى إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق.
وأخذ أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى بقول علي رضي الله عنه لقوله تعالى:
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، وهي إما أيام التشريق أو أيام النحر فينبغي أن يكون التكبير فيها مشروعا ولأنا أمرنا بإكثار الذكر ولأن يكبر ما ليس عليه أولى من أن يترك ما عليه واتفق الشبان من الصحابة زيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم على أنه يبدأ بها من صلاة الظهر يوم النحر وإليه رجع أبو يوسف لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}[البقرة: 200]، والفاء للتعقيب. وقضاء المناسك وقت الضحى من يوم النحر فينبغي أن يكون التكبير عقيبه والناس في هذه التكبيرات تبع للحاج ثم الحاج يقطعون التلبية عند رمي جمرة العقبة ويأخذون في التكبيرات وذلك وقت الضحوة فعلى الناس أن يكبروا عقيب أول صلاة مؤداة بعد هذا الوقت وهي صلاة الظهر ثم قال ابن عمر رضي الله عنهما إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق وقال ابن عباس، رضي الله عنهما إلى صلاة الظهر وقال زيد إلى صلاة العصر وبه أخذ الشافعي رضي الله عنه.
والتكبير أن يقول بعد التسليم الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وهو قول علي وابن مسعود، رحمهما الله تعالى وكان بن عمر يقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وبه أخذ الشافعي رضي الله عنه. وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر لا إله إلا الله الحي القيوم يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وإنما أخذنا بقول علي وابن مسعود رضي الله عنهما لأنه عمل الناس في الأمصار ولأنه يشتمل على التكبير والتهليل والتحميد فهو أجمع.

 

ج / 2 ص -41-         وهذا التكبير على الرجال المقيمين من أهل الأمصار في الصلوات المكتوبات في الجماعة عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى كل من يصلي مكتوبة في هذه الأيام فعليه التكبير مسافرا كان أو مقيما في المصر أو القرية رجلا أو امرأة في الجماعة أو وحده وهو قول إبراهيم رحمه الله تعالى لأن هذه التكبيرات في حق غير الحاج بمنزلة التلبية في حق الحاج وفي التلبية لا تراعى هذه الشروط فكذلك في التكبيرات. وأبو حنيفة رضي الله عنه احتج بما روينا لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع.
قال الخليل والنضر بن شميل رحمهما الله تعالى التشريق في اللغة التكبير ولا يجوز أن يحمل على صلاة العيد فقد قال في حديث علي رضي الله عنه لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع فقد ثبت في الحديث أنه بمنزلة الجمعة في اشتراط المصر فيه فكذلك في اشتراط الذكورة والإقامة والجماعة ولهذا لم يشترط أبو حنيفة رضي الله عنه فيه الحرية كما لا تشترط في صلاة الجمعة.
قال: "وإن صلى النساء مع الرجال أو المسافر خلف المقيم وجب عليهم التكبير تبعا" كما يتأدى بهم فرض الجمعة تبعا وفي المسافرين إذا صلوا في المصر جماعة روايتان رواية الحسن رحمه الله تعالى عليهم التكبير لأن المسافر يصلح للإمامة في الجمعة والأصح أنه ليس عليهم التكبير لأن السفر مغير للفرض مسقط للتكبير ثم لا فرق في تغير الفرض بين أن يصلوا في المصر أو خارجا عنه فكذلك في التكبير.
قال: "ولا تكبير على المتطوع بصلاته" وقال مجاهد عليه التكبير وقاس التكبير في آخر الصلاة بالتكبير في أولها.
ولنا: أن الأذان أوجب من التكبير لأن ذلك في جميع السنة وهذا في أيام مخصوصة ثم الأذان غير مشروع في التطوعات فكذلك هذه التكبيرات وكذلك لا يكبر عقيب الوتر عندهما لأنه سنة وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لأن الوتر لا يؤدى بالجماعة في هذه الأيام وكذلك عقيب صلاة العيد لا يكبرون لأنها سنة فأما عقيب الجمعة فيكبرون لأنها فرض مكتوبة.
قال: "ويبدأ الإمام إذا فرغ من صلاته بسجود السهو ثم بالتكبير ثم بالتلبية إن كان محرما" لأن سجود السهو مؤدى في حرمة الصلاة ولهذا يسلم بعده. ومن اقتدى به في سجود السهو صح اقتداؤه والتكبير يؤدى في فور الصلاة لا في حرمتها حتى لا يسلم بعده ولا يصح اقتداء المقتدي به في حال التكبير والتلبية غير مؤداة في حرمة الصلاة ولا في فورها حتى لا تختص بحالة الفراغ من الصلاة فيبدأ بما هو مؤدى في حرمتها ثم بما هو مؤدى في فورها ثم بالتلبية والمسبوق يتابع الإمام في سجود السهو لأنه مؤدى في حرمة الصلاة ولا يتابعه في التكبير والتلبية لأنها غير مؤداة في حرمة الصلاة وعلى هذا إذا نسي

 

ج / 2 ص -42-         الإمام سجود السهو لم يسجد القوم لأنه مؤدى في حرمة الصلاة فكانوا مقتدين به لا يأتون به دونه.
قال: "وإذا نسي التكبير أو التلبية أو تركهما متأولا لم يترك القوم" لأنها غير مؤداة في حرمة الصلاة وإذا نسي الإمام التكبير حتى انصرف فإن ذكره قبل أن يخرج من المسجد عاد وكبر وإن كان قد خرج أو تكلم ناسيا أو عامدا أو أحدث عامدا سقط لأن الانصراف قبل الخروج من المسجد لا يقطع فور الصلاة حتى لا يمتنع البناء عليها لو حصل في خلالها كمن ظن أنه سبقه الحدث فأما الخروج والكلام والحدث العمد فيقطع فور الصلاة حتى يمنع البناء عليها لو حصل في خلالها فإن سبقه الحدث فإن شاء ذهب فتوضأ ورجع فكبر وإن شاء كبر من غير تطهر لأن سبق الحدث لا يقطع فور الصلاة حتى لا يمنع من البناء والتكبير غير مؤدى في حرمة الصلاة فلا يشترط فيه الطهارة كالأذان. قال الشيخ الإمام: "والأصح عندي أنه يكبر ولا يخرج من المسجد للطهارة" لأنه لما لم يكن به حاجة إلى الطهارة كان خروجه قاطعا لفور الصلاة فلا يمكنه أن يكبر بعدها فيكبر للحال والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب صلاة الخوف
اعلم أن العلماء اختلفوا في صلاة الخوف في فصول.
أحدها: أنه مشروع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى أولا كذلك ثم رجع فقال كانت في حياته خاصة ولم تبق مشروعة بعده هكذا ذكره في نوادر أبي سليمان رضي الله عنه لقوله تعالى:
{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ}[النساء: 102] فقد شرط كونه فيهم لإقامة صلاة الخوف ولأن الناس كانوا يرغبون في الصلاة خلفه ما لا يرغبون في الصلاة خلف غيره فشرع بصفة الذهاب والمجيء لينال كل فريق فضيلة الصلاة خلفه. وقد ارتفع هذا المعنى بعده فكل طائفة يتمكنون من أداء الصلاة بإمام على حدة فلا يجوز لهم أداؤها بصفة الذهاب والمجيء.
وحجتنا في ذلك أن الصحابة أقاموها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: روي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح وأن سعيد بن العاص سأل عنها أبا سعيد الخدري فعلمه فأقامها وسببه وهو الخوف يتحقق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان في حياته ولم يكن ذلك لنيل فضيلة الصلاة خلفه فترك المشي واجب في الصلاة ولا يجوز ترك الواجب لإحراز الفضيلة ثم الآن يحتاجون إلى إحراز فضيلة تكثير الجماعة فإنها كلما كانت أكثر فهي أفضل وقوله:
{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ}، معناه: أنت أو من يقوم مقامك في الإمامة كما في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقد يكون الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يختص هو به كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}[سورة الطلاق: 1].
والثاني: وهو أنه لا ينتقص عدد الركعات بسبب الخوف عندنا. وكان ابن عباس رضي

 

ج / 2 ص -43-         الله عنه يقول صلاة المقيم أربع ركعات وصلاة المسافر ركعتان وصلاة الخوف ركعة وبه أخذ بعض العلماء واستدل بما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع بكل طائفة ركعة فكانت له ركعتان ولكل طائفة ركعة. وتأويل هذا عندنا ولكل طائفة ركعة مؤداة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعة أخرى صلوها وحدهم.
والثالث: في صفة صلاة الخوف فالمذهب عندنا أن يجعل الإمام الناس طائفتين فيصلي بالطائفة الأولى ركعة فإذا رفع رأسه منها ذهبوا فوقفوا بإزاء العدو وجاءت الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ويسلم ثم ذهبوا فوقفوا بإزاء العدو وجاءت الطائفة الأولى فيتمون صلاتهم بلا قراءة ثم ذهبوا وجاءت الطائفة الأخرى فيصلون الركعة الأولى بقراءة وهكذا روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الناس طائفتين فصلى بكل طائفة ركعة وقضت كل طائفة ركعة أخرى.
وهكذا روى سالم عن ابن عمر، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بالطائفتين بهذه الصفة.
وكان ابن أبي ليلى يقول إذا كان العدو في ناحية القبلة جعل الناس صفين وافتتح الصلاة بهم جميعا فإذا ركع الإمام ركعوا معه وإذا سجد الإمام سجد معه الصف الأول والصف الثاني قيام يحرسونهم وإذا رفعوا رؤوسهم سجد الصف الثاني والصف الأول قعود يحرسونهم فإذا رفعوا رؤوسهم سجد الإمام السجدة الثانية وسجد معه الصف الأول والصف الثاني قعود يحرسونهم فإذا رفعوا رؤوسهم سجد الصف الثاني والصف الأول قيام يحرسونهم فإذا رفعوا رؤوسهم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني فصلى بهم الركعة الثانية بهذه الصفة أيضا فإذا قعد وسلم سلموا معه.
واستدل بحديث ابن عباس الزرقي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعسفان بهذه الصفة وأبو يوسف يجوز صلاة الخوف بهذه الصفة لأنه ليس فيها ذهاب ومجيء وعندنا إذا كان العدو في ناحية القبلة فإن صلوا بهذه الصفة أجزأهم وإن صلوا بصفة الذهاب والمجيء كما بينا أجزأهم لأن ظاهر الآية شاهد لذلك قال الله تعالى:
{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}[سورة النساء: 102].
وقال مالك رضي الله عنه يجعل الناس طائفتين فيصلي بالطائفة الأولى ركعة وطائفة تقف بإزاء العدو ثم ينتظر الإمام حتى تصلي الطائفة الأولى الركعة الثانية ويسلمون فيذهبون إلى العدو وجاءت الطائفة الثانية فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ثم يسلم ويقومون لقضاء الركعة الأولى وهكذا روى صالح بن خوات رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله بذي قرد وذكر الطحاوي حديث صالح بن خوات في شرح الآثار: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف يوم ذات الرقاع وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت جالسا للطائفة الأخرى حتى

 

ج / 2 ص -44-         أتموا لأنفسهم ثم سلم بهم وبه أخذ الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضا إلا أنه يقول لا يسلم الإمام حتى تقضي الطائفة الثانية الركعة الأولى ثم يسلم ويسلمون معه وقال كما ينتظر فراغ الطائفة الأولى من إتمام صلاتهم فكذلك يفعل بالطائفة الثانية ولم نأخذ بهذا لأن فيه فراغ المؤتم من صلاته قبل فراغ الإمام وذلك لا يجوز بحال بخلاف المشي فقد ورد به الأثر في حق من سبقه الحدث مع الإمام فجوزنا ذلك في حالة الخوف.
وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بالطائفة الأولى ركعة انتظرهم حتى أتموا صلاتهم وذهبوا إلى العدو وجاءت الطائفة الأخرى فبدؤوا بالركعة الأولى والنبي عليه الصلاة والسلام ينتظرهم ثم صلى بهم الركعة الثانية ولم يأخذ بهذا أحد من العلماء لأنه حكم كان في الابتداء أن المسبوق يبدأ بقضاء ما فاته ثم بأداء ما أدرك مع الإمام وقد ثبت انتساخه.
وروي شاذا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين فكان له أربع ركعات ولكل طائفة ركعتان ولم نأخذ بهذا لأن في حق الطائفة الثانية يحصل اقتداء المفترض بالمتنفل إلا أن يكون تأويله أنه كان مقيما فصلى بكل طائفة ركعتين وقضت كل طائفة ركعتين وهو المذهب عندنا فإنه يصلي بكل طائفة شطر الصلاة. وأما في صلاة المغرب فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة عندنا.
وقال الثوري، رحمه الله تعالى: يصلي بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الثانية ركعتين لأن فرض القراءة في الركعتين الأوليين فينبغي أن يكون لكل طائفة في ذلك حظ.
ولنا: أنه إنما يصلي بكل طائفة شطر الصلاة وشطر المغرب ركعة ونصف فثبت حق الطائفة الأولى في نصف ركعة والركعة الواحدة لا تجزئ فثبت حقهم في كلها ولأن الركعتين شطر المغرب ولهذا كانت القعدة بعدهما وهي مشروعة للفصل بين الشطرين ثم الطائفة الأولى تصلي الركعة الثالثة بغير قراءة لأنهم لاحقون والطائفة الثانية يصلون الركعتين الأوليين بالقراءة ويقعدون بينهما وبعدهما كما يفعله المسبوق بركعتين في المغرب.
قال: "ومن قاتل منهم في صلاته فسدت صلاته عندنا" وقال مالك رضي الله عنه لا تفسد وهو قول الشافعي رضي الله عنه في القديم لظاهر قوله تعالى:
{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}[سورة النساء: 102]. والأمر بأخذ السلاح لا يكون إلا للقتال به، ولكنا نقول: القتال عمل كثير وهو ليس من أعمال الصلاة ولا تتحقق فيه الحاجة لا محالة فكان مفسدا لها كتخليص الغريق واتباع السارق لاسترداد المال والأمر بأخذ الأسلحة لكيلا يطمع فيهم العدو إذا رآهم مستعدين أو ليقاتلوا بها إذا احتاجوا ثم يستقبلون الصلاة.
قال: "ولا يصلون وهم يقاتلون وإن ذهب الوقت" لأن النبي صلى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن بعد هدء من الليل وقال:
"شغلونا عن صلاة الوسطى ملأ الله قبورهم

