المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 4 ص -3-            بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله أجمعين.
كتاب المناسك
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى اعلم أن الحج في اللغة القصد ومنه قول القائل:

وأشهد من عوف حلولا كثيرة                     يحجون سب الزبرقان المزعفرا

أي يقصدون له معظمين إياه.
وفي الشريعة: عبارة عن زيارة البيت على وجه التعظيم لأداء ركن من أركان الدين عظيم ولا يتوصل إلى ذلك إلا بقصد وعزيمة وقطع مسافة بعيدة فالاسم شرعي فيه معنى اللغة والمناسك جمع النسك والنسك اسم لكل ما يتقرب به إلى الله عز وجل ومنه سمي العابد ناسكا ولكنه في لسان الشرع عبارة عن أركان الحج. قال الله تعالى:
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}[البقرة: 200] وفرضية الحج ثابتة بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران: 97] وآكد ما يكون من ألفاظ الإلزام كلمة على وأما السنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى ولم يحج حتى مات فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا", وفي رواية: "فليمت على أي ملة شاء سوى ملة الإسلام", وتلا قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97].
 وسبب وجوب الحج ما أشار الله تعالى إليه في قوله:
{حِجُّ الْبَيْتِ}[آل عمران: 97] فالواجبات تضاف إلى أسبابها ولهذا لا يجب في العمر إلا مرة واحدة لأن سببه وهو البيت غير متكرر.
والأصل فيه حديث الأقرع بن حابس رضي الله تعالى عنه حيث قال يا رسول الله الحج في كل عام أم مرة فقال صلى الله عليه وسلم:
"بل مرة فما زاد فتطوع". والوقت فيه شرط الأداء وليس بسبب ولهذا لا يتكرر بتكرر الوقت إلا أن أركان هذه العبادة متفرقة على الأمكنة والأزمنة فلا يجوز إلا بمراعاة الترتيب فيها ولهذا لا يتأدى طواف الزيارة قبل الوقوف كما لا يتأدى السجود في فصل الصلاة قبل الركوع والمال شرط يتوصل به إلى الأداء ولهذا لا يتحقق الأداء من فقير لا مال له فرضا وأركان هذه العبادة الأفعال والمال ليس بسبب فيه ولكنه معتبر ليتيسر به الوصول إلى مواضع إداء أركانه.

 

ج / 4 ص -4-            ثم بدأ الكتاب فقال: إذا أردت أن تحرم بالحج إن شاء الله اقتد بكتاب الله تعالى في ذكر الاستثناء في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ}[الفتح: 27] وقيل إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى خاطب أبا يوسف رحمه الله تعالى والواحد يشك في حاله أنه يحج أو لا يحج فقيد بالاستثناء وتفرس فيه أنه يحج فما أخطأت فراسته.
قال: فاغتسل أو توضأ والغسل فيه أفضل هكذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله فاغتسل رواه خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه وهذا الاغتسال ليس بواجب لما روي أن أبا بكر رضى الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أسماء قد نفست قال: "مرها فلتغتسل ولتحرم بالحج". ومعلوم أن الاغتسال الواجب مع النفاس والحيض لا يتأدى فعرفنا أن هذا الاغتسال لمعنى النظافة وما كان لهذا المقصود فالوضوء يقوم مقامه كما في العيدين والجمعة ولكن الغسل أفضل لأن معنى النظافة فيه أكمل ثم ألبس ثوبين إزارا ورداء جديدين أو غسيلين هكذا ذكر جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ائتزر وارتدى عند إحرامه ولأن المحرم ممنوع من لبس المخيط ولا بد له من ستر العورة فتعين للستر الارتداء والائتزار والجديد والغسيل في هذا المقصود سواء غير أن الجديد أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه:
"تزين لعبادة ربك".
قال: وادهن بأي دهن شئت وهو الظاهر من المذهب عندنا أنه لا بأس بأن يتطيب ويدهن قبل إحرامه بما شاء وروي عن محمد رحمه الله تعالى قال كنت لا أرى بذلك بأسا حتى رأيت أقواما يحضرون طيبا كثيرا ويصنعون شيئا شنعا فكرهت ذلك وهو قول مالك رحمه الله تعالى وقد نقل عن عمر وعثمان رضي الله عنهما كراهة ذلك وحجة هذا القول حديث الأعرابي حيث جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة متضمخة أي متلطخة بالخلوق فسأله عن العمرة فلم يجبه حتى نزل عليه الوحي فلما سرى عنه قال
"أين السائل عن العمرة؟" فقال الأعرابي: ها أنا ذا يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: "أما جبتك فانزعها وأما الخلوق فاغسله واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجتك", فقد أمره بإزالة الطيب عن نفسه عند الإحرام.
ولنا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يزور البيت وفي رواية كنت أرى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إحرامه فتطيبوا وعن عائشة رضي الله عنها قالت كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متضمخا جباهنا بالمسك ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ذلك ولا يكرهه.
وتأويل حديث الإعرابي أنه كره الخلوق له لكونه بمنزلة الثوب المورس والمزعفر ومعنى كراهة محمد رحمه الله تعالى لاستعمال الطيب الكثير أنه بعد الإحرام ربما ينتقل على بدنه من موضع إلى موضع فيكون ذلك بمنزلة التطيب ابتداء بعد الإحرام في الموضع الثاني ولكن هذا ليس بقوي فإنه لا تلزمه الكفارة بهذا ولو كان بهذه المنزلة لوجب عليه الكفارة.

 

