المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 2 ص -137-
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الزكاة
وفيه زكاة الإبل
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الائمة أبو
بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى
الزكاة في اللغة عبارة عن النماء والزيادة
ومنه يقال زكا الزرع إذا نما فسميت الزكاة
زكاة لأنها سبب زيادة المال بالخلف في الدنيا
والثواب في الآخرة قال الله تعالى:
{وَمَا
أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}[سبأ:
39]. وقيل أيضا أنها عبارة عن الطهر قال الله
تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى: 14]. أي تطهر وإنما سمي الواجب زكاة لأنها تطهر صاحبها عن
الآثام قال الله تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}[التوبة: 103] وهي فريضة مكتوبة وجبت بإيجاب الله تعالى فإنها في
القرآن ثالثة الإيمان قال الله تعالى:
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}[التوبة: 5] وفي السنة هي من جملة أركان الدين الخمس.
قال صلى الله عليه وسلم:
"بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا
الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان
وحج البيت من استطاع إليه سبيلا".
فأصل الوجوب ثابت بإيجاب الله تعالى وسبب
الوجوب ما جعله الشرع سببا وهو المال قال الله
تعالى:
{خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}[التوبة:
103]، ولهذا يضاف الواجب إليه فيقال زكاة
المال والواجبات تضاف إلى أسبابها ولكن المال
سبب باعتبار غنى المالك قال النبي صلى الله
عليه وسلم لمعاذ، رضي الله عنه:
"أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في
فقرائهم". والغنى لا
يحصل إلا بمال مقدر وذلك هو النصاب الثابت
ببيان صاحب الشرع والنصاب إنما يكون سببا
باعتبار صفة النماء فإن الواجب جزء من فضل
المال قال الله تعالى:
{وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}[البقرة: 219] 219 أي الفضل فصار السبب النصاب النامي ولهذا يضاف
إلى النصاب وإلى السائمة يقال زكاة السائمة
وزكاة التجارة، والدليل عليه أن الواجب يتضاعف
بتضاعف النصاب.
فإن قيل: الزكاة تتكرر في النصاب الواحد بتكرر
الحول ثم الحول شرط وليس بسبب.
ج / 2 ص -138-
قلنا:
التكرر باعتبار تجدد النمو فإن النماء لا يحصل
إلا بالمدة فقدر ذلك الشرع بالحول تيسيرا على
الناس فيتكرر الحول بتجدد معنى النمو ويتجدد
وجوب الزكاة باعتبار تجدد السبب.
إذا عرفنا هذا فنقول: بدأ محمد رحمه الله
تعالى الكتاب بزكاة المواشي وإنما فعل ذلك
اقتداء بكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فإنها كانت مبتدأة كلها بزكاة المواشي وقيل
لأن قاعدة هذا الأمر كان في حق العرب وهم
كانوا أرباب المواشي وكانوا يعدونها من أنفس
الأموال وقيل لأن زكاة السائمة مجمع عليها
فبدأ بما هو المجمع عليه ليرتب عليه المختلف
فيه.
قال: "وليس في أربع من الإبل السائمة صدقة"
لحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال:
"من لم يكن عنده إلا أربع من الإبل فلا زكاة
عليه وإذا كانت خمسا ففيها شاة"، على هذا اتفقت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعت
الأمة. وقيل المعنى فيه أن العبرة للقيمة في
المقادير فإن الشاة تقوم بخمسة دراهم في ذلك
الوقت وبنت المخاض بأربعين درهما فإيجاب
الزكاة في خمس من الإبل كإيجاب الزكاة في
مائتي درهم.
وأن أدنى الأسباب التي تجب فيها الزكاة من
الإبل بنت مخاض وفي العشر شاتان وفي خمسة عشر
ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين
بنت مخاض وعلى هذا اتفقت الآثار وأجمع العلماء
رحمهم الله تعالى إلا ما روى شاذا عن علي رضي
الله عنه أنه قال في خمس وعشرين خمس شياه وفي
ست وعشرين بنت مخاض. قال سفيان الثوري رحمه
الله تعالى وهذا غلط وقع من رجال علي رضي الله
عنه أما علي رضي الله عنه فإنه كان أفقه من أن
يقول هكذا لأن في هذا موالاة بين الواجبين بلا
وقص بينهما وهو خلاف أصول الزكاة.
فإن مبنى الزكاة على أن الوقص يتلو الواجب
وعلى أن الواجب يتلو الوقص وفي ست وثلاثين بنت
لبون وفي ست وأربعين حقة وفي إحدى وستين جذعة
وهي أعلى الأسنان التي تؤخذ في زكاة الإبل لأن
ما بعدها ثنى وسديس وبازل وبازل عام وبازل
عامين ولا يجب شيء من ذلك في الزكاة لنهي
النبي صلى الله عليه وسلم السعاة عن أخذ كرائم
أموال الناس.
وبنت المخاض التي تم لها سنة وطعنت في الثانية
سميت به لمعنى في أمها فإنها صارت مخاضا أي
حاملا قال الله تعالى:
{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}[مريم: 23]، وبنت اللبون التي تم لها سنتان وطعنت في الثالثة سميت
به لمعنى بها في أمها فإنها لبون بولادة أخرى
والحقة التي لها ثلاث سنين وطعنت في الرابعة
سميت به لمعني فيها وهو أنه حق لها أن تركب
ويحمل عليها والجذعة التي تم لها أربع سنين
وطعنت في الخامسة سميت به لمعنى في أسنانها
معروف عند أرباب الإبل. ثم بعد ذلك يزاد القدر
بزيادة الإبل، فيجب في ست
ج / 2 ص -139-
وسبعين
بنتا لبون وفي إحدى وتسعين حقتان إلى عشرين
ومائة وعلى هذا اتفقت الآثار وأجمع العلماء
رحمهم الله تعالى.
ثم الاختلاف بينهم بعد ذلك فالمذهب عندنا
استئناف الفريضة بعد مائة وعشرين فإذا بلغت
الزيادة خمسا ففيها حقتان وشاة إلى مائة
وثلاثين ففيها حقتان وشاتان وفي مائة وخمس
وثلاثين حقتان وثلاث شياه وفي مائة وأربعين
حقتان وأربع شياه وفي مائة وخمس وأربعين حقتان
وبنت مخاض إلى مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق.
ثم تستأنف الفريضة فيجب في مائة وخمس وخمسين
ثلاث حقاق وشاة، وفي مائة وستين ثلاث حقاق
وشاتان وفي مائة وخمس وستين ثلاث حقاق وثلاث
شياه وفي مائة وسبعين ثلاث حقاق وأربع شياه
وفي مائة وخمس وسبعين ثلاث حقاق وبنت مخاض وفي
مائة وست وثمانين ثلاث حقاق وبنت لبون وفي
مائة وست وتسعين أربع حقاق إلى مائتين فإن شاء
أدى عنها أربع حقاق عن كل خمسين حقة وإن شاء
خمس بنات لبون عن كل أربعين بنت لبون ثم
تستأنف كما بينا.
وقال مالك، رحمه الله: بعد مائة وعشرين يجب في
كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة والأوقاص
تسع تسع فلا يجب في الزيادة شيء حتى تكون مائة
وثلاثين ففيها حقة وبنت لبون لأنها مرة خمسون
ومرتين أربعون وفي مائة وأربعين حقتان وبنت
لبون وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق وفي مائة
وستين أربع بنات لبون وفي مائة وسبعين حقة
وثلاث بنات لبون وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا
لبون وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون إلى
مائتين فإن شاء أدى أربع حقاق وإن شاء خمس
بنات لبون.
وقال الشافعي رضي الله عنه مثل قول مالك رضي
الله عنه إلا في حرف واحد وهو أن عند الشافعي
رحمه الله تعالى إذا زادت الإبل على مائة
وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون إلى مائة
وثلاثين ثم مذهبه كمذهب مالك رحمه الله تعالى.
وعند مالك لا يجب شيء حتى تكون الإبل مائة
وثلاثين وحجتهما في ذلك ما روي عن عبد الله بن
عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهما أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة وقربه
بقراب سيفه ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض فعمل
به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حتى قبضا وكان
فيه:
"إذا زادت
الإبل على مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون
وفي كل خمسين حقة" إلا أن مالكا رحمه الله حمله على الزيادة التي يمكن اعتبار المنصوص
عليه فيها وذلك لا يكون فيما دون العشرة.
والشافعي رحمه الله تعالى يقول: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد علق هذا الحكم بنفس
الزيادة وذلك بزيادة الواحدة فعندها يوجب في
كل أربعين بنت لبون وهذه الواحدة لتعيين
الواجب بها فلا يكون لها حظ من الواجب واستدل
عليه بالحديث الذي ذكره أبو داود وابن
ج / 2 ص -140-
المبارك رحمهما الله تعالى بالإسناد أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زادت الإبل على
مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون"،
وهذا نص في الباب والمعنى فيه أن الواجب في كل
مال من جنسه فإن الواجب جزء من المال إلا أن
الشرع عند قلة الإبل أوجب من خلاف الجنس نظرا
للجانبين فإن خمسا من الإبل مال عظيم ففي
إخلائه عن الواجب إضرار بالفقراء وفي إيجاب
الواحدة إجحاف بأرباب الأموال وكذلك في إيجاب
الشقص فإن الشركة عيب فأوجب من خلاف الجنس
دفعا للضرر وقد ارتفعت هذه الضرورة عند كثرة
الإبل فلا معنى لإيجاب خلاف الجنس.
ومبنى الزكاة على أن عند كثرة العدد وكثرة
المال يستقر النصاب والوقص والواجب على شيء
معلوم كما في زكاة الغنم عند كثرة العدد يجب
في كل مائة شاة ثم أعدل الإسنان بنت اللبون
والحقاق فإن أدناها بنت المخاض وأعلاها الجذعة
والأعدل هو الأوسط وكذلك أعدل الأوقاص هو
العشر فإن الأوقاص في الابتداء خمس وفي
الانتهاء خمسة عشر فالمتوسط هو العشر وهو
الأعدل فلهذا أوجبنا في كل أربعين بنت لبون
وفي كل خمسين حقة.
ولنا: حديث قيس بن سعد رحمهما الله تعالى قال
قلت لأبي بكر محمد ابن عمرو بن حزم رضي الله
تعالى عنهم أخرج لي كتاب الصدقات الذي كتبه
رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم
فأخرج كتابا في ورقة وفيه: "إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة فما كان أقل من خمس
وعشرين ففيها الغنم في كل خمس ذود شاة"، وروي بطريق شاذ إذا زادت الإبل على مائة وعشرين فليس في الزيادة
شيء حتى تكون خمسا فإذا كانت مائة وخمسا
وعشرين ففيها حقتان وشاة وهذا نص ولكنه شاذ
والقول باستقبال الفريضة بعد مائة وعشرين
مشهور عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما.
ثم نقول: وجوب الحقتين في مائة وعشرين ثابت
باتفاق الآثار وإجماع الأمة فلا يجوز إسقاطه
إلا بمثله وبعد مائة وعشرين اختلفت الآثار فلا
يجوز إسقاط ذلك الواجب عند اختلاف الآثار بل
يؤخذ بحديث عمرو بن حزم رضي الله عنه ويحمل
حديث ابن عمر رضي الله عنه على الزيادة
الكبيرة حتى يبلغ مائتين وبه نقول أن في كل
أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة.
وحديث ابن المبارك رحمه الله تعالى محمول على
ما إذا كانت مائة وعشرين من الإبل بين ثلاثة
نفر لأحدهم خمس وثلاثون وللآخر أربعون وللآخر
خمس وأربعون فإذا زادت لصاحب الخمس وثلاثين
واحدة ففيها ثلاث بنات لبون وهذا التأويل وإن
كان فيه بعض بعد فالقول به أولى مما ذهب إليه
الشافعي رحمه الله تعالى فإنه أوجب ثلاث بنات
لبون وهو مخالف للآثار المشهورة وإن كان لم
يجعل لهذه الواحدة حظا من الواجب كما هو
ج / 2 ص -141-
مذهبه،
فهو مخالف لأصول الزكوات فإن ما لاحظ له من
الواجب لا يتغير به الواجب كما في الحمولة
والعلوفة.
وحقيقة الكلام في المسألة وهو أن بالإجماع
يدار الحكم على الخمسينات والأربعينات ولكن
اختلفنا في أن أي الإدارتين أولى ففي حديث
عمرو بن حزم رضي الله عنهما أدار على
الخمسينات وفيها الحقة ولكن بشرط عود ما دونها
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه على الأربعينات
والخمسينات فنقول الأخذ بما كان في حديث عمرو
بن حزم رضي الله عنه أولى.
فإن مبنى أصول الزكاة على أن عند كثرة المال
يستقر النصاب على شيء واحد معلوم كما في نصاب
البقر فإنه يستقر على شيء واحد وهو المسنة في
الأربعين ولكن بشرط عود ما دونها وهو التبيع
فكذلك زكاة الإبل ولهذا لم تعد الجذعة لأن
الإدارة على الخمسينات ولا يوجد فيها نصاب
الجذعة فأما ما دون الجذعة فيوجد نصابها في
الخمسينات فتعود لهذا ولسنا نسلم احتمال
الزيادة الواجب من الجنس فإن حكم الزيادة
كالمقطوع عن مائة وعشرين لإيفاء الحقتين فيها
كما ثبت باتفاق الآثار فلم يكن محتملا للإيجاب
من جنسه فلهذا صرنا إلى إيجاب الغنم فيها كما
في الابتداء حتى أنه لما أمكن البناء مع إبقاء
الحقتين بعد مائة وخمس وأربعين بنينا فنقلنا
من بنت المخاض إلى الحقة إذا بلغت مائة وخمسين
فإنها ثلاث مرات خمسون فيؤخذ من كل خمسين حقة
وإن كانت السائمة بين رجلين لم يجب على كل
واحد منهما في نصيبه من الزكاة إلا مثل ما يجب
عليه في حال انفراده حتى أن النصاب الواحد وهو
خمس من الإبل إذا كان مشتركا بين اثنين لا تجب
فيها الزكاة عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا كان كل واحد
منهما من أهل وجوب الزكاة عليه تجب الزكاة إذا
استجمعت شرائط الخلطة وذلك باتحاد البئر
والدلو والراعي والمرعى والكلب وحجته الحديث
المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان بين
الخليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية".
قال يحيى بن سعيد القطان والخليطان ما اجتمعا
في الدلو والحوض والراعي وقد نهى صلى الله
عليه وسلم عن التفريق بين المجتمع وهذا النصاب
مجتمع فلا يفرق واعتبر الخلطة في إثبات
التراجع والتراجع إنما يكون بعد وجوب الزكاة
فدل أن للخلطة تأثيرا في وجوب الزكاة والمعنى
أن هذا نصاب تام مملوك لمن هو أهل لوجوب
الزكاة عليه فيجب فيه الزكاة كما إذا كان
لواحد بخلاف ما إذا كان أحد الشريكين ذميا أو
مكاتبا لأنه ليس من أهل وجوب الزكاة عليه وهذا
لأن بسبب الخلطة تخف المؤنة على كل واحد منهما
ولخفة المؤنة تأثير في
ج / 2 ص -142-
وجوب
الزكاة ولهذا وجبت في السائمة دون العلوفة
وأوجب صاحب الشرع فيما سقت السماء العشر وفيما
يسقى بالغرب والدالية نصف العشر.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "وسائمة
المرء إذا كانت أقل من أربعين من الغنم فليس
فيها الزكاة". وهنا سائمة كل واحد منهما أقل من أربعين والمعنى فيه أن غنى
المالك بملك النصاب معتبر لإيجاب الزكاة قال
صلى الله عليه وسلم:
"لا صدقة إلا عن ظهر غنى"، وكل واحد منهما ليس بغني بما يملك بدليل حل أخذ الصدقة له فلا يجب
عليه الزكاة ولأنه من نصيب شريكه أبعد من
المكاتب من كسبه فللمكاتب حق ملك في كسبه وليس
للشريك في نصيب شريكه حق الملك فإذا لم تجب
الزكاة على المكاتب باعتبار كسبه فلأن لا تجب
على كل واحد من الشريكين باعتبار ملك صاحبه
كان أولى.
وأما الحديث فدليلنا لأن المراد به الجمع
والتفريق في الملك لا في المكان لإجماعنا على
أنه إذا كان في ملك رجل واحد نصاب كامل في
أمكنة متفرقة يجمع فدل أن المتفرق في الملك لا
يجمع في حكم الصدقة ونحن نقول بالتراجع بين
الخليطين فإن مائة وعشرين من الغنم إذا كانت
لرجلين لأحدهما أربعون وللآخر ثمانون فحال
الحول فجاء المصدق وأخذ من عرضها شاتين يرجع
صاحب الكثير على صاحب القليل بثلث شاة ثم في
الحول الثاني إنما يجب شاة في نصيب صاحب
الكثير خاصة دون صاحب القليل لأن نصابه قد نقص
عن الأربعين فإذا أخذ المصدق شاة رجع صاحب
القليل على صاحب الكثير بثلث شاة فهذا هو معنى
التراجع. واعتبار النصاب بدون غنى المالك في
حكم الزكاة لا يجوز كما إذا كان أحد الشريكين
ذميا أو مكاتبا وبه يبطل اعتبارهم خفة المؤنة.
قال: "وإذا كان عشر من الإبل بين رجل وبين
عشرة نفر كل بعير بينه وبين أحدهم فعلى قول
أبي يوسف رحمه الله تعالى يجب عليه شاة وعلى
قول زفر رحمه الله تعالى لا يجب شيء". زفر
يقول: كل بعير غير محتمل للقسمة فلم يجتمع في
ملكه نصاب تام وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول
لو كان شريكه فيها رجلا واحدا تجب عليه الزكاة
فتعدد الشركاء لا ينقص ملكه ولا يعدم صفة
الغنى في حقه بل هو غني بملك خمس من الإبل
فتلزمه الزكاة.
قال: "وإذا وجبت الفريضة في الإبل ولم يوجد
ذلك السن ووجد أفضل من ذلك أو دونه أخذ المصدق
قيمة الواجب إن شاء وإن شاء أخذ ما وجد ورد
فضل القيمة إن كان أفضل فإن كان دونه أخذ فضل
القيمة دراهم" والكلام في هذه المسألة يشتمل
على فصول:
أحدها: أن جبران ما بين
السنين غير مقدر عندنا ولكنه بحسب الغلاء
والرخص وعند الشافعي رحمه الله تعالى يتقدر
بشاتين أو بعشرين درهما واستدل بالحديث
المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من وجب في إبله بنت لبون فلم يجد المصدق فيها
إلا حقة أخذها ورد شاتين
ج / 2 ص -143-
أو عشرين
درهما مما استيسر عليه وإن لم يجد إلا بنت
مخاض أخذها وأخذ شاتين أو عشرين درهما مما
استيسر عليه"، ولكنا
نقول إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك
لأن تفاوت ما بين السنين في زمانه كان ذلك
القدر لا أنه تقدير شرعي بدليل ما روي عن علي
بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قدر جبران ما
بين السنين بشاة أو عشرة دراهم وهو كان مصدق
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان يخفى
عليه هذا النص ولا يظن به مخالفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وإنما يحمل على أن تفاوت
ما بين السنين في زمانه كان ذلك القدر ولأنا
لو قدرنا تفاوت ما بين السنين بشيء أدى إلى
الإضرار بالفقراء أو الإجحاف بأرباب الأموال
فإنه إذا أخذ الحقة ورد شاتين فربما تكون
قيمتهما قيمة الحقة فيصير تاركا للزكاة عليه
معنى وإذا أخذ بنت مخاض وأخذ الشاتين فقد تكون
قيمتهما مثل قيمة بنت اللبون فيكون آخذا
للزكاة بأخذهما وبنت المخاض تكون زيادة وفيه
اجحاف بأرباب الأموال.
الفصل الثاني: إذا وجب عليه
في إبله بنت مخاض فلم توجد ووجد بن اللبون
فعندنا لا يتعين أخذ بن اللبون وعند الشافعي
رحمه الله تعالى يتعين وهو رواية عن أبي يوسف،
رحمه الله تعالى في الأمالي واستدلا في ذلك
بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض فإن لم تكن فابن لبون"ذكر عين رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن اللبون عند عدم ابنة مخاض
ولكنا نقول إنما اعتبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بهذا المعادلة في المالية معنى فإن
الإناث من الإبل أفضل قيمة من الذكور والمسنة
أفضل قيمة من غير المسنة فأقام رسول الله صلى
الله عليه وسلم زيادة السن في المنقول إليه
مقام زيادة الأنوثة في المنقول عنه ونقصان
الذكورة في المنقول إليه مقام نقصان السن في
المنقول عنه ولكن هذا يختلف باختلاف الأوقات
والأمكنة فلو عينا أخذ بن اللبون من غير
اعتبار القيمة أدى إلى الإضرار بالفقراء أو
الإجحاف بأرباب الأموال.
الفصل الثالث: أن أداء القيمة
مكان المنصوص عليه في الزكاة والصدقات والعشور
والكفارات جائز عندنا، خلافا للشافعي رحمه
الله تعالى فظن بعض أصحابنا أن القيمة بدل عن
الواجب حتى لقبوا هذه المسألة بالأبدال وليس
كذلك فإن المصير إلى البدل لا يجوز إلا عند
عدم الأصل وأداء القيمة مع قيام عين المنصوص
عليه في ملكه جائز عندنا. حجته في ذلك قوله
صلى الله عليه وسلم:
"في أربعين شاة شاة" وهذا بيان
لما هو مجمل في كتاب الله تعالى لأن الايتاء
منصوص عليه والمؤتى غير مذكور فالتحق بيانه
بمجمل الكتاب فصار كأن الله تعالى قال وآتوا
الزكاة من كل أربعين شاة شاة فتكون الشاة حقا
للفقير بهذا النص فلا يجوز الاشتغال بالتعليل
لإبطال حقه من العين والمعنى فيه أن هذا حق
مالي مقدر بأسنان معلومة شرعا فلا يتأدى
بالقيمة كالهدايا والضحايا أو يقال قربة تعلقت
بمحل عين فلا يتأدى بغيره كالسجود لما تعلق
بالجبهة والأنف لم يتأد بالخد والذقن وجواز
أداء البعير عن
ج / 2 ص -144-
خمس من
الإبل عندي باعتبار النص لا باعتبار القيمة
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"خذ من الإبل الإبل"، إلا أنه عند قلة الإبل أوجب من خلاف الجنس للتيسير على أرباب
الأموال فإذا سمحت نفسه بأداء البعير فقد ترك
هذا التيسير فجاز باعتبار النص لا باعتبار
القيمة.
ولنا: قوله تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}[التوبة:
103] فهو تنصيص على أن المأخوذ مال وبيان رسول
الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر للتيسير على
أرباب المواشي لا لتقييد الواجب به فإن أرباب
المواشي تعز فيهم النقود والأداء مما عندهم
أيسر عليهم. ألا ترى أنه قال في خمس من الإبل
شاة وكلمة في حقيقة للظرف وعين الشاة لا توجد
في الإبل فعرفنا أن المراد قدرها من المال.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل
الصدقة ناقة كوماء فغضب على المصدق وقال:
"ألم أنهكم عن أخذ كرائم أموال الناس"؟ فقال الساعي: أخذتها ببعيرين من إبل الصدقة وفي رواية قال
ارتجعتها ببعيرين، فسكت رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأخذ البعير ببعيرين إنما يكون
باعتبار القيمة.
وقال معاذ رضي الله عنه في خطبته باليمن:
ائتوني بخميس آخذ منكم مكان الصدقة أو قال
مكان الذرة والشعير وذلك لا يكون إلا باعتبار
القيمة والمعنى فيه أنه ملك الفقير مالا
متقوما بنية الزكاة فيجوز كما لو أدى بعيرا عن
خمس من الإبل وهذا لأن المقصود إغناء الفقير
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغنوهم عن
المسألة في مثل هذا اليوم" والإغناء يحصل
بأداء القيمة كما يحصل بأداء الشاة وربما يكون
سد الخلة بأداء القيمة أظهر.
ولا نقول بأن الواجب حق الفقير ولكن الواجب حق
الله تعالى خالصا ولكنه مصروف إلى الفقير
ليكون كفاية له من الله تعالى عما وعد له من
الرزق فكان المعتبر في حق الفقير أنه محل صالح
لكفايته له فكان هذا نظير الجزية فإنها وجبت
لكفاية المقاتلة فكان المعتبر في حقهم أنه محل
صالح لكفايتهم حتى تتأدى بالقيمة بخلاف
الهدايا والضحايا فإن المستحق فيها إراقة الدم
حتى لو هلك بعد الذبح قبل التصدق به لم يلزمه
شيء وإراقة الدم ليس بمتقوم ولا معقول المعنى
والسجود على الخد والذقن ليس بقربة أصلا حتى
لا يتنفل به ولا يصار إليه عند العجز وما ليس
بقربة لا يقام مقام القربة فأما التصدق
بالقيمة فقربة وفيه سد خلة الفقير فيحصل به ما
هو المقصود.
الفصل الرابع: إن ظاهر ما ذكر
في الكتاب يدل على أن الخيار في هذه الأشياء
إلى المصدق يعين أيها شاء وليس كذلك بل الخيار
إلى صاحب المال إن شاء أدى القيمة وإن شاء أدى
سنا دون الواجب وفضل القيمة وإن شاء أدى سنا
فوق الواجب واسترد فضل القيمة حتى إذا عين
شيئا فليس للساعي أن يأبى ذلك لأن صاحب الشرع
اعتبر التيسير على أرباب الأموال وإنما يتحقق
ذلك إذا كان الخيار لصاحب المال.
قال: "وليس في الحملان والفصلان والعجاجيل
زكاة في قول أبي حنيفة ومحمد،
ج / 2 ص -145-
رحمهما
الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى يجب
فيها واحدة منها وهو قول الشافعي رحمه الله
تعالى وقال زفر رحمه الله تعالى يجب فيها ما
يجب في المسان وهو قول مالك رحمه الله تعالى".
وذكر الطحاوي في اختلاف العلماء عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى قال دخلت على أبي حنيفة رحمه
الله تعالى فقلت ما تقول فيمن ملك أربعين حملا
فقال فيها شاة مسنة فقلت ربما تأتي قيمة الشاة
على أكثرها أو على جميعها فتأمل ساعة ثم قال
لا ولكن تؤخذ واحدة منها فقلت أو يؤخذ الحمل
في الزكاة فتأمل ساعة ثم قال إذا لا يجب فيها
شيء فأخذ بقوله الأول زفر رحمه الله تعالى
وبقوله الثاني أبو يوسف وبقوله الثالث محمد
رحمه الله تعالى وعد هذا من مناقبه حيث تكلم
في مسألة في مجلس بثلاثة أقوال فلم يضع شيء
منها.