 

ج / 2 ص -45-         وبطونهم نارا". فلو كان تجوز الصلاة في حالة القتال لما أخرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك من ركب منهم في صلاته عند انصرافه إلى وجه العدو فسدت صلاته لأن الركوب عمل كثير وهو مما لا يحتاج إليه بخلاف المشي فإنه لا بد منه حتى يقفوا بإزاء العدو وجواز العمل لأجل الضرورة فيختص بما يتحقق فيه الضرورة.
قال: "ولا يصلون جماعة ركبانا" لأن بينهم وبين الإمام طريقا فيمنع ذلك صحة الاقتداء إلا أن يكون الرجل مع الإمام على دابة فيصح اقتداؤه به لأنه ليس بينهما مانع. وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى أنه جوز لهم في الخوف أن يصلوا ركبانا بالجماعة وقال أستحسن ذلك لينالوا فضيلة الصلاة بالجماعة فقد جوزنا لهم ما هو أعظم من ذلك وهو الذهاب والمجيء لينالوا فضيلة الجماعة، ولكنا نقول ما أثبتناه من الرخصة أثبتناه بالنص ولا مدخل للرأي في إثبات الرخص.
قال: "وإن صلوا صلاة الخوف من غير أن يعاينوا العدو جاز للإمام ولم يجز للقوم إذا صلوا بصفة الذهاب والمجيء" لأن الرخصة إنما وردت إذا كانوا بحضرة العدو فإذا لم يكونوا بحضرته لم يتحقق سبب الترخص بالذهاب والمجيء فلا تجوز صلاتهم بها وأما الإمام فلم يوجد منه الذهاب والمجيء فتجوز صلاته. ولو رأوا سوادا فظنوا أنه العدو فصلوا صلاة الخوف فإن تبين أنه سواد العدو فقد ظهر أن سبب الترخص كان متقررا فتجزئهم وإن ظهر أن السواد سواد إبل أو بقر أو غنم فقد ظهر أن السبب لم يكن متقررا فلا تجزئهم والخوف من سبع يعاينونه كالخوف من العدو لأن الرخصة لدفع سبب الخوف عنهم ولا فرق في هذا بين السبع والعدو والله تعالى أعلم.

باب الشهيد
قال: "وإذا قتل الشهيد في معركة لم يغسل وصلي عليه عندنا" وقال الحسن البصري رضي الله تعالى عنه يغسل ويصلى عليه. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: لا يصلى عليه. أما الحسن فقال الغسل سنة الموتى من بني آدم جاء في الحديث:
"أن آدم لما مات غسلته الملائكة وصلوا عليه ثم قالوا هذه سنة موتاكم يا بني آدم". والشهيد ميت بأجله ولأن غسل الميت تطهير له حتى تجوز الصلاة عليه بعد غسله لا قبله والشهيد يصلى عليه فيغسل أيضا تطهيرا له وإنما لم يغسل شهداء أحد لأن الجراحات فشت في الصحابة في ذلك اليوم وكان يشق عليهم حمل الماء من المدينة وغسلهم لأن عامة جراحاتهم كانت في الأيدي فعذرهم لذلك.
ولنا: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شهداء أحد:
"زملوهم بدمائهم ولا تغسلوهم فإنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا وهو يأتي يوم القيامة وأوداجه تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك". وما قاله الحسن من التأويل باطل فإنه لم يأمر بالتيمم ولو كان ترك

 

ج / 2 ص -46-         الغسل للتعذر لأمر أن ييمموا كما لو تعذر غسل الميت في زمان لعدم الماء ولأنه لم يعذرهم في ترك الدفن وكانت المشقة في حفر القبور للدفن أظهر منها في الغسل وكما لم يغسل شهداء أحد لم يغسل شهداء بدر كما رواه عقبة بن عامر وهذه الضرورة لم تكن يومئذ وكذلك لم يغسل شهداء الخندق وخيبر فظهر أن الشهيد لا يغسل.
وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يصلى عليه، لحديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى على أحد من شهداء أحد ولأنهم بصفة الشهادة تطهروا من دنس الذنوب كما قال عليه الصلاة والسلام:
"السيف محاء الذنوب والصلاة عليه شفاعة له ودعاء لتمحيص ذنوبه"، وقد استغنى عن ذلك كما استغنى عن الغسل ولأن الله تعالى وصف الشهداء بأنهم أحياء فقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169]، والصلاة على الميت لا على الحي.
ولنا: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد صلاته على الجنازة حتى روي أنه صلى على حمزة رضي الله تعالى عنه سبعين صلاة وتأويله أنه كان موضوعا بين يديه فيؤتى بواحد واحد فيصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن الراوي أنه صلى على حمزة في كل مرة فقال صلى عليه سبعين صلاة. وحديث جابر رضي الله تعالى عنه ليس بقوي. وقيل: إنه كان يومئذ مشغولا فقد قتل أبوه وأخوه وخاله فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى المدينة فلم يك حاضرا حين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فلهذا روى ما روى ومن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أنه صلى عليهم ثم سمع جابر رضي الله عنه منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم
"أن يدفن الموتى في مصارعهم"، فرجع فدفنهم فيها ولأن الصلاة على الميت لإظهار كرامته ولهذا اختص به المسلمون.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين والشهيد أولى بما هو من أسباب الكرامة والعبد وإن تطهر من الذنوب فلا تبلغ درجته درجة الاستغناء عن الدعاء له ألا ترى أنهم صلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلا إشكال أن درجته فوق درجة الشهداء والشهيد حي في أحكام الآخرة كما قال تعالى:
{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] فأما في أحكام الدنيا فهو ميت يقسم ميراثه وتتزوج امرأته بعد انقضاء العدة وفريضة الصلاة عليه من أحكام الدنيا فكان فيه ميتا يصلى عليه.
قال: "ويكفن في ثيابه التي هي عليه" لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"زملوهم بدمائهم وكلومهم". وروى أن زيد بن صوحان لما استشهد يوم الجمل قال لا تغسلوا عني دما ولا تنزعوا عني ثوبا فإني رجل محجاج أحاج يوم القيامة من قتلني ولما استشهد عمار بن ياسر بصفين قال لا تغسلوا عني دما ولا تنزعوا عني ثوبا فإني ألتقي ومعاوية بالجادة وهكذا نقل عن حجر بن عدي غير أنه ينزع عنه السلاح والجلد والفرو والحشو والخف والقلنسوة لأنه إنما لبس

 

ج / 2 ص -47-         هذه الأشياء لدفع بأس العدو وقد استغنى عن ذلك ولأن هذا عادة أهل الجاهلية لأنهم كانوا يدفنون أبطالهم بما عليهم من الأسلحة وقد نهينا عن التشبه بهم.
قال: "ويزيدون في أكفانهم ما شاؤوا وينقصون ما شاؤوا" واستدلوا بهذا اللفظ على أن عدد الثلاث في الكفن ليس بلازم ويخيطونه إن شاؤوا كما يفعل ذلك بغيره من الموتى إنما لا يزال عنه أثر الشهادة فأما فيما سوى ذلك فهو كغيره من الموتى.
قال: "وإن حمل من المعركة حيا ثم مات في بيته أو على أيدي الرجال غسل" لأنه صار مرتثا وقد ورد الأثر بغسل المرتث ومعناه من خلق أمره في باب الشهادة يقال ثوب رث أي خلق. والأصل فيه أن عمر رضي الله عنه لما طعن حمل إلى بيته فعاش يومين ثم غسل وكان شهيدا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك علي رضي الله عنه حمل حيا بعد ما طعن ثم غسل وكان شهيدا فأما عثمان رضي الله عنه فأجهز عليه في مصرعه ولم يغسل فعرفنا بذلك أن الشهيد الذي لا يغسل من أجهز عليه في مصرعه دون من حمل حيا وهذا إذا حمل ليمرض في خيمته أو في بيته. وأما إذا جر برجله من بين الصفين لكيلا تطؤه الخيول فمات لم يغسل لأن هذا ما نال شيئا من راحة الدنيا بعد صفة الشهادة فتحقق بذل نفسه ابتغاء مرضات الله تعالى والأول بحسب ما مرض قد نال راحة الدنيا بعد فيغسل وإن كان له ثواب الشهداء كالغريق والحريق والمبطون والغريب يغسلون وهم شهداء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: "وما قتل به في المعركة من سلاح أو غيره فهو سواء لا يغسل" لأن الأصل شهداء أحد وفيهم من دمغ رأسه بالحجر وفيهم من قتل بالعصا ثم عمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بترك الغسل ولأن الشهيد باذل نفسه ابتغاء مرضات الله تعالى، قال الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة: 111]، وفي هذا المعنى السلاح وغيره سواء.
قال: "وإن وجد في المعركة ميتا ليس به أثر غسل" لأن المقتول يفارق الميت بالأثر فإذا لم يكن به أثر فالظاهر أنه لم يكن انزهاق روحه بقتل مضاف إلى العدو بل لما التقى الصفان انخلع قناع قلبه من شدة الفزع فمات والجبان مبتلى بهذا. وإن كان به أثر لم يغسل لأن الظاهر أن موته كان بذلك الجرح وأنه كان من العدو فاجتماع الصفين كان لهذا والأصل أن الحكم متى ظهر عقيب سبب يحال على ذلك السبب. فإن كان الدم يخرج من بعض مخارقه نظر فإن كان الدم يخرج من ذلك الموضع من غير جرح في الباطن غسل وذلك كالأنف والدبر والذكر فقد يبتلى بالرعاف وقد يبول دما لشدة الفزع وقد يخرج الدم من الدبر من غير جرح في الباطن. وإن كان يخرج الدم من أذنه أو عينه لم يغسل لأن الدم لا يخرج من هذين الموضعين عادة إلا بجرح في الباطن فالظاهر أنه ضرب على رأسه حتى خرج

 

ج / 2 ص -48-         الدم من أذنه أو عينه وإن كان يخرج من فيه فإن كان ينزل من رأسه غسل وجرحه من جانب الفم ومن جانب الأنف سواء وإن كان يعلو من جوفه لم يغسل لأن الدم لا يعلو من الجوف إلا بجرح في الباطن وإنما يعرف ذلك بلون الدم.
قال: "ومن صار مقتولا من جهة قطاع الطريق لم يغسل أيضا" لأنه قتل دافعا عن ماله وقد قال عليه الصلاة والسلام:
"من قتل دون ماله فهو شهيد"، فلهذا لا يغسل.
قال: "ومن قتل في المصر بسلاح ظلما لم يغسل أيضا عندنا" وقال الشافعي رضي الله عنه يغسل وهو بناء على أن عنده القتل العمد موجب للدية كالخطأ فإذا وجب عن نفسه بدل هو مال غسل وعندنا العمد غير موجب للمال فهذا مقتول ظلما لم يجب عن نفسه بدل هو مال فكان شهيدا. والقصاص الواجب ليس ببدل محض بل هو عقوبة زاجرة فلا يخل بصفة الشهادة واعتمادنا فيه على حديث عثمان رضي الله تعالى عنه فقد قتل في المصر وكان شهيدا ولم يغسل. وإن قتل بغير سلاح غسل لأن هذا في معنى الخطأ حتى يجب عن نفسه بدل هو مال. وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أنه إذا قتل بحجر أو عصا كبير فهو عندهما والقتل بالسلاح سواء وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يغسل وهو بناء على اختلافهم في وجوب القصاص في القتل بهذه الآلة.
قال: "ولو قتل بحق في قصاص أو رجم غسل" لما روى أن ماعزا لما رجم جاء عمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتل ما عز كما تقتل الكلاب فماذا تأمرني أن أصنع به فقال:
"لا تقل هذا فقد تاب توبة لو قسمت توبته على أهل الأرض لوسعتهم اذهب فغسله وكفنه وصل عليه". ولأن الشهيد باذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى وهذا لا يوجد في المقتول بحق فإنه باذل نفسه لإيفاء حق مستحق عليه وكذلك من مات من حد أو تعزير غسل لما بينا وكذلك من عدا على قوم ظلما فقتلوه غسل لأن الظالم غير باذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى فهو في حكم الغسل كغيره من الموتى.
قال: "ومن قتله السبع أو احترق بالنار أو تردى من جبل أو مات تحت هدم أو غرق غسل كغيره من الموتى" لأن هذه الأشياء غير معتبرة شرعا في أحكام الدنيا فهو والميت حتف أنفه سواء وكذلك من وجد مقتولا في محلة لا يدري من قتله غسل لأنه استحق عن نفسه بدلا هو مال فالقسامة والدية تجب على أهل المحلة.
قال: "ويصنع بالمحرم ما يصنع بالحلال" يعني يخمر رأسه ووجهه بالكفن عندنا. وقال الشافعي رضي الله عنه لا يخمر رأسه واستدل بما روى أن أعرابيا محرما وقصت به ناقته في أخافيق جردان فاندقت عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا"، أو قال: "ملبدا". ولأنه مات وهو مشغول بعبادة لها أثر فيبقى عليه ذلك الأثر كالغازي إذا استشهد.