ج / 4 ص -5-            واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى فيما إذا تطيب بعد إحرامه وكفر ثم تحول الطيب مع عرقه من موضع إلى موضع.
 فمنهم من يقول: لا تلزمه كفارة جديدة لأن أصل فعله قد انقطع بالتكفير فلا معتبر بأثره كما لو فعله قبل الإحرام.
ومنهم من قال: تلزمه كفارة أخرى هنا لأن أصل فعله كان محظورا فتحوله من موضع إلى موضع يكون جناية أيضا في حكم الكفارة بخلاف ما قبل الإحرام فإن أصل فعله لم يكن محظورا ثم لا معتبر ببقاء الأثر بعد الإحرام إذا كان أصل فعله قبل الإحرام كالحلق.
ثم قال وصلى ركعتين لحديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أتاني آت من ربي وأنا بالعقيق فقال: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل لبيك بحجة وعمرة معا".
وفيما ذكر جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه ثم قال: "وقل اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني" لأنه محتاج في أداء أركانه إلى تحمل المشقة ويبقي في ذلك أياما فيطلب التيسير من الله تعالى إذ لا يتيسر للعبد إلا ما يسره الله تعالى ويسأل القبول كما فعله الخليل وإسماعيل صلوات الله عليهما في قولهما ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ولم يأمر بمثل هذا الدعاء لمن يريد افتتاح الصلاة لأن أداءها يسير عادة ولا تطول في أدائها المدة.
فأما أركان الحج متفرقة على الأمكنة والأزمنة ولا يؤمن فيها اعتراض الموانع عادة فلهذا أمر بتقديم سؤال التيسير قال ثم لب في دبر صلواتك تلك فإن شئت بعد ما يستوي بك بعيرك والكلام فيه في فصول:
أحدها: في اشتقاق التلبية لغة فقيل هو مشتق من قولهم ألب الرجل إذا أقام في مكان فمعنى قول القائل لبيك أنا مقيم على طاعتك وقيل هو مشتق من قولهم داري تلب دارك أي تواجهها فمعنى قوله لبيك اتجاهي لك يا رب وقيل هو مشتق من قولهم امرأة لبة أي محبة لزوجها فمعناه محبتي لك يارب.
والثاني: أن المختار عندنا أن يلبي من دبر صلواته وهذا قول بن عباس رضي الله عنه وكان بن عمر رضي الله عنه يقول يلبي حين تستوي به راحلته وذكر جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حين علا البيداء إلا أن بن عمر رضي الله عنه رد هذا فقال: إن بيداءكم هذه تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال قلت لابن عباس رضي الله عنه كيف اختلف الناس في وقت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حج إلا مرة واحدة؟ قال لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دبر صلواته فسمع ذلك قوم من أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فنقلوه وكانوا القوم يأتونه أرسالا فلبى حين استوت به راحلته فسمع تلبيته قوم فظنوا أنه أول تلبيته فنقلوا

 

ج / 4 ص -6-            ذلك ثم لبى حين علا البيداء فسمعه آخرون فظنوا أنه أول تلبيته فنقلوا ذلك وأيم الله ما أوجبها إلا في مصلاه.
والثالث: أنه لا خلاف أن التلبية جواب الدعاء والكلام في أن الداعي من هو؟ فقيل: الداعي هو الله تعالى كما قال تعالى:
{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}[ابراهيم: 10] وقيل: الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال صلوات الله عليه إن سيدا بنى دارا واتخذ فيها مأدبة وبعث داعيا وأراد بالداعي نفسه والأظهر أن الداعي هو الخليل صلوات الله عليه على ما روي أنه لما فرغ من بناء البيت أمر بأن يدعو الناس إلى الحج فصعد بأبي قبيس وقال ألا إن الله تعالى أمر ببناء بيت له وقد بنى ألا فحجوه فبلغ الله صوته الناس في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم فمنهم من أجاب مرة ومنهم من أجاب مرتين وأكثر من ذلك وعلى حسب جوابهم يحجون وبيان هذا في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}[الحج: 27] الآية فالتلبية إجابة لدعاء الخليل صلوات الله عليه وسلامه.
ثم صفة التلبية أن يقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك هكذا رواه بن عمر وبن مسعود رضي الله عنهما في صفة تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل اللغة من اختار نصب الألف في قوله إن الحمد ومعناه لأن الحمد أو بأن الحمد فأما المختار عندنا الكسر وهو المروي عن محمد رحمه الله تعالى ووافقه الفراء لأن بكسر الألف يكون ابتداء الثناء وبنصب الألف يكون وصفا لما تقدم وابتداء الثناء أولى ولا بأس عندنا في الزيادة على هذه التلبية وبين العلماء اختلاف يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فظاهر المذهب عندنا أن غير هذا اللفظ من الثناء والتسبيح يقوم مقامه في حق من يحسن التلبية أو لا يحسن وكذلك لو أتي به بالفارسية فهو والعربية سواء أما على قول أبي حنيفة فظاهر لأنا قد بينا مذهبه في التكبير عند افتتاح الصلوات أن المعتبر ذكر الله تعالى على سبيل التعظيم وأن لفظ الفارسية والعربية فيه سواء فكذلك هنا ومحمد رحمه الله تعالى هناك يقول لا يتأدى بالفارسية ممن يحسن العربية وهنا يتأدى لأن غير الذكر هنا يقوم مقام الذكر وهو تقليد الهدي فكذلك غير العربية يقوم مقام العربية بخلاف الصلوات وبهذا يفرق أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى بين التلبية والتكبير عند افتتاح الصلوات وقد روى الحسن عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن غير التلبية من الأذكار لا يقوم مقام التلبية هنا كما في الصلوات على قوله ولا يصير محرما بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية أو ما يقوم مقامها خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وبيانه يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال: والمستحب رفع الصوت بالتلبية هكذا روى خلاد بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أمرني جبريل عليه السلام أن آمر أمتي أو من معي بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية", وقال صلى الله عليه وسلم:

 

ج / 4 ص -7-            "أفضل الحج العج والثج". فالعج: رفع الصوت بالتلبية, والثج: إراقة الدم. والمستحب عندنا في الأذكار والدعاء الخفية إلا فيما تعلق بإعلانه مقصود كالأذان للإعلام والخطبة للوعظ وتكبيرات الصلوات لإعلام التحرم والانتقال والقراءة لإسماع المؤتم فالتلبية للشروع فيما هو من إعلام الدين فلهذا كان المستحب رفع الصوت به.
قال: فإذا لبيت فقد أحرمت يعني إذا نويت ولبيت إلا أنه لم يذكر النية لتقدم الإشارة إليها في قوله اللهم إني أريد الحج قال فاتق ما نهى الله عنه من قتل الصيد والرفث والفسوق والجدال.
أما قتل الصيد فالمحرم منهي عنه في قوله تعالى:
{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة: 95] والصيد محرم عليه ما دام محرما لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}[المائدة: 96] وأما الرفث والفسوق والجدال فالنهي عنها في قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة: 197] فهو نهي بصيغة النفي وهذا آكد ما يكون من النهي.
وفي تفسير الرفث قولان:
أحدهما: الجماع, بيانه في قوله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ}[البقرة: 187] والثاني: الكلام الفاحش إلا أن بن عباس رضي الله عنه كان يقول إنما يكون الكلام الفاحش رفثا بحضرة النساء حتى روي أنه كان ينشد في إحرامه:

وهن يمشين بنا هميسا                         إن تصدق الطير ننك لميسا

لميس اسم جاريته فقيل له أترفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث بحضرة النساء.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه كنا ننشد الأشعار في حالة الإحرام فقيل له: مثل ماذا؟ فقال: مثل قول القائل:

قامت تريك رهبة إن تصر ما                              ساقا بحناء وكعبا أدرما

ذكر في كفاية المتحفظ.
وأما الفسوق فهو اسم للمعاصي وذلك منهي عنه في الإحرام وغير الإحرام إلا أن الحظر في الإحرام أشد لحرمة العبادة.
وفي تفسير الجدال قولان:
أحدهما: أن يجادل رفيقه في الطريق.
والثاني: أن المراد مجادلة المشركين في تقديم وقت الحج وتأخيره وذلك هو النسيء الذي قال الله تعالى:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}[التوبة: 37] الآية وذلك منفي بعد الإسلام.
قال: ولا يشير إلى صيد ولا يدل عليه لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضوان الله عليهم وكانوا محرمين:
"هل أشرتم هل أعنتم هل دللتم" فقالوا: لا فقال: "إذن فكلوا". ولأن المحرم على المحرم التعرض للصيد بما يزيل الأمن عنه وذلك

 

ج / 4 ص -8-            يحصل بالدلالة والإشارة وربما يتطرق به إلى القتل وما يكون محرم العين فهو محرم بدواعيه كالزنا.
قال: ولا تغط رأسك ولا وجهك وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس للرجل بأن يغطي وجهه ولا يغطي رأسه والمرأة تغطي رأسها لا وجهها واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم:
"إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها".
ولنا حديث الأعرابي حين وقصت به ناقته في أخافيق جردان وهو محرم فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تخمروا رأسه ووجهه", وفي هذا تنصيص على أن المحرم لا يغطي رأسه ووجهه ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه حين اشتكت عينه في حال الإحرام أن يغطي وجهه فتخصيصه حالة الضرورة بالرخصة دليل على أن المحرم منهي عن تغطية الوجه ولأن المرأة لا تغطى وجهها بالإجماع مع أنها عورة مستورة فإن في كشف الوجه منها خوف لفتنة فلأن لا يغطي الرجل وجهه لأجل الإحرام أولى وتأويل الحديث بيان الفرق بين الرجل والمرأة في تغطية الرأس.
قال: ولا تلبس قباء ولا قميصا ولا سراويل ولا قلنسوة لحديث بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يلبس المحرم القباء ولا القميص ولا السراويل ولا القلنسوة ولا الخفين إلا أن يجد نعلين فليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تتنقب المرأة الحرام".
قال: ولا تلبس ثوبا مصبوغا بالعصفر ولا بالزعفران ولا بالورس لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يلبس المحرم ثوبا مسه زعفران أو ورس", وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا بعد إحرامه علاه بالدرة فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين فإنما هو بمشق فقال نعم ولكن من ينظر إليك من بعد لا يعرف ذلك فيرجع إلى قبيلته ويقول رأيت على طلحة في إحرامه ثوبا مصبوغا فيعيرك الناس بذلك فإن كان قد غسل حتى لا ينفض فلا بأس بلبسه لأن المنهي نفس الطيب لا لونه وبعد الغسل بهذه الصفة لا يبقى من عين الطيب فيه شيء.
قال: ولا تمس طيبا بعد إحرامك ولا تدهن لقوله صلى الله عليه وسلم:
"الحاج الشعث التفل" واستعمال الدهن والطيب يزيل هذه الصفة فيكون محرما بعد الإحرام.
قال: وإذا حككت رأسك فارفق بحكه حتى لا يتناثر الشعر فإن إزالة ما ينمو من البدن حرام على المحرم لأن أوان قضاء التفث عند التحلل من الإحرام كما قال الله تعالى بعد ذبح الهدي:
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}[الحج: 29].
قال: ولا تغسل رأسك ولحيتك بالخطمى لأن الخطمى تقتل هوام الرأس وتزيل الشعث الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة الحاج وهو من نوع قضاء التفث أيضا.
قال: ولا تقص أظفارك لأنه إزالة ما ينمو من البدن فكان من نوع قضاء التفث.

 

ج / 4 ص -9-            قال وأكثر من التلبية في دبر كل صلاة وكلما لقيت ركبا وكلما علوت شرفا وكلما هبطت واديا وبالأسحار هكذا نقل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كانوا يلبون في هذه الأحوال ثم تلبية المحرم في أدبار الصلوات كتكبير غير المحرم في أيام الحج في أدبار الصلوات فكما يؤتى بالتكبير بعد السلام فكذلك بالتلبية وكما أن المصلي يكبر عند الانتقال من ركن إلى ركن فكذلك لمحرم يلبي عند الانتقال من حال إلى حال وروى الأعمش عن خثعمة قال كانوا يستحبون التلبية عند ست في أدبار الصلوات وإذا استعطف الرجل براحلته وإذا صعد شرفا وإذا هبط واديا وإذا لقي بعضهم بعضا وبالأسحار.
قال: وإذا قدمت مكة فلا يضرك ليلا دخلتها أو نهارا لأن هذا دخول بلدة فيستوي فيه الليل والنهار كسائر البلدان والرواة اختلفوا في وقت دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فروى جابر رضي الله عنه أنه صلى العشاء بذي طوى ثم هجع هجعة ثم دخل مكة فطاف ليلا وروى بن عمر رضي الله عنه أنه بات بذي طوى فلما أصبح دخل مكة نهارا والذي روى عن عمر رضي الله عنه أنه كان ينهى الناس عن دخول مكة ليلا كان ذلك للإشفاق مخافة السرق ليرى الإنسان أين ينزل ويضع رحله وروي عن عمر رضي الله عنه أنه حين قدم مكة معتمرا في رمضان وجد الناس يصلون التراويح فصلى معهم وعن عائشة والحسن والحسين رضوان الله عليهم أنهم كانوا يدخلون مكة ليلا.
قال: فادخل المسجد لأنه قصد زيارة البيت والبيت في المسجد وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة دخل المسجد فلما وقع بصره على البيت قال:
"اللهم زد بيتك تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة", ولم يذكر في الكتاب تعيين شيء من الأدعية في مشاهد الحج لما قال محمد رحمه الله تعالى التوقيت في الدعاء يذهب رقة القلب فاستحبوا أن يدعو كل واحد بما يحضره ليكون أقرب إلى الخشوع وإن تبرك بما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن وكان بن عمر رضي الله عنه يقول إذا لقي البيت بسم الله والله أكبر وعن عطاء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لقي البيت يقول: "أعوذ برب البيت من الدين والفقر ومن ضيق الصدر وعذاب القبر".
قال: ثم ابدأ بالحجر الأسود فاستلمه هكذا روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالحجر الأسود فاستلمه وعن عمر رضي الله عنه أنه استلم الحجر الأسود وقال رأيت أبا القاسم بك حفيا وعن بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحجر ووضع شفتيه عليه وبكى طويلا ثم نظر فإذا هو بعمر رضي الله عنه فقال: "يا عمر هنا تسكب العبرات". وإن عمر رضي الله عنه في خلافته لما أتى الحجر الأسود وقف فقال: أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك فبلغت مقالته عليا رضي الله عنه فقال: أما إن الحجر ينفع فقال له عمر رضي الله عنه وما منفعته يا