فأما زفر رحمه الله تعالى فاستدل بقوله صلى
الله عليه وسلم:
"في خمس من الإبل السائمة شاة" وهذا اسم جنس يتناول الصغار والكبار كاسم الآدمي ولأن بالإجماع لو
كانت واحدة منها بنت مخاض تجب شاة فيها ولا
تجب الشاة في تلك الواحدة بل في الكل فإذا جاز
إيجاب أربعة أخماس شاة باعتبار أربعة من
الفصلان جاز إيجاب الشاة باعتبار خمس من
الفصلان وهذا لأن زيادة السن عفو لأرباب
الأموال لا يزداد بها الواجب فكذلك نقصان السن
عفو في حق الفقراء لا ينتقص به الواجب.
وحجتنا قوله صلى الله عليه وسلم:
"إياكم وكرائم أموال الناس"
وقال:
"لا تأخذوا من حزرات 1 أموال الناس شيئا" وإيجاب المسنة في الصغار يؤدي إلى هذا ثم ربما تكون قيمة المسنة
آتية على أكثر النصاب والواجب قليل من الكثير
فأخذ المسنة من الصغار فيه إجحاف بأرباب
الأموال بخلاف ما إذا كانت الواحدة مسنة فإنه
هو الأصل والصغار تبع له وقد ثبت الحكم في
المحل تبعا وإن كان لا يجوز إثباته مقصودا
كالشرب والطريق في البيع وأبو يوسف رحمه الله
تعالى استدل بحديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه
قال لو منعوني عناقا مما كانوا يؤدونه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه
فدل أن للعناق مدخلا في الزكاة ولا يكون ذلك
إلا من الصغار ثم اعتبر نقصان العين بنقصان
الوصف فإن كل واحد منهما ينقص المالية ولا
يعدمها ونقصان الوصف لا يسقط الزكاة أصلا حتى
إن في العجاف والمهازيل تجب الزكاة من جنسها
فكذلك نقصان السن.
ولنا: حديث سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فتبعته فسمعته يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو بفتحات جمع حزرة بالحاء المهملة، وتقديم
الزاي المنقوطة على الراء في اللغة المشهورة
ذكره ابن الأثير في النهاية، وحرزة المال
خياره، وي ديوان الأدب، وهو في الأصل كأنه
الشيء المحبوب النفس اهـ. "مصححه".
ج / 2 ص -146-
"في عهدي أن لا آخذ من راضع اللبن شيئا". وقال
عمر رضي الله تعالى عنه للساعي عد عليهم
السخلة ولو جاء بها الراعي يحملها على كتفه
ولا تأخذها منهم فقد نهى عن أخذ الصغار عند
الاختلاط والمعنى فيه أن هذا حق الله تعالى
تعلق بأسنان معلومة فلا مدخل للصغار فيها
مقصودا كالهدايا والضحايا وهذا لأن الأسنان
التي اعتبرها صاحب الشرع لا تؤخذ في الصغار
وبه فارق العجاف فإن تلك الأسنان تؤخذ فيها مع
العجف وصاحب الشرع اعتبر السن في المأخوذ
وحديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه محمول على
أنه قال ذلك على سبيل المبالغة والتمسك. ألا
ترى أنه قال في بعض الروايات والله لو منعوني
عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم لقاتلتهم عليه؟ وهذا لا يدل على أن
للعقال مدخلا في الزكاة.
ثم اختلفت الروايات عن أبي يوسف في الفصلان،
فروى محمد عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه
لا يجب فيها الزكاة حتى تبلغ عددا لو كانت
كبارا تجب فيها الواحدة وذلك بأن تبلغ خمسا
وعشرين ثم ليس في الزيادة شيء حتى تبلغ ستا
وسبعين فحينئذ يجب اثنتان منها إلى مائة وخمس
وأربعين فحينئذ يجب ثلاث منها. قال محمد رحمه
الله تعالى وهذا غير صحيح فإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أوجب في خمس وعشرين واحدة من
مال اعتبر قبله أربعة نصب وأوجب في ست وسبعين
ثنتين في موضع اعتبر ثلاثة نصب بينها وبين خمس
وعشرين ففي المال الذي لا يمكن اعتبار هذه
النصب لو أوجبنا كان بالرأي لا بالنص.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن تعيين
الواجب بالنص كان باعتبار العدد والسن وقد
تعذر اعتبار أحدهما وهو السن في الفصلان فبقي
الآخر وهو العدد معتبرا. وروى الحسن بن أبي
مالك عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى قال يجب
في خمس فصلان الأقل من واحد منها ومن شاة وفي
العشر الأقل من واحد منها ومن شاتين وفي
الخمسة عشر الأقل من واحد منها ومن ثلاث شياه
وفي العشرين الأقل من واحد منها ومن أربع شياه
وفي خمس وعشرين واحدة ووجهه أن في الكبار
الواجب في الخمس شاة للتيسير حتى لو أدى واحدة
منها جاز وكذلك ما بعدها إلى خمس وعشرين فكذلك
في الصغار يؤخذ على ذلك القياس.
وروى بن سماعة عن أبي يوسف في الخمس خمس فصيل
وفي العشر خمسا فصيل وهكذا إلى خمس وعشرين
فكأنه اعتبر البعض بالجملة في هذه الرواية.
وكثير من أصحابنا رحمهم الله تعالى خرجوا قول
أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذه المسألة على
قياس ما ذكر محمد رحمه الله تعالى في الزيادات
في زكاة المهازيل فقالوا إذا ملك خمسا من
الفصلان نظر إلى قيمة بنت مخاض والشاة فإن كان
قيمة بنت المخاض خمسين وقيمة الشاة عشرة فنقول
لو كانت الواحدة بنت المخاض لكان يجب فيها شاة
تساوي عشرة وذلك بمعنى خمس قيمة بنت المخاض ثم
ينظر إلى قيمة أفضلهن فإن كانت عشرين يجب فيها
ج / 2 ص -147-
شاة
تساوي أربعة دراهم ليكون بمعنى خمس أفضلهن
فهذا هو الإيجاب في الصغار على قياس الإيجاب
في الكبار.
وإذا كان على صاحب السائمة دين يحيط بقيمتها
فلا زكاة عليه فيها عندنا، وعند الشافعي رحمه
الله تجب الزكاة لأن وجوب الزكاة باعتبار ملك
النصاب الكامل النامي والمديون مالك لذلك فإن
دين الحر الصحيح يجب في ذمته لا تعلق له بماله
ولهذا ملك التصرف فيه كيف شاء وصفة النماء
بالإسامة ولم ينعدم ذلك بسبب الدين ثم الدين
مع الزكاة حقان اختلفا محلا ومستحقا وسببا
فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر كالدين مع
العشر.
ولنا: حديث عثمان رضي الله عنه حيث قال في
خطبته في رمضان ألا إن شهر زكاتكم قد حضر فمن
كان له مال وعليه دين فليحتسب ما له بما عليه
ثم ليزك بقية ماله ولم ينكر عليه أحد من
الصحابة رضي الله عنهم فكان إجماعا منهم على
أنه لا زكاة في القدر المشغول بالدين.
ثم المديون فقير ولهذا تحل له الصدقة مع تمكنه
من ماله والصدقة لا تحل لغني ولا تجب إلا على
الغني. قال صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة إلا عن ظهر غني" وهذا لأن الواجب إغناء المحتاج والخطاب بالإغناء لا يتوجه إلا على
الغني ومن كان مستحقا للمواساة شرعا لا يلزمه
أن يواسي غيره والشرع لا يرد بما لا يفيد ولا
فائدة في أن يأخذ شاة من سائمة الغير صدقة
ويعطي شاة من سائمته ولأن ملكه في النصاب ناقص
فإن صاحب الدين يستحقه عليه من غير قضاء ولا
رضا وذلك أنه عدم الملك كما في الوديعة
والمغصوب فلأن يكون دليل نقصان الملك كان
أولى.
وقد جعل مال المديون في حكم الزكاة كالمملوك
لصاحب الدين حيث يجب عليه الزكاة بسببه ومحمد
رحمه الله تعالى أشار في الكتاب إلى هذا وقال
إيجاب الزكاة في مال المديون يؤدي إلى تزكية
مال واحد في حول واحد مرارا. بيانه فيمن له
عبد للتجارة يساوي ألف درهم باعه بألف نسيئة
ثم باعه المشتري من آخر حتى تداولته عشر من
الأيدي فعنده يجب على كل واحد منهم زكاة الألف
إذا تم الحول والمال في الحقيقة ليس إلا العبد
حتى إذا أقيلت البيوع رجع العبد إلى الأول ولم
يبق لأحد سواه شيء.
وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى أن الدين يمنع وجوب العشر وبعد التسليم
فالعشر مؤنة الأرض النامية كالخراج لا معتبر
فيه بغنى المالك فإن أصل المالك فيه غير معتبر
عندنا حتى يجب في الأرض الموقوفة وأرض المكاتب
بخلاف الزكاة فإن وجوبها في المال النامي
بواسطة غنى المالك وذلك ينعدم بسبب الدين فإن
لحقه دين في خلال الحول قال أبو يوسف رحمه
الله تعالى لا ينقطع به الحول، حتى إذا سقط
قبل تمام الحول تلزمه الزكاة إذا تم الحول
وقال زفر رحمه الله تعالى ينقطع الحول بلحوق
الدين، وهذا لأن الدين
ج / 2 ص -148-
يعدم
صفة الغنى في المالك فيكون نظير نقصان النصاب
وعند زفر رحمه الله تعالى بنقصان النصاب في
خلال الحول ينقطع الحول وعندنا لا ينقطع على
ما نبين فهذا مثله.
قال: "فإن حضر المصدق فقال لم يحل الحول على
السائمة أو قال علي دين يحيط بقيمتها أو قال
ليست هذه السائمة لي وحلف صدق على جميع ذلك"
لأنه أمين فيما يجب عليه من الزكاة فإنها
عبادة خالصة لله تعالى وكل أمين مقبول القول
في العبادات التي تجب لحق الله تعالى فإذا
أنكر وجوب الزكاة عليه بما ذكر من الأسباب وجب
على الساعي تصديقه ولكن يحلفه على ذلك إلا في
رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال لا
يمين عليه لأن في العبادات لا يتوجه اليمين
كما لو قال صمت أو صليت يصدق في ذلك من غير
يمين وفي ظاهر الرواية قال القول قول الأمين
مع اليمين وفي سائر العبادات إنما لا يتوجه
اليمين لأنه ليس هناك من يكذبه وهنا الساعي
مكذب له فيما يخبر به فلهذا يحلف على ذلك.
قال: "وإن قال أخذها مني مصدق آخر وحلف على
ذلك فإن لم يكن في تلك السنة مصدق آخر لا يقبل
قوله" لأن الامين إذا أخبر بما هو محتمل كان
مصدقا وإذا أخبر بما هو مستنكر لم يكن مصدقا
وهذا أخبر بما هو مستنكر وإن كان في تلك السنة
مصدق آخر فالقول قوله أتى بالبراءة أو لم يأت
بها هكذا ذكره في المختصر وهو رواية الجامع
الصغير وفي كتاب الزكاة يقول وجاء بالبراءة
وفيه إشارة إلى أن المجيء بالبراءة شرط
لتصديقه وهو رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة
رحمهم الله تعالى وجهه أنه أخبر بخبر ولصدقه
علامة فإن العادة أن المصدق إذا أخذ الصدقة
دفع البراءة فإن وافقته تلك العلامة قبل خبره
وإلا فلا كالمرأة التي أخبرت بالولادة فإن
شهدت القابلة بها قبلت وإلا فلا ووجه الرواية
الأخرى وهو أصح أن البراءة خط والخط يشبه الخط
وقد لا يأخذ صاحب السائمة البراءة غفلة منه
وقد تضل البراءة منه بعد الأخذ فلا يمكن أن
تجعل حكما فبقي المعتبر قوله مع يمينه.
قال: "فإن قال دفعتها إلى المساكين لم يصدق
وتؤخذ منه الزكاة عندنا" وقال الشافعي رحمه
الله تعالى يصدق في ذلك لأن الزكاة إنما وجبت
لحق الفقراء قال الله تعالى:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}[التوبة:
60] وقال:
{فِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: 24-25] فإذا أوصل الحق إلى المستحق والمستحق من أهل أخذ
حقه برئت ذمته، كالمشتري من الوكيل إذا أقبض
الموكل الثمن وهذا لأن الساعي يقبض ليصرف إلى
الفقراء فهو كفى الساعي هذه المؤنة وأوصلها
إلى محلها فلم يبق عليه سبيل.
ولنا: أن هذا حق مالي يستوفيه الإمام بولاية
شرعية فلا يملك من عليه إسقاط حقه في
الاستيفاء كمن عليه الجزية إذا صرف بنفسه إلى
المقاتلة ثم تقرير هذا الكلام من وجهين:
ج / 2 ص -149-
أحدهما: أن الزكاة محض حق الله تعالى فإنما يستوفيه من يعين نائبا في
استيفاء حقوق الله تعالى وهو الإمام فلا تبرأ
ذمته إلا بالصرف إليه وعلى هذا نقول وإن علم
صدقه فيما يقول يؤخذ منه ثانيا ولا يبرأ
بالأداء إلى الفقير فيما بينه وبين ربه وهو
اختيار بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أن
للإمام رأيا في اختيار المصرف فلا يكون له أن
يبطل رأي الإمام بالأداء بنفسه.
والطريق الآخر: أن الساعي
عامل للفقير وفي المأخوذ حق الفقير ولكنه مولى
عليه في هذا الأخذ حتى لا يملك المطالبة بنفسه
ولا يجب الأداء بطلبه فيكون بمنزلة دين لصغير
دفعه المديون إليه دون الوصي وعلى هذا الطريق
يقول يبرأ بالأداء فيما بينه وبين ربه وظاهر
قوله في الكتاب لم يصدق في ذلك إشارة إلى ذلك
وهو أنه إذا علم صدقه لم يتعرض له وهذا لأن
الفقير من أهل أن يقبض حقه ولكن لا يجب
الإيفاء بطلبه فجعل الساعي نائبا عنه كان نظرا
من الشرع له فإذا أدى من عليه من غير مطالبة
إليه حصل به ما هو المقصود بخلاف الصبي فإنه
ليس من أهل أن يقبض حقه فلا يبرأ بالدفع إليه.
قال: "ولا زكاة على الصبي والمجنون في
سائمتهما عندنا" وهو قول علي وابن عباس رضي
الله تعالى عنهما قالا لا تجب الزكاة على
الصبي حتى تجب الصلاة عليه. وعند الشافعي رحمه
الله تعالى تجب الزكاة في مالهما ويؤديها
الولي وهو قول ابن عمر وعائشة رحمهما الله
تعالى. وكان ابن مسعود رحمه الله تعالى يقول
يحصي الولي أعوام اليتم فإذا بلغ أخبره وهو
إشارة إلى أنه تجب عليه الزكاة وليس للولي
ولاية الأداء وهو قول بن أبي ليلى رحمه الله
تعالى حتى قال إذا أداه الولي من ماله ضمن
واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بقوله صلى
الله عليه وسلم: "ابتغوا في أموال اليتامى خيرا كيلا تأكلها الصدقة"، أو قال:
"تأكلها الزكاة"، وذلك دليل
وجوب الزكاة في ماله.
والمعنى أن هذا حق مالي مستحق يصرف إلى أهل
السهمان شرعا فالصغر لا يمنع وجوبه كالعشر
وصدقة الفطر وبالصرف إلى أهل السهمان يتبين
أنه حق مستحق لهم والصغر لا يمنع وجوب حق
العباد وإن كان بطريق الصلة كالنفقة ولا فرق
بينهما فالنفقة صلة وجبت للمحاويج الماسين له
في القرابة والزكاة صلة للمحاويج الماسين له
في الملة فإذا ثبت الوجوب كان للولي ولاية
الأداء من ماله لأن هذا مما تجري فيه النيابة
في أدائه حتى أن بعد البلوغ يتأدى بأداء وكيله
والولي نائب عن الصبي وبه فارق العبادات
البدنية فلا تجري فيه النيابة في أدائها.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن
النائم حتى ينتبه وعن المجنون حتى يفيق"، وفي إيجاب الزكاة عليه إجراء القلم عليه فإن الوجوب يختص بالذمة
ولا يجب في ذمة الولي فلا بد من القول بوجوبه
على الصبي وفيه يوجد الخطاب عليه.
والمراد بقوله: "كيلا تأكلها الصدقة"، أي
النفقة. ألا ترى أنه أضاف الأكل إلى جميع
ج / 2 ص -150-
المال؟
والنفقة هي التي تأتي على جميع المال دون
الزكاة والمعنى فيه أنها عبادة محضة فلا تجب
على الصبي كسائر العبادات وتفسير الوصف أنها
أحد أركان الدين والمقصود من أصل الدين معنى
العبادة فكذلك ما هو من أركان الدين وهذا لأن
المتصدق يجعل ماله لله تعالى ثم يصرفه إلى
الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى.
قال الله تعالى:
{هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ
وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}[التوبة: 103] وقال:
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}[البقرة: 245]، وبجعل المال له خالصا يكون عبادة خالصة ولهذا يحصل
به التطهير وبه تبين أنه ليس فيه حق العباد
لأن الشركة تنافي معنى العبادة وإذا ثبت أنه
عبادة فلا بد فيه من نية وعزيمة ممن هي عليه
عند الأداء.
وولاية الولي على الصبي تثبت من غير اختياره
شرعا ومثل هذه الولاية لا تتأدى بها العبادة
بخلاف ما إذا وكل بالأداء بعد البلوغ فتلك
نيابة عن اختيار وقد وجدت النية والعزيمة منه
وبه فارق صدقة الفطر فإن وجوبها لمعنى المؤنة
حتى تجب على الغير بسبب الغير وفيه حق للأب
فإنا لو لم نوجب في ماله احتجنا إلى الإيجاب
على الأب كما إذا لم يكن للصبي مال بخلاف
الزكاة وبه فارق العشر فإنه مؤنة الأرض
النامية كالخراج وكذلك النفقة وجوبها لحق
العبد بطريق المؤنة بخلاف الزكاة.
ثم المجنون الأصلي لا ينعقد الحول على ماله
حتى يفيق فإن كان جنونه طارئا فقد ذكر هشام في
نوادره أن على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى
العبرة لاكثر الحول فإن كان مفيقا في أكثر
الحول تجب الزكاة وإلا فلا وجعل هذا نظير
الجزية فإن الذمي إذا مرض في بعض السنة فإن
كان صحيحا في أكثر السنة تلزمه الجزية وإن كان
مريضا في أكثر السنة لم تلزمه الجزية. وقال
محمد رحمه الله تعالى إن كان مفيقا في جزء من
السنة في أوله أو آخره قل أو كثر تلزمه الزكاة
هكذا روى بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله
تعالى وجعل هذا نظير الصوم فالسنة للزكاة
كالشهر للصوم والإفاقة في جزء من الشهر
كالإفاقة في جميعه في وجوب صوم جميع الشهر
فهذا كذلك.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى أن المجنون إذا أفاق ينعقد الحول على
ماله ولكن المراد بهذا المجنون المجنون الأصلي
فقد ذكر بعده في كتاب الحسن رحمه الله تعالى
إذا اعترض جنونه إن كان مفيقا في جزء من آخر
السنة تلزمه الزكاة وإن تم الحول وهو مجنون
فقد انقطع حكم ذلك الحول ففي هذه الرواية
اعتبر الإفاقة في آخر السنة لأن الوجوب عندها
يكون.
قال: "ولا زكاة على المكاتب في كسبه" لأنه
مصرف للزكاة بقوله تعالى:
{وَفِي الرِّقَابِ}[البقرة: 177]. ولأنه ليس بغني بكسبه فإنه لا يملك كسبه حقيقة لأن
الرق المنافي للملك موجود فيه وبدون الملك لا
تثبت صفة الغنى والمال النامي سبب لوجوب
الزكاة بواسطة
ج / 2 ص -151-
غنى
المالك فبدون هذه الواسطة لا يكون سببا كشراء
القريب إعتاق بواسطة الملك وبدونه لا يكون
إعتاقا وهو ما إذا اشتراه لغيره وأما العبد
المأذون فإن كان عليه دين محيط بكسبه فلا زكاة
فيه على أحد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
لأن المولى لا يملك كسبه وكذلك عندهما لأن
المولى وإن كان يملك كسبه فهو مشغول بالدين
والمال المشغول بالدين لا يكون نصاب الزكاة
وإن لم يكن عليه دين فكسبه لمولاه وعلى المولى
فيه الزكاة إذا تم الحول.
قال: "وإذا كان عند الرجل من السائمة مقدار ما
يجب فيه الزكاة فاستفاد من ذلك الجنس في خلال
الحول بشراء أو هبة أو ميراث ضمها إلى ما عنده
وزكاها كلها عند تمام الحول عندنا". وقال
الشافعي رحمه الله تعالى يعتبر للمستفاد حول
جديد من حين ملكه فإذا تم الحول وجبت فيه
الزكاة سواء كان نصابا أو لم يكن وحجته قوله
صلى الله عليه وسلم:
"لا زكاة في
مال حتى يحول فيه الحول"، والمراد:
الحول المعهود وهو اثنا عشر شهرا والمعنى فيه
أن المستفاد أصل في الملك لأنه أصل في سببه
فيكون أصلا باعتبار الحول فيه كالمستفاد من
خلاف الجنس بخلاف الأولاد والأرباح فإنها
متولدة من العين فيسري إليها حكم العين وإنما
لم يعتبر فيه النصاب لأن اعتبار النصاب ليحصل
الغنى به للمالك وذلك حاصل بالنصاب الأول
فبالزيادة بعده يزداد الغنى وذلك حاصل بالقليل
والكثير واعتبار الحول لحصول النماء من المال
حتى ينجبر بالنماء النقصان الحاصل بأداء
الزكاة والمستفاد من هذا كأصل المال.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"اعلموا أن من السنة شهرا تؤدون فيه زكاة
أموالكم فما حدث بعد ذلك من مال فلا زكاة فيه
حتى يجيء رأس السنة"، فهذا
يقتضي أن عند مجيء رأس السنة تجب الزكاة في
الحادث كما تجب في الأصل وإن وقت الوجوب فيهما
واحد.
ثم الضم في خلال الحول بالعلة التي بها يضم في
ابتداء الحول فضم بعض المال إلى البعض في
ابتداء الحول باعتبار المجانسة دون التوالد
فكذلك في خلال الحول ولو كان هذا مما يسري
بعلة التوالد لكان الأولى أن يسري إلى الحادث
بعد الحول لتقرر الزكاة في الأصل.
ثم ما بعد النصاب الأول بناء على النصاب الأول
وتبع له حتى يسقط اشتراط النصاب فيه فكذلك
يسقط اعتبار الحول فيه ويجعل حؤول الحول على
الأصل حؤولا على التبع وتحريره أن كل مال لا
يعتبر فيه كمال النصاب لإيجاب حق الله عز وجل
لا يعتبر فيه الحول كالمستخرج من المعادن وأما
الحديث فلنا حؤول الحول عبارة عن آخر جزء منه
وقد حال ذلك على المستفاد إذ حؤول الحول على
الأصل يكون حؤولا على التبع معنى فإن كان إنما
استفادها بعد تمام الحول فلا زكاة فيها
لانعدام حؤول آخر جزء من الحول عليها. وإن
كانت
ج / 2 ص -152-
الفائدة من غير جنس ما عنده من السائمة لم
يضمها إلى ما عنده لأنها لو كانت موجودة في
أول الحول لم يضمها إلى ما عنده فكذلك إذا
وجدت في خلال الحول كما لو كانت الفائدة من
غير السائمة.
قال: "وإذا لم تكن الإبل أو البقر أو الغنم
سائمة فلا زكاة فيها وذلك كالحوامل والعوامل"
وقال مالك رحمه الله تعالى: فيها الزكاة لظاهر
قوله صلى الله عليه وسلم: "في خمس من الإبل
شاة". ثم وجوب الزكاة باعتبار الملك والمالية
شكرا لنعمة المال وذلك لا ينعدم بالاستعمال بل
يزداد الانتفاع بالمال بالاستعمال.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"في خمس من الإبل السائمة شاة".
والصفة متى قرنت بالاسم العلم تنزل منزلة
العلم لإيجاب الحكم والمطلق في هذا الباب
بمنزلة المقيد لأنهما في حادثة واحدة وحكم
واحد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال:
"ليس في الحوامل والعوامل صدقة". وفي الحديث المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ليس في الجبهة ولا في النخة ولا في الكسعة صدقة". وفسر عبد الوارث بن سعيد الجبهة بالخيل والنخة بالإبل العوامل
وقال الكسائي رحمه الله تعالى النخة بضم النون
وفسرها بالبقر العوامل وقال أبو عمرو غلام
ثعلب هو من النخ وهو السوق الشديد وذلك إنما
يكون في العوامل ثم مال الزكاة ما يطلب النماء
من عينه لا من منافعه. ألا ترى إلى دار السكنى
وعبد الخدمة لا زكاة فيهما والعوامل إنما يطلب
النماء من منافعها وكذلك إن كان يمسكها للعلف
في مصر أو غير مصر فلا زكاة فيها لأن المؤونة
تعظم على صاحبها.
ووجوب الزكاة في السائمة باعتبار خفة المؤونة
فلا تجب عند كثرة المؤونة لأن لخفة المؤنة
تأثيرا في إيجاب حق الله تعالى. قال صلى الله
عليه وسلم:
"ما سقته السماء ففيه العشر وما سقي بغرب أو دالية ففيه نصف العشر"، وإن كان
يسيمها في بعض السنة ويعلفها في بعض السنة
فالعبرة لأكثر السنة لأن أصحاب السوائم لا
يجدون بدا من أن يعفوا سوائمهم في زمان البرد
والثلج فجعلنا الأقل تابعا للأكثر. وقال
الشافعي رحمه الله تعالى: إن علفها بقدر ما
يتبين فيه مؤنة علفه أكثر مما كانت سائمة فلا
زكاة فيها.
قال: "والصدقة واجبة في ذكران السوائم
وإناثها" لأن النصوص جاءت باسم الإبل والبقر
والغنم وذلك يتناول الذكور والإناث ثم طلب
النماء من العين متحقق في كل نوع أما من
الأولاد إذا كن إناثا بأن يستعار لها فحل أو
من السمن إذا كانوا ذكورا فإنها مأكولة اللحم.
