المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 3 ص -119-
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب نوادر
الصوم
قال: الشيخ الإمام شمس الأئمة أبو بكر محمد بن
أبي سهل السرخسي إملاء اعلم بأن موجب النذر
الوفاء قال الله تعالى:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}[النحل: 91] والناذر معاهد لله تعالى بنذره فعليه الوفاء بذلك وقد
ذم الله تعالى قوما تركوا الوفاء بالنذر فقال
تعالى:
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}[التوبة: 75] وإنما يذم المرء بترك الواجب ومدح قوما بالوفاء بالنذر
فقال تعالى:
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ}[الانسان:
7] الآية. ثم النذر إنما يصح بما يكون قربة
مقصودة فأما ما ليس بقربة مقصودة فإنه لا يصح
التزامه بالنذر لقوله صلى الله عليه وسلم:
"من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".
ولأن الناذر لا يجعل ما
ليس بعبادة عبادة وإنما يجعل العبادة المشروعة
نفلا واجبا بنذره وما فيه معنى القربة ولكن
ليس بعبادة مقصودة بنفسها كتشييع الجنازة
وعيادة المريض لا يصح التزامه بالنذر إلا في
رواية الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي
حنيفة رحمهم الله قال إن نذر أن يعود مريضا
اليوم صح نذره وإن نذر أن يعود فلانا لا يلزمه
شيء لأن عيادة المريض قربة شرعا قال صلى الله
عليه وسلم:
"عائد المريض يمشي على محارف الجنة حتى يرجع" وعيادة فلان بعينه لا يكون معنى القربة فيها مقصودا للناذر بل معنى
مراعاة حق فلان فلا يصح التزامه بالنذر.
وفي ظاهر الرواية: قال عيادة المريض وتشييع
الجنازة وإن كان فيه معنى حق الله تعالى
فالمقصود حق المريض والميت والناذر إنما يلتزم
بنذره ما يكون مشروعا حقا لله تعالى مقصودا
إذا عرفنا هذا فنقول النذر إما أن يكون
بالصدقة أو بالصوم أو الصلاة أو الاعتكاف
فنبدأ بالنذر بالصدقة فنقول إما أن يعين الوقت
بنذره فيقول لله علي أن أتصدق بدرهم غدا أو
يعين المكان فيقول في مكان كذا أو يعين
المتصدق عليه فيقول على فلان المسكين أو يعين
الدرهم فيقول لله علي أن أتصدق بهذا الدرهم
وفي الوجوه كلها يلزمه التصدق بالمنذور عندنا
ويلغو اعتبار ذلك التقييد حتى لو تصدق به قبل
مجيء ذلك الوقت أو في غير ذلك المكان أو على
غير ذلك المسكين أو بدرهم غير الذي عينه خرج
عن موجب نذره.
وعلى قول زفر: لا يخرج عن موجب نذره إلا
بالأداء كما التزمه, قال: لأن في ألفاظ
ج / 3 ص -120-
العباد
يعتبر اللفظ ولا يعتبر المعنى ألا ترى أن من
قال لغيره طلق امرأتي للسنة فطلقها لغير السنة
لم يقع ولو أمره أن يتصدق بدرهم على فلان
الفقير فتصدق على غيره كان مخالفا وهذا لأن
أوامر العباد قد تكون خالية عن فائدة حميدة
فلا يمكن اعتبار المعنى فيها وإنما يعتبر
اللفظ فلا يحصل الوفاء إلا بالتصدق على الوجه
الذي التزمه وعلماؤنا رحمهم الله قالوا ما
يوجبه المرء على نفسه معتبر بما أوجب الله
تعالى عليه ألا ترى أن ما لله تعالى من جنسه
واجبا على عباده صح التزامه بالنذر وما ليس
لله تعالى من جنسه واجبا على عباده لا يصح
التزامه بالنذر؟.
ثم ما أوجب الله تعالى من التصدق بالمال مضافا
إلى وقت يجوز تعجيله قبل ذلك الوقت كالزكاة
بعد كمال النصاب قبل حولان الحول وصدقة الفطر
قبل مجيء يوم الفطر فكذلك ما يوجبه العبد على
نفسه وهذا لأن صحة النذر باعتبار معنى القربة
وذلك في التزام الصدقة لا في تعيين المكان
والزمان والمسكين والدرهم وإنما يعتبر من
التعيين ما يكون مفيدا فيما هو المقصود لا ما
ليس بمفيد.
ومعنى العبادة في التصدق باعتبار سد خلة
المحتاج إذ أخرج المتصدق ما يجري فيه الشح
والضنة عن ملكه ابتغاء مرضاة الله تعالى وهذا
المعنى حاصل بدون مراعاة تعيين المكان والزمان
وبهذا يتبين الجواب عما اعتمد عليه من اعتبار
اللفظ فإن صحة النذر لم تكن باعتبار اللفظ بل
باعتبار معنى القربة كما بينا وبه فارق الوصية
فإن صحة الوصية لم يكن باعتبار معنى القربة
فلهذا اعتبرنا تعيين المصروف إليه فصار فلان
موصى له بما سمى فإذا دفعه إلى غيره كان
مخالفا أمر الموصي وهذا بخلاف ما إذا قال إذا
قدم فلان فلله علي أن أتصدق بدرهم فتصدق به
قبل قدوم فلان لم يجزه وكذلك لو قال إذا جاء
غد لأن هناك علق النذر بالشرط والمعلق بالشرط
معدوم قبل وجود الشرط وإنما يجوز الأداء بعد
وجود السبب والسبب هو النذر فإذا علقه بالشرط
كان معدوما قبله.
وهنا أضاف النذر إلى وقت والإضافة إلى وقت لا
يخرجه من أن يكون سببا في الحال فيجوز التعجيل
بمنزلة أداء الزكاة قبل كمال الحول وعلى قول
الشافعي رضي الله عنه يجوز التعجيل قبل قدوم
فلان بناء على مذهبه في جواز التكفير بالمال
بعد اليمين قبل الحنث وقد بينا المسألة في
كتاب الأيمان.
وأما النذر بالعبادات البدنية فإما أن يضيفه
إلى مكان أو زمان أما إذا أضافه إلى زمان بأن
قال لله علي أن أصوم رجب فصام شهرا قبله أجزأه
عن المنذور في قول أبي يوسف وهو رواية الحسن
بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وفي
قول محمد وزفر لا يجزئه وكذلك لو قال لله علي
أن أعتكف رجب فاعتكف شهرا قبله أو قال لله علي
أن أصلي ركعتين غدا فصلى اليوم فهو على هذا
الخلاف.
وجه قول محمد وزفر رحمهما الله: أن ما يوجبه
العبد على نفسه معتبر بما أوجب الله
ج / 3 ص -121-
تعالى
عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصوم في
وقت بعينه لا يجوز تعجيله على ذلك الوقت كصوم
رمضان وكذلك ما أوجب الله تعالى عليه من
الصلاة في وقت بعينه كصلاة الظهر لا يجوز
تعجيلها قبل الزوال فكذلك ما يوجبه على نفسه
وبه فارق الصدقة ولأن بالنذر بالصوم جعل ما هو
المشروع في الوقت نفلا واجبا بنذره ولهذا لا
يصح إضافة النذر بالصوم إلى الليل لأن الصوم
غير مشروع فيه نفلا والمشروع من الصوم في وقت
غير المشروع في وقت آخر ونذره تعلق بالصوم
المشروع في الوقت المضاف إليه حتى يتأدى فيه
بمطلق النية وبالنية قبل الزوال ولو لم يتعين
صوم ذلك الوقت بنذره لما تأدى إلا بالنية من
الليل كما لو أطلق النذر بالصوم.
وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله
تعالى أن الناذر يلتزم بنذره الصوم دون الوقت
لأن معنى القربة في الصوم باعتبار أنه عمل
بخلاف هوى النفس وإنما يلزم بالنذر ما هو قربة
وتعيين الوقت غير مفيد في هذا المعنى فلا يكون
معتبرا كما في الصدقة ولا يقال الصوم في بعض
الأوقات قد يكون أعظم في الثواب كما ورد به
الأثر في صوم الأيام البيض وفي صوم بعض الشهور
والأيام لأن بالإجماع النذر لا يتقيد بالفضيلة
التي في الوقت المضاف إليه حتى لو نذر أن يصوم
يوم عرفة أو يوم عاشوراء فصام بعد مضي ذلك
اليوم يوما دونه في الفضيلة فإنه يخرج عن موجب
نذره وهذا بخلاف صوم رمضان وصلاة الظهر لأن
الشرع جعل شهود الشهر سببا لوجوب الصوم.
قال الله تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185]. ومثل هذا لبيان السبب كما قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "من بدل دينه
فاقتلوه ومن ملك ذا رحم محرم فهو حر"
وكذلك الشرع جعل زوال الشمس سببا لوجوب صلاة
الظهر قال الله تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}[الاسراء: 78]. فإذا أدى قبل ذلك الوقت كان مؤديا قبل وجود سبب
الوجوب فلهذا لا يجوز أما هنا الناذر لم يجعل
الوقت بنذره سببا للوجوب لأنه ليس للعباد
ولاية نصب الأسباب فيكون السبب متقررا قبل
مجيء الوقت المضاف إليه وإن كان وجوب الأداء
متأخرا فلهذا جاز التعجيل وهو نظير المسافر في
شهر رمضان إذا صام كان مؤديا للفرض وإن كان
وجوب الأداء متأخرا في حقه إلى عدة من أيام
أخر والحرف الثاني أنه أدى العبادة بعد وجود
سبب وجوبها قبل وجوبها فيجوز كما لو كفر بعد
الجرح قبل زهوق الروح في قتل المسلم أو في قتل
الصيد.
وبيان الوصف أن هذه عبادة تضاف إلى النذر لا
إلى الوقت يقال صوم النذر والواجبات تضاف إلى
أسبابها والإضافة إلى وقت لا يمنع كونه نذرا
في الحال بدليل أن التعجيل في النذر بالصدقة
يجوز بالاتفاق وما لم يوجد السبب لا يجوز
الأداء هناك كما لو علق النذر بالشرط وبعد
وجود السبب يجوز التعجيل ماليا كان أو بدنيا
كما في كفارة
ج / 3 ص -122-
القتل
وكما لو صام المسافر في شهر رمضان يجوز لوجود
السبب وهو شهود الشهر.
فإذا ثبت هنا أن السبب وهو النذر متقرر قلنا
يجوز تعجيل الأداء وفي جواز التعجيل هنا منفعة
للناذر فربما لا يقدر على الأداء في الوقت
المضاف إليه لمرض أو غيره وربما تخترمه المنية
قبل مجيء ذلك الوقت إلا أنه بالإضافة إلى ذلك
الوقت قصد التخفيف على نفسه حتى لو مات قبل
مجيء ذلك الوقت لا يلزمه شيء فأعطيناه مقصوده
واعتبرنا تعيينه في هذا الحكم وجوزنا التعجيل
لتوفير المنفعة عليه كما في الصدقة إذا عين
الدراهم فهلكت تلك الدراهم لم يلزمه شيء ولو
تصدق بمثلها وأمسكها خرج عن موجب نذره.
وإذا ثبت اعتبار التعيين من هذا الوجه قلنا
يجوز الأداء بمطلق النية وبالنية قبل الزوال
لأن تعيينه معتبر فيما يرجع إلى النظر له وفي
التأدي بمطلق النية قبل الزوال معنى النظر له
فاعتبرنا تعيينه في هذا الحكم.
وأما إذا عين المكان بأن قال: لله علي أن أصوم
شهرا بمكة أو أعتكف فصام أو اعتكف في غير ذلك
المكان خرج عن موجب نذره عندنا وقال زفر لا
يخرج عن موجب نذره وكذلك لو قال لله علي أن
أصلي ركعتين بمكة فصلاهما هنا أجزأه عندنا
خلافا لزفر والأصل عنده أنه لا يخرج عن موجب
نذره إلا بالأداء في المكان الذي عينه أو في
مكان هو أعلى من المكان الذي عينه.
وأفضل البقاع لأداء الصلاة فيها المسجد الحرام
ثم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمدينة ثم مسجد بيت المقدس على ما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "قال صلاة في مسجد بيت المقدس تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد سوى
المسجد الحرام ومسجدي هذا وصلاة في مسجدي هذا
تعدل ألف صلاة في مسجد بيت المقدس وصلاة في
المسجد الحرام تعدل ألف صلاة في مسجدي هذا".
فإذا نذر أن يصلي في المسجد الحرام ركعتين لا
يجوز أداؤهما إلا في ذلك الموضع عنده وإن نذر
أن يصلي ركعتين في مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا يجوز أداؤهما إلا في مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أو في المسجد الحرام
وإذا نذر الصلاة في مسجد بيت المقدس لا يجوز
أداؤها إلا في أحد هذه المساجد الثلاثة ولا
يجوز أداؤها في غير هذه المساجد في سائر
البلاد. وإذا نذر الصلاة في المسجد الجامع لا
يجوز أداؤها في مسجد المحلة وإذا نذر الصلاة
في مسجد المحلة يجوز أداؤها في المسجد الجامع
ولا يجوز أداؤها في بيته واعتمد في ذلك ما روي
أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: إني نذرت إن فتح الله
عليك مكة أن أصلي ركعتين في البيت فأخذ رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأدخلها الحطيم
وقال:
"صلي ها هنا فإن الحطيم من البيت", الحديث فهذا دليل اعتبار تعيينه المكان في النذر بالصلاة.
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: إني نذرت أن أصلي ركعتين في مسجد بيت
ج / 3 ص -123-
المقدس
فقال: "من صلى في مسجدي هذا فكأنما صلى في بيت المقدس", فهو دليل على جواز الأداء في مكان هو أعلى من المكان الذي عينه.
ولأن المذهب عند أهل السنة والجماعة أن لبعض
الأمكنة فضيلة على البعض وكذلك لبعض الأزمنة
فإذا عين لنذره مكانا ثم أدى في مكان دون ذلك
المكان في الفضيلة فإنما يقيم الناقص مقام
الكامل مع قدرته على الأداء بصفة الكمال كما
التزمه فلا يجوز وإن أدى في مكان هو أفضل من
المكان الذي عينه فقد أدى أتم مما التزمه
فيجزيه ذلك ألا ترى أنه لو نذر أن يصوم يوما
فصام بالنية قبل الزوال لا يخرج عن موجب نذره
لأن المؤدى أنقص مما التزمه وهذا بخلاف ما إذا
أضاف النذر إلى وقت فاضل فمضى ذلك الوقت لأن
هناك قد تحقق العجز عن الأداء بالصفة التي
التزمه ولهذا لم يجوز زفر التعجيل على ذلك
الوقت لأن العجز لا يتحقق قبل مجيء ذلك الوقت.