 

ج / 4 ص -10-         ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى لما أخذ الذرية من ظهر آدم عليه السلام وقررهم بقوله: ألست بربكم؟ قالوا: بلى أودع إقرارهم الحجر", فمن يستلم الحجر فهو يجدد العهد بذلك الإقرار والحجر يشهد له يوم القيامة واستلام الحجر للطواف بمنزلة التكبير للصلوات فيبدأ به طوافه.
قال: إن استطعت من غير أن تؤذي مسلما لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه:
"إنك رجل أيد تؤذي الضعيف فلا تزاحم الناس على الحجر ولكن إن وجدت فرجة فاستلمه وإلا فاستقبله وكبر وهلل"، ولأن استلام الحجر سنة والتحرز عن أذى المسلم واجب فلا ينبغي له أن يؤذي مسلما لإقامة السنة ولكن إن استطاع تقبيله فعل وإلا مس الحجر بيده وقبل يده وإن لم يستطع ذلك أمس الحجر شيئا من عرجون أو غيره ثم قبل ذلك الشيء جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على راحلته واستلم الأركان بمحجنه وإن لم يستطع شيئا من ذلك استقبله وكبر وهلل وحمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا استقبال مستحب غير واجب لأن استقبال البيت عند الطواف لو كان واجبا كان في جميعه كاستقبال القبلة في الصلوات ولكنه مستحب لحديث بن عباس رضي الله عنهما قال إن الحجر يبعث يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به فيشهد بالحق لمن استلمه أو استقبله.
قال: ثم خذ عن يمينك على باب البيت فطف سبعة أشواط هكذا رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ على يمينه من باب الكعبة فطاف سبعة أشواط ومقادير العبادة تعرف بالتوقيف لا بالرأي.
قال: يرمل في الثلاثة الأول في كل شوط منها من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود فالحاصل أن كل طواف بعده سعي فالرمل في الثلاثة الأول منها سنة وكل طواف ليس بعده سعي فلا رمل فيه والرمل هو الاضطباع وهز الكتفين وهو أن يدخل أحد جانبي ردائه تحت إبطه ويلقيه على المنكب الآخر ويهز الكتفين في مشيه كالمبارز الذي يتبختر بين الصفين وكان بن عباس رضي الله عنه يقول لا رمل في الطواف وإنما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهارا للجلادة للمشركين على ما روي أن في عمرة القضاء لما أخلوا له البيت ثلاثة أيام وصعدوا الجبل طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فسمع بعض المشركين يقول لبعض أضناهم حمى يثرب فاضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه فرمل فقال لأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين:
"رحم الله امرأ أرى من نفسه قوة وجلدا". فإذا كان ذلك لإظهار الجلادة يومئذ وقد انعدم ذلك المعنى الآن فلا معنى للرمل. والمذهب عندنا أن الرمل سنة لحديث جابر وبن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر في حجة الوداع فرمل في الثلاثة الأول ولم يبق المشركون بمكة عام حجة الوداع وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد الرمل في طوافه فقال علام أهز

 

ج / 4 ص -11-         كتفي وليس هنا أحد أرائيه ولكنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله فأفعله اتباعا له وأكثر ما فيه أن سببه ما ذكره بن عباس رضي الله عنه ولكنه صار سنة بذلك السبب فيبقى بعد زواله كرمى الجمار سببه رمي الخليل صلوات الله عليه الشيطان ثم بقي بعد زوال ذلك السبب والرمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود عندنا.
وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه لا رمل بين الركن اليماني والحجر وإنما الرمل من الحجر إلى الركن اليماني وروي في بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليماني لأن المشركين كانوا يطلعون عليه فإذا تحول إلى الجانب الآخر حال البيت بينه وبينهم فكان لا يرمل وبهذا أخذ سعيد بن جبير وعطاء رحمهما الله تعالى ولكنا نأخذ بحديث جابر وبن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر.
قال: وإن زحمك الناس في رملك فقم فإذا وجدت مسلكا فارمل لأنه تعذر عليه إقامة السنة في الطواف للزحام فليصبر حتى يتمكن من إقامة السنة كالمزحوم يوم الجمعة يصبر حتى يتمكن من السجود وتطوف الأربعة الأشواط الأخر مشيا على هينتك على هذا اتفق رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلما مررت بالحجر الأسود في طوافك هذا فاستلمه إن استطعت من غير أن تؤذي مسلما فإن لم تستطع فاستقبله وكبر وهلل لأن أشواط الطواف كركعات الصلوات فكما تفتتح كل ركعة تقوم إليها بالتكبير فكذلك تفتتح كل شوط باستلام الحجر وإن أفتتحت به الطواف وختمت به أجزأك كما في الصلوات فترك تكبيرات الانتقال لا يمنع الجواز فكذلك لا بأس بترك استلام الحجر عند افتتاح كل شوط فإذا كان افتتاحه للطواف باستلام الحجر وختمه بذلك ففيما بين ذلك يجعل كالمستلم حكما.
قال: وليكن طوافك في كل شوط وراء الحطيم والحطيم اسم لموضع بينه وبين البيت فرجة يسمى ذلك الموضع حطيما وحجرا فتسميته بالحجر على معنى أنه حجر من البيت أي منع منه وتسميته بالحطيم على معنى أنه محطوم من البيت أي مكسور منه فعيل بمعنى مفعول كالقتيل بمعنى مقتول وقيل بل فعيل بمعنى فاعل أي حاطم كالعليم بمعنى عالم وبيانه فيما جاء في الحديث
"من دعى على من ظلمه فيه حطمه الله تعالى" فينبغي لمن يطوف أن لا يدخل في تلك الفرجة في طوافه ولكنه يطوف وراء الحطيم كما يطوف وراء البيت لأن الحطيم من البيت.
وهكذا روي أن عائشة رضي الله عنها نذرت إن فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلي في البيت ركعتين فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأدخلها الحطيم وقال:
"صلي هنا فإن الحطيم من البيت إلا أن قومك قصرت بهم النفقة فأخرجوه من البيت ولولا حدثان عهد قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة وأظهرت قواعد الخليل صلوات الله عليه وأدخلت الحطيم في البيت والصقت العتبة بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا ولئن عشت إلى قابل