قال: "وإذا باع السائمة قبل الحول بيوم بجنسها
أو بخلاف جنسها انقطع الحول عندنا" وقال زفر
رحمه الله تعالى إذا باعها بخلاف جنسها فكذلك
وإذا باعها بجنسها لم ينقطع الحول. وقال
الشافعي رحمه الله تعالى في القديم سواء باعها
بجنسها أو بخلاف جنسها،
ج / 2 ص -153-
لم
ينقطع الحول لأن الحكم الثابت في الأصل وهو
غنى المالك به يبقى ببقاء البدل وقاسه بعروض
التجارة وزفر رحمه الله يقول إذا باعها بجنسها
فحكم الزكاة في البدل لا يخالف حكم الزكاة في
الأصل وإذا باعها بخلاف جنسها فحكم الزكاة في
البدل يخالف حكم الزكاة في الأصل ولا يمكن
إبقاء ما كان ثابتا ببقاء البدل فوجب القول
بالاستئناف. ألا ترى أن في ابتداء الحول يضم
الجنس إلى الجنس ولا يضم إلى خلاف الجنس فكذلك
في أثناء الحول ينبني عند المجانسة ويستقل عند
اختلاف الجنس.
ولنا: أن وجوب الزكاة في السائمة باعتبار
العين حتى يعتبر نصابه من العين والنماء فيه
مطلوب من العين والعين الثاني غير الأول بخلاف
مال التجارة فإن المعتبر فيه صفة المالية دون
العين حتى يعتبر النصاب من قيمته ثم الاستبدال
يحقق ما هو المقصود من مال التجارة وهو
الاسترباح ويضاد ما هو المقصود بالسائمة لأن
مقصود أصحاب السوائم استبقاؤها في ملكهم عادة
وذلك ينعدم بالاستبدال فيكون نظير ترك الإسامة
فيها وكذلك إن باعها بدراهم يريد به الفرار من
الصدقة أو لا يريد به ذلك فلا زكاة عليه إلا
بحول جديد ولم يبين في الكتاب أنه هل يكره له
هذا الصنيع فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى
لا يكره وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يكره
وهو نظير اختلافهم في الاحتيال لإبطال الشفعة
ولإسقاط الاستبراء.
محمد، رحمه الله تعالى يقول الزكاة عبادة محضة
والفرار من العبادة ليس من أخلاق المؤمنين
وأبو يوسف رحمه الله تعالى، يقول: هذا امتناع
من التزام الحق مخافة أن لا يخرج منه إذا
التزمه فلا يكون مكروها كمن امتنع من جمع
المال حتى لا يلزمه حج أو زكاة وهذا لأن
المذموم منع الحق الواجب وليس في هذا
الاستبدال من منع الحق الواجب شيء.
قال: "وإن حال الحول على سائمته وعنده نصاب من
الدراهم فزكى السائمة ثم باعها بدراهم ثم تم
الحول على الدراهم التي كانت عنده لم يزك معها
أثمان الإبل في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ويزكيها في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى" قالا الضم لعلة المجانسة وهي موجودة في
ثمن الإبل السائمة وأداء الصدقة عن أصله لا
يمنع ضم الثمن إلى ما عنده كمن أدى صدقة الفطر
عن عبد الخدمة ثم باعه بدراهم أو أدى عشر
الطعام عن الخارج من أرضه ثم باعه بدراهم أو
جعل السائمة علوفة بعد أداء الزكاة عنها ثم
باعها بدراهم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى
استدل بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا ثنا في
الصدقة غير ممدود". وإيجاب
الزكاة في ثمن السائمة في هذا الحول بعد ما
أدى الزكاة عن أصلها يؤدي إلى الثنا في الصدقة
ولأن وجوب الزكاة باعتبار صفة المالية وإنما
يبقي بالثمن المالية التي كانت له بملك الأصل
إلا أن يتجدد له ملك المالية وإنما يتجدد له
بالبيع ملك العين والعين بدون صفة المالية لا
زكاة فيها.
ج / 2 ص -154-
ثم
زيادة الزكاة باعتبار زيادة الغنى ولم يستفد
ذلك بالبيع لأنه كان غنيا بأصل هذا المال
حقيقة وشرعا بخلاف المستفاد بهبة أو وراثة فقد
استفاد به زيادة الغنى وبخلاف أداء صدقة الفطر
عن عبد الخدمة فالمالية غير معتبرة فيه حتى
تجب عن الحر والعبد المستغرق بالدين وإن كانت
مالية مستحقة بخلاف الزكاة ولا معتبر للحول
فيه حتى لو ملك عبدا ليلة الفطر أدى عنه صدقة
الفطر والعشر كذلك لا معتبر بالحول فيه ووجوبه
ليس باعتبار المالية بل هو مؤنة الأرض النامية
ثم هو لم يكن غنيا بما عنده من الطعام حتى إذا
بقي في ملكه أحوالا لا شيء فيه فالبيع أفاده
الغنى شرعا وكذلك السائمة إذا جعلها علوفة فقد
خرج من أن يكون غنيا بها شرعا فبالبيع استفاد
صفة الغنى فهو والمستفاد بالهبة سواء بخلاف ما
نحن فيه على ما بينا.
قال: "وإذا قتل الرجل فقضى على عاقلة القاتل
لولده بالدية من الإبل ثم قبضها بعد الحول فلا
زكاة عليه حتى يحول عليه الحول من حين يقبضها"
لأن وجوب الزكاة في الإبل بصفة الإسامة وما
يكون في الذمة لا يكون سائمة ولأن الدية على
العاقلة ليست بدين على الحقيقة حتى لا يستوفي
من تركة من مات منهم فالملك للوارث يحصل
بالقبض حقيقة.
وكذلك لو تزوج امرأة على إبل بغير أعيانها لم
يكن عليها فيها زكاة حتى يحول الحول بعد القبض
لما بينا أن ما في الذمة لا يكون سائمة فإن
تزوجها على إبل سائمة بأعيانها وحال الحول وهي
في يد الزوج كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى
يقول أولا إذا قبضت منها نصابا كاملا فعليها
الزكاة لما مضى ثم رجع وقال لا زكاة عليها حتى
يحول عليها الحول بعد القبض.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: إذا
قبضت منها شيئا يلزمها أداء الزكاة بقدر
المقبوض لما مضى سواء كان نصابا أو دونه. وجه
قولهما: أنها بالعقد ملكت الصداق ملكا تاما
بدليل أنها تملك التصرف فيه على الإطلاق وإنما
انعدم اليد وذلك غير مانع من انعقاد الحول
ووجوب الزكاة فيه كالمبيع قبل القبض.
والمغصوب إذا كان الغاصب مقرا، وجه قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى أنها ملكت المالية
ابتداء بعقد النكاح فلا يتم ملكها فيه إلا
بالقبض كالدية على العاقلة بخلاف المبيع فإن
ملك المالية لا يثبت ابتداء بالبيع بل يتحول
من أصل كان مالا إلى بدله وهذا لأن وجوب
الزكاة في السائمة باعتبار معنى النماء وقبل
القبض الحكم متردد بين أن يسلم لها بالقبض أو
ينتصف بالطلاق قبل الدخول بخلاف ما بعد القبض
ولهذا لو مر يوم الفطر على العبد المجعول
صداقا ثم طلقها قبل الدخول لم يكن عليها صدقة
الفطر بخلاف ما بعد القبض فصار الحاصل أن
بالعقد يحصل أصل الملك وتمام ما هو المقصود لا
يحصل إلا بالقبض وصيرورته نصاب الزكاة ينبني
على تمام المقصود لا على حصول أصل الملك بخلاف
التصرف فإن نفوذه ينبني على ثبوت أصل الملك.
ج / 2 ص -155-
وقد
روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في المبيع
قبل القبض أنه لا يكون نصاب الزكاة لأن الملك
فيه غير نام حتى لا يملك التصرف فيه ثم وجه
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول أن الصدق
بمنزلة مال البدل فإن أصله لم يكن مال الزكاة
ومن أصله أن مال البدل تجب فيه الزكاة ولا
يلزمه الأداء حتى يقبض نصابا تاما على ما
بيناه ولكنه رجع عن هذا فقال هناك أصله كان
مالا وهذا أصله وهو ملك النكاح لم يكن مالا
متقوما والصداق جعل صلة من وجه فلا يتم ملكها
المال إلا بالقبض. فإن طلقها الزوج قبل الدخول
بها والصداق خمس من الإبل فليس عليها زكاة في
نصيبها في قول أبي حنيفة لأنه دون النصاب ولو
كان عشرا كان عليها الزكاة في نصيبها في قوله
الأول وفي قوله الآخر لا زكاة عليها في
الوجهين وعلى قولهما يلزمها زكاة نصيبها في
الوجهين.
قال: "رجل له إبل سائمة فأراد أن يستعملها أو
يعلفها فلم يفعل ذلك حتى حال عليه الحول فعليه
زكاة السائمة" لأنها كانت سائمة في جميع
الحول، وما نوى كان حديث النفس. وقال صلى الله
عليه وسلم:
"إن الله تجاوز لأمتي عما حدثوا به أنفسهم ما
لم يعملوا أو يتكلموا". ثم الاستعمال فعل وذلك لا يحصل بالنية ما لم يفعل ألا ترى أن من
نوى في عبد الخدمة أن يكون للتجارة لا يصير
للتجارة ما لم يتجر فيه بخلاف ما إذا كان
للتجارة فنواه للخدمة لأنه نوى ترك التجارة
وهو تارك لها فاقترنت النية بالعمل وهو نظير
الكافر ينوي الاسلام لا يصير مسلما ما لم يأت
بكلمة الشهادة والمسلم لو نوى أن يكفر والعياذ
بالله صار كافرا بنيته ترك الاسلام.
قال: "رجل له عشر من الإبل السائمة فحل عليها
حولان فعليه للسنة الأولى شاتان وللسنة
الثانية شاة" ولم يبين في الكتاب أنه هل يأثم
بما صنع فكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله
تعالى يقول هو آثم بتأخير الأداء بعد الوجوب
وهكذا ذكره في المنتقى.
وروي عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال من أخر
أداء الزكاة من غير عذر لم تقبل شهادته وفرق
محمد رحمه الله تعالى على مذهبه بين الزكاة
والحج فقال في الزكاة حق الفقراء وفي تأخير
الأداء إضرار بهم ولا يسعه ذلك بخلاف الحج
وكان أبو عبد الله البلخي يقول يسعه التأخير
في الزكاة لأن الأمر به مطلق عن الوقت وهكذا
رواه هشام عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وفرق
على قوله بين الزكاة وبين الحج وقال أداء الحج
يختص بوقت وفي التأخير عنه تفويت لأنه لا يدري
هل يبقى إلى السنة الثانية أم لا وليس في
تأخير الزكاة تفويت فكل وقت صالح لأدائها ثم
في السنة الأولى وجب عليه شاتان فانتقص
بقدرهما من العشر فلا يلزمه في الثانية إلا
شاة وهذا عندنا. وعلى قول زفر رحمه الله تعالى
يلزمه شاتان للسنة الثانية فإن دين الزكاة
عنده لا يمنع وجوب الزكاة قال لأنه دين وجب
لله تعالى كالنذور والكفارات والفقه فيه أنه
ليس بدين على الحقيقة حتى يسقط بموته قبل
الأداء.
ج / 2 ص -156-
وكان
البلخي يفرق على أصل زفر رحمه الله تعالى بين
دين الزكاة عن الأموال الظاهرة والباطنة فقال
في الأموال الظاهرة للساعي حق المطالبة بها
فكان نظير دين العباد بخلاف الأموال الباطنة
وقيل لأبي يوسف رحمه الله تعالى ما حجتك على
زفر رحمه الله تعالى فقال ما حجتي على رجل
يوجب في مائتي درهم أربعمائة درهم ومراده إذا
ملك مائتي درهم فحال عليها ثمانون حولا.
ثم دين الزكاة عن الأموال الباطنة بمنزلته عن
الأموال الظاهرة فإن المصدق كان يأخذ منها في
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين
من بعده رضي الله عنهما حتى فوض عثمان رضي
الله عنه الأداء إلى أرباب الأموال لما خاف
المشقة والحرج في تفتيش الأموال عليهم من سعاة
السوء فكان ذلك توكيلا منه لصاحب المال
بالأداء فنفذ توكيله لأنه كان عن نظر صحيح وقد
تثبت المطالبة به للمصدق إذا مر بالمال عليه
في سفره فلهذا منع وجوب الزكاة وعن أبي يوسف
رحمه الله أن دين الزكاة عن المال القائم يمنع
وجوب الزكاة وعن المال المستهلك لا يمنع وجوب
الزكاة لأن المال القائم يتصور أن يمر به على
العاشر حتى يثبت له حق الأخذ بخلاف المستهلك.
قال: "وإن كانت الإبل خمسا وعشرين فعليه للحول
الأول بنت مخاض وللحول الثاني أربع شياه لما
بينا".
قال: "رجل له أربع وعشرون فصيلا وناقة مسنة
فعليه فيها بنت مخاض" لأن الصغار تبع للمسنة
تعد معها كما قال صلى الله عليه وسلم:
"وتعد صغارها وكبارها". وهذا لأن ما هو الواجب موجود في ماله فإذا أوجبنا لم يخرج الواجب
من أن يكون جزأ من النصاب بخلاف ما إذا كان
الكل صغارا. فإن كان له خمس وسبعون فصيلا
وناقة مسنة فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله تعالى لا يجب إلا تلك الواحدة لأن الوجوب
باعتبارها وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يجب
تلك الواحدة مع فصيل لأنه يوجب في الصغار منها
وقد بينا هذا.
قال: "رجل له إبل سائمة قد اشتراها للتجارة
فعليه فيها زكاة التجارة عندنا". وقال الشافعي
رحمه الله تعالى فيها زكاة السائمة إلا أن لا
يكون نصاب السائمة تاما فحينئذ عليه زكاة
التجارة إذا كانت القيمة نصابا ولا خلاف في
أنه لا تلزمه الزكاتان جميعا لأن وجوب كل واحد
منهما باعتبار صفة المالية.
ثم قال الشافعي رحمه الله تعالى: زكاة السائمة
أقوى لأن وجوبها باتفاق الأمة والنصوص الظاهرة
والضعيف لا يعارض القوي فإذا أمكن إيجاب زكاة
السائمة لا تظهر زكاة التجارة وفي ترجيح زكاة
السائمة منفعة للفقراء لأن الساعي يأخذها
وزكاة التجارة مفوض أداؤها إلى من وجبت عليه
وربما لا يؤدي وعلماؤنا رحمهم الله تعالى
قالوا: إن بنية
ج / 2 ص -157-
التجارة ينعدم ما هو المقصود بالسوم وما لأجله
أوجب زكاة السائمة لأن النماء في السائمة
مطلوب من عينها وذلك لا يحصل إلا باستبقاء
الملك فيها وبنية التجارة ينعدم هذا فكانت
سائمة صورة لا معنى وهو مال التجارة صورة
ومعنى فترجح زكاة التجارة لهذا وحق الأخذ ثابت
للساعي سواء أوجب فيها زكاة السائمة أو زكاة
التجارة فإنه مال ظاهر يحتاج صاحبه إلى حماية
الإمام وثبوت حق الأخذ باعتبار الحاجة إلى
الحماية بخلاف سائر أموال التجارة حتى إذا
احتاج إلى الحماية فيها بالمرور على العاشر
كان له أن يأخذ الزكاة منها.
قال: "وإن كانت السائمة بين رجل مسلم عاقل
وبين صبي أو مجنون أو كافر فعلى الرجل المسلم
العاقل زكاة نصيبه لو بلغ نصابا ولا شيء على
الآخر" لما بينا أن حالة الاختلاط معتبرة
بحالة الانفراد.
قال: "وإذا ذهب العدو بالسائمة أو غصبها غاصب
ثم رجعت إلى صاحبها بعد سنين فلا زكاة عليه
لما مضى عندنا. وقال زفر رحمه الله تعالى كذلك
في الذي ذهب بها العدو" لأنهم ملكوها بالإحراز
وفي المغصوب المجحود تلزمه الزكاة لما مضى إذا
وصلت إلى يده وقال الشافعي رحمه الله تعالى
يلزمه فيها الزكاة لما مضى إذا وصلت إلى يده
بناء على أصله أنهم لا يملكون أموالنا
بالإحراز.
وجه قولهما: أن وجوب الزكاة في السائمة
باعتبار الملك دون اليد. ألا ترى أن ابن
السبيل تلزمه الزكاة لما مضى إذا وصلت يده إلى
الأموال لقيام ملكه فيها فكذلك في المغصوب فإن
بالغصب تنعدم اليد بالمغصوب منه دون الملك.
وجه قولنا حديث علي رضي الله تعالى موقوفا
عليه ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: لا زكاة في مال الضمار ومعناه مال يتعذر
الوصول إليه مع قيام الملك من قولك بعير ضامر
إذا كان نحيفا مع قيام الحياة فيه.
وأن عمر بن عبد العزيز في خلافته لما أمر برد
أموال بيت المال على أصحابها قيل أفلا نأخذ
منهم زكاتها لما مضى قال لا فإنها كانت ضمارا
والمعنى فيه أن وجوب الزكاة في السائمة كان
باعتبار معنى النماء وقد انسد على صاحبها طريق
يحصل النماء منها بجحود الغاصب إياها فانعدم
ما لأجله كان نصاب الزكاة بخلاف ابن السبيل
فإن النماء يحصل له بيد ثانية كما يحصل بيده
فكان نصاب الزكاة لهذا.
وكذلك الضالة وما سقط منه في البحر من مال
التجارة إذا وصلت يده إليه بعد الحول فليس
عليه الزكاة لما مضى لأن معنى المالية في
النمو والانتفاع وذلك منعدم فكان مستهلكا معنى
وإن كان قائما صورة وكذلك الدين المجحود وأطلق
الجواب فيه في الكتاب وروى هشام عن محمد
رحمهما الله تعالى قال إن كان معلوما للقاضي
فعليه الزكاة لما مضى لتمكنه من الأخذ بعلم
القاضي.
ج / 2 ص -158-
وجه
رواية الكتاب: أنه لا زكاة عليه سواء كانت له
بينة أو لم تكن له بينة إذ ليس كل شاهد يعدل
ولا كل قاض يعدل وفي المحاباة بين يديه في
الخصومة ذل فكان له أن لا يذل نفسه وكثير من
أصحابنا رحمهم الله تعالى قالوا إذا كانت له
عليه بينة تلزمه الزكاة لما مضى لأن التقصير
جاء منه. وروى بن سماعة عن أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى أن المديون إذا كان يقر معه
سرا ويجحد في العلانية فليس عليه الزكاة لما
مضى إذا أخذه بمنزلة الجاحد سرا وعلانية.
قال: وإذا كان النصاب كاملا في أول الحول
وآخره فالزكاة واجبة وإن انتقص فيما بين ذلك
وقتا طويلا ما لم ينقطع أصله من يده ومال
السائمة والتجارة فيه سواء عندنا. وقال زفر
رحمه الله تعالى لا تلزمه الزكاة إلا أن يكون
النصاب من أول الحول إلى آخره كاملا وقال
الشافعي رحمه الله تعالى في السائمة كذلك وفي
مال التجارة قال إنما يعتبر كمال النصاب في
آخر الحول خاصة ولا يعتبر في أوله.
وجه قول زفر رحمه الله تعالى: أن حولان الحول
على المال شرط لوجوب الزكاة وكل جزء من الحول
بمنزلة أوله وآخره؟ ألا ترى أنه لو هلك جميع
النصاب في خلال الحول يجعل كهلاكه في أول
الحول وآخره وكذلك السائمة إذا جعلها حمولة أو
علوفة في وسط الحول انقطع به الحول كما لو فعل
ذلك في أوله وآخره وهذا لأن ما دون النصاب ليس
بمحل لوجوب الزكاة فيه كالعلوفة. وقال الشافعي
رحمه الله تعالى في السائمة كذلك وفي مال
التجارة قال القياس هكذا ولكني أزكيه لأن
النصاب فيها معتبر من القيمة ويشق على صاحب
المال تقويم ماله في كل يوم فلدفع المشقة قلنا
إنما يعتبر كمال النصاب عند وجوب الزكاة وذلك
في آخر الحول.
ولنا: إن اشتراط كمال النصاب ليحصل به صفة
الغنى للمالك والغنى معتبر عند ابتداء الحول
لينعقد الحول على المال وعند كماله لتجب
الزكاة فأما فيما بين ذلك فليس بحال انعقاد
الحول ولا بحال وجوب الزكاة فلا يشترط غنى
المالك فيه إنما هو حال بقاء الحول المنعقد
فلا بد من بقاء شيء من المحل لبقاء الحول فإذا
هلك كله لم يبق شيء من المحل صالحا لبقاء
الحول وكذلك إذا جعلها علوفة أو أعدها
للاستعمال لم يبق شيء من المحل صالحا لبقاء
الحول فأما بعد هلاك البعض فبقي المحل صالحا
لبقاء الحول وهو نظير عقد المضاربة يبقى على
الألف ببقاء بعضها حتى إذا ربح فيها يحصل جميع
رأس المال أولا بخلاف ما إذا هلكت كلها وما
اعتبره الشافعي رحمه الله تعالى من المشقة
صالح لإسقاط اعتبار كمال النصاب في خلال الحول
لا في أوله لأنه لا يشق عليه تقويم ماله عند
ابتداء الحول ليعرف به انعقاد الحول كما لا
يشق عليه ذلك في آخر الحول ليعرف به وجوب
الزكاة في ماله.
ج / 2 ص -159-
قال:
"ويحتسب على الرجل في سائمته العمياء والعجفاء
والصغيرة وما أشبهها ولا يؤخذ شيء منها" لأن
المعتبر فيها كمال النصاب من حيث العدد وذلك
حاصل بالكل والأصل فيه حديث عمر رضي الله عنه
فإن الناس شكوا إليه من السعاة فقالوا إنهم
يعدون علينا السخال ولا يأخذونها، فقال عمر
رضي الله عنه للساعي عد عليهم السخلة وإن جاء
بها الراعي يحملها على كتفه ألسنا تركنا لكم
الربى والأكيلة والماخض وفحل الغنم وذلك عدل
بين خيار المال ورذاله.
فبقول عمر رضي الله عنه أخذنا وقلنا لا تؤخذ
الربى وهي التي تربي ولدها ولا الأكيلة وهي
التي تسمن للأكل. قال يونس رحمه الله تعالى هي
الأكولة وأما الأكيلة فهي التي تكثر تناول
العلف ولكن في عادة العوام أنهم يسمون التي
تسمن للأكل الأكيلة ومقصود محمد رحمه الله
تعالى تعليم العوم فاختار ما كان معروفا في
لغتهم ليكون أقرب إلى أفهامهم مع ما فيه من
اتباع الأثر إلا أن يشكل عليه هذه اللغة
والماخض هي التي في بطنها ولد وفحل الغنم ظاهر
لا يؤخذ من ذلك شيء لأنها من أعز الأموال عند
أرباب المواشي. وقال صلى الله عليه وسلم:
"إياكم وكرائم أموال الناس". ثم كما نظرنا
لأرباب الأموال في ترك الأخذ من الكرائم نظرنا
للفقراء في ترك الأخذ من الصغار والعجاف مع
عدها عليهم ليعتدل النظر من الجانبين.
قال: "وإذا وجبت الصدقة في السائمة ثم باعها
صاحبها جاز بيعه عندنا" ولم يجز في قدر الزكاة
عند الشافعي رحمه الله تعالى قولا واحدا وله
فيما وراء ذلك قولان. وحجته أن نصاب الزكاة
صار مشغولا بحق الفقراء فيمتنع على صاحبها
بيعها كالعبد المديون والنصاب لوجوب الزكاة
فيه يصير كالمرهون بما وجب فيه وبيع المرهون
لا يجوز.
وعلماؤنا رحمهم الله تعالى استدلوا بحديث حكيم
بن حزام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم دفع إليه دينارا وأمره أن يشتري به
أضحية فاشترى شاة بالدينار ثم باعها بدينارين
فاشترى شاة أخرى بدينار وجاء بالشاة والدينار
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
"بارك الله لك في صفقتك". فقد جوز بيع الأضحية بعد ما وجب حق الله تعالى فيها فصار هذا أصلا
لنا أن تعلق حق الله تعالى في المال لا يمنع
جواز البيع فيه والمعنى أن البيع يعتمد الملك
والقدرة على التسليم وملكه باق بعد وجوب
الزكاة فيها وقدرته على التسليم باعتبار يده
ولم يختل ذلك بوجوب الزكاة فيه فكان بيعه
نافذا بخلاف المرهون فإن اليد هناك مستحقة
عليه للمرتهن فلم يكن مقدور التسليم له بخلاف
العبد المديون فإن ماليته مستحقة عليه للغريم
بدينه وجواز البيع باعتبار المالية ثم الزكاة
في المال لا تتعلق بالمال تعلقا يتعين فيه حتى
أن لصاحب المال اختيار الأداء من موضع آخر فهو
نظير تعلق حق أولياء الجناية برقبة الجاني
وذلك لا يمنع صحة بيع المولى فيه كما قلنا
فكذلك هذا.
ج / 2 ص -160-
قال:
"وإذا حضر المصدق بعد البيع فالقياس أن يأخذ
الصدقة من البائع ولا سبيل له على عين
السائمة" لأنها صارت مملوكة للمشتري ولا زكاة
عليه ولكن البائع صار متلفا محل حق الفقراء
فيضمنه ولكن استحسن فقال إن حضر المصدق قبل أن
يتفرقا عن المجلس فله الخيار إن شاء أخذ
الصدقة من العين ورجع المشتري على البائع
بحصته من الثمن وإن شاء أخذ من البائع وإن حضر
بعد التفرق أخذ الصدقة من البائع ولا سبيل له
على العين وهذا لأن العلماء رحمهم الله تعالى
اختلفوا في زوال الملك قبل التفرق وظاهر قوله
صلى الله عليه وسلم:
"البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا"، يدل على
عدم زوال ملك البائع والساعي مجتهد فإن شاء
اعتبر ظاهر الحديث وأخذ الصدقة من العين وإن
شاء اعتمد القياس الظاهر أن عقد البيع يوجب
زوال الملك بنفسه وأخذ الصدقة من البائع.
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى: أن
العبرة بنقل الماشية فإن حضر بعد ما نقلها
المشتري لم يأخذ شيئا وإن حضر قبل أن ينقلها
يخير لأنها إنما تصير داخلة في ضمان المشتري
حقيقة بالنقل حتى إذا هلكت قبل النقل ثم
استحقت لم يضمن المشتري شيئا بخلاف ما بعد
النقل وهذا بخلاف العشر فإن صاحب الطعام إذا
باعه ثم حضر المصدق فله أن يأخذ العشر من
العين تفرقا أو لم يتفرقا نقله المشتري أو لم
ينقله لأن الواجب عشر الطعام بعينه ولا معتبر
بالملك فيه وفي الزكاة الوجوب على المالك حتى
لا تجب إلا باعتبار المالك فلهذا افترقا.
قال: "وإذا نفقت السائمة كلها بعد حؤول الحول
عليها سقطت الزكاة عنها" وقال الشافعي رحمه
الله تعالى إن هلكت بعد التمكن من الأداء ضمن
صاحبها الزكاة فأما قبل التمكن فلا ضمان وله
قولان في وجوب الزكاة قبل التمكن من الأداء.