وحجتنا في ذلك أن صحة النذر باعتبار معنى
القربة وذلك في الصلاة لا في المكان لأن
الصلاة تعظيم لله تعالى بجميع البدن وفي هذا
المعنى الأمكنة كلها سواء وإن كان الأداء في
بعض الأمكنة أفضل فذلك لا يدل على أن الواجب
لا يتأدى بدون ذلك كما في أداء المكتوبات ولا
شك أن أداء الصلاة بالجماعة في المسجد أفضل
وقد أمر شرعا بالأداء بهذه الصفة ومع ذلك إذا
أداها في بيته وحده سقط عنه الواجب.
ولما بين النبي صلى الله عليه وسلم ثواب
المتطوع بالصلاة في هذه المساجد قال:
"وأفضل ذلك كله صلاة الرجل في بيته في جوف الليل الآخر". ثم عنده لو التزم صلاة في بعض هذه البقاع فصلاها في بيته لم يجز
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
أفضل صلاة المرأة فقال:
"في أشد مكان من بيتها ظلمة", فعلى هذا ينبغي أنها إذا التزمت الصلاة في المسجد الحرام فصلت في
أشد مكان من بيتها ظلمة أن تخرج عن موجب نذرها
وعند زفر رحمه الله تعالى لا تخرج والذي يوضح
ما قلنا أن الناذر إنما يلتزم بنذره ما هو من
فعله لا ما ليس من فعله والمكان ليس من فعله
فيكون هو بالنذر ملتزما للصلاة دون المكان وفي
أي موضع صلى فقد أدى ما التزمه فيخرج عن موجب
نذره وإن كان الأداء في الموضع الذي عينه
أفضل.
قال: وإن قال لله علي أن أصوم شهرا متتابعا
فأفطر يوما في الشهر استقبل الشهر من أوله لأن
ما يوجبه على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى
عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصوم
متتابعا إذا أفطر فيه يوما لزمه الاستقبال
كصوم الظهار والقتل فكذلك ما يوجبه على نفسه
بخلاف ما إذا أطلق النذر بالصوم فإن ما أوجب
الله تعالى عليه من الصوم مطلقا وهو قضاء
رمضان إذا أفطر فيه يوما لا يلزمه الاستقبال
فكذلك ما يوجبه على نفسه.
قال: ولو قال: لله علي أن أصوم رجب متتابعا
فأفطر فيه يوما فعليه قضاء ذلك اليوم وحده لأن
ما يوجبه على نفسه من الصوم في وقت بعينه
معتبر بما أوجب الله عليه من الصوم
ج / 3 ص -124-
في وقت
بعينه وهو صوم رمضان وهذا لأن ذكر التتابع في
شهر بعينه غير معتبر لأن المعين لا يعرف إلا
بصفته وإنما ذكر الصفة لتعريف ما ليس بمعين
فيعتبر ذلك عند إطلاق لفظ الشهر ولا يعتبر عند
التعيين ولأن أيام الشهر المعين تكون متجاورة
لا متتابعة فذكر التتابع في الشهر المعين
وجوده كعدمه.
وكذلك لو قال: لله علي أن أصوم شهرا وهو يعني
رجب بعينه لأن المنوي من محتملات لفظه فيجعل
كالمصرح به وفي الكتاب أشار إلى فرق آخر فقال
في الشهر المعين إذا أفطر يوما فقد عجز عن
أداء الصوم على الوجه الذي التزمه لأنه لو
استقبل الصوم لم يكن مؤديا في ذلك الوقت الذي
أوجبه على نفسه وعند إطلاق الشهر بعد ما أفطر
يوما هو قادر على أن يصوم شهرا متتابعا كما
التزمه فلهذا أوجبنا عليه الاستقبال.
قال: وإن أراد بقوله لله علي يمينا كفر عن
يمينه مع قضاء ذلك اليوم في الشهر المعين لأن
المنوي من محتملات لفظه فإن في النذر معنى
اليمين قال صلى الله عليه وسلم:
"النذر يمين
وكفارته كفارة اليمين", وقد حنث
حين أفطر يوما فعليه الكفارة والقضاء لأن ظاهر
كلامه نذر وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله تعالى وأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى
إن أراد به اليمين فعليه الكفارة دون القضاء
وإن أراد النذر أو أرادهما فعليه القضاء دون
الكفارة لأن لفظه للنذر حقيقة ولليمين مجازا
ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد
ولكنا نقول قوله لله علي يمين فإن اللام
والباء يتعاقبان قال الله:
{آمَنْتُمْ بِهِ}[البقرة:
137] وفي موضع آخر قال:
{آمنتم له}[طه:71] فقوله لله بمنزلة قوله بالله. وقال بن عباس رضي الله عنه
دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج
معناه بالله وقوله علي نذر فإنما أثبتنا كل
واحد من الحكمين بلفظ آخر ثم الحالف يلتزم
البر حقا لله تعالى والناذر يلتزم الوفاء حقا
لله تعالى فكان اللفظ محتملا لكل واحد منهما
لا أن يكون حقيقة لأحدهما مجازا للآخر فيكون
بمنزلة اللفظ العام إلا أن عند الاطلاق يحمل
على النذر لغلبة الاستعمال فإذا نوى اليمين مع
ذلك كان اللفظ متناولا لهما بمنزلة اللفظ
العام في كونه متناولا لجميع محتملاته.
قال: ولو قال لله علي صوم يوم فأصبح من الغد
لا ينوي صوما فلم تزل الشمس حتى نوى أن يصومه
عن نذره لم يجزه ذلك بخلاف ما إذا قال لله علي
صوم غد لأن ما يوجبه على نفسه في الوجهين
معتبر بما أوجب الله تعالى عليه من الصوم في
وقت بعينه وهو صوم رمضان يتأدى بالنية قبل
الزوال وما كان في وقت بغير عينه لا يتأدى إلا
بنية من الليل نحو قضاء رمضان فكذلك ما يوجب
على نفسه في الوجهين وهذا لمعنيين:
أحدهما: أن عند تعيين اليوم
إمساكه في أول النهار يتوقف على الصوم المنذور
عند وجود النية فإذا وجدت النية قبل الزوال
استندت إلى أول النهار لتوقف الإمساك عليه
وذلك لا يوجد فيما إذا أطلق النذر.
ج / 3 ص -125-
والثاني: أن في النذر المعين إذا ترك النية من الليل فقد تحقق عجزه عن أدائه
بصفة الكمال كما التزمه فجوزناه بضرب نقصان
بطريق إقامة النية في أكثر النهار مقام النية
في جميع النهار لأجل العجز وذلك لا يوجد فيما
إذا لم يعين الوقت فإنه قادر على أن يصوم يوما
آخر بصفة الكمال كما التزمه
ثم هنا ذكر النية قبل الزوال وفي كتاب الصوم
قبل انتصاف النهار وهو الصحيح لأن الشرط وجود
النية في أكثر وقت الصوم,وذلك لا يوجد إذا نوى
قبل الزوال لأن ساعة الزوال نصف النهار من
طلوع الشمس ووقت الصوم من طلوع الفجر فإنما
يشترط وجود النية في وقت الضحوة على وجه تكون
النية موجودة في أكثر وقت الصوم.
فإذا نوى بالنهار في النذر المطلق لم يجزه عن
المنذور وكان صائما عن التطوع والمستحب له أن
يتمه فإن أفطر فلا قضاء عليه عندنا وقال زفر
رحمه الله تعالى عليه القضاء وأصل المسألة
فيما إذا شرع في الصوم على ظن أنه عليه ثم
تبين أنه ليس عليه وقد بينا ذلك في كتاب الصوم
وإنما شبهنا هذه المسألة بتلك المسألة لأن في
الموضعين جميعا إنما قصد اسقاط الواجب عن نفسه
وما قصد التنفل بالصوم وإنما جعل شارعا في
النفل من غير قصده على سبيل النظر له لكيلا
يضيع سعيه لا على سبيل الإيجاب عليه فإذا أفطر
لم يلزمه القضاء.