 

ج / 2 ص -49-         ولنا: حديث عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن محرم مات فقال: "خمروا رأسه ووجهه ولا تشبهوه باليهود". وسئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك فقالت اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم وأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما مات ابنه واقد وهو محرم كفنه وعممه وحنكه وقال لولا أنا محرمون لحنطناك يا واقد ولأن إحرامه قد انقطع بموته.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث والإحرام ليس منها فينقطع بالموت"، ولهذا لا يبني المأمور بالحج على إحرامه والتحق بالحلال وإذا جاز أن يخمر رأسه ووجهه باللبن والتراب فكذلك بالكفن. وحديث الأعرابي تأويله أن النبي عليه الصلاة والسلام عرف بطريق الوحي خصوصيته ببقاء إحرامه بعد موته وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص بعض أصحابه بأشياء.
قال: "ومن قتل من أهل العدل في محاربة أهل البغي فهو شهيد لا يغسل" لأن المحاربة معهم مأمور بها قال الله تعالى:
{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات: 9]، فالمقتول في هذه المحاربة باذل نفسه لابتغاء مرضات الله كالمقتول في محاربة المشركين. ولما قاتل علي رضي الله تعالى عنه أهل النهروان لم يغسل من استشهد من أصحابه، ولم يذكر في الكتاب أن من قتل من أهل البغي ماذا يصنع به وروى المعلى عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه لا يغسل ولا يصلى عليه. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه يغسل ويصلى عليه لأنه مسلم قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}[الحجرات: 9]، الآية ولكنه مقتول بحق فهو كالمقتول رجما أو في قصاص.
ولنا: حديث علي رضي الله تعالى عنه أنه لم يغسل أهل النهروان ولم يصل عليهم فقيل له أكفارهم قال لا ولكنهم إخواننا بغوا علينا. أشار إلى أن ترك الغسل والصلاة عليهم عقوبة لهم ليكون زجرا لغيرهم وهو نظير المصلوب يترك على خشبته عقوبة له وزجرا لغيره.
قال: "وإذا أغار أهل الحرب على قرية من قرى المسلمين فقتلوا الرجال والنساء والصبيان فلا خلاف أنه لا يغسل النساء كما لا يغسل الرجال" لأنهن مخاطبات يخاصمن يوم القيامة من قتلهن فيبقى عليهن أثر الشهادة ليكون شاهدا لهن كالرجال. فأما الصبيان عند أبي حنيفة رضي الله عنه فيغسلون. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يغسلون قال لأن حال الصبيان في الطهارة فوق حال البالغين فإذا لم يغسل البالغ إذا استشهد لأنه قد تطهر فالصبي أولى. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال ليس للصبي ذنب يمحوه السيف فالقتل في حقه والموت حتف أنفه سواء فيغسل ثم الصبي غير مكلف ولا يخاصم بنفسه في حقوقه في الدنيا فإنما الخصم في حقوقه في الآخرة هو خالقه سبحانه وتعالى والله غني عن الشهود فلا حاجة إلى إبقاء الشهادة عليه.

 

ج / 2 ص -50-         قال: "وإذا وجد عضو من أعضاء الآدمي كيد أو رجل لم يغسل ولم يصل عليه لكنه يدفن" لأن المشروع الصلاة على الميت وذلك عبارة عن بدنه لا عن عضو من أعضائه ولعل صاحب العضو حي ولا يصلى على الحي ولو قلنا يصلى على عضو إذا وجد لكان يصلى على عضو آخر إذا وجد أيضا فيؤدي إلى تكرار الصلاة على ميت واحد وذلك غير مشروع عندنا. وقال الشافعي رضي الله عنه يغسل ما وجد ويصلى عليه اعتبارا للبعض بالكل فإن لأطراف الآدمي حرمة كما لنفسه وعنده لا بأس بتكرار الصلاة على ميت واحد. ثم عندنا إن وجد النصف من بدنه مشقوقا طولا لا يصلى عليه لأنه لو صلى عليه لكان يصلى على النصف الآخر إذا وجد فيؤدي إلى تكرار الصلاة على ميت واحد. فأما إذا وجد أكثر البدن أو النصف ومعه الرأس يصلى عليه لأن للأكثر حكم الكل ولا يؤدي هذا إلى تكرار الصلاة على ميت واحد.
قال: "وإذا وجد ميت لا يدرى أمسلم هو أم كافر فإن كان في قرية من قرى أهل الإسلام فالظاهر أنه مسلم فيغسل ويصلى عليه وإن كان في قرية من قرى أهل الشرك فالظاهر أنه منهم فلا يصلى عليه إلا أن يكون عليه سيما المسلمين فحينئذ يغسل ويصلى عليه وسيما المسلمين الختان والخضاب ولبس السواد وما تعذر الوقوف على حقيقته يعتبر فيه العلامة والسيما" قال الله تعالى:
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}[سورة الرحمن: 41]، وقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}[التوبة: 46].
قال: وإذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار فإن كانت الغلبة للمسلمين غسلوا وصلي عليهم إلا من عرف أنه كافر لأن الحكم للغلبة والمغلوب لا يظهر حكمه مع الغالب وإن كانت الغلبة لموتى الكفار لا يصلى عليهم إلا من عرف أنه مسلم بالسيما فإذا استويا لم يصل عليهم عندنا لأن الصلاة على الكفار منهى عنها ويجوز ترك الصلاة على بعض المسلمين وقال عليه الصلاة والسلام:
"ما اجتمع الحلال والحرام إلا وقد غلب الحرام على الحلال". ومن العلماء من قال: يصلى عليهم ترجيحا للمسلمين على الكفار وينوي من يصلي عليهم المسلمين لأنه لو قدر على التمييز فعلا فعل فإذا عجز عنه ميز بالنية. وعلى قول الشافعي رضي الله عنه يستعمل التحري فيصلي على من وقع في أكبر رأيه أنه مسلم وهي مسألة التحري. ولم يبين في الكتاب أي موضع يدفنون فقال بعض مشايخنا إذا لم يصل عليهم دفنوا في مقابر المشركين، وقال بعضهم: يتخذ لهم مقبرة على حدة.
وأصل الاختلاف في نصرانية تحت مسلم حبلت ثم ماتت وفي بطنها ولد مسلم اختلف الصحابة أنها في أي موضع تدفن فرجح بعضهم جانب الولد وقال تدفن في مقابر المسلمين وبعضهم جانبها فإن الولد في حكم جزء منها ما دام في البطن وقال تدفن في مقابر المشركين. وقال عقبة بن عامر رحمه الله تعالى تتخذ لها مقبرة على حدة.

 

ج / 2 ص -51-         قال: "ولا بأس بأن يغسل المسلم أباه الكافر إذا مات ويدفنه" لما بينا أن الغسل سنة الموتى من بني آدم وهو مع كفره منهم والولد المسلم مندوب إلى بر والده وإن كان مشركا. قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً}[العنكبوت: 8]، والمراد به الوالد المشرك بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي}[لقمان: 15] الآية، ومن الإحسان والبر في حقه القيام بغسله ودفنه بعد موته.
ولما مات أبو طالب جاء علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عمك الضال قد مات فقال:
"اذهب فغسله وكفنه وواره ولا تحدث حدثا حتى تلقاني". فلما رجعت إليه دعا لي بدعوات ما أحب أن يكون لي بها حمر النعم. وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى سأل رجل ابن عباس رضي الله عنه فقال إن أمي ماتت نصرانية فقال غسلها وكفنها وادفنها. وأن الحارث بن أبي ربيعة ماتت أمه نصرانية فتبع جنازتها في نفر من الصحابة. وإنما يغسل الكافر كما تغسل النجاسات بإفاضة الماء عليه ولا يوضأ وضوء الصلاة كما يفعل بالمسلم لأنه كان لا يتوضأ في حياته وكذلك كل ذي رحم محرم منه وإنما يقوم بذلك إذا لم يكن هناك من يقوم به من المشركين.
فإذا كان خلي المسلم بينه وبينهم ليصنعوا به ما يصنعون بموتاهم، ولم يبين أن الابن المسلم إذا كان هو الميت هل يمكن أبوه الكافر من القيام بغسله وتجهيزه؟ وينبغي أن لا يمكن من ذلك بل يفعله المسلمون لأن اليهودي لما آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ثم قال لأصحابه:
"لوا أخاكم ولم يخل بينه وبين والده اليهودي". ويكره أن يدخل الكافر قبر ابنه من المسلمين لأن الموضع الذي فيه الكافر ينزل فيه السخط واللعنة فينزه قبر المسلم من ذلك وإنما يدخل قبره المسلمون ليضعوه على سنة المسلمين ويقولون عند وضعه بسم الله وعلى ملة رسول الله والله تعالى أعلم.

باب حمل الجنازة
السنة في حمل الجنازة أن يحملها أربعة نفر من جوانبها الأربع عندنا. وقال الشافعي، رضي الله تعالى عنه السنة حملها بين العمودين وهو أن يحملها رجلان يتقدم أحدهما فيضع جانبي الجنازة على كتفيه ويتأخر الآخر فيفعل مثل ذلك واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه حمل جنازة سعد بن معاذ بين عمودين. وحجتنا حديث ابن مسعود رضي الله عنه من السنة أن تحمل الجنازة من جوانبها الأربع ولأن عمل الناس اشتهر بهذه الصفة وهو أيسر على الحاملين المتداولين بينهم وأبعد عن تشبيه حمل الجنازة بحمل الأثقال وقد أمرنا بذلك ولهذا كره حملها على الظهر أو على الدابة. وتأويل الحديث أنه لضيق الطريق أو لعوز بالحاملين.
ومن أراد كمال السنة في حمل الجنازة ينبغي له أن يحملها من الجوانب الأربع. يبدأ

 

ج / 2 ص -52-         بالأيمن المقدم لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب التيامن في كل شيء والمقدم أول الجنازة والبداءة بالشيء من أوله ثم بالأيمن المؤخر ثم بالأيسر المقدم ثم بالأيسر المؤخر لأنه لو تحول من الأيمن المقدم إلى الأيسر المقدم احتاج إلى المشي أمامها والمشي خلفها أفضل فلهذا يتحول من الأيمن المقدم إلى الأيمن المؤخر والأيمن المقدم جانب السرير الأيسر فذلك يمين الميت ويمين الحامل وينبغي أن يحمل من كل جانب عشر خطوات جاء في الحديث "من حمل جنازة أربعين خطوة كفرت له أربعون كبيرة".
قال: "وليس في المشي بالجنازة شيء مؤقت غير أن العجلة أحب إلي من الإبطاء بها" لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المشي بالجنازة فقال:
"ما دون الخبب فإن يكن خيرا عجلتموه إليه وإن يكن شرا وضعتموه عن رقابكم"، أو قال: "فبعدا لأهل النار".
قال: "ولا بأس بالمشي قدامها والمشي خلفها أفضل عندنا" وقال الشافعي رضي الله عنه المشي أمامها أفضل لما روى أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يمشيان أمام الجنازة وأن الناس شفعاء الميت والشفيع يتقدم في العادة على من يشفع له.
ولنا: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يمشي خلف جنازة سعد بن معاذ وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يمشي خلف الجنازة فقيل له أن أبا بكر وعمر كانا يمشيان أمام الجنازة فقال: "يرحمهما الله قد عرفا أن المشي خلفها أفضل ولكنهما أرادا أن ييسرا الأمر على الناس"، معناه أن الناس يتحرزون عن المشي أمامها فلو اختار المشي خلفها لضاق الطريق على من يشيعها.
وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فضل المشي خلف الجنازة على المشي أمامها كفضل المكتوبة على النافلة ولأن المشي خلفها أوعظ فإنه ينظر إليها ويتفكر في حال نفسه فيتعظ به وربما يحتاج إلى التعاون في حملها فإذا كانوا خلفها تمكنوا من التعاون عند الحاجة فذلك أفضل والشفيع إنما يتقدم من يشفع له للتحرز عن تعجيل من تطلب منه الشفاعة بعقوبة من يشفع له حتى يمنعه من ذلك إذا عجل به وذلك لا يتحقق ها هنا.
قال: "وإذا وضعت الجنازة على الأرض عند القبر فلا بأس بالجلوس به" أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه حين كانوا قياما معه على رأس قبر فقال يهودي هكذا نصنع بموتانا فجلس وقال لأصحابه:
"خالفوهم". وإنما يكره الجلوس قبل أن توضع عن مناكب الرجال فربما يحتاجون إلى التعاون قبل الوضع وإذا كانوا قياما أمكن التعاون وبعد الوضع قد وقع الاستغناء عن ذلك ولأنهم إنما حضروا إكراما له فالجلوس قبل أن يوضع عن المناكب يشبه الإزدراء والاستخفاف به وبعد الوضع لا يؤدي إلى ذلك.
قال: "وحمل الرجال جنازة الصبي أحب إلي من حملها على الدابة" لأن في حملها على

 