قال في كتاب الأم: لا تجب الزكاة إلا بثلاث
شرائط كمال النصاب وحولان الحول والتمكن من
الأداء. وقال في الإملاء: التمكن شرط الضمان
لا شرط وجوب الزكاة. وحجته أن هذا حق مالي وجب
بإيجاب الله تعالى، فلا يسقط بهلاك المال بعد
التمكن من الأداء كصدقة الفطر واستدل بالحج
فإنه إن كان موسرا وقت خروج القافلة من بلده
ثم هلك ماله لا يسقط عنه الحج ولأن أكثر ما في
الباب أن قدر الزكاة أمانة في يده وهو مطالب
شرعا بالأداء بعد التمكن منه فإذا امتنع بعد
توجه المطالبة عليه صار ضامنا كسائر الأمانات
والخلاف ثابت فيما إذا طالبه الفقير بالأداء
والحق ثابت للفقير فإذا امتنع بعد وجوب الطلب
ممن له الحق صار ضامنا.
وحجتنا فيه: أن محل الزكاة هو النصاب والحق لا
يبقى بعد فوات محله كالعبد الجاني أو المديون
إذا مات والشقص الذي فيه الشفعة إذا صار بحرا
بطل حق الشفيع ولا يجوز أن يصير ضامنا لأن
وجوب الضمان بتفويت ملك أو يد كسائر الضمانات
وهو بهذا
ج / 2 ص -161-
التأخير ما فوت على الفقير يدا ولا ملكا فلا
يصير ضامنا له شرعا بخلاف صدقة الفطر والحج
فإن محل الوجوب هناك ذمته لا ماله وذمته باقية
بعد هلاك المال ولأن وجوب الزكاة لمواساة
الفقراء وبعد هلاك المال استحق المواساة معهم
فلا يلزمه أن يواسي غيره.
والواجب قليل من كثير على وجه لا يكون أداؤه
ملحقا الضرر به ولهذا اختص بالمال النامي حتى
ينجبر بالنماء ما يلحقه من الخسران بالأداء
وهذا لا يتحقق بعد هلاك المال فلو استوفى كان
المستوفى غير ما وجب وذلك لا يجوز بخلاف صدقة
الفطر والحج فإن المال هناك شرط الوجوب لا شرط
الأداء فإذا تقرر الوجوب في ذمته لم يسقط
بهلاك ماله أما إذا طالبه الفقير فهذا الفقير
ما تعين مستحقا له وله رأي في الصرف إلى من
شاء من الفقراء وإنما امتنع من الأداء إليه
ليصرفه إلى من هو أحوج منه. فإن طالبه الساعي
وامتنع من الأداء إليه حتى هلك المال
فالعراقيون من أصحابنا رحمهم الله تعالى
يقولون يصير ضامنا لأن الساعي متعين للأخذ
فيلزمه الأداء عند طلبه وبالامتناع يصير
مفوتا. ومشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون لا
يصير ضامنا وهو الأصح فقد قال في الكتاب إذا
حبسها بعد ما وجبت الزكاة حتى ماتت لم يضمنها
وليس مراده بهذا الحبس أنه يمنعها العلف
والماء فإن ذلك استهلاك وبه يصير ضامنا إنما
مراده بهذا الحبس بعد طلب الساعي. والوجه فيه:
أنه ما فوت بهذا الحبس على أحد ملكا ولا يدا
فلا يصير ضامنا وله رأي في اختيار محل الأداء
إن شاء من السائمة وإن شاء من غيرها فإنما حبس
السائمة ليؤدي من محل آخر فلا يصير ضامنا فإن
هلك نصفها فعليه في الباقي حصته من الزكاة إذا
لم يكن في المال فضل على النصاب ولا خلاف فيه
والبعض معتبر بالكل فكما أنه إذا هلك النصاب
كله سقط جميع الزكاة فكذلك إذا هلك البعض يسقط
بقدره.
فإن قيل: ما هو شرط الوجوب وهو ملك المال
جعلتموه شرط الأداء فكذلك كمال النصاب شرط
الوجوب فينبغي أن يجعل شرط الأداء حتى لا
يلزمه أداء شيء إذا انتقص النصاب.
قلنا: كمال النصاب ليس بشرط الوجوب لعينه ولكن
لحصول الغني للمالك به وغني المالك إنما يعتبر
وقت الوجوب فإن الغني ليس شرطا لتحقق أداء
الصدقة.
قال: "وإن كان المال مشتملا على النصاب والوقص
فهلك منه شيء، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى: يجعل الهالك من الوقص دون
النصاب حتى لا يسقط شيء من الزكاة إذا لم ينقص
من النصاب" ومحمد وزفر رحمهما الله تعالى
يجعلان الهالك من الكل حتى إذا كان له تسع من
الإبل فحال الحول فهلك منها أربع فعليه في
الباقي شاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند
محمد وزفر رحمهم الله تعالى في الباقي خمسة
اتساع شاة. حجتهما قوله صلى الله عليه وسلم:
"في خمس من الإبل السائمة شاة"، إلى تسع أخبر أن الوجوب في الكل والمعنى يشهد له فإن المال النامي
لا يخلو عن الزكاة وما زاد على النصاب مال نام
ج / 2 ص -162-
لا يجب
بسببه زيادة فعرفنا أن الوجوب في الكل وهو
نظير ما لو شهد له ثلاثة نفر بحق فقضى به
القاضي فإن القضاء يكون بشهادة الكل وإن كان
القاضي يستغني عن الثالث وإذا ثبت أن الوجوب
في الكل فما هلك يهلك بزكاته وما بقي يبقى
بزكاته كالمال المشترك.
وأبو حنيفة وأبو يوسف، رحمهما الله تعالى
استدلا بحديث عمرو بن حزم رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"في خمس من الإبل السائمة شاة"،
وليس في الزيادة شيء حتى يكون عشرا فهذا تنصيص
على أن الواجب في النصاب دون الوقص. والمعنى
فيه أن الوقص تبع للنصاب والنصاب باسمه وحكمه
يستغني عن الوقص والوقص لا يستغني باسمه وحكمه
عن النصاب والمال متى اشتمل على أصل وتبع فإذا
هلك منه شيء يصرف الهلاك إلى التبع دون الأصل
كمال المضاربة إذا كان فيها ربح فهلك شيء منها
يصرف الهلاك إلى الربح دون رأس المال فكذا
هذا.
ثم الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن
أول النصاب يجعل أصلا وما بعده بناء وتبعا
فيجعل الهلاك فيما زاد على أول النصاب كأنه لم
يكن في ملكه إلا أول النصاب وعند أبي يوسف
رحمه الله تعالى هو كذلك ما لم يأت نصاب آخر
فإذا أتى نصاب آخر فحينئذ يجعل آخر النصاب
أصلا. وبيانه: أن من له خمس وثلاثون من الإبل
فحال الحول ثم هلك خمسة عشر فعند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى في الباقي أربع شياه وما هلك
صار كان لم يكن وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى
في الباقي أربعة أخماس بنت مخاض لأنه يجعل آخر
النصاب أصلا والهالك فيما زاد عليه يصير كأن
لم يكن وعند محمد رحمه الله تعالى في الباقي
أربعة أسباع بنت مخاض لأن بنت المخاض واجبة في
الكل عنده فيسقط حصة ما هلك ويبقى حصة ما بقي.
قال: "وتعجيل الزكاة عن المال الكامل الموجود
في ملكه من سائمة أو غيرها جائز عن سنة أو
سنتين أو أكثر من ذلك" والكلام في هذه المسألة
في فصول:
أحدها: في جواز التعجيل. فإن
مالكا رحمه الله تعالى لا يجوز التعجيل أصلا
ويعتبر العبادة المالية بالعبادة البدنية
ويقول أداء الزكاة إسقاط الواجب عن ذمته فلا
يتصور قبل الوجوب.
ولنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
استسلف من العباس صدقة عامين ثم بكمال النصاب
حصل الوجوب على أحد الطريقين لاجتماع شرائط
الزكاة من النصاب النامي وغنى المالك وحولان
الحول تأجيل وتعجيل الدين المؤجل صحيح.
وعلى الطريق الآخر أن سبب الوجوب قد تقرر وهو
المال والأداء بعد تقرر سبب الوجوب جائز
كالمسافر إذا صام في رمضان والرجل إذا صلى في
أول الوقت جاز لوجود سبب الوجوب وإن كان
الوجوب متأخرا أو لأن تأخر الوجوب لتحقق
النماء فإذا تحقق.
ج / 2 ص -163-
استند
إلى أول السنة فكان التعجيل صحيحا ولهذا قلنا
أن تعجيل الزكاة قبل كمال النصاب لا يجوز لأن
سبب الوجوب لا يتحقق إلا بعد كمال النصاب وبعد
كمال النصاب يجوز التعجيل لسنتين عندنا. وقال
الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز إلا لسنة
واحدة فإن التعجيل عنده على آخر الحول لا على
أوله قال ألا ترى أن التعجيل قبل كمال النصاب
لا يجوز لأن الحول غير منعقد عليه فكذلك الحول
الثاني بعد كمال النصاب.
ولنا: حديث العباس رضي الله عنه والمعنى فيه
أن ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة في كل حول ما
لم ينتقص عنه وجواز التعجيل باعتبار تمام
السبب وفي ذلك الحول الثاني كالحول الأول
بخلاف ما قبل كمال النصاب. ثم بعد كمال النصاب
يجوز التعجيل عن النصب عندنا وعلى قول زفر
رحمه الله لا يجوز التعجيل إلا عن النصاب
الموجود في ملكه حتى إذا كان له خمس من الإبل
فعجل أربع شياه ثم تم الحول وفي ملكه عشرون من
الإبل عندنا يجوز التعجيل عن الكل وعند زفر
رحمه الله تعالى لا يجوز إلا عن زكاة الخمس
قال لأن جواز التعجيل بعد وجود ملك المال
بدليل النصاب الأول.
وحجتنا فيه: أن ملك النصاب كما هو سبب لوجوب
الزكاة فيه عند كمال الحول فهو سبب لوجوب
الزكاة فيه في نصب يملكها عند كمال الحول فإذا
جعل الملك الحاصل في خلال الحول كالموجود في
أوله في وجوب الزكاة فكذلك في جواز التعجيل
يجعل المستفاد في خلال الحول كالموجود في
أوله. وإذا لم يجب عليه الزكاة عند كمال الحول
لهلاك ماله فليس له أن يسترد من الفقير ما
أداه إليه عندنا. وقال الشافعي رحمه الله
تعالى له أن يسترد المال من الفقراء الذين دفع
إليهم إن بين له أنه يعطي معجلا وإن أطلق عند
الأداء لم يكن له أن يرجع عليه وقال إذا بين
له أنه يعطيه ما يستحقه عليه بوجوب الزكاة
فإذا لم يثبت الاستحقاق كان له أن يرجع عليه
كمن قضى دين إنسان ثم انفسخ السبب الموجب
للدين.
ولنا: أن المتصدق يجعل ما يؤديه لله تعالى
خالصا ثم يصرفه إلى الفقراء ليكون كفاية لهم
من الله تعالى وقد تم ذلك بالوصول إلى يد
الفقير فلا يرجع عليه بشيء بل إن وجبت الزكاة
كان مؤديا للواجب وإن لم تجب كان متنفلا كما
لو أطلق الأداء.
قال: "وينظر في السائمة إلى كمال النصاب فتجب
الزكاة فيه وإن كانت قيمتها ناقصة عن مائتي
درهم وينظر إلى قيمتها إن أراد بها التجارة
فإن كانت أقل من مائتي درهم لم تجب الزكاة وإن
كان العدد كاملا" لأن النبي صلى الله عليه
وسلم اعتبر في السائمة كمال العدد دون القيمة
ولأن النماء في السائمة مطلوب من عينها وفي
مال التجارة إنما يطلب النماء من ماليتها
فاعتبرنا النصاب في الموضعين من حيث يطلب
النماء فإذا كانت قيمتها أقل من مائتي درهم لم
تجب فيها زكاة التجارة لنقصان النصاب ولا زكاة
السائمة وإن كان العدد كاملا لأن النصاب فيها
غير معتبر من حيث العدد.
ج / 2 ص -164-
فإن
قيل: إذا لم تجب فيها زكاة التجارة صار وجود
نية التجارة كعدمها فتجب زكاة السائمة.
قلنا: نية التجارة معتبرة في إخراجها من أن
تكون سائمة معنى على ما بينا والصورة بدون
المعنى لا تكفي لإيجاب الزكاة.
قال: "وإذا اشترى الإبل للتجارة فلما مضت
طائفة من الحول بدا له فجعلها سائمة فرارا من
الصدقة فلا زكاة عليه حتى يحول عليها الحول من
حين جعلها سائمة" لأنه نوى ترك التجارة فيها
وهو تارك لها في ذلك الوقت حقيقة فاقترنت
النية بالفعل وزكاة السائمة ليست من جنس زكاة
التجارة فلا يمكن بناء أحدهما على الآخر فقلنا
باستئناف الحول من حين جعلها سائمة.
قال: "ويؤخذ من بني تغلب صدقة سائمتهم ضعف ما
يؤخذ من المسلم إذا بلغت مقدار ما يجب في مثله
الصدقة على المسلم" وبنو تغلب قوم من النصارى
من العرب كانوا بقرب الروم فلما أراد عمر رضي
الله عنه أن يوظف عليهم الجزية أبوا وقالوا
نحن من العرب نأنف من أداء الجزية فإن وظفت
علينا الجزية لحقنا بأعدائك من الروم وإن رأيت
أن تأخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض وتضعفه
علينا فعلنا ذلك فشاور عمر رضي الله عنه
الصحابة في ذلك وكان الذي يسعى بينه وبينهم
كردوس التغلبي فقال يا أمير المؤمنين صالحهم
فإنك إن تناجزهم لم تطقهم فصالحهم عمر رضي
الله عنه على أن يأخذ منهم ضعف ما يؤخذ من
المسلمين ولم يتعرض لهذا الصلح بعده عثمان رضي
الله عنه فلزم أول الأمة وآخرها.
فإن قيل: أليس أن عليا رضي الله عنه أراد أن
ينقض صلحهم حين رآهم قلوا وذلوا؟
قلنا: قد شاور الصحابة رضي الله عنهم في ذلك
ثم اتفق معهم على أنه ليس لأحد أن ينقض هذا
الصلح.
وذكر محمد رحمه الله تعالى في النوادر أن
صلحهم في الابتداء كان ضغطة ولكن تأيد
بالإجماع وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن ملكا ينطق على لسان عمر رضي الله عنه"، وقال:
"أينما دار عمر رضي الله عنه فالحق يدور معه".
إذا عرفنا هذا فنقول لا يؤخذ من المسلم مما
دون النصاب شيء فكذلك منهم ويؤخذ من النصاب من
المسلم ما قدره الشرع في كل مال فيؤخذ منهم
ضعف ذلك لأن الصلح وقع على هذا ويؤخذ من
نسائهم مثل ما يؤخذ من رجالهم. وروى الحسن بن
زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنها لا
تؤخذ من نسائهم قال لأنها بدل عن الجزية ولا
جزية على النساء.
وجه ظاهر الرواية أن هذا مال الصلح والنساء
فيه كالرجال. قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ،
رضي الله تعالى عنه:
"خذ من كل حالم وحالمة دينارا أو عدله
معافرية"، وهو نظير الدية على العاقلة لا شيء منها على النساء فإن صالحت
امرأة عن قصاص على مال أخذت به وهذا لأن
الوفاء
ج / 2 ص -165-
بالعهد
واجب من الجانبين والعهد على أن يضعف عليهم ما
يؤخذ من المسلمين والصدقة تؤخذ من المسلمات
كما تؤخذ من الرجال فكذلك في حقهم.
ولا يؤخذ من صبيانهم شيء لأنه لا تؤخذ الصدقة
من سوائم الصبيان من المسلمين فكذلك منهم. أما
مواليهم فلا تؤخذ منهم الصدقة ولكن توضع على
رؤوسهم الجزية بمنزلة سائر الكفار فإن ظاهر
قوله تعالى:
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: 29] يتناول كل كافر إلا أنه خص من هذا الظاهر بنو تغلب
باتفاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم وإنما
يتناول هذا الاسم من كان منهم نسبا لا ولاءا
فبقيت مواليهم على حكم ظاهر الآية.
فإن قيل: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"مولى القوم من أنفسهم"؟.
قلنا: المراد مولى بني هاشم في حرمة الصدقة
عليهم كرامة لهم. ألا ترى أن موالي بني تغلب
لا يكونون أعلى حالا من موالي المسلمين ومولى
المسلمين إذا كان ذميا توضع عليه الجزية فمولى
التغلبي أولى.
قال: "وما أخذ من صدقات بني تغلب يوضع موضع
الجزية" لأن عمر رضي الله تعالى عنه لما
صالحهم قال هذه جزية فسموها ما شئتم معناه
جزية في حقنا فنضعه موضع الجزية ولأنه ليس
بصدقة حقيقية لأن الصدقة اسم لما يتقرب به إلى
الله عز وجل وهو ليس بأهل لهذا التقرب وهو
جزية معنى فالجزية اسم لمال مأخوذ بسبب الكفر
على وجه العقوبة والتضعيف عليهم بهذه الصفة
حتى يسقط إذا أسلموا فلهذا يوضع موضع الجزية.
قال: "وإذا ظهر الخوارج على بلد من بلاد أهل
العدل فأخذوا منهم صدقة أموالهم ثم ظهر عليهم
الإمام لم يأخذ منهم ثانيا" لأنه عجز عن
حمايتهم والجباية تكون بسبب الحماية وهذا
بخلاف التاجر إذا مر على عاشر أهل البغي فعشره
ثم مر على عاشر أهل العدل يعشره ثانيا لأن
صاحب المال هو الذي عرض ماله حين مر به عليه
فلم يعذر وهناك صاحب المال لم يصنع شيئا ولكن
الإمام عجز عن حمايته فلهذا لا يأخذ ولكن يفتي
فيما بينه وبين الله تعالى بالأداء ثانية
لأنهم لا يأخذون أموالنا على طريق الصدقة بل
على طريق الاستحلال ولا يصرفونها إلى مصارف
الصدقة فينبغي لصاحب المال أن يؤدي ما وجب
عليه لله تعالى فإنما أخذوا منه شيئا ظلما
وكذلك إن أخذوا من أهل الذمة في ذلك البلد
خراج رؤوسهم لم يأخذهم الإمام بما مضى لعجزه
عن حمايتهم.
فأما ما يأخذ سلاطين زماننا هؤلاء الظلمة من
الصدقات والعشور والخراج والجزية فلم يتعرض له
محمد رحمه الله تعالى في الكتاب وكثير من أئمة
بلخ يفتون بالأداء ثانيا فيما بينه وبين الله
تعالى كما في حق أهل البغي لعلمنا أنهم لا
يصرفون المأخوذ مصارف الصدقة وكان أبو بكر
الأعمش يقول في الصدقات يفتون بالإعادة فأما
في الخراج فلا لأن الحق في الخراج للمقاتلة
وهم المقاتلة حتى إذا ظهر عدو ذبوا عن دار
الإسلام. فأما
ج / 2 ص -166-
الصدقات فللفقراء والمساكين وهم لا يصرفون إلى
هذه المصارف والأصح أنه يسقط ذلك عن جميع
أرباب الأموال إذا نووا بالدفع التصدق عليهم
لأن ما في أيديهم من أموال المسلمين وما عليهم
من التبعات فوق مالهم فلو ردوا ما عليهم لم
يبق في أيديهم شيء فهم بمنزلة الفقراء حتى قال
محمد بن سلمة يجوز أخذ الصدقة لعلي بن عيسى بن
يونس بن ماهان وإلي خراسان وكان أميرا ببلخ
وجب عليه كفارة يمين فسأل عنها الفقهاء عما
يكفر به فأفتوه بصيام ثلاثة أيام فجعل يبكي
ويقول لحشمه أنهم يقولون لي ما عليك من
التبعات فوق مالك من المال وكفارتك كفارة يمين
من لا يملك شيئا وكذلك ما يؤخذ من الرجل من
الجبايات إذا نوى عند الدفع أن يكون ذلك من
عشره وزكاته جاز على الطريق الذي قلنا.
قال: "وتقسم صدقة كل بلد على فقراء بلادهم ولا
يخرج إلى غيرهم" لقوله صلى الله عليه وسلم
لمعاذ، رضي الله تعالى عنه:
"خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم". ولأن لفقراء تلك البلدة حق القرب والمجاورة واطلاعهم على أرباب
أموالهم أكثر فالصرف إليهم أولى لقوله صلى
الله عليه وسلم:
"أدناك فادناك".
ولما سأله رجل فقال: إن لي جارين
أيهما أبر؟ فقال: "إلى أقربهما منك بابا"
وإن أخرجها إلى غيرهم جاز، وهو مكروه.
وللشافعي رحمه الله تعالى قول أنه لا يجوز
لحديث معاذ رضي الله تعالى عنه من نقل عشره
وصدقته من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته
فعشره وصدقته في مخلاف عشيرته أي مردودة
عليهم.
ولنا: ظاهر قوله تعالى:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}[التوبة:
60] وتخصيص فقراء البلدة ليس لمعنى في أعيانهم
فلا يمنع جواز الصرف إلى غيرهم لأن ما هو
المقصود وهو سد خلة المحتاج قد حصل وقول معاذ
رضي الله تعالى عنه محمول على بيان الأولى.
ألا ترى أنه حين كان باليمن كان ينقل الصدقة
إلى المدينة على ما قال في خطبته وأنفع لمن في
المدينة من المهاجرين والأنصار وإنما كان ينقل
إلى المدينة لأن فقراءها كانوا أشرف الفقراء
حيث هجروا أوطانهم وهاجروا لنصرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتعلم أحكام الدين. وعلى
هذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه إذا
كان لصاحب المال قرابة محتاجون في بلدة أخرى
فلا بأس بأن يصرف الصدقة إليهم وهو أفضل له
لما فيه من صلة الرحم مع إسقاط الفرض عن نفسه.
قال: "ومن كان في عسكر الخوارج سنين فلم يؤد
صدقة ماله ثم تاب لم يؤخذ بها" لأنه لم يكن
تحت حماية الإمام حين وجبت عليه فحكمه كان لا
يجري عليه وعليه أن يؤدي فيما بينه وبين الله
تعالى، لأن الحق قد لزمه بتقرر سببه فلا يسقط
عنه إلا بالأداء وصارت الأموال الظاهرة في حقه
حين لم يثبت للإمام حق الأخذ منها كالأموال
الباطنة.
قال: "والعاشر يأخذ الصدقة من رسول أهل البغي
إذا مر عليه كما يأخذها من المسلم" لأن أهل
البغي مسلمون كما قال الله تعالى:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إلى قوله:
{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى}[الحجرات: 9]. وقال علي رضي الله عنه إخواننا بغوا علينا،
ج / 2 ص -167-
وإنما
يأخذ من سائر المسلمين ما لزمهم من الزكاة من
المال الممرور به عليه فكذلك من أهل البغي.
قال: "ومن أسلم في دار الحرب وأقام في تلك
الدار سنين فإن عرف وجوب الزكاة عليه فلم
يؤدها ثم خرج إلينا لم يؤخذ بها" لأنه لم يكن
تحت حماية الإمام في ذلك الوقت ولكنه يفتي
بأدائها فيما بينه وبين الله تعالى وإذا لم
يعلم بوجوب الزكاة عليه فليس عليه أداؤها إلا
على قول زفر رحمه الله تعالى والقياس ما قاله
لأنه بقبول الإسلام صار قابلا لأحكامه وجهله
عذر في دفع المأثم لا في إسقاط الواجب بعد
تقرر سببه ولكنا استحسنا وقلنا توجه خطاب
الشرع يتوقف على البلوغ إليه. ألا ترى أن أهل
قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعد تحول
القبلة إلى الكعبة وجوز لهم ذلك لأنه لم
يبلغهم وهذا لأن التكليف بحسب الوسع ولا وسع
في حق العمل به قبل البلوغ إليه فصار كأن
الخطاب غير نازل في حقه وهذا لأن الخطاب غير
شائع في دار الحرب لأن أحكام الإسلام غير
شائعة في دار الحرب لقيام الشيوع مقام الوصول
إليه.
قال: "وإذا حلف الرجل أنه قد أدى صدقة ماله
إلى المصدق الذي كان في تلك السنة فكف عنه
المصدق ثم اطلع على كذبه بعد سنين أخذه بتلك
الصدقة" لأن السبب المثبت لحق الأخذ له قد
تقرر فلا يسقط باليمين الكاذبة كسائر حقوق
العباد والتأخير ليس بمسقط حق الأخذ بعد ثبوته
فلهذا أخذه بالصدقة والله أعلم.
باب زكاة الغنم
قال: رحمه الله تعالى "الأصل في وجوب الزكاة
في الغنم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من صاحب
غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها يوم القيامة
بقاع قرقر تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها" وقال صلى الله عليه وسلم:
"لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى عاتقه شاة تيعر يقول يا محمد يا
محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا ألا قد
بلغت". إذا عرفنا هذا فنقول ليس في أقل من أربعين من الغنم السائمة صدقة
فإذا كانت أربعين ففيها شاة إلى مائة وعشرين
فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين فإذا
زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة ثم
ليس في الزيادة شيء إلى أربعمائة فبعد ذلك في
كل مائة شاة. وقال الحسن بن حي رحمه الله
تعالى إذا زادت على ثلاثمائة ففيها أربع شياه
وفي أربعمائة خمس شياه "وحجتنا" حديث أنس رضي
الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب
كتاب الصدقات الذي كتبه له رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وفيه:
"وفي أربعين من الغنم شاة وفي مائة وواحدة
وعشرين شاتان وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه إلى
أربعمائة ففيها أربع شياه".
وقد بينا أن طريق معرفة النصب لا تكون بالرأي
والاجتهاد بل بالنص.
ج / 2 ص -168-
قال:
"ولا تؤخذ الجذعة من الغنم في الصدقة وإنما
يؤخذ الثنى فصاعدا" والجذعة هي التي تم لها
حول واحد وطعنت في الثانية والثنى الذي تم له
سنتان وطعن في الثالثة. وروى الحسن عن أبي
حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يؤخذ من المعز
إلا الثنى فأما من الضأن فتؤخذ الجذعة وهو قول
أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهو الذي
ذكره الطحاوي في مختصره قال ولا يؤخذ في زكاة
الغنم إلا ما يجزى في الضحايا.