قال: ولو قال لله: علي أن أصوم غدا ثم أصبح
فنوى أن يصوم تطوعا فإنه يكون صومه مما أوجبه
على نفسه بخلاف ما إذا أطلق النذر وهذا للأصل
الذي بيناه أن ما أوجب الله في وقت بعينه وهو
صوم رمضان يتأدى بمطلق النية وبنية النفل وما
أوجب الله تعالى عليه من الصوم في وقت بغير
عينه لا يتأدى إلا بتعيين النية فكذلك ما
أوجبه على نفسه وهذا لأن الناذر لا يجعل بنذره
ما ليس بمشروع مشروعا ولكن يجعل ما كان مشروعا
نفلا في الوقت واجبا على نفسه ففي النذر
المعين إنما التزم الصوم المشروع في هذا
الزمان وقد أصابه بمطلق النية وبنية النفل ألا
ترى أنه قبل النذر كان مصيبا له بهذه النية
فكذلك بعد النذر وعند إطلاق النذر الواجب في
ذمته والمشروع في هذا اليوم غير متعين لما هو
الواجب في ذمته فإنما يكون بمطلق النية وبنية
النفل مصيبا للمشروع في هذا الوقت وهو التطوع
فلا يكون محولا عن ذمته ما التزمه فيها إلى
المشروع في هذا الوقت بدون تعيين النية.
قال: ولو قال: لله علي أن أصوم رجب ثم ظاهر من
امرأته فصام شهرين متتابعين أحدهما رجب اجزآه
من الظهار كما نواه وعليه قضاء المنذور بخلاف
ما إذا صام عن ظهاره شهرين أحدهما رمضان وهو
مقيم فإن صومه يكون عن فرض رمضان وأشار إلى
الفرق بينهما في الكتاب فقال لأن صوم الظهار
مثل صوم المنذور من حيث إن كل واحد منهما وجب
بسبب من جهته فعن أيهما نواه كان عن ذلك.
وأما صوم رمضان أقوى من صوم الظهار لأنه واجب
بإيجاب الله تعالى ابتداء وصوم
ج / 3 ص -126-
الظهار
إنما وجب بسبب من جهة العبد والضعيف لا يظهر
في مقابلة القوى فلهذا كان صومه عن فرض رمضان
على كل حال ولكن هذا ليس بقوي فإنه لا مساواة
بين صوم الظهار وصوم المنذور لأن المنذور هو
المشروع في رجب نفسه وصوم الظهار واجب في ذمته
فينبغي أن يترجح المنذور باعتبار السبق لأن
صوم الظهار إنما يتحول من ذمته إلى المشروع في
الوقت بنيته وقد كان النذر سابقا على هذه
النية.
ولأن المشروع في الوقت لما صار واجبا عليه
بنذره لا يبقى صالحا لصوم الظهار لأن ما في
ذمته إنما يتأدى بما كان مشروعا في الوقت له
لا عليه فالفرق الصحيح بينهما أن قبل نذره كان
الصوم المشروع في رجب صالحا لأداء صوم الظهار
فلا يتغير ذلك بنذره لأنه يوجب على نفسه بنذره
ما لم يكن واجبا عليه ولكن لا ينفي صلاحيته
لغيره إذ ليس ذلك تحت ولاية العبد فإذا بقي
بعد نذره صالحا لأداء صوم الظهار به تأدى
بنيته.
وأما صوم رمضان فقد جعله الشرع فرضا عليه ومن
ضرورته أن لا ينفي صالحا لأداء صوم الظهار به
وللشرع هذه الولاية فإذا لم يبق صالحا لأداء
صوم الظهار به تلغو نيته عن الظهار به وانتفاء
الصلاحية من ضرورة وجوب الأداء عن فرض رمضان
حتى أن في حق المسافر لما لم يكن الأداء في
الشهر واجبا عليه فإذا نواه عن الظهار كان عن
الظهار في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ومسئلة النذر بمنزلة المسافر في صوم رمضان ثم
في مسألة النذر إذا كان نوى اليمين لم تلزمه
الكفارة لأن شرط بره أن يكون صائما في رجب لا
أن يكون صومه عن المنذور وقد وجد ذلك وإن صامه
عن الظهار.
قال: والمجنونة والنائمة إذا جامعهما زوجهما
وهما صائمتان في رمضان فعليهما القضاء دون
الكفارة لأن وجوب الكفارة يستدعي جناية
متكاملة فإنها ستارة للذنب ولم يوجد ذلك في
حقهما ووجوب القضاء لانعدام أداء الصوم في
الوقت وقد وجد ذلك في حقهما فإن الصوم لا
يتأدى مع فوات ركنه وقد انعدم ركن الصوم في
حقهما مع قيام العذر وقد بينا خلاف زفر رحمه
الله تعالى في هذه المسألة في كتاب الصوم.
قال هنا: ألا ترى أنهما لو قتلا رجلا خطأ لم
يكن عليهما في ذلك كفارة ولا تحرمان الميراث؟
قال رحمه الله تعالى: وهذا صحيح في حق
المجنونة غلط في حق النائمة فالرواية محفوظة
أن النائم إذا انقلب على مورثه فقتله تلزمه
الكفارة ويحرم الميراث ثم هذا الاستشهاد ضعيف
فإن كفارة القتل لا تستدعي جناية متكاملة
ولهذا تجب على الخاطى ء بخلاف كفارة الفطر.
قال: وإذا خاف الرجل وهو صائم إن هو لم يفطر
تزداد عينه وجعا أو تزداد حماه شدة فينبغي أن
يفطر لأن الله تعالى رخص للمريض في الفطر
بقوله:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:
184] وهذا مريض لأن وجع العين نوع مرض والحمى
ج / 3 ص -127-
كذلك
ثم إن الله تعالى بين المعنى فيه فقال:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185] وفي إيجاب أداء الصوم مع هذا الخوف عسر فينبغي له أن
يأخذ باليسر فيه ويترخص بالفطر قال صلى الله
عليه وسلم:
"إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه".
وقال أبو يوسف رحمه الله
تعالى كل من كان له أن يفطر في يوم فأفطر فيه
بعد ما صام فلا كفارة عليه وهذا قول أصحابنا
جميعا لأن صوم اليوم الواحد لا يتجزأ وجوبا
كما لا يتجزأ أداء فإذا لم يكن الأداء واجبا
في جزء من النهار لا تتكامل الجناية بالفطر
فيه ولأن الكفارة في رمضان تسقط بالشبهة ولهذا
لا تجب على المتسحر الذي لا يعلم بطلوع الفجر.
وعلى المفطر الذي يرى أن الشمس قد غابت ولم
تغب وإباحة الفطر له في جزء من اليوم يكون
شبهة قوية في المحل فإنه ينعدم بها استحقاق
الأداء ولا شبهة أقوى من ذلك والشبهة في المحل
مسقطة للكفارة سواء علم بها أو لم يعلم ألا
ترى أن من وطى ء جارية ابنه لا يلزمه الحد
سواء علم بالحرمة أو لم يعلم لشبهة في المحل
باعتبار أن مال الولد مضاف إلى والده شرعا
وبيان هذا الأصل أنه إذا أصبح مريضا أو مسافرا
في أول النهار ونوى الصوم ثم بريء من مرضه أو
صار مقيما ثم أفطر فلا كفارة عليه لأنه كان له
أن يفطر في أول النهار.
