المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 3 ص -51-
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصوم
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو
بكر محمد بن أبي سهل السر خسي، رحمه الله
تعالى الصوم في اللغة هو الإمساك ومنه قول
النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي: واقفة. ومنه صام
النهار إذا وقفت الشمس ساعة الزوال.
وفي الشريعة عبارة عن إمساك مخصوص وهو الكف عن
قضاء الشهوتين شهوة البطن وشهوة الفرج من شخص
مخصوص وهو أن يكون مسلما طاهرا من الحيض
والنفاس في وقت مخصوص وهو ما بعد طلوع الفجر
إلى وقت غروب الشمس بصفة مخصوصة وهو أن يكون
على قصد التقرب.
فالاسم شرعي فيه معنى اللغة وأصل فرضية الصوم
ثبت بقوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}[البقرة: 183] إلى قوله:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185] ففيه بيان السبب الذي جعله الشرع موجبا وهو شهود
الشهر وأمر بالأداء نصا بقوله:
{فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185] وقال صلى الله عليه وسلم:
"بني الإسلام على خمس"، وذكر من جملتها الصوم وقد كان وقت الصوم في الابتداء من حين يصلي
العشاء أو ينام وهكذا كان في شريعة من قبلنا.
ثم خفف الله تعالى الأمر على هذه الأمة وجعل
أول الوقت من حين يطلع الفجر بقوله تعالى:
{وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ}[البقرة:
187] قال أبو عبيد الخيط الأبيض الصبح الصادق
والخيط اللون وفي حديث عدي بن حاتم عن النبي
صلى اله عليه وسلم أنه قال:
"الخيط الأبيض والأسود بياض النهار وسواد
الليل" وسبب هذا التخفيف ما ابتلي به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما
ابتلي صرمة بن أنس حين رآه النبي صلى الله
عليه وسلم مجهودا فقال:
"مالك أصبحت طلحا؟" أو قال:
"طليحا" الحديث.
ومعنى التخفيف: أن المعتاد في الناس أكلتان
الغداء والعشاء فكان التقرب بالصوم في
الابتداء بترك الغداء والاكتفاء بأكلة واحدة
وهي العشاء ثم إن الله تعالى أبقى لهذه الأمة
الأكلتين جميعا وجعل معنى التقرب في تقديم
الغداء عن وقته كما أشار إليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم في السحور إنه الغذاء المبارك.
والتقرب بالصوم من حيث مجاهدة النفس،
والمجاهدة في هذا من وجهين:
أحدهما:
ج / 3 ص -52-
بمنع
النفس من الطعام وقت الاشتهاء
والثاني: بالقيام وقت حبها
المنام ومن المجاهدة حفظ اللسان وتعظيم ما عظم
الله تعالى كما بدأ به الكتاب.
وذكر عن مجاهد رحمه الله تعالى أنه كان يكره
أن يقول الرجل جاء رمضان وذهب رمضان ولكن ليقل
جاء شهر رمضان وذهب شهر رمضان قال لا أدري لعل
رمضان اسم من أسماء الله تعالى فكأنه ذهب في
هذا إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تقولوا جاء
رمضان وذهب رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله
تعالى" وفي رواية
"ولكن عظموه كما عظمه الله تعالى".
واختار بعض مشايخنا قول مجاهد في هذا فقال
والصحيح من المذهب أنه يكره ذلك لأن محمدا
رحمه الله تعالى لم يبين مذهب نفسه ولا روى
خبرا بخلاف قول مجاهد وقالوا في بيان المعنى
أنه مشتق من الإرماض وهو الإحراق والمحرق
للذنوب المذهب لها هو الله تعالى والذي عليه
عامة مشايخنا أنه لا بأس بذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"عمرة في رمضان تعدل حجة".
وقال:
"من صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر". وقال
"إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة"، وليس فيها ذكر رمضان وإثبات الاسم لا يكون بالآحاد وإنما يكون
بالمتواتر والمشاهير ولو كان من أسماء الله
تعالى فهو اسم مشترك كالحكيم والعالم ولا بأس
بأن يقال جاء الحكيم والعالم والمراد به غير
الله تعالى.
قال: رجل تسحر وقد طلع الفجر وهو لا يعلم به
في شهر رمضان ومراده الفجر الثاني فبطلوع
الفجر الأول الذي تسميه العرب ذنب السرحان لا
يدخل وقت الصوم.
قال صلى الله عليه وسلم:
"لا يغرنكم أذان بلال ولا الفجر المستطيل
وكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير"، المنتشر. وإذا تبين أن تسحره كان بعد طلوع الفجر الثاني فسد صومه
إلا على قول بن أبي ليلى فإنه يقيسه على
الناسي بناء على أصله أن المخصوص من القياس
بالنص يقاس عليه غيره
وعندنا المخصوص من القياس بالنص لا يقاس عليه
فإن قياس الأصل يعارضه ولا يلحق به إلا ما كان
في معناه من كل وجه وهذا ليس في معنى الناسي
لأن الاحتراز عن هذا الغلط ممكن في الجملة
بخلاف النسيان ثم فساد صومه لفوات ركن الصوم
وهو الإمساك وعليه الإمساك في بقية يومه قضاء
لحق الوقت فإن الإمساك في نهار رمضان عند فوات
الصوم مشروع. قال صلى الله عليه وسلم:
"ألا من أكل"، فلا يأكل
بقية يومه وعليه قضاء هذا اليوم لأن فوات
الأداء بعد تقرر السبب الموجب له فيضمنه
بالمثل بما هو مشروع له ولا كفارة عليه لأنه
معذور وكفارة الفطر عقوبة لا تجب إلا على
الجاني. قال صلى الله عليه وسلم:
"من أفطر في نهار رمضان متعمدا فعليه ما على
المظاهر والذي أفطر وهو يرى أن الشمس قد غابت
ثم تبين أنها لم تغب فعليه مثل هذا"،
وفيه حديث عمر رضي الله عنه عنه حين أفطر مع
الصحابة
ج / 3 ص -53-
يوما
فلما صعد المؤذن المأذنة قال: الشمس يا أمير
المؤمنين قال بعثناك داعيا ولم نبعثك راعيا ما
تجانفنا لإثم وقضاء يوم علينا يسير.
قال: رجل أصبح في شهر رمضان جنبا فصومه تام
إلا على قول بعض أصحاب الحديث يعتمدون فيه
حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
"من أصبح جنبا فلا صوم له" محمد
صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة قاله.
ولنا: قوله تعالى:
{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}
إلى قوله:
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ}[البقرة: 187] وإذا كانت المباشرة في آخر جزء من أجزاء الليل مباحة
فالاغتسال يكون بعد طلوع الفجر ضرورة وقد أمر
الله تعالى بإتمام الصوم وفي حديث عائشة رضي
الله تعالى عنها أن رجلا سأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: إني أصبحت جنبا وأنا
أريد الصوم فقال صلى الله عليه وسلم:
"وأنا ربما أصبح جنبا وأنا أريد الصوم"، فقال: لست كأحدنا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
"إني لأرجو أن أكون أعلمكم بما يبقى".
ولما بلغ عائشة حديث أبي هريرة قالت رحم الله
أبا هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصبح جنبا من غير احتلام ثم يتم صومه وذلك في
رمضان فذكر قولها لأبي هريرة رضي الله تعالى
عنه فقال: هي أعلم، حدثني به الفضل بن عباس
رضي الله تعالى عنه وكان يومئذ ميتا ثم تأويل
الحديث من أصبح بصفة توجب الجنابة وهو أن يكون
مخالطا أهله وإن احتلم نهارا لم يفطر لقوله
صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام".
قال: وإن ذرعه القيء لم يفطر لما روينا ولقول
بن عباس رضي الله تعالى عنه الصوم مما دخل وإن
تقيأ متعمدا فعليه القضاء لحديث علي رضي الله
تعالى عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، قال:
"من قاء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء" ولأن فعله يفوت ركن الصوم وهو الإمساك ففي تكلفه لا بد أن يعود شيء
إلى جوفه ولا كفارة عليه إلا على قول مالك
رحمه الله تعالى فإنه يقول كل مفطر غير معذور
فعليه الكفارة ولم يفصل في ظاهر الرواية بين
مليء الفم وما دونه وفي رواية الحسن عن أبي
حنيفة رحمه الله تعالى فرق بينهما وهو الصحيح
فإن ما دون مليء الفم تبع لريقه فكان قياس ما
لو تجشأ وملء الفم لا يكون تبعا لريقه ألا ترى
أنه ناقض لطهارته فإن عاد إلى جوفه أو أعاده
فقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
إذا ذرعه القيء فرده وهو يستطيع أن يرمي به
فعليه القضاء وروى بن مالك عن أبي يوسف عن أبي
حنيفة رحمهم الله تعالى أنه إذا ذرعه القيء
فكان ملء فيه أو أكثر فعاد إلى جوفه فسد صومه
تعمد ذلك أو لم يتعمد.
والمشهور أن فيه خلافا بين أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله فمحمد اعتبر الصنع في طرف الإخراج
أو الإدخال لأنه يفوت به الإمساك وأبو يوسف
يعتبر انتقاض الطهارة ليستدل
ج / 3 ص -54-
به على
أنه ليس بتبع لريقه حتى إذا ذرعه القيء دون
ملء الفم وعاد بنفسه لم يفسد صومه بالاتفاق
وإن أعاده فسد صومه عند محمد ولم يفسد عند أبي
يوسف رحمه الله تعالى وإن كان ملء الفم فعاد
بنفسه فسد صومه عند أبي يوسف ولم يفسد عند
محمد وإن أعاده فسد صومه بالاتفاق وإن تقيأ
أقل من ملء فمه فإن عاد بنفسه يفسد صومه عند
محمد ولم يفسد صومه عند أبي يوسف رحمه الله
تعالى وإن أعاده ففيه روايتان عن أبي يوسف في
إحداهما لا يفسد صومه لأنه ليس بناقض لطهارته
وفي الأخرى يفسد صومه لكثرة صنعه في الإدخال
والإخراج جميعا فكان قياس ملء الفم.
قال: وإن احتجم الصائم لم يضره إلا على قول
أصحاب الحديث يستدلون فيه بما روي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم مر بمعقل بن يسار وهو
يحتجم في رمضان فقال: "افطر الحاجم والمحجوم".
ولنا: حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه
قال مر بنا أبو طيبة في بعض أيام رمضان فقلنا:
من أين جئت؟ فقال: حجمت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما قال:
"أفطر الحاجم والمحجوم",
شكى الناس إليه الدم فرخص للصائم أن يحتجم وفي
حديث بن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم بالقاحة
وتأويل الحديث الذي روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم مر بهما وهما يغتابان آخر فقال صلى
الله عليه وسلم:
"أفطر الحاجم والمحجوم",
أي أذهب ثواب صومهما الغيبة. وقيل الصحيح أنه
غشي على المحجوم فصب الحاجم الماء في حلقه
فقال صلى الله عليه وسلم:
"أفطر
الحاجم والمحجوم", أي فطره
بما صنع به فوقع عند الراوي أنه قال
"أفطر الحاجم
والمحجوم" ثم خروج الدم من البدن لا يفوت ركن الصوم ولا يحصل به اقتضاء
الشهوة وبقاء العبادة ببقاء ركنها.
قال: وإذا طهرت الحائض في بعض نهار رمضان لم
يجزها صومها في ذلك اليوم لانعدام الأهلية
للأداء في أوله وعليها الامساك عندنا خلافا
للشافعي رحمه الله تعالى عنه فالأصل عنده أن
من كان مباحا له الإفطار في أول اليوم ظاهرا
وباطنا لا يلزمه الإمساك فيه في بقية اليوم
لأن وجوب الإمساك في يوم واحد لا يتجزأ كوجوب
الصوم وعلى هذا الصبي إذا بلغ والكافر إذا
أسلم والمريض إذا بريء والمسافر إذا قدم مصره
والمجنون إذا أفاق في بعض النهار لا يلزمهم
الإمساك عنده بخلاف يوم الشك إذا تبين أنه من
رمضان والمتسحر بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم به
لأن الأكل كان مباحا له باطنا
والأصل عندنا أن من صار في بعض النهار على صفة
لو كان عليها في أول النهار يلزمه الصوم فعليه
الإمساك في بقية النهار لأن الامساك مشروع
خلفا عن الصوم عند فواته لقضاء حق الوقت ولأنه
لو أكل ولا عذر به اتهمه الناس والتحرز عن
مواضع التهمة واجب.
قال صلى الله عليه وسلم:
"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن
مواقف التهم".
وقال علي،
ج / 3 ص -55-
رضي
الله تعالى عنه إياك وما يقع عند الناس إنكاره
وفي رواية ما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان
عندك اعتذاره فليس كل سامع نكرا يطيق أن يوسعه
عذرا وإن أكلت لم يلزمها شيء لأن الإمساك لحق
الوقت وقد فات على وجه لا يمكن تداركه وعليها
قضاء هذا اليوم مع سائر أيام الحيض لما روى أن
امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها ما بال
إحدانا تقضي صيام أيام الحيض ولا تقضي الصلاة
فقالت أحرورية أنت كنا على عهد رسول صلى الله
عليه وسلم نقضي صيام أيام الحيض ولا نقضي
الصلاة ولأن الحرج عذر مسقط للقضاء كما أنه
مسقط للأداء وفي قضاء خمسين صلاة في كل عشرين
يوما حرج بين وليس في قضاء صوم عشرة أيام في
أحد عشر شهرا كبير حرج.
قال: ويقبل الصائم ويباشر إذا كان يأمن على
نفسه ما سوى ذلك لحديث عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم.
وفي رواية كان يصيب من وجهها وهو صائم قالت
وكان أملككم لأدبه أو لإربه فالأدب العضو
والإرب الحاجة وجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال أذنبت ذنبا
فاستغفر لي قال:
"وما ذنبك؟"
قال هششت إلى امرأتي وأنا صائم فقبلتها. فقال:
"أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟"
فقال: لا قال: "فقم أذن", وفيه إشارة إلى معنى بقاء ركن الصوم وانعدام اقتضاء الشهوة بنفس
التقبيل فإن كان لا يأمن على نفسه فالتحرز
أولى لما روي أن شابا سأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن القبلة للصائم فمنعه وسأل شيخ عن
ذلك فأذن له فيه فنظر القوم بعضهم إلى بعض
فقال رسول الله صلى الله عليبه وسلم:
"قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه".
وهكذا روي عن بن عباس
رضي الله عنه وفي حديثه أن الشاب قال له إن
ديني ودينه واحد قال نعم ولكن الشيخ يملك نفسه
وهو إشارة إلى معنى تعريض الصوم للفساد
والتجاوز عن القبلة إلى غيرها
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه فمن رتع
حول الحمى يوشك أن يقع فيه", وعلى هذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه كره
المباشرة الفاحشة للصائم وكذلك بأن يعانقها
وهما متجردان ويمس ظاهر فرجه ظاهر فرجها.
قال: وإن اشتبه شهر رمضان على الأسير تحرى
وصام شهرا بالتحري لأنه مأمور بصوم رمضان
وطريق الوصول إليه التحري عند انقطاع سائر
الأدلة كأمر القبلة فإن تبين أنه أصاب شهر
رمضان أجزأه لأنه أدرك ما هو المقصود بالتحري
وإن تبين أنه صام شهرا قبله لم يجزه لأنه أدى
العبادة قبل وجود سبب وجوبها فلم تجزه كمن صلى
قبل الوقت وذكر الشافعي رحمه الله تعالى في
كتاب الأم أنه إن علم به قبل مضي شهر رمضان
فعليه أن يصوم وإن علم به بعد مضي شهر رمضان
جاز صومه
وإن تبين أنه صام شهرا بعده جاز بشرطين إكمال
العدة وتبييت النية لشهر رمضان لأنه قاض لما
وجب عليه بشهود الشهر وفي القضاء يعتبر هذان
الشرطان.
ج / 3 ص -56-
فإن
قيل كيف يجوز ولم ينو القضاء؟
قلنا: لأنه نوى ما هو واجب عليه من الصوم في
هذه السنة وهذا ونية القضاء سواء.
فإن تبين أنه صام شوال فعليه قضاء يوم الفطر
لأن الصوم فيه لا يجوز عن القضاء وإن تبين أنه
صام ذي الحجة فعليه قضاء يوم النحر وأيام
التشريق وإن تبين أنه صام شهرا آخر فليس عليه
قضاء شيء إلا أن يكون رمضان كاملا وذلك الشهر
ناقصا فحينئذ يقضي يوما لإكمال العدة.
قال: وإن صام شهر رمضان تطوعا وهو يعلم به أو
لا يعلم فصومه عن شهر رمضان والكلام في هذه
المسألة على فصول.
أحدها: أن أصل النية شرط لأداء صوم رمضان إلا
على قول زفر رحمه الله تعالى وحجته أن المشروع
في زمان رمضان صوم واحد لأن الزمان معيار
للصوم ولا يتصور في يوم واحد إلا صوم واحد ومن
ضرورة استحقاق الفرض فيه انتفاء غيره فما
يتصور منه من الإمساك في هذا اليوم مستحق عليه
لصوم الفرض فعلى أي وجه أتى به يقع من الوجه
المستحق وهو نظير من وهب النصاب الذي وجبت فيه
الزكاة من فقير جاز عن الزكاة وإن لم ينو.
ولنا: حرفان:
أحدهما: أن المستحق عليه فعل هو عبادة
والعبادة لا تكون إلا بالإخلاص والعزيمة.
قال صلى الله عليه وسلم:
"الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى".
والثاني: أن مع استحقاق الصوم عليه في هذا
اليوم بقيت منافعه مملوكة له.
فإن معنى العبادة لا يحصل إلا بفعل يباشره عن
اختيار ويصرف إليه ما هو مملوك له وصرف منافعه
المملوكة إلى ما هو مستحق عليه على وجه يكون
مختارا فيه لا يكون إلا عن قصد وعزيمة وفي
مسألة هبة النصاب معنى القصد والعزيمة حصل
باختيار المحل ومعنى العزيمة حصل لحاجة المحل
ألا ترى أن من وهب لفقير شيئا لا يملك الرجوع
فيه لحصول المقصود وهو الثواب؟.
وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله ينكر هذا
المذهب لزفر رحمه الله تعالى ويقول المذهب
عنده أن صوم جميع الشهر يتأدى بنية واحدة كما
هو قول مالك رحمه الله تعالى وحجتهما أن صوم
الشهر في معنى عبادة واحدة فإن سببها واحد وهو
شهود جزء من الشهر والشروع فيها في وقت واحد
والخروج منها كذلك فكان بمنزلة ركعات صلاة
واحدة.
ولنا: أن صوم كل يوم عبادة على حدة ألا ترى أن
فساد البعض لا يمنع صحة ما بقي وأنه يتخلل بين
الأيام زمان لا يقبل الصوم وهو الليل وإن
انعدمت الأهلية في بعض الأيام لا يمنع تقرر
الأهلية فيما بقي فكانت بمنزلة صلوات مختلفة
فيستدعي كل واحد منهما نية على حدة ثم إن أطلق
نية الصوم أو نوى النفل فهو صائم عن الفرض
عندنا.
ج / 3 ص -57-
وقال
الشافعي رحمه الله تعالى إن كان يعلم أن اليوم
من رمضان فنوى النفل لم يكن صائما وإن كان لا
يعلم جاز صومه عن النفل لأن الخطاب بأداء
الفرض لا يتوجه عليه إلا بعد العلم به.
وقال ابن أبي ليلى إن كان يعلم أن اليوم من
رمضان جاز صومه عن الفرض وإن كان لا يعلم لم
يكن صائما لأن قصده عند عدم العلم كان إلى
أداء النفل غير مشروع في هذا اليوم فهو كنية
أداء الصوم في الليل وأنه لغو لكونه غير مشروع
فيه.
والشافعي رحمه الله تعالى يقول إن صفة الفريضة
قربة كأصل الصوم فكما لا يتأدى أصل الصوم إلا
بالنية فكذلك الصفة وبانعدام الصفة ينعدم
الصوم ضرورة وعلى هذا إذا أطلق النية لا يجوز
والوجه الآخر أن بنية النفل صار معرضا عن
الفرض لما بينهما من المغايرة فصار كإعراضه
بترك النية ولا يجوز أن يصير ناويا للصوم
المشروع في هذا الوقت بنية النفل لأنه لو
اعتقد في المشروع في هذا الوقت أنه نفل يكفر
وعلى هذا لو أطلق النية يجوز لأنه ما صار
معرضا بهذه النية.
ولنا: حديث علي وعائشة رضي الله تعالى عنهما
أنهما كان يصومان يوم الشك وكانا يقولان لأن
نصوم يوما من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوما
من رمضان وإنما كانا يصومان بنية النفل
لإجماعنا على أنه لا يباح صوم يوم الشك بنية
الفرض فلولا أن عند التبين يجوز الصوم عن
الفرض لم يكن لهذا التحرز منهما معنى ثم هذا
صوم عين فيتأدى بمطلق النية كالنفل ومعناه أنه
هو المشروع فيه وغيره ليس بمشروع أصلا
والمتعين في زمان كالمتعين في مكان فيتناوله
اسم الجنس كما يتناوله اسم النوع ومعنى القربة
في أصل الصوم يتحقق لبقاء الاختيار للعبد فيه
ولا يتحقق في الصفة إذ لا اختيار له فيها فلا
يتصور منه إبدال هذا الوصف بوصف آخر في هذا
الزمان فيسقط اعتبار نية الصفة ونية النفل لغو
بالاتفاق لأن النفل غير مشروع في هذا الوقت
والإعراض عن الفرض يكون بنية النفل فإذا لغت
نية النفل لم يتحقق الإعراض وهو نظير الحج على
قوله وبه يبطل قوله أنه لو اعتقد أنه نفل
يكفر.
وعلى هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى في المسافر إذا نوى واجبا آخر في رمضان
وقع عن فرض رمضان لأن وجوب الأداء ثابت في حق
المسافر حتى لو أدى جاز وإنما يفارق المقيم في
الترخص بالفطر فإذا لم يترخص كان هو والمقيم
سواء وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول يقع
صومه عما نوى لأنه ما ترك الترخص حين قصد صرف
منافعه إلى ما هو الأهم وهو ما تقرر دينا في
ذمته وهذه الرخصة لدفع الحرج والمشقة عنه فكان
من مصالح بدنه وفي هذه النية اعتبار المصلحة
أن يصوم أو يفطر فصح منه.
ولأن رمضان في حق المسافر كشعبان في حق
المقيم، على معنى أنه مخير بين أن يصوم أو
يفطر فإن نوى المسافر النفل ففيه روايتان: عن
أبي حنيفة في رواية ابن سماعة عنه يقع
ج / 3 ص -58-
عن فرض
رمضان لأنه ترك الترخص.وفي رواية الحسن يقع عن
النفل لأن رمضان في حقه كشعبان في حق غيره.
فأما المريض إذا نوى واجبا آخر فالصحيح أن
صومه يقع عن رمضان لأن إباحة الفطر له عند
العجز عن أداء الصوم فأما عند القدرة هو
والصحيح سواء بخلاف المسافر وذكر أبو الحسن
الكرخي أن الجواب في المريض والمسافر سواء على
قول أبي حنيفة وهو سهو أو مؤول ومراده مريض
يطيق الصوم ويخاف منه زيادة المرض.
وأما الكلام في وقت النية فلا خلاف في أن أوله
من وقت غروب الشمس لأن الأصل في العبادات
اقتران النية بحال الشروع في الصوم إلا أن وقت
الشروع في الصوم وقت مشتبه لا يعرفه إلا من
يعرف النجوم وساعات الليل وهو مع ذلك وقت نوم
وغفلة والمتهجد بالليل يستحب له أن ينام سحرا
فلدفع الحرج جوز له بنية متقدمة على حالة
الشروع وإن كان غافلا عنه عند الشروع بأن تجعل
تلك النية كالقائمة حكما فأما النية بعد طلوع
الفجر لصوم رمضان تجوز في قول علمائنا رحمهم
الله تعالى وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى
لا تجوز وفي الكتاب لفظان:
أحدهما: إذا نوى قبل الزوال.
والثاني: إذا نوى قبل انتصاف
النهار وهو الأصح.
فالشرط عندنا وجود النية في أكثر وقت الأداء
ليقام مقام الكل.
وإذا نوى قبل الزوال لم يوجد هذا المعنى لأن
ساعة الزوال نصف النهار من طلوع الشمس ووقت
أداء الصوم من طلوع الفجر فالشافعي رحمه الله
تعالى استدل بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا صيام لمن
لم يعزم الصيام من الليل", والعزم عقد
القلب على الشيء فإذا لم ينعقد قلبه على الصوم
من الليل لا يجزئه والمعنى فيه أن القصد
والعزيمة عند أول جزء من العبادة شرط ليكون
قربة كالصلاة وسائر العبادات فإذا انعدم ذلك
لم يكن ذلك الجزء قربة وما بقي لا يكفي
للفريضة لأن المستحق عليه صوم يوم كامل بخلاف
النفل فإنه غير مقدر شرعا فيمكن أن يجعل صائما
من حين نوى مع أن مبنى النفل على المسامحة
والفرض على الضيق ألا ترى أن صلاة النفل تجوز
قاعدا مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة
على النزول بخلاف الفرض؟.
ولنا: حديث عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما
أن الناس أصبحوا يوم الشك على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقدم أعرابي وشهد برؤية
الهلال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أتشهد أن
لا إله إلا الله وأني رسول الله؟"
فقال:نعم، فقال صلى الله عليه وسلم:
"الله أكبر يكفي المسلمين أحدهم"
فصام وأمر الناس بالصيام وأمر مناديا فنادى:
"ألا من كان أكل فلا يأكلن بقية يومه ومن لم
يأكل فليصم".
وتأويل حديثه أن المراد هو النهي عن تقديم
النية على الليل ثم هو عام دخله الخصوص
بالاتفاق وهو صوم النفل فنحمله على سائر
الصيامات بالقياس وهو أن هذا يوم
ج / 3 ص -59-
صوم
فالإمساك في أول النهار يتوقف على أن يصير
صوما بالنية قبل الزوال كالنفل وهذا لأن الصوم
ركن واحد وهو الإمساك من أول النهار إلى آخره
فإذا اقترنت النية بأكثره ترجح جانب الوجود
على جانب العدم فيجعل كاقتران النية بجميعه ثم
اقتران النية بحالة الشروع ليس بشرط في باب
الصوم بدليل جواز التقديم فصارت حالة الشروع
هنا كحالة البقاء في سائر العبادات وإذا جاز
نيته متقدمة دفعا للحرج جاز نيته متأخرة عن
حالة الشروع بطريق الأولى لأنه إن لم تقترن
بالشروع هنا فقد اقترنت بالأداء ومعنى الحرج
في جنس الصائمين لا يندفع بجواز التقديم ففي
الصائمين صبي يبلغ نصف الليل وحائض تطهر في
آخر الليل فلا ينتبه إلا بعد طلوع الفجر وفي
أيامه يوم الشك فلا يمكنه أن ينوي الفرض ليلا
إذ لم يتبين أنه من رمضان.
وإن نوى الصوم بعد الزوال لم يجزه لانعدام
الشرط في أكثر وقت الأداء فيترجح به جانب
العدم ثم القرب بسبب الصوم وقع في ترك الغداء
كما بينا ووقت الغداء قبل الزوال لا بعده فإذا
نوى قبل الزوال كان تاركا للغداء على قصد
التقرب وإذا نوى بعد الزوال لم يكن تركه
الغداء على قصد التقرب فلا يكون صوما وكذلك
المسافر إذا نوى قبل الزوال وقد قدم مصره أو
لم يقدم ولم يكن أكل شيئا جاز صومه عن الفرض
عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى هو يقول
إمساك المسافر في أول النهار لم يكن مستحقا
لصوم الفرض فلم يتوقف على وجود النية ولم
يستند إليه في حقه إلى أول النهار بخلاف
المقيم.
ولنا: أن المعنى الذي لأجله جوز في حق المقيم
إقامة النية في أكثر وقت الأداء مقامها في
جميع الوقت وجد في حق المسافر فالمسافر في هذا
الوقت أسوة المقيم إنما يفارقة في الترخص
بالفطر ولم يترخص به ولأن العبادة في وقتها مع
ضرب نقصان أولى من تفويتها عن وقتها والمسافر
والمقيم في هذا سواء وبهذا فارق صوم القضاء
فإنه دين في ذمته والأيام في حقه سواء فلا
يفوته شيء إذا لم نجوزه مع النقصان فلهذا
اعتبرنا صفة الكمال منه.
قال: رجل أصبح صائما في رمضان قبل أن تبين أنه
من رمضان ثم تبين أنه منه فصومه جائز وقد أساء
حين تقدم الناس ومراده في هذا يوم الشك ومعنى
الشك أن يستوي طرف العلم وطرف الجهل بالشيء
وإنما يقع الشك من وجهين: إما أن غم هلال
شعبان فوقع الشك أنه اليوم الثلاثون منه أو
الحادي والثلاثون أو غم هلال رمضان فوقع الشك
في اليوم الثلاثين أنه من شعبان أو من رمضان
ولا خلاف أنه يكره الصوم فيه بنية الفرض لقوله
صلى الله عليه وسلم:
"لا
تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين".