وجه تلك الرواية قوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما حقنا في الجذعة والثنى". ولأن الجذعة من الضأن تجزى في الضحايا وهي أدعى للشروط من الأخذ
في الزكاة فجواز التضحية بها يدل على أخذها في
الزكاة بطريق الأولى. وجه ظاهر الرواية حديث
علي رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤخذ في
الزكاة إلا الثنى فصاعدا ثم ما دون الثنى قاصر
في نفسه ألا ترى أنه لا يجوز أخذه من المعز
ولا يؤخذ في الزكاة إلا البالغ كما لا يؤخذ من
المعز ما دون الثنى وكذلك في الضأن وهو القياس
في الأضحية أيضا ولكن ترك لنص خاص ورد فيه
وذلك إذا كان سمينا لو اختلط بالثنيات لا يمكن
تمييزه قبل التأمل ومثل هذا يقارب الثنى فيما
هو المقصود بإراقة الدم وهنا ما دون الثنى لا
يقارب الثنى فيما هو المقصود بإراقة الدم من
كل وجه فإن منفعة النسل لا تحصل به.
قال: "ويجوز في زكاة الغنم أخذ الذكور والإناث
عندنا" وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يؤخذ
الذكر إلا إذا كان النصاب كله ذكورا لأن منفعة
النسل لا تحصل به ويجوز في زكاة الذكور لأن
الواجب جزء من النصاب.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"في أربعين شاة شاة". واسم
الشاة يتناول الذكر والأنثى جميعا بالدليل
الموجب فيه.
قال: "فإن اختلط المعز بالضأن فلا خلاف أن
نصاب البعض يكمل بالبعض ثم لا يؤخذ إلا الوسط
عندنا" وذلك الأدون من الأرفع والأرفع من
الأدون ذكره في المنتقى وكذلك في البقر مع
الجواميس وللشافعي فيه قولان في أحدهما يقول
يؤخذ من جنس الأغلب منهما لأن المغلوب لا يظهر
في مقابلة الغالب وفي القول الآخر تقوم واحدة
من الأرفع والأخرى من الأدون ثم ينظر إلى نصف
القيمتين فيؤخذ واحدة بتلك القيمة قال وهو
العدل وبه يتم النظر من الجانبين.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تأخذوا من حزرات أموال الناس وخذوا من
حواشي أموالهم". والأخذ من الحواشي فيما قلنا.
قال: "والمتولد من الظبي والغنم يكون نصابا
إذا كانت الأم نعجة وكذلك المتولد من البقر
الوحشي والبقر الأهلي عندنا العبرة للأم وعند
الشافعي رحمه الله تعالى لا تجب فيه الزكاة"
لأنه تجاذبه جانبان أحدهما يوجب والآخر لا
يوجب والأصل عدم الوجوب،
ج / 2 ص -169-
والوجوب بالشك لا يثبت ولكنا نقول المتولد من
جنس الأم يشبهها عادة ويتبعها في الحكم حتى
يكون لمالك الأم وحتى يتبع الولد الأم في الرق
والحرية وهذا لما عرف أن ماء الفحل يصير
مستهلكا بمائها فالولد يكون منها.
قال: "رجل تزوج امرأة على غنم سائمة ودفعها
إليها وحال الحول ثم طلقها قبل الدخول بها
فعليها زكاة النصف ولا شيء على الزوج" لأنه لم
يكن مالكا لها في الحول إنما عادت إليه بعده
وأما المرأة فكانت مالكة للكل فكان النصاب
كاملا فوجب عليها الزكاة ثم استحق البعض من
يدها بسبب حادث بعد الحول فعليها الزكاة فيما
بقي كما لو نقص النصاب فإن كان لم يدفعها
إليها حتى حال الحول ثم طلقها قبل أن يدخل بها
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر لا زكاة
عليها وفي قوله الأول عليها الزكاة في نصيبها
إذا قبضت وكان نصابا تاما فإن كان دون ذلك فلا
زكاة عليها وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى عليها الزكاة في نصيبها سواء كان
نصابا أو دونه بعد أن كان الكل نصابا.
قد بينا هذا في زكاة الإبل وأوضحه في الكتاب
بما لو كان الصداق عبدا للخدمة فمر يوم الفطر
وهو عندها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فعليها
صدقة الفطر ولو كان عند الزوج حين مر يوم
الفطر ثم طلقها قبل أن يدخل بها فليس على واحد
منهما صدقة الفطر عنه قيل هذا قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى أما عندهما فينبغي أن تجب
عليها صدقة الفطر وما قبل القبض كما بعده في
حكم الزكاة والأصح أنه قولهم جميعا وهما فرقا
وقالا صدقة الفطر تعتمد الولاية التامة لا
مجرد الملك وذلك لا يحصل بدون اليد بخلاف
الزكاة فإنها وظيفة الملك وملكها في الصداق
قبل القبض تام بدليل أنها تتصرف كيف شاءت.
قال: "رجل له مائتا درهم وعليه مثلها دين وله
أربعون من الغنم سائمة فحال الحول فعليه
الزكاة في الغنم" لأن الدين يصرف إلى الدراهم
فإنه مخلوق للتقلب والتصرف معد له فأما
السائمة فمعدة لاستبقاء الملك فيها وهذا إذا
حضره المصدق فإن لم يحضره فالخيار لرب المال
إن شاء صرف الدين إلى السائمة وأدى الزكاة من
الدراهم وإن شاء صرف الدين إلى الدراهم وأدى
الزكاة من السائمة لأن في حق صاحب المال هما
سواء وإنما الاختلاف في حق المصدق فإن له
ولاية أخذ الزكاة من السائمة دون الدراهم
فلهذا صرف الدين إلى الدراهم وأخذ الزكاة من
السائمة.
قال: "رجل له أربعون شاة سائمة فحل عليها
حولان فعليه للحول الأول شاة ولا شيء عليه
للحول الثاني" لأن نصابه قد انتقص بما وجب
عليه في الحول الأول وقد بينا قول زفر رحمه
الله تعالى في نظيره في زكاة الإبل فكذلك في
زكاة الغنم.
قال: "في الكتاب وتفسير قوله لا يفرق بين
مجتمع أن يكون للرجل مائة وعشرون شاة ففيها
شاة وليس للمصدق أن يفرقها في ثلاثة مواطن
ليأخذ من كل أربعين شاة. وتفسير
ج / 2 ص -170-
قوله:
لا يجمع بين متفرق أن يكون بين رجلين أربعون
شاة فليس للمصدق أن يجمعها ويأخذ منها الزكاة"
وقد بينا أن المراد به الجمع والتفريق في
الملك لا في المكان وقد تقدم بيان هذا وبينا
تفسير قوله وما كان بين الخليطين فإنهما
يتراجعان بينهما بالسوية ونزيده وضوحا فنقول
المراد إذا كان بين رجلين إحدى وستون من الإبل
لأحدهما ست وثلاثون وللآخر خمس وعشرون فإن
المصدق يأخذ منها بنت لبون وبنت مخاض ثم يرجع
كل واحد منهما على صاحبه بنصف ما أخذ من ماله
بزكاة صاحبه وحمله على هذا أولى فإن التراجع
على وزن التفاعل فينبغي أن يثبت من الجانبين
في وقت واحد وذلك فيما قلنا.
قال: "والشريك المفاوض والعنان وغير ذلك كلهم
سواء في حكم الصدقة" لأن وجوبها باعتبار حقيقة
الملك وغنى المالك به ولا ملك للشريك في نصيب
شريكه مفاوضا كان أو غيره.
قال: "وإذا مر المسلم على العاشر بالماشية
وغيرها من الأموال فقال ليس شيء من هذا
للتجارة وحلف على ذلك لا يأخذ منه شيئا" لأنه
أمين فيما يلزمه من الزكاة فإذا أنكر وجوبها
عليه فالقول قوله مع يمينه والعاشر لا يأخذ
إلا الزكاة ووجوب الزكاة بصفة الأسامة أو
التجارة وما يمر به على العاشر لا يكون سائمة
وقد انتفى صفة التجارة في حقه بحلفه فلا يأخذ
منه شيئا وكذلك الذمي والتغلبي لأنهما من أهل
دارنا فمرورهما على العاشر قد يكون بغير مال
التجارة كما يكون بمال التجارة كالمسلم وأما
الحربي فلا يصدق في ذلك ويؤخذ منه العشر لأن
الأخذ منهم بطريق المجازاة وهم لا يصدقون في
هذا من يمر به منا عليهم فكذلك نحن لا نصدقهم
ولأن الحربي في دارنا لا يدخل إلا على قصد
التجارة لأنه ليس من أهل دارنا فما معه يكون
للتجارة فلهذا أخذ منه.
قال: "رجل مات بعد ما وجبت عليه الصدقة في
سائمته فجاء المصدق وهي في يد الورثة فليس له
أن يأخذ منهم صدقتها إلا أن يكون الميت أوصى
بذلك فحينئذ يأخذ من ثلث ماله" وقال الشافعي
رحمه الله تعالى يأخذ الصدقة من جميع ماله
أوصى أو لم يوص. وحجته قوله صلى الله عليه
وسلم في حديث الخثعمية:
"أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه؟" قالت: نعم فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "فدين الله أحق". فقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم دين الله بدين العباد ثم
دين العباد يقضى من التركة بعد الوفاة مقدما
على الميراث فكذلك دين الله تعالى وهذا الفقه
وهو أن هذا حق كان مطالبا به في حال حياته
وتجري النيابة في إيفائه فيستوفى من تركته بعد
وفاته كديون العباد. وتقريره أن المال خلف عن
الذمة بعد الموت في الحقوق التي تقضى بالمال
والوارث قائم مقام المورث في أداء ما تجري
النيابة في أدائه. ألا ترى أن بعد الإيصاء
يقوم مقامه في الأداء فكذلك قبله.
وحجتنا قوله صلى الله عليه وسلم:
"يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا
ما أكلت فأفنيت أو
ج / 2 ص -171-
لبست
فأبليت أو تصدقت فأبقيت وما سوى ذلك فهو مال
الوارث"
وهذا يقتضى أن ما لم يمضه من الصدقة يكون مال
الوارث بعد موته وبه علل في الكتاب قال لأنها
خرجت من ملكه الذي كان له، يعني أن المال صار
ملك الوارث ولم يجب على الوارث شيء ليؤخذ ملكه
به وهذا لأن حقوق الله تعالى مع حقوق العباد
إذا اجتمعا في محل تقدم حقوق العباد على حقوق
الله تعالى. ثم الواجب عليه فعل الإيتاء وفعل
الإيتاء لا يمكن إقامته بالمال ليقوم المال
فيه مقام الذمة بعد موته.
والوارث لا يمكن أن يجعل نائبا في أداء الزكاة
لأن الواجب ما هو عبادة ومعنى العبادة لا
يتحقق إلا بنية وفعل ممن يجب عليه حقيقة أو
حكما وخلافة الوارث المورث تكون جبرا من غير
اختيار من المورث وبه لا تتأدى العبادة
واستيفاء الواجب لا يجوز إلا من الوجه الذي
وجب فإذا لم يمكن استيفاؤه من ذلك الوجه لا
يستوفى إلا أن يكون أوصى فحينئذ يكون بمنزلة
الوصية بسائر التبرعات تنفذ من ثلثه ويظهر بما
ذكرنا الفرق بين ديون الله تعالى وبين ديون
العباد إذا تأملت. فإن كان موت صاحب السائمة
في وسط الحول ينقطع به حكم الحول عندنا
لخروجها عن ملكه كما لو باعها.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى يبني على حوله
فإذا تم فعلى الوارث الزكاة قال لأن ملك
الوارث بناء على ملك المورث وليس بابتداء ملك
بدليل ثبوت حق الرد بالعيب وغيره ولكنا نقول
صفة المالكية للوارث متجددة وفي حكم الزكاة
المالك معتبر فلتجدد صفة المالكية قلنا يستقبل
الحول في ملك الوارث والله سبحانه وتعالى
أعلم.
باب زكاة البقر
الأصل في وجوب الزكاة في البقر حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم في مانعي الزكاة:
"لا ألفين
أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى عاتقه بعير له
رغاء فيقول يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك
من الله شيئا ألا قد بلغت ولا ألفين أحدكم
يأتي يوم القيامة وعلى عاتقه بقرة لها ثغاء
فيقول يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من
الله شيئا ألا قد بلغت ولا ألفين أحدكم يأتي
يوم القيامة وعلى عاتقه فرس لها حمحمة فيقول
يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله
شيئا ألا قد بلغت".
إذا عرفنا هذا فنقول: ليس فيما دون ثلاثين
بقرة سائمة صدقة وفي ثلاثين منها تبيع أو
تبيعة وهي التي لها سنة وطعنت في الثانية وفي
أربعين منها مسنة وهي التي تم لها سنتان وبهذا
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل
رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن.
واختلفت الروايات فيما زاد على الأربعين فقال
في كتاب الزكاة وما زاد على الأربعين ففي
الزيادة بحساب ذلك، ولم يفسر هذا الكلام وفي
كتاب اختلاف أبي حنيفة وبن أبي ليلى رحمهما
الله تعالى قال إذا كان له إحدى وأربعون بقرة
فقال أبو حنيفة،
ج / 2 ص -172-
رحمه
الله تعالى عليه مسنة وربع عشر مسنة أو ثلث
عشر تبيع وهذا يدل على أنه لا نصاب عنده في
الزيادة على الأربعين فإنه تجب فيه الزكاة قل
أو كثر بحساب ذلك.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنه لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين
ففيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع.
وروى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى أنه ليس في الزيادة شيء حتى تكون ستين
ففيها تبيعان وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي
رحمهما الله تعالى ثم لا خلاف أنه ليس في
الزيادة شيء إلى سبعين ثم بعد ستين الأوقاص
تسع تسع وإن الواجب في كل ثلاثين تبيع وفي كل
أربعين مسنة حتى إذا كانت سبعين ففيها مسنة
وتبيع وفي ثمانين مسنتان وفي تسعين ثلاثة
أتبعة وفي المائة مسنة وتبيعان وفي مائة وعشر
مسنتان وتبيع وفي مائة وعشرين إن شاء أدى ثلاث
مسنات وإن شاء أدى أربعة أتبعة فإنها ثلاث
مرات أربعون وأربع مرات ثلاثون.
وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تأخذوا من
أوقاص البقر شيئا"، وفسروا
الأوقاص بما بين الأربعين إلى الستين ولأن
مبنى زكاة السائمة على أنه لا يجب فيها
الأشقاص دفعا للضرر عن أرباب الأموال حتى أن
في الإبل عند قلة العدد أوجب من خلاف الجنس
تحرزا عن إيجاب الشقص فكذلك في زكاة البقر لا
تجوز الأشقاص لأنها عيب.
ووجه: رواية الحسن رحمه الله تعالى أن الأوقاص
في البقر تسع تسع بدليل ما قبل الأربعين وبعد
الستين فكذلك فيما بين ذلك لأنه يلحق بما قبله
أو بما بعده.
ووجه الرواية الأخرى: أن نصب النصاب بالرأي لا
يكون وإنما يكون طريق معرفته النص ولا نص فيما
بين الأربعين إلى الستين فإذا تعذر اعتبار
النصاب فيه أوجبنا الزكاة في قليله وكثيره
بحساب ما سبق وحديث معاذ رضي الله عنه المراد
به حال قلة العدد في الابتداء فإن الوقص في
الحقيقة اسم لما لم يبلغ نصابا، وذلك في
الابتداء يكون وقيل المراد بالأوقاص الصغار
وهي العجاجيل وبه نقول أنه لا شيء فيها.
قال: "والجواميس بمنزلة البقر" وقد بينا هذا
فيما سبق من زكاة الغنم.
قال: "وذكورها وإناثها في الصدقة سواء وكذلك
في الأخذ لا فرق بين الذكور والإناث في زكاة
البقر بخلاف زكاة الإبل فإنه لا يؤخذ فيها إلا
الإناث" وهذا لتقارب ما بين الذكور والإناث في
الغنم والبقر وتباين ما بينهما في الإبل وقد
بينا هذا في زكاة الإبل.
فإما الخيل السائمة إذا اختلط ذكورها وإناثها
ففيها الصدقة في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى إن شاء صاحبها أدى عن كل فرس دينارا وإن
شاء قومها وأدى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم.
وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله
تعالى: لا شيء فيها. فإن
ج / 2 ص -173-
كانت
إناثا كلها، فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى
فيه روايتان ذكرهما الطحاوي رحمه الله تعالى
وإن كانت ذكورا كلها فليس فيها شيء إلا في
رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ذكرها في
كتاب الآثار.
وجه قولهم: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"عفوت لأمتي عن صدقة الخيل والرقيق إلا أن في الرقيق صدقة الفطر". ولأنه لا
يثبت للإمام حق الأخذ بالاتفاق ولا يجب من
عينها شيء ومبنى زكاة السائمة على أن الواجب
جزء من العين وللإمام فيه حق الأخذ بدليل سائر
الحيوانات.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بحديث بن
الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال:
"في كل فرس
سائمة دينار أو عشرة دراهم وليس في المرابطة
شيء"،
وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي
عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأمره بأن يأخذ
من الخيل السائمة عن كل فرس دينارا أو عشرة
دراهم.
ووقعت هذه الحادثة في زمن مروان فشاور الصحابة
رضي الله عنهم فروى أبو هريرة:
"ليس على الرجل في عبده ولا في فرسه صدقة" فقال مروان لزيد بن ثابت ما تقول يا أبا سعيد فقال أبو هريرة عجبا
من مروان أحدثه بحديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهو يقول ماذا تقول يا أبا سعيد قال زيد
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد
فرس الغازي فأما ما حبست لطلب نسلها ففيها
الصدقة فقال كم فقال: "في كل فرس
دينار أو عشرة دراهم". والمعنى
فيه أنه حيوان سائم في أغلب البلدان فتجب فيه
زكاة السائمة كالإبل والبقر والغنم إلا أن
الآثار فيها لم تشتهر لعزة الخيل ذلك الوقت
وما كانت إلا معدة للجهاد وإنما لم يثبت أبو
حنيفة رحمه الله تعالى للإمام ولاية الأخذ لأن
الخيل مطمع كل طامع فإنه سلاح والظاهر أنهم
إذا علموا به لا يتركونه لصاحبه وإنما لم يؤخذ
من عينه لأن مقصود الفقير لا يحصل به لأن عينه
غير مأكول اللحم عنده.
وأما الإناث قال في إحدى الروايتين التي ذكرها
الطحاوي رحمه الله تعالى أنه لا شيء فيها لأن
معنى النماء فيها من حيث النسل وذلك لا يحصل
بالإناث المفردات وفي الأخرى قال يمكن أن
يستعار لها فحل فيحصل النماء من حيث النسل.
وأما في الذكور المنفردين: لا شيء فيها في
ظاهر الرواية لأن معنى النسل لا يحصل بها
وبزيادة السن لا تزداد القيمة في الخيل بخلاف
سائر الحيوانات ومعنى السمن غير معتبر لأن
عينه غير مأكول عنده فلهذا قال لانعدام النماء
لا شيء عليه فيها وفي رواية الآثار جعل هذا
قياس سائر أنواع السائمة فإن بسبب السوم تخف
المؤنة على صاحبها وبه يصير مال الزكاة فكذلك
في الخيل.
قال: "وليس في الحمير والبغال السائمة صدقة"
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين سئل
عن
ج / 2 ص -174-
البغال
والحمير:
"لم ينزل على فيها إلا هذه الآية الجامعة:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[الزلزال: 7-8]"، ولأنها لا تسأم في غالب البلدان مع كثرة وجودها
والنادر لا يعتبر إنما يعتبر الحكم العام
الغالب فلهذا لا تجب فيها زكاة السائمة والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب زكاة المال
قال: "وليس في أقل من مائتي درهم زكاة فإذا
بلغت مائتي درهم وحال عليهاالحول ففيها خمسة
دراهم" لحديث عمرو بن حزم رضي الله تعالى عنه
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في
الورقة:
"ليس فيها صدقة حتى تبلغ مائتي درهم فإذا بلغت
مائتي درهم ففيها خمسة دراهم". وحين بعث معاذا رضي الله تعالى عنه إلى اليمن قال:
"ليس فيما دون مائتي درهم من الورق شيء وفي مائتين خمسة وما زاد على
المائتين فليس فيه شيء حتى تبلغ أربعين ففيها
درهم مع الخمسة". وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهكذا في كل أربعين درهما درهم
وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي يجب في الزيادة
بحساب ذلك قل أو كثر حتى إذا كانت الزيادة
درهما ففيها جزء من أربعين جزءا من درهم وهو
قول علي وابن عمر وإبراهيم النخعي رحمهما الله
تعالى. وقال طاووس اليماني رحمه الله تعالى لا
يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ مائتي درهم ويجب
في كل مائتي درهم خمسة دراهم واحتجوا بحديث
علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال:
"في مائتي درهم خمسة دراهم وما زاد فبحساب ذلك". ولأن نصب النصاب لا يكون إلا بالتوقيف ولم يشتهر الأثر باعتبار
نصيب المائتين ثم اعتبار النصاب في الابتداء
لحصول الغنى للمالك به ففي الزيادة المعتبر
زيادة الغنى وذلك حاصل بالقليل والكثير.
واحتج أبو حنيفة بحديث عمرو بن حزم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال:
"وفي كل مائتي درهم خمسة دراهم وفي كل أربعين درهما درهم"، ولم يرد به في الابتداء فعلم أن المراد به بعد المائتين وفي حديث
معاذ رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال له:
"لا تأخذ من الكسور شيئا وفي مائتي درهم خمسة دراهم فما زاد على ذلك
ففي كل أربعين درهما درهم"،
وقاس بالسوائم ففيها وقص بعد النصاب الأول
وكذلك في النقود بعلة أن الزكاة واجبة في الكل
على وجه يحصل به النظر للفقراء وأرباب الأموال
وحديث علي رضي الله تعالى عنه لم ينقله أحد من
الثقات مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فالمصير إلى ما رويناه أولى.
قال: "وليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب
زكاة" لحديث عمرو بن حزم قال فيه وفي الذهب ما
لم تبلغ قيمته مائتي درهم فلا صدقة فيه
والدينار كان مقوما بعشرة دراهم على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فذلك تنصيص على أنه
لا شيء في الذهب حتى يبلغ عشرين
ج / 2 ص -175-
مثقالا
ففيه نصف مثقال ثم ليس في الزيادة شيء حتى
تبلغ أربعة دنانير ففي قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى فيها قيراطان وهكذا في كل أربعة
مثاقيل. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى فيما زاد بحساب ذلك هذا والدراهم سواء
كما بينا وكذلك زكاة مال التجارة تجب بالقيمة
والكلام فيه في فصول:
أحدها: أن الزكاة تجب في عروض
التجارة إذا حال الحول عندنا. وقال مالك رحمه
الله تعالى إذا باعها زكى لحول واحد وإن مضى
عليها في ملكه أحوال. وقال نفاة: القياس لا
شيء فيها، والدليل على وجوب الزكاة فيها حديث
سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يأمرنا بإخراج الزكاة من الرقيق وفي كل مال
يتبعه وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
"وفي البر صدقة إذا كان للتجارة". وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه قال لحماس ما مالك يا حماس فقال
ضأن وأدم قال قومها وأد الزكاة من قيمتها.
والدليل على اعتبار الحول قوله صلى الله عليه
وسلم:
"لا زكاة في
مال حتى يحول عليه الحول".
ثم معنى النماء مطلوب في أموال التجارة في
قيمتها كما أنه مطلوب في السوائم من عينها
وكما يتجدد وجوب الزكاة في السوائم باعتبار كل
حول يتجدد النماء بمضيه فكذلك في مال التجارة
ويعتبر أن تكون قيمتها نصابا في أول الحول
وآخره كما في السوائم عندنا. وعلى قول الشافعي
رحمه الله تعالى المعتبر كمال النصاب آخر
الحول فقط، وقد بينا هذا قال في الكتاب
ويقومها يوم حال الحول عليها إن شاء بالدراهم
وإن شاء بالدنانير وعن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى في الأمالي أنه يقومها بأنفع النقدين
للفقراء. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه
يقومها بما اشتراها إن كان اشتراها بأحد
النقدين فيقومها به وإن كان اشتراها بغير نقود
قومها بالنقد الغالب في البلد وعن محمد رحمه
الله تعالى أنه يقومها بالنقد الغالب على كل
حال.
وجه قول محمد رحمه الله تعالى أن التقويم في
حق الله تعالى معتبر بالتقويم في حق العباد
ومتى وقعت الحاجة إلى تقويم المغصوب والمستهلك
يقوم بالنقد الغالب في البلد فهذا مثله وأبو
يوسف يقول البدل معتبر بأصله فإن كان اشترى
بأحد النقدين فتقويمه بما هو أصله أولى.
وجه قول أبي حنيفة: أن المال كان في يد المالك
وهو المنتفع به في زمان طويل فلا بد من اعتبار
منفعة الفقراء عند التقويم لأداء الزكاة
فيقومها بأنفع النقدين. ألا ترى أنه لو كان
بتقويمه بأحد النقدين يتم النصاب وبالآخر لا
يتم فإنه يقوم بما يتم به النصاب لمنفعة
الفقراء فهذا مثله.
وجه رواية الكتاب: أن وجوب الزكاة في عروض
التجارة باعتبار ماليتها دون أعيانها والتقويم
لمعرفة مقدار المالية والنقدان في ذلك على
السواء فكان الخيار إلى صاحب المال
ج / 2 ص -176-
يقومها
بأيهما شاء ألا ترى أن في السوائم عند الكثرة
وهو ما إذا بلغت الإبل مائتين الخيار إلى صاحب
المال إن شاء أدى أربع حقاق وإن شاء أدى خمس
بنات لبون فهذا مثله ثم وجوب الزكاة عندنا في
عين مال التجارة باعتبار قيمتها. وعلى قول
الشافعي رحمه الله تعالى الوجوب في قيمتها لأن
النصاب معتبر بالقيمة فعرفنا أن الواجب فيها.
ولنا: أن الواجب في ملكه وملكه العين فكان
الواجب باعتبار صفة المالية.
قال: "وما كان من الدراهم والدنانير والذهب
والفضة تبرا مكسورا أو حليا مصوغا أو حلية سيف
أو منطقة أو غير ذلك ففي جميعه الزكاة إذا بلغ
الذهب عشرين مثقالا أو من الفضة مائتي درهم
نوى به التجارة أو لم ينو". والأصل فيه قوله
تعالى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ}[التوبة: 34]. والكنز اسم لمال مدفون لا يراد به التجارة وقد ألحق
الله الوعيد بمانعي الزكاة منها فذلك دليل على
وجوب الزكاة فيها بدون نية التجارة ثم سائر
الأموال مخلوقة للابتذال والانتفاع بأعيانها
فلا تصير معدة للنماء إلا بفعل من العباد من
إسامة أو تجارة. وأما الذهب والفضة فخلقا
جوهرين للأثمان لمنفعة التقلب والتصرف فكانت
معدة للنماء على أي صفة كانت فتجب الزكاة
فيها.
قال: "والحلى عندنا نصاب للزكاة سواء كان
للرجال أو للنساء مصوغا صياغة تحل أو لا تحل".