 

ج / 4 ص -12-         لأفعلن ذلك". فلم يعش صلى الله عليه وسلم ولم يتفرغ لذلك أحد من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم حتى كان زمن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وكان سمع الحديث فيها ففعل ذلك وأظهر قواعد الخليل صلوات الله عليه وبنى البيت على قواعد الخليل صلوات الله عليه بمحضر من الناس وأدخل الحطيم في البيت فلما قتل كره الحجاج أن يكون بناء البيت على ما فعله بن الزبير فنقض بناء الكعبة وأعاده على ما كان عليه في الجاهلية.
فإذا ثبت أن الحطيم من البيت فالطواف بالبيت كما قال الله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج: 29] ينبغي له أن يطوف من وراء الحطيم ولا يقال لو استقبل الحطيم في الصلاة لا تجوز صلاته ولو كان الحطيم من البيت لجازت لأن كون الحطيم من البيت إنما يثبت بخبر الواحد وفرضية استقبال القبلة بالنص فلا يتأدى بما ثبت بخبر الواحد والحاصل أنه يحتاط في الطواف والصلاة جميعا لأن خبر الواحد يوجب العمل ولا يوجب علم اليقين.
قال: ثم إئت المقام فصل عنده ركعتين أو حيثما تيسر عليك من المسجد هكذا روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أتى المقام وصلى ركعتين وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله لو صليت في مقام إبراهيم فأنزل الله تعالى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}[البقرة: 125] فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المقام ركعتين وهاتان الركعتان عند الفراغ من الطواف واجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين"، والأمر للوجوب ولأن عمر رضي الله عنه نسي ركعتي الطواف حين خرج من مكة فلما كان بذي طوى صلاهما وقال ركعتان مكان ركعتين وقال: "أو حيث تيسر عليك من المسجد"، ومراده أن الزحام يكثر عند المقام فلا ينبغي أن يتحمل المشقة لذلك ولكن المسجد كله موضع الصلاة فيصلي حيث تيسر عليه.
قال: فإذا فرغت منها فعد إلى الحجر فاستلمه فإن لم تستطع فاستقبل وهلل وكبر والأصل أن كان كل طواف بعده سعي يعود إلى استلام الحجر فيه بعد الفراغ من الصلاة وكل طواف ليس بعده سعي لا يعود إلى استلام الحجر فيه بعد الصلاة لأن الطواف الذي ليس بعده سعي عبادة قد تم فراغه منها حين فرغ من الركعتين فلا معنى للعود إلى ما به بدء الطواف فأما الطواف الذي بعده سعي فكما يفتتح طوافه باستلام الحجر فكذلك السعي يفتتح باستلام الحجر فلهذا يعود إلى الحجر فيستلمه.
 قال: ثم أخرج إلى الصفا فمن أي باب شاء خرج إلا أن جابرا رضي الله عنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من باب بني مخزوم وليس ذلك بسنة بل إنما فعله لأنه كان أقرب الأبواب إلى الصفا فهو الذي يسمى الآن باب الصفا فإذا خرج بدأ بالصفا لما روي أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيهما نبدأ قال:
"ابدؤا بما بدأ الله تعالى به"، يريد قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}[البقرة: 158].

 

ج / 4 ص -13-         قال: وقم عليها مستقبل الكعبة فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتكبر وتهلل وتلبي وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتدعو الله تعالى بحاجتك لما روي عن بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا حتى إذا نظر إلى البيت قام مستقبل البيت يدعو وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد الصفا استقبل البيت وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده"، ثم قرأ مقدار خمسة وعشرين آية من سورة البقرة ثم نزل وجعل يمشي نحو المروة فلما انتصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى التوى إزاره بساقيه وهو يقول: "رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم"، حتى إذا خرج من بطن الوادي مشى حتى صعد المروة وطاف بينهما سبعة أشواط.
ثم الصعود على الصفا ليصير البيت بمرأى العين منه فإنما يصعد بقدر ما يحصل به هذا المقصود وهذا المقصود كان ليستقبل البيت فينبغي أن يستقبله فيأتي بالتحميد والثناء والتكبير والتهليل والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن قصده أن يسأل حاجته من الله تعالى فيجعل الثناء مقدمة دعائه وبعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما يفعله الداعي عند ختم القرآن وغير ذلك ثم ذكر الدعاء هنا ولم يذكره عند استلام الحجر لأن تلك الحالة حال ابتداء العبادة وهذا حال ختم العبادة فإن ختم الطواف بالسعي يكون والدعاء عند الفراغ من العبادة لا عند ابتدائها كما في فصل الصلاة.
قال: ثم اهبط منها نحو المروة وامش على هينتك مشيا حتى تأتي بطن الوادي فاسع في بطن الوادي سعيا فإذا خرجت منه تمشي على هينتك مشيا حتى تأتي المروة فتصعد عليها وتقوم مستقبل الكعبة فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتهلل وتكبر وتلبي وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو الله تعالى بحاجتك وللناس في أصل السعي في بطن الوادي كلام فقد قيل بأن أصله من فعل أم إسماعيل هاجر حين كانت في طلب الماء كلما صار الجبل حائلا بينها وبين النظر إلى ولدها كانت تسعى حتى تنظر إلى ولدها شفقة منها على الولد فصار ذلك سنة والأصح أن يقال فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسكه وأمر أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين أن يفعلوا ذلك فنفعله اتباعا له ولا نشتغل بطلب المعنى فيه كما لا نشتغل بطلب المعنى في تقدير الطواف والسعي بسبعة أشواط.
قال: فطف بينهما هكذا سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتختم بالمروة وتسعى في بطن الوادي في كل شوط وظاهر ما قال في الكتاب أن ذهابه به من الصفا إلى المروة شوط ورجوعه من المروة إلى الصفا شوط آخر وإليه أشار في قوله يبدأ بالصفا ويختم بالمروة وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أنه يطوف بينهما سبعة أشواط من الصفا إلى الصفا وهو لا يعتبر رجوعه ولا يجعل ذلك شوطا آخر والأصح ما ذكر في الكتاب لأن رواة نسك رسول

 