ولأنه حين نوى الفرض فقد
اعتقد الفريضة فيما ليس بفرض وذلك كاعتقاد
النفلية فيما هو فرض ولكن مع هذا إذا تبين أن
اليوم من رمضان فصومه تام لأن النهي ليس لعين
الصوم فلا يؤثر فيه. فأما إذا صام فيه بنية
النفل فلا بأس به عندنا وهو الأفضل.
ج / 3 ص -60-
وقال
الشافعي رحمه الله تعالى إن وافق ذلك يوما كان
يصومه أو صام قبله أياما فلا بأس به وإلا فهو
مكروه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صام يوم
الشك فقد عصى أبا القاسم" ولما روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم ستة أيام: يوم
الفطر ويوم النحر وأيام التشريق ويوم الشك.
ولنا حديث علي وعائشة رضي الله عنهما أنهما
كانا يصومان يوم الشك كما روينا ولأن هذا
اليوم من شعبان لأن اليقين لا يزال بالشك
والصوم من شعبان تطوعا مندوب إليه كما في سائر
أيامه جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم
ما كان يصوم في شهر أكثر منه في شعبان فإنه
كان يصومه كله وتأويل النهي أن ينوي الفرض فيه
وبه نقول.
قال: إلا أن يكون أبصر الهلال وحده ورد الإمام
شهادته وإنما ترد شهادته إذا كانت السماء
مصحية وهو من أهل المصر فأما إذا كانت السماء
مغيمة أو جاء من خارج المصر أو كان من موضع
نشز فإنه تقبل شهادته عندنا خلافا للشافعي
رحمه الله تعالى في أحد قوليه قال لأن تهمة
الكذب إذا كان بالسماء غيم أظهر فإن الغيم
مانع من الرؤية فإذا لم تقبل شهادته عند عدم
المانع فعند قيامه أولى.
ولنا: حديث عكرمة على ما رويناه ثم هو مخبر
بأمر ديني وهو وجوب أداء الصوم على الناس فوجب
قبول خبره إذا لم يكذبه الظاهر كمن روى حديثا
وهذا الظاهر لا يكذبه فلعله تقشع الغيم عن
موضع القمر فاتفقت له الرؤية دون غيره بخلاف
ما إذا كانت السماء مصحية لأن الظاهر يكذبه
فإنه مساو للناس في الموقف والمنظر وحدة البصر
وموضع القمر فإذا رد الإمام شهادته فعليه أن
يصوم ولا يفطر إلا على قول الحسن بن حي يعتمد
ظاهر قوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59] وقوله صلى الله عليه وسلم:
"صومكم يوم تصومون", وهذا ليس بيوم الصوم في حق الجماعة فكذلك في حق الواحد.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم
فأكملوا شعبان ثلاثين يوما". ولأن وجوب الصوم برؤية الهلال أمر بينه وبين ربه فلا يؤثر فيه
الحكم وقد كان لزمه الصوم قبل أن ترد شهادته
فكذلك بعده فإن أفطر بالجماع لم تلزمه الكفارة
عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى هو يقول
إنه متيقن أن اليوم من رمضان إذ لا طريق
للتيقن أقوى من الرؤية وتيقنه لا يتغير بشك
غيره ألا ترى أنه يلزمه الصوم فيه عن الفرض
ويوم الشك ينهى فيه عن مثله وكما أن وجوب
الصوم بينه وبين ربه فكذلك وجوب الكفارة عند
الفطر.
ولنا: أنه مفطر بالشبهة لأن الإمام حين رد
شهادته فقد حكم بأنه كاذب بدليل شرعي أوجب له
الحكم به ولو كان حكمه هذا حقا ظاهرا وباطنا
لكان يباح الفطر له فإذا كان نافذا ظاهرا يصير
شبهة وكفارة الفطر عقوبة تدرأ بالشبهات حتى لا
يجب على المخطئ ثم الكفارة إنما وجبت بالفطر
في يوم رمضان مطلقا وهذا اليوم رمضان من وجه
شعبان من وجه ألا ترى أن سائر الناس لا يلزمهم
الصوم فيه ويوم من رمضان لا ينفك عن الصوم فيه
قضاء أو
ج / 3 ص -61-
أداء
فلم يكن هذا اليوم في معنى المنصوص من كل وجه
فلو أوجبنا الكفارة فيه كان بطريق القياس على
المنصوص ولا مدخل للقياس في إثبات الكفارة
فأما وجوب الصوم فهو عبادة يؤخذ فيه بالاحتياط
فكونه من رمضان من وجه يكفي في حقه.
قال: رجل قبل امرأته في شهر رمضان فانزل عليه
القضاء ولا كفارة عليه لحديث ميمونة بنت سعد
أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل قبل
امرأته وهما صائمان فقال:
"قد أفطر".
وتأويله أنه قد علم من طريق الوحي حصول
الإنزال به ثم معنى افتضاء الشهوة قد حصل
بالإنزال فانعدم ركن الصوم ولا يتصور أداء
العبادة بدون ركنها ولكن لا تلزمه الكفارة
لنقصان في الجناية من حيث إن التقبيل تبع وليس
بمقصود بنفسه وفي النقصان شبهة العدم إلا على
قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يوجب الكفارة
على كل مفطر غير معذور وكذلك المرأة إن أنزلت
لحديث أم سليم أنها سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن امرأة ترى في منامها مثل ما يرى
الرجل فقال
"إن كان منها مثل ما يكون منه فلتغتسل" أشار إلى أنها تنزل كالرجل وإذا أنزلت فحكمها حكم الرجل.
قال: ومن أكل أو شرب أو جامع ناسيا في صومه لم
يفطره ذلك والنفل والفرض فيه سواء وقال مالك
رحمه الله تعالى في الفرض يقضى وهو القياس على
ما قاله أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الجامع
الصغير لولا قول الناس لقلت يقضى أي لولا
روايتهم الأثر أو لولا قول الناس إن أبا حنيفة
رحمه الله تعالى خالف الأثر ووجه القياس أن
ركن الصوم ينعدم بأكله ناسيا كان أو عامدا
وبدون الركن لا يتصور أداء العبادة والنسيان
عذر بمنزلة الحيض والمرض فلا يمنع وجوب القضاء
عند انعدام الأداء.
ولنا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني
أكلت وشربت في رمضان ناسيا وأنا صائم فقال:
"إن الله أطعمك وسقاك فتم على صومك".
وهكذا روي عن علي رضي الله عنه. وقال سفيان
الثوري رضي الله عنه إن أكل أو شرب لم يفطر
وإن جامع ناسيا أفطر قال لأن الحديث ورد في
الأكل والشرب والجماع ليس في معناه لأن زمان
الصوم زمان وقت للأكل عادة فيبتلى فيه
بالنسيان وليس بوقت الجماع عادة فلا تكثر فيه
البلوى ولكنا نقول قد ثبت بالنص المساواة بين
الأكل والشرب والجماع في حكم الصوم فإذا ورد
نص في أحدهما كان ورودا في الآخر باعتبار هذه
المقدمة كمن يقول لغيره إجعل زيدا وعمرا في
العطية سواء ثم يقول أعط زيدا درهما كان ذلك
تنصيصا على أنه يعطى عمرا أيضا درهما فإن تذكر
فنزع نفسه من ساعته فصومه تام وكذا الذي طلع
عليه الفجر وهو مخالط لأهله إذا نزع نفسه من
ساعته فصومه تام وعلى قول زفر رحمه الله تعالى
فيهما جميعا يقضى الصوم لوجود جزء من المواقعة
وإن قل بعد التذكر وطلوع الفجر.
ج / 3 ص -62-
ولنا:
أنه لم يوجد بعد التذكر وطلوع الفجر إلا
الامتناع من قضاء الشهوة وذلك ركن الصوم فلا
يفسد الصوم.
وروى محمد عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى في
نوادر الصوم أنه قال في الذي طلع عليه الفجر
يقضى بخلاف الناسي والفرق أن اقتران المواقعة
بطلوع الفجر مانع من انعقاد الصوم وفي الناسي
صومه كان منعقدا ولم يوجد ما يرفعه وهو اقتضاء
الشهوة بعد التذكر فبقي صائما فإن أتم الفعل
فعليه القضاء دون الكفارة إلا على قول الشافعي
رحمه الله تعالى فإنه يجعل استدامة الفعل بعد
التذكر وطلوع الفجر كالإنشاء.
ولنا: أن الشبهة قد تمكنت في فعله من حيث أن
ابتداءه لم يكن جناية.
وروى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى في
الذي طلع عليه الفجر إذا أتم الفعل فعليه
الكفارة بخلاف ما إذا تذكر لأن آخر الفعل من
جنس أوله وفي الذي طلع عليه الفجر أول فعله
عمد فكذلك آخره بخلاف الناسي فإن ذكر الناسي
فلم يتذكر وأكل مع ذلك فقد ذكر في اختلاف زفر
ويعقوب أن على قول زفر لا يفسد صومه لبقاء
المانع وهو النسيان وعلى قول أبي يوسف رحمه
الله تعالى يفسد صومه لأن الاحتياط قد لزمه
حين ذكر وعدم التذكر بعد ما ذكر نادر فلا
يعتبر.
قال: وإذا تمضمض الصائم فسبقه الماء فدخل حلقه
فإن لم يكن ذاكرا لصومه فصومه تام كما لو شرب
وإن كان ذاكرا لصومه فعليه القضاء عندنا خلافا
للشافعي رحمه الله تعالى واستدل بقوله صلى
الله عليه وسلم:
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه". ثم عذر هذا أبين من عذر الناسي فإن الناسي قاصد إلى الشرب غير
قاصد إلى الجناية على الصوم وهذا غير قاصد إلى
الشرب ولا إلى الجناية على الصوم فإذا لم يفسد
الصوم ثمة فهنا أولى.
ولنا: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
للقيط بن صبرة: "بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما".
فالنهي عن المبالغة التي فيها كمال السنة عند الصوم دليل على أن
دخول الماء في حلقه مفسد لصومه ولأن ركن الصوم
قد انعدم مع عذر الخطأ وأداء العبادة بدون
ركنها لا يتصور وهكذا القياس في الناسي ولكنا
تركناه بالسنة وهذا ليس في معناه لأن التحرز
عن النسيان غير ممكن والتحرز عن مثل هذا الخطأ
ممكن ثم ركن الصوم قد انعدم معنى فإن الذي حصل
له وإن كان مخطئا قد انعدم صورة لا معنى بأن
يتناول حصاة فسد صومه فإذا انعدم معنى أولى
لأن مراعاة المعاني في باب العبادات أبين من
مراعاة الصور وكان بن أبي ليلى يقول إن كان
وضوؤه فرضا لم يفسد صومه وإن كان نفلا فسد
صومه لهذا وقال بعض أهل الحديث إن كان في
الثلاث لا يفسد صومه وإن جاوز الثلاث يفسد
صومه ومنهم من فصل بين المضمضة والاستنشاق في
الوضوء والجنابة والاعتماد على ما ذكرنا
وتأويل الحديث أن المراد رفع الاثم دون الحكم
وبه نقول.
ج / 3 ص -63-
قال:
والاكتحال لا يضر الصائم وإن وجد طعمه في حلقه
وكان إبراهيم النخعي يكره للصائم أن يكتحل وبن
أبي ليلى كان يقول إن وجد طعمه في حلقه فطره
لوصول الكحل إلى باطنه.
ولنا: حديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه
وسلم دعا بمكحلة إثمد في رمضان فاكتحل وهو
صائم
وعن أبي مسعود قال خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم عاشوراء من بيت أم سلمة وعيناه
مملوءتان كحلا كحلته أم سلمة.
وصوم يوم عاشوراء في ذلك الوقت كان فرضا ثم
صار منسوخا ثم ما وجد من الطعم في حلقه أثر
الكحل لا عينه كمن ذاق شيئا من الأدوية المرة
يجد طعمه في حلقه فهو قياس الغبار والدخان
وإن وصل عين الكحل إلى باطنه فذلك من قبل
المسام لا من قبل المسالك إذ ليس من العين إلى
الحلق مسلك فهو نظير الصائم يشرع في الماء
فيجد برودة الماء في كبده وذلك لا يضره وعلى
هذا إذا دهن الصائم شاربه.
فأما السعوط والوجور يفطره لوصوله إلى أحد
الجوفين إما الدماغ أو الجوف والفطر مما يدخل
ولا كفارة عليه لأن معنى الجناية لا يتم به
فإن اقتضاء الشهوة لا يح صل به إلا في رواية
هشام عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن عليه
الكفارة إذا لم يكن به عذر.
والحقنة تفطر الصائم لوصول المفطر إلى باطنه
وهذا بخلاف الرضيع إذا احتقن بلبن امرأة لا
يثبت به حرمة لرضاع إلا في رواية شاذة عن محمد
رحمه الله تعالى لأن ثبوت حرمة الرضاع بما
يحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم وذلك بما
يحصل إلى أعالي البدن لا إلى الأسافل فأما
الفطر يحصل بوصول المفطر إلى باطنه لانعدام
الامساك به.
والإقطار في الأذن كذلك يفسد لأنه يصل إلى
الدماغ والدماغ أحد الجوفين فأما الإقطار في
الإحليل لا يفطره عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله تعالى ويفطره عند أبي يوسف وحكى بن سماعة
عن محمد رحمهما الله تعالى أنه توقف فيه.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنه إذا صب الدهن في إحليله فوصل إلى مثانته
فسد صومه وهذا الاختلاف قريب فقد وقع عند أبي
يوسف رحمه الله تعالى أن من المثانة إلى الجوف
منفذ حتى لا تقدر المرأة على استمساك البول
والأمر على ما قالا فإن أهل الطب يقولون البول
يخرج رشحا وما يخرج رشحا لا يعود رشحا وبعضهم
يقول هناك منفذ على صورة حرف الخاء فيخرج منه
البول ولا يتصور أن يعود فيه شيء مما يصب في
الإحليل فأما الجائفة والآمة إذا داواهما
بدواء يابس لم يفطره وإن دواهما بدواء رطب فسد
صومه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولم
يفسد في قولهما والجائفة اسم لجراحة وصلت إلى
الجوف والآمة اسم لجراحة وصلت إلى الدماغ فهما
يعتبران الوصول إلى الباطن من مسلك هو خلقة في
البدن لأن المفسد للصوم ما ينعدم به الإمساك
المأمور به وإنما يؤمر بالإمساك لأجل الصوم من
مسلك هو خلقة دون الجراحة العارضة.
ج / 3 ص -64-
وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى يقول المفسد للصوم وصول
المفطر إلى باطنه فالعبرة للواصل لا للمسلك
وقد تحقق الوصول هنا وفي ظاهر الرواية فرق بين
الدواء الرطب واليابس وأكثر مشايخنا رضي الله
عنهم أن العبرة بالوصول حتى إذا علم أن الدواء
اليابس وصل إلى جوفه فسد صومه وإن علم أن
الرطب لم يصل إلى جوفه لا يفسد صومه عنده إلا
أنه ذكر اليابس والرطب بناء على العادة
فاليابس إنما يستعمل في الجراحة لاستمساك
رأسها به فلا يتعدى إلى الباطن والرطب يصل إلى
الباطن عادة فلهذا فرق بينهما والدليل على أن
العبرة لما قلنا إن اليابس يترطب برطوبة
الجراحة.
قال: رجل أصبح في أهله صائما ثم سافر لم يفطر
لأنه حين أصبح مقيما وجب عليه أداء الصوم في
هذا اليوم حقا لله تعالى وإنما أنشأ السفر
باختياره فلا يسقط به ما تقرر وجوبه عليه وإن
أفطر فلا كفارة عليه لتمكن الشبهة بسبب اقتران
المبيح للفطر فإن السفر مبيح للفطر في الجملة
فصورته وإن لم تبح تمكن شبهة وكفارة الفطر
تسقط بالشبهة وذكر الشافعي رحمه الله تعالى في
رواية البويطي أنه يلزمه الكفارة اعتبارا لآخر
النهار بأوله وهذا بعيد فإن في أوله يتعرى
فطره عن الشبهة وبعد السفر يقترن السبب المبيح
بالفطر ولو وجد هذا السبب في أول النهار لكان
الفطر يباح له فإذا وجد في آخره يصير شبهة.
قال: رجل أصبح صائما متطوعا ثم أفطر عليه
القضاء عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى
وحجته حديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه
وسلم ناولها فضل سؤره فشربت ثم قالت إني كنت
صائمة لكن كرهت أن أرد سؤرك فقال صلى الله
عليه وسلم:
"إن كان صومك عن قضاء فاقضي يوما وإن كان صومك تطوعا فإن شئت فاقضيه
وإن شئت فلا تقضيه".
ولأن المتنفل متبرع بما ليس عليه فلا يلزمه ما
لم يتبرع به ولكنه مخير في آخره كما كان مخيرا
في أوله كمن شرع في صلاة التطوع ينوي أربعا
فصلى ركعتين كان مخيرا في الشفع الثاني وهذا
بخلاف الحج فإن بتبرعه هناك لا يلزمه شيء إنما
تعذر الخروج عما شرع فيه فيلزمه الإتمام حتى
لو تيسر عليه الخروج بالإحصار لم يلزمه القضاء
عندي وبخلاف الناذر فإنه ملتزم ما ليس عليه
فكان نظير النذر من المعاملات الكفالة ونظير
الشروع في الهبة والإقرار.
ولنا: حديث عائشة قالت أصبحت أنا وحفصة
صائمتين متطوعتين فأهدى لنا حيس فأكلنا فدخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتدرنا لنسئله
فبدرتني حفصة وكانت بنت أبيها سباقة إلى
الخيرات فقال صلى الله عليه وسلم:
"إقضيا يوما مكانه". فإن كان هذا بعد حديث أم هانئ كان ناسخا له وإن كان قبله فتبين به
أن المراد بقوله:
"إن شئت
فاقضيه وإن شئت فلا تقضيه", تأخير
القضاء وتعجيله أو تبين به أن النبي صلى الله
عليه وسلم خص أم هانئ بإسقاط القضاء عنها
بقصدها التبرك بسؤر رسول الله صلى الله عليه
وسلم فكأنها غفلت عن الصوم لفرط قصدها إلى
التبرك.
ج / 3 ص -65-
كما أن
أبا طيبة لما حجم النبي صلى الله عليه وسلم
شرب دمه فقال صلى الله عليه وسلم: "حرم الله جسدك على النار".
وشرب الدم لا يوجب هذا
ولكنه لفرط المحبة غفل عن الحرمة فأكرمه رسول
الله صلى الله عليه وسلم بما ذكر.
ولأنه باشر فعل قربة مقصودة فيجب عليه إتمامها
ويلزمه القضاء بالإفساد كمن أحرم بحج التطوع
ولا نقول إن تبرعه بما ليس عليه يلزمه ما لم
يتبرع به ولكن وجب عليه حفظ المؤدى لكونه قربة
فإن التحرز عن إبطال العمل واجب قال الله
تعالى:
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد: 33].
كما أن الوفاء بالعهد واجب فكما يلزمه الأداء
بعد النذر لأن الوفاء به فكذلك يلزمه أداء ما
بقي لأن التحرز عن إبطال العمل فيه بخلاف
الصلاة فإنه ليس في الامتناع من الشفع الثاني
إبطال الشفع الأول ولأنه بالشروع تعين هذا
اليوم لأداء الصوم المشروع فيه وله ولاية
التعيين فيتعين بتعيينه والتحق بالزمان
المتعين المصوم شرعا والإفساد في ذلك الزمان
يوجب القضاء فهذا مثله وهو كالناذر لما كان له
ولاية الايجاب التحق ذلك بالواجب شرعا حتى إذا
انعدم الأداء منه لزمه القضاء فهذا مثله.
وهذه المسألة تبنى على أصل وهو أن بعد الشروع
لا يباح له الإفطار بغير عذر عندنا فيصير
بالافطار جانيا فيلزمه القضاء وعند الشافعي
رحمه الله تعالى يباح له الافطار من غير عذر
واختلفت الروايات في الضيافة هل تكون عذرا
فروى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه عذر
مبيح للفطر وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما
الله تعالى أنه لا يكون عذرا وروى بن مالك عن
أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه
يكون عذرا وهو الأظهر لما روي أن رسول الله
عليه وسلم كان في ضيافة رجل من الأنصار فامتنع
رجل من الأكل فقال إني صائم فقال صلى الله
عليه وسلم:
"إنما دعاك أخوك لتكرمه فافطر واقض يوما مكانه".
ووجه الرواية الأخرى ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا
فليأكل وإن كان صائما فليصل"، أي فليدع لهم. وقال صلى الله عليه وسلم:
"إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك والشهوة الخفية"، فقيل أو تشرك أمتك بعدك فقال:
"لا ولكنهم يراءون بأعمالهم", فقيل وما الشهوة الخفية فقال:
"أن يصبح أحدهم صائما ثم يفطر على طعام يشتهيه".
وسواء كان الفطر بعذر أو بغير عذر فالقضاء واجب وكذلك سواء حصل
الفطر بصنعه أو بغير صنعه حتى إذا حاضت
الصائمة تطوعا فعليها القضاء في أصح
الروايتين.
وفي كتاب الصلاة إذا افتتح التطوع بالتيمم ثم
أبصر الماء فعليه القضاء والخروج هنا ما كان
بصنعه فتبين أن الصحيح أن الشروع ملزم للإتمام
كالنذر موجب للأداء وأنه متى تعذر الإتمام بعد
صحة الشروع فعليه القضاء.
قال: رجل أغمي عليه في شهر رمضان حين غربت
الشمس فلم يفق إلا بعد الغد فليس عليه قضاء
اليوم الأول لأنه لما غربت الشمس وهو مفيق فقد
صح منه نية صوم الغد وركن الصوم هو الإمساك
والإغماء لا ينافيه فتأدى صومه في اليوم الأول
لوجود ركنه
ج / 3 ص -66-
وشرطه
وعليه قضاء اليوم الثاني لأن النية في اليوم
الثاني لم توجد وقد بينا أن صوم كل يوم يستدعي
نية على حدة وبمجرد الركن بدون الشرط لا تتأدى
العبادة.
قال: وإذا نظر إلى فرج امرأته فأنزل فصومه تام
ما لم يمسها وقال مالك رحمه الله تعالى إن نظر
مرة فكذلك وإن نظر مرتين فسد صومه لما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي:
"لا تتبع
النظرة النظرة فإنما الأولى لك والأخرى عليك".
ولأن النظر الأول يقع بغتة فلا ينعدم به
الإمساك فإذا تعمد النظر بعد ذلك حتى أنزل فقد
فوت ركن الصوم.
ولنا: أن النظر كالتفكر على معنى أنه مقصور
عليه غير متصل بها ولو تفكر في جمال امرأة
فأنزل لم يفسد صومه فكذلك إذا نظر إلى فرجها
ولو كان هذا مفسدا للصوم لم يشترط فيه التكرار
كالمس وتأويل الحديث المؤاخذة بالمأثم إذا
تعمد النظر إلى ما لا يحل وإن جامعها متعمدا
فعليه أن يتم صوم ذلك اليوم بالإمساك تشبها
بالصائمين وعليه قضاء ذلك اليوم والكفارة أما
وجوب القضاء فقول جمهور العلماء وقال الأوزاعي
ليس عليه القضاء واستدل بحديث الأعرابي فإن
النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم الكفارة له
ولم يبين حكم القضاء وتأخير البيان عن وقت
الحاجة لا يجوز وقال صلى الله عليه وسلم:
"من أفطر في
رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر"
وليس على المظاهر سوى الكفارة.
ولنا: أنه وجب عليه الصوم بشهود الشهر وقد
انعدم الأداء منه فيلزمه القضاء كما لو كان
معذورا وفوت ما لزمه من الأداء فيضمنه بمثل من
عنده كما في حقوق العباد وإنما أراد بقوله:
"فعليه ما على
المظاهر",
بسبب الفطر وبه نقول أن
وجوب القضاء ليس بسبب الفطر وإنما بين
للأعرابي ما كان مشكلا عليه ووجوب القضاء غير
مشكل فأما وجوب الكفارة قول جمهور العلماء
وكان سعيد بن جبير يقول لا كفارة على المفطر
في رمضان لأن في آخر حديث الأعرابي أن النبي
صلى الله عليه وسلم: قال له:
"كلها أنت وعيالك", فانتسخ بهذا حكم الكفارة.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على
المظاهر" وحديث الأعرابي حين جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينتف
شعره ويقول: هلكت وأهلكت فقال:
"ماذا صنعت"؟ فقال:
واقعت أهلي في رمضان نهارا متعمدا فقال: "اعتق
رقبة", فضرب بيده على صفحة عنقه وقال: لا أملك إلا رقبتي هذه فقال صلى
الله عليه وسلم: "صم شهرين متتابعين", فقال:
وهل أتيت ما أتيت إلا من الصوم؟ فقال: "اطعم
ستين مسكينا", فقال لا أجد فقال:
"اجلس",
فجلس فأتى بصدقات بني زريق فقال:
"خذ خمسة عشر صاعا فتصدق بها على المساكين".
فقال: على أهل بيت أحوج إليها مني ومن عيالي
والله ما بين لابتي المدينة أحوج إليها مني
ومن عيالي فقال صلى الله عليه وسلم:
"كلها أنت وعيالك", زاد
في بعض الروايات:
"تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك".
فإن ثبتت هذه الزيادة ظهر أنه كان مخصوصا وإن
لم تثبت هذه الزيادة لا يتبين به انتساخ
الكفارة ولكنه عذره في التأخير للعسرة ثم
الكفارة مرتبة عند علمائنا والشافعي,
ج / 3 ص -67-
رحمهم
الله تعالى وقال مالك رحمه الله تعالى ثبتت
على سبيل التخيير لحديث سعد بن أبي وقاص أن
رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
إني أفطرت في رمضان فقال:
"اعتق رقبة أو صم شهرين أو أطعم ستين مسكينا".
ولنا: ما روينا من قوله
صلى الله عليه وسلم:
"فعليه ما على المظاهر". وتبين بهذا أن المراد بالحديث الآخر بيان ما به تتأدى الكفارة في
الجملة لا بيان التخيير ثم بعد العجز عن العتق
كفارته بالصوم إلا على قول الحسن البصري فإنه
يقول عليه بدنة وجعل هذا قياس المجامع في
الإحرام ولكنا نقول لا مدخل للقياس في إثبات
ما به تتأدى الكفارة إنما طريق معرفته النص
وليس في شيء من النصوص ذكر البدنة في كفارة
الفطر فكما لا مدخل للقياس فيما تتأدى به
العبادات فكذا فيما يجب بالجناية فيها.
والصوم مقدر بالشهرين بصفة التتابع إلا على
قول بن أبي ليلى فإنه يقول إن شاء تابع وإن
شاء فرق بالقياس على القضاء وما روينا من
الآثار حجة عليه وكان ربيعة الرازي يقول الصوم
مقدر باثني عشر يوما قال لأن السنة اثني عشر
شهرا فصوم كل يوم يقوم مقام اثني عشر يوما
وبعض الزهاد يقول الصوم مقدر بألف يوم فإن في
رمضان ليلة القدر وهي خير من ألف شهر فإذ فوت
صوم يوم منه فعليه أن يصوم ألف يوم ليقوم
مقامه ولسنا نأخذ بشيء من هذا فإن الاعتماد
على الآثار المشهورة كما روينا وهذه آثار
تلقتها العلماء بالقبول والعمل بها وإثبات
الكفارة بمثلها جائز.
وكما تجب الكفارة على الرجل تجب عليها إن
طاوعته وللشافعي رحمه الله تعالى ثلاثة أقاويل
قول مثل هذا وقول آخر إن الكفارة عليه دونها
وقول آخر فصل بين البدني والمالي فقال عليها
الكفارة بالصوم ويتحمل الزوج عنها إذا كان
ماليا واستدل بحديث الأعرابي فإن النبي صلى
الله عليه وسلم بين حكم الكفارة في جانبه لا
في جانبها فلو لزمتها الكفارة لبين ذلك كما
بين الحد في جانبها في حديث العسيف ثم سبب
الكفارة المواقعة المعدمة للصوم والرجل هو
المباشر لذلك دونها إذ هي محل المواقعة وليست
بمباشرة للمواقعة فكان فعلها دون فعل الرجل
كالجماع فيما دون الفرج بخلاف الحد فإن سببه
الزنى وهي مباشرة للزنا فإن الله تعالى سماها
زانية وعلى القول الآخر يقول ما يتعلق
بالمواقعة إذا كان بدنيا اشتركا فيه كالاغتسال
وإذا كان ماليا تحمل الزوج عنها كالمهر وثمن
ماء الاغتسال.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أفطر في رمضان" وكلمة من
تعم الرجال والنساء وتبين بهذا أن السبب
الموجب للكفارة فطر هو جناية كاملة وهذا السبب
يتحقق في جانبها كما يتحقق في جانبه فنلزمها
الكفارة كما يلزمها الحد بسبب الزنى وبه تبين
أن تمكينها فعل كامل فإن مع النقصان لا يجب
الحد وبيان النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة
في جانبه بيان في جانبها لأن كفارتهما واحدة
بخلاف حديث العسيف فإن الحد في جانبه كان هو
الجلد وفي جانبها الرجم ولا
ج / 3 ص -68-
معنى
للتحمل لأن الكفارة إما أن تكون عقوبة أو
عبادة وبسبب النكاح لا يجري التحمل في
العبادات والعقوبات إنما ذلك في مؤن الزوجية
وإن غلبها على نفسها فعليها القضاء دون
الكفارة وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا
يفسد صومها والكلام في هذا نظير الكلام في
الخاطئ وقد بيناه.