وكذلك لو كان صحيحا مقيما في أول النهار ثم
مرض في آخره فأفطر لأنه لما عجز عن الصوم بسبب
المرض صار الفطر مباحا له ولو سافر في آخر
النهار ثم أفطر لم يكن عليه الكفارة لا لأن
الفطر صار مباحا له فإنه إذا شرع في الصوم وهو
مقيم ثم سافر لا يباح له الفطر ولكن لأن السفر
في الأصل مبيح للفطر فإذا اقترن بالسبب الموجب
للكفارة يكون مورثا شبهة مسقطة للكفارة وإن لم
يصر الفطر مباحا له بمنزلة النكاح الفاسد يكون
مسقطا للحد وإن لم يكن مبيحا للوطء وخرج على
هذا الأصل ما إذا أصبحت المرأة صائمة ثم أفطرت
ثم حاضت أو أصبح الرجل صائما ثم أفطر ثم مرض
وقد بينا هذه المسائل في كتاب الصوم والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب ما يجب فيه القضاء والكفارة وما يجب فيه
القضاء دون الكفارة وما يجوز من الشهادة على
رؤية الهلال وما لا يجوز
قال: رضي الله عنه ومن
ابتلع جوزة رطبة وهو صائم فعليه القضاء ولا
كفارة عليه وإن ابتلع لوزة رطبة أو بطيخة
صغيرة فعليه القضاء والكفارة والأصل في هذا
أنه متى حصل الفطر بما لا يتغذى به أو يتداوى
به عادة فعليه القضاء دون الكفارة لأن وجوب
الكفارة يستدعي كمال الجناية والجناية تتكامل
بتناول ما يتغذى به أو يتداوى به لانعدام
الإمساك صورة ومعنى ولا تتكامل الجناية بتناول
ما لا يتغذى به ولا يتداوى به لأن الإمساك
ينعدم به صورة لا معنى ولأن الكفارة مشروعة
للزجر والطباع السليمة تدعو إلى تناول ما
يتغذى به وما
ج / 3 ص -128-
يتداوى
به لما فيه من إصلاح البدن فتقع الحاجة إلى
شرع الزاجر فيه ولا تدعو الطباع السليمة إلى
تناول ما لا يتغذى به ولا يتداوى به فلا حاجة
لشرع الزاجر فيه.
إذا عرفنا هذا فنقول الجوزة الرطبة لا تؤكل
كما هي عادة واللوزة الرطبة تؤكل كما هي عادة
وهذا إذا ابتلع الجوزة فأما إذا مضغها وهي
رطبة أو يابسة فعليه الكفارة ذكره الحسن عن
أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لأنه تناول لبها
ولب الجوز مما يتغذى به وأكثر ما فيه أنه جمع
بين ما يتغذى به وبين ما لا يتغذى به في
التناول وذلك موجب للكفارة عليه.
وإذا ابتلع أهليلجة فعليه القضاء والكفارة
أراد به الدواء أو لم يرد هكذا ذكره بن سماعة
وهشام عن محمد رحمهم الله تعالى وذكر بن رستم
عن محمد رحمهما الله تعالى أن عليه القضاء دون
الكفارة قال لأنها لا تؤكل كما هي للتداوي
عادة والأصح ما ذكره هنا فإن الهليلجة مما
يتداوى به فسواء أكلها على الوجه المعتاد أو
على غير الوجه المعتاد قلنا إنه تجب عليه
الكفارة.
وكذلك إن أكل مسكا أو غالية أو زعفرانا فعليه
القضاء والكفارة لأن هذه الأشياء تؤكل عادة
للتغذي أو للتداوي وذكر الحسن عن أبي حنيفة
رحمهما الله تعالى أنه لو أكل عجينا لا تلزمه
الكفارة لأن العجين لا يؤكل عادة قبل الطبخ
ولا يدعو الطبع إلى تناوله وهكذا ذكر بن رستم
عن محمد رحمهما الله تعالى وقال لو أكل الدقيق
أيضا لا تلزمه الكفارة لأنه يصير عجينا في فمه
قبل أن يصل إلى جوفه.
قال: ولو أكل حنطة يجب عليه القضاء والكفارة
لأن الحنطة تؤكل كما هي عادة فإنها مادامت
رطبة تؤكل وبعد اليبس تغلى فتؤكل وتقلى فتؤكل.
قال: ولو أكل طينا أرمنيا فعليه الكفارة ذكره
بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى قال لأنه
بمنزلة الغاريقون يتداوى به قال بن رستم فقلت
له فإن أكل من هذا الطين الذي يأكله الناس قال
لا أعرف أحدا يأكله وفي رواية أخرى عن محمد
رحمه الله تعالى أنه لا تلزمه الكفارة في
الطين الأرمني أيضا إذا أكله كما هو إلا أن
يسويه على الوجه المعتاد الذي يتداوى به
والأول أصح.
قال: ومن أفطر في شهر رمضان بعذر والشهر
ثلاثون يوما فقضى شهرا بالأهلة وهو تسعة
وعشرون يوما فعليه قضاء يوم آخر لقوله تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184], ففي هذا بيان أن المعتبر في القضاء إكمال العدة
بالأيام.
قال: ولو شهد رجل واحد برؤية هلال رمضان
وبالسماء علة قبلت شهادته إذا كان عدلا وقد
بينا هذه المسألة في كتاب الصوم والاستحسان
وشرط في الكتاب أن يكون الشاهد عدلا والطحاوي
يقول عدلا كان أو غير عدل قيل مراده أنه يكتفي
بالعدالة الظاهرة ولا يشترط أن يكون الشاهد
عدلا في الباطن وقيل إنما لا تشترط العدالة في
هذا
ج / 3 ص -129-
الموضع
لانتفاء التهمة لأنه يلزمه من الصوم ما يلزم
غيره وإنما لا يقبل خبر الفاسق لتمكن التهمة
والأصح اشتراط العدالة فيه لأن هذا من أمور
الدين ولهذا يكتفى فيه بخبر الواحد وخبر
الفاسق في باب الدين غير مقبول بمنزلة رواية
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأما على الفطر فلا تقبل إلا شهادة رجلين
إذا كان بالسماء علة وأشار في بعض النوادر إلى
الفرق فقال المتعلق بهلال رمضان هو الشروع في
العبادة وخبر الواحد فيه مقبول كما لو أخبر
بإسلام رجل والمتعلق بهلال شوال الخروج من
العبادة وذلك لا يثبت إلا بشهادة رجلين كما في
الشهادة على ردة المسلم.
وأشار هنا إلى فرق آخر فقال المتعلق بهلال
شوال ما فيه منفعة للناس وهو الترخص بالفطر
فيكون هذا نظير الشهادة على حقوق العباد
والمتعلق بهلال رمضان محض حق الشرع وهو الصوم
الذي هو عبادة يؤخذ فيها بالاحتياط فلهذا
يكتفى فيه بخبر الواحد إذا كان بالسماء علة
وهذا صحيح على ما روى الحسن عن أبي حنيفة
رحمهما الله تعالى أنهم يصومون بخبر الواحد
ولا يفطرون إذا لم يروا الهلال وإن أكملوا
العدة ثلاثين يوما بدون التيقن بانسلاخ رمضان
للأخذ بالاحتياط في الجانبين.