ج / 2 ص -53-         الدابة تشبيها لها بحمل الأثقال وفي حملها على الأيدي إكرام للميت والصغار من بني آدم مكرمون كالكبار.
قال: "ومن ولد ميتا لا يغسل ولا يصلى عليه" وفي غسله اختلاف في الروايات فروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يغسل ويسمى ولا يصلى عليه هكذا ذكره الطحاوي رحمه الله تعالى. وعن محمد رحمه الله تعالى أنه لا يغسل ولا يسمى ولا يصلى عليه هكذا ذكره الكرخي ووجه هذا أن المنفصل ميتا في حكم الجزء حتى لا يصلى عليه فكذلك لا يغسل. ووجه ما اختاره الطحاوي أن المولود ميتا نفس مؤمنة ومن النفوس من يغسل ولا يصلى عليه وأكثر ما فيه أنه في حكم الجزء من وجه وفي حكم النفس من وجه فلاعتبار الشبهين قلنا يغسل اعتبارا بالنفوس ولا يصلى عليه اعتبارا بالأجزاء. وإن ولد حيا ثم مات صنع به ما يصنع بالموتى من المسلمين لأنه نفس مؤمنة من كل وجه حين انفصل حيا.
قال: "وإذا قتل الرجل شهيدا وهو جنب غسل عند أبي حنيفة رضي الله عنه ولم يغسل عندهما" قالا صفة الشهادة تتحقق مع الجنابة وهي مانعة من غسله لإبقاء أثر الشهادة عليه وحنظلة بن عامر إنما غسلته الملائكة عليهم السلام إكراما له ولو كان الغسل واجبا على بني آدم لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل الملائكة إياه وحيث اكتفي دل أنه لم يكن واجبا، ولأبي حنيفة رضي الله عنه حديث حنظلة فإنه لما استشهد يوم أحد غسلته الملائكة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله عن حاله، فقالت زوجته أصاب مني فسمع الهيعة فاعجله ذلك عن الاغتسال فاستشهد وهو جنب فقال عليه الصلاة والسلام:
"هو ذاك".
ولما مات سعد بن معاذ رحمه الله تعالى قال عليه الصلاة والسلام
: "بادروا بغسل سعد لا تبادرنا به الملائكة كما بادرونا بغسل حنظلة"، فهو دليل على أن حنظلة لو لم تغسله الملائكة حتى علم رسول الله صلى الله عليه وسلم حاله لغسله، وإنما لم يعد لان الواجب تأدى بفعل الملائكة فإنهم غسلوا آدم ثم قالوا هذه سنة موتاكم ولم يعد أولاده غسله ثم صفة الشهادة تمنع وجوب الغسل بالموت ولا تسقط ما كان واجبا. ألا ترى أنه لو كان في ثوب الشهيد نجاسة تغسل تلك النجاسة ولا يغسل الدم عنه فكذلك ها هنا في حق الطاهر الغسل يجب بالموت فصفة الشهادة تمنع منه. وفي حق الجنب الغسل كان واجبا قبل الموت فلا يسقط بصفة الشهادة وعلى هذا الاختلاف إذا انقطع دم الحيض ثم استشهدت. فإن استشهدت قبل انقطاع الدم فيه روايتان عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه:
إحداهما: أنها لا تغسل لأن الاغتسال ما كان واجبا عليها قبل الانقطاع.
والأخرى: أنها تغسل لأن الانقطاع قد حصل بالموت والدم السائل موجب للاغتسال عند الانقطاع والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 2 ص -54-         باب غسل الميت
اعلم بأن غسل الميت واجب وهو من حق المسلم على المسلم قال عليه الصلاة والسلام: "
للمسلم على المسلم ستة حقوق" وفي جملته أن يغسله بعد موته ولكن إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين لحصول المقصود. ثم ذكر أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم رضي الله عنهما قال يجرد الميت إذا أريد غسله لأنه في حالة الحياة كان يتجرد عن ثيابه عند الاغتسال فكذلك بعد الموت يجرد عن ثيابه وقد كان مشهورا في الصحابة حتى إنهم لما أرادوا أن يفعلوه برسول الله صلى الله عليه وسلم، نودوا من ناحية البيت: اغسلوا نبيكم صلى الله عليه وسلم وعليه قميصه فدل أنه كان مخصوصا بذلك.
قال: "ويوضع على تخت" ولم يبين كيفية وضع التخت إلى القبلة طولا أو عرضا ومن أصحابنا من اختار الوضع طولا كما كان يفعله في مرضه إذا أراد الصلاة بالإيماء. ومنهم من اختار الوضع عرضا كما يوضع في قبره، والأصح أنه يوضع كما تيسر فذلك يختلف باختلاف المواضع. ويطرح على عورته خرقة لأن ستر العورة واجب على كل حال والآدمي محترم حيا وميتا. وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه يؤزر بإزار سابغ كما يفعله في حياته إذا أراد الاغتسال.
وفي ظاهر الرواية قال: يشق عليهم غسل ما تحت الإزار فيكتفى بستر العورة الغليظة بخرقة ثم يوضأ وضوءه للصلاة ويبدأ بميامن الميت لأنه في حال حياته إذا أراد الاغتسال بدأ بالوضوء فكذلك بعد الموت إلا أنه لا يمضمض ولا يستنشق لأنه يتعذر عليهم إخراج الماء من فيه فيكون سقيا لا مضمضة ولو كبوه على وجهه ليخرج الماء من فيه ربما يسيل منه شيء. وتغسل رجلاه عند الوضوء بخلاف الاغتسال في حق الحي فإنه يؤخر فيه غسل الرجلين لأنهما في مستنقع الماء المستعمل وذلك غير موجود هنا. ثم يغسل رأسه ولحيته بالخطمى ولا يسرح لأن ذلك يفعله الحي للزينة وقد انقطع عنه ذلك بالموت ولو فعل ربما يتناثر شعره. والسنة دفنه على ما مات عليه ولهذا لا تقص أظفاره ولا شاربه ولا ينتف إبطه ولا تحلق عانته ورأت عائشة رضي الله عنها قوما يسرحون ميتا فقالت علام تنصون ميتكم؟.
ثم يضجعه على شقه الأيسر فيغسل بالماء القراح حتى ينقيه لأن البداءة بالشق الأيمن مندوب إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء فيغسل هذا الشق حتى يرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت وقد أمر قبل ذلك بالماء فأغلى بالسدر فإن لم يكن سدر فحرض فإن لم يكن واحد منهما فالماء القراح، ثم يضجعه على شقه الأيمن فيغسله بالماء القراح حتى ينقيه ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت ثم يقعده فيمسح بطنه مسحا رفيقا حتى إن بقي عند المخرج شيء يسيل منه لكيلا تتلوث أكفانه فقد فعل ذلك العباس رضي الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجد شيئا فقال: طبت حيا وميتا. وفي رواية: فاح ريح

 

ج / 2 ص -55-         المسك في البيت لما مسح بطنه، فإن سال منه شيء مسحه ثم أضجعه على شقه الأيسر فيغسله بالماء القراح حتى ينقيه لأن السنة في اغتسال الحي عدد الثلاث فكذلك في غسل الميت ثم ينشفه في ثوب كيلا تبتل أكفانه وقد أمر قبل ذلك بأكفانه وسريره فأجمرت وترا والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء اللاتي غسلن ابنته: "ابدأن بالميامن واغسلنها وترا"، وأمر بإجمار أكفانها وترا وهذا لأنه يلبس كفنه للعرض على ربه.
وفي حياته كان إذا لبس ثوبه للجمعة والعيد تطيب فكذلك بعد الموت يفعل بكفنه والوتر مندوب إليه في ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إن الله تعالى وتر يحب الوتر". ثم تبسط اللفافة وهي الرداء طولا ثم يبسط الإزار عليها طولا فإن كان له قميص ألبس إياه وإن لم يكن لم يضره. والمذهب عندنا أن القميص في الكفن سنة.
وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه ليس في الكفن قميص إنما الكفن ثلاث لفائف عنده واستدل بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة.
ولنا: حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب فيها قميصه ولباسه بعد موته معتبر بلباسه في حياته إلا أن في حياته كان يلبس السراويل حتى إذا مشى لم تنكشف عورته وذلك غير محتاج إليه بعد موته فالإزار قائم مقام السراويل ولكن في حال حياته الإزار تحت القميص ليتيسر المشي عليه وبعد الموت الإزار فوق القميص من المنكب إلى القدم لأنه لا يحتاج إلى المشي. ولم يذكر العمامة في الكفن وقد كرهه بعض مشايخنا لأنه لو فعل كان الكفن شفعا والسنة فيه أن يكون وترا. واستحسنه بعض مشايخنا لحديث عمر رضي الله عنه أنه كان يعمم الميت ويجعل ذنب العمامة على وجهه بخلاف حالة الحياة فإنه يرسل ذنب العمامة من قبل القفا لمعنى الزينة وبالموت قد انقطع عن ذلك.
قال: "ثم يوضع الحنوط في لحيته ورأسه ويوضع الكافور على مساجده يعني جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وقدميه" لأنه كان يسجد بهذه الأعضاء فتخص بزيادة الكرامة وعن زفر رضي الله عنه قال يذر الكافور على عينيه وأنفه وفمه لأن المقصود أن يتباعد الدود من الموضع الذي ينثر عليه الكافور وإنما تخص هذه المخارق من بدنه بالكافور لهذا.
قال: "ثم يعطف الإزار عليه من قبل شقه الأيسر إن كان طويلا حتى يعطف على رأسه وسائر جسده فهو أولى ثم يعطف من قبل شقه الأيمن كذلك ثم يعطف اللفافة وهي الرداء كذلك" لأن الميت في حال حياته إذا تحزم بدأ بعطف شقه الأيسر ثم يعطف الأيمن على الأيسر فكذلك يفعل به بعد الموت.
قال: "وإن تخوفت أن تنتشر أكفانه عقدته ولكن إذا وضع في قبره يحل العقد" لأن المعنى الذي لأجله عقدته قد زال، ولم يبين في الكتاب أنه هل تحشى مخارقه وقالوا: لا

 

ج / 2 ص -56-         بأس بذلك في أنفه وفمه كيلا يسيل منه شيء وقد جوزه الشافعي رضي الله عنه، في دبره أيضا، واستقبح ذلك مشايخنا، ثم يحمل على سريره ولا يتبع بنار إلى قبره يعني الإجمار في القبر قال إبراهيم النخعي، رحمه الله تعالى أكره أن يكون آخر زاده من الدنيا نارا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جنازة فرأى امرأة في يدها مجمر فصاح عليها وطردها حتى توارت بالآكام فإذا انتهى إلى قبره فلا يضره وترا دخله أو شفعا لأن في الحديث أنه دخل قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر: علي والعباس والفضل بن العباس واختلفوا في الرابع أنه المغيرة بن شعبة أو أبو رافع.
ولأن المقصود وضع الميت في القبر فإنما يدخل قبره بقدر ما تحصل به الكفاية الشفع والوتر فيه سواء فإذا وضع في اللحد قالوا بسم الله وعلى ملة رسول الله أي بسم الله وضعناك وعلى ملة رسول الله سلمناك. والسنة عندنا أن يدخل من قبل القبلة يعني توضع الجنازة في جانب القبلة من القبر ويحمل منه الميت فيوضع في اللحد. وقال الشافعي رضي الله عنه السنة أن يسل إلى قبره وصفة ذلك أن الجنازة توضع على يمين القبلة ثم يؤخذ برجله فيحمل إلى القبر فيسل جسده سلا لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سل إلى قبره. ولأنه في حال حياته كان إذا دخل بيته دخل برجله والقبر بيته بعد الموت فيبدأ بإدخال رجليه فيه.
ولنا: ما روى إبراهيم النخعي أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل قبره من قبل القبلة فإن صح هذا اتضح المذهب، وإن صح ما رووا فقيل إنما كان ذلك لأجل الضرورة لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات في حجرة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها من قبل الحائط وكانت السنة في دفن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين في الموضع الذي قبضوا فيه فلم يتمكنوا من وضع السرير قبل القبلة لأجل الحائط فلهذا سل إلى قبره. وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم قال يدخل الميت قبره من قبل القبلة لأن جانب القبلة معظم ألا ترى أن المختار للجلوس في حال الحياة استقبال القبلة قال صلى الله عليه وسلم:
"خير المجالس ما استقبلت به القبلة فكذلك بعد الوفاة يختار إدخاله من قبل القبلة".
قال: "ويلحد له ولا يشق عندنا" وقال الشافعي رضي الله عنه يشق، واعتمادنا فيه على قوله صلى الله عليه وسلم:
"اللحد لنا والشق لغيرنا". وكان بالمدينة حفاران أحدهما يلحد والآخر يشق. فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثوا في طلب الحفار فقال العباس رضي الله تعالى عنه اللهم خر لنبيك فوجد الذي يلحد. وصفة اللحد أن يحفر القبر ثم يحفر في جانب القبلة منه حفيرة فيوضع فيه الميت. وصفة الشق أن يحفر حفيرة في وسط القبر ويوضع فيه الميت وإنما اختاروا الشق في ديارنا لتعذر اللحد فإن الأرض فيها رخاوة فإذا ألحد انهار عليه فلهذا استعملوا الشق ويجعل على لحده اللبن والقصب جاء في الحديث: أنه وضع على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم طن من قصب.

