المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 2 ص -131-       كتاب التراويح
قال رحمه الله تعالى: "يحتاج إلى معرفة أحكام التراويح" والأمة أجمعت على شرعيتها وجوازها ولم ينكرها أحد من أهل العلم إلا الروافض لا بارك الله فيهم ولم يذكرها محمد رحمه الله تعالى وذكرها غيره ثم نقول الكلام في صلاة التراويح على اثني عشر فصلا:
الفصل الأول: في عدد الركعات
فإنها عشرون ركعة سوى الوتر عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى السنة فيها ستة وثلاثون قيل من أراد أن يعمل بقول مالك رحمه الله تعالى ويسلك مسلكه ينبغي أن يفعل كما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يصلي عشرين ركعة كما هو السنة ويصلي الباقي فرادى كل تسليمتين أربع ركعات وهذا مذهبنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس بأداء الكل جماعة كما قال مالك رحمه الله تعالى بناء على أن النوافل بجماعة مستحب عنده وهو مكروه عندنا.
قال: "والشافعي رحمه الله تعالى قاس النفل بالفرض" لأنه تبع له فيجري مجرى الفرض فيعطي حكمه ولنا أن الأصل في النوافل الإخفاء فيجب صيانتها عن الاشتهار ما أمكن وفيما قاله الخصم إشهار فلا يعمل به بخلاف الفرائض لأن مبناها على الإعلان والإشهار وفي الجماعة إشهار فكان أحق. يوضح ما قلنا: أن الجماعة لو كانت مستحبة في حق النوافل لفعله المجتهدون القائمون بالليل لأن كل صلاة جوزت على وجه الانفراد وبالجماعة كانت الجماعة فيها أفضل ولم ينقل أداؤها بالجماعة في عصره صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولا في زمن غيرهم من التابعين فالقول بها مخالف للأمة أجمع وهذا باطل.

الفصل الثاني: إنها تؤدى بجماعة أم فرادى
ذكر الطحاوي "في اختلاف العلماء" عن المعلى عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى وذكر أيضا عن مالك رحمه الله تعالى أنهما قالا إن أمكنه أداؤه في بيته صلى كما يصلي

 

ج / 2 ص -132-       في المسجد من مراعاة سنة القراءة وأشباهه فيصلي في بيته. وقال الشافعي، رحمه الله تعالى في قوله القديم أداء التراويح على وجه الانفراد لما فيها من الإخفاء أفضل وقال عيسى بن أبان وبكار بن قتيبة والمزني من أصحاب الشافعي وأحمد بن عمران رحمهم الله تعالى الجماعة أحب وأفضل وهو المشهور عن عامة العلماء رحمهم الله تعالى وهو الأصح والأوثق ويدل عليه ما روي في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لما بقي سبع من شهر رمضان فصلى بهم حتى مضى ثلث الليل ولم يخرج في الليلة السادسة ثم خرج في الليلة الخامسة وصلى بنا حتى مضى شطر الليل فقلنا لو نفلتنا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له ثواب تلك الليلة". ثم خرج في الليلة الرابعة وصلى بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، يعني السحر.
وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى في "اختلاف العلماء"، وقال: لا ينبغي أن يختار الانفراد على وجه يقطع القيام في المسجد فالجماعة من سنن الصالحين والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين حتى قالوا رضي الله تعالى عنهم نور الله قبر عمر رضي الله تعالى عنه كما نور مساجدنا. والمبتدعة أنكروا أداءها بالجماعة في المسجد فأداؤها بالجماعة جعل شعارا للسنة كأداء الفرائض بالجماعة شرع شعار الإسلام.

الفصل الثالث: في بيان كونها سنة متوارثة أم تطوعا مطلقة مبتدأة
اختلفوا فيها وينقطع الخلاف برواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن التراويح سنة لا يجوز تركها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقامها ثم بين العذر في ترك المواظبة على أدائها بالجماعة في المسجد وهو خشية أن تكتب علينا ثم واظب عليها الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي". وأن عمر رضي الله عنه صلاها بالجماعة مع أجلاء الصحابة فرضي به علي رضي الله عنه حتى دعا له بالخير بعد موته كما ورد وأمر به في عهده.
قال: "ولو صلى إنسان في بيته لا يأثم" هكذا كان يفعله بن عمر وإبراهيم والقاسم وسالم الصواف رضي الله عنهم أجمعين بل الأولى أداؤها بالجماعة لما بينا.