فأما ابن سماعة يروي عن محمد رحمه الله تعالى
أنهم يفطرون إذا أكملوا العدة ثلاثين يوما لأن
صوم الفرض في رمضان لا يكون أكثر من ثلاثين
يوما قال بن سماعة فقلت لمحمد كيف يفطرون
بشهادة الواحد قال لا يفطرون بشهادة الواحد بل
بحكم الحاكم لأنه لما حكم بدخول رمضان وأمر
الناس بالصوم فمن ضرورته الحكم بانسلاخ رمضان
بعد مضي ثلاثين يوما.
والحاصل أن الفطر هنا مما تفضي إليه الشهادة
لا أنه يكون ثابتا بشهادة الواحد وهو نظير
شهادة القابلة على النسب فإنها تكون مقبولة ثم
يفضي ذلك إلى استحقاق الميراث والميراث لا
يثبت بشهادة القابلة ابتداء ويستوي إن شهد رجل
أو امرأة على شهادة نفسه أو على شهادة غيره
حرا كان أو عبدا محدودا في القذف أو غير محدود
بعد أن يكون عدلا في ظاهر الرواية بمنزلة
رواية الأخبار فإن الصحابة كانوا يقبلون رواية
أبي بكرة بعد ما أقيم عليه حد القذف.
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى لا تقبل شهادة المحدود في القذف على
رؤية الهلال وإن حسنت توبته لأنه محكوم بكذبه
شرعا. قال الله تعالى:
{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ
هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النور:
13] فإذا كان المتهم بالكذب وهو الفاسق غير
مقبول الشهادة هنا فالمحكوم بكذبه كان أولى
فأما إذا لم يكن بالسماء علة فلا تقبل شهادة
الواحد والمثنى حتى يكون أمرا مشهورا ظاهرا في
هلال رمضان وهكذا في هلال الفطر في رواية هذا
الكتاب وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما
الله تعالى,
ج / 3 ص -130-
قال
تقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين بمنزلة
حقوق العباد والأصح ما ذكر هنا فإن في حقوق
العباد إنما تقبل شهادة رجلين إذا لم يكن هناك
ظاهر يكذبهما وهنا الظاهر يكذبهما في هلال
رمضان وفي هلال شوال جميعا لأنهما أسوة سائر
الناس في الموقف والمنظر وحدة البصر وموضع
القمر فلا تقبل فيه الشهادة إلا أن يكون أمرا
مشهورا ظاهرا وقد بينا اختلاف الأقاويل في ذلك
في كتاب الصوم.
قال: ولو أن رجلا جامع امرأته ناسيا في رمضان
فتذكر ذلك وهو مخالطها فقام عنها أو جامعها
ليلا فانفجر الصبح وهو مخالطها فقام عنها من
ساعته فلا قضاء عليه في الوجهين جميعا وقال
زفر رحمه الله تعالى عليه القضاء في الوجهين
لوجود جزء من المجامعة بعد التذكر وانفجار
الصبح إلى أن نزع نفسه منها وذلك يكفي لإفساد
الصوم ولكنا نقول ذلك ما لا يستطاع الامتناع
عنه ومما لا يمكن التحرز عنه فهو عفو وأصل هذه
المسألة فيما إذا حلف لا يلبس هذه الثوب وهو
لابسه فنزعه من ساعته فهو حانث في القياس وهو
قول زفر رحمه الله تعالى لوجود جزء من اللبس
بعد اليمين وفي الاستحسان لا حنث لأن ما لا
يستطاع الامتناع عنه فهو عفو يوضحه أن نزع
النفس كف عن المجامعة والكف عن المجامعة ركن
الصوم فلم يوجد منه بعد انفجار الصبح ولا بعد
التذكر إلا ما هو ركن الصوم وذلك غير مفسد
لصومه.
ألا ترى أن اللقمة لو كانت في فيه فألقاها بعد
التذكر أو بعد انفجار الصبح لم يفسد صومه إلا
أن زفر رحمه الله تعالى يفرق فيقول الموجود
هناك جزء من إمساك اللقمة في فيه إلى أن
يلقيها وذلك غير مفسد للصوم والموجود هنا جزء
من الجماع وذلك مفسد للصوم.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال في الناسي
لا يفسد صومه إذا نزع نفسه كما تذكر وإذا
انفجر الصبح فعليه القضاء وإن نزع نفسه لأن
آخر الفعل من جنس أوله وأول الفعل من الناسي
غير مفسد للصوم مع مصادفته وقت الصوم فكذلك
آخره وأول الفعل في حق الذي انفجر له الصبح
عمد مفسد للصوم إذا صادف وقت الصوم فكذلك آخره
يوضحه أن الشروع في الصوم يكون عند طلوع الفجر
فاقتران المجامعة بطلوع الفجر يمنع صحة الشروع
في الصوم فيلزمه القضاء وفي حق الناسي شروعه
في الصوم صحيح ولم يوجد بعده ما يفسد الصوم
فلهذا لا يلزمه القضاء.
ولم يذكر في الكتاب أنه بعد ما نزع نفسه لو
أمنى هل يلزمه القضاء أم لا قال رضي الله عنه
والصحيح أنه لا يفسد صومه لأن مجرد خروج المني
لا يفسد الصوم وإن كان على وجه الشهوة كما لو
احتلم ولم يوجد بعد التذكر وطلوع الفجر إلا
ذلك وإذا أتم الفعل بعد التذكر وطلوع الفجر
فعليه القضاء دون الكفارة عندنا وعلى قول
الشافعي رحمه الله تعالى عليه القضاء والكفارة
لوجود المجامعة بعد التذكر وطلوع الفجر
والموجب للكفارة عنده
ج / 3 ص -131-
الجماع
المعدم للصوم وقد وجد فأما عندنا الموجب
للكفارة هو الفطر على وجه تتكامل به الجناية
وذلك لم يوجد فيما إذا طلع الفجر وهو مخالط
لأهله فداوم على ذلك لأن شروعه في الصوم لم
يصح مع المجامعة والفطر إنما يكون بعد الشروع
في الصوم ولم يوجد ولئن كان الموجب للكفارة
الجماع المعدم للصوم فالجماع هو إدخال الفرج
في الفرج ولم يوجد منه بعد التذكر ولا بعد
طلوع الفجر إدخال الفرج في الفرج وإنما وجد
منه الاستدامة وذلك غير الإدخال.
ألا ترى أن من حلف لا يدخل دار فلان وهو فيها
لم يحنث وإن مكث في الدار ساعة فهذا مثله ولو
أنه نزع نفسه ثم أولج ثانيا فعليه الكفارة
بالاتفاق لأنه وجد منه إبتداء المجامعة بعد
صحة الشروع في الصوم مع التذكر فيكون عليه
القضاء والكفارة وهذا على الرواية الظاهرة
فيما إذا جامع ثانيا وهو يعلم أن صومه لم يفسد
به ثم أفطر بعد ذلك متعمدا فإنه تلزمه الكفارة
فأما على الرواية التي رويت عن أبي حنيفة رحمه
الله تعالى أنه لا يلزمه الكفارة وإن كان
عالما لشبهة القياس فهنا أيضا يقول لا تجب
الكفارة.