ج / 4 ص -14-         الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على أنه طاف بينهما سبعة أشواط وعلى ما قاله الطحاوي رحمه الله تعالى يصير أربعة عشر شوطا.
قال: ثم تقيم بمكة حراما لا تحل منه بشيء وهذا لأنه أحرم بالحج فلا يتحلل ما لم يأت بأفعال الحج.
قال: وتطوف بالبيت كلما بدا لك وتصلي لكل أسبوع ركعتين فإن الطواف بالبيت مشبه بالصلوات قال صلى الله عليه وسلم:
"الطواف بالبيت صلاة"، إلا أن الله تعالى أحل فيه المنطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير والصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر وكذلك الطواف ولكنه لا يسعى عقيب سائر الأطوفة في هذه المدة لأن السعي الواحد من الواجبات للحج وقد أتى به فلو سعى بعد ذلك كان متنفلا به والتنفل بالسعي غير مشروع.
قال: حتى تروح مع الناس إلى منى يوم التروية فتبيت بها ليلة عرفة وتصلي بها الغداة يوم عرفة هكذا روى جابر وبن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر يوم التروية بمكة فلما طلعت الشمس راح إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر يوم عرفة ثم راح إلى عرفات.
قال: ثم تغدو إلى عرفات لحديث بن عمر رضي الله عنه أن جبرائيل صلوات الله عليه أتى إبراهيم يوم التروية فأمره فراح إلى منى وبات بها ثم غدا به إلى عرفات.
قال: وتنزل بها مع الناس لأنه من الناس فينزل حيث ينزلون ومراده أنه لا ينزل على الطريق كيلا يضيق على المارة ولا يتأذى هو بهم.
قال: فإن صليت الظهر والعصر مع الإمام فحسن والحاصل أنه كما زالت الشمس يوم عرفة يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر بعرفات هكذا روى جابر رضي الله عنه في حديثه قال لما زالت الشمس صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر والعصر بأذان وإقامتين وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن لا يخالف بن عمر رضي الله عنه في شيء من أمر المناسك فلما زالت الشمس أتى بن عمر رضي الله عنه سرادقه فقال: أين هذا؟ فخرج الحجاج فقال: إن أردت السنة فالساعة فقال: انتظرني حتى أغتسل فانتظره فاغتسل وراح إلى المصلى والاغتسال في هذا الوقت بعرفات سنة فإن اكتفى بالوضوء أجزأه وإن اغتسل فهو أفضل كما عند الإحرام وكما في العيدين والجمعة ثم يخطب قبل الصلاة خطبتين بينهما جلسة كما في الجمعة والعيدين هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لأن المقصود تعليم الناس المناسك والجمع بين الصلاتين من المناسك فيقدم الخطبة عليه لتعليم الناس ولأنهم بعد الفراغ من الصلاة يتفرقون في الموقف ولا يجتمعون لاستماع الخطبة.
وفي ظاهر المذهب إذا صعد الإمام المنبر فجلس أذن المؤذن كما في الجمعة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يؤذن قبل خروج الإمام لأن هذا الأذان لأداء الظهر كما في

 

ج / 4 ص -15-         سائر الأيام وهذا قوله الأول فإذا فرغ من الخطبة أقام المؤذن وصلى الإمام بالناس الظهر ركعتين إذا كان مسافرا ثم يقوم المؤذن فيقوم ثانية فيصلي بهم العصر من غير أن يتنفل بين الصلاتين هكذا رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه في صفة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لأن تقديم العصر على وقته ليتوصل إلى الوقوف المقصود ولئلا ينقطع وقوفه فلأن لا يشتغل بالنافلة بين الصلاتين ليحصل هذا المقصود أولى وإنما يعيد الإقامة للعصر لأنه معجل على وقته المعهود فيعيد الإقامة له إعلاما للناس وإن اشتغل بالتطوع بين الصلاتين أعاد الأذان للعصر إلا في رواية بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه قال ما دام في وقت الظهر لا يعيد الأذان للعصر فأما في ظاهر الرواية فاشتغاله بالنفل أو بعمل آخر يقطع فور الأذان الأول فيعيد الأذان للعصر.
قال: وإن لم يدرك الجمع مع الإمام وأراد أن يصلي وحده صلى كل صلاة لوقتها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى يجمع بينهما كما يفعل مع الإمام قال في الكتاب بلغنا ذلك عن عائشة وبن عمر رضي الله عنهم وعلل فقال لأن العصر إنما قدمت لأجل الوقت.
ومعنى هذا الكلام: أن الجمع بين الصلاتين إنما جاز لحاجته إلى امتداد الوقوف فإن الموقف هبوط وصعود لا يمكن تسوية الصفوف فيها فيحتاجون إلى الخروج منها والاجتماع لصلاة العصر فينقطع وقوفهم وامتداد الوقوف إلى غروب الشمس واجب فللحاجة إلى ذلك جوز له الجمع بين الصلاتين وفي هذا المنفرد والذي يصلي مع الإمام سواء وقاس هذا الجمع بالجمع الثاني بالمزدلفة فإن الإمام فيه ليس بشرط بالاتفاق وهذا النسك معتبر بسائر المناسك في أنه لا يشترط فيه الإمام وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله تعالى:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}[النساء: 103]أي فرضا مؤقتا.
فالمحافظة على الوقت في الصلاة فرض بيقين فلا يجوز تركه إلا بيقين وهو الموضوع الذي ورد النص به وإنما ورد النص بجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين والخلفاء من بعده فلا يجوز الجمع إلا بتلك الصفة وكأن المعنى فيه أن هذا الجمع مختص بمكان وزمان ومثله لا يجوز إلا بإمام كإقامة الخطبة مقام ركعتين في الجمعة لما كان مختصا بمكان وزمان كان الإمام شرطا فيه بخلاف الجمع الثاني فإنه أداء المغرب في وقت العشاء وذلك غير مختص بمكان وزمان فأما هذا تعجيل العصر على وقته وذلك لا يجوز إلا في هذا المكان وهذا الزمان.
ثم يسلم أن هذا الجمع لأجل الوقوف ولكن الحاجة إلى الجمع للجماعة لا للمفرد لأن المنفرد يمكنه أن يصلي العصر في وقته في موضع وقوفه فإن المصلي واقف فلا ينقطع وقوفه بالاشتغال بالصلاة وإنما يحتاجون إلى الخروج لتسوية الصفوف إذا أدوها بالجماعة ولأنه يشق عليهم الاجتماع فإنهم بعد الفراغ من الصلاة يتفرقون في الموقف فيختار كل

 