الفصل الرابع: في الانتظار بعد كل ترويحتين
وهو مستحب هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنها إنما سميت بهذا الاسم لمعنى الاستراحة وأنها مأخوذة عن السلف وأهل الحرمين فإن أهل مكة يطوفون سبعا

 

ج / 2 ص -133-       بين كل ترويحتين كما حكينا عن مالك رحمه الله تعالى ولو استراح إمام بعد خمس ترويحات قال بعض الناس لا بأس به وهذا ليس بشيء لما فيه من المخالفة لأهل الحرمين والصحيح هو الانتظار والاستراحة بين كل ترويحتين على ما حكينا.

الفصل الخامس: في كيفية النية
واختلفوا فيها. والصحيح أن ينوي التراويح أو السنة أو قيام الليل ولو نوى مطلق الصلاة لا تجوز عن التراويح لأنها سنة والسنة لا تتأدى بنية مطلقة أو بنية التطوع فإنه روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في ركعتي الفجر أنها لا تجوز بمطلق النية ونية التطوع فلو كان الإمام يصلي التسليمة الثانية والمقتدي ينوي التسليمة الأولى أو الثانية اختلفوا فيه والأصح أنها تجوز عن التراويح والنية في مثلها لغو لأن الصلاة هذه وإن كثرت أعداد ركعاتها ولكنها من جنس واحد فلا تعتبر فيها النية من المقتدي كما لا تعتبر من الإمام فإنه لو نوى عند تسليم الأولى الثانية أو على القلب من هذا كان لغوا وجازت صلاته فكذلك في حق المقتدي يكون لغوا.

الفصل السادس: في حق قدر القراءة
واختلف فيه مشايخنا رحمهم الله تعالى قال بعضهم يقرأ مقدار ما يقرأ في المغرب تحقيقا لمعنى التخفيف لأن النوافل يحسن أن تكون أخف من الفرائض وهذا شيء مستحسن لما فيه من درك الختم والختم سنة في التراويح وقال بعضهم في كل ركعة من عشرين آية إلى ثلاثين آية أصله ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه دعا ثلاثة من الأئمة واستقرأهم فأمر أحدهم أن يقرأ في كل ركعة ثلاثين آية وأمر الآخر أن يقرأ في كل ركعة خمسة وعشرين آية وأمر الثالث أن يقرأ في كل ركعة عشرين آية.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى: أن الإمام يقرأ في كل ركعة عشر آيات ونحوها وهو الأحسن لأن السنة في التراويح الختم مرة وبما أشار إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى يختم القرآن مرة فيها لأن عدد ركعات التراويح في جميع الشهر ستمائة وعدد آي القرآن ستة آلاف وشيء فإذا قرأ في كل ركعة عشر آيات يحصل الختم فيها ولو كان كما حكي عن عمر رضي الله عنه لوقع الختم مرتين أو ثلاثا.
قال القاضي الإمام المحسن المروزي، رحمه الله تعالى: الأفضل عندي أن يختم في كل عشر مرة وذلك أن يقرأ في كل ركعة ثلاثين آية أو نحوها كما أمر به عمر رضي الله عنه،

 

ج / 2 ص -134-       أحد الأئمة الثلاثة ولأن كل عشر مخصوص بفضيلة على حدة كما جاءت به السنة وبه نطق الحديث وهو شهر أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار فيحسن أن يختم في كل عشر ولأن التثليث يستحب في كل شيء فكذا في الختم.
وحكي عن القاضي الإمام عماد الدين رحمه الله تعالى أن مشايخ بخارى جعلوا القرآن خمسمائة وأربعين ركوعا وعلموا الختم بها ليقع الختم في الليلة السابعة والعشرين رجاء إن ينالوا فضيلة ليلة القدر إذ الأخبار قد كثرت بأنها ليلة السابع والعشرين من رمضان وفي غير هذه البلدة المصاحف معلمة بالآيات وإنما سموه ركوعا على تقدير أنها تقرأ في كل ركعة.

الفصل السابع: في أدائها قاعدا من غير عذر
اختلفوا فيه قال بعضهم لا ينوب عن التراويح على قياس ما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في ركعتي الفجر أنه لو أداهما قاعدا من غير عذر لم يجزه عن السنة وعليه الاعتماد فكذا هذا لأنها مثله والصحيح أنها تجوز والفرق ظاهر فإن ركعتي الفجر آكد وأشهر وهذا الفرق يوافق رواية أبي سليمان عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى ومع الفرق فإنه لا يستحب لما فيه من مخالفة السنة والسلف.