قال: وكذلك ان أكل أو شرب متعمدا فعليه القضاء
والكفارة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى
لا كفارة عليه لأن سبب وجوب الكفارة بالنص
المواقعة المعدمة للصوم فلو أوجب بالأكل كان
بالقياس على المواقعة ولا مدخل للقياس في
الكفارة ألا ترى أنه لا تقاس دواعي الجماع على
الجماع فيه ولأن الحرمة تارة تكون لأجل
العبادة وتارة لعدم الملك ثم ما يتعلق بالأكل
لا يتعلق بالمواقعة متى كانت الحرمة لعدم
الملك فكذلك العبادة واستدل بالحج فإن ما
يتعلق بالمواقعة فيه وهو فساد النسك لا يتعلق
بسائر المحظورات فكذلك الصوم والجامع أن هذه
عبادة للكفارة العظمى فيها فتختص بالمواقعة.
ولنا: حديث أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول
الله أفطرت في رمضان فقال:
"من غير مرض ولا سفر", فقال نعم فقال:
"أعتق رقبة", وإنما فهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤاله الفطر
بما يحوجه إليه كالمرض والسفر وذكر أبو داود
أن الرجل قال شربت في رمضان وقال علي رضي الله
عنه إنما الكفارة في الأكل والشرب والجماع
ولأن فطره تضمن هتك حرمة النص فكان كالفطر
بالجماع وبيانه أن نص التحريم بالشهر يتناول
ما يتناوله نص الإباحة بالليالي وهتك حرمة
النص جناية متكاملة ثم نحن لا نوجب الكفارة
بالقياس وإنما نوجبها استدلالا بالنص لأن
السائل ذكر المواقعة وعينها ليس بجناية بل هو
فعل في محل مملوك وإنما الجناية الفطرية فتبين
أن الموجب للكفارة فطر هو جناية ألا ترى أن
الكفارة تضاف إلى الفطر والواجبات تضاف إلى
أسبابها والدليل عليه أنه لا تجب على الناسي
لانعدام الفطر والفطر الذي هو جناية متكاملة
يحصل بالأكل كما يحصل بالجماع ولأنه آلة له
وتعلق الحكم بالسبب لا بالآلة ثم إيجابه في
الأكل أولى لأن الكفارة أوجبت زاجرة ودعاء
الطبع في وقت الصوم إلى الأكل أكثر منه إلى
الجماع والصبر عنه أشد فإيجاب الكفارة فيه
أولى كما أن حرمة التأفيف يقتضي حرمة الشتم
بطريق الأولى ثم لأجل العبادة استوى حرمة
الجماع وحرمة الأكل بخلاف حال عدم الملك فإن
حرمة الجماع أغلظ حتى تزيد حرمة الجماع على
حرمة الأكل وبخلاف الحج فإن حرمة الجماع فيه
أقوى حتى لا يرتفع بالحلق والدليل على
المساواة هنا فصل الناسي فقد جعلنا النص
الوارد في الأكل حال النسيان كالوارد في
الجماع فكذلك يجعل النص الوارد في إيجاب
الكفارة بالمواقعة كالوارد في الأكل والدواعي
تبع فلا تتكامل به الجناية.
ثم حاصل المذهب عندنا أن الفطر متى حصل بما
يتغذى به أو يتداوى به تتعلق الكفارة
ج / 3 ص -69-
به
زجرا فإن الطباع تدعو إلى الغذاء وكذلك إلى
الدواء لحفظ الصحة أو إعادتها فأما إذا تناول
ما لا يتغذى به كالتراب والحصاة يفسد صومه إلا
على قول بعض من لا يعتمد على قوله فإنه يقول
حصول الفطر بما يكون به اقتضاء الشهوة ولكنا
نقول ركن الصوم الكف عن إيصال الشيء إلى باطنه
وقد انعدم ذلك بتناول الحصاة ثم لا كفارة عليه
إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه قال هو
مفطر غير معذور قال وجنايته هنا أظهر إذ لا
غرض له في هذا الفعل سوى الجناية على الصوم
بخلاف ما يتغذى به ولكنا نقول عدم دعاء الطبع
إليه يغني عن إيجاب الكفارة فيه زاجرا كما لم
نوجب الحد في شرب الدم والبول بخلاف الخمر ثم
تمام الجناية بانعدام ركن الصوم صورة ومعنى
فانعدام معنى ما يحصل به اقتضاء الشهوة إذا
انعدم لم تتم الجناية وفي النقصان شبهة العدم
والكفارة تسقط بالشبهة.
قال: وإن جامعها ثانيا في الشهر فعليه كفارة
واحدة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى
عليه كل يوم كفارة قال لأن السبب تقرر في
اليوم الثاني وهو الجماع المعدم للصوم أو
الفطر الذي هو جناية على الصوم فوجبت الكفارة
ثم الكفارات لا تتداخل كما في سائر الكفارات
فإن معنى العبادة فيها راجح حتى يفتى بها
وتتأدى بما هو عبادة والتداخل في العقوبات
المحضة.
ولنا: حرفان:
أحدهما: أن كمال الجناية
باعتبار حرمة الصوم والشهر جميعا حتى أن الفطر
في قضاء رمضان لا يوجب الكفارة لانعدام حرمة
الشهر وباعتبار تجدد الصوم لا تتجدد حرمة
الشهر ومتى صارت الحرمة معتبرة لإيجاب الكفارة
مرة لا يمكن اعتبارها لإيجاب كفارة أخرى لأنها
تلك الحرمة بعينها.
والثاني: أن كفارة الفطر
عقوبة تدرأ بالشبهات فتتداخل كالحدود وبيان
الوصف أن سبب الوجوب جناية محضة على حق الله
تعالى والجنايات سبب لإيجاب العقوبات والدليل
عليه سقوطها بعذر الخطأ بخلاف سائر الكفارات.
قال: فإن أفطر في يوم وكفر ثم أفطر في يوم آخر
فعليه كفارة أخرى إلا في رواية زفر عن أبي
حنيفة رحمهما الله تعالى فإنه يقول يكفيه تلك
الكفارة لاعتبار اتحاد حرمة الشهر وهو قياس من
تلى آية السجدة في مجلس وسجد ثم تلاها مرة
أخرى لم تلزمه سجدة أخرى لاتحاد السبب.
وجه ظاهر الرواية: أن التداخل قبل أداء الأول
لا بعده كما في الحدود إذا زنى بامرأة فحد ثم
زنى بها يلزمه حد آخر وهذا أصح لأن السبب فطر
هو جناية على الصوم وحرمة الشهر محل تغلظ به
هذه الجناية والعبرة للأسباب دون المحال فإن
جامع في رمضانين فقد ذكر في الكسائيات عن محمد
رحمه الله تعالى أن عليه كفارتين لاعتبار تجدد
حرمة
ج / 3 ص -70-
الشهر
والصوم وأكثر مشايخنا يقولون لا اعتماد على
تلك الرواية والصحيح أن عليه كفارة واحدة
لاعتبار معنى التداخل.
قال: وكل صوم في القرآن لم يذكره الله متتابعا
فله أن يفرقه وما ذكر متتابعا فليس له أن
يفرقه أما المذكور متتابعا فصوم كفارة القتل
وكفارة الظهار فإن النص ورد بقدر معلوم مقيد
بوصف فكما لا يجوز الإخلال بالقدر المنصوص
فكذا بالوصف المنصوص فأما ما لم يذكره متتابعا
فصوم القضاء قال الله تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184] ويجوز القضاء متتابعا ومتفرقا لأنه مطلق عن الوصف
وقال بن عباس رضي الله عنه اتهموا ما أنهم
الله وفي الحديث أن رجلا سأل رسول الله عن
قضاء أيام من رمضان أفيجزيني أن أصوم متفرقا؟
قال:
"أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم والدرهمين أكان يقبل منك"؟ فقال: نعم فقال:
"الله أحق بالتجاوز والقبول".
والذي في قراءة أبي بن كعب < فعدة من أيام أخر
متتابعة > شاذ غير مشهور وبمثله لا تثبت
الزيادة على النص فأما صوم كفارة اليمين
فثلاثة أيام متتابعة عندنا خلافا للشافعي رحمه
الله تعالى.
قال: إنه مطلق في القرآن ونحن أثبتنا التتابع
بقراءة بن مسعود فإنها كانت مشهورة إلى زمن
أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى كان سليمان
الأعمش يقرأ ختما على حرف بن مسعود وختما من
مصحف عثمان رضي الله عنه والزيادة عندنا تثبت
بالخبر المشهور.
قال: رجل جامع امرأته في يوم من رمضان ثم حاضت
المرأة ومرض الرجل في ذلك اليوم سقطت عنهما
الكفارة عندنا وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله
تعالى لا تسقط وهو قول الشافعي رحمه الله
تعالى على القول الذي يوجب الكفارة على المرأة
وقال زفر رحمه الله تعالى تسقط عنها بعذر
الحيض ولا تسقط عنه بعذر المرض.
وجه قول بن أبي ليلى: أن السبب الموجب للكفارة
قد تم وهو الفطر فوجبت الكفارة دينا في الذمة
والحيض والمرض لا ينافي بقاء الكفارة ثم الحيض
والمرض لم يصادف الصوم هنا فاعتراضهما في
اليوم والليل سواء وهو قياس السفر بعد الفطر
لا يسقط الكفارة ليلا كان أو نهارا وزفر رحمه
الله تعالى يفرق ويقول الحيض ينافي الصوم وصوم
يوم واحد لا يتجزأ فتقرر المنافي في آخره يمكن
شبهة المنافاة في أوله فأما المرض لا ينافي
الصوم فلا يتمكن بالمرض في آخر النهار شبهة
المنافاة في أوله للصوم ولكنا نقول المرض
ينافي استحقاق الصوم بدليل أنه لو لم يفطر حتى
مرض يباح له الفطر والكفارة لا تجب إلا بالفطر
في صوم مستحق واستحقاق الصوم في يوم واحد لا
يتجزأ فتقرر المنافاة للاستحقاق في آخر النهار
يمكن شبهة منافاة الاستحقاق في أوله بخلاف
السفر فإنه غير مناف للاستحقاق حتى لو لم يفطر
حتى سافر لا يباح له الفطر فلا يتمكن بالسفر
في آخر النهار شبهة في أوله بخلاف ما إذا لم
يفطر حتى سافر ثم أفطر لأن سقوط الكفارة هناك
باعتبار
ج / 3 ص -71-
الصورة
المبيحة والصورة المبيحة إنما تعمل إذا اقترنت
بالسبب ولا إسناد في الصور إنما ذلك في
المعاني.
ثم السفر فعله والكفارة إنما وجبت حقا لله
تعالى فلا يسقط بفعل العبد باختياره بخلاف
المرض والحيض فإنه سماوي لا صنع للعباد فيه
فإذا جاء العذر ممن له الحق سقطت به الكفارة
فإن سوفر به مكرها فقد ذكر في اختلاف زفر
ويعقوب رحمهما الله تعالى أن على قول أبي يوسف
رضي الله تعالى عنه لا تسقط به الكفارة لأن
الصنع للعباد فيه فهو قياس ما لو أكره على
الأكل بعد ما أفطر وعلى قول زفر رحمه الله
تعالى تسقط لأنه لا صنع له فيه ولا اعتماد على
هذه الرواية عن زفر رحمه الله تعالى فإن عنده
بالمرض لا تسقط الكفارة فبالسفر مكرها كيف
تسقط.
قال: رجل أصبح صائما في غير رمضان يريد به
قضاء رمضان ثم أكل متعمدا فقد أساء ولا كفارة
عليه لأن وجوب الكفارة بالنصوص والنصوص وردت
بالفطر في رمضان والفطر في غير رمضان ليس في
معنى الفطر في رمضان من كل وجه لأن هذا اليوم
ما كان متعينا لقضائه وهذا بخلاف الحج فإن
الجماع في قضاء الحج يوجب ما يوجب في الأداء
لتحقق المساواة في معنى الجناية ألا ترى أن في
حج النفل يتعلق بالجماع ما يتعلق في حج الفرض
بخلاف الصوم؟.
قال: مسافر أصبح صائما في رمضان ثم أفطر قبل
أن يقدم مصره أو بعد ما قدم فلا كفارة عليه
لأن أداء الصوم في هذا اليوم ما كان مستحقا
عليه حين كان مسافرا في أوله فهذا والفطر في
قضاء رمضان سواء وحكي عن الشافعي رحمه الله
تعالى أنه إن أفطر بعد ما صار مقيما فعليه
الكفارة وجعل وجود الإقامة في آخره كوجودها في
أوله ولكنا نقول الشبهة تمكنت بالسفر الموجود
في أول النهار فإنه ينعدم به استحقاق الأداء
وصوم يوم واحد لا يتجزأ في الاستحقاق.
قال: رجل عليه قضاء أيام من شهر رمضان فلم
يقضها حتى دخل رمضان من قابل فصامها منه فإن
صيامه عن هذا الرمضان الداخل وقد بينا هذا
الفصل في المقيم والمسافر جميعا وعليه قضاء
رمضان الماضي ولا فدية عليه عندنا وعند
الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه مع القضاء لكل
يوم إطعام مسكين ومذهبه مروي عن بن عمر
ومذهبنا مروي عن علي وابن مسعود رحمهما الله
تعالى.
وحاصل الكلام: أن عنده القضاء مؤقت بما بين
الرمضانين يستدل فيه بما روى عن عائشة رضي
الله عنها أنها كانت تؤخر قضاء أيام الحيض إلى
شعبان وهذا منها بيان آخر ما يجوز التأخير
إليه ثم جعل تأخير القضاء عن وقته كتأخير
الأداء عن وقته فكما أن تأخير الأداء عن وقته
لا ينفك عن موجب فكذلك تأخير القضاء عن وقته
ولنا ظاهر قوله تعالى:
ج / 3 ص -72-
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184] وليس فيها توقيت والتوقيت بما بين الرمضانين يكون
زيادة.
ثم هذه عبادة موقتة قضاؤها لا يتوقت بما قبل
مجيء وقت مثلها كسائر العبادات وإنما كانت
عائشة رضي الله تعالى عنها تختار للقضاء شعبان
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا
يحتاج إليها فيه فإنه كان يصوم شعبان كله ولأن
كان القضاء مؤقتا بما بين الرمضانين فالتأخر
عن وقت القضاء كالتأخر عن وقت الأداء وتأخير
الأداء عن وقته لا يوجب عليه شيئا إنما وجوب
الصوم باعتبار السبب لا بتأخير الأداء فكذلك
تأخير القضاء عن وقته.
ثم الفدية تقوم مقام الصوم عند اليأس منه كما
في الشيخ الفاني وبالتأخير لم يقع اليأس عن
الصوم والقضاء واجب عليه فلا معنى لإيجاب
الفدية وكما لم يتضاعف القضاء بالتأخير فكذلك
لا ينضم القضاء إلى الفدية لأنه في معنى
التضعيف.
قال: وإن شك في الفجر فأحب إلي أن يدع الأكل
وإن أكل وهو شاك فصومه تام أما التسحر فهو
مندوب إليه لقوله صلى الله عليه وسلم:
"استعينوا بقائلة النهار على قيام الليل وبأكلة السحور على صيام
النهار". وعن بن
عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال:
"فرق ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكل
السحور", والتأخير مندوب إليه قال صلى الله عليه وسلم:
"ثلاث من أخلاق المرسلين: تعجيل الإفطار وتأخير السحور والسواك", إلا أنه
يؤخر على وجه لا يشك في الفجر الثاني فإن شك
فيه فالمستحب أن يدع الأكل لقوله صلى الله
عليه وسلم:
"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك", والأكل يريبه فإن أكل وهو شاك فصومه تام لأن الأصل بقاء الليل
والتيقن لا يزال بالشك فإن كان أكبر رأيه أنه
تسحر والفجر طالع فالمستحب له أن يقضي احتياطا
للعبادة ولا يلزمه القضاء في ظاهر الرواية
لأنه غير متيقن بالسبب والأصل بقاء الليل.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى قال إن كان في موضع يستبين له الفجر فلا
يلتفت إلى الشك ولكنه يأكل إلى أن يستيقن
بطلوع الفجر وإن كان في موضع لا يستبين له
الفجر أو كانت الليلة مقمرة فالأولى أن يحتاط
وإن أكل لم يلزمه شيء إلا أنه إذا كان أكبر
رأيه أنه أكل بعد طلوع الفجر فحينئذ يلزمه
القضاء لأن أكبر الرأي بمنزلة التيقن فيما
يبنى أمره على الاحتياط.
قال: وإن صام أهل المصر من غير رؤية الهلال
ولم يصم رجل منهم حتى أبصر الهلال من الغد
فصام أهل المصر ثلاثين يوما والرجل تسعة
وعشرين يوما فليس على الرجل قضاء شيء وقد أخطأ
أهل المصر حين صاموا بغير رؤية الهلال لقوله
صلى الله عليه وسلم:
"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين
يوما". فأهل المصر
خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكانوا مخطئين ومنهم من قال يرجع إلى قول أهل
الحساب عند الاشتباه وهذا بعيد فإن النبي صلى
الله عليه وسلم قال:
"من أتى كاهنا أو عرافا وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد".
ج / 3 ص -73-
والذي
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"فإن غم
عليكم فأقدروا له", معناه
التقدير بإكمال العدة كما في الحديث المبين
وإنما لا يجب على الرجل قضاء شيء لأن الشهر قد
يكون تسعة وعشرين يوما قال صلى الله عليه
وسلم:
"الشهر هكذا وهكذا وهكذا",
وأشار بأصابعه وخنس إبهامه في الثالثة وقال
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما صمنا على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان تسعة
وعشرين يوما أكثر مما صمنا ثلاثين يوما وهكذا
عن عائشة فلم يتبين خطأ الرجل فيما صنع فلا
يلزمه قضاء شيء والذي روي شهران لا ينقصان
رمضان وذو الحجة المراد في حق الثواب دون
العدد لاستحالة أن يقع الخلف في خبر صاحب
الشرع إلا أن يكون أهل المصر رأوا هلال شعبان
فأحصوا ثلاثين يوما ثم صاموا فقد أحسنوا وعلى
من لم يصم معهم قضاء يوم لأنا تيقنا أنه أفطر
يوما من شهر رمضان لأن الشهر لا يكون أكثر من
ثلاثين يوما.
وعلى هذا روي عن محمد رحمه الله تعالى أنهم لو
صاموا بشهادة الواحد على رؤية الهلال فصاموا
ثلاثين يوما ثم لم يروا الهلال أفطروا لأن
الشهر لا يكون أكثر من ثلاثين يوما وقد ألزمه
بن سماعة فقال هذا فطر بشهادة الواحد وأنت لا
ترى ذلك وهذا إلزام ظاهر والجواب عنه أن الفطر
بقضاء القاضي وذلك بمقتضى الشهادة ويثبت بمثله
ما لا يثبت بنفس الشهادة كالميراث عند شهادة
القابلة على الولادة.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
فيمن أبصر الهلال وحده ورد الإمام شهادته فصام
ثلاثين يوما ولم يروا الهلال لم يفطر إلا مع
الإمام والجماعة فلعل الغلط وقع له كما ورد في
حديث عمر رضي الله عنه أنه أمر الذي قال رأيت
الهلال أن يمسح حاجبه بالماء ثم قال أين
الهلال فقال فقدته فقال شعرة قامت من حاجبك
فحسبتها هلالا وإنما أمرناه بالصوم في
الابتداء احتياطا من غير أن نحكم أن اليوم من
رمضان والاحتياط في أن لا يفطر إلا مع الإمام
والجماعة.
قال: وإذا جامع الرجل امرأته في الفرج فغابت
الحشفة ولم ينزل فعليهما القضاء والكفارة
والغسل أما الغسل فلاستطلاق وكاء المني بفعله
وأما الكفارة فلحصول الفطر على وجه تتم
الجناية به قيل تمام الجناية في اقتضاء الشهوة
وذلك لا يحصل بدون إنزال قلنا اقتضاء الشهوة
في المحل يتم بالإيلاج فأما الإنزال تبع لا
يعتد به في تكميل الجناية فلو جامعها في
الموضع المكروه فعليهما الغسل لما بينا ولا شك
في إيجاب الكفارة على قولهما وعن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى فيه روايتان.
روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه
لا كفارة عليهما وهو ظاهر على أصله لأنه لا
يجعل هذا الفعل كاملا في إيجاب العقوبة التي
تندرى ء بالشبهات كالحد وفي جانب المفعول ظاهر
فليس لها فيه اقتضاء الشهوة؟
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أن عليهما الكفارة وهو الأصح،
ج / 3 ص -74-
فإن
السبب قد تم وهو الفطر بجناية متكاملة إنما
يدعي أبو حنيفة رحمه الله تعالى النقصان في
معنى الزنى من حيث إنه لا يحصل به إفساد
الفراش ولا معتبر به في إيجاب الكفارة
قال: فإن جامع بهيمة أو ميتة فليس عليه
الكفارة أنزل أو لم ينزل عندنا خلافا للشافعي
رحمه الله تعالى فإن السبب عنده الجماع المعدم
للصوم وقد وجد ولكنا نقول الجناية لا تتكامل
إلا باقتضاء شهوة المحل وهذا المحل غير مشتهى
عند العقلاء فإن حصل به قضاء الشهوة فذلك
لغلبة الشبق أو لفرط السفه وهو كمن يتكلف
لقضاء شهوته بيده لا تتم جنايته في إيجاب
الكفارة فهذا مثله.
قال: فإن جامع أو أكل أو شرب ناسيا فظن أن ذلك
يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا فعليه القضاء ولا
كفارة عليه لأنه اشتبه عليه ما يشتبه فإن
الأكل مع النسيان يفوت ركن الصوم حقيقة ولا
بقاء للعبادة مع فوات ركنها فيكون ظنه هذا في
موضعه فصار شبهة في اسقاط الكفارة قال محمد
رحمه الله تعالى إلا أن يكون بلغه خبر الناسي
فحينئذ عليه القضاء والكفارة لأن ظنه مدفوع
بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:
"تم على صومك",
فلا تبقى شبهة.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنه لا كفارة عليه وإن بلغه الخبر لأن خبر
الواحد لا يوجب علم اليقين وإنما يوجب العمل
تحسينا للظن بالراوي فلا تنتفي الشبهة به وعلى
هذا لو احتجم فظن أن ذلك فطره فأكل بعد ذلك
متعمدا فعليه القضاء والكفارة لأن ظنه في غير
موضعه فإن انعدام ركن الصوم بوصول الشيء إلى
باطنه ولم يوجد إلا أن يكون افتاه مفتى العامة
بأن صومه قد فسد فحينئذ لا كفارة عليه لأن
الواجب على العامي الأخذ بفتوى المفتي فتصير
الفتوى شبهة في حقه وإن كان خطأ في نفسه وإن
كان سمع الحديث أفطر الحاجم والمحجوم فاعتمد
ظاهره قال محمد رحمه الله تعالى تسقط عنه
الكفارة أيضا كما لو اعتمد الفتوى وعن أبي
يوسف رحمه الله تعالى أنها لا تسقط لأن العامي
إذا سمع حديثا فليس له أن يأخذ بظاهره لجواز
أن يكون مصروفا عن ظاهره أو منسوخا
وإن دهن شاربه أو اغتاب فظن أن ذلك فطره فأكل
بعد ذلك متعمدا فعليه القضاء والكفارة سواء
اعتمد حديثا أو فتوى لأن هذا الظن والفتوى
بخلاف الإجماع غير معتبر.
قال: وإذا أسلم الكافر في النصف من شهر رمضان
صام ما بقي من الشهر وليس عليه قضاء ما مضى
منه وكذلك اليوم الذي أسلم فيه لا يجزيه صومه
وإن لم يأكل ونوى قبل الزوال لانعدام أهلية
العبادة في أول النهار ولكنه يمسك تشبها
بالصائمين وليس عليه قضاؤه.
ومن العلماء من يقول عليه قضاء هذا اليوم
والأيام الماضية من الشهر وجعلوا إدراك جزء من
الشهر كإدراك جميع الشهر كما أن ادراك جزء من
وقت الصلاة بعد الإسلام كإدراك جميع الوقت
والتفريط إنما جاء من قبله بتأخير الاسلام فلا
يعذر في إسقاط القضاء وهو قريب من أصل الشافعي
رحمه الله تعالى أن الكفار مخاطبون بالشرائع.
ج / 3 ص -75-
ولنا:
ما روي أن وفد ثقيف حين قدموا على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أسلموا في النصف من
رمضان فأمرهم بصوم ما بقي من الشهر ولم يأمرهم
بقضاء ما مضى وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا
يجوز لأن وجوب القضاء ينبني على خطاب الشرع
بالأداء وذلك لا يكون بدون الأهلية للعبادة
والكافر ليس بأهل لثوابها فلا يثبت خطاب
الأداء في حقه والصوم عبادة معلومة بميعادها
وهو الزمان فلا تصور للصوم منه في الزمن
الماضي بخلاف الصلاة فإنها معلومة بأوقاتها
والوقت ظرف لها فجعل إدراك جزء من الوقت سببا
لوجوب الأداء ثم القضاء ينبني عليه.
قال: ولا تصلي الحائض ولا تصوم لقوله عليه
الصلاة والسلام في بيان نقصان دين المرأة:
"تقعد إحداهن
شطر عمرها لا تصوم ولا تصلي", يعني
زمان الحيض فإذا طهرت قضت أيام الصوم ولا تقضي
الصلاة لما تقدم بيانه.
قال: وكل وقت جعلتها فيه نفساء أو حائضا فإنها
تعيد صوم ذلك اليوم ولا تعيد صلاته وكل وقت
عددتها فيه مستحاضة فإنها تعيد صلاته إن لم
تكن صلتها فإن كانت صلت وصامت فقد جاز لأن
المستحاضة في حكم الطاهرات فيما يرجع إلى
العبادات.
قال صلى الله عليه وسلم:
"للمستحاضة توضئي وصلي وإن قطر الدم على
الحصير قطرا", وقال:
"المستحاضة تتوضأ لكل صلاة", ثم
طول محمد رحمه الله هذا الفصل في الأصل فذكر
في باب المستحاضة مسائل منها أن ينقص الدم عن
أقل مدة الحيض أو يزيد على أكثر مدة الحيض أو
أكثر مدة النفاس أو يسبق رؤية الدم أوانه
فالاستحاضة تكون بدم فاسد ويستدل بتقدمه على
أوانه على فساده وتمام شرح هذه المسائل في
كتاب الحيض.
قال: ولا يجوز شيء من الصوم الواجب أن يصومه
في يوم الفطر أو النحر أو أيام التشريق لأن
الصوم في هذه الأيام منهي عنه قال أبو رافع
أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي
في أيام منى:
"ألا لا تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل
وشرب وبعال", وفي رواية:
"إنها أيام أكل وشرب وذكر". وعن
عقبة بن عامر الجهني أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن صوم يوم التروية ويوم عرفة ويوم
النحر وأيام التشريق وتأويل النهي في يوم
التروية وعرفة في حق الحاج إذا كان يضعف
بالصوم عن الوقوف والذكر.
وفي الحديث المشهور الذي روينا أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن صوم ستة أيام والمنهى
عنه يكون فاسدا والواجب في ذمته مستحق عليه
أداؤه بصفة الصحة فلا يتأدى بما هو فاسد وكذلك
صوم المتعة عندنا لا يتأدى في يوم النحر وأيام
التشريق وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في
القديم يتأدى صوم المتعة في أيام التشريق وهو
مروي عن عائشة وبن عمر ومعاذ ومذهبنا مروي عن
علي وبن مسعود رضي الله تعالى عنهما.
قال: وإن كان على الرجل صيام شهرين متتابعين
من فطر أو ظهار أو قتل فصامها وأفطر
ج / 3 ص -76-
فيها
يوما لمرض فعليه استقبال الصيام لانعدام صفة
التتابع بالفطر فإن كانت امرأة فأفطرت فيما
بين ذلك للحيض لم يكن عليها استقباله وكان
إبراهيم النخعي يسوي بين اللفظين في أنه لا
يجب الاستقبال لاعتبار العذر وبن أبي ليلى
رحمه الله كان يسوي بين الفصلين في أنه يجب
الاستقبال لانعدام التتابع بالفطر وكان يقول
قد تجد المرأة شهرين خاليين من الحيض إذا حبلت
أو أيست والفرق لنا بين الفصلين من وجهين:
أحدهما: أن الرجل يجد شهرين
خاليين عن المرض فلو أمرناه بالاستقبال لم يكن
فيه كبير حرج والمرأة لا تجد شهرين خاليين عن
الحيض عادة فلعلها لا تحبل ولا تعيش إلى أن
تيأس ففي الأمر بالاستقبال حرج بين.
والثاني: أن المرض لا ينافي
الصوم حتى لو تكلف وصام جاز فانقطاع التتابع
كان بفعله والواجب عليه تتابع الصوم في الوقت
الذي يتصور فيه الأداء منه فإذا لم يوجد
استقبل فأما الحيض ينافي أداء الصوم منها فلم
ينقطع التتابع بفعلها إلا أن عليها أن تصل
قضاء أيام الحيض بصومها لأن هذا القدر من
التتابع في وسعها فعليها أن تأتي به وروى بن
رستم عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا صامت
شهرا فأفطرت فيه بعذر الحيض ثم أيست فعليها
الاستقبال لزوال العذر قبل تمام المقصود وعن
أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها لو حبلت بعد ما
صامت شهرا فأفطرت فيه لعذر الحيض بنت على
صومها لأنها بالحبل لا تخرج من أن تكون من
ذوات الأقراء وإن لم تصل قضاء أيام الحيض
بصومها استقبلت لأنها تركت التتابع الذي في
وسعها.