 

ج / 2 ص -57-         ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجة في قبر فأخذ مدرة وناولها الحفار وقال: "سد بها تلك الفرجة فإن الله تعالى يحب من كل صانع أن يحكم صنعته". والمدرة قطعة من اللبن فدل أنه لا بأس باستعمال اللبن. ويكره الأجر لأنه إنما استعمل في الأبنية للزينة أو لإحكام البناء والقبر موضع البلى فلا يستعمل فيه الآجر. وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله تعالى يقول لا بأس به في ديارنا لرخاوة الأرض وكان يجوز استعمال رفوف الخشب واتخاذ التابوت للميت حتى قالوا لو اتخذوا تابوتا من حديد لم أر به بأسا في هذه الديار.
قال: "ويسجى قبر الميت بثوب حتى يفرغ من اللحد" لما روى أن فاطمة رضي الله تعالى عنها سجى قبرها بثوب وغشى على جنازتها ولأن مبنى حال المرأة على الستر كما في حال حياتها ولا يسجي قبر الرجل لما روى أن عليا رضي الله تعالى عنه رأى قبر رجل سجي بثوب فنحى الثوب وقال لا تشبهوه بالنساء ولأن مبنى حال الرجل على الانكشاف والظهور إلا إذا كان عند الضرورة لدفع مطر أو ثلج أو حر على الداخلين في القبر فحينئذ لا بأس به.
قال: "ويسنم القبر ولا يربع" لحديث النخعي قال حدثني من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما مسنمة عليها فلق من مدر بيض ولأن التربيع في الأبنية للأحكام ويختار للقبور ما هو أبعد من إحكام الأبنية. وعلى قول الروافض السنة التربيع في القبور ولا تجصص لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبور وتربيعها ولأن التجصيص في الأبنية أما للزينة أو لإحكام البناء.
قال: "وإمام الحي أحق بالصلاة على الميت". وحاصل المذهب عندنا أن السلطان إذا حضر فهو أحق بالصلاة عليه لأن إقامة الجمعة والعيدين إليه فكذلك الصلاة على من كان يحضر الجمعة والعيدين ولأن في المتقدم على السلطان ازدراء به والمأمور في حقه التوقير. ولما مات الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما حضر جنازته سعيد بن العاص فقدمه الحسين رضي الله تعالى عنه وقال لولا أنها سنة ما قدمتك. وكذلك إن حضر القاضي فهو أحق بالصلاة عليه فإن لم يحضر واحد منهما فإمام الحي عندنا لأن الميت كان راضيا بإمامته في حياته فهو أحق بالصلاة عليه بعد موته.
وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الولي أحق من إمام الحي لظاهر قوله تعالى:
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}[الأنفال: 75]، فإن لم يحضر إمام الحي فالأولياء وفي الكتاب قال الأب أحق من غيره وهو قول محمد رحمه الله تعالى. فأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى فالابن أحق من الأب ولكن الأولى له أن يقدم الأب لأنه جده وفي التقدم عليه ازدراء به فالأولى أن يقدمه. وعند محمد رحمه الله تعالى: الأب أعم ولاية حتى يعم ولاية

 

ج / 2 ص -58-         النفس والمال، وهذا نظير اختلافهم في ولاية التزويج كما بينته في كتاب النكاح والحاصل أنه يترتب هذا الحق على ترتيب العصوبة كولاية التزويج وبن العم أحق بالصلاة على المرأة من زوجها إن لم يكن لها منه بن لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ماتت امرأة له فقال لأوليائها كنا أحق بها حين كانت حية فأما إذ ماتت فأنتم أحق بها، ولأن الزوجية تنقطع بالموت والقرابة لا تنقطع به.
قال: "والصلاة على الجنازة أربع تكبيرات" وكان بن أبي ليلى يقول خمس تكبيرات وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى والآثار قد اختلفت في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروي الخمس والسبع والتسع وأكثر من ذلك إلا أن آخر فعله كان أربع تكبيرات فكان هذا ناسخا لما قبله وأن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة حين اختلفوا في عدد التكبيرات وقال لهم إنكم اختلفتم فمن يأتي بعدكم أشد اختلافا فانظروا آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فخذوا بذلك فوجدوه صلى على امرأة كبر عليها أربعا فاتفقوا على ذلك ولأن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة في سائر الصلوات وليس في المكتوبات زيادة على أربع ركعات. إلا أن ابن أبي ليلى رحمه الله يقول التكبيرة الأولى للافتتاح فينبغي أن يكون بعدها أربع تكبيرات كل تكبيرة قائمة مقام ركعة.
وأهل الزيغ يزعمون أن عليا رضي الله عنه كان يكبر على أهل بيته خمس تكبيرات وعلى سائر الناس أربعا وهذا افتراء منهم عليه فقد روي أنه كبر على فاطمة أربعا وروي أنه إنما صلى على فاطمة أبو بكر وكبر عليها أربعا وعمر صلى على أبي بكر وكبر أربعا ثم يثني على الله تعالى في التكبيرة الأولى كما في سائر الصلوات يثني عقيب الافتتاح ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية، لأن الثناء على الله تعالى تعقبه الصلاة على النبي. على هذا وضعت الخطب واعتبر هذا بالتشهد في الصلاة لأن الثناء على الله يعقبه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ويستغفر للميت ويشفع له في الثالثة لأن الثناء على الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يعقبه الدعاء والاستغفار.
والمقصود بالصلاة على الجنازة الاستغفار للميت والشفاعة له فلهذا يأتي به ويذكر الدعاء المعروف اللهم اغفر لحينا وميتنا إن كان يحسنه وألا يذكر ما يدعو به في التشهد اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات إلى آخره ويسلم تسليمتين بعد الرابعة لأنه جاء أوان التحلل وذلك بالسلام وفي ظاهر المذهب ليس بعد التكبيرة الرابعة دعاء سوى السلام وقد اختار بعض مشايخنا ما يختم به سائر الصلوات اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا برحمتك عذاب القبر وعذاب النار. فإن كبر الإمام خمسا لم يتابعه المقتدي في الخامسة إلا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول هذا مجتهد فيه فيتابعه المقتدي كما في تكبيرات العيد.

 

ج / 2 ص -59-         ولنا: أن ما زاد على أربع تكبيرات ثبت انتساخه بما روينا ولا متابعة في المنسوخ لأنه خطأ ثم في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رضي الله عنه يسلم حين رأى إمامه يشتغل بما هو خطأ وفي الرواية الأخرى ينتظر سلام الإمام حتى يسلم معه.
قال: "ولا يقرأ في الصلاة على الجنازة بشيء من القرآن" وقال الشافعي رضي الله عنه تفترض قراءة الفاتحة فيها وموضعها عقيب تكبيرة الافتتاح لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا صلاة إلا بقراءة"، وهذه صلاة بدليل اشتراط الطهارة واستقبال القبلة فيها وفي حديث جابر رضي الله عنه: "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في الصلاة على الجنازة بأم القرآن". وقرأ ابن عباس فيها بالفاتحة وجهر ثم قال: عمدا فعلت ليعلم أنها سنة.
ولنا: حديث ابن مسعود رحمه الله تعالى قال لم يوقت لنا في الصلاة على الجنازة دعاء ولا قراءة كبر ما كبر الإمام واختر من الدعاء أطيبه وهكذا روي عن عبد الرحمن بن عوف وابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: ليس فيها قراءة شيء من القرآن.
وتأويل حديث جابر رضي الله عنه أنه كان قرأ على سبيل الثناء لا على وجه قراءة القرآن، ولأن هذه ليست بصلاة على الحقيقة إنما هي دعاء واستغفار للميت ألا ترى أنه ليس فيها أركان الصلاة من الركوع والسجود والتسمية بالصلاة لما بينا فيما سبق أن الصلاة في اللغة الدعاء واشتراط الطهارة واستقبال القبلة فيها لا يدل على أنها صلاة حقيقة وأن فيها قراءة كسجدة التلاوة، ولا ترفع الأيدي إلا في التكبيرة الأولى الإمام والقوم فيها سواء وكثير من أئمة بلخ اختاروا رفع اليد عند كل تكبيرة فيها وكان نصير بن يحيى رحمه الله تعالى يرفع تارة ولا يرفع تارة فمن اختار الرفع قال هذه تكبيرات يؤتى بها في قيام مسنون فترفع الأيدي عندها كتكبيرات العيد وتكبير القنوت والفقه فيما بينا من الحاجة إلى إعلام من خلفه من أصم أو أعمى.
وجه ظاهر الرواية قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن"، وليس فيها صلاة الجنازة وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال لا ترفع اليد فيها إلا عند تكبيرة الافتتاح والمعنى أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة فكما لا ترفع الأيدي في سائر الصلوات عند كل ركعة فكذلك ها هنا.
قال: "وإذا اجتمعت الجنائز فإن شاؤوا جعلوها صفا وإن شاؤوا وضعوا واحدا خلف واحد" وكان بن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول توضع شبه الدرج وهو أن يكون رأس الثاني عند صدر الأول. وعند أبي حنيفة رضي الله عنه أنه إن وضع هكذا فحسن أيضا لأن الشرط أن تكون الجنائز أمام الإمام وقد وجد ذلك كيف وضعوا فكان الاختيار إليهم.
قال: "وإن كانت رجالا ونساء يوضع الرجال مما يلي الإمام والنساء خلف الإمام مما يلي القبلة" ومن العلماء من قال على عكس هذا، لأن الصلاة بالجماعة صف النساء خلف

 

ج / 2 ص -60-         صف الرجال إلى القبلة فكذلك في وضع الجنائز. ولكنا نقول: في الصلاة بالجماعة الرجال أقرب إلى الإمام من النساء فكذلك في وضع الجنائز. وإن كانت جنازة غلام وامرأة وضع الغلام مما يلي الإمام والمرأة خلفه مما يلي القبلة لما روي أن أم كلثوم ابنة علي رضي الله عنهما امرأة عمر رضي الله عنه وابنها زيد بن عمر رضي الله عنهما ماتا معا فوضع ابن عمر جنازتهما بهذه الصفة وصلى عليهما ولأن الرجل إنما يقدم مما يلي الإمام للفضيلة بالذكورة وهذا موجود في الغلام، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، فصار الحاصل أنه توضع جنازة الرجل مما يلي الإمام وخلفه مما يلي القبلة جنازة الغلام وخلفه جنازة الخنثى إن كان، وخلفه جنازة المرأة.
قال: "وإذا وقعت الحاجة إلى دفن اثنين أو ثلاثة في قبر واحد فلا بأس بذلك به" أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد وقال:
"احفروا واوسعوا واجعلوا في كل قبر اثنين أو ثلاثة وقدموا أكثرهم أخذا للقرآن"، فقلنا يوضع الرجل مما يلي القبلة ثم خلفه الغلام ثم خلفه الجنين ثم خلفه المرأة ويجعل بين كل ميتين حاجز من التراب ليصير في حكم قبرين.
قال: "وأحسن مواقف الإمام من الميت في الصلاة عليه بحذاء الصدر وإن وقف في غيره أجزأه" وكان بن أبي ليلى رحمه الله يقول يقف من الرجل بحذاء الصدر ومن المرأة بحذاء وسطها لما روى أن أم بريدة صلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف بحذاء وسطها.
ولنا: أن أشرف الأعضاء في البدن الصدر فإنه موضع العلم والحكمة، وهو أبعد من الأذى والوقوف عنده أولى كما في حق الرجال ثم الصدر موضع نور الإيمان قال الله تعالى:
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ}[الزمر: 22] الآية، وإنما يصلى عليه لإيمانه فيختار الوقوف حذاء الصدر لهذا أو الصدر هو الوسط في الحقيقة فإنه فوقه رأس ويدان وتحته بطن ورجلان.
قال: "ويتيمم لصلاة الجنازة إذا خاف فوتها في المصر عندنا وكذلك لو افتتح الصلاة ثم أحدث تيمم وبني" وقد بينا هذا فيما سبق فإن صلى على جنازة بالتيمم ثم جيء بجنازة أخرى فإن وجد بينهما من الوقت ما يمكنه أن يتوضأ فعليه إعادة التيمم للصلاة على الجنازة الثانية لأنه تمكن من استعمال الماء بعد التيمم للأول فإن لم يجد فرجة من الوقت ذلك القدر فله أن يصلي بتيممه على الجنازة الثانية عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن العذر قائم وهو خوف الفوت لو اشتغل بالوضوء، وعند محمد رحمه الله تعالى يعيد التيمم على كل حال ذكره في نوادر أبي سليمان رحمه الله تعالى لأنه تجددت ضرورة أخرى فعليه تجديد التيمم.
قال: "وإذا كبر الإمام تكبيرة أو تكبيرتين ثم جاء رجل فإنه ينتظر حتى يكبر الإمام فيكبر معه فإذا سلم قضى ما بقي عليه قبل أن ترفع الجنازة في قول أبي حنيفة ومحمد،

 

ج / 2 ص -61-         رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه يكبر حين يحضر"، لقوله عليه الصلاة والسلام: "اتبع إمامك حين تحضر في أي حال أدركته"، وقاس هذا بسائر الصلوات فإن المسبوق يكبر للافتتاح فيها حين ينتهي إلى الإمام فهذا مثله وكذلك لو كان واقفا خلف الإمام فتأخر تكبيره عن تكبيرة الإمام لم ينتظر أن يكبر الإمام الثانية بالاتفاق فهذا مثله.
ومذهبنا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمعني فيه أن كل تكبيرة في الصلاة على الجنازة قائمة مقام ركعة فلو لم ينتظر تكبير الإمام حين جاء كان قاضيا ما فاته قبل أداء ما أدرك مع الإمام وذلك منسوخ إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يقول في تكبيرة الافتتاح معنيان معنى الافتتاح والقيام مقام ركعة ومعنى الافتتاح مرجح فيها بدليل تخصيصها برفع اليد عندها. ولو جاء بعد ما كبر الإمام الرابعة لم يدخل معه وقد فاتته الصلاة في قولهما. وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يكبر فإذا سلم الإمام قضى ثلاث تكبيرات بمنزلة ما لو كان خلف الإمام ولم يكبر حتى كبر الإمام الرابعة والفرق بين الفصلين لهما أن من كان خلف الإمام فهو مدرك لتكبيرة الافتتاح فيأتي بها حين حضرته النية بخلاف المسبوق فإنه غير مدرك للتكبيرة الأولى وهي قائمة مقام ركعة فلا يشتغل بقضائها قبل سلام الإمام كسائر التكبيرات.
قال: "وإذا صلي على جنازة ثم حضر قوم لم يصلوا عليها ثانية جماعة ولا وحدانا عندنا إلا أن يكون الذين صلوا عليها أجانب بغير أمر الأولياء ثم حضر الولي فحينئذ له أن يعيدها" وقال الشافعي رضي الله عنه تعاد الصلاة على الجنازة مرة بعد مرة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر جديد فسأل عنه فقيل قبر فلانة فقال:
"هلا آذنتموني بالصلاة عليها؟" فقيل: إنها دفنت ليلا فخشينا عليك هوام الأرض فقام وصلى على قبرها. ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصحابة عليه فوجا بعد فوج.
ولنا: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن عمر رضي الله عنه أنهما فاتتهما الصلاة على جنازة فلما حضرا ما زادا على الاستغفار له وعبد الله بن سلام رضي الله عنه فاتته الصلاة على جنازة عمر فلما حضر قال إن سبقتموني بالصلاة عليه فلا تسبقوني بالدعاء له. والمعنى فيه: أن حق الميت قد تأدى بفعل الفريق الأول فلو فعله الفريق الثاني كان تنفلا بالصلاة على الجنازة وذلك غير مشروع ولو جاز هذا لكان الأولى أن يصلي على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرزق زيارته الآن لأنه في قبره كما وضع فإن لحوم الأنبياء حرام على الأرض به ورد الأثر ولم يشتغل أحد بهذا فدل أنه لا تعاد الصلاة على الميت إلا أن يكون الولي هو الذي حضر فإن الحق له وليس لغيره ولاية إسقاط حقه وهو تأويل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الحق كان له.
قال الله تعالى:
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب: 6]، وهكذا تأويل فعل