ج / 4 ص -16-         واحد منهم موضعا خاليا يناجي فيه ربه عز وجل وهذا المعنى ينعدم في حق المنفرد لأنه يمكنه أداء العصر في وقته في موضع خلوته وحديث عائشة وبن عمر رضي الله تعالى عنهم محمول على الإمام الأجل وهو الخليفة أنه ليس بشرط ثم يعارضه قول بن مسعود رضي الله تعالى عنه يصلي المنفرد كل صلاة لوقتها.
قال: ولو فاته الظهر مع الإمام وأدرك العصر معه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لم يجمع بينهما أيضا وعند زفر رحمه الله تعالى يجمع بينهما لأن التغيير إنما وقع في العصر فإنها معجلة على وقتها واشتراط الإمام لوقوع التغيير فيقتصر على ما وقع فيه التغيير.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن العصر في هذا اليوم كالتبع للظهر لأنهما صلاتان أديتا في وقت واحد والثانية منهما مرتبة على الأولى فكان بمنزلة العشاء مع الوتر فكما أن الوتر تبع للعشاء فكذلك العصر تبع للظهر هنا ولما جعل الإمام شرطا في التبع كان شرطا في الأصل بطريق الأولى ودليل التبعية أنه لا يجوز العصر في هذا اليوم إلا بعد صحة أداء الظهر حتى لو تبين في يوم الغيم إنهم صلوا الظهر قبل الزوال والعصر بعده لزمهم إعادة الصلاتين وكذلك لو جدد الوضوء بين الصلاتين ثم تبين أنه صلى الظهر بغير وضوء لزمه إعادة الصلاتين بخلاف سائر الأيام.
وعلى هذا الإحرام بالحج شرط لأداء هاتين الصلاتين حتى أن الحلال إذا صلى الظهر مع الإمام ثم أحرم بالحج فصلى العصر والمحرم بالعمرة صلى الظهر مع الإمام ثم أحرم بالحج فصلى العصر معه لم يجزه العصر إلا في وقتها وعند زفر رحمه الله تعالى يجزيه وفي إحدى الروايتين يشترط لهذا الجمع أن يكون محرما بالحج قبل زوال الشمس لأن بزوال الشمس يدخل وقت الجمع ويختص بهذا الجمع المحرم بالحج فيشترط تقديم الإحرام بالحج على الزوال.
وفي الرواية الأخرى وإن أحرم بالحج بعد الزوال فله أن يجمع بين الصلاتين لأن اشتراط الإحرام بالحج لأجل الصلاة لا لأجل الوقت فإذا صلى العصر راح إلى الموقف فوقف به ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويلبي ويدعو الله تعالى بحاجته والحاصل فيه أنه يقف في أي موضع شاء من الموقف والأفضل أن يقف بالقرب من الإمام لأن الإمام يعلم الناس ما يحتاجون إليه ويدعو فمن كان أقرب إليه كان أقرب إلى الاستماع والتأمين على دعائه فيكون أفضل.
قال: وينبغي أن يقف مستقبل القبلة إن شاء راكبا وإن شاء على قدميه وقد ذكر جابر رضي الله عنه في حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على راحلته وجعل نحرها إلى بطن المحراب فوقف عليها مستقبل القبلة يدعو وفي الحديث:
"خير المواقف ما استقبلت به القبلة"، وإن اختار بوقوفه موضعا آخر بالبعد من الإمام جاز لحديث عطاء رحمه الله تعالى،

 

ج / 4 ص -17-         أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرفة كلها موقف وفجاج مكة كلها منحر". وفي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن وادي محسر وفي وقوفه يدعو"، هكذا رواه علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره اللهم اجعل لي في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري"، حديث فيه طول وقد بينا أنه يختار من الدعاء ما يشاء واجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء في هذا الموقف لأمته فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم.
قال: ويلبي في هذا الموقف عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى الحاج يقطع التلبية كما يقف بعرفة لأن إجابته باللسان إلى أن يحضر وقد تم حضوره فإن معظم أركان الحج الوقوف بعرفة قال صلى الله عليه وسلم:
"الحج عرفة"، ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه لبى عشية عرفة فقال له رجل يا شيخ ليس هذا موضع التلبية فقال بن مسعود رضي الله عنه أجهل الناس أم طال بهم العهد؟ لبيك عدد التراب لبيك حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة ولأن التلبية في هذه العبادة كالتكبير في الصلوات وكما يأتي بالتكبير إلى آخر الصلاة فكذلك يأتي بالتلبية هنا إلى وقت الخروج من الإحرام وذلك عند الرمي يكون.
قال: وإذا غربت الشمس دفع على هينته على هذا اتفق رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وقف بعرفة حتى إذا غربت الشمس دفع منها وروي أنه خطب عشية عرفة فقال:
"أيها الناس إن أهل الجاهلية والأوثان يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس إذا تعممت بها رؤوس الجبال كعمائم الرجال في وجوههم وإن هدينا ليس كهديهم فادفعوا بعد غروب الشمس". فقد باشر ذلك وأمر به إظهارا لمخالفة المشركين فليس لأحد أن يخالف ذلك إلا أنه إن خاف الزحام فتعجل قبل الإمام فلا بأس به إذا لم يخرج من حدود عرفة قبل غروب الشمس وكذلك إن مكث قليلا بعد غروب الشمس وذهاب الإمام مع الناس لخوف الزحام فلا بأس به بعد أن لا يطوله لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها بعد إفاضة الإمام دعت بشراب فأفطرت ثم أفاضت.
قال: ويمشى على هينته في الطريق هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أيها الناس ليس البر في إيجاف الخيل ولا في إيضاع الإبل عليكم بالسكينة والوقار". وروى جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي على راحلته في الطريق على هينته حتى إذا كان في بطن الوادي أوضع راحلته وجعل يقول:

 إليك تعدو قلقا وضينها                          مفارقا دين النصاري دينها

 

 معترضا في بطنها جنينها

 