قال: وإن صام عن ظهار شهرين أحدهما رمضان لم
يكن عما نواه وكان عن رمضان لأن صوم الظهار
دين في ذمته فإنما يتأدى ما هو مشروع له الوقت
لا ما هو مستحق عليه بجهة مخصوصة وعليه
الاستقبال لأنه يجده شهرين خاليين عن رمضان
وهذا بخلاف ما إذا نذر أن يصوم رجب فصامه عن
الظهار جاز عما نوى لأن صوم رجب كان مشروعا له
وكان صالحا لأداء الواجب به قبل النذر وهو
بالنذر موجب على نفسه ما ليس بواجب ولا تبقى
صلاحية لغيره إذ ليس له هذه الولاية فأما
الشرع لما عين صوم رمضان للفرض نفى صلاحيته
لغيره وللشرع هذه الولاية فلهذا لا يتأدى صوم
الظهار من المقيم في رمضان وله أن يفرق بين
قضاء رمضان وقد بينا هذا وفيه قول عن عائشة
رضي الله عنها أنه يجب متتابعا وكذلك صوم جزاء
الصيد والمتعة لأنه مطلق في القرآن قال الله
تعالى:
{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً}[المائدة: 95] وقال تعالى:
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا
رَجَعْتُمْ}[البقرة:
196] والذي روى في قراءة أبي بن كعب فصيام
ثلاثة أيام متتابعة في الحج شاذ غير مشهور
والزيادة على النص بمثله لا تثبت.
قال: رجل أصبح صائما ينوي قضاء رمضان ثم علم
أنه ليس عليه شيء منه فالأحسن
ج / 3 ص -77-
له أن
يتم صومه تطوعا وإن أفطر لم يلزمه شيء إلا على
قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول يلزمه
القضاء وليس له أن يفطر وذكر الطحاوي رحمه
الله تعالى في الصلاة عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى مثل قول زفر رحمه الله تعالى وكذلك
المكفر بالصوم إذا أيسر في خلاله فالأولى أن
يتم صومه تطوعا وإن أفطر لم يلزمه القضاء إلا
على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول بعد
التبين واليسار هو في نفل صحيح حتى لو أتمه
كان نفلا فيلزمه التحرز عن إبطاله والقضاء إن
أبطله كما لو كان شروعه بنية النفل وكمن أحرم
بحج مظنون وكمن تصدق على فقير على ظن أنه عليه
ثم علم أنه ليس عليه لم يكن له أن يسترد.
ولنا: أن عمله كان في أداء الفرض أما في حق
المكفر فقد كان واجبا عليه حين شرع ظاهرا
وباطنا وكذلك في المظنون فإن المرء يخاطب بما
عنده لا بما عند الله تعالى وذلك الفرض الذي
شرع فيه قد سقط عنه شرعا فما بقي من النفل
إنما بقي نظرا من الشرع له لا إيجابا عليه
فالأولى له أن يتمه ولكن لا يلزمه شيء إن لم
يتمه لأن الواجب عليه التحرز عن إبطال عمله
وهو لم يبطل عمله بالفطر لأن عمله كان في أداء
الفرض دون النفل وهو نظير النفل المشروع في كل
يوم الأولى للمرء أن يأتي به ولا شيء عليه إن
امتنع منه.
ثم الشروع في كونه ملزما لا يكون أقوى من
النذر وإضافة النذر إلى ما هو واجب لا يفيد
الإيجاب فالشروع أولى بخلاف الحج فإن ما أدى
من الفرض قد سقط بالتبين ولكن لم يخرج به من
الإحرام فالإحرام عقد لازم لا خروج منه إلا
بأداء الأفعال ألا ترى أنه لو فاته الحج لا
يخرج من الإحرام إلا بأعمال العمرة فإن أحصر
في الحج المظنون فتحلل بالهدي فقد اختلف فيه
مشايخنا منهم من يقول لا يلزمه قضاء شيء لأنه
تم خروجه من الإحرام والأصح أنه يلزمه القضاء
لأن الإحرام في الأصل لازم والتحلل بالإحصار
لدفع الحرج والمشقة عنه ففيما وراء ذلك تبقى
صفة اللزوم معتبرة بخلاف الصدقة لأنها تمت
بالوصول إلى الفقير فوزانه ما لو أتم الصوم ثم
تبين أنه ليس عليه وفي هذا لا يمكنه إبطاله.
قال: امرأة أصبحت صائمة متطوعة ثم أفطرت ثم
حاضت فعليها القضاء عندنا وعند زفر رحمه الله
تعالى لا قضاء عليها لأن الحيض الموجود في آخر
النهار في منافاة الصوم كالموجود في أوله
فتبين أن هذا اليوم لم يكن وقت أداء الصوم في
حقها والشروع في غير وقت الصوم لا يكون ملزما
شيئا كالشروع ليلا.
ولنا: أن شروعها في الصوم قد صح لاستجماع
شرائط الأداء عند الشروع ثم بالإفساد وجب
القضاء دينا في ذمتها والحيض بعد ذلك لا ينافي
بقاء الصوم دينا وإنما يكون الحيض مؤثرا إذا
صادف الصوم وهنا الحيض لم يصادف الصوم
فاعتراضه ليلا أو نهارا سواء ولأن الشروع
كالنذر ولو نذرت أن تصوم هذا اليوم ثم أفطرت
ثم حاضت كان عليها القضاء فكذلك إذا شرعت فإن
لم تفطر حتى حاضت فقد ذكر بن سماعة عن محمد
رحمه الله
ج / 3 ص -78-
تعالى
أن عليها القضاء أيضا وهو الصحيح على ما أشار
إليه الحاكم وفي رواية بن رستم عن محمد لا
قضاء عليها لأن الحيض صادف الصوم والمنافاة لم
تكن بفعلها فلا تكون جانية ملزمة للقضاء.
وجه الرواية الأخرى: أن شروعها قد صح فكان
بمنزلة نذرها ولو نذرت أن تصوم هذا اليوم
فحاضت فيه كان عليها القضاء وإن لم يكن تعذر
الإتمام مضافا إلى فعلها لا يمنع وجوب القضاء
كالمتيمم إذا شرع في النفل ثم أبصر الماء
فعليه القضاء.
قال: المكفر بالصوم عن ظهار إذا جامع بالنهار
عامدا وجب عليه الاستقبال سواء جامع التي ظاهر
منها أو غيرها لانقطاع التتابع بفعله فإن جامع
بالنهار ناسيا أو بالليل عامدا نظر فإن جامع
غير التي ظاهر منها لم يكن عليه الاستقبال لأن
جماعه لم يؤثر في صومه فلم ينقطع التتابع وإن
جامع التي ظاهر منها فعليه الاستقبال في قول
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول
أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى لا يلزمه
الاستقبال فإن جماع الناسي والجماع بالليل لا
يؤثر في إفساد الصوم فلا ينقطع به التتابع
كالأكل والشرب وجماع غير التي ظاهر منها ولأنه
لو استقبل صار مؤديا صوم الشهرين بعد المسيس
ولو بنى صار مؤديا أحد الشهرين قبل المسيس
والآخر بعده وهذا أقرب إلى الامتثال وهو نظير
ما لو أطعم ثلاثين مسكينا ثم جامع لم يكن عليه
استقبال الإطعام وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى قالا الواجب عليه بالنص إخلاء الشهرين
عن المسيس وهو قادر على هذا فلا يتأدى الواجب
إلا به وبيانه أن الله تعالى قال:
{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}[المجادلة:
4].
ومن ضرورة الأمر بتقديم الشهرين على المسيس
الأمر بإخلائهما عنه والثابت بضرورة النص
كالمنصوص فكان الواجب عليه شيئين عجز عن
أحدهما وهو تقديم الشهرين على المسيس وهو قادر
على الآخر وهو إخلاؤهما عن المسيس فيأتي بما
قدر عليه وذلك بالاستقبال بخلاف جماع غير التي
ظاهر منها فإنه غير مأمور بتقديم صوم شهرين
على جماعها فلا يكون مأمورا بإخلائها عنه وإن
لم يؤثر جماعه في الصوم لا يدل على أنه لا
يبطل به معنى الكفارة إذا انعدم به الشرط
المنصوص كما لو أيسر في خلال صوم الكفارة فإن
يساره لا يؤثر في الصوم وتبطل به الكفارة ثم
حرمة الجماع في حق التي ظاهر منها بدوام الليل
والنهار وفي مثله النسيان والعمد سواء كالجماع
في الإحرام وهذا بخلاف الإطعام فإنه ليس في
التكفير بالإطعام تنصيص على التقديم على
المسيس و الأمر بإخلائه عن المسيس كان لضرورة
الأمر بالتقديم على المسيس.
فإن قيل بالإجماع ليس له أن يجامعها قبل أن
يكفر وإن كانت كفارته بالإطعام وعندكم لا يجوز
قياس المنصوص على المنصوص.
ج / 3 ص -79-
قلنا:
ما عرفنا ذلك بالقياس بل بالنص وهو حديث أوس
بن الصامت رضي الله عنه حين ظاهر من امرأته ثم
رآها في ليلة قمراء وعليها خلخال فأعجبته
فواقعها ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال له:
"استغفر الله
ولا تعد حتى تكفر". فبهذا النص
تبين أنه ليس له أن يغشاها قبل التكفير سواء
كانت كفارته بالإطعام أو بالصيام.
قال: وتجوز نية صوم التطوع قبل انتصاف النهار
وقال مالك رحمه الله تعالى لا تجوز لأنه حين
أصبح غير ناو للصوم فقد تعين أول النهار لفطره
والصوم والفطر في يوم واحد لا يحتمل الوصف
بالتجزى فهو كما لو تعين بأكله.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم :
"المتطوع بالخيار ما لم تزل الشمس"،
يعني المريد للصوم وعن عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح دخل
على نسائه وقال:
"هل عندكن
شيء؟", فإن قلن لا قال:
"إني صائم". وفي حديث
عاشوراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ومن لم
يأكل فليصم". فإن كان
صوم عاشوراء نفلا فهو نص وإن كان فرضا فجواز
الفرض بنية من النهار يدل على جواز النفل
بطريق الأولى ولسنا نقول إن جهة الفطر قد
تعينت بترك النية في أول النهار ولكن بقي
الأمر مراعى ما بقي وقت الغداء فإن الصوم ليس
إلا ترك الغداء في وقته على قصد التقرب وفوات
وقت الغداء بزوال الشمس فإذا نوى قبل الزوال
فقد ترك الغداء في وقته على قصد التقرب فكان
صوما.
قال: ولو نوى التطوع بعد انتصاف النهار لم يكن
صائما عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى
يكون صائما إذا نوى قبل غروب الشمس ولم يكن
أكل في يومه شيئا قال لأن النفل غير مقدر شرعا
بل هو موكول إلى نشاطه فربما ينشط فيه بعد
الزوال وهو وقت الأداء كما قبله وشبهه بالصلاة
فإن التطوع بالصلاة يجوز راكبا وقاعدا مع
القدرة على القيام لأنه موكول إلى نشاطه.
ولنا: ما بينا أن الصوم ترك الغداء في وقته
على قصد التقرب فإن العشاء باق في حق الصائم
والمفطر جميعا ووقت الغداء ما قبل الزوال دون
ما بعده فإذا لم ينو قبل الزوال لم يكن تركه
الغداء على قصد التقرب فلا يكون صوما وأما في
قضاء رمضان وكل صوم واجب في ذمته فسواء نوى
قبل الزوال أو بعده لم يكن عنه ما لم ينو من
الليل لأن ما كان دينا في ذمته لم يتعين
لأدائه يوم ما لم يعينه فإمساكه في أول النهار
قبل النية لم يتوقف عليه فلا يستند حكم النية
إليه بخلاف صوم رمضان فإنه متعين في وقته
فيتوقف إمساكه عليه فيستند حكم النية ثم إقامة
النية في أكثر الوقت مقام النية في جميعه لأجل
الضرورة والحاجة وذلك فيما يفوته دون ما لا
يفوته وصوم رمضان يفوته عن وقته والنفل لا
يفوته أصلا فأما ما كان دينا في ذمته لا يفوت
فلا تقام النية في أكثر الوقت في حقه مقام
النية في جميعه.
قال: ولا يكون صائما في رمضان ولا في غيره ما
لم ينو الصوم وإن اجتنب المفطرات
ج / 3 ص -80-
إلى
آخر يومه بمرض أو غير مرض وقد بينا قول زفر
رحمه الله تعالى في الصحيح المقيم أنه يتأدى
منه الصوم بمجرد الإمساك من غير النية فإن كان
مريضا أو مسافرا فلا خلاف أنه لا يكون صائما
ما لم ينو وعند زفر رحمه الله تعالى ما لم ينو
من الليل قال لأن الأداء غير مستحق عليه في
هذا الوقت نفسه فلا يتعين إلا بنيته بخلاف
الصحيح المقيم وعندنا اشتراط النية ليصير
الفعل قربة فإن الإخلاص والقربة لا يحصل إلا
بالنية قال الله تعالى:
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ}[البينة:
5] ففي هذا المسافر والمقيم سواء إنما فارق
المسافر المقيم في الترخص بالفطر فإذا لم
يترخص صحت منه النية قبل انتصاف النهار كما
تصح من المقيم.
قال: فإن أصبح بنية الفطر فظن أن نيته هذه قد
أفسدت عليه صومه وأفتى بذلك فأكل قبل انتصاف
النهار فعليه القضاء ولا كفارة عليه للشبهة
التي دخلت وهما فصلان أحدهما إذا أصبح ناويا
للصوم ثم نوى الفطر لا يبطل به صومه عندنا
وقال الشافعي رحمه الله تعالى يبطل فإن الشروع
في الصوم لا يستدعي فعلا سوى نية الصوم فكذلك
الخروج لا يستدعي فعلا سوى النية ولأن النية
شرط أداء الصوم وقد أبدله بضده وبدون الشرط لا
تتأدى العبادة.
ولنا: الحديث الذي روينا:
"الفطر مما يدخل" وبنيته ما
وصل شيء إلى باطنه ثم هذا حديث النفس
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما
لم يعملوا أو يتكلموا". وكما أن الخروج من سائر العبادات لا يكون بمجرد النية فكذلك من
الصوم وبالاتفاق اقتران النية بحالة الأداء
ليس بشرط فإنه لو كان مغمى عليه في بعض اليوم
يتأدى صومه.
ففي هذا الفصل إذا أفتي بأن صومه لا يجوز
فأفطر لم يكن عليه كفارة لشبهة اختلاف العلماء
لأن على العامي أن يأخذ بقول المفتي وإن كان
أصبح غير ناو للصوم ثم أكل فعلى قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى لا كفارة عليه سواء أكل قبل
الزوال أو بعده وعلى قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى إن أكل قبل الزوال فعليه
الكفارة وإن أكل بعد الزوال فلا كفارة عليه
قال لأن قبل الزوال حكم الإمساك موقوف على أن
يصير صائما بنيته فصار بأكله جانيا مفوتا
للصوم فأما بعد الزوال إمساكه غير موقوف على
أن يصير صوما بالنية فلم يكن في أكله جانيا
على الصوم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول
الكفارة تستدعي كمال الجناية وذلك بهتك حرمة
الصوم والشهر جميعا ولم يوجد منه هتك حرمة
الصوم لأنه ما كان صائما قبل أن ينوي فتجرد
هتك حرمة الشهر عن حرمة الصوم وهو غير موجب
للكفارة كما لو تجرد هتك حرمة الصوم عن هتك
حرمة الشهر بأن أفطر في قضاء رمضان وعلى قول
زفر رحمه الله تعالى عليه الكفارة سواء أكل
قبل الزوال أو بعده لأن عنده هو صائم وإن لم
ينو.
ج / 3 ص -81-
قال:
فإن أصبح غير ناو للصوم ثم نوى قبل الزوال ثم
أكل فلا كفارة عليه إلا في رواية عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى أنه تلزمه الكفارة لأن شروعه
في الصوم قد صح فتكاملت جنايته بالفطر كما لو
كان نوى بالليل.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن
ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا صيام لمن لم يعزم
الصيام من الليل" ينفي كونه
صائما بهذه النية والحديث وإن ترك العمل
بظاهره يبقي شبهة في درء ما يندرى ء بالشبهات
كمن وطى ء جارية ابنه مع العلم بالحرمة لا
يلزمه الحد لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:
"أنت ومالك لأبيك". ثم هذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى ظاهر لأن عنده لو أكل
قبل النية لا تلزمه الكفارة وما كان موجودا في
أول النهار يصير شبهة في آخره كالسفر إنما
الشبهة على قول محمد رحمه الله تعالى وعذره ما
بينا.
قال: المغمى عليه في جميع الشهر إذا أفاق بعد
مضيه فعليه القضاء إلا على قول الحسن البصري
فإنه يقول سبب وجود الأداء وهو شهود الشهر لم
يتحقق في حقه لزوال عقله بالإغماء ووجوب
القضاء ينبني عليه ولنا أن الاغماء مرض وهو
عذر في تأخير الصوم إلى زواله لا في إسقاطه
وهذا لأن الإغماء يضعف القوى ولا يزيل الحجا
ألا ترى أنه لا يصير موليا عليه؟ وأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ابتلي بالإغماء في
مرضه وكان معصوما عما يزيل العقل.
قال الله تعالى:
{فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ
وَلا مَجْنُونٍ}[الطور: 29] فإذا كان مجنونا في جميع الشهر فلا قضاء عليه إلا على
قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول الجنون
مرض يخل العقل فيكون عذرا في التأخير إلى
زواله لا في إسقاط الصوم كالإغماء.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن
المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ", ومن كان
مرفوعا عنه القلم لا يتوجه عليه الخطاب بأداء
الصوم والقضاء ينبني عليه ثم الجنون يزيل عقله
فلا يتحقق معه شهود الشهر وهو السبب الموجب
للصوم بخلاف الإغماء فإنه يعجزه عن استعمال
عقله ولا يزيله فلذلك جعل شاهدا للشهر حكما
وهو كابن السبيل تلزمه الزكاة لقيام ملكه وإن
عجز عن إثبات اليد عليه بخلاف من هلك ماله.
قال: فإن أفاق المجنون في بعض الشهر فعليه صوم
ما بقي من الشهر وليس عليه قضاء ما مضى في
القياس وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله
تعالى لأنه لو استوعب الشهر كله منع القضاء في
الكل فإذا وجد في بعضه يمنع القضاء بقدره
اعتبارا للبعض بالكل وقياسا على الصبي وهذا
لأن الصبي أحسن حالا من المجنون فإنه ناقص
العقل في بعض أحواله عديم العقل في بعض أحواله
والمجنون عديم العقل بعيد عن الإصابة عادة
ولهذا جاز إعتاق الصغير عن الكفارة دون
المجنون فإذا كان الصغر في بعض الشهر يمنع
وجوب القضاء فالجنون أولى.
ج / 3 ص -82-
استحسن
علماؤنا بقوله تعالى:
{فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:
185] والمراد منه شهود بعض الشهر لأنه لو كان
السبب شهود جميع الشهر لوقع الصوم في شوال
فصار بهذا النص شهود جزء من الشهر سببا لوجوب
صوم جميع الشهر إلا في موضع قام الدليل على
خلافه ثم الجنون عارض أعجزه عن صوم بعض الشهر
مع بقاء أثر الخطاب فيلزمه القضاء كالإغماء
وبيان الوصف أنه لو كان حج ثم جن بقي المؤدى
فرضا له وكذلك لو كان صلى الفرض ثم جن وبقاء
المؤدى فرضا دليل بقاء أثر الخطاب فأما إذا
استوعب الجنون الشهر كله فإنما أسقطنا القضاء
لا لانعدام أثر الخطاب بل لدفع الحرج والمشقة
والحرج عذر مسقط للقضاء كالحيض في حق الصلاة.
فحاصل الكلام أن الوجوب في الذمة ولا ينعدم
ذلك بسبب الصبي ولا بسبب الجنون ولا بسبب
الإغماء إلا أن الصبي يطول عادة فيكون مسقطا
للقضاء دفعا للحرج والإغماء لا يطول عادة فلا
يكون مسقطا للقضاء والجنون قد يطول وقد يقصر
فإذا طال التحق بما يطول عادة وإذا قصر التحق
بما يقصر عادة ثم فرق ما بين الطويل والقصير
في الصوم أن يستوعب الشهر كله لأن الشهر في
حكم الأجل وفي الصلاة أن يزيد على يوم وليلة
لتدخل الفوائت في حد التكرار وعلى هذا الأصل
قلنا لو نوى الصوم بالليل ثم جن بالنهار جاز
صومه عن الفرض في ذلك اليوم خلافا للشافعي
رحمه الله تعالى لأن الجنون لا ينافي العبادة
ولا صفة الفرضية فإن الأهلية للعبادة لكونه
أهلا لثوابها وركن الصوم بعد النية هو الإمساك
والجنون لا ينافيه.
قال: وإن جن في شهر رمضان ثم أفاق بعد سنين في
رمضان فعليه قضاء الشهر الأول لإدراكه جزء منه
وقضاء الشهر الآخر لإدراكه جزءا منه وليس عليه
قضاء الشهور التي في السنين الماضية بين ذلك
لأنه لم يدرك جزءا منها في حال الإفاقة فإن
كان جنونه أصليا بأن بلغ مجنونا ثم أفاق في
بعض الشهر فالمحفوظ عن محمد رحمه الله تعالى
أنه ليس عليه قضاء ما مضى لأن ابتداء الخطاب
يتوجه عليه الآن فيكون بمنزلة الصبي حين يبلغ
وروى هشام عن أبي يوسف قال في القياس لا قضاء
عليه ولكن استحسن فأوجب عليه قضاء ما مضى من
الشهر لأن الجنون الأصلي لا يفارق الجنون
العارض في شيء من الأحكام وليس فيه رواية عن
أبي حنيفة رحمه الله تعالى واختلف فيه
المتأخرون على قياس مذهبه والأصح أنه ليس عليه
قضاء ما مضى.
قال: مريض أفطر في شهر رمضان ثم مات قبل أن
يبرأ فليس عليه شيء لأن وقت أداء الصوم في حقه
عدة من أيام أخر بالنص ولم يدركه ولأن المرض
لما كان عذرا في إسقاط أداء الصوم في وقته
لدفع الحرج فلأن يكون عذرا في إسقاط القضاء
أولى. وإن بريء وعاش شهرا فلم يقض الصوم حتى
مات فعليه قضاؤه لأنه أدرك عدة من أيام أخر
وتمكن
ج / 3 ص -83-
من
قضاء الصوم فصار القضاء دينا عليه. وفي حديث
أبي مالك الأشجعي رحمه الله تعالى أن رجلا سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن كان مريضا
في شهر رمضان ثم مات فقال عليه الصلاة
والسلام:
"إن كان مات قبل أن يطيق الصوم فلا شيء عليه وإن أطاق الصوم ولم يصم
حتى مات فليقض عنه",
يعني بالإطعام ثم لا يجوز لوليه أن يصوم عنه
وحكي عن الشافعي رحمه الله تعالى قال إن صح
الحديث صام عنه وارثه قال أبو حامد من أصحابهم
وقد صح الحديث والمراد منه قوله صلى الله عليه
وسلم:
"من مات
وعليه صيام صام عنه وليه".
ولنا: حديث بن عمر رضي
الله عنهما موقوفا عليه ومرفوعا:
"لا يصوم أحد
عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد" ثم
الصوم عبادة لا تجري النيابة في أدائها في
حالة الحياة فكذلك بعد الموت كالصلاة وهذا لأن
المعنى في العبادة كونه شاقا على بدنه ولا
يحصل ذلك بأداء نائبه ولكن يطعم عنه لكل يوم
مسكينا لأنه وقع اليأس عن أداء الصوم في حقه
فتقوم الفدية مقامه كما في حق الشيخ الفاني
وإنما يجب عليهم الإطعام من ثلثه إذا أوصى ولا
يلزمهم ذلك إذا لم يوص عندنا وعلى قول الشافعي
رحمه الله تعالى يلزمهم ذلك من جميع ماله أوصى
أو لم يوص وهو نظير الخلاف في دين الزكاة ثم
الإطعام عندنا يقدر بنصف صاع لكل مسكين وعنده
يقدر بالمد وأصل الخلاف في طعام الكفارة ونحن
نقيسه على صدقة الفطر بعلة أنه أوجب كفاية
للمسكين في يومه.
وعلى هذا إذا مات وعليه صلوات يطعم عنه لكل
صلاة نصف صاع من حنطة وكان محمد بن مقاتل يقول
أولا يطعم عنه لصلوات كل يوم نصف صاع على قياس
الصوم ثم رجع فقال كل صلاة فرض على حدة بمنزلة
صوم يوم وهو الصحيح والصاع قفيز بالحجاجي وهو
ربع الهاشمي وهو ثمانية أرطال في قول أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي
يوسف رحمه الله تعالى الأول ثم رجع فقال خمسة
أرطال وثلث رطل ومن أصحابنا من وفق فقال
ثمانية أرطال بالعراقي كل رطل عشرون إستارا
فذلك مائة وستون إستارا وخمسة أرطال وثلث رطل
بالحجاجي كل رطل ثلاثون إستارا فذلك مائة
وستون وهذا ليس بقوي فقد نص في كتاب العشر
والخراج عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه خمسة
أرطال وثلث رطل بالعراقي وهو قول الشافعي رحمه
الله تعالى وإنما رجع أبو يوسف حين حج مع
الرشيد فدخل المدينة وسألهم عن صاع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأتاه سبعون شيخا منهم كل
واحد منهم يحمل صاعا تحت ثوبه فقال ورثت هذا
عن أبي عن آبائه إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فكان كل ذلك خمسة أرطال وثلث رطل.
ولنا: حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد رطلين
ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال وتوارث أهل
المدينة ليس بقوي فقد قال مالك رحمه الله
تعالى فقيهم صاع أهل المدينة تحرى عبد الملك
بن مروان على صاع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإذا
ج / 3 ص -84-
آل
الأمر إلى التحري فتحرى عمر رضي الله عنه أولى
بالمصير إليه والقفيز الحجاجي صاع عمر رضي
الله عنه حتى كان الحجاج يمن به على أهل
العراق ويقول ألم أخرج لكم صاع عمر رضي الله
عنه.
قال: ابراهيم النخعي رحمه الله كان صاع عمر
حجاجيا ثم قد كان لرسول الله صلى الله عليه
وسلم صاعان مختلفان منها للنفقات ومنها
للصدقات فما روي أنه كان خمسة أرطال وثلث
محمول على صاع النفقات.
قال: وإن صح بعد رمضان عشرة أيام ثم مات فعليه
قضاء العشرة الأيام التي صح فيها لأنه بقدرها
أدرك عدة من أيام أخر والبعض معتبر بالكل وذكر
الطحاوي أنه على قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى يلزمه قضاء جميع الشهر وإن
صح يوما واحدا وعلى قول محمد رحمه الله تعالى
يلزمه القضاء بقدر ما صح وهذا وهم من الطحاوى
فإن هذا الخلاف في النذر إذا نذر المريض صوم
شهر ثم برأ يوما ولم يصم فهو على هذا الخلاف
فأما قضاء رمضان فلا خلاف بينهم والفرق لأبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن هناك
السبب الموجب هو النذر إلا أنه ليس للمريض ذمة
صحيحة في التزام أداء الصوم حتى يبرأ فعند
البرء يصير كالمجدد للنذر والصحيح إذا قال لله
علي أن أصوم شهرا ثم مات بعد يوم فعليه قضاء
جميع الشهر وهنا السبب الموجب للأداء إدراك
عدة من أيام أخر فلا يلزمه القضاء إلا بقدر ما
أدرك والمسافر في جميع هذه الوجوه بمنزلة
المريض.
قال: مسافر أصبح صائما ثم قدم المصر فأفتى بأن
صيامه لا يجزئه وأنه عاص فأفطر فعليه القضاء
ولا كفارة عليه والكلام في هذه المسألة في
فصول.
أحدها: أن أداء الصوم في
السفر يجوز في قول جمهور الفقهاء وهو قول أكثر
الصحابة وعلى قول أصحاب الظواهر لا يجوز وهو
مروي عن بن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى
عنهما يستدلون بقوله تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ}[البقرة:
184] فصار هذا الوقت في حقه كالشهر في حق
المقيم فلا يجوز الأداء قبله وقال صلى الله
عليه وسلم:
"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر", وقال:
"ليس من البر الصيام في السفر"
وفي رواية:
"ليس من امبرم صيام في امسفر".
ولنا: قوله تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185] وهذا يعم المسافر والمقيم ثم قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ}[البقرة: 185] لبيان الترخص بالفطر فينتفي به وجوب الأداء لا جوازه.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو
الأسلمي قال يا رسول الله إني أسافر في رمضان
أفأصوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
"صم إن شئت".