 

ج / 2 ص -62-         الصحابة فإن أبا بكر رضي الله عنه كان مشغولا بتسوية الأمور وتسكين الفتنة فكانوا يصلون عليه قبل حضوره وكان الحق له لأنه هو الخليفة فلما فرغ صلى عليه ثم لم يصل أحد بعده عليه. وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى لا يصلى على ميت غائب. وقال الشافعي رضي الله عنه يصلى عليه فإن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على النجاشي وهو غائب. ولكنا نقول طويت الأرض وكان هو أولى الأولياء ولا يوجد مثل ذلك في حق غيره ثم إن كان الميت من جانب المشرق فإن استقبل القبلة في الصلاة عليه كان الميت خلفه وذلك لا يجوز وإن استقبل الميت كان مصليا لغير القبلة وذلك لا يجوز.
قال: "وإذا كبر الإمام على جنازة ثم أتي بجنازة أخرى فوضعت معها قال يفرغ من الصلاة على الأولى ثم يستأنف الصلاة على الثانية" لأنه شرع في الصلاة على الأولى فيتمها وكذلك إن كبر الثانية ينوي الصلاة عليهما أو لم يحضره نية فيها فهو في الأولى وإن كبر ينوي الصلاة على الثانية كان قاطعا للأولى شارعا في الثانية فيصلي على الثانية ثم يستأنف الصلاة على الأولى بمنزلة ما لو كان في الظهر فكبر ينوي العصر بخلاف ما إذا نواهما لأنه غير رافض للأولى فلا يصير شارعا في الثانية مع بقائه في الأولى.
قال: "وتكره الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو نصف النهار" لحديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه وأن نقبر فيهن موتانا والمراد الصلاة على الجنازة فلا بأس بالدفن في هذه الأوقات وإن صلوها لم يكن عليهم إعادتها لأن حق الميت تأدى بما أدوا فإن المؤدى في هذه الأوقات صلاة وإن كان فيها نقصان ألا ترى أن التطوع إنما يلزم بالشروع في هذه الأوقات؟.
قال: "وإذا أرادوا أن يصلوا على جنازة بعد غروب الشمس بدؤوا بالمغرب" لأنها أقوى فإنها فرض عين على كل واحد والصلاة على الجنازة فرض على الكفاية والبداءة بالأقوى أولى لأن تأخير صلاة المغرب بعد غروب الشمس مكروه وتأخير الصلاة على الجنازة غير مكروه.
قال: "وتكره الصلاة على الجنازة في المسجد عندنا" وقال الشافعي رضي الله عنه لا تكره لما روى أن سعد بن أبي وقاص رحمه الله تعالى لما مات أمرت عائشة رضي الله عنها بإدخال جنازته المسجد حتى صلى عليها أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن ثم قالت لبعض من حولها هل عاب الناس علينا بما فعلنا قال نعم فقالت ما أسرع ما نسوا ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة سهل بن أبي البيضاء إلا في المسجد ولأنها دعاء أو صلاة والمسجد أولى به من غيره.
ولنا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام:
"من صلى على جنازة في المسجد فلا أجر له". وحديث عائشة، رضي الله عنها دليلنا لأن الناس في زمانها

 

ج / 2 ص -63-         المهاجرون والأنصار وقد عابوا عليها فدل أنه كان معروفا فيما بينهم كراهة هذا. وتأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان معتكفا في ذلك الوقت فلم يمكنه أن يخرج وأمر بالجنازة فوضعت خارج المسجد. وعندنا إذا كانت الجنازة خارج المسجد لم يكره أن يصلي الناس عليها في المسجد إنما الكراهة في إدخال الجنازة لقوله عليه الصلاة والسلام: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم". فإذا كان الصبي ينحى عن المسجد فالميت أولى.
قال: "وإذا صلوا على جنازة والإمام غير طاهر فعليهم إعادة الصلاة" لأن صلاة الإمام فاسدة لعدم الطهارة فتفسد صلاة القوم بفساد صلاته وإن كان الإمام طاهرا والقوم على غير طهارة لم يكن عليهم إعادتها لأن صلاة الإمام قد صحت وحق الميت به تأدى فالجماعة ليست بشرط في الصلاة على الجنازة.
قال: "وإذا أخطؤوا بالرأس فوضعوها في موضع الرجلين وصلوا عليها جازت الصلاة" لأن ما هو شرط وهو كون الميت أمام الإمام فقد وجد إنما التغير في صفة الوضع وذلك لا يمنع جواز الصلاة إلا أنهم إن تعمدوا ذلك فقد أساؤوا بتغيير الوضع عما توارثه الناس.
قال: "وإذا أخطؤوا القبلة جازت صلاتهم يعني إذا صلوا بالتحري وإن تعمدوا خلافها لم تجز" على قياس سائر الصلوات فإنها في وجوب استقبال القبلة كسائر الصلوات.
قال: "وإن دفن قبل الصلاة عليها صلي في القبر عليها إنما لا يخرج من القبر" لأنه قد سلم إلى الله تعالى وخرج من أيديهم. جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"القبر أول منزل من منازل الآخرة"، ولكنهم لم يؤدوا حقه بالصلاة عليه والصلاة على القبر تتأتى فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذا يصلى على القبر ما لم يعلم أنه تفرق لأن المشروع الصلاة على الميت لا على أعضائه. وفي الأمالي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال يصلى عليه إلى ثلاثة أيام وهكذا ذكره بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى لأن الصحابة كانوا يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أيام. والصحيح أن هذا ليس بتقدير لازم لأنه يختلف باختلاف الأوقات في الحر والبرد وباختلاف الأمكنة وباختلاف حال الميت في السمن والهزال والمعتبر فيه أكبر الرأي. والذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين معناه دعا لهم قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}[التوبة: 103]. وقيل إنهم كما دفنوا لم تتفرق أعضاؤهم وهكذا وجدوا حين أراد معاوية أن يحولهم فتركهم.
قال: "ويصف النساء خلف الرجال في الصلاة على الجنازة" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"خير صفوف النساء آخرها". وإن وقفت امرأة بجنب رجل لم تفسد عليه صلاته لأن الفساد بسبب المحاذاة ثبت بالنص بخلاف القياس وإنما ورد النص به في صلاة مطلقة وهذه ليست بصلاة مطلقة ولهذا لا وضوء على من قهقه فيها بخلاف سائر الصلوات.
قال: "وإذا صلوا قعودا أو ركبانا في القياس يجزيهم" لأنها دعاء في الحقيقة ولأن ركن

 

ج / 2 ص -64-         القيام معتبر بسائر الأركان كالقراءة والركوع والسجود. وفي الاستحسان: عليهم الإعادة لأن فيها شيئين التكبير والقيام فكما أن ترك التكبير يمنع الاعتداد فكذلك ترك القيام والقيام ها هنا كوضع الجبهة والأنف في سجدة التلاوة فكما لا تتأدى السجدة إلا بهما كذا هنا.
قال: "ولو مات رجل في سفر ومعه نساء ليس معهن رجل فإن كان فيهن امرأته غسلته" لأن أبا بكر رضي الله عنه أوصى إلى امرأته أسماء أن تغسله وهكذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقالت عائشة رضي الله عنها لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه. ولأن النكاح بينهما في حكم القائم ما لم تنقض العدة فإن الموت محول للملك لا مبطل وملك النكاح لا يحتمل التحول إلى الورثة فبقي موقوفا على الزوال بانقضاء العدة كما بعد الطلاق الرجعي ولو ارتفع النكاح بالموت فإنما ارتفع إلى خلف وهي العدة وهذه العدة حق النكاح فتقوم مقام حقيقته في إبقاء حل المس والنظر.
قال: "وإن كان فيهن أم ولده لم تغسله في قول أبي حنيفة الآخر وفي قوله الأول لها أن تغسله" وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنها معتدته من فراش صحيح فهي كالمنكوحة. وجه قوله الآخر أنها عتقت بالموت فصارت أجنبية منه ووجوب العدة عليها بطريق الاستبراء ولهذا لا يختلف بالحياة والوفاة فلا يثبت باعتباره حل المس والنظر كالعدة من نكاح فاسد.
قال: "وإن كان فيهن امرأة قد بانت منه في حياته لم تغسله سواء كانت البينونة بطلاق أو غير طلاق" لأن النكاح قد ارتفع في حالة الحياة والعدة الواجبة عليها بطريق الاستبراء ولهذا تقدر بالأقراء وكذلك لو ارتدت قبل موته ثم أسلمت بعد موته لم تغسله عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى لأن الردة بعد الموت لا ترفع النكاح فقد ارتفع بالموت بخلاف الردة في حال الحياة. ولكنا نقول: النكاح كالقائم على إحدى الطريقتين فارتفع بالردة وعلى الطريق الآخر فقد بقي حل المس والنظر وكما ترفع الردة مطلق الحل ترفع ما بقي منه وهو حل المس والنظر. وعلى هذا لو طاوعت بن زوجها بعد موته أو وطئت بشبهة فوجب عليها العدة لم تغسله عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى. ولو مات الزوج وهي معتدة من وطى ء بشبهة فانقضت عدتها لم تغسله عندنا لأنه لم يثبت حل الغسل عند الموت لها فلا يثبت بعده خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى وكذلك لو كانت أختها تعتد منه فانقضت عدتها بعد موته فهو على هذا الخلاف.
وكذلك المجوسية إذا أسلمت بعد موت زوجها المسلم لم تغسله عندنا خلافا لأبي يوسف. وإن كان فيهن أمته لم تغسله. وقال الشافعي رضي الله عنه لها أن تغسله لأن ملكه فيها يبقى حكما لحاجته إلى من يغسله.
ولنا: أنها قد انتقلت إلى الوارث وصارت كسائر إمائه وهذا لأن حل المس يعتمد ملك

 

ج / 2 ص -65-         المتعة لا ملك المالية وملك المتعة في الأمة تبع فلا يمكن إبقاؤها له بعد تحول ما هو الأصل وهو ملك الرقبة إلى الوارث وكذلك إن كان فيهن أحد من ذوات محارمه لأن المحرم في حكم النظر إلى العورة كالأجنبية فكذلك ذوات محارمه ولكن ييمم لأنه تعذر غسله لانعدام من يغسله فصار كتعذر غسله لانعدام ما يغسل به فإن كان من ييممه محرما يممه بغير خرقة لأنه حل لها مس هذين العضوين في حياته فكذلك بعد وفاته فإن كانت أجنبية يممته بخرقة تلفها على كفها لأنه لم يكن لها أن تمسه في حياته فكذلك بعد وفاته ثم يصلين عليه وقام الإمام منهن وسطهن كما هو الحكم في جماعة النساء وإن كان معهن رجل كافر علمنه غسل الميت ليغسله لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف وإن لم يكن بينهما موافقة في الدين ألا ترى أن المسلم يغسل قرابته من الكفار؟ ولو ماتت امرأة بين الرجال وفيهم زوجها لم يكن له أن يغسلها عندنا.
وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه له ذلك لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تقول: وارأساه، فقال: "
وأنا وارأساه لا عليك إنك لو مت غسلتك وكفنتك وصليت عليك". وما جاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز لأمته، إلا ما قام عليه دليل وأن عليا رضي الله تعالى عنه غسل فاطمة بعد موتها ولأن النكاح انتهى بينهما بالموت فيفيد الباقي منهما حل الغسل كالرجل إذا مات وهذا لأن المنتهي متقرر في حق أحكامه نحو الإرث وغيره ولأن الملك جعل كالقائم لحاجة الميت منهما إلى الغسل وملك الحل مشترك بينهما.
ولنا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما "
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن امرأة تموت بين رجال فقال: "تيمم الصعيد"، ولم يفصل بين أن يكون فيهم زوجها أو لا يكون. والمعنى فيه: أن النكاح بموتها ارتفع بجميع علائقه فلا يبقى حل المس والنظر كما لو طلقها قبل الدخول، وبيان الوصف أنها بالموت صارت محرمة البتة والحرمة تنافي النكاح ابتداء وبقاء ولهذا جاز للزوج أن يتزوج بأختها وأربع سواها بخلاف ما إذا مات الزوج ثم الزوج بالنكاح مالك والمرأة مملوكة فبعد موته يمكن إبقاء صفة المالكية له حكما لبقاء محل الملك فأما بعد موتها فلا يمكن إبقاء الملك مع فوات المحل.
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام:
"غسلتك"، أي قمت بأسباب غسلك كما يقال بنى فلان دارا وإن لم يكن هو بنى وحديث علي رضي الله تعالى عنه أنه غسلها فقد ورد أن فاطمة غسلتها أم أيمن ولو ثبت أن عليا رضي الله تعالى عنه غسلها فقد أنكر عليه ابن مسعود رضي الله عنه حتى قال له علي: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة زوجتك في الدنيا والآخرة؟" فادعاؤه الخصوصية دليل على أنه كان معروفا بينهم أن الرجل لا يغسل زوجته. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "كل سبب ونسب ينقطع بالموت إلا سببي ونسبي"، فهذا دليل على الخصوصية في حقه وفي حق علي رضي الله تعالى عنه أيضا، لأن