قال: ولو أن صائما ابتلع شيئا كان بين أسنانه
فلا قضاء عليه سمسمة كانت أو أقل منها لأن ذلك
مغلوب لا حكم له كالذباب يطير في حلقه وإن
تناول سمسمة وابتلعها ابتداء فهو مفطر لأن هذا
يقصد إبطال صومه ومعنى هذا أنه إذا أدخل سمسمة
في فمه فابتلعها فقد وجد منه القصد إلى إيصال
المفطر إلى جوفه وذلك مفسد لصومه فأما إذا كان
باقيا بين أسنانه فلم يوجد منه القصد إلى
إيصال المفطر إلى جوفه والذي بقي بين أسنانه
تبع لريقه ولو ابتلع ريقه لم يفسد صومه فهذا
مثله يوضح الفرق أنه لا يمكنه التحرز عن اتصال
ما بقي بين أسنانه إلى جوفه خصوصا إذا تسحر
بالسويق وما لا يمكنه التحرز عنه فهو عفو ألا
ترى أن الصائم إذا تمضمض فإنه يبقى في فمه بلة
ثم تدخل بعد ذلك حلقه مع ريقه وأحد لا يقول
بأن ذلك يفطره.
وذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهما
الله تعالى أنه لو بقي لحم بين أسنان الصائم
فابتلعه فعليه القضاء قال وهذا إذا كان قدر
الحمصة أو أكثر فإن كان دون ذلك فلا قضاء عليه
فبهذه الرواية يظهر الفرق بين القليل الذي لا
يستطاع الامتناع عنه وبين الكثير الذي يستطاع
الامتناع عنه ثم في قدر الحمصة أو أكثر إذا
ابتلعه فعليه القضاء دون الكفارة عند أبي يوسف
رحمه الله تعالى وهو قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى أيضا وعند زفر رحمه الله
تعالى عليه القضاء والكفارة لأن ذلك مما يتغذى
به ولو أدخله في فيه وابتلعه كان عليه القضاء
والكفارة فكذلك إذا كان باقيا بين أسنانه
فابتلعه وليس فيه أكثر من أنه متغير وذلك لا
يمنع وجوب الكفارة عليه كما لو أفطر بلحم منتن
ولكنا نقول ما بقي بين الأسنان مما لا يتغذى
به ولا يتداوى به في العادة مقصودا فالفطر به
لا
ج / 3 ص -132-
يوجب
الكفارة كالفطر بتناول الحصاة يوضحه أنه لم
يوجد منه ابتداء الأكل في حالة الصوم لأن
ابتداء الأكل بإدخال الشيء في فيه وإتمامه
بالاتصال إلى جوفه وحين أدخل هذا في فيه لم
يكن فعله جناية على الصوم فتتمكن الشبهة في
حقه في فعله والكفارة تسقط بالشبهة.
ولو أن مسافرا صام في رمضان عن واجب آخر أجزأه
من ذلك الواجب في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وعليه قضاء رمضان وفي قول أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى يقع صومه عن رمضان
ولا يكون عن غيره بنيته مريضا كان أو مسافرا
ولم يذكر قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في
المريض نصا ولكن أطلق الجواب في حق من كان
مقيما أنه يكون صومه عن فرض رمضان وهو الصحيح
لأنه لا فرق في ذلك بين المريض والصحيح لأن
المريض إنما يباح له الترخص بالفطر إذا كان
عاجزا عن الصوم فأما إذا كان قادرا على الصوم
فهو والصحيح سواء فيكون صومه عن فرض رمضان
وأما المسافر إذا نوى التطوع في رمضان فلا
إشكال في قولهما أنه يكون صومه عن فرض رمضان
وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيه روايتان:
وجه قولهما: أن المسافر إنما يفارق المقيم في
الترخص بالفطر فإذا ترك هذا الترخص كان هو
والمقيم سواء وصوم المقيم لا يكون إلا عن
رمضان لأنه لم يشرع في هذا الزمان إلا هذا
الصوم فنيته جهة أخرى تكون لغوا فكذلك في حق
المسافر ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى حرفان:
أحدهما: أن أداء صوم رمضان
غير مستحق على المسافر في هذا الوقت ولكنه
مخير بين الصوم والفطر مع قدرته على الصوم
كالمقيم في شعبان ثم هناك يتأدى صومه عما نوى
فكذلك هنا وعلى هذا الطريق يقول إذا نوى
التطوع يكون صومه عن التطوع.
والطريق الآخر: أنه ما ترك
الترخص حين نوى واجبا آخر كان مؤاخذا به ولكنه
صرف صومه إلى ما هو أهم عليه لأن الواجب الآخر
دين في ذمته لو مات قبل إدراك عدة من أيام أخر
كان مؤاخذا به فيكون هو مترخصا بصرف الصوم إلى
ما هو الأهم فإنه في رمضان لو مات قبل إدراك
عدة من أيام أخر لم يكن مؤاخذا به وعلى هذا
الطريق يقول إذا نوى التطوع كان صائما عن
الفرض لأنه ترك الترخص حين لم يصرف الصوم إلى
ما هو الأهم عنده وإذا ترك الترخص كان هو
والمقيم سواء فيكون صومه عن رمضان ولو قال لله
علي أن أصوم هذا اليوم شهرا فعليه أن يصوم ذلك
اليوم كلما دار إلى تمام ثلاثين يوما منذ قال
هذا القول فيكون صومه في أربعة أيام أو خمسة
أيام من الشهر لأن معنى كلامه لله علي أن أصوم
هذا اليوم كلما دار في شهر ويتعين له الشهر
الذي يعقب نذره بمنزلة ما لو أجر داره شهرا.
ولو قال: لله علي أن أصوم هذا الشهر يوما كان
عليه أن يصوم ذلك الشهر متى شاء وهو في سعة ما
بينه وبين أن يموت لأن معنى كلامه لله علي أن
أصوم هذا الشهر وقتا من
ج / 3 ص -133-
الأوقات فيكون موسعا عليه في مدة عمره وحقيقة
الفرق أن اليوم قد يكون بمعنى الوقت قال الله
تعالى:
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}[لأنفال: 16] والمراد منه الوقت والرجل يقول انتظر يوم فلان أي وقت
إقباله أو إدباره وقد يكون عبارة عن بياض
النهار على ضد الليل وهذا ظاهر فإذا قرنه بذكر
الصوم عرفنا أن المراد بياض النهار لأنه وقت
للصوم ومعيار له.
ففي المسألة الأولى: قرن اليوم بالصوم فقال
أصوم هذا اليوم فحملناه على بياض النهار ثم
ذكر الشهر لبيان مقدار الأيام التي تناولها
نذره.
وفي المسألة الثانية: قرن الشهر بذكر اليوم
فصار مقدار الصوم بذكر الشهر معلوما ثم ذكر
اليوم بعد ذلك من غير أن جعله معيارا للصوم
فعرفنا أن المراد به الوقت فجعلنا كأنه قال
أصوم هذا الشهر وقتا.
قال: ولو قال: لله علي صوم هذا اليوم غدا فإن
قال هذا قبل الزوال ولم يكن أكل فيه شيئا
فعليه صوم هذا اليوم وإن قال بعد الزوال أو
بعد ما أكل فلا شيء عليه ولو قال لله علي صوم
غد اليوم كان عليه الصوم غدا لأنه ذكر الوقتين
من غير أن ذكر بينهما حرف العطف فيكون المعتبر
من كلامه أول الوقتين ذكرا ويلغو آخر الوقتين
ذكرا وقد بينا هذا الأصل في الطلاق إذا قال
لامرأته أنت طالق اليوم غدا فهي طالق اليوم
ولو قال: غدا اليوم تطلق غدا.
ففي المسألة الأولى: المعتبر من كلامه ذكر
اليوم فكأنه اقتصر على قوله لله علي صوم هذا
اليوم فإن كان قبل الزوال ولم يكن أكل صح نذره
وإلا فلا.