الفصل الثامن: في الزيادة على قدر المسنون وهو ركعتان بتسليمة واحدة
فنقول: لا يخلو إما أن يقعد على رأس الشفع الأول أو لا يقعد فإن قعد ففيه خلاف والأصح أنه يجوز عن التسليمتين لأن كل شفع صلاة على حدة ولهذا لو فسد الشفع الثاني فسد هو لا غير ولأنه لم يحل بينهما بالسلام الذي هو بمعنى الكلام فكان أحق بالجواز فإن صلى ست ركعات أو ثمان ركعات وقعد على رأس كل شفع اختلف فيه المتقدمون والمتأخرون.
فالمتقدمون اختلفوا فيما بينهم. قال بعضهم المسألة على الخلاف عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقع عن العدد المستحب وهو أربع ركعات لأن الزيادة على الأربع غير مستحب في التطوع. وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يقع عن العدد الجائز وهو ست ركعات في رواية الجامع الصغير وفي رواية كتاب الصلاة ثمان ركعات ولو صلى عشر ركعات فهو عن التسليمات الخمس في رواية شاذة عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلا أنها مكروهة لأنها خلاف الظاهر. وفي رواية الجامع أربع ركعات بتسليمة واحدة ولو لم يقعد على رأس الشفع الأول، القياس أنه لا يجوز وبه أخذ محمد وزفر رحمهما الله

 

ج / 2 ص -135-       تعالى وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي الاستحسان يجوز وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى واختلفوا على قولهما أنه متى جاز تجوز عن تسليمة واحدة أم عن تسليمتين والأصح أنه يجوز عن تسليمة واحدة ولو صلى ثلاث ركعات بقعدة واحدة لم يجز عند محمد وزفر رحمهما الله تعالى.
واختلفوا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى قال بعضهم لا يجزئه لأنه لا أصل لها في النوافل فإنها غير مشروعة بثلاث ركعات وقال بعضهم يجزئه عن تسليمة واحدة اعتبارا بالمغرب ثم على قول من يقول لا يجزئه عن تسليمة واحدة لا شك أنه يلزمه قضاء الشفع الأول وهل يلزمه قضاء الشفع الثاني فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجب سواء شرع في الشفع الثاني عامدا أو ساهيا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى ينظر إن شرع عامدا يجب وإن شرع ساهيا لا يجب وإنما على القول الذي يجوزه عن تسليمة واحدة يجب عليه قضاء الشفع الثاني إن شرع فيه عامدا وإن شرع ساهيا لا يجب باتفاق بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لأن الشفع الأول لما صح صح الشروع في الشفع الثاني فيجب عليه إكماله إن شرع فيه عن قصد حتى لو صلى الرجل التراويح بعشر تسليمات في كل تسليمة ثلاث ركعات بقعدة واحدة جاز ويسقط عنه التراويح وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى لا يسقط ولو صلى التراويح كلها بتسليمة واحدة وقعد في كل ركعتين الأصح أنه يجزئه عن الترويحات أجمع وهو أصح الروايتين وإن لم يقعد اختلفت فيه الأقاويل على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى والأصح أنه يجزئه عن تسليمة واحدة.

الفصل التاسع: أنه متى وقع الشك
في أن الإمام صلى عشر تسليمات فالصحيح من المذهب أن يصلوا ركعتين فرادى لتصير عشرا بيقين ولئلا يصير مؤديا للتطوع بجماعة اذ هي مكروهة على ما بينا.

الفصل العاشر: في تفضيل التسليمتين على البعض
وهو جائز من غير كراهة والتسوية أفضل وأما تفضيل إحدى الركعتين على الأخرى فإن فضل الثانية على الأولى لا شك أنه يكره إلا بما لا يمكن الاحتراز عنه كآية أو آيتين وفي تفضيل الأولى على الثانية اختلفوا فيه، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى التعديل أفضل. وقال محمد رحمه الله تعالى الأفضل تفضيل الأولى على الثانية كما في سائر الصلوات.

 

ج / 2 ص -136-       الفصل الحادي عشر: في وقتها المستحب
الأفضل إلى ثلث الليل أو إلى النصف اعتبارا بالعشاء ولو أخرها إلى ما وراء النصف اختلف فيه قال بعضهم يكره استدلالا بالعشاء لأنه تبع لها. والصحيح أنه لا يكره لأنها صلاة الليل والأفضل فيها آخر الليل فإن فاتت عن وقتها هل تقضى قال بعضهم تقضى ما دام الليل باقيا. وقال بعضهم تقضى ما لم يأت وقتها في الليلة المستقبلة وقال بعضهم تقضى ما دام الشهر باقيا وقال آخرون لا تقضى أصلا كسنة المغرب وغيرها من السنن في غير وقتها إلا سنة الفجر في قول محمد رحمه الله تعالى على ما عرف في الأصل وقالوا جميعا أنها لا تقضى بجماعة ولو كانت مما تقضى لكانت تقضى على صفة الأداء.

الفصل الثاني عشر: في إمامة الصبي في التراويح
جوزها مشايخ خراسان رحمهم الله تعالى ورضي عنهم ولم يجوزها مشايخ العراق رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.