وفي حديث أنس رضى الله تعالى عنه قال سافرنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان
فمنا الصائم ومنا المفطر لا يعيب البعض على
ج / 3 ص -85-
البعض
وتأويل حديثهم إذا كان يجهده الصوم حتى يخاف
عليه الهلاك على ما روي أنه مر برجل مغشي عليه
قد اجتمع عليه الناس وقد ظلل عليه فسأل عن
حاله فقيل إنه صائم فقال صلى الله عليه وسلم:
"ليس من البر الصيام في السفر",
يعني لمن هذا حاله.
والثاني: أن المسافرة في
رمضان لا بأس بها وعلى قول أصحاب الظواهر
يستديم السفر في رمضان ولا ينشئه والدليل على
جواز المسافرة حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من
المدينة إلى مكة لليلتين خلتا من رمضان فصام
حتى أتى قديدا فشكى الناس إليه فأفطر ثم لم
يزل مفطرا حتى دخل مكة فإن سافرت في رمضان فقد
سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صمت
فقد صام وإن أفطرت فقد أفطر وكل ذلك واسع.
والثالث: إذا أنشأ السفر في
رمضان فله أن يترخص بالفطر وكان علي وبن عباس
كانا يقولان ذلك لمن أهل الهلال وهو مسافر
فأما من أنشأ السفر في رمضان فليس له أن يفطر
والحديث الذي روينا حجة فقد أفطر رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين شكى الناس إليه ولا
يقال لما أهل الهلال وهو مقيم فقد لزمه أداء
صوم الشهر فلا يسقط ذلك عنه بسفر ينشئه
باختياره كاليوم الذي يسافر فيه لأنا نقول صوم
الشهر عبادات متفرقة وإنما يلزمه الأداء
باعتبار اليوم الذي كان مقيما في شيء منه دون
اليوم الذي كان مسافرا في جميعه قياسا على
الصلوات.
والرابع: أن الصوم في السفر
أفضل من الفطر عندنا. وقال الشافعي رحمه الله
تعالى الفطر أفضل لأن ظاهر ما روينا من الآثار
يدل على أن الصوم في السفر لا يجوز فإن ترك
هذا الظاهر في حق الجواز بقي معتبرا في أن
الفطر أفضل وقاس بالصلاة فإن الاقتصار على
الركعتين في السفر أفضل من الإتمام فكذلك
الصوم لأن السفر يؤثر فيهما قال صلى الله عليه
وسلم:
"إن الله وضع
عن المسافر شطر الصلاة والصوم".
ولنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال في المسافر:
"يترخص بالفطر وإن صام فهو أفضل له". وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصوم حتى شكى الناس إليه ثم
أفطر فذلك دليل على أن الصوم أفضل ثم الفطر
رخصة وأداء الصوم عزيمة والتمسك بالعزيمة أولى
من الترخص بالرخصة وهذا لأن الرخصة لدفع الحرج
عنه وربما يكون الحرج في حقه في الفطر أكثر
فإنه يحتاج إلى القضاء وحده والصوم مع الجماعة
في السفر يكون أخف من الفطر والقضاء وحده في
يوم جميع الناس فيه مفطرون بخلاف الصلاة فإن
شطر الصلاة سقط عنه أصلا حتى لا يلزمه القضاء
فإن الظهر في حقه كالفجر في حق المقيم.
إذا عرفنا هذا فنقول إذا قدم المصر فأفتى أن
صومه لا يجزيه تصير هذه الفتوى شبهة في إسقاط
الكفارة وكذا كونه مسافرا في أول النهار يصير
شبهة في آخره والكفارة تسقط بالشبهة.
قال: ولا بأس بقضاء رمضان في أيام العشر يريد
به تسعة أيام من أول ذي الحجة وهو قول عمر رضي
الله تعالى عنه وكان علي رضي الله عنه يقول لا
يجوز لحديث
ج / 3 ص -86-
روي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قضاء
رمضان في أيام العشر ونحن أخذنا بقول عمر رضي
الله تعالى عنه لأن الصوم في هذه الأيام مندوب
إليه وهو قياس صوم عاشوراء وصوم شعبان وقضاء
رمضان في هذه الأوقات يجوز وقال صلى الله عليه
وسلم:
"أفضل الصيام بعد رمضان عشر ذي الحجة", وتأويل النهي في حق من يعتاد صوم هذه الأيام تطوعا أنه لا ينبغي له
أن يترك عادته ويؤدي ما عليه من القضاء في هذه
الأيام.
قال: وإذا بلغ الغلام في يوم من رمضان فأفطر
فيه فلا شيء عليه وعن أبي يوسف رحمه الله
تعالى أنه إذا بلغ قبل الزوال فعليه أن يصوم
وإن أفطر فعليه قضاء هذا اليوم لأن وقت النية
يمتد إلى وقت الزوال في حق من كان أهلا
للعبادة في أول النهار فصار بلوغه قبل الزوال
كبلوغه ليلا فعليه أن ينوي الصوم.
وجه ظاهر الرواية: أن الخطاب بالصوم ما كان
متوجها عليه في أول النهار وصوم اليوم الواحد
لا يتجزأ وجوبا وإمساكه في أول النهار ما توقف
على صوم الفرض لأنه لم يكن أهلا له فهو نظير
الكافر يسلم ولو بلغ في غير رمضان في يوم فنوى
الصوم تطوعا أجزأه بالاتفاق وفي الكافر يسلم
اشتباه فقد ذكر في الجامع الصغير في صبي بلغ
وكافر يسلم قال هما سواء وهذا يدل على أن نية
كل واحد منهما صوم التطوع صحيح وأكثر مشايخنا
على الفرق بين الفصلين فقالوا لا يصح من
الكافر نية صوم التطوع بعد ما أسلم قبل الزوال
لأنه ما كان أهلا للعبادة في أول النهار فلا
يتوقف إمساكه على أن يصير عبادة بالنية قبل
الزوال.
قال: وإذا ذاق الصائم بلسانه شيئا ولم يدخل
حلقه لم يفطر لأن الفطر بوصول شيء إلى جوفه
ولم يوجد والفم في حكم الظاهر. ألا ترى أن
الصائم يتمضمض فلا يضره ذلك؟ ويكره له أن يعرض
نفسه لشيء من هذا لأنه لا يأمن أن يدخل حلقه
بعد ما أدخله فمه فيحوم حول الحمى قال صلى
الله عليه وسلم:
"فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه".
قال: وإن دخل ذباب جوفه
لم يفطره ولم يضره وهذا استحسان وكان ينبغي في
القياس أن يفسد صومه لأنه ليس فيه أكثر من أنه
غير مغذ وأنه لا صنع له فيه فكان نظير التراب
يهال في حلقه
وفي الاستحسان لا يضره هذا لأنه لا يستطاع
الامتناع منه فإن الصائم لا يجد بدا من أن
يفتح فمه فيتحدث مع الناس وما لا يمكن التحرز
عنه فهو عفو ولأنه مما لا يتغذى به فلا ينعدم
به معنى الإمساك وهو نظير الدخان والغبار يدخل
حلقه قال أبو يوسف رحمه الله تعالى وقد يدخل
في هذا الاستحسان بصفة القياس فإنه لو كان
الذباب في حلقه ثم طار لم يضره ولو كان هذا
مفسدا للصوم لكان بوصوله إلى باطنه يفسد صومه
وإن خرج بعد ذلك وإن نزل في حلقه ثلج أو مطر
فقد اختلف مشايخنا فيه والصحيح أنه يفطره لأن
هذا مما يستطاع الامتناع منه بأن يكون تحت
السقف ولأن هذا مما يتغذى به.
ج / 3 ص -87-
قال:
وإن كان بين أسنانه شيء فدخل جوفه لم يفطر لأن
هذا لا يستطاع الامتناع منه فإن تسحر بالسويق
فلا بد من أن يبقى بين أسنانه شيء فإذا أصبح
يدخل في حلقه مع ريقه ثم ما يبقى بين الأسنان
تبع لريقه فكما أنه إذا ابتلع ريقه لم يضره
فكذلك ما هو تبع وهذا إذا كان صغيرا يبقى بين
الأسنان عادة وهو بخلاف ما إذا دخل ذلك القدر
في فمه لأن ذلك مما يستطاع الامتناع منه فإن
كان بحيث لا يبقى بين الأسنان عادة يفسد صومه
لأن هذا لا تكثر فيه البلوى والتحرز عنه ممكن
وقدروا ذلك بالحمصة فإن كان دونها لم يفسد به
الصوم وقدر الحمصة إذا أدخله في حلقه فسد صومه
وعليه القضاء ولا كفارة عليه في قول أبي يوسف
رحمه الله تعالى وقال زفر رحمه الله تعالى
عليه الكفارة لأنه ليس فيه أكثر من أنه طعام
متغير فهو كالمفطر باللحم المنتن ولأبي يوسف
أن هذا من جنس ما لا يتغذى به والطباع تعافه
فهو نظير التراب ثم للفم حكم الباطن من وجه
وحكم الظاهر من وجه والكفارة تسقط بالشبهة
فلهذا أسقطنا عنه الكفارة.
قال: رجل قال: لله علي صوم شهر فله أن يصومه
متفرقا أما وجوب الصوم بنذره فلأنه عاهد الله
عهدا والوفاء بالعهد واجب قال الله تعالى:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}[النحل: 91] وذم من ترك الوفاء بالعهد بقوله:
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}[التوبة: 75] ثم ما كان من جنسه واجب شرعا صح التزامه بالنذر وما
ليس من جنسه واجب شرعا كعيادة المريض لا يصح
التزامه بالنذر إلا في رواية عن أبي يوسف عن
أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف
فكأنه اعتبر في تلك الرواية كون المنذور قربة
ثم ما يلزمه بالنذر فرع لما هو واجب بإيجاب
الله تعالى وما أوجب الله تعالى من الصوم
مطلقا فتعيين وقت الأداء إلى العبد والخيار
إليه في الأداء متفرقا أو متتابعا كقضاء رمضان
فكذلك ما يوجبه على نفسه ولأن صوم الشهر
عبادات متفرقة لأنه يتخلل بين الأيام وقت لا
يقبل الصوم فلا يلزمه التتابع فيه إلا أن ينص
عليه أو ينويه فإن المنوي إذا كان من محتملات
لفظه جعل كالملفوظ.
قال: فإن سمى شهرا بعينه كرجب فعليه أن يصومه
وإن لم يصمه فعليه القضاء وكذلك إن أفطر فيه
يوما فعليه قضاء ذلك اليوم بالقياس على ما وجب
بإيجاب الله تعالى من الصوم في وقت بعينه وهو
صوم رمضان ويستوي إن كان قال متتابعا أو لم
يقل لأن الصفة في العين غير معتبرة وأيام شهر
بعينه متجاورة لا متتابعة فلا يلزمه صفة
التتابع فيه وإن نص عليه أو نواه بخلاف ما إذا
سمى شهرا بغير عينه لأن الوصف في غير المعين
معتبر ثم في المعين إذا لم يصمه حتى وجب عليه
القضاء فله أن يفرق القضاء لأن القضاء معتبر
بالأداء كما في صوم رمضان.
قال: وإن كان أراد يمينا فعليه كفارة اليمين
سواء أفطر في جميع الشهر أو في يوم منه,
ج / 3 ص -88-
لأن
المنوي من محتملات لفظه فإن الحالف يعاهد الله
تعالى كالناذر ثم شرط حنثه أن لا يصوم جميع
الشهر فسواء أفطر فيه يوما أو أكثر فقد وجد
شرط الحنث والحاصل أنه إذا لم ينو شيئا كان
كلامه نذرا باعتبار الظاهر والعادة وإن نوى
اليمين كان يمينا بنيته نذرا بظاهره وإن
نواهما جميعا كان نذرا ويمينا في قول أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وروى أصحاب
الإملاء عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنهما لا
يجتمعان في كلمة واحدة ولكنه إن نوى اليمين
فهو يمين تلزمه الكفارة بالحنث دون القضاء وإن
نواهما كان نذرا ولم يكن يمينا.
وجه قوله: أن حكم النذر يخالف حكم اليمين فلا
يجتمعان في كلام واحد كقوله لامرأته أنت علي
حرام إن نوى به الطلاق كان طلاقا وإن نوى به
اليمين كان يمينا ولا يجتمعان وإن نواهما.
وليس هذا نظير قول أبي يوسف رحمه الله تعالى
في اجتماع معنى الحقيقة والمجاز في كلام واحد
في بعض مسائل الأيمان لأن حكم المجاز هناك غير
مخالف لحكم الحقيقة فكان بمنزلة لفظ العموم.
وجه قولهما: أن في لفظه كلمتين إحداهما يمين
وهو قوله لله فإن معناه بالله قال بن عباس رضي
الله عنه دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس
حتى خرج وهذا لأن اللام والباء يتعاقبان قال
الله تعالى:
{آمَنْتُمْ لَهُ}[طـه:
71] وفي موضع آخر
{بِهِ}[البقرة: 137]
وقوله علي نذر إلا أن عند الإطلاق غلب عليه
معنى النذر باعتبار العادة فحمل عليه فإذا
نواهما فقد نوى بكل لفظ ما هو من محتملاته
فيعمل بنيته وليس هذا نظير ما يقال إن على قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تجتمع الحقيقة
والمجاز في لفظ واحد لأن الحقيقة استعمال
اللفظ في موضعه والمجاز استعماله في غير موضعه
وإنما ذلك في كلمة واحدة لا في كلمتين.
قال: وإن نذر صوم سنة بعينها أفطر يوم النحر
ويوم الفطر وأيام التشريق لأن الصوم في هذا
الأيام منهي عنه شرعا وإلى العبد ولاية
الإيجاب بنذره لا رفع المنهي ثم عليه قضاء هذه
الأيام عندنا وقال زفر, رحمه الله تعالى ليس
عليه القضاء وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى.
وأصل المسألة إذا قال: لله علي أن أصوم غدا
وغدا يوم النحر أو قال لله علي أن أصوم يوم
النحر صح نذره في الوجهين ويؤمر بأن يصوم يوما
آخر فإن صام في ذلك اليوم خرج من موجب نذره
وعند زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يصح
نذره وهو رواية بن المبارك عن أبي حنيفة
رحمهما الله تعالى.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا قال صلى الله
عليه وسلم: لله علي صوم يوم النحر لم يصح نذره
وإن قال غدا وغدا يوم النحر صح نذره.
ج / 3 ص -89-
وجه
قولهما أن الصوم غير مشروع في هذه الأيام وليس
إلى العبد شرع ما ليس بمشروع كالصوم ليلا
وبيانه أن الشرع عين هذا الزمان للأكل بقوله
عليه السلام:
"فإنها أيام أكل وشرب", وتعينه لأحد الضدين ينفي الضد الآخر فيه والدليل على أنه لا يصلح
لأداء شيء من الواجبات أن الصوم اسم لما هو
قربة والمنهي عنه يكون معصية فلا يكون صوما.
ولنا: أن الصوم مشروع في هذه الأيام فإن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم هذه الأيام
وموجب النهي الانتهاء والانتهاء عما ليس
بمشروع لا يتحقق ولأن موجب النهي الانتهاء على
وجه يكون للعبد فيه اختيار بين أن ينتهي فيثاب
عليه وبين أن يقدم على الارتكاب فيعاقب عليه
وذلك لا يتحقق إذا لم يبق الصوم مشروعا فيه
وموجب النهي غير موجب النسخ فإذا كان موجب
النسخ رفع المشروع عرفنا أنه ليس موجب النهي
رفع المشروع والمعنى الذي لأجله كان الصوم
مشروعا في سائر الأيام كون الامساك فيها بخلاف
العادة وهذا المعنى في هذه الأيام أظهر والشرع
أمر بالفطر فيه لا أنه جعله مفطرا فيه بخلاف
الليل فقد جعله مفطرا بدخول الليل بقوله:
"فقد أفطر الصائم أكل أولم يأكل". والنهي يجعل الأداء من العبد فاسدا ولهذا لا يصلح لأداء شيء من
الواجبات به ولكن صفة الفساد لا تمنع بقاء
أصله شرعا كمن أفسد إحرامه نفي عقد الإحرام
وعليه أداء الأفعال شرعا.
وإذا ثبت أن الصوم مشروع في هذا اليوم فقد حصل
نذره مضافا إلى محله فيصح وليس في النذر
ارتكاب المنهي إنما ذلك في أداء الصوم ولهذا
أمرناه بأن يصوم يوما آخر كيلا يكون مرتكبا
للنهي ولو صام في هذه الأيام خرج عن موجب نذره
لأنه ما التزم إلا هذا القدر وقد أدى كمن قال
لله علي أن أعتق هذه الرقبة وهي عمياء خرج عن
موجب نذره بإعتاقها لأنه ما التزم إلا هذا
القدر وقد أدى بإعتاقها وإن كان لا يتأدى شيء
من الواجبات بها وكمن نذر أن يصلي عند طلوع
الشمس فعليه أن يصلي في وقت آخر فإذا صلى في
ذلك الوقت خرج عن موجب نذره.
وجه رواية الحسن أنه إذا نص على يوم النحر فقد
صرح في نذره بما هو منهي عنه فلم يصح وإذا قال
غدا لم يصرح في نذره بما هو منهي عنه فصح نذره
وهو كالمرأة إذا قالت لله علي أن أصوم يوم
حيضي لم يصح نذرها ولو قالت غدا وغدا يوم
حيضها صح نذرها.
إذا عرفنا هذا فنقول إذا نذر صوم سنة بعينها
فعليه قضاء خمسة أيام إذا أفطر فيها يوم الفطر
ويوم النحر وأيام التشريق وإن التزم سنة بغير
عينها فعليه قضاء خمسة وثلاثين يوما لأن صوم
رمضان لا يكون عن المنذور ولو قال سنة متتابعة
فعليه أن يصل هذا القضاء بالأداء وكان محمد بن
سلمة رحمه الله تعالى يقول في هذا الفصل لا
يفطر في الأيام الخمسة لأن هذا القدر من
التتابع في وسعه والأول أصح وهو مروي عن أبي
يوسف رحمه الله تعالى وكذلك المرأة إن نذرت
صوم سنة بعينها قضت أيام الحيض لما بينا.
ج / 3 ص -90-
قال:
رجل جعل لله عليه أن يصوم كل خميس يأتي عليه
فأفطر خميسا فعليه القضاء وكفارة اليمين إن
أراد يمينا فإن أفطر خميسا آخر قضاه أيضا ولم
يكن عليه كفارة أخرى لأن اليمين واحدة فإذا
حنث فيها مرة لا يحنث مرة أخرى وبحكم النذر
لزمه صوم كل خميس فكل ما أفطر في خميس كان
عليه قضاؤه وهذا لأن إيجاب القضاء في كل خميس
لا يقتضي تعدد النذر بخلاف إيجاب الكفارتين.
قال: وإن جعل لله عليه أن يصوم اليوم الذي
يقدم فيه فلان أبدا فقدم فلان ليلا لم يلزمه
شيء لأن اليوم حقيقة لبياض النهار ولم يوجد
ذلك عند قدوم فلان ولا يقال اليوم بمعنى الوقت
كما لو قال لامرأته أنت طالق في اليوم الذي
يقدم فيه فلان لأن اليوم قد يحتمل معنى الوقت
ولكن إذا قرن به ما يختص بأحد الوقتين وهو
بياض النهار علم أنه ليس مراده الوقت مطلقا
بخلاف الطلاق فإنه لا يختص بأحد الوقتين وإن
قدم فلان في يوم قد أكل فيه فعليه أن يصوم ذلك
اليوم فيما يستقبل ولا يقضي هذا اليوم الذي
أكل فيه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن عليه
قضاءه قال لأن السبب هو النذر والوقت شرط فيه
فعند وجوده يستند الوجوب إلى نذره فكأنه قال
لله علي أن أصوم غدا فأكل الغد فعليه قضاؤه.
وجه ظاهر الرواية: أنه أضاف النذر إلى وقت
قدوم فلان فعند وجود القدوم يصير كالمجدد
للنذر كما هو الأصل أن المعلق بالشرط عند
وجوده كالمنجز ومن أكل في يوم ثم قال لله علي
أن أصوم هذا اليوم أبدا فعليه أن يصومه فيما
يستقبل وليس عليه قضاء هذا اليوم وكذلك لو قدم
فلان بعد الزوال وجواب أبي يوسف رحمه الله
تعالى في هذا غير محفوظ ويجوز أن يفرق بينهما
بعلة أن ما بعد الزوال ليس بوقت لالتزام الصوم
من أحد وما قبل الزوال إن لم يكن وقتا لالتزام
الصوم في حق الأكل فهو وقت في حق غيره وإلا
ظهر أنه يسوي بينهما وإن كان قدم قبل الزوال
ولم يكن أكل فيه صامه لبقاء وقت النية عند
القدوم وصار كالمنجز للنذر في الحال.
قال: رجل أصبح صائما يوم الفطر ثم أفطر فلا
قضاء عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وعليه القضاء في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى لأن الشروع ملزم كالنذر بدليل سائر
الأيام والنهي لا يمنع صحة الشروع فيجب القضاء
كمن شرع في الصلاة في الأوقات المكروهة وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى يقول لم يجب عليه
الإتمام بعد الشروع لأن فيه معصية ووجوب
القضاء ينبني على وجوب الإتمام ولأن القدر
المؤدى كان فاسدا لما فيه من ارتكاب النهي فلا
يجب عليه حفظه ووجوب الإتمام والقضاء لحفظ
المؤدى بخلاف النذر فإنه بنذره صار مرتكبا
للنهي وفي الشروع في الصلاة في الوقت المكروه
روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبعد
التسليم الفرق من وجهين.
أحدهما: أن بالشروع هناك لا
يصير مرتكبا للنهي لأن بمجرد التكبير لا يصير
مصليا,
ج / 3 ص -91-
كمن
حلف أن لا يصلي فكبر لا يحنث فلهذا صح الشروع
وهنا بمجرد الشروع صار صائما مرتكبا للنهي
بدليل مسألة اليمين.
ولأن هناك يمكنه الأداء بذلك الشروع لا بصفة
الكراهة بأن يصبر حتى تبيض الشمس فلهذا لزمه
وهنا بهذا الشروع لا يمكنه الأداء بدون صفة
الكراهة فلم تلزمه.
قال: امرأة قالت: لله علي أن أصوم يوم حيضي
فلا شيء عليها لأن الحيض ينافي أداء الصوم ومع
التصريح بالمنافي لا يصح الالتزام كمن قال لله
علي أن أصوم اليوم الذي أكلت فيه وكذلك إن
حاضت ثم قالت لله علي أن أصوم هذا اليوم لأن
المنافي متحقق فكأنها صرحت به بخلاف ما إذا
قالت لله علي أن أصوم غدا فحاضت من الغد لأنه
ليس في لفظها تصريح بالمنافي فصح الالتزام ثم
تعذر عليها الأداء بما اعترض من الحيض فعليها
القضاء.
قال: وإذا دخل الغبار أو الدخان حلق الصائم لم
يضره لأن هذا لا يستطاع الامتناع منه فالتنفس
لا بد منه للصائم والتكليف بحسب الوسع ولو طعن
برمح حتى وصل إلى جوفه لم يفطره لأن كون الرمح
بيد الطاعن يمنع وصوله إلى باطنه حكما فإن بقي
الزج في جوفه فسد صومه لأنه صار مغيبا حقيقة
فكان واصلا إلى باطنه وهو قياس ما لو ابتلع
خيطا فإن بقي أحد الجانبين بيده لم يفسد صومه
وإن لم يبق فسد صومه.
قال: ولو أكره على أكل وشرب فعليه القضاء دون
الكفارة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى
إن تناول بنفسه مكرها فكذلك وإن صب في حلقه لم
يفسد صومه واعتبر صنعه في ذلك ونحن نعتبر وصول
المفطر إلى باطنه مع ذكره للصوم وذلك لا يختلف
بفعله وبفعل غيره وكذلك النائم إن صب في حلقه
ماء فسد صومه عندنا ولم يفسد عند زفر والشافعي
رحمهما الله تعالى لأنه أعذر من الناسي إذا لا
صنع له أصلا ولكنا نقول الناسي معدول به عن
القياس بالنص وهذا ليس في معناه لأن النسيان
لا صنع فيه للعباد فإذا كان العذر ممن له الحق
منع فساد صومه وإليه أشار رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: "إن الله
أطعمك وسقاك". وهنا إنما جاء العذر بسبب مضاف إلى العباد وهو النوم منه والصب من
غيره وهذا غير مانع من فساد الصوم لوصول
المفطر إلى باطنه.
قال: "وللصائم أن يستاك بالسواك أول النهار
وآخره" وكره الشافعي رحمه الله تعالى للصائم
السواك آخر النهار لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك". والسواك يزيل الخلوف وما هو أثر العبادة يكره إزالته كدم
الشهيد.ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
"خير خلال الصائم السواك"
وقال:
"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة وبالسواك عند كل
وضوء". ثم هو
تطهير للفم فلا يكره للصائم كالمضمضة.
والسواك لا يزيل الخلوف بل يزيد فيه إنما يزيل
النكهة الكريهة ومراده صلى الله عليه وسلم
بيان درجة
ج / 3 ص -92-
الصائم
لا عين الخلوف فإن الله تعالى يتعالى عن أن
تلحقه الروائح ودم الشهيد يبقى عليه ليكون
شاهدا له على خصمه يوم القيامة والصوم بين
العبد وبين من يعلم السر وأخفى فلا حاجة إلى
الشاهد.
والسواك الرطب واليابس فيه سواء لقول بن عباس
رضي الله عنه لا بأس للصائم أن يستاك بالسواك
الأخضر وكذلك لا بأس أن يبله بالماء إلا في
رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كره
ذلك لأنه يجد منه بدا فهو نظير الذوق وإدخال
الماء في فمه من غير حاجة. ولنا: حديث عائشة
رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يستاك بالسواك الرطب وهو صائم.
قال: وإذا خافت الحامل أو المرضع على نفسها أو
ولدها أفطرت لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تعالى
وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل
والمرضع الصوم". ولأنه يلحقها الحرج في نفسها أو ولدها والحرج عذر في الفطر كالمريض
والمسافر وعليها القضاء ولا كفارة عليها لأنها
ليست بجانية في الفطر ولا فدية عليها عندنا
وقال الشافعي رحمه الله تعالى ان خافت على
نفسها فكذلك وإن خافت على ولدها فعليها الفدية
ومذهبه مروي عن بن عمر رحمه الله تعالى مذهبنا
مروي عن علي وبن عباس رضي الله عنهما إلا أن
المروي عن بن عمر الفدية دون القضاء والجمع
بينهما لم يشتهر عن أحد من الصحابة وهو يقول
الفطر منفعة حصلت بسبب نفس عاجزة عن الصوم
خلقة لا علة فيوجب الفدية كفطر الشيخ الفاني
وهذا لأن الفطر منفعة شخصين منفعتها ومنفعة
ولدها فباعتبار منفعتها يجب القضاء وباعتبار
منفعة ولدها تجب الفدية.
ولنا: أن هذا مفطر يرجى له القضاء فلا يلزمه
الفداء كالمريض والمسافر وهذا لأن الفدية
مشروعة خلفا عن الصوم والجمع بين الخلف والأصل
لا يكون وهو خلف غير معقول بل هو ثابت بالنص
في حق من لا يطيق الصوم فلا يجوز إيجابه في حق
من يطيق الصوم ولا يجوز أن يجب باعتبار الولد
لأنه لا صوم على الولد فكيف يجب ما هو خلف عنه
ولأنه لا يجب في مال الولد ولو كان باعتباره
لوجب في ماله كنفقته ولتضاعف بتعدد الولد.
وأما الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم فإنه
يفطر ويطعم لكل يوم نصف صاع من حنطة وقال مالك
لا فدية عليه قال لأن أصل الصوم لم يلزمه
لكونه عاجزا عنه فكيف يلزمه خلفه لأن الخلف
مشروع ليقوم مقام الأصل ولنا أن الصوم قد لزمه
لشهود الشهر حتى لو تحمل المشقة وصام كان
مؤديا للفرض وإنما يباح له الفطر لأجل الحرج
وعذره ليس بعرض الزوال حتى يصار إلى القضاء
فوجبت الفدية كمن مات وعليه الصوم يوضحه أن
الصوم لزمه لا باعتبار عينه بل باعتبار خلفه
كالكفارة تجب على العبد لا باعتبار المال بل
باعتبار خلفه وهو الصوم والأصل فيه قوله
تعالى:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
ج / 3 ص -93-
مِسْكِينٍ}[البقرة: 184] جاء عن بن عباس رضي الله تعالى عنه: وعلى الذين
يطيقونه فلا يطيقونه فدية. وقيل حرف لا مضمر
فيه معناه وعلى الذين لا يطيقونه قال الله
تعالى:
{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}[النساء:
176] أي لئلا تضلوا
{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِهِمْ} [الانبياء: 31] أي لئلا تميد بكم
قال: وإذا أكل الصائم الطين أو الجص أو الحصاة
متعمدا فعليه القضاء ولا كفارة عليه وقد بينا
هذا ومراده طين الأرض فأما إذا أكل الطين
الارمني تلزمه الكفارة رواه بن رستم عن محمد
رحمهما الله تعالى لأن هذا مما يتداوى به فإنه
والغاريقون سواء.
قال: ابن رستم قلت لمحمد فإن أكل من هذا الطين
الذي يقلى ويؤكل قال لا أدري ما هذا والصحيح
أنه تلزمه الكفارة لأنه يؤكل تفكها ويؤكل على
سبيل التداوي فقد ينفع المرطوب.