وفي المسألة الثانية: المعتبر من كلامه قوله
غدا فيكون ملتزما صوم الغد بنذره وذلك صحيح
فإن أفطر في الغد فعليه القضاء.
قال: ولو قال: لله علي صوم الأيام ولا نية له
ففي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى عليه صوم
عشرة أيام وفي قولهما عليه صوم سبعة أيام لأن
حرف اللام حرف العهد والمعهود هي الأيام
السبعة التي تدور عليها الشهور والسنون كلما
مضت عادت فإليها ينصرف مطلق لفظه وأبو حنيفة
رحمه الله تعالى يقول ذكر الألف واللام دليل
الكثرة فإنما ينصرف كلامه إلى أكثر ما يتناوله
اسم الأيام في اللغة مقرونا بالعدد وذلك عشرة
أيام لأنه يقال لما بعد العشرة أحد عشر يوما
وإنما قلنا إن الألف واللام دليل الكثرة
لأنهما لاستغراق الجنس وقد بينا هذا في كتاب
الأيمان.
وعلى هذا الأصل إذا قال لله علي صيام الشهور
فعليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى عشرة
أشهر لأنه أكثر ما يتناوله لفظ الجمع مقرونا
بالعدد فإنه يقال عشرة أشهر أو شهور ثم يقال
لما بعده أحد عشر شهرا وعندهما يلزمه صوم اثني
عشر شهرا باعتبار المعهود قال الله تعالى:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً}[التوبة: 36] وهي التي تدور عليها السنون.
ج / 3 ص -134-
وإن
قال لله علي صيام شهور فعليه صيام ثلاثة أشهر
لأنه أدنى ما يتناوله اسم الجمع لأنه ليس في
كلامه حرف العهد ولا ما يدل على الكثرة.
ولو قال: لله علي صوم الجمع فعند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى هذا على عشر جمع وعندهما على
جمع العمر.
ولو قال: لله علي صوم جمع هذا الشهر فعليه أن
يصوم كل جمعة تمر عليه في ذلك الشهر لأن الجمع
جمع جمعة وهو اسم لليوم الذي تقام فيه صلاة
الجمعة وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى
أنه يلزمه صوم جميع ذلك الشهر لأن الجمعة تذكر
بمعنى الأسبوع في العادة يقول الرجل لغيره لم
ألقك منذ جمعة وإنما يريد به الأسبوع قال رضي
الله عنه والأصح ما ذكر في ظاهر الرواية لأنه
لا يلزمه بالنذر إلا القدر المتيقن به وكل
واحد من هذين المعنيين من محتملات كلامه
فيلزمه المتيقن.
ولو قال: لله علي صوم أيام الجمعة كان عليه
صوم سبعة أيام لأن الأيام اسم جمع فبه يتبين
أن مراده الأسبوع دون اليوم الذي تقام فيه
الجمعة خاصة.
ولو قال لله علي صوم جمعة فهذا على وجهين: قد
يقع على أيام الجمعة السبعة وقد يقع على
الجمعة بعينها فأي ذلك نوى عملت نيته وإن لم
تكن له نية فهذا على أيام الجمعة سبعة أيام
وهذا يؤيد رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى في
الفصل الأول فإنه لم يعتبر المتيقن هنا واعتبر
ما تعارفه الناس ولكن الفرق بينهما في ظاهر
الرواية أن هنا ذكر الجمعة مطلقا ولو كان
المراد بهذا اللفظ اليوم الذي تقام فيه الجمعة
لقيد بذكر اليوم فترك التقييد هنا دليل على أن
مراده الأيام السبعة وفي الفصل الأول وإن لم
يذكر اليوم ففي لفظه ما يدل على أنه هو المراد
لأنه أضاف الجمع إلى الشهر فذلك دليل على أن
مراده أيام الجمعة التي تدور في الشهر.
قال: ولو قال: لله علي صوم كذا كذا يوما فإن
نوى عددا هو من محتملات لفظه كان على ما نوى
وإن لم يكن له نية فهو على أحد عشر يوما لأن
كذا اسم لعدد مبهم فقد ذكر عددين مبهمين ليس
بينهما حرف العطف وأقل عددين مفسرين ليس
بينهما حرف العطف أحد عشر فعلى ذلك يحمل ما
ذكر من العددين المبهمين ولو قال كذا وكذا
يوما لزمه صوم أحد وعشرين يوما لأنه ذكر حرف
العطف بين العددين المبهمين وأقل عددين مفسرين
بينهما حرف العطف أحد وعشرون فعلى ذلك يحمل
مبهم كلامه إذا لم ينو شيئا آخر.
قال: ولو قال لله علي صوم بضعة عشر يوما لزمه
صيام ثلاثة عشر يوما لأن البضع أدناه الثلاثة
على ما روى أنه لما نزل قوله تعالى:
{وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}[الروم: 3-4] خاطر أبو بكر مع قريش على أن الروم تغلب فارس في ثلاث
سنين إلى أن قال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"كم تعدون البضع فيكم؟" فقال: من الثلاث إلى سبع، فقال
ج / 3 ص -135-
عليه
الصلاة والسلام:
"زد في الخطر وأبعد في الأجل"، فقد بين أن أدنى ما يتناوله اسم البضع ثلاثة فإنما يلزمه القدر
المتيقن فلهذا كان عليه صيام ثلاثة عشر يوما.
قال: ولو قال: لله علي صوم السنين فهو على عشر
سنين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى للأصل
الذي بينا له وفي قولهما إن نوى شيئا فهو على
ما نوى وإن لم يكن له نية فهو على جميع العمر
لأنه ليس في السنين شيء معهود فيحمل لفظه على
استغراق الجنس وذلك جميع عمره في حقه.
قال: ولو قال: لله علي صوم زمان أو صوم الزمان
فهذا على ستة أشهر لأن الزمان والحين يستعملان
استعمالا واحدا فإن الرجل يقول لغيره لم ألقك
منذ زمان لم ألقك منذ حين.
ولفظ الحين يتناول ستة أشهر سواء قرن به الألف
واللام أو لم يقرن فكذلك لفظ الزمان وإنما
حملنا لفظ الحين على ستة أشهر لقوله تعالى:
{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[إبراهيم: 25] قال بن عباس رضي الله تعالى عنه المراد ستة أشهر ثم
لفظ الحين في كتاب الله تعالى ورد بمعنى أشياء
بمعنى الوقت.
قال الله تعالى:
{حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}[الروم: 17] والمراد وقت الصلاة، وبمعنى أربعين سنة قال الله تعالى:
{هَلْ أَتَى
عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}[الإنسان:
1] والمراد أربعون سنة وبمعنى قيام الساعة قال
الله تعالى:
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}[المؤمنون:54] يعني قيام الساعة وقد علمنا أنه لم يرد بنذره ساعة
واحدة ولا أربعين سنة لأن بقاء الآدمي إلى هذه
المدة الطويلة للصوم فيها نادر فعرفنا أن
المراد ستة أشهر وهو المتوسط في هذه الأعداد
وخير الأمور أوسطها.
ولو قال: لله علي صوم أبد أو الأبد فهو على
جميع العمر لأن الأبد ما لا غاية له ولكن
علمنا أنه لم يرد به زيادة على مدة عمره وإن
قال صوم الدهر فأبو حنيفة رحمه الله تعالى لم
يوقت فيه شيئا وقال لا أدري ما الدهر وأبو
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى جعلا لفظ الدهر
كلفظ الحين والزمان وقد بينا ذلك في كتاب
الأيمان والنذور والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب وإليه المرجع والمآب. |