وللشافعي رحمه الله تعالى في حلى النساء قولان
في أحد القولين لا شيء فيه وهو مروي عن عمر
وعائشة رحمهما الله تعالى قال إنه مبتذل في
مباح فلا يكون مال الزكاة كمال البذلة بخلاف
حلي الرجال فإنه مبتذل في محظور وهذا لأن
الحظر شرعا يسقط اعتبار الصنعة والابتذال حكما
فيكون مال الزكاة بخلاف ما إذا كان مباحا شرعا
وهو نظير ذهاب العقل يسقط اعتباره شرعا بخلاف
ذهاب العقل بسبب شرب دواء فإنه لا يسقط
اعتباره شرعا.
ولنا: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأتين تطوفان
بالبيت وعليهما سواران من ذهب فقال:
"أتؤديان زكاتهما"؟ فقالتا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أتحبان أن يسوركما الله بسوارين من نار"؟
فقالتا: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أديا
زكاتهما". والمراد الزكاة دون الإعارة لأنه ألحق الوعيد بهما وذلك لا يكون
إلا بترك الواجب والإعارة ليست بواجبة.
وفي حديث أم سلمة أنها كانت تلبس أوضاحا لها
من ذهب فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عليه وسلم أكنز هي؟ فقال:
"إن أديت منها الزكاة فليست بكنز"،
والمعنى فيه أن الزكاة حكم تعلق بعين الذهب
والفضة فلا يسقط بالصنعة كحكم التقابض في
المجلس عند بيع أحدهما بالآخر وجريان الربا
وبيان الوصف أن صاحب الشرع ما اعتبر في الذهب
والفضة مع اسم العين وصفا آخر لإيجاب الزكاة
فعلى أي وجه أمسكهما المالك للنفقة أو لغير
النفقة تجب عليه الزكاة ولو كان للابتذال
فيهما عبرة لم يفترق الحال بين أن يكون محظورا
أو مباحا كما في السوائم إذا
ج / 2 ص -177-
جعلها
حمولة. ثم الابتذال ها هنا لمقصود الحمل زائد
لا يتعلق به حياة النفس أو المال فلا تنعدم به
صفة التنمية الثابتة لهذين الجوهرين باعتبار
الأصل.
قال: "وإن كان له عشرة مثاقيل ذهب ومائة درهم
ضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب عندنا"
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يضم
أحدهما إلى الآخر بل يعتبر كمال النصاب من كل
واحد منهما على حدة لأنهما جنسان مختلفان فلا
يضم أحدهما إلى الآخر ليكمل النصاب كالسوائم
وبيان الوصف من حيث الحقيقة غير مشكل ومن حيث
المعنى أنه لا يجري بينهما ربا الفضل.
ولنا: حديث بكير بن عبد الله بن الأشج رضي
الله عنه قال من السنة أن يضم الذهب إلى الفضة
لإيجاب الزكاة ومطلق السنة ينصرف إلى سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم. ولأنهما مالان يكمل
نصاب أحدهما بما يكمل به نصاب الآخر فيكمل
نصاب أحدهما بالآخر كالسود مع البيض
والنيسابوري من الدنانير مع الهروي.
وبيان الوصف: أن نصاب كل واحد منهما يكمل بمال
التجارة وهذا لأنهما وإن كانا جنسين مختلفين
صورة ففي حكم الزكاة هما جنس واحد حتى يتفق
الواجب فيهما فيتقدر بربع العشر على كل حال
ووجوب الزكاة فيهما باعتبار معنى واحد وهو
المالية القائمة باعتبار أصلهما فإذا وجبت
الزكاة عند ضم أحدهما إلى الآخر اختلفت
الرواية فيما يؤدى فروى الحسن بن أبي مالك عن
أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه
يؤدي من مائة درهم درهمين ونصفا ومن عشرة
مثاقيل ذهب ربع مثقال وهو إحدى الروايتين عن
أبي يوسف رحمه الله تعالى ووجهه أنه أقرب إلى
المعادلة والنظر من الجانبين.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في رواية أخرى
أنه يقوم أحدهما بالآخر ثم يؤدي الزكاة من نوع
واحد وهذا أقرب إلى موافقة نصوص الزكوات.
ثم اختلفوا في كيفية الضم فقال أبو حنيفة رحمه
الله تعالى يضم أحدهما إلى الآخر باعتبار
القيمة. وقال أبو يوسف ومحمد باعتبار الأجزاء
وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى ذكره في نوادر هشام رحمه الله تعالى،
وبيان ذلك: أنه إذا كان له مائة درهم وخمسة
مثاقيل ذهب تساوي مائة درهم أو خمسون درهما
وعشرة مثاقيل ذهب تساوي مائة وخمسين درهما
فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يضم أحدهما
إلى الآخر وتجب الزكاة وعندهما يضم باعتبار
الأجزاء وقد ملك نصف نصاب أحدهما وربع نصاب
الآخر فلا يجب فيهما شيء ثم عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى يعتبر في التقويم منفعة
الفقراء كما هو أصله حتى روي عنه أنه إذا كان
للرجل مائة وخمسة وتسعون درهما ودينار يساوي
خمسة دراهم أنه تجب الزكاة وذلك بأن يقوم
الذهب بالفضة.
ج / 2 ص -178-
وجه
قولهما: أن التقويم في النقود ساقط الاعتبار
كما في حقوق العباد فإن سائر الأشياء تقوم بها
ألا ترى أن من ملك أبريق فضة وزنه مائة وخمسون
وقيمته مائتا درهم لا يجب فيه الزكاة ولو كان
للتقويم عبرة في باب الزكاة من الذهب والفضة
لوجبت الزكاة ها هنا وأبو حنيفة رحمه الله
تعالى يقول هما عينان وجب ضم أحدهما إلى الآخر
لإيجاب الزكاة فكان الضم باعتبار القيمة كعروض
التجارة وهذا لأن كمال النصاب لا يكون إلا عند
اتحاد الجنس وذلك لا يكون إلا باعتبار صفة
المالية دون العين فإن الأموال أجناس باعتبار
أعيانها جنس واحد باعتبار صفة المالية فيها
وهذا بخلاف الإبريق فإنه ما وجب ضمه إلى شيء
آخر حتى تعتبر فيه القيمة وهذا لأن القيمة في
الذهب والفضة إنما تظهر شرعا عند مقابلة
أحدهما بالآخر.
فإن الجودة والصنعة لا قيمة لها إذا قوبلت
بجنسها لقوله صلى الله عليه وسلم: "جيدها ورديئها سواء"،
فأما عند مقابلة أحدهما بالآخر فيظهر للجودة
قيمة. ألا ترى أنه متى وقعت الحاجة إلى تقويم
الذهب والفضة في حقوق العباد يقوم بخلاف جنسه
فكذا في حقوق الله تعالى وجميع ما ذكرنا في
نصاب الذهب والفضة المعتبر فيهما الوزن دون
العدد لأن في النص ذكر الدرهم والدينار وهو
يشتمل على ما لا يعلم إلا بالوزن من الدوانيق
والحبات.
والمعتبر في الدنانير وزن المثقال وفي الدراهم
وزن سبعة وهو أن يكون كل عشرة منها بوزن سبعة
مثاقيل وهو الوزن المعروف في الدراهم في غالب
البلدان وأصله وهو أنه كان في الجاهلية نوعان
من الدراهم يقال لهما مثاقيل وخفاف فلما
أرادوا في الإسلام ضرب الدراهم جمعوا أحدهما
إلى الآخر وجعلوه درهمين فكان وزن سبعة ولم
يبين في الكتاب صفة الدراهم.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن
الزكاة تجب في الجياد من الدراهم والزيوف
والمبهرجة والمكحلة والمزيفة قال لأن الغالب
في كلها الفضة وما يغلب فضته على غشه يتناوله
اسم الدراهم مطلقا أما في الستوقة وهو ما يغلب
غشه على فضته نظر إلى ما يخلص منه من الفضة
فإن بلغ وزنه مائتي درهم تجب فيها الزكاة وإلا
فلا ومراده إذا لم تكن للتجارة فإن كانت تلك
الدراهم للتجارة فالعبرة بقيمتها كما في عروض
التجارة وقد ذكر في روايته في الفلوس والدراهم
المضروبة من الصفر إذا كان لا يخلص منها فضة
فإن لم تكن للتجارة فلا شيء فيها وإن كانت
للتجارة فإن بلغت قيمتها مائتي درهم مما يغلب
فيها الفضة ففيها الزكاة.
وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل
البخاري رحمه الله تعالى يفتي بوجوب الزكاة في
المائتين من الدراهم الغطريفية عددا وكان يقول
هي من أعز النقود فينا بمنزلة الفضة فيهم ونحن
أعرف بنقودنا وهو اختيار شيخنا الإمام
الحلواني رحمه الله تعالى وهو الصحيح عندي.
قال: "رجل له على رجل ألف درهم قرض أو ثمن
متاع كان للتجارة فحال الحول
ج / 2 ص -179-
ووجبت
الزكاة عليه لا يلزمه الأداء قبل القبض عندنا"
وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه الأداء
لأن صيرورة المال دينا كان بتصرفه واختياره
وذلك غير معتبر في تأخير حق الفقراء فإنه كما
لا يملك إبطال حقهم لا يملك التأخير ولأن هذا
مال مملوك كالعين.
ولنا: أن الواجب جزء من النصاب فإذا كان
النصاب دينا فيده مقصورة عما هو حق الفقراء
فلا يلزمه الأداء ما لم تصل يده إليه بالقبض
كابن السبيل.
ثم الديون على ثلاث مراتب عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى:
دين قوي: وهو ما يكون بدلا عن مال كان أصله
للتجارة لو بقي في ملكه.
ودين وسط: وهو أن يكون بدلا عن مال لا زكاة
فيه لو بقي في ملكه كثياب البذلة والمهنة.
ودين ضعيف: وهو ما يكون بدلا عما ليس بمال
كالمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العمد.
ففي الدين القوي لا يلزمه الأداء ما لم يقبض
أربعين درهما فإذا قبض هذا المقدار أدى درهما
وكذلك كلما قبض أربعين درهما وفي الدين
المتوسط لا يلزمه الأداء ما لم يقبض مائة درهم
فحينئذ يؤدي خمسة دراهم وفي الدين الضعيف لا
تلزمه الزكاة ما لم يقبض ويحول الحول عنده.
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة
رحمهم الله تعالى أن الدين نوعان وجعل الوسط
كالضعيف وهو اختيار الكرخي على ما ذكره في
المختصر وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى الديون كلها سواء لا تجب الزكاة فيها
قبل القبض وكلما قبض شيئا يلزمه الأداء بقدره
قل أو كثر ما خلا دين الكتابة فإنه لا يجب
عليه فيه الزكاة حتى يحول عليه الحول بعد
القبض وذكر الكرخي أن المستثنى عندهما دينان
الكتابة والدية على العاقلة.
وجه قولهما: أن الديون في المالية كلها سواء
من حيث أن المطالبة تتوجه بها في الحياة وبعد
الوفاة وتصير مالا بالقبض حقيقة فتجب الزكاة
في كلها ويلزمه الأداء بقدر ما يصل إليه كابن
السبيل بخلاف دين الكتابة فإنه ليس بدين على
الحقيقة حتى لا تتوجه المطالبة به ولا تصح
الكفالة به وهذا لأن المولى لا يستوجب على
عبده دينا وكذلك الدية على العاقلة وجوبها
بطريق الصلة لا أنه دين على الحقيقة حتى لا
يستوفي من تركة من مات من العاقلة.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن ما هو
بدل عما ليس بمال فملك المالية يثبت فيه
ابتداء فهو دين والدين ليس بمال على الحقيقة
حتى لو حلف صاحبه أن لا مال له لا يحنث في
يمينه وإنما تتم المالية فيه عند تعيينه
بالقبض فلا يصير نصاب الزكاة ما لم تثبت فيه
صفة المالية والحول لا ينعقد إلا على نصاب
الزكاة فأما ما كان بدلا عن مال التجارة فملك
المالية كان تاما في أصله قبل أن يصير دينا
فبقي على ما كان لأن الخلف يعمل عمل الأصل
فيجب فيه الزكاة قبل القبض ولكن وجوب الأداء
يتوقف على القبض ونصاب
ج / 2 ص -180-
الأداء
يتقدر بأربعين درهما عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى كما بينا في الزيادة على المائتين وأما
بدل ثياب البذلة والمهنة فذهب الكرخي إلى أن
أصله لم يكن مالا شرعا حتى لم يكن محلا للزكاة
فهو وما لم يكن أصله مالا على الحقيقة سواء.
وجه ظاهر الرواية: أنه أخذ شبها من أصلين من
عروض التجارة باعتبار أن أصله مال على الحقيقة
ومن المهر باعتبار أن أصله ليس بمال في حكم
الزكاة شرعا فيوفر حظه منهما ويقال أن وجوب
الزكاة فيه ابتداء فيعتبر في المقبوض أن يكون
نصاب الزكاة وهو المائتان ويجب فيها الزكاة
قبل القبض من حيث أن ملك المالية لم يثبت في
الدين ابتداء.
وفي الأجرة ثلاث روايات عن أبي حنيفة، رحمه
الله تعالى:
في رواية جعلها كالمهر لأنها ليست ببدل عن
المال حقيقة لأنها بدل عن المنفعة.
وفي رواية جعلها كبدل ثياب البذلة لأن المنافع
مال من وجه لكنه ليس بمحل لوجوب الزكاة فيه.
والأصح أن أجرة دار التجارة أو عبد التجارة
بمنزلة ثمن متاع التجارة كلما قبض منها أربعين
تلزمه الزكاة اعتبارا لبدل المنفعة ببدل
العين. وإن كان الدين وجب له بميراث أو وصية
أوصي له به.
ففي كتاب الزكاة جعله كالدين الوسط وقال إذا
قبض مائتي درهم تلزمه الزكاة لما مضى لأن ملك
الوارث ينبني على ملك المورث وقد كان في ملك
المورث بدلا عما هو مال.
وفي نوادر الزكاة جعله كالدين الضعيف لأن
الوارث ملكه ابتداء وهو دين فلا تجب فيه
الزكاة حتى يقبض ويحول عليه الحول عنده.
وإن كان الدين ضمان قيمة عبد أعتق شريكه نصيبه
منه فاختار تضمينه فهذا والدين الواجب بسبب
بيعه نصيبه من شريكه سواء لأن هذا الضمان يوجب
الملك لشريكه في نصيبه.
وإن كان الدين سعاية لزم ذمة العبد بعتق شريكه
وهو معسر ففي الكتاب يقول هو ودين الكتابة
سواء لا يجب فيه الزكاة حتى يحول عليه الحول
بعد القبض قيل هو قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى فإن المستسعى عنده مكاتب، فأما عندهما
فالمستسعي حر عليه دين فيجب فيه الزكاة عندهما
قبل القبض وقيل هو قولهم جميعا وعذرهما أن سبب
وجوب هذا الدين لم يكن من العبد فكان صلة في
حقه فلا يتم الملك فيه إلا بالقبض كالدية على
العاقلة.
ج / 2 ص -181-
قال:
"رجل له ألف درهم فحال عليها الحول ثم اشترى
بها عبدا للتجارة فمات العبد لم يضمن الزكاة
وإن اشترى بها عبدا للخدمة فهو ضامن للزكاة"
لأن المشترى للتجارة محل لحق الفقراء فهو
بتصرفه حول حقهم من محل إلى محل فلم يكن
مستهلكا وكان هلاك البدل في يده كهلاك الأصل
فأما عبد الخدمة فليس بمحل لحق الفقراء حتى
صار هو بتصرفه مفوتا محل حقهم فيصير ضامنا
للزكاة مات العبد في يده أو بقي ألا ترى أن في
خلال الحول لو اشترى عبدا للتجارة لم ينقطع
فيه الحول؟ بخلاف ما إذا اشترى بالألف عبدا
للخدمة. ولو أبدل الدراهم بالدنانير أو
الدنانير بالدراهم في خلال الحول لم ينقطع
الحول عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى
إذا بادل بالدنانير انقطع الحول وهو بناء على
أصله أنهما جنسان في باب الزكاة حتى لا يضم
أحدهما إلى الآخر فهو كالسوائم وعندنا هما جنس
واحد في حكم الزكاة حتى يضم أحدهما إلى الآخر
فكانا بمنزلة عروض التجارة يبادل بها في خلال
الحول.
قال: "رجل له ألف درهم وعليه ألف درهم وله دار
وخادم لغير التجارة بقيمة عشرة آلاف درهم فلا
زكاة عليه" لأن الدين مصروف إلى المال الذي في
يده لأنه فاضل عن حاجته معد للتقليب والتصرف
به فكان الدين مصروفا إليه فأما الدار والخادم
فمشغول بحاجته فلا يصرف الدين إليه.
قال في الكتاب: أرأيت لو تصدق عليه أنه يكون
موضعا للصدقة لأنه معدوم يريد به أن المال
مشغول بالدين فهو كالمعدوم وملك الدار والخادم
لا يحرم عليه أخذ الصدقة لأنه لا يزيل حاجته
بل يزيد فيها فالدار تسترم والعبد يستنفق فلا
بد له منهما وهو في معنى ما نقل عن الحسن
البصري رحمه الله تعالى أن الصدقة كانت تحل
للرجل وهو صاحب عشرة آلاف درهم قيل وكيف يكون
ذلك قال يكون له الدار والخادم والكراع
والسلاح وكانوا ينهون عن بيع ذلك فعلى هذا قال
مشايخنا رحمهم الله تعالى أن الفقيه إذا ملك
من الكتب ما يساوي مالا عظيما ولكنه محتاج
إليها يحل له أخذ الصدقة إلا أن يملك فضلا عن
حاجته ما يساوي مائتي درهم.
قال: "وإن كان للرجل التاجر ديون على الناس
وفيهم الملى ء وغير الملى ء وحال الحول فمن
كان منهم مقرى مليا وجبت فيه الزكاة على صاحبه
ولزمه الأداء إذا قبض أربعين درهما ومن كان
منهم جاحدا فليس فيه الزكاة على صاحبه إلا على
قول زفر رحمه الله تعالى" وقد بينا هذا في
تفسير مال الضمار ومن كان منهم مقرى مفلسا
فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله
تعالى يجب على صاحبها الزكاة قبل القبض وعند
محمد رحمه الله تعالى إذا فلسه الحاكم فلا
زكاة على صاحبها قبل القبض.
ج / 2 ص -182-
مر
محمد رحمه الله تعالى على أصله أن التفليس
يتحقق فيصير المال تاويا ومر أبو حنيفة رحمه
الله تعالى على أصله أن التفليس لا يتحقق لأن
المال غاد ورائح فلا يصير به المال تاويا وأبو
يوسف رحمه الله تعالى يقول التفليس وإن كان
يتحقق عندي ولكن لا يسقط به الدين إنما تتأخر
المطالبة فهو نظير الدين المؤجل والزكاة في
الدين تجب قبل القبض المؤجل ثم قد بينا أنه لا
يلزمه الأداء قبل القبض عندنا وإن فعل كان
فضلا كمن عجل الزكاة بعد كمال النصاب قبل
حولان الحول.
قال: "وليس على التاجر زكاة مسكنه وخدمه
ومركبه وكسوة أهله وطعامهم وما يتجمل به من
آنية أو لؤلؤ وفرس ومتاع لم ينو به التجارة"
لأن نصاب الزكاة المال النامي ومعنى النماء في
هذه الأشياء لا يكون بدون نية التجارة وكذلك
الفلوس يشتريها للنفقة فإنها صفر والصفر ليس
بمال الزكاة باعتبار عينه بل باعتبار طلب
النماء منه وذلك غير موجود فيما إذا اشتراه
للنفقة.
وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله
تعالى أن الصباغ إذا اشترى العصفر والزعفران
ليصبغ بهما ثياب الناس فعليه فيهما الزكاة لأن
ما يأخذه عوض عن الصبغ القائم بالثوب ألا ترى
أن عند فساد العقد يصار إلى التقويم فكان هذا
مال التجارة بخلاف القصار إذا اشترى الحرض
والصابون والقلى لأن ذلك آلة عمله فيصير
مستهلكا ولا يبقى في الثوب عينه فما يأخذ من
العوض يكون بدل عمله لا بدل الآلة ونخاس
الدواب إذا اشترى الجلال والبراقع والمقاود
فإن كان يبيعها مع الدواب فعليه فيها الزكاة
وإن كان يحفظ الدواب بها ولا يبيعها فليس عليه
فيها الزكاة إذا لم ينو التجارة عند شرائها.
ثم لا خلاف أن نية التجارة إذا اقترنت بالشراء
أو الإعارة صار المال للتجارة لأن النية
اقترنت بعمل التجارة ولو ورث مالا فنوى به
التجارة لا يكون للتجارة لأن النية تجردت عن
العمل فالميراث يدخل في ملكه من غير صنعه. ولو
قبل الهبة والوصية في مال بنية التجارة عند
أبي يوسف رحمه الله تعالى يكون للتجارة، وعند
محمد رحمه الله تعالى لا يكون للتجارة وكذلك
في المهر وبدل الخلع والصلح عن دم العمد فمحمد
رحمه الله تعالى يقول نية التجارة لا تعمل إلا
مقرونة بعمل التجارة وهذه الأسباب ليست بتجارة
وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول التجارة عقد
اكتساب المال فما لا يدخل في ملكه إلا بقبوله
فهو كسبه فيصح اقتران نية التجارة بفعله
كالشراء والإجارة.
قال: "وما كان عنده من المال للتجارة فنواه
للمهنة خرج من أن يكون للتجارة" لأنه نوى ترك
التجارة وهو تارك لها للحال فاقترنت النية
بالعمل وإن كان عنده عبيد للخدمة فنوى التجارة
لم تكن للتجارة ما لم يبعهم لأن النية تجردت
عن عمل التجارة. وهو نظير
ج / 2 ص -183-
المسافر ينوي الإقامة فإنه يصير مقيما والمقيم
ينوي السفر فلا يصير مسافرا ما لم يخرج إلى
السفر والله أعلم بالصواب.
باب العشر
قال رحمه الله: "العاشر من ينصبه الإمام على
الطريق ليأخذ الصدقات من التجار وتأمن التجار
بمقامه من اللصوص" وقد روي أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه، أراد أن يستعمل أنس بن مالك
رحمه الله تعالى على هذا العمل، فقال له:
أتستعملني على المكس من عملك فقال ألا ترضى أن
أقلدك ما قلدنيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ والذي روي من ذم العشار محمول على من
يأخذ مال الناس ظلما كما هو في زماننا دون من
يأخذ ما هو حق وهو الصدقة.
إذا عرفنا هذا فنقول: العاشر يأخذ مما يمر به
المسلم عليه الزكاة إذا استجمعت شرائط الوجوب
لأن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، لما
نصب العشار قال لهم خذوا مما يمر به المسلم
ربع العشر ومما يمر به الذمي نصف العشر فقيل
له فكم نأخذ مما يمر به الحربي فقال كم يأخذون
منا فقالوا العشر فقال خذوا منهم العشر. وفي
رواية خذوا منهم مثل ما يأخذون منا فقيل له
فإن لم يعلم كم يأخذون منا فقال خذوا منهم
العشر وإن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى
كتب إلى عماله بذلك وقال أخبرني به من سمعه من
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم المسلم حين أخرج مال التجارة إلى المفاوز
فقد احتاج إلى حماية الإمام فيثبت له حق أخذ
الزكاة منه لأجل الحماية كما في السوائم يأخذ
الإمام الزكاة لحاجته إلى حمايته وكما أن
المسلم يحتاج إلى الحماية فكذلك الذمي بل أكثر
لأن طمع اللصوص في أموال أهل الذمة أكثر
وأبين.
قال: "وما يؤخذ من المسلم إذا وجب أخذه من
الكافر يضعف عليه" كصدقات بني تغلب فأما أهل
الحرب فالأخذ منهم على طريق المجازاة كما أشار
إليه عمر رضي الله تعالى عنه ولسنا نعني بهذا
أن أخذنا بمقابلة أخذهم فأخذهم أموالنا ظلم
وأخذنا بحق ولكن المراد أنا إذا عاملناهم بمثل
ما يعاملوننا به كان ذلك أقرب إلى مقصود
الأمان واتصال التجارات وإذا لم نعلم كم
يأخذون منا نأخذ منهم العشر لأن حال الحربي مع
الذمي كحال الذمي مع المسلم فإن الذمي منا
دارا دون الحربي فكما يضعف على الذمي ما يؤخذ
من المسلم فكذلك يضعف على الحربي ما يؤخذ من
الذمي.
قال: "فإن مر على العاشر بأقل من مائتي درهم
لم يأخذ منه شيئا وإن علم أن له في منزله
مالا" لأن حق الأخذ إنما يثبت باعتبار المال
الممرور به عليه لحاجته إلى الحماية وهذا غير
موجود فيما في بيته وما مر به عليه لم يبلغ
نصابا وهذا إذا كان المار مسلما أو ذميا وقال:
في الحربي في كتاب الزكاة هكذا وفي الجامع
الصغير والسير الكبير قال إلا أن يكونوا هم
يأخذون من تجارنا من أقل من مائتي درهم فنحن
نأخذ أيضا حينئذ ووجهه: أن الأخذ
ج / 2 ص -184-
منهم
بطريق المجازاة ووجه رواية كتاب الزكاة أن
القليل عفو شرعا وعرفا فإن كانوا يظلموننا في
أخذ شيء من القليل فنحن لا نأخذ منهم ألا ترى
أنهم لو كانوا يأخذون جميع الأموال من التجار
لا نأخذ منهم مثل ذلك لأن ذلك يرجع إلى غدر
الأمان وإذا كان المرور به نصابا كاملا أخذ من
المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن
الحربي مثل ما يأخذون من تجارنا عشرا كان أو
أقل أو أكثر.
قال: "فإن ادعى المسلم أن عليه دينا يحيط
بماله أو أن حوله لم يتم أو أنه ليس للتجارة
صدقة على ذلك إذا حلف" لإنكاره وجوب الزكاة
عليه وقد بينا مثله في السوائم. وكذلك إذا قال
هذا المال ليس لي صدقة مع يمينه ولم يأخذ منه
شيئا لأن ثبوت حق الأخذ له إذا حضره المالك
والملك فكما أن حضور المالك بدون الملك لا
يثبت له حق الأخذ فكذلك حضور الملك بدون
المالك ولأن المستبضع فوض إليه التصرف في
المال دون أداء الزكاة وليس للعاشر أن يأخذ
غير الزكاة.
قال: "ويصدق الذمي أيضا فيما يصدق فيه المسلم"
لأنه من أهل دارنا فأما الحربي فلا يصدق على
شيء من ذلك لأنه إن قال لم يتم الحول ففي
الأخذ منه لا يعتبر الحول لأنه لا يمكن من
المقام في دارنا حولا وإن قال على دين فالدين
الذي وجب عليه في دار الحرب لا يطالب به في
دارنا وإن قال ليس للتجارة فهو ما دخل دارنا
إلا لقصد التجارة فما معه يكون للتجارة إلا أن
يقول لغلام في يده هذا ولدي أو لجارية في يده
هذه أم ولدي لأن النسب يثبت في دار الحرب كما
يثبت في دار الإسلام فأمومية الولد تثبت بناء
على نسب الولد فتنعدم المالية فيهما بإقراره
فلا يأخذ منه شيئا فإن قال المسلم دفعت صدقتها
إلى المساكين صدقه على ذلك لو حلف بخلاف
السوائم لأن في عروض التجارة كان الدفع إلى
المساكين مفوضا إليه قبل المرور به على العاشر
وفي السوائم كان حق الأخذ للإمام.