قال: ويكره للصائم مضغ العلك ولا يفطره لأن
مضغ العلك يدبغ المعدة ويشهي الطعام ولم يأن
له فهو اشتغال بما لا يفيد والناظر إليه من
بعد يظن أنه يتناول شيئا فيتهمه ولا يأمن أن
يدخل شيئا منه حلقه فيكون معرضا صومه للفساد
ولكن لا يفطره لأن عين العلك لا تصل إلى حلقه
إنما يصل إليه طعمه وهذا إذا كان العلك مصلحا
ملتئما فأما إذا لم يكن ملتئما فمضغه حتى صار
ملتئما يفسد صومه لأنه تتفتت أجزاؤه فيدخل
حلقه مع ريقه.
قال ولا بأس بأن تمضغ المرأة لصبيها طعاما إذا
لم تجد منه بدا لأن الحال حال الضرورة ويجوز
لها الفطر لحاجة الولد فلأن يجوز مضغ الطعام
كان أولى فأما إذا كانت تجد من ذلك بدا يكره
لها ذلك لأنها لا تأمن أن يدخل شيء منه حلقها
فكانت معرضة صومها للفساد وذلك مكروه عند عدم
الحاجة قال صلى الله عليه وسلم:
"من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه", والله تعالى أعلم بالصواب.
باب صدقة الفطر
الأصل في وجوب صدقة الفطر حديث بن عمر أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر على
كل حر وعبد ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا صاعا
من تمر وصاعا من شعير وحديث عبد الله بن ثعلبة
العدوي ويقال العبدري الذي بدأ به محمد رحمه
الله تعالى الباب فقال خطبنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال:
"أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع من بر أو
صاعا من تمر أو صاعا من شعير"،
وحديث بن عباس رضي الله عنه أنه خطب بالبصرة
فقال: أدوا زكاة فطركم فنظر الناس بعضهم إلى
بعض فقال:
"من هنا من أهل المدينة قوموا رحمكم الله
فعلموا إخوانكم فإنهم لا يعلمون".
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا في هذا اليوم أن نؤدي
صدقة الفطر عن كل حر وعبد نصف صاع من بر أو
صاعا من تمر أو صاعا من شعير.ثم الشافعي رحمه
الله تعالى أخذ بحديث
ج / 3 ص -94-
ابن
عمر وقال إنها فريضة بناء على أصله أنه لا فرق
بين الواجب والفريضة وعندنا هي واجبة لأن
ثبوتها بدليل موجب للعمل غير موجب علم اليقين
وهو خبر الواحد وما يكون بهذه الصفة يكون
واجبا في حق العمل ولا يكون فرضا حتى لا يكفر
جاحده إنما الفرض ما ثبت بدليل موجب للعلم
وقيل في قوله تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى:14]
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:15] أي تطهر بأداء زكاة الفطر وصلى صلاة العيد بعده.
ثم سبب وجوب صدقة الفطر رأس يمونه بولايته
عليه قال صلى الله عليه وسلم:
"أدوا عمن تمونون", وحرف عن للانتزاع من الشيء فيحتمل أحد وجهين إما أن يكون سببا
ينتزع منه الحكم أو محلا يجب عليه ثم يؤدى عنه
وبطل الثاني لاستحالة الوجوب على العبد
والكافر فتعين الأول ولأنه يتضاعف بتضاعف
الرءوس فعلم أن السبب هو الرأس وإنما يعمل في
وقت مخصوص وهو وقت الفطر ولهذا يضاف إليه
فيقال صدقة الفطر والإضافة في الأصل وإن كان
إلى السبب فقد يضاف إلى الشرط مجازا فإن
الإضافة تحتمل الاستعارة فأما التضاعف بتضاعف
الرءوس لا يحتمل الاستعارة ثم هي عبادة فيها
معنى المؤنة ولهذا لا يشترط لوجوبه كمال
الأهلية ومعنى المؤنة يرجح الرأس في كونه سببا
على الوقت.
وإذا كان الوجوب في وقت الفطر من رمضان وهو
عند طلوع الفجر من يوم الفطر يستحب أداؤه كما
وجب قبل الخروج إلى المصلى لحديث ابن عمر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن
يؤدوا صدقة الفطر قبل أن يخرجوا إلى المصلى
وقال:
"أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم", والمعنى أنه إذا أدى قبل الخروج تفرغ قلب الفقير عن حاجة العيال
فتفرغ لأداء الصلاة.
وقيل في يوم الفطر يستحب للمرء ستة أشياء أن
يغتسل ويستاك ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه ويؤدي
فطرته ويتناول شيئا ثم يخرج إلى المصلى.
قال: وعلى المسلم الموسر أن يؤدي زكاة الفطر
عن نفسه أما اشتراط الإسلام فلان في آخر حديث
بن عمر رضي الله عنه قال من المسلمين وقال صلى
الله عليه وسلم:
"في زكاة الفطر طهرة للصائمين من اللغو والرفث".وقال عمر رضي الله عنه الصوم محبوس بين السماء والأرض حتى تؤدي زكاة
الفطر ولأنها عبادة فلا تجب إلا على من هو أهل
لثوابها وهو المسلم وأما اشتراط اليسار فقول
علمائنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى من ملك
قوت يومه وزيادة بقدر ما يؤدي زكاة الفطر
فيؤدي زكاة الفطر لأنه ذكر في آخر حديث بن عمر
رضي الله عنه غني أو فقير ولأنه واجد لما
يتصدق به فضلا عن حاجته فيلزمه الأداء كالموسر
وهذا لأن صدقة الفطر تشبه الكفارة دون الزكاة
حتى لا يعتبر فيها الحول وفي الكفارة يعتبر
تيسر الأداء دون الغنى فكذلك في زكاة الفطر.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم :
"لا صدقة إلا عن ظهر غنى". ولأن
الفقير محل الصرف إليه فلا يجب
ج / 3 ص -95-
عليه
الأداء كالذي لا يملك إلا قوت يومه وهذا لأن
الشرع لا يرد بما لا يفيد فلو قلنا بأنه يأخذ
من غيره ويؤدي عن نفسه كان اشتغالا بما لا
يفيد وحديث بن عمر رضي الله عنه محمول على ما
كان في الابتداء ثم انتسخ بقوله صلى الله عليه
وسلم:
"إنما الصدقة ما كانت عن ظهر غنى", أو: "ما أبقت
غنى" أو هو محمول على الندب فإنه قال في آخره:
"أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيعطيه الله أفضل مما أعطى".
ثم اليسار المعتبر
لإيجاب زكاة الفطر أن يملك مائتي درهم أو ما
يساوي مائتي درهم من الدراهم التي تغلب النقرة
فيها على الغش فضلا عن حاجته ويتعلق بهذا
اليسار أحكام ثلاثة حرمة أخذ الصدقة ووجوب
زكاة الفطر والأضحية وكما يؤدي عن نفسه فكذلك
يؤدي عن أولاده الصغار لأن رأس أولاده في معنى
رأسه فإنه يمونهم بولايته وقد بينا أن سبب
الوجوب هذا وكذلك يؤدي عن مماليكه للخدمة لأنه
يمونهم بولايته عليهم القن والمدبر وأم الولد
في ذلك سواء فإن ولايته عليهم لا تنعدم
بالتدبير والاستيلاد إنما تستحيل المالية بهذا
السبب ولا عبرة للمالية فإنه يؤدي عن نفسه وعن
أولاده الصغار ولا مالية فيهم ما خلا مكاتبيه
فإنه لا يؤدي عنهم لأن ولايته عليهم قد اختلت
بسبب الكتابة فإن المكاتب صار بمنزلة الحر في
حق اليد والتصرف.
وحكي عن عطاء أنه يؤدي عنهم لقوله صلى الله
عليه وسلم:
"أدوا عن كل حر وعبد". وقال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولكنا نستدل بقوله صلى الله
عليه وسلم:
" أدوا عمن
تمونون", وهو لا يمون المكاتب.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يؤدي زكاة
الفطر عن جميع مماليكه إلا المكاتبين له وليس
على المكاتب أن يؤدي عن نفسه ولا عن مماليكه
إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يجعل
المكاتب مالكا لكسبه بناء على أصله أن المملوك
من أهل ملك المال إذا ملكه المولى
وعندنا المملوك مال ليس من أهل ملك المال
للتضاد بين المالكية وبين المملوكية والمكاتب
ليس بمالك لكسبه على الحقيقة وقد بينا أن شرط
الوجوب الغنا وذلك لا يثبت بدون حقيقة الملك
والدليل عليه إباحة الأخذ له وإن كان في يده
كسب.
قال: ويؤدي المسلم عن مملوكه الكافر عندنا
وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يؤدى عنه
وهذه المسألة تنبني على أصل وهو أن الوجوب
عندنا على المولى عن عبده فتعتبر أهلية المولى
وعنده لوجوب على العبد ثم يتحمل المولى عنه
فيعتبر كون العبد أهلا للوجوب عليه وهو يستدل
لإثبات هذا الأصل بحديث ابن عمر أن النبي صلى
الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر على كل حر وعبد
ولأنها طهرة للصائم ووجوب الصوم على العبد
وقيل صدقة الفطر للصوم كسجود السهو للصلاة
والسجود يجب على المصلي لا على غيره وقال بن
عمر في صدقة الفطر ثلاثة أشياء قبول الصوم
والفلاح والنجاة من سكرات الموت وعذاب القبر.
ج / 3 ص -96-
ولنا:
قوله عليه الصلاة والسلام:
"أدوا عمن
تمونون", فإنما الوجوب على من خوطب بالأداء وجعله بمنزلة النفقة ونفقة
المملوك على المولى فكذلك صدقة الفطر عنه ثم
هذه صدقة واجبة باعتبار ملكه فكانت عليه
ابتداء كزكاة المال عن عبد التجارة وهذا لأن
حال العبد دون حال فقير لا يملك شيئا لأن ذلك
الفقير من أهل الملك والعبد لا فإذا لم تجب
على الفقير الذي لا يملك شيئا فلأن لا تجب على
العبد أولى والدليل عليه أنه لا يخاطب بالأداء
بحال بخلاف الصغير الذي له مال فإنه يخاطب
بالأداء بعد البلوغ إذا لم يؤده عنه وليه وحرف
على في حديث بن عمر بمعنى حرف عن قال الله
تعالى:
{إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}[المطففين: 2] أي عن الناس ولا معتبر بالصوم فإنه يجب على الرضيع
ولا صوم عليه.
وعلى سبيل الابتداء في المسألة لنا حديث نافع
عن بن عمر ومقسم عن بن عباس رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أدوا عن كل حر وعبد يهودي أو نصراني أو مجوسي", وهو نص ولكنه شاذ وقد بينا أن السبب رأس يمونه بولايته عليه وذلك
لا يختلف بكفر المملوك وإسلامه ولا يؤدي
الكافر عن مملوكه المسلم أما عندنا فلأن
الوجوب على المولى والمولى ليس بأهل له وعند
الشافعي رحمه الله تعالى تحمل المولى عن عبده
يستدعي أهلية أداء العبادة والكافر ليس بأهل
له والوجوب على العبد عنده باعتبار تحمل
المولى الأداء عنه فإذا انعدم ذلك في حق
المملوك لم يجب أصلا.
قال: وإذا كان للولد الصغير مال أدى عنه أبوه
من مال الصغير في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى وكذلك يضحى عنه من ماله
استحسانا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ذكره في كتاب الحيل وقال محمد وزفر رحمهما
الله تعالى يؤدي من مال نفسه ولو أدى من مال
الصغير ضمن.
وكذلك الخلاف في الوصي إلا أن عند محمد وزفر
رحمهما الله تعالى الوصي لا يؤدى عنه أصلا
والقياس ما قالا لأنها زكاة في الشريعة كزكاة
المال فلا تجب على الصغير ولأنها عبادة والصبي
ليس بأهل لوجوب العبادة عليه فإن الوجوب ينبني
على الخطاب استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما
الله تعالى فقالا فيها معنى المؤنة بدليل
الوجوب على الغير بسبب الغير فهو كالنفقة
ونفقة الصغير في ماله إذا كان له مال ثم هذه
طهرة شرعية فتقاس بنفقة الختان وهذا لأنا لو
لم نوجب عليه احتجنا إلى الإيجاب على الأب
فكان في الإيجاب في ماله حفظ حق الأب وهو
إسقاط عنه ومال الصبي يحتمل حقوق العباد وبه
فارق الزكاة ثم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى كما يؤدي عن الصغير من ماله
فكذلك عن مماليك الصغير يؤدي من مال الصغير
وعند محمد لا يؤدى عن مماليكه أصلا.
والمعتوه والمجنون في ذلك بمنزلة الصغير. وروى
عن محمد رحمه الله تعالى: أن
ج / 3 ص -97-
الأب
إنما يؤدي عن ابنه المعتوه والمجنون إذا بلغ
كذلك فأما إذا بلغ مفيقا ثم جن فليس عليه أن
يؤدي عنه من مال نفسه ولا من مال ولده لأنه
إذا ولد مجنونا بقي ما كان واجبا ببقاء ولايته
فأما إذا بلغ مفيقا فقد سقط عنه لزوال ولايته
فلا يعود بعد ذلك وإن عادت الولاية لأجل
الضرورة وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله تعالى السبب رأس يمونه بولايته عليه وذلك
لا يختلف بالجنون الأصلي والطارئ.
قال: وليس على الرجل أن يؤدي عن أولاده الكبار
وقال الشافعي رحمه الله تعالى ان كانوا زمنى
معسرين فعليه الأداء عنهم وإن كانوا أصحاء
معسرين في عياله فله فيه وجهان واستدل بقوله
صلى الله عليه وسلم:
"أدوا عمن تمونون", هو يمون ولده الزمن والمعسر.وأصحابنا قالوا بأن السبب رأس يمونه
بولايته عليه ليكون في معنى رأسه ولا ولاية له
على أولاده الزمنى إذا كانوا كبارا وبدون تقرر
السبب لا يثبت الوجوب.
قال: ولا يؤدي الجد عن نوافله الصغار وإن
كانوا في عياله وروى الحسن عن أبي حنيفة
رحمهما الله تعالى أن عليه الأداء عنهم بعد
موت الأب وهذه أربع مسائل يخالف الجد فيها
الأب في ظاهر الرواية ولا يخالف في رواية
الحسن:
أحدها: وجوب صدقة الفطر.
والثاني: التبعية في الإسلام.
والثالث: جر الولاء.
والرابع: الوصية لقرابة فلان.
وجه رواية الحسن: أن ولاية الجد عند عدم الأب
ولاية متكاملة وهو يمونهم فيتقرر السبب في
حقه.
ووجه ظاهر الرواية: أن ولاية الجد منتقلة من
الأب إليه فهو نظير ولاية الوصي وهذا لأن
السبب إنما يتقرر إذا كان رأسه في معنى رأس
نفسه باعتبار الولاية وذلك لا يتقرر في حق
الجد لأن ثبوت ولايته بواسطة وولايته على نفسه
ثابتة بدون الواسطة.
قال: ولا يؤدي الزوج زكاة الفطر عن زوجته وقال
الشافعي رحمه الله تعالى: يجب عليه الأداء
عنها لقوله عليه الصلاة والسلام:
"أدوا عمن تمونون", وهو يمون زوجته وملكه عليها نظير ملك المولى على أم ولده فإنه يثبت
به الفراش وحل الوطى ء فكما يجب عليه الأداء
عن أم ولده فكذلك عن زوجته.
ولنا: أن عليها الأداء عن مماليكها ومن يجب
عليه الأداء من غيره لا يجب على الغير الأداء
عنه وهذا لأن نفسها أقرب إليها من نفس
مماليكها ثم النفقة على الزوج باعتبار العقد
فلا يكون موجبا للصدقة كنفقة الأجير على
المستأجر وهذا لأن في الصدقة معنى العبادة وهو
ما تزوجها ليحمل عنها العبادات.
ج / 3 ص -98-
وقد
بينا أن مجرد المؤنة بدون الولاية المطلقة لا
ينهض سببا وبعقد النكاح لا يثبت له عليها
الولاية فيما سوى حقوق النكاح بخلاف أم الولد
فإن للمولى عليها ولاية مطلقة بسبب ملك الرقبة
فإن أدى الزوج عن زوجته بأمرها جاز وإن أدى
عنها بغير أمرها لم يجز في القياس كما لو أدى
عن أجنبي ويجوز استحسانا في رواية عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى لأن العادة أن الزوج هو الذي
يؤدي فكان الأمر منها ثابتا باعتبار العادة
فيكون كالثابت بالنص.
قال: وليس على الرجل أن يؤدي عن أبويه ولا عن
أحد من قرابته وإن كانوا في عياله لأنه لا
ولاية له عليهم ولأنه متبرع في الإنفاق عليهم
فهو كمن تبرع بالإنفاق على الغير فلا يجب عليه
الصدقة عنهم باعتباره.
قال: ويؤدي صدقة الفطر عن نفسه حيث هو ويكره
له أن يبعث بصدقته إلى موضع آخر لحديث معاذ بن
جبل رضي الله عنه من نقل عشره وصدقته عن مخلاف
عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته عشره وصدقته في
مخلاف عشيرته وأما عن رقيقه فإنما يؤدي صدقة
الفطر حيث هو وإن كانوا في بلد آخر وحكى بن
سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه رجع عن
هذا القول فقال يؤدي عنهم حيث هم وجعله قياس
زكاة المال ولا خلاف أن المعتبر هناك موضع
المال لا موضع صاحبه فهنا كذلك.
ووجه ظاهر الرواية: أن الوجوب على المولى في
ذمته ورأس المماليك في حقه كرأسه فكما أن في
أداء الصدقة عن نفسه يعتبر موضعه فكذلك عن
مماليكه بخلاف الزكاة فإن الواجب جزء من المال
حتى يسقط بهلاك المال وهنا لا يسقط بهلاك
المماليك بعد الوجوب على المولى.
قال: رجلان بينهما مملوك للخدمة لا يجب على
واحد منهما صدقة الفطر عنه عندنا
وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجب عليهما وهو
بناء على الأصل الذي تقدم بيانه فإن عنده
الوجوب على العبد وهو كامل في نفسه وعندنا
الوجوب على المولى عن عبده وكل واحد منهما لا
يملك ما يسمى عبدا فإن نصف العبد ليس بعبد
وعلى سبيل الابتداء هو يستدل بقوله صلى الله
عليه وسلم:
"أدوا عمن تمونون", وهما
يمونانه فإن نفقته عليهما فكذلك الصدقة عنه.
ولنا: أن السبب رأس يمونه بولايته عليه ولا
ولاية لواحد منهما عليه حتى لو أراد أن يزوجه
لا يملك ذلك وبمجرد وجوب النفقة لا يكون عليه
وجوب الصدقة فإن النفقة تجب باعتبار ملك سائر
الحيوانات ولا تجب الصدقة ما لم يتقرر السبب
وهو رأس يمونه بولايته عليه.
قال: فإن كان بينهما مماليك للخدمة فعلى قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجب
ج / 3 ص -99-
على
واحد منهما صدقة الفطر عنهم، وعند محمد رحمه
الله تعالى يجب على كل واحد منهما الصدقة في
حصته إذا كان كاملا في نفسه حتى إذا كان
بينهما خمسة أعبد يجب على كل واحد منهما
الصدقة عن عبدين ومذهب أبي يوسف رحمه الله
تعالى مضطرب ذكر في بعض روايات هذا الكتاب
كقول محمد رحمه الله تعالى والأصح أن قوله
كقول أبي حنيفة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى مر
على أصله فإنه لا يرى قسمة الرقيق جبرا فلا
يملك كل واحد منهما ما يسمى عبدا ومحمد مر على
أصله فإنه يرى قسمة الرقيق جبرا وباعتبار
القسمة ملك كل واحد منهما في البعض متكامل
وكذلك مذهب أبي يوسف إن كان قوله كقول محمد
وإن كان قوله كقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
فعذره أن القسمة تنبني على الملك فأما وجوب
الصدقة فينبني على الولاية لا على الملك حتى
تجب الصدقة عن الولد الصغير وليس لواحد منهما
ولاية متكاملة على شيء من هذه الرءوس.
قال: فإن كان بينهما جارية فجاءت بولد فادعياه
ثم مر يوم الفطر فلا صدقة على واحد منهما عن
الأم لما بينا فأما على الولد يجب على كل واحد
منهما صدقة كاملة في قول أبي يوسف وعند محمد
رحمهما الله تعالى تجب عليهما صدقة واحدة عنه
ولا رواية فيه عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى
فمحمد يقول الأب أحدهما في الحقيقة وصدقة
الفطر عليه وليس أحدهما بأولى من الآخر
فجعلناها عليهما نصفين ألا ترى أنهما يرثانه
ميراث بن واحد وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول
هو بن لكل واحد منهما بكماله لأن البنوة لا
تحتمل التجزيء ألا ترى أنه يرث من كل واحد
منهما ميراث بن كامل فكذلك يجب على كل واحد
منهما عنه صدقة كاملة.
قال: وليس على الرجل صدقة الفطر في مماليك
التجارة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى
يجب وهو بناء على الأصل الذي بينا فإن عنده
الوجوب على العبد وزكاة التجارة على المولى
فلا يمنع ذلك وجوب زكاة الفطر على العبد
وعندنا الوجوب على المولى كزكاة التجارة فلا
يجتمع زكاتان على ملك واحد على رجل واحد.
قال: وله أن يجمع صدقة نفسه ومماليكه فيعطيها
مسكينا واحدا لقوله صلى الله عليه وسلم: " أغنوهم عن
المسألة في مثل هذا اليوم",
والإغناء يحصل بصرف الكل إلى واحد فوق ما يحصل
بالتفريق ولأن المعتبر القدر المنصوص عليه
وصفة الفقر في المصروف إليه وذلك لا يختلف
بالتفريق والجمع فجاز الكل وهذا بخلاف الكفارة
فإنه لو صرف الكل إلى مسكين واحد جملة لا يجوز
لأن العدد في المصروف إليه منصوص عليه فلا بد
من وجوده صورة ومعنى.
قال: فإن أعطي قيمة الحنطة جاز عندنا لأن
المعتبر حصول الغنى وذلك يحصل بالقيمة كما
يحصل بالحنطة وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا
يجوز وأصل الخلاف في الزكاة وكان أبو بكر
الأعمش رحمه الله تعالى يقول أداء الحنطة أفضل
من أداء القيمة,
ج / 3 ص -100-
لأنه
أقرب إلى امتثال الأمر وأبعد عن اختلاف
العلماء فكان الاحتياط فيه وكان الفقيه أبو
جعفر رحمه الله تعالى يقول أداء القيمة أفضل
لأنه أقرب إلى منفعة الفقير فإنه يشتري به
للحال ما يحتاج إليه والتنصيص على الحنطة
والشعير كان لأن البياعات في ذلك الوقت
بالمدينة يكون بها فأما في ديارنا البياعات
تجرى بالنقود وهي أعز الأموال فالأداء منها
أفضل.
وقال: ومن مات من مماليكه وولده ليلة العيد
فلا صدقة عليه عنهم ومن مات بعد الصبح فالصدقة
واجبة عنهم ولا خلاف أن وجوب الصدقة يتعلق
بالفطر من رمضان وإنما الخلاف في وقت الفطر من
رمضان عندنا وقت الفطر عند طلوع الفجر من يوم
الفطر وعنده وقت غروب الشمس من الليلة التي
يهل بها هلال شوال حجته لإثبات هذا الأصل أن
حقيقة الفطر عند غروب الشمس وكذلك انسلاخ شهر
رمضان يكون عن رؤية هلال شوال وذلك عند غروب
الشمس وحجتنا ما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
"أنهاكم عن صوم يومين يوم تفطرون فيه من صومكم ويوم تأكلون فيه لحم
نسككم". ولأن
حقيقة الفطر عند غروب الشمس كما يكون في هذا
اليوم كذلك فيما قبله.
والفطر من رمضان إنما يتحقق بما يكون مخالفا
لما تقدم وذلك عند طلوع الفجر لأن فيما تقدم
كان يلزمه الصوم في هذا الوقت وفي هذا اليوم
يلزمه الفطر وهذا اليوم يسمى يوم الفطر فينبغي
أن يكون الفطر من رمضان فيه ليتحقق هذا الاسم
كيوم الجمعة تجب فيه الجمعة وتؤدى فيه ليتحقق
هذا الاسم فيه.
إذا عرفنا هذا فنقول كل من أسلم من الكفار
ليلة الفطر فعليه صدقة الفطر عندنا لأن وقت
الوجوب جاء وهو مسلم وكل من يولد ليلة الفطر
فعليه صدقة الفطر عندنا لأنه جاء وقت الوجوب
وهو منفصل ومن مات من أولاده ومماليكه ليلة
الفطر فليس عليه الصدقة عنه لأنه جاء وقت
الوجوب وهو ميت ومن مات بعد طلوع الفجر منهم
فعليه الصدقة عنه لأن وقت الوجوب جاء وهو حي
وصدقة الفطر بعد ما وجبت لا تسقط بموت المؤدى
عنه بخلاف الزكاة فإن الواجب هناك جزء من
المال وبهلاكه يفوت محل الواجب وهنا الصدقة
تجب في ذمة المؤدي فبموت المؤدى عنه لا يفوت
محل الواجب فلهذا لا تسقط حتى روي عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى في الأمالي أن من قال لعبده
إذا جاء يوم الفطر فأنت حر فعليه صدقة الفطر
عنه لأنه إنما عتق بعد طلوع الفجر فلا تسقط به
الصدقة الواجبة عنه والدليل على أن وقت الوجوب
عند طلوع الفجر حديث بن عمر كان النبي صلى
الله عليه وسلم يأمرنا بأداء صدقة الفطر قبل
الخروج إلى المصلى والمقصود بهذا الأمر
المسارعة إلى الأداء لا التأخير عن وقت
الوجوب.
قال: وإذا مر يوم الفطر وفي يد الرجل مملوك قد
اشتراه وفي البيع خيار لأحد المتبايعين فإنما
الصدقة على من يستقر له الملك عندنا وعند زفر
رحمه الله تعالى: على
ج / 3 ص -101-
من له
الخيار وعند الشافعي رحمه الله تعالى على من
له ملك العبد وقت الوجوب هو يقول هذه مؤنة
بسبب الملك فتكون نظير النفقة والنفقة تجب على
من له الملك وقت الوجوب فكذلك الصدقة وزفر
رحمه الله تعالى يقول الولاية لمن له الخيار
على المشتري ووجوب الصدقة باعتبار الولاية على
الرأس.
ولنا: أن البيع بشرط الخيار إذا تم يثبت الملك
للمشتري من وقت العقد حتى يستحق الزوائد
المتصلة والمنفصلة وإذا فسخ عاد إلى قديم ملك
البائع فحكم الملك والولاية موقوف فيه فكذلك
ما ينبني عليه وما يجب عليه بسبب الملك مقابل
بما يستحقه بسبب الملك وهو الزوائد فكما توقف
حكم استحقاقه فكذلك حكم الاستحقاق عليه إلا أن
النفقة لا تحتمل التوقف لأنها تجب لحاجة
المملوك للحال فإذا جعلناها موقوفة مات
المملوك جوعا فلأجل الضرورة اعتبرنا فيه
النفقة للحال بخلاف الصدقة وكذلك الخلاف في
زكاة التجارة إن كان اشتراه للتجارة.
قال: فإن لم يكن في البيع خيار إلا أن المشتري
لم يقبضه حتى مر يوم الفطر فإن قبضه بعد ذلك
فصدقته عليه لأنه كان مالكا له وقت الوجوب وقد
تقرر ملكه بقبضه وإن تلف قبل أن يقبضه فلا
صدقة على واحد منهما أما البائع فلأنه لم يكن
مالكا وقت الوجوب لأن البيع البات يزيل ملكه
وأما المشتري فلأن البيع انفسخ من الأصل بهلاك
المعقود عليه قبل القبض فينعدم به ملكه من
الأصل ووجوب الصدقة بحكم الملك ولم يبق لملكه
حكم حين انفسخ البيع من الأصل وإن لم يمت ورده
قبل القبض بعيب أو خيار رؤية فصدقته على
البائع ولا شيء على المشتري لأن البيع انفسخ
من الأصل بالرد قبل القبض بهذه الأسباب وعاد
إلى قديم ملك البائع فكأنه لم يخرج عن ملكه
بخلاف الأول فإن انفساخ البيع هناك بعد الهلاك
كفوات القبض المستحق بالعقد فلا يظهر حكم ملك
البائع في حال قيامه فإن رده بعد القبض بعيب
أو خيار رؤية فصدقته على المشتري لأن ملكه
وولايته كانت تامة وقت الوجوب لكونه قابضا
فوجبت الصدقة عليه ثم لا تسقط عنه بزوال ملكه
عن العين كما لا يسقط بهلاكه في يده.