 

ج / 2 ص -66-         نكاحه كان من أسباب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا لم تغسل يممها فإن كان من ييممها محرما لها يممها بغير خرقة وإن كان أجنبيا ييممها بخرقة يلفها على كفه ويعرض وجهه عن ذراعيها دون وجهها لأن في حالة حياتها ما كان للأجنبي أن ينظر إلى ذراعيها فكذلك بعد الموت وإن كان معهم امرأة كافرة علموها غسل الميت لتغسلها ثم يصلي عليها الرجال لما بينا.
قال: "وتكفن المرأة في خمسة أثواب والرجل في ثلاثة أثواب" هكذا قال علي رضي الله عنه كفن المرأة خمسة أثواب وكفن الرجل ثلاثة أثواب،
"{وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة: 190] ولأن حال كل واحد منهما بعد الموت معتبر بحال الحياة والرجل في حياته يخرج في ثلاثة أثواب عادة قميص وسراويل وعمامة والمرأة في خمسة أثواب درع وخمار وإزار وملاءة ونقاب فكذلك بعد الموت ولأن مبنى حالها على الستر فيزاد كفنها على كفن الرجل وتفسير الأثواب الخمسة درع وخمار وإزار ولفافة وخرقة تربط فوق الأكفان عند الصدر فوق الثديين والبطن حتى لا ينتشر عليها الكفن إذا حملت على السرير. وقال زفر رحمه الله تعالى تربط الخرقة على فخذيها لئلا تضطرب إذا حملت على السرير ويوضع الحنوط منها موضعه من الرجال ولا يسدل شعرها خلف ظهرها ولكن يسدل من بين ثدييها من الجانبين جميعا لأن سدل الشعر خلف ظهرها في حال الحياة كان لمعنى الزينة وقد انقطع ذلك بالوفاة ثم يسدل الخمار عليها كهيئة المقنعة فوق الدرع وتحت الإزار وإن كفنت المرأة في ثوبين وخمار ولم تكفن في درع جاز ذلك لأن معنى الستر في حال الحياة يحصل بثلاثة أثواب حتى يجوز لها أن تصلي فيها وتخرج فكذلك بعد الموت.
قال: "والخلق إذا غسل والجديد فيه سواء" لحديث أبي بكر رضي الله عنه قال اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما فإنهما للمهل والصديد وإن الحي أحوج من الميت إلى الجديد.
قال: "والبرود والبياض كل ذلك حسن" لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
إن أحب الثياب إلى الله تعالى البياض فليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم"، وقال عليه الصلاة والسلام: "حسنوا أكفان الموتى فإنهم يتزاورون فيما بينهم ويتفاخرون بحسن أكفانهم". والحاصل أن ما يجوز لكل جنس أن يلبسه في حياته يجوز أن يكفن فيه بعد موته والسنة في كفن الرجل ثلاثة أثواب كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في برد وحلة اسم للزوج من الثياب، والبرد اسم للفرد من الثياب. وقالت عائشة رضي الله عنها كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية.
قال: "وأدنى ما يكفن فيه في حالة الاختيار ثوبان" لأنه يجوز له أن يخرج فيهما ويصلي فيهما من غير كراهة فكذلك يكفن فيهما.
قال: "فإن كفنوه في واحد فقد أساؤوا" لأن في حالة حياته تجوز صلاته في إزار واحد

 

ج / 2 ص -67-         مع الكراهة فكذلك بعد الموت يكره أن يكفن فيه إلا عند الضرورة بأن كان لا يوجد غيره لأن مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه لما استشهد كفن في نمرة فكان إذا غطى بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطى بها رجلاه بدا رأسه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغطى رأسه ويجعل على رجليه شيء من الإذخر وكذلك حمزة رضي الله عنه لما استشهد كفن في ثوب واحد لم يوجد له غيره فدل على أن عند الضرورة يجوز هذا.
قال: "والغلام المراهق كالرجل يكفن فيما يكفن فيه الرجل فأما الطفل الذي لم يتكلم فإن كفن في خرقتين إزار ورداء فحسن وإن كفن في إزار واحد جاز" لأن في حال حياته كان يجوز الاقتصار على ثوب واحد في حقه فكذلك بعد الموت.
قال: "وتغسل المرأة الصبي الذي لم يتكلم" لأنه ليس لفرجه حكم العورة حتى لا يجب ستره في حال حياته ويجوز النظر إليه.
قال: "قوم صلوا على ميت قبل أن يغسل قال تعاد الصلاة بعد الغسل" لأن الطهارة في حقه معتبرة للصلاة عليه كما هي معتبرة في حق من يصلي عليه ولو صلي بغير طهارة على جنازة أعادها بعد الطهارة فكذا هذا وكذلك لو غسلوه وبقي عضو من أعضائه أو قدر لمعة فإن كان قد لف في كفنه وقد بقي عضو لم يصبه الماء يخرج من الكفن فيغسل ذلك العضو بالاتفاق وإن كان الباقي شيئا يسيرا كالإصبع ونحوه فكذلك عند محمد رحمه الله تعالى لأن الاصبع في حكم العضو بدليل اغتسال الحي. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يخرج من الكفن لأنه لا يتيقن بعدم وصول الماء إلى ذلك القدر فلعله أسرع إليه الجفاف لقلته وهذا الخلاف في نوادر أبي سليمان رحمه الله تعالى.
قال: "فإن كانوا قد دفنوه لم ينبش عنه القبر" لما بينا أنه قد خرج من أيديهم فسقط فرض غسله عنهم ثم يصلى على قبره لأن الصلاة الأولى لم تصح فكأنهم دفنوه قبل الصلاة عليه.
قال: "ميت وضع في لحده لغير القبلة أو على شقه الأيسر أو جعل رأسه في موضع رجليه قال لا ينبش عنه قبره" لأن وضعه إلى القبلة سنة وقد تم خروجه من أيديهم بعد ما أهالوا عليه التراب، فلا يجوز نبشه فإن وضع اللبن ولم يهل التراب عليه فإنه ينزع اللبن ويوضع كما ينبغي ويغسل إن لم يكن غسل لأنه لم يتم خروجه من أيديهم بعد فنزع اللبن بعد الوضع متيسر لا يحتاج فيه إلى حفر بخلاف الأول.
قال: "وإن سقط شيء من متاع القوم في القبر فلا بأس بأن يحفروا التراب في ذلك الموضع ليخرجوا متاعهم من غير أن ينبش الميت" لأن لمال المسلم حرمة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وفي إبقاء المتاع في القبر إضاعة المال، وقد صح في الحديث أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، سقط خاتمه في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم/ فما زال بالصحابة حتى

قلنا: نعم ولكن وجوب الأربع عليه عند خروج الوقت كان من المتابعة وقد انعدم ذلك حين تكلم فكان هذا وما لو خرج الوقت قبل شروعه في الصلاة سواء فلا يتغير فرضه بنية الإقامة.
ولو أن امرأة سافرت مع زوجها فنوى هو أن يقيم في موضع خمسة عشر يوما فعليها أن تصلي أربعا وإن لم تنو الإقامة ولو أنها نوت الإقامة دون الزوج كان عليها أن تصلي ركعتين لأنها تابعة للزوج في السفر والإقامة. قال الله تعالى:
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}[الطلاق: 6]، وقال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}[النساء: 34]. وإنما يعتبر تغير النية ممن هو أصل دون من هو تبع لأن ثبوت الحكم في التبع بثبوته في الأصل ومن أصحابنا من يقول هذا إذا كانت قد استوفت صداقها، فإن لم تكن استوفت صداقها ولم يدخل بها الزوج فإنه تعتبر نيتها لأن لها أن تحبس نفسها لاستيفاء الصداق فلا تخرج مع زوجها. وإن كان قد دخل بها فعلى الخلاف المعروف في ثبوت حق الحبس لها لاستيفاء الصداق. وقيل بل هو قولهم جميعا لأنه وإن كان لها أن تحبس نفسها فما لم تحبس كانت تابعة لزوجها وإنما وضع المسألة فيما إذا نوت الإقامة أو السفر من غير أن قصدت حبس نفسها عن زوجها وعلى هذا حكم كل تبع مع أصله كالعبد مع سيده والأجير للخدمة مع المستأجر والجندي مع السلطان إنما يعتبر نية الإقامة والسفر ممن هو أصل دون التبع وإن كان الزوج أو السيد خلى بين المرأة والعبد وبين النية الآن تعتبر نيتهما لأنهما صارا أصلين بهذه التخلية ما لم يرجع الزوج والسيد عنها.
قال: "كوفي خرج يريد مكة فلما انتهى إلى الحيرة توضأ وافتتح الصلاة ثم رعف فنوى الرجوع إلى الكوفة ثم أصاب الماء في مكانه فتوضأ صلى أربعا" لأنه لما نوى الرجوع إلى وطنه الأصلي وهو في فناء وطنه فقد صار رافضا لسفره والتحق بالمقيم في هذه الصلاة فعليه أن يصلي أربعا وكذلك إن تكلم لأنه صار مقيما بنيته الأولى في هذا المكان فلا يصير مسافرا ما لم يرتحل منه. وإن لم يتكلم ولكن قيل له إن أمامك ماء على رأس غلوة فمشى إليه فتوضأ فإنه يصلي أربعا لأنه قد لزمه الإتمام بنيته الأولى ولأنه بالتوجه أمامه لا يصير مسافرا بعد ما صار مقيما لأن السفر عمل وحرمة الصلاة تمنعه من مباشرة عمل ليس من أعمال صلاته بخلاف نية الإقامة فإنه ترك للسفر وهو يحصل بمجرد النية فحرمة الصلاة لا تمنع منه. فإن تكلم بعد ما مشى أمامه صلى ركعتين لأنه خرج عن حرمة الصلاة وهو منشى ء للسفر بمشيه بعد ما خرج من حرمة الصلاة.
ولو أن خراسانيا أوطن الكوفة سنة فعليه أن يصلي أربعا لأنه نوى الإقامة في موضعها وهذا وطن مستعار له وقد بينا في كتاب الصلاة أن الأوطان ثلاثة فعلى ذلك الأصل بنى هذه المسائل فقال إن خرج هذا الخرساني مع كوفي إلى مكة، فلما انتهيا إلى

 

ج / 2 ص -68-         رفع اللبن وأخذ خاتمه وقبل بين عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان يفتخر بذلك ويقول إنا آخركم عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: "ويكره أن يجعل على اللحد رفوف الخشب" لأن ذلك يستعمل في الأبنية للزينة أو لإحكام البناء وقد بينا أنه لا بأس بذلك في ديارنا لرخاوة الأرض والله أعلم.

باب صلاة الكسوف
الأصل فيه حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: إنما انكسفت الشمس لموته فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم شيئا من هذه الأهوال فافزعوا إلى الصلاة". وفي حديث أبي موسى قال انكسفت الشمس فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا يخشى أن تكون الساعة حتى أتى المسجد فصلى ثم قال: "إن هذه الآيات لا ترسل لموت أحد ولكن يرسلها الله تعالى ليخوفكم بها فإذا رأيتموها فاذكروا الله تعالى واستغفروه".
ثم الصلاة في كسوف الشمس ركعتان كسائر الصلوات عندنا كل ركعة بركوع وسجدتين. وقال الشافعي رضي الله عنه كل ركعة بركوعين وسجودين لحديث عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف الشمس ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات ولنا حديث عبد الله بن عمر والنعمان بن بشير وأبي بكرة وسمرة بن جندب بألفاظ مختلفة أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى في كسوف الشمس ركعتين كأطول صلاة كان يصليها فانجلت الشمس مع فراغه منها.
وفي الكتاب ذكر حديث إبراهيم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في الكسوف ثم كان الدعاء حتى تجلت وهو كان مقدما في باب الإخبار فإنما يعتمد على ما يصح منها فدل أن الصحيح أنها كسائر الصلوات ولو جاز الأخذ بما روت عائشة وابن عباس رضي الله عنهم لجاز الأخذ بما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكسوف ركعتين بست ركوعات وست سجدات.
وقال علي رضي الله عنه: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكسوف ركعتين بثمان ركوعات وأربع سجدات وبالإجماع هذا غير مأخوذ به لأنه مخالف للمعهود فكذلك ما روت عائشة وابن عباس رضي الله عنهما. وتأويل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طول الركوع فيها، فإنه عرض عليه الجنة والنار في تلك الصلاة فمل بعض القوم فرفعوا رؤوسهم وظن من خلفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع رأسه فرفعوا رؤوسهم. ثم عاد الصف المتقدم إلى الركوع اتباعا لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فركع من خلفهم أيضا، وظنوا أنه ركع ركوعين في كل ركعة. ومثل هذا الاشتباه قد

 