قال: ولا يأخذ العاشر مما يمر به المكاتب
واليتيم وإن كان وصية معه لما بينا أنه إنما
يأخذ الزكاة ولاتجب الزكاة في كسب المكاتب
ولافي مال اليتيم.
قال: "وإذا أخبر التاجر العاشر أن متاعه مروي
أو هروي واتهمه العاشر وفي فتحه ضرر عليه حلفه
وأخذ منه الصدقة على قوله" لأنه ليس له ولاية
الإضرار به وقد نقل عن عمر رضي الله عنه أنه
قال لعماله لا تفتشوا على الناس متاعهم ثم لو
أنكر وجوب الزكاة فيه صدقة مع اليمين فكذلك لو
أنكر الزيادة.
قال: "والتغلبي والذمي في المرور على العاشر
سواء" لأن الصلح مع بني تغلب على أن يؤخذ منهم
ضعف ما يؤخذ من المسلم فلا تجوز الزيادة عليه.
قال: "وإن أخذ من الحربي العشر لم يطالب به
مرة أخرى ما دام في أرض الإسلام" لما روى أن
نصرانيا خرج بفرس من الروم ليبيعه في دارنا
فأخذ منه العاشر العشر ثم لم يتفق له
ج / 2 ص -185-
بيعه.
فلما عاد به ليدخل دار الحرب طالبه العاشر
بعشره فقال إني كلما مررت عليك لو أديت إليك
عشره لم يبق لي شيء فترك الفرس عنده وجاء إلى
المدينة فوجد عمر رضي الله عنه في المسجد مع
أصحابه ينظرون في كتاب فوقف على باب المسجد
فقال أنا الشيخ النصراني فقال عمر وأنا الشيخ
الحنفي فما وراءك فقص عليه القصة فعاد عمر إلى
ما كان فيه فظن أنه لم يلتفت إلى كلامه فرجع
عازما على أداء العشر ثانيا فلما انتهى إلى
العاشر إذا كتاب عمر سبقه أنك إن أخذت مرة فلا
تأخذ مرة أخرى. قال النصراني: إن دينا يكون
العدل فيه بهذه الصفة لحقيق أن يكون حقا فأسلم
ولأن تجدد حق الأخذ باعتبار تجدد الحول
والحربي لا يمكن من المقام في دارنا حولا، قال
في الكتاب: إلا أن يتجدد الحول ومراده إذا لم
يعلم الإمام بحاله حتى حال الحول فحينئذ يأخذ
منه ثانيا لتجدد الحول كما يأخذ من الذمي.
قال: "فإن رجع إلى دار الحرب ثم عاد عشره
ثانية وإن كان في يومه ذلك" لأنه بالرجوع
التحق بحربي لم يدخل دارنا قط. ألا ترى أنه في
الدخول يحتاج إلى استئمان جديد ولأن الأخذ منه
لأجل الأمان وقد انتهى ذلك برجوعه فدخوله
ثانيا يكون بأمان جديد فلهذا يأخذ منه.
قال: "وإذا مر العبد بمال مولاه يتجر به لم
يأخذ منه العشر" إلا أن يكون المولى حاضرا أما
إذا كان المال بضاعة في يد العبد للمولى فهو
غير مشكل كما لو كان بضاعة مع أجنبي وأما إذا
كان المال كسب العبد وهو مأذون فإن كان عليه
دين يحيط به فلا زكاة عليه فيه وإن لم يكن
عليه دين فإن كان المولى معه يأخذ منه الزكاة
وإن لم يكن المولى معه ففي كتاب الزكاة يقول
لا يأخذ منه الزكاة ثم رجع وقال لا يأخذ منه
شيئا. وفي الجامع الصغير يقول يأخذ منه ربع
العشر في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا
يأخذ منه في قولهما.
وفي المضارب: إذا مر على العاشر بمال المضاربة
كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا يأخذ
منه الزكاة ثم رجع وقال لا يأخذ منه شيئا وهو
قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولا
أعلمه رجع في العبد أم لا وقياس قوله الثاني
في المضارب يوجب أن لا يأخذ من العبد شيئا
أيضا.
وجه قوله الأول: أن المضارب له حق قوي يشبه
الملك فإنه شريك في الربح وإذا صار المال
عروضا يملك التصرف على وجه لو نهاه رب المال
لا يعمل نهيه فكان حضور المضارب كحضور المالك.
وجه قوله الآخر: أن المضارب أمين في المال
كالمستبضع والأجير وإنما فوض إليه التجارة في
المال لا أداء الزكاة والزكاة تستدعي نية من
عليه فإن كان قوله الثاني في العبد أنه لا
يأخذ منه أيضا فلا حاجة إلى الفرق وإن لم يرجع
في العبد فوجه الفرق أن المأذون يتصرف لنفسه
حتى إذا لحقته العهدة لا يرجع به على المولى
فكان في أداء ما يجب في كسبه
ج / 2 ص -186-
كالمالك بخلاف المضارب فإنه نائب في التصرف
يرجع بما يلحقه من العهدة على رب المال فلا
يكون له ولاية أداء الزكاة.
قال: "وإذا مر على العاشر بمال ومعه براءة
بغير اسمه يقول هذه براءة من عاشر كذا مر به
رجل كان هذا المال معه مضاربة في يده فإن حلف
على ذلك كف عنه" لأنه أخبر بخبر محتمل، وهو
أمين فيصدقه على ذلك كما لو قال أديتها إلى
المساكين.
قال: "وإن مر به على عاشر الخوارج فعشره لم
يحسبه له عاشر أهل العدل قال لأن ذلك لا يجزئه
من زكاته" ومعناه أنهم يأخذون أموالنا بطريق
الاستحلال لا بطريق الصدقة ولا يصرفونه مصارف
الصدقة وصاحب المال هو الذي عرض ماله للأخذ
بالمرور عليه فلا يسقط به حق عاشر أهل العدل
في الأخذ منه.
قال: "ولا يجزى في الزكاة عتق رقبة ولا الحج
ولا قضاء دين ميت ولا تكفينه ولا بناء مسجد"
والأصل فيه أن الواجب فيه فعل الإيتاء في جزء
من المال ولا يحصل الإيتاء إلا بالتمليك فكل
قربة خلت عن التمليك لا تجزى عن الزكاة وإعتاق
الرقبة ليس فيه تمليك شيء من العبد لأن العبد
يعتق على ملك المولى ولهذا كان الولاء له
وكذلك الحج فإن ما ينفقه الحاج في الطريق لا
يملكه غيره وإن أحج رجلا فالحاج ينفق على ملك
المحجوج عنه ذلك المال وكذلك قضاء دين الميت
فإنه لا يملك الميت شيئا وما يأخذه صاحب الدين
يأخذه عوضا عن ملكه وكذلك تكفين الميت فإنه
ليس فيه تمليك من الميت فإنه ليس من أهل الملك
ولا من الورثة لأنهم لا يملكون ما هو مشغول
بحاجة الميت وكذلك بناء المسجد ليس فيه تمليك
من أحد.
قال: "ولا يعطى من الزكاة كافر إلا عند زفر
رحمه الله تعالى فإنه يجوز دفعها إلى الذمي
وهو القياس" لأن المقصود إغناء الفقير المحتاج
على طريق التقرب وقد حصل.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم"،
فذلك تنصيص على الدفع إلى فقراء من تؤخذ من
أغنيائهم وهم المسلمون.
قال: "ولا بأس بأن يعين به حاجا منقطعا أو
غازيا أو مكاتبا" لأن التمليك على سبيل التقرب
يحصل به والمكاتب من مصارف الصدقات بالنص. قال
الله تعالى:
{وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: 60]، ويدخل في هذا الحاج المنقطع أيضا ثم هو بمنزلة بن
السبيل وبن السبيل من مصارف الصدقات وكذلك
يقضي دين مغرم بأمره ويجوز ذلك إذا كان
المديون فقيرا لأنه يملكه أولا ثم يقضي دينه
بأمره بملكه. ألا ترى أن من أمر انسانا بقضاء
دينه كان له أن يرجع عليه إذا قضاه ولا يكون
ذلك إلا بعد التمليك منه.
قال: "ويجزئه أن يعطي من الواجب جنسا آخر من
المكيل والموزون أو العروض أو غير ذلك بقيمته"
وهذا عندنا وقد بيناه.
ج / 2 ص -187-
قال:
"وإن أعطى من جنس ماله وكان من الأموال
الربوية فلا معتبر بالقيمة عندنا خلافا لزفر
رحمه الله تعالى" بيانه إذا كان له مائتا درهم
نبهرجة فأدى منها أربعة دراهم جيادا تبلغ
قيمتها خمسة نبهرجة لا يجوز عندنا إلا عن
أربعة دراهم وعلى قول زفر رحمه الله تعالى
يجوز عن الكل لأن في القيمة وفاء بالواجب ولا
ربا بين الله تعالى وبين العبد ولكنا نقول ليس
للجودة قيمة في الأموال الربوية عند مقابلتها
بجنسها وأداء أربعة جياد كأداء أربعة نبهرجة
فلا تجزيه إلا عن مثل وزنه.
قال: "رجل له على آخر دين فتصدق به عليه ينوي
أن يكون من زكاة ماله لا يجزئه إلا عن مقدار
الدين إن كان المديون فقيرا" لأن الواجب في
المال العين جزء منه والدين أنقص في المالية
من العين ولا يجوز أداء الناقص عن الكامل فإن
أراد الحيلة فالوجه أن يتصدق عليه بقدر الزكاة
من العين ثم يسترده من يده بحساب دينه.
وكذلك أداء زكاة الدين عن دين آخرلا يجوز بأن
كان له مائتا درهم على رجل وخمسة على فقير
فأبرأه من تلك الخمسة ينوي به زكاة المائتين
لم يجزئه لأن هذا الدين يتعين بالقبض وما أبرأ
الفقير منه لا يتعين فكأن دونه في المالية
ولأن مبادلة الدين بالدين لا تجوز في حق
العباد فكذلك في حقوق الله تعالى والواجب من
كل دين جزء منه فأما إذا كان الدين كله على
الفقير فوهبه له أو أبرأه منه ينوي عن زكاة
ذلك الدين يجزئه لأن الواجب جزء من ذلك الدين
وقد أوصله إلى مستحقه فيجوز وهو كما لو وهب
النصاب العين كله من الفقير.
قال: "وإن كان المديون غنيا فوهب له ما عليه
بعد وجوب الزكاة قال في الجامع يضمن مقدار
الزكاة للفقراء وقال في نوادر الزكاة لا يضمن
شيئا" لأن وجوب الأداء ينبني على القبض وهو لم
يقبض شيئا وفي رواية الجامع قال صار مستهلكا
حق الفقراء بما صنع فهو كما لو وجبت الزكاة
عليه في مال عين فوهبه لغني وهذا أصح لأنه
بتصرفه يجعل قابضا حكما كالمشتري إذا أعتق
العبد المشتري قبل القبض يصير قابضا.
وأما مال المضاربة فعلى رب المال زكاة رأس
المال وحصته من الربح وعلى المضارب زكاة حصته
من الربح إذا وصلت يده إليه إن كان نصابا أو
كان له من المال ما يتم به النصاب عندنا.
وللشافعي رحمه الله تعالى ثلاثة أقاويل في
نصيب المضارب:
قول مثل قولنا.
وقول: أن زكاة ذلك على رب المال لأنه موقوف
لحقه حتى لا يظهر الربح ما لم يصل إليه رأس
المال ولأن الربح تبع وزكاة الأصل عليه فكذلك
التبع.
وقول آخر: أنه لا زكاة في نصيب المضارب على
أحد لأنه متردد بينه وبين رب المال يسلم له إن
بقي كله ويكون لرب المال إن هلك بعضه فهو نظير
كسب المكاتب فليس فيه زكاة على أحد لأنه متردد
بينه وبين المولى.
ج / 2 ص -188-
وفي
الحقيقة هذه المسألة بناء على أصله أن استحقاق
المضارب الربح بطريق الجعالة لا بطريق الشركة
إذ ليس له رأس مال ولا بطريق الأجرة لأن عمله
غير معلوم عند العقد والجعالة لا تملك إلا
بالقبض كالعمالة لعامل الصدقات
ولنا: أن المضارب شريكه في الربح فكما يملك رب
المال نصيبه من الربح في حكم الزكاة فكذلك
المضارب لأن مطلق الشركة يقتضي المساواة.
وبيان الوصف: أن رأس ماله العمل ورأس مال
الثاني المال والربح يحصل بهما فقد تحققت
الشركة وقد نصا في العقد على هذا وتنصيصهما
معتبر بالإجماع والدليل عليه أن المضارب يملك
المطالبة بالقسمة ويتميز به نصيبه ولا حكم
للشركة إلا هذا.
واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بما لو اشترى
بألف المضاربة عبدين كل واحد منهما يساوي ألفا
فإنه لا شيء على المضارب هنا والربح موجود
ولكنا نقول عند زفر رحمه الله تعالى: تجب عليه
الزكاة في نصيبه وكذلك عند أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى لأنهما يريان قسمة الرقيق
أما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فلا يرى قسمة
الرقيق فكل واحد من العبدين في حق المضارب
مشغول برأس المال كأنه ليس معه غيره فلا يظهر
الربح حتى أن في حق رب المال لما كانا كشيء
واحد كان عليه زكاة رأس المال وحصته من الربح.
قال: "ويأخذ العاشر من مال الصبي الحربي إذا
مر به عليه إلا أن يكونوا لا يأخذون من مال
صبياننا شيئا وكذلك المكاتب" لأن الأخذمنهم
بطريق المجازاة فنعاملهم بمثل ما يعاملوننا به
كما بينا فيما دون النصاب.
قال: "وإذا مر التاجر على العاشر بالرمان
والبطيخ والقثاء والسفرجل والعنب والتين قد
اشتراه للتجارة وهو يساوي نصابا لم يعشره في
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولكن يأمره
بأداء الزكاة بنفسه وعندهما يعشره" لأن الزكاة
تجب في هذه الأموال إذا كانت للتجارة والعاشر
يأخذ الزكاة الواجبة فيأخذ من هذه الأموال كما
يأخذ من سائر الأموال وإنما يأخذ لحاجة صاحب
المال إلى حمايته وذلك موجود في هذه الأشياء
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى حرفان:
أحدهما: أن حق الأخذ للعاشر
باعتبار المال الممرور به عليه خاصة وهذه
الأشياء لا تبقى حولا فلا تجب الزكاة فيها إلا
باعتبار غيرها مما لم يمر به عليه فهو نظير ما
لو مر عليه بما دون النصاب وقال في بيتي مايتم
به النصاب.
والثاني: أن العاشر يأخذ من
عين ما يمر به عليه وليس بحضرته فقراء ليصرفه
إليهم ولا يمكنه أن يدخره إلى أن يأتيه
الفقراء لأن ذلك يفسد فقلنا لا يأخذ منه شيئا
ولكن يأمره بالأداء بنفسه وكذلك لا يأخذ من
الذمي والحربي أما على الأول فظاهر وكذلك على
الطريق الثاني لأنه ليس بحضرته من المقاتلة من
يصرف إليهم المأخوذ.
قال: "وإن مر الذمي على العاشر بالخمر
والخنزير للتجارة، عشر الخمر من قيمتها، ولم
ج / 2 ص -189-
يعشر
الخنازير" ورواه في الخمر عن إبراهيم وكان
مسروق يقول يأخذ من عين الخمر وعن أبي يوسف
رحمه الله تعالى إن مر على العاشر بالخنازير
وحدها لم يأخذ منه شيئا وإن مر بها مع الخمر
أخذ منها جميعا من القيمة وكأنه جعل الخنازير
في هذا تبعا للخمر وهو نظير مذهبه في وقف
المنقول أنه لا يجوز إلا تبعا للعقار.
وجه قوله: أن كل واحد منهما مال في حق أهل
الذمة يضمن بالإتلاف له.
وجه ظاهر الرواية: ما روي عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه بلغه أن عماله يأخذون العشر
من خمور أهل الذمة فقال ولو هم بيعها وخذوا
العشر من أثمانها ثم الخمر عين هو قريب من
المالية في حق المسلمين لأن العصير قبل التخمر
كان مالا وهو بعرض المالية إذا تخلل بخلاف
الخنزير فإنه ليس له عرضية المالية في حق
المسلمين والعاشر مسلم فلهذا لا يأخذ منها.
قال: "رجل له مائتا درهم مكثت عنده أشهرا ثم
وهبها لرجل ودفعها إليه ثم رجع فيها قال
يستأنف لها الحول من وقت رجوعه فيها" لأن ملكه
زال بالهبة والتسليم ولم يبق شيء مما انعقد
عليه الحول له ولا يتصور بقاء الحول إلا بمحل.
قال: "وإن مكثت عند الموهوب له سنة ثم رجع
فيها لم يكن على واحد منهما زكاة تلك السنة"
أما على الواهب فلأنها لم تكن في ملكه في
الحول وأما على الموهوب له فلأن مال الزكاة
استحق من يده بغير اختباره ويستوي إن كان رجوع
الواهب بقضاء أو بغير قضاء عندنا. وقال زفر
رحمه الله تعالى: إن كان رجوعه بقضاء فكذلك،
وإن كان رجوعه بغير قضاء القاضي فعلى الموهوب
له زكاة تلك السنة وقال سفيان الثوري رضي الله
عنه ليس للواهب أن يرجع في مقدار الزكاة لأنها
صارت مستحقة للفقراء وتعلق حق الفقراء
بالموهوب يمنع الواهب من الرجوع كما لو جعله
الموهوب له مرهونا.
وجه قول زفر رحمه الله تعالى أن الرجوع إذا
كان بغير قضاء فالموهوب له أزال ملكه باختياره
بعد وجوب الزكاة فيضمن الزكاة كما لو وهبه
ابتداء ألا ترى أنه لو كان في مرضه كان معتبرا
من ثلث ماله؟.
وجه قولنا: أن حق الواهب مقصور على العين وفي
مثله القضاء وغير القضاء سواء لأنهما فعلا
بدون القاضي عين ما يأمر به القاضي لو رفعا
الأمر إليه. والموهوب له نظر لنفسه حين لم ير
في الخصومة فائدة فلم يكن متلفا حق الفقراء
وإن كان في مرضه ففيه روايتان كلاهما في كتاب
الهبة والأصح أنه يعتبر من جميع ماله سواء رجع
بقضاء أو بغير قضاء.
قال: "وإذا أخرجت الأرض العشرية طعاما فباعه
قبل أن يؤدي عشره فجاء العاشر والطعام عند
المشتري فإن شاء أخذ عشر الطعام من المشتري
ورجع المشتري على البائع بعشر الثمن وإن شاء
أخذه من البائع" لأن على أحد الطريقين الحب
ينبت على الحقين،
ج / 2 ص -190-
عشره
للفقراء وتسعة أعشاره للمالك فلم ينفذ بيعه في
مقدار العشر فكان للمصدق أن يأخذ العشر من
المشتري قبل الافتراق وبعد الافتراق بخلاف
زكاة السائمة وعلى الطريق الثاني يجب إيتاء
العشر إلى الفقراء من غير اعتبار حال من يجب
عليه فكان العين هو المقصود فلا يبطل الحق عنه
بالبيع بخلاف الزكاة فإن الفعل هو المقصود فيه
بدليل اعتبار حال من يجب عليه وإن شاء أخذ من
البائع لإتلافه محل حق الفقراء.
قال: "وإذا باع الأرض وفيها زرع قد أدرك فعشر
الزرع على البائع" لأن حق الفقراء قد ثبت في
الزرع وهو ملك البائع عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى بنفس الخروج كما قال الله تعالى:
{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}[البقرة: 267]. وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى بالإدراك قال الله
تعالى:
{وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام:
141] وعند محمد رحمه الله تعالى بالاستحكام
وذلك كله حصل في ملك البائع وهو نماء أرضه
فوجب عليه عشره وأما المشتري فقد استحقه عوضا
عما أعطى من الثمن فلا شيء عليه فإن باعها
والزرع بقل فعشره على المشتري إذا حصده بعد
الإدراك لأن وجوب العشر في الحب وانعقاده كان
في ملك المشتري وهو نماء أرضه وعند أبي يوسف
رحمه الله تعالى عشر مقدار البقل على البائع
لأن ذلك القدر من النماء حصل في ملكه أما عشر
الحب فعلى المشتري وكذلك إن باع الزرع وهو
قصيل. فإن قصله المشتري في الحال فالعشر على
البائع وإن تركه على الأرض بإذن البائع حتى
استحصد فالعشر على المشتري وكذلك كل شيء من
الثمار وغيره مما فيه العشر يبيعه صاحبه في
أول ما يطلع فإن قطعه المشتري فالعشر على
البائع وإن تركه بإذن البائع حتى أدرك فالعشر
على المشتري وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى
عشر مقدار الطلع والبقل على البائع والزيادة
على المشتري.
وحاصل مذهب أبي يوسف رحمه الله تعالى: أن
بانعقاد الحب وإدراك الثمار يزداد النماء
فيزداد الواجب لا أنه يسقط ما كان واجبا أو
يتحول إلى غيره وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله تعالى الحب هو المقصود فإذا انعقد كان
الواجب فيه دون غيره وانعقاده كان في ملك
المشتري فلهذا كان العشر عليه.
قال: "وإذا اشترى أرض عشر أو خراج للتجارة لم
يكن عليه زكاة التجارة عندنا". وعند محمد رحمه
الله تعالى إن عليه زكاة التجارة مع العشر
والخراج وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى
ووجهه أن العشر محله الخارج والزكاة محلها عين
مال التجارة وهو الأرض فلم يجتمعا في محل واحد
فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر كالدين مع
العشر.
وجه ظاهر الرواية: أن العشر والخراج مؤنة
الأرض النامية ألا ترى أنه يقال عشر الأرض
وخراج الأرض وكذلك الزكاة وظيفة المال النامي
وهي الأرض فكل واحد منهما يجب حقا لله تعالى
فلا يجب بسبب ملك مال واحد حقان لله تعالى كما
لا تجب زكاة
ج / 2 ص -191-
السائمة وزكاة التجارة باعتبار مال واحد وإذا
ثبت أنه لا وجه للجمع بينهما قلنا العشر
والخراج صار وظيفة لازمة لهذه الأرض لا يسقط
بإسقاط المالك وهو أسبق ثبوتا من زكاة التجارة
التي كان وجوبها بنيته فلهذا بقيت عشرية
وخراجية كما كانت.
قال: "وإن اشترى دارا للتجارة فحال عليها
الحول زكاها من قيمتها" لأنه ما تعلق برقبة
الدار حق آخر لله تعالى وهي وسائر العروض
سواء.
قال: "ولا يجتمع العشر والخراج في أرض واحدة
عندنا" وقال بن أبي ليلى في الأرض الخراجية
يجب أداء العشر من الخارج منها مع الخراج وهو
قول الشافعي رحمه الله تعالى واستدلا في ذلك
بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:
"ما أخرجت الأرض ففيه العشر".
ولأن العشر مع الخراج حقان اختلفا محلا
ومستحقا وسببا فإن الخراج في ذمة المالك مصروف
إلى المقاتلة والعشر في الخارج مصروف إلى
الفقراء فوجوب أحدهما لا ينفي وجوب الآخر
كالدين مع العشر ثم الخراج بمنزلة الأجرة
للأرض ولهذا لا يجب إلا في الأراضي المفتوحة
عنوة ووجوب الأجرة لا ينفي وجوب العشر في
الخارج.
وجه قولنا ما روي عن ابن مسعود رحمه الله
تعالى موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، قال لا يجتمع العشر والخراج
في أرض رجل مسلم ولأن أحدا من أئمة العدل
والجور لم يأخذ العشر من أرض السواد مع كثرة
احتيالهم لأخذ أموال الناس وكفى بالإجماع حجة
ثم الخراج والعشر كل واحد منهما مؤنة الأرض
النامية ولا يجتمع المؤنتان بسبب أرض واحدة
وسببهما لا يجتمع فإن سبب وجوب الخراج فتح
الأرض عنوة وثبوت حق الغانمين فيها وسبب وجوب
العشر إسلام أهل البلدة البلدة طوعا وعدم ثبوت
حق الغانمين فيها وبينهما تناف فإذا لم يجتمع
السببان لا يثبت الحكمان جميعا.
قال: "رجل مات وله أرض عشرية قد أدرك زرعها
قال يؤخذ منها العشر". وروى بن المبارك عن أبي
حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يؤخذ منها
العشر لأنها صارت لغير من وجب عليه فهو بمنزلة
صدقة السائمة.
وجه ظاهر الرواية: أن العين هي المقصودة هنا
دون الفعل والعين باقية بعد موته فيبقى مشغولا
بحق الفقراء بخلاف الزكاة فإن الواجب هناك فعل
الإيتاء والفعل لا يمكن إبقاؤه مستحقا ببقاء
المال فلهذا سقط بالموت.
قال: "رجل له رطبة في أرض العشر وهي تقطع في
كل أربعين يوما قال يأخذ منها العشر كلما
قطعت" وهذا بناء على قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى في إيجاب العشر في الرطب فأما عندهما
فلا يجب العشر إلا فيما له ثمرة باقية على ما
نبينه ومقصوده في هذه المسألة أن الحول لا
يعتبر لإيجاب العشر وهو ظاهر على مذهب أبي
حنيفة رحمه الله تعالى فإنه لا يعتبر النصاب
لإيجاب العشر وأما عندهما فالنصاب معتبر
والحول لا يعتبر،
ج / 2 ص -192-
لأن
اعتبار الحول لتحقق النماء في السوائم وعروض
التجارة والعشر لا يجب إلا فيما هو نماء محض
فلا حاجة إلى اعتبار الحول فيه.
قال: "وإذا كان صاحب العنب يبيعه مرة عنبا
ومرة عصيرا ومرة زبيبا بأقل من قيمته أو بأكثر
أخذ العشر في جميع ذلك من الثمن إذا لم يكن
حابى فيه محاباة فاحشة" وهذا على قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى فإنه يوجب العشر في
القليل والكثير وفيما يبقى أو لا يبقى أما
عندهما فلا يجب العشر فيما دون خمسة أوسق مما
يبقى فينظر إلى هذا العنب فإن كان مقدارا يكون
فيه من الزبيب خمسة أوسق أو أكثر يجب العشر
فيؤخذ ذلك من الثمن كما قال أبو حنيفة رحمه
الله تعالى لأن وجوب حق الله تعالى في المال
لا يمنع صحة البيع من صاحبه وإن كان دون ذلك
أو كان عنبا رطبا رقيقا لا يصلح إلا للماء ولا
يتأتى منه الزبيب فلا شيء فيه عندهما.