قال: فإن كان اشتراه شراء فاسدا فمر يوم الفطر
قبل أن يقبضه فصدقته على البائع سواء قبضه
المشتري بعد ذلك أو لم يقبضه وفسخ البيع لأن
البيع الفاسد لا يزيل الملك بنفسه فبقي ملك
البائع بعده كما كان قبله وإذا قبضه المشتري
بعد ذلك فزوال ملك البائع كان مقصورا على
الحال لأن السبب إنما تم الآن والموهوب في هذا
نظير المشترى شراء فاسدا قال فإن مر يوم الفطر
وهو مقبوض فإن أعتقه المشتري فصدقته عليه لأنه
كان مالكا وقت الوجوب وتقرر ملكه بتعذر فسخ
البيع وإن رده فصدقته على البائع لأنه عاد إلى
قديم ملكه فإن المشتري وإن كان قابضا مالكا
وقت الوجوب ولكن يده وملكه مستحق الرفع
ج / 3 ص -102-
عنها
شرعا فإذا رفع صار كأن لم يكن بخلاف الرد
بالعيب وخيار الرؤية فإنه غير مستحق الرفع
عليه ولكنه يرفعه باختياره.
قال: وإذا عجز المكاتب فليس على المولى فيه
زكاة السنين الماضية لفطر ولا تجارة أما زكاة
الفطر فلأن السبب رأس يمونه بولايته عليه وذلك
لم يكن موجودا فيما مضى وأما زكاة التجارة
فلأنه ما كان متمكنا من التصرف فيه بل كان
كالخارج من ملكه وكذلك إذا كان العبد آبقا
فوجده لأنه كان تاويا في السنين الماضية فليس
عليه عنه زكاة الفطر ولا التجارة وكذلك إن كان
مغصوبا مجحودا أو مأسورا لأن ملكه في حكم
التاوي ويده مقصورة عنه.
قال: وإذا عجز المكاتب وقد كان قبل الكتابة
للتجارة لم يعد إلى مال التجارة لأن بعقد
الكتابة صار فاسخا لنية التجارة فيه فإنه
أخرجه من أن يكون محلا لتصرفاته فلا يصير
للتجارة بعد ذلك إلا بفعل هو تجارة وعليه زكاة
الفطر عنه إذا مر يوم الفطر لأن المملوك في
الأصل للخدمة حتى يجعله للتجارة بخلاف ما إذا
أذن لعبده في التجارة ثم حجر عليه وقد كان
اشتراه للتجارة لأنه ما صار فاسخا لنية
التجارة فيه فإنه بالإذن لم يخرجه من أن يكون
محلا لتصرفاته.
قال: وإذا لم يخرج الرجل صدقة الفطر فعليه
إخراجها وإن طالت المدة إلا على قول الحسن بن
زياد فإنه يقول يسقط بمضي يوم الفطر لأنها
قربة اختصت بأحد يومي العيد فكانت قياس
الأضحية تسقط بمضي أيام النحر.
ولنا: أن هذه صدقة مالية فلا تسقط بعد الوجوب
إلا بالأداء كزكاة المال ولا نقول الأضحية
تسقط بل ينتقل الواجب إلى التصدق بالقيمة لأن
إراقة الدم لا تكون قربة إلا في وقت مخصوص أو
مكان مخصوص فأما التصدق بالمال قربة في كل وقت
ولم يذكر في الكتاب جواز التعجيل في صدقة
الفطر إلا في بعض النسخ فإنه قال لو أدى قبل
يوم الفطر بيوم أو بيومين جاز والصحيح من
المذهب عندنا أن تعجيله جائز لسنة ولسنتين لأن
السبب متقرر وهو الرأس فهو نظير تعجيل الزكاة
بعد كمال النصاب وعلى قول الحسن بن زياد لا
يجوز تعجيله أصلا كالأضحية وكان خلف بن أيوب
يقول يجوز تعجيله بعد دخول شهر رمضان لا قبله
لأنه صدقة الفطر ولا فطر قبل الشروع في الصوم
وكان نوح بن أبي مريم يقول يجوز تعجيله في
النصف الأخير من رمضان ومنهم من قال في العشر
الأواخر منه.
قال: ويجوز أن يدفع صدقة الفطر إلى أهل الذمة
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز وعن
أبي يوسف رحمه الله تعالى ثلاث روايات.
في رواية قال: كل صدقة مذكورة في القرآن لا
يجوز دفعها إلى أهل الذمة فعلى هذه الرواية
يجوز دفع صدقة الفطر إليهم.
وفي رواية قال: كل صدقة واجبة بإيجاب الشرع
ابتداء من غير سبب من العبد لا يجوز
ج / 3 ص -103-
دفعها
إلى أهل الذمة فعلى هذا لا يجوز دفع صدقة
الفطر إليهم ويجوز دفع الكفارات والنذور
إليهم.
وفي رواية قال: كل صدقة هي واجبة لا يجوز
دفعها إليهم فعلى هذا لا يجوز دفع الكفارات
وإنما يجوز دفع التطوعات.
والشافعي رحمه الله تعالى يقيس هذا بزكاة
المال بعلة أنها صدقة واجبة فإن الصدقة
المالية صلة واجبة للمحاويج المناسبين له في
الملة فلا يملك صرفها إلى غيرهم والمقصود منه
أن يتقوى به على الطاعة ويتفرغ عن السؤال
لإقامة صلاة العيد ولا يحصل هذا المقصود
بالصرف إلى أهل الذمة كما لا يحصل بالصرف إلى
المستأمنين فكما لا يجوز صرفها إليهم فكذلك
إلى أهل الذمة.
ولنا: أن المقصود سد خلة المحتاج ودفع حاجته
بفعل هو قربة من المؤدي وهذا المقصود حاصل
بالصرف إلى أهل الذمة فإن التصدق عليهم قربة
بدليل التطوعات لأنا لم ننه عن المبرة لمن لا
يقاتلنا قال الله تعالى:
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ}[الممتحنة:
8] بخلاف المستأمن فإنه مقاتل وقد نهينا عن
المبرة مع من يقاتلنا قال الله تعالى:
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي
الدِّينِ}[الممتحنة:
9].والقياس أن يجوز صرف الزكاة إليهم إنما
تركنا القياس فيه بالنص وهو قوله صلى الله
عليه وسلم لمعاذ:
"خذها من
أغنيائهم وردها في فقرائهم", والمراد به
الزكاة لا صدقة الفطر والكفارات إذ ليس للساعي
فيها ولاية الأخذ فبقي على أصل القياس.
قال: وفقراء المسلمين أحب إلي لأنه أبعد عن
الخلاف ولأنهم يتقوون بها على الطاعة وعبادة
الرحمن والذمي يتقوى بها على عبادة الشيطان.
قال: وإذا كان للرجل دار وخادم ولا مال له غير
ذلك فليس عليه صدقة الفطر لأنه يحل له أخذ
الصدقة ولأنه محتاج فإن الدار تسترم والخادم
يستنفق ولا بد له منهما فهما يزيدان في حاجته
ولا يغنيانه وقد بينا أن الصدقة لا تجب إلا
على الغني لأن وجوبها للإغناء كما قال أغنوهم
ولا يخاطب بالإغناء من ليس بغني في نفسه.
قال: وإذا أذن الرجل لعبده في التجارة فتعلقت
رقبته بالدين ومولاه موسر فعليه صدقة الفطر
لأنه يمونه بولايته عليه وبسبب الدين تستحق
ماليته ومالية من يؤدى عنه صدقة الفطر غير
معتبرة للوجوب كما في ولده وأم ولده وبسبب
الإذن في التجارة لم يخرج من أن يكون للخدمة
لأن شغله بنوع من خدمته وهذا بخلاف ما إذا كان
الدين المستغرق على المولى فإنه لا يلزمه صدقة
الفطر لأن الدين عليه ينفي غناه ولا صدقة إلا
على الغني.
قال: فإن اشترى العبد المأذون له عبيدا فليس
على المولى عنهم صدقة الفطر لأنه إنما اشتراهم
للتجارة وفي الأمالي عن أبي يوسف رحمه الله
تعالى إن كان اشتراهم
ج / 3 ص -104-
للخدمة
فإن أذن له المولى في ذلك فإن لم يكن على
المأذون دين فعلى المولى صدقة الفطر عنهم لأنه
مالك لرقابهم وإن كان على العبد دين مستغرق
لكسبه ورقبته فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى لا تجب على المولى صدقة الفطر عنهم بناء
على أصله أنه لا يملك رقابهم وعلى قول أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجب على المولى
صدقة الفطر عنهم بناء على أصلهما أن دين العبد
لا يمنع ملك المولى في كسبه كما لا يمنع ملكه
في رقبته.
قال: وزكاة الفطر في العبد الموصى بخدمته على
مالك الرقبة وارثا كان أو موصى له لأنه تقرر
السبب في حقه فأما الموصى له بالخدمة فحقه في
المنفعة لا في الرقبة وكذلك العبد المستعار
والمؤاجر تجب الصدقة على المالك دون المستعير
والمستأجر وكذلك عبد الوديعة تجب الصدقة عنه
على المودع فإن يد المودع كيده وكذلك إن كان
في عنقه جناية عمدا أو خطأ لأن ملكه وولايته
لا يزول بهذا السبب وكذلك العبد المرهون تجب
الصدقة عنه على الراهن إذا كان عنده وفاء
بالدين وفضل مائتي درهم لأن الرهن لا يزيل ملك
الرقبة ولا يوجب فيها حقا للمرتهن إنما حق
المرتهن في المالية وذلك غير معتبر لإيجاب
الصدقة وفي الاملاء عن أبي يوسف رحمه الله
تعالى ليس على الراهن أن يؤدي الصدقة عنه حتى
يفكه فإذا فكه أعطاها لما مضى وإن هلك قبل أن
يفكه فلا صدقة عنه على الراهن وجعله كالبيع
بشرط الخيار.
بقي الكلام في بيان القدر الواجب من الصدقة
وذلك من البر نصف صاع في قول علمائنا وعلى قول
الشافعي رحمه الله تعالى صاع واستدل بحديث بن
عمر رضي الله عنه فإنه ذكر فيه صاعا من بر أو
صاعا من تمر أو صاعا من شعير والتقدير بنصف
صاع شيء أحدثه معاوية برأيه على ما قاله أبو
سعيد الخدري رضي الله عنه كنا نخرج زكاة الفطر
صاعا من طعام حتى قدم معاوية من الشام فقال لا
أرى إلا مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من
طعامكم هذا وأكثر ما في الباب أن الآثار فيه
قد اختلفت والأخذ بالاحتياط في باب العبادات
واجب والاحتياط في إتمام الصاع وقاسه بالشعير
والتمر لعلة أنه أحد الأنواع التي تتأدى به
صدقة الفطر.
ولنا: حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير كما
روينا في أول الباب وفي حديث آخر قال صلى الله
عليه وسلم:
"وعن كل
اثنين صاعا من بر". فالذي روى
الصاع كأنه سمع آخر الحديث لا أوله وهو قوله:
"وعن كل اثنين" والتقدير
من البر بنصف صاع مذهب أبي بكر وعمر وعلي
وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين حتى
قال أبو الحسن الكرخي إنه لم ينقل عن أحد منهم
أنه لا يجوز أداء نصف صاع من بر وبهذا يندفع
دعواه أنه رأى معاوية ونقيسه على كفارة الأذى
لعلة أنها وظيفة المسكين ليوم وفي كفارة الأذى
نص فإن كعب بن عجرة سأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: ما الصدقة؟ فقال: "ثلاثة آصع
على ستة مساكين".
وليس البر
نظير
ج / 3 ص -105-
التمر
والشعير فإن التمر والشعير يشتمل على ما ليس
بمأكول وهو النوى والنخالة وعلى ما هو مأكول
فأما البر مأكول كله فإن الفقير يمكنه أكل
دقيق الحنطة بنخالته بخلاف الشعير.
وقد بينا تفسير الصاع فيما تقدم وإنما يعتبر
نصف صاع من بر وزنا هكذا رواه أبو يوسف عن أبي
حنيفة رحمهما الله تعالى وقال بن رستم عن محمد
رحمهما الله تعالى كيلا حتى قال قلت له لو وزن
الرجل منوين من الحنطة وأعطاها الفقير هل تجوز
من صدقته فقال لا فقد تكون الحنطة ثقيلة الوزن
وقد تكون خفيفة فإنما يعتبر نصف الصاع كيلا.
وجه قوله: أن الآثار جاءت بالتقدير بالصاع وهو
اسم للمكيال ووجه الرواية الأخرى أن العلماء
حين اختلفوا في مقدار الصاع أنه ثمانية أرطال
أو خمسة أرطال وثلث فقد اتفقوا على التقدير
بما يعدل بالوزن فإنما يقع عليه كيل الرطل فهو
وزنه.
قال: ودقيق الحنطة كالحنطة ودقيق الشعير كعينه
عندنا وعند الشافعي لا يجوز الأداء من الدقيق
بناء على أصله أن في الصدقات يعتبر عين
المنصوص عليه.
ولنا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
"أدوا قبل خروجكم زكاة فطركم فإن على كل مسلم مدين من قمح أو دقيقه". ولأن
المقصود سد خلة المحتاج وإغناؤه عن السؤال كما
قال صاحب الشرع وحصول هذا بأداء الدقيق أظهر
لأنه أعجل لوصول منفعته إليه وعلى هذا روي عن
أبي يوسف رحمه الله تعالى قال أداء الدقيق
أفضل من أداء الحنطة وأداء الدرهم أفضل من
أداء الدقيق لأنه أعجل لمنفعته وأما من الزبيب
يتقدر الواجب بنصف صاع عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى ذكره في الجامع الصغير وعلى قول
أبي يوسف ومحمد يتقدر بصاع وهو رواية أسد بن
عمرو والحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
ووجهه أن الزبيب نظير التمر فإنهما يتقاربان
في المقصود والقيمة فكما يتقدر من التمر بصاع
فكذلك من الزبيب وقد روي في بعض الآثار أو
صاعا من زبيب.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الزبيب
نظير البر فإنه مأكول فكما يتقدر من البر بنصف
صاع لهذا المعنى فكذلك من الزبيب والأثر فيه
شاذ وبمثله لا يثبت التقدير فيما تعم به
البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته لأنه
لو كان صحيحا لاشتهر لعلمهم به وإن أراد
الأداء من سائر الحبوب أعطى باعتبار القيمة
وقد بينا جواز أداء القيمة عندنا وهذا لأنه
ليس في سائر الحبوب نص على التقدير فالتقدير
بالرأي لا يكون وكذا من الأقط يؤدى باعتبار
القيمة عندنا وقال مالك رضي الله عنه يتقدر من
الأقط بصاع وقال الشافعي رحمه الله تعالى في
كتابه لا أحب له الأداء من الأقط وإن أدى فلم
يتبين لي وجوب الإعادة عليه وهذا الحديث روي
أو صاعا من أقط وبه أخذ مالك رحمه الله تعالى
وقال الأقط كان قوتا لأهل البادية في ذلك
الوقت كما أن الشعير والتمر كانا قوتا في أهل
البلاد.
وأصحابنا قالوا: الحديث شاذ لم ينقل في الآثار
المشهورة وبمثله لا يجوز إثبات
ج / 3 ص -106-
التقدير فيما تعم به البلوى فيبقى الاعتبار
بالقيمة فإن كانت قيمته قيمة نصف صاع من بر أو
صاع من شعير جاز وإلا فلا والحاصل أن فيما هو
منصوص لا تعتبر القيمة حتى لو أدى نصف صاع من
تمر تبلغ قيمته قيمة نصف صاع من بر لا يجوز
لأن في اعتبار القيمة هنا إبطال التقدير
المنصوص في المؤدى وذلك لا يجوز فأما ما ليس
بمنصوص عليه فإنه ملحق بالمنصوص باعتبار
القيمة إذ ليس فيه إبطال التقدير المنصوص
وسويق الحنطة كدقيقها لأن التقدير منه نصف صاع
لما بينا في الدقيق والله تعالى أعلم بالصواب.
باب الاعتكاف
الاعتكاف قربة مشروعة بالكتاب والسنة أما الكتاب
فقوله تعالى:
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ
فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة: 187] فالإضافة إلى المساجد المختصة بالقرب وترك الوطء
المباح لأجله دليل على أنه قربة والسنة حديث
أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من
رمضان منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله
تعالى وقال الزهري عجبا من الناس كيف تركوا
الاعتكاف ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يفعل الشيء ويتركه وما ترك الاعتكاف حتى قبض
وفي الاعتكاف تفريغ القلب عن أمور الدنيا
وتسليم النفس إلى بارئها والتحصن بحصن حصين
وملازمة بيت الله تعالى.
قال عطاء: مثل المعتكف
كمثل رجل له حاجة إلى عظيم فيجلس على بابه
ويقول لا أبرح حتى تقضي حاجتي والمعتكف يجلس
في بيت الله تعالى ويقول لا أبرح حتى يغفر لي
فهو أشرف الأعمال إذا كان عن إخلاص ثم جوازه
يختص بمساجد الجماعات.
وروى الحسن عن أبي حنيفة
رحمهما الله تعالى قال كل مسجد له إمام ومؤذن
معلوم وتصلى فيه الصلوات الخمس بالجماعة فإنه
يعتكف فيه وكان سعيد بن المسيب يقول لا اعتكاف
إلا في مسجدين مسجد المدينة والمسجد الحرام
ومن العلماء من قال لا اعتكاف إلا في ثلاثة
مساجد وضموا إلى هذين المسجدين المسجد الأقصى
لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا
والمسجد الحرام ومسجد إيليا", يعني مسجد بيت المقدس والدليل على الجواز في سائر المساجد قوله
تعالى:
{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة:
187] فعم المساجد في الذكر.
واختلفت الروايات عن بن
مسعود وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما فروى
أن حذيفة قال لابن مسعود عجبا من قوم عكوف بين
دارك ودار أبي موسى وأنت لا تمنعهم فقال بن
مسعود ربما حفظوا ونسيت وأصابوا وأخطأت كل
مسجد جماعة يعتكف فيه. وروي أن بن مسعود مر
بقوم معتكفين فقال لحذيفة وهل يكون الاعتكاف
إلا في المسجد الحرام فقال حذيفة رضي الله عنه
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"كل مسجد له إمام ومؤذن فإنه يعتكف فيه",وفي الكتاب ذكر عن حذيفة قال: لا اعتكاف إلا في مسجد
ج / 3 ص -107-
جماعة
هذا بيان حكم الجواز فأما الأفضل فالاعتكاف في
المسجد الحرام أفضل منه في سائر المساجد
وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه
كان يكره الجوار بمكة ويقول إنها ليست بدار
هجرة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر
منها إلى المدينة وعلى قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله: لا بأس بذلك وهو أفضل وعليه عمل
الناس اليوم.
ثم الاعتكاف غير واجب بإيجاب الشرع ابتداء إلا
أن يوجبه العبد بنذره فيلزمه لحديث عمر رضي
الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: إني نذرت أن أعتكف يوما في
الجاهلية أو قال ليلة أو قال يومين فقال: "أوف
بنذرك". ومن شرط الاعتكاف الواجب الصوم عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس بشرط
ومذهبنا مروي عن بن عباس وعائشة رضي الله
عنهما أنهما
قالا لا اعتكاف إلا بصوم ومذهبه مروي عن بن
مسعود وعن علي فيه روايتان إحدى الروايتين مثل
قولنا والثاني ما روي عنه قال ليس على المعتكف
صوم إلا أن يوجب ذلك على نفسه فالشافعي رحمه
الله تعالى استدل بهذا وبحديث عمر رضي الله
عنه في سؤاله أني نذرت أن أعتكف ليلة في
الجاهلية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالوفاء بالنذر والليل لا يصام فيه ولأن
ابتداء الاعتكاف من وقت غروب الشمس في حق من
نذر أن يعتكف شهرا وما يكون شرط العبادة شرط
اقترانه بأوله كالطهارة للصلاة وكذلك الاعتكاف
بدوام الليل والنهار ولا صوم بالليل فتبين
بهذا أنه ليس شرط الاعتكاف ولا هو ركنه لأن
الصوم أحد أركان الدين والاعتكاف نفل زائد فلا
يكون الأقوى ركنا للأضعف بل هو زائد في معنى
القربة على ما يتم به الاعتكاف فيلزمه التنصيص
عليه كالتتابع في الصوم والقرآن في الحجر.
ولنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما اعتكف
إلا صائما والأفعال المتفقة في الأوقات
المختلفة لا تجري على نمط واحد إلا لداع يدعو
إليه وليس ذلك إلا بيان أنه من شرائط الاعتكاف
والمعنى فيه أنه لو قال لله علي أن أعتكف
صائما يلزمه الجمع بينهما وبقوله صائما ولا
يصح أن يجعل نصبا على المصدر كما يقال ضربته
وجيعا أي ضربا وجيعا فإنه حينئذ يصير كأنه قال
اعتكف اعتكافا صائما والصوم لا يكون صفة
للاعتكاف فالاعتكاف لبث في مقام لتعظيم ذلك
المقام والصوم كف النفس عن اقتضاء الشهوات
إتعابا للبدن فكيف يكون صفة للاعتكاف فعرفنا
أنه نصب على الحال كما يقال دخل الدار راكبا
والحال خلو عن الإيجاب لأنه صفة الموجب لا
الواجب ومع ذلك يلزمه الجمع بينهما فعرفنا أنه
إنما لزمه لأنه شرط الاعتكاف كمن يقول أصلي
طاهرا وشرط الشيء يتبعه فيثبت بثبوته سواء ذكر
أو لم يذكر بخلاف قوله أصوم متتابعا فإنه نصب
على المصدر لأن التتابع صفة الصوم وبخلاف قوله
أصلي قائما فإنه ينصب قائما على المصدر يقال
صلاة قائمة وبخلاف قوله أحج قارنا فإن العمرة
بالانضمام إلى الحج يزداد فيها معنى القربة
ولهذا لزمه دم القران وهو دم نسك وعن كلامه
جوابان:
ج / 3 ص -108-
أحدهما: أن الصوم شرط الاعتكاف والشرائط إنما تثبت بحسب الإمكان ولا يمكن
اشتراط الصوم ليلا فسقط للتعذر وجعل الليل
تبعا للأيام كما أن الشرب والطريق يجعل تبعا
في بيع الأرض.
والثاني: أن شرط الاعتكاف أن
يكون مؤدى في وقت الصوم وبوجود الصوم في
النهار يتصف جميع الشهر بأنه وقت الصوم ودليله
شهر رمضان فصار الشرط به موجودا كما أن من شرط
الصلاة أن يقوم إليها طاهرا وذلك يحصل في جميع
البدن بغسل الأعضاء الأربعة وحديث عمر رضي
الله عنه دليلنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال له:
"اعتكف وصم",
وبلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أن
الصحيح من الرواية إني نذرت أن أعتكف يوما.
فأما التطوع من الاعتكاف في رواية الحسن عن
أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لا يكون إلا بصوم
ولا يكون أقل من يوم فجعل الصوم للاعتكاف
كالطهارة للصلاة وفي ظاهر الرواية يجوز التنفل
بالاعتكاف من غير صوم فإنه قال في الكتاب إذا
دخل المسجد بنية الاعتكاف فهو معتكف ما أقام
تارك له إذا خرج وهذا لأن مبنى النفل على
المساهلة والمسامحة حتى تجوز صلاة النفل قاعدا
مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة على
النزول والواجب لا يجوز تركه.
قال: ولا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا
لجمعة أو غائط أو بول أما الخروج للبول
والغائط فلحديث عائشة رضي الله عنها قالت كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج من
معتكفه إلا لحاجة الإنسان ولأن هذه الحاجة
معلوم وقوعها في زمان الاعتكاف ولا يمكن
قضاؤها في المسجد فالخروج لأجلها صار مستثنى
بطريق العادة وكان مالك رحمه الله تعالى يقول
إذا خرج لحاجة الإنسان لا ينبغي أن يدخل تحت
سقف فإن آواه سقف غير سقف المسجد فسد اعتكافه
وهذا ليس بشيء فإن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يدخل حجرته إذا خرج لحاجة وإذا خرج للحاجة
لم يمكث في منزله بعد الفراغ من الطهر لأن
الثابت للضرورة يتقدر بقدرها وأما إذا خرج
للجمعة فلا يفسد اعتكافه عندنا وقال الشافعي
رحمه الله تعالى يفسد اعتكافه فإن كان اعتكافه
دون سبعة أيام اعتكف في أي مسجد شاء وإن كان
سبعة أيام أو أكثر اعتكف في المسجد الجامع قال
لأن ركن الاعتكاف هو المقام والخروج ضده فيكون
مفسدا له إلا بقدر ما تحققت الضرورة فيه ولا
ضرورة في الخروج للجمعة لأنه يمكنه أن يعتكف
في الجامع فلا يحتاج إلى هذا الخروج فهو
والخروج لعيادة المريض وتشييع الجنائز سواء.
ولنا: أن الخروج للجمعة معلوم وقوعه في زمان
الاعتكاف فصار مستثنى من نذره كالخروج للحاجة
والخروج لعيادة المريض ليس بمعلوم وقوعه في
زمان الاعتكاف لا محالة وهذا لأن الناذر يقصد
التزام القربة لا المعصية والتخلف عن الجمعة
معصية فيعلم يقينا أنه
ج / 3 ص -109-
لم
يقصده بنذره فإذا اعتكف في الجامع كان خروجه
أكثر لأنه يحتاج في الخروج لحاجة الإنسان إلى
الرجوع إلى بيته وإذا كان بيته بعيدا عن
الجامع يزداد خروجه إذا اعتكف في الجامع على
ما إذا اعتكف في مسجد حيه.
فإذا أراد الخروج للجمعة قال في الكتاب يخرج
حين تزول الشمس فيصلي قبلها أربعا وبعدها
أربعا أو ستا قالوا هذا إذا كان معتكفه قريبا
من الجامع بحيث لو انتظر زوال الشمس لا تفوته
الخطبة ولا الجمعة فإذا كان بحيث تفوته لم
ينتظر زوال الشمس ولكنه يخرج في وقت يمكنه أن
يأتي الجامع فيصلي أربع ركعات قبل الأذان عند
المنبر وفي رواية الحسن ست ركعات ركعتان تحية
المسجد وأربع سنة وكذلك بعد الجمعة يمكث مقدار
ما يصلي أربع ركعات أو ستا بحسب اختلافهم في
سنة الجمعة ولا يمكث أكثر من ذلك لأن الخروج
للحاجة والسنن تبع للفرائض ولا حاجة بعد
الفراغ من السنة فإن مكث أكثر من ذلك لم يضره
ذكره بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى قال
ألا ترى أنه لو بدا له أن يتم اعتكافه في
الجامع جاز وهذا لأن المفسد للاعتكاف الخروج
من المسجد لا المكث في المسجد إلا أنه لا
يستحب له ذلك لأنه التزم أداء الاعتكاف في
مسجد واحد فلا ينبغي له أن يتمه في مسجدين.
قال: ولا يعود المعتكف مريضا ولا يشهد جنازة
إلا على قول الحسن البصري فإنه يروي حديثا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"يعود المعتكف المريض ويشهد الجنازة".
ولنا: حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان في اعتكافه إذا خرج
لحاجة الإنسان يمر بالمريض فيسأل عنه ولا يعرج
عليه ولأن هذا لم يكن معلوما وقوعه في مدة
اعتكافه فالخروج لأجله لم يكن مستثنى كالخروج
لتلقي الحاج وتشييعهم وما كان من أكل أو شرب
فإنه يكون في معتكفه إذ لا ضرورة في الخروج
لأجله فإن هذه الحاجة يمكن قضاؤها في معتكفه.
قال: وإذا مرض المعتكف في اعتكاف واجب فإن
أفطر يوما استقبل الاعتكاف لأن من شرط
الاعتكاف الصوم وقد فات والعبادة لا تبقى بدون
شرطها كما لا تبقى بدون ركنها.
قال: وإذا خرج من المسجد يوما أو أكثر من نصف
يوم فكذلك الجواب لأن ركن الاعتكاف قد فات
فأما إذا خرج ساعة من المسجد فعلى قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى يفسد اعتكافه وعند أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يفسد ما لم
يخرج أكثر من نصف يوم وقول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى أقيس وقولهما أوسع قالا اليسير من
الخروج عفو لدفع الحاجة فإنه إذا خرج لحاجة
الإنسان لا يؤمر بأن يسرع المشي وله أن يمشي
على التؤدة فظهر أن القليل من الخروج عفو
والكثير ليس بعفو فجعلنا الحد الفاصل أكثر من
نصف يوم فإن الأقل تابع للأكثر فإذا كان في
أكثر اليوم في المسجد جعل كأنه في
ج / 3 ص -110-
جميع
اليوم في المسجد كما قلنا في نية الصوم في
رمضان إذا وجدت في أكثر اليوم جعل كوجودها في
جميع اليوم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول
ركن الاعتكاف هو المقام في المسجد والخروج ضده
فيكون مفوتا ركن العبادة والقليل والكثير في
هذا سواء كالأكل في الصوم والحدث في الطهارة.
قال: ولا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها وقال
الشافعي رحمه الله تعالى لا اعتكاف إلا في
مسجد جماعة الرجال والنساء فيه سواء قال لأن
مسجد البيت ليس له حكم المسجد بدليل جواز بيعه
والنوم فيه للجنب والحائض وهذا لأن المقصود
تعظيم البقعة فيختص ببقعة معظمة شرعا وذلك لا
يوجد في مساجد البيوت.