ج / 2 ص -69-         يقع لمن كان في آخر الصفوف وعائشة رضي الله عنها كانت واقفة في صف النساء وبن عباس في صف الصبيان في ذلك الوقت فلهذا نقلا كما وقع عندهما ولو كان هذا صحيحا لكان أمرا بخلاف المعهود فينقلها الكبار من الصحابة الذين كانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيث لم يروها أحد منهم دل أن الأمر كما قلنا.
ثم هذه الصلاة لا يقيمها بالجماعة إلا الإمام الذي يصلي بالناس الجمعة والعيدين فأما أن يصلي كل فريق في مسجدهم فلا لأنه أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يقيمها الآن من هو قائم مقامه وإن لم يقمها الإمام صلى الناس فرادى إن شاؤوا ركعتين وإن شاؤوا أربعا لأن هذا تطوع والأصل في التطوع اداؤها فرادى إن شاؤوا ركعتين وإن شاؤوا أربعا وذلك أفضل ثم إن شاؤوا طولوا القراءة وإن شاؤوا قصروا ثم اشتغلوا بالدعاء حتى تنجلي الشمس فإن عليهم الاشتغال بالتضرع إلى أن تنجلي وذلك بالدعاء تارة وبالقراءة أخرى وصح في الحديث أن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى كان بقدر سورة البقرة وفي الركعة الثانية بقدر سورة آل عمران فالأفضل أن يطول القراءة فيها.
فأما كسوف القمر فالصلاة حسنة وكذلك في الظلمة والريح والفزع لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إذا رأيتم شيئا من هذه الأهوال فافزعوا إلى الصلاة". وعاب أهل الأدب على محمد رحمه الله تعالى، في هذا اللفظ وقالوا: إنما يستعمل في القمر لفظ الخسوف قال الله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ}[القيامة: 7-8] ولكنا نقول الخسوف ذهاب دائرته والكسوف ذهاب ضوئه دون دائرته فإنما أراد محمد هذا النوع بذكر الكسوف ثم الصلاة فيها فرادى لا بجماعة لأن كسوف القمر بالليل فيشق على الناس الاجتماع وربما يخاف الفتنة ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها بالجماعة. والأصل في التطوعات ترك الجماعة فيها ما خلا قيام رمضان لاتفاق الصحابة عليه وكسوف الشمس لورود الأثر به. ألا ترى أن ما يؤدى بالجماعة من الصلاة يؤذن لها ويقام ولا يؤذن للتطوعات ولا يقام فدل أنها لا تؤدى بالجماعة.
قال: "ولا يجهر بالقراءة في صلاة الجماعة في كسوف الشمس في قول أبي حنيفة رضي الله عنه ويجهر بها في قول أبي يوسف رحمه الله وقول محمد رحمه الله تعالى مضطرب" وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى حديث علي رضي الله عنه أنه جهر بالقراءة في صلاة الكسوف ولأنها صلاة مخصوصة تقام بجمع عظيم فيجهر فيها بالقراءة كالجمعة والعيدين. وجه قول أبي حنيفة رضي الله عنه حديث ابن عباس وسمرة بن جندب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع منه حرف من قراءته في صلاة الكسوف ولأنها صلاة النهار وفي الحديث:
"صلاة النهار عجماء"، أي ليس فيها قراءة مسموعة وتأويل حديث علي رضي الله عنه أنه وقع اتفاقا أو تعليما للناس أن القراءة فيها مشروعة.

 

ج / 2 ص -70-         قال: "ولا يصلى الكسوف في الأوقات الثلاثة التي تكره فيها الصلاة" لأنها تطوع كسائر التطوعات.
قال: "ولا صلاة في الاستسقاء" إنما فيها الدعاء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى يصلى فيها ركعتين بجماعة كصلاة العيد إلا أنه ليس فيها تكبيرات كتكبيرات العيد وهو رواية بشر بن غياث عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى. وقال الشافعي، رضي الله عنه فيها تكبيرات كتكبيرات العيد لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالجماعة في الاستسقاء ركعتين وفي حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها ركعتين كصلاة العيد ولأبي حنيفة قوله تعالى:
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}[نوح]. فإنما أمرنا بالاستغفار في الاستسقاء بدليل أنه قال: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}.
وفي حديث أنس رضي الله عنه أن الأعرابي لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي وهو على المنبر رفع يديه يدعو فما نزل عن المنبر حتى نشأت سحابة فمطرنا إلى الجمعة القابلة، الحديث وأن عمر رضي الله عنه خرج للاستسقاء فما زاد على الدعاء فلما قيل له في ذلك قال لقد استسقيت لكم بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر وروى أنه خرج بالعباس رضي الله عنه فأجلسه على المنبر ووقف بجنبه يدعو ويقول اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك صلى الله عليه وسلم، ودعا بدعاء طويل فما نزل عن المنبر حتى سقوا فدل أن في الاستسقاء الدعاء وهو الاستغفار.
والأثر الذي نقل أنه صلى فيها صلى الله عليه وسلم شاذ فيما تعم به البلوى، وما يحتاج الخاص والعام إلى معرفته لا يقبل فيه شاذ وهذا مما تعم به البلوى في ديارهم ثم عند محمد رحمه الله تعالى يخطب الإمام بعد الصلاة نحو الخطبة في صلاة العيد. وعن أبي يوسف أنه يخطب خطبة واحدة لأن المقصود الدعاء فلا يقطعها بالجلسة وقد ورد بكل واحد منهما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الزهري يقول يخطب قبل الصلاة وهو قول مالك رضي الله عنه وقد ورد به حديث ولكنه شاذ، فإذا مضى صدر من خطبته قلب رداءه وصفته إن كان مربعا جعل أعلاه أسفله وإن كان مدورا جعل الجانب الأيمن على الجانب الأيسر وقد ورد به حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ولا تأويل له سوى أن يقال تغير الهيئة ليتغير الهواء.
ولا بأس بأن يعتمد في خطبته على عصا، وأن يتنكب قوسا به ورد الأثر وهذا لأن

 

ج / 2 ص -71-         خطبته تطول فيستعين بالاعتماد على عصا. وإذا قلب الإمام رداءه لم يقلب الناس أرديتهم إلا على قول مالك رضي الله تعالى عنه. وقد روى أن الناس فعلوا ذلك حين فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليهم وبه أخذ مالك. وتأويله: انهم اقتدوا به على ظن أنها سنة كما خلعوا نعالهم حين خلع نعليه في الصلاة ولم يأمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما يكون من سنة الخطبة يأتي به الخطيب دون القوم كالقيام. وعن أبي يوسف رضي الله تعالى عنه قال إن شاء رفع يديه في الدعاء وإن شاء أشار بأصبعه لأن رفع اليد عند الدعاء سنة جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بعرفات باسطا يديه كالمتضرع المسكين، وإنما يخرجون في الاستسقاء ثلاثة أيام لم ينقل أكثر من ذلك ولا يخرجون المنبر فيها كما بينا في صلاة العيد.
قال: "ولا يخرج أهل الذمة في الاستسقاء". وقال مالك، رضي الله تعالى عنه إن خرجوا لم يمنعوا من ذلك وقد ورد به أثر أنهم خرجوا في عهد بعض الخلفاء مع المسلمين فلم يمنعوا من ذلك، ولكنا نقول: إنما يخرج الناس للدعاء وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ولأنهم بالخروج يستنزلون الرحمة وما ينزل على الكفار إلا اللعن والسخط. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبعيد المشركين بقوله:
"أنا بريء من كل مسلم مع مشرك لا تتراءى ناراهما"، فلهذا لا يمكنون من الخروج مع المسلمين.
قال: "وينصت القوم لخطبة الإمام" لأنه يعظهم فيها وفائدة الوعظ إنما تظهر بالإنصات، وليس فيها أذان ولا إقامة أما عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فلا يشكل لأنه ليس فيها صلاة بالجماعة إنما فيها الدعاء فإن شاؤوا صلوا فرادى وذلك في معنى الدعاء، وعند محمد رحمه الله تعالى فيها صلاة بالجماعة لكنها تطوع كصلاة العيد وليس فيها أذان ولا إقامة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الصلاة بمكة في الكعبة
قال: "وإذا صلى الإمام بالناس في المسجد الحرام وقف في مقام إبراهيم وتحلق الناس حول الكعبة يقتدون به فيجزيهم به جرى التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا" والأصل فيه قوله تعالى:
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة: 144، 149، 150]، والقوم كلهم قد استقبلوا القبلة وواحد منهم لم يتقدم الإمام في مقامه فيجزيهم إلا من كان ظهره إلى وجه الإمام وكان مستقبلا الجهة التي استقبلها الإمام وهو أقرب إلى حائط الكعبة من الإمام فهذا متقدم على الإمام فلا يصح اقتداؤه به. فإن وقفت امرأة بحذاء الإمام تقتدي به وقد نوى إمامتها فإن استقبلت الجهة التي استقبلها الإمام فصلاة الإمام والقوم فاسدة لوجود المحاذاة في صلاة مشتركة وإن استقبلت الجهة الأخرى لم تفسد صلاة الإمام وإنما تفسد

 

ج / 2 ص -72-         صلاة ثلاثة نفر من عن يمينها ومن عن يسارها ومن خلفها بحذائها لوجود المحاذاة في حقهم فإنهم يستقبلون الجهة التي استقبلتها هي وإن كانوا يصلون فرادي لم تفسد صلاة أحد بالمحاذاة وقد بينا هذا فيما سبق.
قال: "وإن كانت الكعبة تبنى" وقد أظرف في العبارة في هذا اللفظ لأنه كره اطلاق لفظ الانهدام على الكعبة وبهذا اللفظ يفهم هذا المقصود. فإذا تحلق الناس حول الكعبة وصلوا هكذا جازت صلاتهم عندنا. وقال الشافعي رضي الله عنه إن لم يكن في تلك البقعة شيء موضوع لا يجزئهم لأن عنده القبلة هي البناء والبقعة جميعا فإن الاستقبال إنما يتحقق إلى البناء. فأما عندنا فالقبلة هي الكعبة سواء كان هناك بناء أو لم يكن ألا ترى أن البناء لو نقل إلى موضع آخر لا يكون قبلة وقد رفع البناء في عهد بن الزبير حين بنى البيت على قواعد الخليل صلوات الله عليه وفي عهد الحجاج حين أعاده إلى ما كان عليه في الجاهلية وكان يجوز الصلاة للناس وإن لم يكن هناك بناء إلا أنه يكره ترك اتخاذ السترة لما فيه من استقبال الصورة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الصلاة. وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في عهد بن الزبير رحمه الله تعالى أمر بتعليق الأنطاع في تلك البقعة وإنما أمر بذلك ليكون بمنزلة السترة لهم.
قال: "فإن صلوا في جوف الكعبة فالمذهب عندنا أنه يجوز أداء الصلاة في جوف الكعبة النافلة والمكتوبة فيه سواء" وقال مالك رضي الله عنه لا يجوز أداء المكتوبة في جوف الكعبة لأنه إن كان مستقبلا جهة فهو مستدبر جهة أخرى والصلاة مع استدبار القبلة لا تجوز فيؤخذ بالاحتياط في المكتوبة وفي التطوع الأمر أوسع وقاس الصلاة بالطواف فإن من طاف في جوف الكعبة لا يجزئه طوافه.
ولنا: أن الواجب عليه استقبال جزء من الكعبة وقد استقبلها بيقين والفرض والنفل في وجوب استقبال القبلة سواء فإذا جاز أداء النفل في الكعبة بهذا الطريق فكذلك الفرض.
وليس الصلاة كالطواف فإن الطواف بالبيت لا فيه ألا ترى أن الطواف خارج المسجد لا يجوز بخلاف الصلاة. وقد اختلف الرواة أن النبي صلى الله عليه وسلم، هل صلى في الكعبة حين دخلها فروى أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه أنه لم يصل فيها وروى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى فيها ركعتين بين الساريتين المقدمتين ومنه إلى الحائط قدر ثلاثة أذرع. فإن كان الإمام في جوف الكعبة والناس قد تحلقوا حولها كما ذكرنا أجزأهم وإن كانوا معه في جوف الكعبة فصلاة الإمام ومن وجهه إلى ظهر الإمام أو إلى يمين الإمام أو إلى يساره تجوز. وكذلك من كان وجهه إلى وجه الإمام، إلا

 

ج / 2 ص -73-         أنه يكره استقبال الصورة وإنما لا تجوز صلاة من ظهره إلى وجه الإمام وصلاة من كان مستقبلا الجهة التي استقبلها الإمام وهو أقرب إلى الحائط من الإمام لأنه متقدم عليه وهذا بخلاف ما إذا تحروا في ظلمة الليل واقتدوا بالإمام فإنه لا تجوز صلاة من علم أنه مخالف للإمام في الجهة هناك لأن عنده أن إمامة غير مستقبل القبلة فلا يصح اقتداؤه به وها هنا كل جانب قبلة بيقين فهو لا يعتقد الخطأ في صلاة إمامه فجاز اقتداؤه به.
ومن صلى على سطح الكعبة جازت صلاته عندنا وإن لم يكن بين يديه سترة. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يجوز إلا أن يكون بين يديه سترة بناء على أصله أن البناء معتبر في جواز التوجه إليه للصلاة وعندنا القبلة هي الكعبة فسواء كان بين يديه سترة أو لم يكن فهو مستقبل القبلة. وبالاتفاق من صلى على أبي قبيس جازت صلاته وليس بين يديه شيء من بناء الكعبة فدل أنه لا معتبر للبناء. وبعض أئمة بلخ قالوا بالاتفاق لو صلى على سطح الكعبة ووضع بين يديه إكافا تجوز صلاته ومن المحال أن يتعلق جواز الصلاة باستقبال الإكاف فدل أنه لا معتبر بالبناء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.