قال: "رجل له على رجل دين فدافعه سنين وليس له
عليه بينة ثم أعطاه فليس عليه زكاة ما مضى
وكذلك الوديعة" ومعنى قوله دافعه أي أنكره
فإنه قال في بعض نسخ لزكاة فكابره به سنين وهو
عبارة عن الجحود وقد بينا أن المجحود ضمار ولا
زكاة في الضمار وفي قوله وليست له عليه بينة
دليل على أنه إذا كان لصاحب الحق بينة فلم
يقمها سنين أنه تلزمه الزكاة لما مضى لأن
التفريط من قبله جاء وقد بينا في هذا اختلاف
الروايات.
قال: "رجل تزوج امرأة على ألف درهم بعينها ولم
يدفعها إليها حتى حال الحول ثم قبضت فليس
عليها فيما مضى زكاة في قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى الآخر ولا على الزوج وفي قولهما
عليها زكاة الألف" وقد بينا هذا في السوائم
ففي النقود مثله فإن كانت قبضتها وحال عليها
الحول عندها ثم طلقها قبل الدخول بها لم يسقط
عنها شيء من الزكاة عندنا وعلى قول زفر رحمه
الله تعالى يسقط عنها زكاة النصف كما في
السوائم وهذا بناء على أن النقود تتعين عنده
بالتعيين فعند الطلاق يلزمها رد نصف المقبوض
بعينه واستحقاق مال الزكاة بعد الحول من يد
صاحبه يسقط الزكاة وعندنا النقود لا تتعين في
العقود فعند الطلاق لا يلزمها رد شيء من
المقبوض بعينه إنما عليها خمسمائة دينا للزوج
فهذا دين لحقها بعد الحول وذلك غير مسقط
للزكاة.
قال: "وإذا حال الحول على مال الشريكين
المفاوضين فأدى كل واحد منهما زكاة جميع المال
فإن أدى كل واحد منهما بغير أمر صاحبه ضمن
لصاحبه" لأن كل واحد منهما بسبب الشركة صار
نائبا عن صاحبه في التجارات دون إقامة
العبادات وإن كان كل واحد منهما قد أمر صاحبه
بأداء الزكاة فهذا على وجهين إما أن يؤديا معا
أو على التعاقب فإن أديا معا ضمن كل واحد
منهما لصاحبه حصته مما أدى في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى ولم يضمن عندهما وإن أديا على
التعاقب فلا ضمان على المؤدي أولا منهما
لصاحبه ويضمن
ج / 2 ص -193-
المؤدي
آخرا لصاحبه حصته مما أدى في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى سواء علم بأدائه أو لم يعلم
وعندهما إن علم بأداء صاحبه يضمن وإلا فلا
هكذا أشار إليه في كتاب الزكاة.
وفي الزيادات يقول: لا ضمان عليه سواء علم
بأداء شريكه أو لم يعلم وهو الصحيح عندهما
وكذلك الخلاف في الوكيل بأداء الزكاة إذا أدى
بعد أداء الموكل بنفسه وكذلك الخلاف في الوكيل
يعتق العبد عن الظهار إذا أعتقه بعد ما كفر
الموكل بنفسه أو بعد ما عمي العبد عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لا ينفذ عتقه وعندهما
ينفذ سواء علم بتكفير الموكل أو لم يعلم على
ما ذكره في الزيادات.
وجه قولهما: أن أداء الزكاة بنفسه يتضمن عزل
الوكيل فلا يثبت حكمه في حقه قبل العلم به
ولأنه كان عن قصد وفعل من الموكل فهو كالتصريح
بالعزل ونظيره لوكيل بقضاء الدين إذا قضى
الموكل بنفسه ثم قضى الوكيل فإن علم بأداء
الموكل فهو ضامن وإلا لم يضمن شيئا.
أما على رواية الزيادات قال: هو مأمور بدفع
المال إلى الفقير على وجه يكون صدقة وقربة
وأداء الموكل بنفسه لا ينفي هذا المعنى فلا
يوجب عزل الوكيل فكان هو في الأداء ممتثلا
أمره فلا ضمان عليه سواء علم بأدائه أو لم
يعلم بخلاف المأمور بقضاء الدين فإنه مأمور
بأن يملكه ما في ذمته بما يدفع إليه وذلك لا
يتصور بعد قضاء الموكل بنفسه الدين فكان قضاؤه
عزلا للوكيل ولكن لا يثبت حكمه في حقه قبل
العلم به دفعا للضرر عنه.
فأما أبو حنيفة، رحمه الله تعالى قال هو مأمور
بأداء الزكاة وقد أدى غير الزكاة فكان مخالفا
ضامنا بيانه أن موجب أداء الزكاة سقوط الفرض
عن ذمته وقد سقط بأداء الموكل بنفسه فلا يتصور
إسقاطه بأداء الوكيل وكان أداء الموكل عزلا
للوكيل من طريق الحكم لفوات المحل وذلك لا
يختلف بالعلم والجهل كالوكيل ببيع العبد إذا
أعتق الموكل العبد انعزل الوكيل علم به أو لم
يعلم بخلاف الوكيل بقضاء الدين فإنه مأمور بأن
يجعل المؤدى مضمونا على القابض على ما هو
الأصل بأن الديون تقضى بأمثالها وذلك لا يتصور
بعد أداء الموكل فلم يكن أداؤه موجبا عزل
الوكيل حكما. يوضح الفرق أن هناك لو لم نوجب
الضمان على الوكيل لجهله بأداء الموكل لا يلحق
الموكل فيه ضرر فإنه يتمكن من استرداد المقبوض
من القابض ويضمنه إن كان هالكا وهنا لو لم
نوجب الضمان أدى إلى إلحاق الضرر بالموكل لأنه
لا يتمكن من استرداد الصدقة من الفقير ولا
تضمينه والضرر مدفوع فلهذا أوجبنا الضمان بكل
حال.
قال: "رجل دفن ماله في بعض بيوته فنسيه حتى
مضى على ذلك سنون ثم تذكر فعليه الزكاة لما
مضى بخلاف ما إذا دفنه في الصحراء" لأن البيت
حرز فالمدفون فيه يكون في يده حكما وقيام
الملك واليد يمنع أن يكون المال تاويا فأما
الصحراء فليس بحرز فانعدم به يده حين عدم طريق
الوصول إليه وهو العلم فكان تاويا. يوضحه أن
المدفون في
ج / 2 ص -194-
بيته
يتيسر طريق الوصول إليه بنبش كل جانب منه
بخلاف المدفون في الصحراء وكذلك لو أودعه عند
إنسان ثم نسيه إن كان المودع من معارفه فعليه
الزكاة لما مضى إن تذكره وإن كان ممن لا يعرفه
فلا زكاة عليه فيما مضى لما بينا من تيسر
الوصول إليه وتعذره والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب.
باب المعادن وغيرها
إعلم أن المستخرج من المعادن أنواع ثلاثة منها
جامد يذوب وينطبع كالذهب والفضة والحديد
والرصاص والنحاس ومنها جامد لا يذوب بالذوب
كالجص والنورة والكحل والزرنيخ ومنها مائع لا
يجمد كالماء والزئبق والنفط.
فأما الجامد الذي يذوب بالذوب ففيه الخمس
عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى فيما سوى
الذهب والفضة لا يجب شيء وفي الذهب والفضة يجب
ربع العشر والنصاب عنده معتبر حتى إذا كان دون
المائتين من الفضة لا يجب شيء وفي اعتبار
الحول له وجهان:
حجته قوله صلى الله عليه وسلم:
"في الرقة ربع العشر" وهو اسم
للذهب والفضة. وفي الحديث: أن النبي صلى الله
عليه وسلم أعطى بلال بن الحارث معادن القبلية
وهي يؤخذ منها ربع العشر إلى يومنا هذا
والمعنى فيه أنه مباح لم تحرزه يد قط فكان لمن
وجده ولا شيء فيه كالصيد والحطب والحشيش وهذا
لأن الناس في المباحات سواء وإنما يظهر التقوم
فيها بالإحراز فكانت للمحرز إلا أن الزكاة
واجبة في الذهب والفضة باعتبار أعيانهما دون
سائر الجواهر ولكن يشترط تكميل النصاب والحول
على أحد الوجهين.
وفي الوجه الآخر قال: كم من حول مضى على هذا
العين قبل أخذه واعتبار الحول لحصول النماء
وهذا كله نماء فلا معنى لاعتبار الحول فيه
بخلاف الكنز فإنه كان في يد أهل الحرب وقد وقع
في يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب ووجب
فيها الخمس ولم يؤخذ لخفاء مكانه حتى ظهر الآن
فلهذا يؤخذ منه الخمس. فأما الذهب والفضة من
المعدن فحادث يحدث بمرور الزمان من غير أن كان
في يد أحد فهو كالحطب والحشيش.
وأصحابنا احتجوا بحديث أبي سلمة عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وفي الركاز الخمس". واسم الركاز يتناول الكنز والمعدن جميعا لأنه عبارة عن الإثبات
يقال ركز رمحه في الأرض إذا أثبته والمال في
المعدن مثبت كما هو في الكنز ولما قيل:
يا رسول الله
وما الركاز قال: "الذهب والفضة الذين خلقهما
الله في الأرض يوم خلقها".
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما
يوجد في الخرب العادي قال:
"فيه وفي الركاز الخمس"، فعطف الركاز على المدفون فعلم أن المراد بالركاز المعدن والمعنى
فيه أن هذا مال نفيس مستخرج من الأرض فيجب فيه
الخمس كالكنز وهذا لأن المعنى الذي لأجله وجب
الخمس في الكنز موجود في المعدن فإن الذهب
والفضة تحدث في المعدن من عروق كانت موجودة
ج / 2 ص -195-
حين
كانت هذه الأرض في يد أهل الحرب ثم وقعت في يد
المسلمين بإيجاف الخيل فتعلق حق مصارف الخمس
بتلك العروق فيثبت فيما يحدث منها فكان هذا
والكنز سواء من هذا الوجه ثم يستوي إن كان
الواجد حرا أو عبدا مسلما أو ذميا صبيا أو
بالغا رجلا أو امرأة فإنه يؤخذ منه الخمس
والباقي يكون للواجد سواء وجده في أرض العشر
أو أرض الخراج لأن استحقاق هذا المال كاستحقاق
الغنيمة ولجميع من سمينا حق في الغنيمة إما
سهما وإما رضخا فإن الصبي والعبد والذمي
والمرأة يرضخ لهم إذا قاتلوا ولا يبلغ بنصيبهم
السهم تحرزا عن المساواة بين التابع والمتبوع
وهنا لا مزاحم للواجد في الاستحقاق حتى يعتبر
التفاضل فلهذا كان الباقي له.
والذي روى أن عبدا وجد جرة من ذهب على عهد عمر
رضي الله عنه فأدى ثمنه منه وأعتقه وجعل ما
بقي منه لبيت المال. تأويله أنه كان وجده في
دار رجل فكان لصاحب الخطة ولم يبق أحد من
ورثته فلهذا صرفه إلى بيت المال ورأى المصلحة
في أن يعطي ثمنه من بيت المال ليوصله إلى
العتق.
وأما الجامد الذي لا يذوب بالذوب فلا شيء فيه
لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا زكاة في الحجر". ومعلوم أنه لم يرد به إذا كان للتجارة وإنما أراد به إذا استخرجه
من معدنه فكان هذا أصلا في كل ما هو في معناه.
وكذلك الذائب الذي لا يتجمد أصلا فلا شيء فيه
لأن أصله الماء والناس شركاء فيه شرعا قال صلى
الله عليه وسلم:
"الناس شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار"، فما يكون في معنى الماء وهو أنه يفور من عينه ولا يستخرج بالعلاج
ولا يتجمد كان ملحقا بالماء فلا شيء فيه.
قال: "وإذا عمل الرجل في المعادن يوما ثم جاء
آخر من الغد فعمل فيها حتى أصاب المال أخذ منه
خمسه والباقي للثاني دون الأول" لأن الواجد هو
الثاني والمعدن لمن وجده فأما الأول فحافر
للأرض لا واجد للمعدن وبحفر الأرض لا يستحق
المعدن وقد جاء في الحديث: "الصيد لمن
أخذه لا لمن أثاره" والأول
كالمثير والثاني كالآخذ فكان المأخوذ له.
قال: "وليس في السمك واللؤلؤ والعنبر يستخرج
من البحر شيء في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى" وقال أبو يوسف في العنبر الخمس وكذلك
في اللؤلؤ عنده ذكره في الجامع الصغير أما
السمك فهو من الصيود وليس في صيد البر شيء على
من أخذه فكذلك في صيد البحر وأما العنبر
واللؤلؤ فقد احتج أبو يوسف رحمه الله تعالى
بما روي أن يعلى بن أمية كتب إلى عمر بن
الخطاب، رضي الله عنه يسأله عن عنبر وجد على
الساحل فكتب إليه في جوابه أنه مال الله يؤتيه
من يشاء وفيه الخمس ولأن نفيس ما يوجد في
البحر معتبر بنفيس ما يوجد في البر وهو الذهب
والفضة فيجب فيه الخمس. وأبو حنيفة ومحمد
استدلا بما روي عن بن عباس رضي الله عنه أنه
قال في العنبر: إنه شيء دسره البحر فلا شيء
ج / 2 ص -196-
فيه
وحديث عمر محمول على الجيش دخلوا أرض الحرب
فيصيبون العنبر في الساحل وعندنا في هذا الخمس
لأنه غنيمة ثم وجوب الخمس فيما يوجد في الركاز
لمعنى لا يوجد ذلك المعنى في الموجود في البحر
وهو أنه كان في يد أهل الحرب وقع في يد
المسلمين بإيجاف الخيل والركاب وما في البحر
ليس في يد أحد قط لأن قهر الماء يمنع قهر غيره
ولهذا قال مشايخنا لو وجد الذهب والفضة في قعر
البحر لم يجب فيهما شيء.
ثم الناس تكلموا في اللؤلؤ فقيل إن مطر الربيع
يقع في الصدف فيصير لؤلؤا فعلى هذا أصله من
الماء وليس في الماء شيء وقيل إن الصدف حيوان
تخلق فيه اللؤلؤ وليس في الحيوان شيء وهو نظير
ظبي المسك يوجد في البر فإنه لا شيء فيه وكذلك
العنبر فقيل إنه نبت ينبت في البحر بمنزلة
الحشيش في البر وقيل إنه شجرة تتكسر فيصيبها
الموج فيلقيها على الساحل وليس في الأشجار شيء
وقيل إنه خثى دابة في البحر وليس في أخثاء
الدواب شيء.
قال: "وليس في الياقوت والزمرد والفيروزج يوجد
في المعدن أو الجبل شيء" لأنه جامد لا يذوب
بالذوب ولا ينطبع بالطبع كالتراب وليس في
التراب شيء فكذلك ما يكون في معناه لا يكون
فيه شيء ولأنه حجر وليس في الحجر صدقة وإن كان
بعض الحجر اضوأ من بعض وأما الزئبق إذا أصيب
في معدنه ففيه الخمس في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله لا
شيء فيه وحكي عن أبي يوسف أن أبا حنيفة كان
يقول لا شيء فيه وكنت أقول فيه الخمس فلم أزل
به أناظره وأقول إنه كالرصاص حتى قال فيه
الخمس ثم رأيت أن لا شيء فيه فصار الحاصل أن
عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في قوله الآخر
وهو قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد فيه
الخمس وعند أبي يوسف في قوله الآخر وهو قول
أبي حنيفة الأول لا شيء فيه قال لأنه ينبع من
عينه ولا ينطبع بنفسه فهو كالقير والنفط.
وجه قول من أوجب الخمس أنه يستخرج بالعلاج من
عينه وينطبع مع غيره فكان كالفضة فإنها لا
تنطبع ما لم يخلطها شيء ثم يجب فيهاالخمس فهذا
مثله.
قال: "وإذا وجد الرجل الركاز من الذهب والفضة
والجواهر مما يعرف أنه قديم فاستخرجه من أرض
الفلاة ففيه الخمس وما بقي فهو له فهذا على
وجهين" إما أن يكون فيه من علامات الإسلام
كالمصحف والدرهم المكتوب عليه كلمة الشهادة
فيكون بمنزلة اللقطة فعليه أن يعرفها أو يكون
فيه شيء من علامات الشرك كالصنم والصليب
فحينئذ فيه الخمس، لما روي أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "ما يوجد في الأرض الميتة فهو لقطة تعرف وما يوجد في الخرب العادي
ففيه وفي الركاز الخمس".
ولأنه إذا كان فيه شيء من علامات الشرك عرفنا
أنه من وضع أهل الحرب وقع في أيدي المسلمين
بإيجاف الخيل والركاب ففيه الخمس وإذا كان فيه
شيء من علامات الإسلام عرفنا أنه من وضع
المسلمين، ومال المسلم
ج / 2 ص -197-
لا
يغنم والموجود في باطن الأرض كالموجود على
ظاهرها فإن لم يكن به علامة يستدل بها فهو
لقطة في زماننا لأن العهد قد تقادم والظاهر
أنه لم يبق شيء مما دفنه أهل الحرب ويستوي إن
كان الواجد ذميا أو مكاتبا أو صبيا أو حرا أو
مسلما وقد بيناه في المعدن فكذلك في اللقطة
وكذلك في الركاز.
قال: "وإن وجده في دار رجل فإن قال صاحب الدار
أنا وضعته فالقول قوله" لأنه في يده وإن
تصادقا على أنه ركاز ففيه الخمس والباقي لصاحب
الخطة سواء كان الواجد ساكنا في الدار بعارية
أو إجارة أو شراء وصاحب الخطة هو الذي أصاب
هذه البقعة بالقسمة حين افتتحت البلدة فسمي
صاحب الخطة لأن الإمام يخط لكل واحد من
الغانمين حيزا ليكون له فإن كان هو باقيا أو
وارثه دفع إليه وإلا فهو لأقصى مالك يعرف لهذه
البقعة في الإسلام وهذا قول أبي حنيفة ومحمد
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى الباقي للواجد
قال أستحسن ذلك وأجعل الموجود في الدار والأرض
كالموجود في المفازة بعلة أن الواجد هو الذي
أظهره وحازه ولا يجوز أن يقال إن الإمام قد
ملكه صاحب الخطة في القسمة لأن الإمام عادل في
القسمة فلو جعلناه مملكا للكنز منه لم يكن
عدلا هذا معنى الاستحسان وإذا لم يملكه بقي
على أصل الإباحة فمن سبقت يده إليه كان أحق
به.
فأما وجه قولهما فما روي أن رجلا أتى علي بن
أبي طالب رضي الله عنه بألف وخمسمائة درهم
وجدها في خربة فقال علي إن وجدتها في أرض يؤدي
خراجها قوم فهم أحق بها منك وإن وجدتها في أرض
لا يؤدي خراجها أحد فخمسها لنا وأربعة أخماسها
لك وهذا مراد محمد من قوله وهذا قياس الأثر عن
علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والمعنى
فيه أن صاحب الخطة ملك البقعة بالحيازة فملك
ظاهرها وباطنها ثم المشتري منه يملك بالعقد
فيملك الظاهر دون الباطن كمن اصطاد سمكة فوجد
في بطنها لؤلؤة فهي له بخلاف ما لو اشترى سمكة
وإذا لم يتملك المشتري عليه بقي على ملك صاحب
الخطة ثم الإمام مأمور بالعدل بحسب الإمكان
فما وراء ذلك ليس في وسعه ولا نقول الإمام
يملكه الكنز بالقسمة بل يقطع مزاحمة سائر
الغانمين عن تلك البقعة ويقرر يده فيها وتقرر
يده في المحل يوجب ثبوت يده على ما هو موجود
في المحل فصار مملوكا له بالحيازة على هذا
الطريق.
قال: "مسلم دخل دار الحرب بأمان فوجد ركازا
فإن كان وجده في دار بعضهم رده عليه" لأن ما
في الدار في يد صاحب الدار وهو قد ضمن بعقد
الأمان أن لا يخونهم فعليه الوفاء بما ضمن وإن
كان وجده في الصحراء فهو له لأنه مباح ليس في
يد أحد منهم فلا يكون هو في أخذه غادرا بهم
كالحطب والحشيش وليس فيه خمس لأن الخمس فيما
كان وقوعه في يد المسلمين بإيجاف الخيل
والركاب وذلك غير موجود هنا وإن كان المعدن في
دار الإسلام للمسلم أو الذمي فهو له وليس فيه
خمس في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
ج / 2 ص -198-
وقال
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فيه الخمس
وإن كان في أرض المسلم فكذلك الجواب في رواية
كتاب الزكاة وفي الجامع الصغير فرق أبو حنيفة
رحمه الله بين الموجود في الأرض والدار.
وجه قولهما: قوله صلى الله عليه وسلم:
"وفي الركاز الخمس"، وقد
بينا أن اسم الركاز يتناول المعدن ثم قاسه
بالموجود في الفلاة بعلة أنه مال نفيس يستخرج
من معدنه وقد كانت عزوفة في يد أهل الحرب وقعت
في يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب. ولأبي
حنيفة رحمه الله تعالى طريقان:
أحدهما: أن المعدن جزء من
أجزاء ملكه وسائر أجزاء هذه البقعة مملوكة له
لا شيء عليه فيها فكذلك هذا الجزء بخلاف
الموجود في الفلاة وبخلاف الكنز وعلى هذا
الطريق يسوي بين الدار والأرض.
والطريقة الثانية: أن الدار
ملكت بشرط قطع حقوق الله تعالى حتى لا يجب
فيها خراج ولا عشر إذا كان فيها نخيل يخرج
أكرارا من تمر وعلى هذه الطريق يقول في الأرض
يجب الخمس في المعدن لأن الأرض ما ملكت بشرط
قطع حقوق الله تعالى عنه ألا ترى أنه يجب فيها
الخراج أو العشر فكذلك الخمس فيما يوجد فيه حق
الله تعالى.
قال: "حربي دخل دارنا بأمان فأصاب كنزا أو
معدنا يؤخذ منه كله" لأن هذا في معنى الغنيمة
ولا حق لأهل الحرب في غنائم المسلمين رضخا ولا
سهما بخلاف أهل الذمة وإن عمل في المعدن بإذن
الإمام أخذ منه الخمس وما بقي فهو له لأن
الإمام شرط له ذلك لمصلحة رأي فيه لمصارف
الخمس فعليه الوفاء بما شرط له. ألا ترى أنه
لو استعان بهم في قتال أهل الحرب رضخ لهم فهذا
مثله.
قال: "ولا شيء في العسل إذا كان في أرض الخراج
وإن كان في أرض العشر أو في الجبال ففيه العشر
كيف كان صاحبه" وذكر الشافعي رحمه الله تعالى
في كتابه أن ما روي في إيجاب العشر في العسل
لم يثبت وما روي من أنه لا شيء فيه لم يثبت
فهذا منه إشارة إلى أنه لا عشر في العسل.
ووجهه أنه منفصل من الحيوان فلا شيء فيه
كالابريسم الذي يكون من دود القز.
ولنا: ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص
رحمهما الله تعالى أن بني سامر قوم من جرهم
كانت لهم نحل عسالة فكانوا يؤدون إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم من كل عشر قرب قربة
وكان يحمي لهم واديهم فلما كان في زمن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه استعمل عليهم سفيان بن
عبد الله الثقفي فأبوا أن يعطوه شيئا فكتب في
ذلك إلى عمر فكتب إليه عمر أن النحل ذباب غيث
يسوقه الله تعالى إلى من شاء فإن أدوا إليك ما
كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فاحم لهم واديهم وإلا فخل بينهم وبين
الناس فدفعوا إليه العشر.
ج / 2 ص -199-
وعن
أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم كتب إلى أهل اليمن:
"أن في العسل العشر" والمعنى فيه: أن النحل تأكل من نوار الشجر وثمارها كما قال الله
تعالى:
{ثُمَّ كُلِي
مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}[النحل:
69]، فما يكون منها من العسل متولد من الثمار
وفي الثمار إذا كانت في أرض عشرية العشر فكذلك
فيما يتولد منها ولهذا لو كانت في أرض خراجية
لم يكن فيها شيء فإنه ليس في ثمار الأشجار
النابتة في أرض الخراج شيء وبهذا فارق دود
القز فإنه يأكل الورق وليس في الأوراق عشر
فكذلك ما يتولد منها.
قال: "ولا شيء في القير والنفط والملح" لأنها
فوارة كالماء وأما ما حولها من الأرض فقد قال
بعض مشايخنا لا شيء فيها من الخراج وإن كانت
هذه العيون في أرض الخراج لأنها غير صالحة
للزراعة فكانت كالأرض السبخة وما لا يبلغها
الماء وكان أبو بكر الرازي رضي الله عنه يقول
لا شيء في موضع القير وأما حريمه مما أعده
صاحبه لإلقاء ما يحصل له فيه يمسح فيوجب فيه
الخراج لأنه في الأصل صالح للزراعة إنما عطله
صاحبه لحاجته فلا يسقط الخراج عنه.
قال: "ولا شيء في الطرفاء والقصب الفارسي"
لأنه لا يستنبت في الجنان بماء ولا يقصد به
استغلال الأراضي عادة بل لا يبقي على الأرض
فإنه مفسد لها والعشر إنما يجب فيما يقصد به
استغلال الأراضي عادة.
قال: "ولا يسقط فيه الخمس عن الركاز والمعدن
وإن كان واجده معسرا أو فقيرا" لقوله صلى الله
عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس".
ولأنه ليس يجب على الواحد ولكن الخمس صار حقا
لمصارف الخمس حين وقع هذا في يد المسلمين من
يد أهل الحرب فلا يختلف باختلاف حال من يظهره.
قال: "وإذا تقبل الرجل من السلطان معدنا ثم
استأجر فيه أجراء واستخرجوا منه مالا قال يخمس
وما بقي فهو للمتقبل" لأن عمل أجرائه كعمله
بنفسه ولأن عملهم صار مسلما إليه حكما بدليل
وجوب الأجرة لهم عليه وإن كانوا عملوا فيه
بغير أمره فالأربعة الأخماس لهم دونه لأنهم
وجدوا المال والأربعة الأخماس للواجد والتقبل
من السلطان لم يكن صحيحا لأن المقصود منه ما
هو عين والتقبل في مثله لا يصح كمن تقبل أجمة
فاصطاد فيها السمك غيره كان للذي اصطاده وكذلك
من تقبل بعض المقانص من السلطان فاصطاد فيها
غيره كان الصيد لمن أخذه ولا يصح ذلك التقبل
منه فهذا مثله والله أعلم.
تم الجزء الثاني من المبسوط، ويليه الجزء
الثالث وأوله:
باب عشر الأرضين |