ولنا: أن موضع أداء الاعتكاف في حقها الموضع
الذي تكون صلاتها فيه أفضل كما في حق الرجال
وصلاتها في مسجد بيتها أفضل فإن النبي صلى
الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل صلاة المرأة
فقال:
"في أشد
مكان من بيتها ظلمة". وفي الحديث
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد
الاعتكاف أمر بقبة فضربت في المسجد فلما دخل
المسجد رأى قبابا مضروبة فقال:
"لمن هذه؟" فقيل لعائشة وحفصة فغضب وقال:
"آلبر يردن بهن؟"
وفي رواية:
"يردن بهذا", وأمر بقبته فنقضت فلم يعتكف في ذلك العشر فإذا كره لهن الاعتكاف في
المسجد مع أنهن كن يخرجن إلى الجماعة في ذلك
الوقت فلأن يمنعن في زماننا أولى.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنها إذا اعتكفت في مسجد الجماعة جاز ذلك
واعتكافها في مسجد بيتها أفضل وهذا هو الصحيح
لأن مسجد الجماعة يدخله كل أحد وهي طول النهار
لا تقدر أن تكون مستترة ويخاف عليها الفتنة من
الفسقة فالمنع لهذا وهو ليس لمعنى راجع إلى
عين الاعتكاف فلا يمنع جواز الاعتكاف وإذا
اعتكفت في مسجد بيتها فتلك البقعة في حقها
كمسجد الجماعة في حق الرجل لا تخرج منها إلا
لحاجة الإنسان فإذا حاضت خرجت ولا يلزمها به
الاستقبال إذا كان اعتكافها شهرا أو أكثر
ولكنها تصل قضاء أيام الحيض لحين طهرها وقد
بينا هذا في الصوم المتتابع في حقها ومسجد
بيتها الموضع الذي تصلى فيه الصلوات الخمس من
بيتها.
قال: وإذا قال الرجل لله علي أن اعتكف شهرا
فعليه اعتكاف شهر متتابع في قول علمائنا وقال
زفر رحمه الله تعالى: هو بالخيار إن شاء تابع
وإن شاء فرق قال لأن الاعتكاف فرع عن الصوم
فإن ما لا أصل له في الفرائض لا يصح التزامه
بالنذر ولا أصل للاعتكاف في الفرائض سوى الصوم
ثم التتابع في الصوم لا يجب بمطلق النذر فكذلك
في الاعتكاف والدليل على التسوية أن تعيين
الوقت إليه ولا يتعين لأدائه الشهر الذي يعقب
نذره فيهما بخلاف الأيمان والآجال والإجارات
فإنه يتعين لها الشهر الذي يعقب السبب.
ولنا : أن الاعتكاف يدوم بالليل والنهار جميعا
فبمطلق ذكر الشهر فيه يكون متتابعا,
ج / 3 ص -111-
كاليمين إذا حلف لا يكلم فلانا شهرا والآجال
والإجارات بخلاف الصوم فإنه لا يدوم بالليل
والنهار وتأثيره أن ما كان متفرقا في نفسه لا
يجب الوصل فيه إلا بالتنصيص وما كان متصل
الأجزاء لا يجوز تفريقه إلا بالتنصيص ثم
الاعتكاف من حيث الابتداء يشبه الصوم فإن
أداءه يستدعي فعلا من جهته وكل وقت لا يصلح له
كاليوم الذي أكل فيه بخلاف الأيمان فإن موجب
اليمين لا يستدعي فعلا من جهته وكل وقت يصلح
له فيتعين له الوقت الذي يعقب السبب ومن حيث
الدوام لاعتكاف يشبه الأيمان والآجال دون
الصوم فصار الحاصل أن الأيمان والآجال
والإجارات عامة في الوقت ابتداء ودواما والصوم
خاص بالوقت ابتداء ودواما والاعتكاف خاص
بالوقت ابتداء عام بالوقت دواما فمن حيث
الابتداء ألحقناه بالصوم فكان تعيين الوقت
إليه ومن حيث الدوام ألحقناه بالآجال والأيمان
فكان متتابعا وكذلك لو قال في نذره ثلاثين
يوما فهذا وقوله شهرا سواء لأن ذكر أحد
العددين من الأيام والليالي بعبارة الجمع
يقتضي دخول ما بإزائه من العدد الآخر قال الله
تعالى:
{َثَلاثَ
لَيَالٍ سَوِيّاً}[مريم:
10] وفي تلك القصة قال في موضع آخر:
{ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً}[آل عمران: 41]فقوله ثلاثين يوما أي بلياليها فكان متتابعا.
قال: وإذا قال لله علي اعتكاف شهر بالنهار فهو
كما قال إن شاء تابع وإن شاء فرق لأن وجوب
التتابع لاتصال بعض الأجزاء بالبعض وقد انقطع
ذلك بتنصيصه على النهار دون الليالي وإن لم
يقل بالنهار ونواه فنيته باطلة لأن الشهر اسم
لقطعة من الزمان من حين يهل الهلال إلى أن يهل
الهلال فليس في لفظه الشهر ولا الليالي فإنما
نوى تخصيص ما ليس في لفظه وذلك باطل كمن قال
لا آكل ونوى مأكولا دون مأكول ولأن هذا
استثناء لبعض الوقت الذي سماه والاستثناء
بالنية لا يحصل كما لو قال شهرا ونوى نصف شهر
بخلاف ما لو قال ثلاثين يوما ونوى النهار دون
الليل لأن هنا إنما نوى حقيقة كلامه فإن اليوم
في الحقيقة هو بياض النهار فلهذا أعملنا نيته
أو لأنه نوى تخصيص ما في لفظه.
قال: وإن قال لله علي اعتكاف شهر كذا فمضى ولم
يعتكفه فعليه قضاؤه لأن إضافة النذر بالاعتكاف
إلى زمان بعينه كإضافة النذر بالصوم إليه
فيلزمه أداؤه وإذا فوت الأداء فعليه قضاؤه
وهذا في شهر سوى رمضان مجمع عليه.
فأما إذا قال لله علي اعتكاف شهر رمضان فمضى
ولم يعتكف فإن كان لم يصم في الشهر لمرض أو
سفر قضى اعتكافه بقضاء صوم الشهر وإن كان صام
الشهر فعليه اعتكاف شهر بصوم وعند زفر والحسن
بن زياد رحمهما الله تعالى لا شيء عليه وهو
إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى
ووجهه أن اعتكافه تعلق بصوم رمضان فإذا صام
رمضان ولم يعتكف بقي الاعتكاف بغير صوم
والاعتكاف الواجب لا يكون إلا بصوم.
وجه ظاهر الرواية: أن نذره قد صح وتعلق
بالزمان الذي عينه فإذا لم يعتكف فيه انقطع
ج / 3 ص -112-
هذا
التعيين وصار دينا في الذمة فكأنه قال لله علي
اعتكاف شهر والتزام الاعتكاف يكون التزاما
لشرطه وهو الصوم ولهذا قلنا لو اعتكف في رمضان
القابل قضاء عما التزمه لا يجوز وعليه كفارة
اليمين إن كان أراد يمينا لوجود شرط حنثه وإن
اعتكف ذلك الشهر الذي سماه إلا أنه أفطر منه
يوما قضى ذلك اليوم لأن الشهر المتعين متجاور
الأيام لا متتابع فصفة التتابع في الاعتكاف لا
تثبت إلا إذا أضافه إلى شهر بعينه.
قال: وإذا نذرت المرأة اعتكاف شهر فحاضت فيه
فعليها أن تقضي أيام حيضها وتصلها بالشهر فإن
لم تصلها به فعليها أن تستقبله لأن هذا القدر
من التتابع في وسعها وما سقط عنها معلوم بأنه
ليس في وسعها ولهذا قلنا لو نذرت اعتكاف عشرة
أيام فحاضت فيها فعليها الاستقبال.
قال: وإذا اعتكف الرجل من غير أن يوجبه على
نفسه فهو معتكف ما أقام في المسجد وإن قطعه
فلا شيء عليه لأنه لبث في مكان مخصوص فلا يكون
مقدرا باليوم كالوقوف بعرفة وهذا لأن المقصود
تعظيم البقعة وذلك يحصل ببعض اليوم وقد ينافي
هذا رواية الحسن.
قال: وإذا اعتكف في مسجد فانهدم فهذا عذر
ويخرج منه إلى مسجد آخر لأن المسجد المهدوم لا
يمكن المقام فيه ولأنه خرج من أن يكون معتكفا
فالمعتكف مسجد تصلى فيه الصلوات الخمس
بالجماعة ولا يتأتى ذلك في المسجد المهدوم
فكان عذرا في التحول إلى مسجد آخر.
قال: ولا بأس بأن يشتري المعتكف ويبيع في
المسجد ويتحدث بما بداله بعد أن لا يكون مأثما
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث مع
الناس في اعتكافه وصوم الصمت ليس بقربة في
شريعتنا والبيع والشراء من جنس الكلام المباح
فلا بأس به للمعتكف
قالوا وهذا إذا لم يحضر السلعة إلى المسجد
فأما إحضار السلعة إلى المسجد للبيع والشراء
في المسجد مكروه فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "جنبوا مساجدكم"
إلى قوله:
"وبيعكم
وشراءكم". ولأن بقعة المسجد تحررت عن حقوق العناد وصارت خالصة لله تعالى
فيكره شغلها بالبيع والتجارة بخلاف ما إذا لم
يحضر السلعة فقد انعدم هناك شغل البقعة.
قال: وإذا أخرجه السلطان من المسجد مكرها في
اعتكاف واجب فإن دخل مسجدا آخر كما تخلص
استحسنا أن يكون على اعتكافه وفي القياس عليه
الاستقبال وكذلك لو أخذه غريم فحبسه وقد خرج
لغائط أو بول من أصحابنا من قال هذا القياس
والاستحسان على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
والأصح أن عند أبي حنيفة يلزمه الاستقبال وهذا
الاستحسان والقياس على قولهما فيما إذا كان
خروجه أكثر من نصف يوم وجه القياس أن ركن
الاعتكاف وهو اللبث قد فات فيستوي فيه المكره
والطائع كما إذا فات ركن الصوم
ج / 3 ص -113-
بالإكراه على الأكل. وجه الاستحسان أنه معذور
فيما صنع فإنه لا يمكنه مقاومة السلطان ولا
دفع الغريم عن نفسه إلا بإيصال حقه إليه فلم
يصر بهذا تاركا تعظيم البقعة ولم يذكر القياس
والاستحسان فيما إذا انهدم المسجد فقال بعض
مشايخنا الجواب فيهما سواء والأصح أن هناك لا
يفسد اعتكافه قياسا واستحسانا لأن العذر كان
ممن له الحق إذ لا صنع للعباد في انهدام
المسجد وهنا العذر كان من جهة العباد فلهذا
كان القياس فيه أن يستقبل.
قال: وإذا أوجب على نفسه الاعتكاف يوما دخل
المسجد قبل طلوع الفجر فأقام فيه إلى أن تغرب
الشمس لأنه التزم الاعتكاف في جميع اليوم
واليوم اسم للوقت من طلوع الفجر إلى غروب
الشمس بدليل الصوم.
وقال: وإن أوجب على نفسه اعتكاف شهر دخل
المسجد قبل غروب الشمس لما بينا أن الشهر اسم
لقطعة من الزمان وذلك يشتمل على الأيام
والليالي ومتى دخل في اعتكافه الليل مع النهار
فابتداؤه يكون من الليل لأن الأصل أن كل ليلة
تتبع اليوم الذي بعدها ألا ترى أنه يصلى
التراويح في أول ليلة من رمضان ولا يفعل ذلك
في أول ليلة من شوال واليوم الذي بعد ليلته
زمان الاعتكاف فكذلك الليلة وعن أبي يوسف رحمه
الله تعالى قال في شهر بعينه كذلك يدخل في
المسجد قبل غروب الشمس فأما في شهر بغير عينه
فالخيار إليه إن شاء دخل المسجد قبل طلوع
الفجر وإن شاء قبل غروب الشمس وهو أفضل.
قال: وإن أوجب اعتكاف يومين دخل المسجد قبل
غروب الشمس فأقام فيه ليلة ويومها والليلة
الأخرى ويومها إلى أن تغرب الشمس وكذلك هذا في
الأيام الكثيرة أما إذا ذكر ثلاثة أيام أو
أكثر فالجواب في قولهم جميعا إن ذكر أحد
العددين بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بإزائه من
العدد الآخر فأما إذا ذكر يومين فقد روي عن
أبي يوسف أنه يلزمه اعتكاف يومين بليلة
تتخللهما فإنما يدخل المسجد قبل طلوع الفجر
قال لأن التثنية غير الجمع فهذا والمذكور بلفظ
الفرد سواء إلا أن الليلة المتوسطة تدخل
بضرورة اتصال بعض الأجزاء بالبعض وهذه الضرورة
لا توجد في الليلة الأولى.
وجه ظاهر الرواية: أن في المثنى معنى الجمع
قال صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما
جماعة فكان هذا والمذكور بلفظ الجمع سواء ألا
ترى أنه لو قال ليلتين صح نذره بخلاف ما إذا
قال ليلة واحدة.
قال: وإذا جامع المعتكف امرأته في الفرج فسد
اعتكافه سواء جامعها ليلا أو نهارا ناسيا كان
أو عامدا أنزل أو لم ينزل لقوله تعالى:
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة: 187] فصار الجماع بهذا النص محظور الاعتكاف فيكون مفسدا له
بكل حال كالجماع في الإحرام لما كان محظورا
كان مفسدا للإحرام وقد ذكر بن سماعة في روايته
عن بعض أصحابنا أنه إذا كان ناسيا لا يفسد
اعتكافه قال الاعتكاف فرع عن الصوم والفرع
ج / 3 ص -114-
يلحق
بالأصل في حكمه فإن باشرها فيما دون الفرج فإن
أنزل فسد اعتكافه وإن لم ينزل لم يفسد اعتكافه
وقد أساء فيما صنع وللشافعي رحمه الله تعالى
ثلاثة أقاويل قول مثل قولنا وقوله الآخر أنه
لا يفسد اعتكافه وإن أنزل كما لا يفسد الإحرام
بالمباشرة فيما دون الفرج وإن أنزل فإنهما
متقاربان على معنى أن كل واحد منهما يدوم
بالليل والنهار والقول الثالث أنه يفسد
اعتكافه وإن لم ينزل لظاهر الآية فإن اسم
المباشرة يتناول الجماع فيما دون الفرج كما
يتناول الجماع في الفرج فصار ذلك محظور
الاعتكاف بالنص.
وجه قولنا: أن المباشرة فيما دون الفرج إذا
اتصل به الإنزال مفسد للصوم والاعتكاف فرع
عليه وهو في معنى الجماع في الفرج فيما هو
المقصود فيفسد اعتكافه فأما إذا لم يتصل به
الإنزال فهو ليس في معنى الجماع في الفرج ولا
ملحق به حكما في إفساد العبادة ألا ترى أنه لا
يفسد به الصوم فكذلك الاعتكاف وهذا كله إذا لم
يخرج من المسجد فإن خرج لهذا الفعل فسد
اعتكافه بالخروج في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى على ما بينا.
قال: فإذا أوجب على نفسه اعتكافا ثم مات قبل
أن يقضيه أطعم عنه لكل يوم نصف صاع من حنطة
وهذا إذا أوصى لأن الاعتكاف فرع عن الصوم وقد
بينا في الصوم حكم الفدية فكذلك في الاعتكاف.
فإن قيل الفدية عن الصوم غير معقول ولا هو
ثابت بطريق القياس فكيف قستم الاعتكاف عليه
والعجب أن في الصلاة قلتم مثل هذا ولا مدخل
للقياس فيه؟.
قلنا: أما في الاعتكاف فالجواب عن هذا السؤال
سهل لأن صحة النذر بالاعتكاف باعتبار الصوم
فإن ما لا أصل له في الفرائض لا يصح التزامه
بالنذر فكان التنصيص على الفدية في الصوم
تنصيصا عليه في الاعتكاف وأما في الصلاة فلم
يطلق الجواب في شيء من الكتب على الفدية مكان
الصلاة ولكن قال في موضع من الزيادات يجزيه
ذلك إن شاء الله تعالى فبتقييده بالاستثناء
بيان أنه لا يثبت الجواب فيه إذ لا مدخل
للقياس فيه.
قال: وإن كان مريضا حين نذر الاعتكاف فلم يبرأ
حتى مات فلا شيء عليه لأنه ليس للمريض ذمة
صحيحة في وجوب أداء الصوم والاعتكاف بناء عليه
ألا ترى أنه لا يلزمه أداء صوم رمضان بشهوده
الشهر فكذلك لا يلزمه الأداء بالنذر والفدية
تنبني على وجوب الأداء وإن صح يوما ثم مات
أطعم عنه عن جميع الشهر في قول أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله تعالى وفي قول محمد رحمه
الله تعالى يطعم عنه بعدد ما صح من الأيام
وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا لما صح فقد صارت له
ذمة صحيحة في التزام الأداء فيجعل كالمجدد
للنذر في هذا الوقت.والصحيح لو نذر اعتكاف شهر
ثم مات بعد يوم أطعم عنه لجميع الشهر إن أوصى
يجبر الوارث عليه من الثلث وإن لم يوص لم يجبر
الوارث عليه ولكنه إن أحب فعل فكذلك هذا.
ج / 3 ص -115-
قال:
وإن نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء وروي عن أبي
يوسف أنه إن نوى ليلة بيومها يلزمه وليس
بينهما اختلاف في الحقيقة ولكن جواب محمد رحمه
الله تعالى فيما إذا لم تكن له نية فاسم الليل
خاص بزمان لا يقبل الصوم وشرط الاعتكاف الواجب
الصوم فإذا نوى ليلة بيومها عملت نيته اعتبارا
للفرد بالجمع فصار شرط الاعتكاف وهو الصوم
بنيته موجودا فصح نذره.
قال: ولو أصبح في يوم ثم قال لله علي أن أعتكف
هذا اليوم فإن كان قد أكل فيه أو كان بعد
الزوال لم يلزمه شيء لأنه أضاف النذر
بالاعتكاف إلى وقت لا يقبل الصوم في حقه وإن
كان قبل الزوال ولم يكن أكل شيئا فعلى قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لا يصح نذره وعلى قول
أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يصح نذره
وهو بناء على ما تقدم بيانه أن القليل من
الخروج يفسد الاعتكاف عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وعندهما الخروج فيما دون نصف اليوم لا
يفسد الاعتكاف وما هو الشرط وهو الصوم يصح منه
في هذا اليوم.
قال: وإن نذر اعتكاف وقت ماض وهو يعلم أو لا
يعلم فلا شيء عليه لأن ما يوجبه على نفسه
معتبر بما أوجب الله تعالى ولم يتعبد الله
بشيء من العبادات في الزمان الماضي وصحة
الأداء باعتبار إمكان الأداء وذلك لا يتحقق في
الزمن الماضي.
قال: وإن أحرم المعتكف بحج أو عمرة لزمه
الإحرام لأنه لا منافاة بين الاعتكاف والإحرام
ثم يتم اعتكافه ويشرع فيه وأداء المناسك يحتمل
التأخير عن الإحرام فإذا فرغ منه مضى في
إحرامه إلا أن يخاف فوت الحج فحينئذ يدع
الاعتكاف ويحج لأن ما يخاف فوته يكون أهم
فيبدأ به ثم يستقبل الاعتكاف لأنه قد لزمه
بالنذر متتابعا فإذا انقطع التتابع لخروجه كان
عليه أن يستقبله.
وقال: وإن أوجب على نفسه اعتكافا ثم ارتد
والعياذ بالله ثم أسلم سقط عنه الاعتكاف
اعتبارا لما التزمه بما أوجب الله تعالى وشيء
من العبادات التي كانت واجبة عليه لحق لله
تعالى خالصا لا يبقى بعد الردة لأنه بالردة
خرج من أن يكون أهلا للعبادة فإن الأهلية
للعبادة بكونه أهلا لثوابها والمرتد ليس بأهل
لثواب العبادة ولأنه بالردة التحق بكافر أصلي
فإن الردة تحبط عمله والكافر الأصلي إذا أسلم
لم يكن عليه اعتكاف ما لم يلتزمه بنذره بعد
الاسلام فهذا مثله.
قال: وإذا نذر المملوك اعتكافا صح نذره لأن له
ذمة صحيحة في التزام الأداء إلا أن لمولاه أن
يمنعه منه لأن منافعه مستحقة للمولى إلا ما
صار مستثنى شرعا وذلك مقدار ما تتأدى به
الفرائض فلا يدخل فيه ما يلتزمه من الاعتكاف
باختياره فكان للمولى منعه فإذا اعتق قضاه
وكذلك الزوج له أن يمنع امرأته من الاعتكاف
الذي التزمته بنذرها لأن منافعها مستحقة للزوج
بعقد النكاح. وأما المكاتب فليس لمولاه منعه
لأنه صار أحق بنفسه ومنافعه.
ج / 3 ص -116-
والذي
بينا في النذر كذلك في الشروع فإن كان بإذن
المولى والزوج فليس للزوج منع زوجته من
الإتمام وللمولى منع عبده وإن كان لا يستحب له
ذلك لأن الزوج بالإذن ملكها منافعها وهي من
أهل الملك والمولى بالإذن ما ملك العبد منافعه
لأنه ليس من أهل الملك ولكنه وعد فالوفاء له
وخلف الوعد مذموم فلا يستحب له منعه فإن فعل
لم يكن عليه شيء غير أنه قد أساء وأثم وهو
قياس لإحرام فإن المرأة إذا أحرمت بإذن زوجها
لم يكن للزوج أن يحللها والعبد إذا أحرم بإذن
مولاه كان للمولى أن يحلله وإن كره له ذلك.
قال: وإذا أكل المعتكف نهارا ناسيا لم يضره
الأكل لأن حرمة الأكل لأجل الصوم لا لأجل
الاعتكاف حتى اختص بوقت الصوم والأكل ناسيا لا
يفسد الصوم بخلاف ما إذا جامع ناسيا فحرمة
الجماع لأجل الاعتكاف حتى يعم الليل والنهار
جميعا وقد بينا أن ما كانت حرمته لأجل
الاعتكاف يستوي فيه الناسي والعامد بالقياس
على الإحرام ومعنى الفرق أنه متى اقترن بحاله
ما يذكره لا يبتلى فيه بالنسيان عادة فيعذر
لأجله ففي الإحرام هيئة المحرمين مذكرة له وفي
الاعتكاف كونه في المسجد مذكرا له فأما في
الصوم لم يقترن بحاله ما يذكره لأنه غير ممنوع
عن التصرف في الطعام في حالة الصوم ألا ترى أن
في الأكل في الصلاة سوى بين النسيان والعمد
لأنه ليس من جنس أركان الصلاة.
قال: وإذا أغمي على المعتكف أياما أو أصابه
لمم فعليه إذا بريء أن يستقبل الاعتكاف لأن ما
هو شرط الأداء وهو الصوم قد انعدم بتطاول
الإغماء فعليه الاستقبال فإن صار معتوها ثم
أفاق بعد سنين ففي القياس ليس عليه قضاء
الاعتكاف كما لا يلزمه قضاء الفرائض لسقوط
الخطاب عنه بالعته وفي الاستحسان عليه القضاء
لأن سبب الالتزام تقرر قبل العته فكان بمنزلة
الفرائض التي لزمته بتقرر السبب قبل العته
وهذا لأنه بالعته لم يخرج من أن يكون أهلا
للعبادة فإنه أهل لثوابها فبقيت ذمته صالحة
للوجوب فيها فيما تقرر سببه.
قال: ويلبس المعتكف وينام ويأكل ويدهن ويتطيب
بما شاء فإن النبي كان يفعل ذلك كله في
اعتكافه.
قال: ولا يفسد الاعتكاف سباب ولا جدال فإن
حرمة هذه الأشياء ليس لأجل الاعتكاف ألا ترى
أنه كان محرما قبل الاعتكاف ولا يفوت به ركن
الاعتكاف وهو اللبث ولا شرطه وهو الصوم وكذلك
إن سكر ليلا لما بينا أن حرمة السكر ليست لأجل
الاعتكاف فلا يكون مؤثرا فيه.
قال: وصعود المعتكف على المئذنة لا يفسد
اعتكافه أما إذا كان باب المئذنة في المسجد
فهو والصعود على سطح المسجد سواء وإن كان
بابها خارج المسجد فكذلك من أصحابنا من يقول
هذا قولهما فأما عند أبي حنيفة رضي الله عنه
فينبني أن يفسد اعتكافه للخروج من المسجد من
غير ضرورة والأصح أنه قولهم جميعا واستحسن أبو
حنيفة هذا
ج / 3 ص -117-
لأنه
من جملة حاجته فإن مسجده إنما كان معتكفا
لإقامة الصلاة فيه بالجماعة وذلك إنما يتأتى
بالأذان وهو بهذا الخروج غير معرض عن تعظيم
البقعة أصلا بل هو ساع فيما يزيد في تعظيم
البقعة فلهذا لا يفسد اعتكافه.
قال: ولا بأس بأن يخرج رأسه من المسجد إلى بعض
أهله ليغسله لما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم في اعتكافه كان يخرج رأسه إلى عائشة
فكانت تغسله وترجله ولأنه بإخراج رأسه لا يصير
خارجا من المسجد فإن من حلف لا يخرج من هذه
الدار فأخرج رأسه منها لم يحنث وإن غسل رأسه
في المسجد في إناء فلا بأس بذلك إذ ليس فيه
تلويث المسجد.
وذكر حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا أراد أن يعتكف أصبح في المكان الذي
يريد أن يعتكف فيه ففي هذه دليل على أن من
أراد اعتكاف يوم أو نذر ذلك ينبغي أن يدخل
المسجد قبل طلوع الفجر وقد بينا هذا.
قال: وإن نذر اعتكاف يوم العيد قضاه في وقت
آخر وكفر عن يمينه إن كان أراد يمينا وإن
اعتكف فيه أجزأه وقد أساء وهذا عندنا اعتبارا
للاعتكاف بالصوم وقد بينا هذه الأحكام في
النذر بصوم يوم العيد فكذلك الاعتكاف وذكر
محمد رحمه الله في الأصل حديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
اعتكف في العشر الأوسط من رمضان فأتاه جبرائيل
عليه السلام فقال: إن ما تطلبت وراءك فقال
عليه السلام:
"من كان معتكفا
معنا فليعد إلى معتكفه وإني أراني أسجد في ماء
وطين". فقال أبو سعيد فمطرنا وكان عريش المسجد من جريد فوكف فوالذي بعثه
بالحق لقد صلى بنا المغرب ليلة الحادي
والعشرين وإني أرى جبهته وأرنبة أنفه في الماء
والطين وإنما أورد هذا الحديث لبيان ليلة
القدر وفيه اختلاف بين الصحابة والعلماء
بعدهم.
فأما أبو سعيد الخدري رضي الله عنه كان مذهبه
أن ليلة القدر الحادي والعشرون لهذا الحديث
ولم يأخذ به علماؤنا لما صح في الحديث أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من فاته ثلاث ليال فقد فاته خير كثير ليلة التاسع عشر والحادي
والعشرين وآخرها ليلة", فقيل
سوى ليلة القدر يا رسول الله؟ فقال:
"سوى ليلة
القدر". وليس في حديث أبي سعيد كبير حجة فإنه لم يقل أراني أسجد في ماء
وطين في ليلة القدر وكان علي بن أبي طالب رضي
الله عنه يقول إنها ليلة الخامس والعشرين فإنه
صح في الحديث أن نزول القرآن كان لأربع وعشرين
مضين من رمضان.
وقال الله تعالى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ}[القدر:1] والهاء كناية عن القرآن باتفاق المفسرين فإذا جمعت بين
الآية والحديث تبين أنها ليلة الخامس والعشرين
وأكثر الصحابة على أنها ليلة السابع والعشرين
فقد ذكر عاصم عن ذر بن حبيش قال قلت لأبي بن
كعب يا أبا المنذر أخبرني عن ليلة القدر فإن
بن مسعود كان يقول من يقم الحول يدركها فقال:
ج / 3 ص -118-
يرحم
الله أبا عبد الرحمن قد كان يعلم أنها ليلة
السابع والعشرين ولكنه أراد حث الناس على
الجهد في جميع الحول قلت بم عرفت ذلك قال
بالعلامة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم فاعتبرناها فوجدناها قلت وما تلك
العلامة قال تطلع الشمس من صبيحتها كأنها طست
لا شعاع لها
وكان بن عباس رضي الله عنه يقول إنها ليلة
السابع والعشرين فقيل له ومن أين تقول ذلك قال
لأن سورة القدر ثلاثون كلمة وقوله هي الكلمة
السابعة والعشرون وفيها إشارة إلى ليلة القدر
وذكر الفقيه أبو جعفر أن المذهب عند أبي حنيفة
رضي الله عنه أنها تكون في شهر رمضان ولكنها
تتقدم وتتأخر وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى تكون في شهر رمضان لا تتقدم ولا
تتأخر.
وفائدة الاختلاف: أن من قال لعبده أنت حر ليلة
القدر فإن قال ذلك قبل دخول شهر رمضان عتق إذا
انسلخ الشهر وإن قال ذلك بعد مضي ليلة من
الشهر لم يعتق حتى ينسلخ شهر رمضان من العام
القابل في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
لجواز أنها كانت في الشهر الماضي في الليلة
الأولى وفي الشهر الآتي في الليلة الأخيرة
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
إذا مضت ليلة من الشهر في العام القابل فجاء
مثل الوقت الذي حلف فيه عتق لأن عندهما لا
تتقدم ولا تتأخر بل هي في ليلة من الشهر في كل
وقت فإذا جاء مثل ذلك الوقت فقد تيقنا بمجيء
الوقت المضاف إليه العتق بعد يمينه فلهذا عتق
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. |