ج / 4 ص -18-         فزعم بعض الناس أن الإيضاع في هذا الموضع سنة ولسنا نقول به وتأويله أن راحلته كلت في هذا الموضع فبعثها فانبعثت كما هو عادة الدواب لا أن يكون قصده الإيضاع.
قال: ولا يصلي المغرب في الطريق حتى يأتي المزدلفة لما روي أن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق من المزدلفة فقال: الصلاة يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام:
"الصلاة أمامك"، ومراده من هذا اللفظ إما الوقت أو المكان ولم يصل حتى انتهى إلى المزدلفة فكان ذلك دليلا ظاهرا على أنه لا يشتغل بالصلاة قبل الإتيان إلى المزدلفة فإذا أتى المزدلفة نزل بها مع الناس وإنما ينزل عن يمين الطريق أو عن يساره ويتحرز عن النزول على الطريق كيلا يضيق على المارة ولا يتأذى هو بهم فيصلي المغرب والعشاء بأذان وإقامة واحدة وقال زفر رحمه الله تعالى بأذان وإقامتين هكذا رواه بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر جابر رضي عنه يروي أنه جمع بينهما بأذان وإقامة واحدة والمراد بحديث بن عمر رضي الله عنه هذا أيضا إلا أنه سمى الأذان إقامة وكل واحد منهما يسمى باسم صاحبه قال صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة لمن شاء", يريد بين الأذان والإقامة ثم العشاء هنا مؤداة في وقتها المعهود فلا تقع الحاجة إلى إفراد الإقامة لها بخلاف العصر بعرفات فإنها معجلة على وقتها وإن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الإقامة فتأويله أنه اشتغل بين الصلاتين بنفل أو شغل آخر وعندنا في مثل هذا الموضع تفرد الإقامة للعشاء وقد ذكر في بعض روايات بن عمر رضي الله عنه أنه تعشى بعد المغرب ثم أفرد الإقامة للعشاء.
قال: ثم يبيت بها فإذا انشق الفجر صلى الفجر بغلس هكذا رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى العشاء بالمزدلفة بسط له شيء فبات عليه فلما طلع الفجر صلى الفجر وقال بن مسعود رضي الله عنه ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة قبل ميقاتها إلا صلاة الفجر صبيحة الجمع فإنه صلاها يومئذ بغلس ولأن الأسفار بالفجر وإن كان أفضل في سائر المواضع ففي هذا الموضع التغليس أفضل لحاجته إلى الوقوف بعده وفي الأسفار بعض التأخير في الوقوف فإذا كان يجوز تعجيل العصر على وقتها للحاجة إلى الوقوف بعدها فلأن يجوز التغليس بالفجر كان أولى.
قال: ثم يقف بالمشعر الحرام مع الناس يحمد الله تعالى ويثني عليه ويهلل ويكبر ويلبي ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الله تعالى بحاجته وهذا الوقوف منصوص عليه في القرآن والوقوف بعرفات مشار إليه في قوله تعالى:
{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}[البقرة: 198]. وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع يدعو حتى قال بن عباس رضي الله عنه رأيت يديه عند نحره بالمشعر الحرام وهو يدعو كالمستطعم المسكين وإنما تم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف فإنه دعا لأمته فاستجيب له في الدماء والمظالم أيضا

 

ج / 4 ص -19-         والناس في الجاهلية كانوا متفقين على هذا الموقف مختلفين في الوقوف بعرفة فإن الحمس كانوا لا يقفون بعرفة ويقولون لا يعظم غير الحرم حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف بعرفة جعل الناس يتعجبون ويقولون فيما بينهم هذا من الحمس فما باله خرج من الحرم فعرفنا أنه ينبغي أن لا يترك الوقوف بالمشعر الحرام حتى إذا أسفر جدا دفع قبل أن تطلع الشمس هكذا رواه جابر وبن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بالمشعر الحرام حتى إذا كادت الشمس أن تطلع دفع إلى منى وإن أهل الجاهلية كانوا لا يدفعون من هذا الموقف حتى تطلع الشمس فإذا طلعت وصارت كالعمائم على رؤوس الجبال دفعوا وكانوا يقولون أشرق ثبير كيما نغير فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع قبل طلوع الشمس فيجب الأخذ بفعله لما فيه من إظهار مخالفة المشركين كما في الدفع من عرفات.
فإذا أتى منى يأتي جمرة العقبة ويرميها من بطن الوادي بسبع حصيات مثل حصى الخذف لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى منى يوم النحر لم يعرج على شيء حتى رمى جمرة العقبة وقال:
"أول نسكنا هنا بمنى أن نرمي ثم نذبح ثم نحلق"، ويرميها من بطن الوادي لما روي أن بن مسعود رضي الله عنه وقف في بطن الوادي فرمى سبع حصيات فقيل له إن ناسا يرمونها من فوقها فقال: أجهل الناس أم نسوا هذا؟ والله الذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة.
وهكذا نقل عن بن عمر رضي الله عنهما أنه رمى جمرة العقبة من بطن الوادي وقال هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يرمي مثل حصى الخذف لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بن عباس رضى الله عنهما أن يناوله سبع حصيات فأخذهن بيده وجعل يقول للناس:
"بمثل هذا فارموا" وفي رواية: "عليكم بحصى الخذف لا يؤذي بعضكم بعضا"، والمقصود اتباع سنة الخليل عليه السلام وبهذا القدر يحصل المقصود فلو رمى بأكبر من حصى الخذف ربما يصيب إنسانا فيؤذيه ويكبر مع كل حصاة ويقطع التلبية عند أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة.
أما قطع التلبية عند الرمي فقد رواه بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة وأما التكبير عند كل حصاة فقد رواه بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن سالم بن عبد الله أنه لما أراد الرمي وقف في بطن الوادي وجعل يقول عند رمي كل حصاة:
"بسم الله والله أكبر اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا"، ثم قال: هكذا حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عند كل حصاة مثل ما قلت.
قال: وابتداء وقت الرمي عندنا من وقت طلوع الفجر من يوم النحر وعلى قول سفيان الثوري رحمه الله تعالى من وقت طلوع الشمس وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز الرمي بعد النصف الأول من ليلة النحر واستدل الثوري رحمه الله تعالى بحديث ابن

 

ج / 4 ص -20-         عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله من المزدلفة وجعل يلظخ أفخاذهم ويقول: "أغيلمة بني عبد المطلب لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس". وحجتنا في ذلك ما روي أنه لما قدم ضعفة أهله قال:"أي بني لا ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين"، فنعمل بالحديثين جميعا فنقول بعد الصبح يجوز وتأخيره إلى ما بعد طلوع الشمس أولى واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا ليلا.
وتأويل ذلك عندنا في الليلة الثانية والثالثة دون الأولى والمعنى فيه أن دخول وقت الرمي بخروج وقت الوقوف إذ لا يجتمع الرمي والوقوف في وقت واحد ووقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر فوقت الرمي يكون بعده أو وقت الرمي هو وقت التضحية وإنما يدخل وقت التضحية بطلوع الفجر الثاني فكذلك وقت الرمي.
قال: ولا يرمي يومئذ من الجمار غيرها لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم في اليوم الأول إلا جمرة العقبة.
قال: ولا يقوم عندها لأنه قد بقي عليه أعمال يحتاج إلى أدائها في هذا اليوم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم عند جمرة العقبة ولكنه يأتي منزله فيحلق أو يقصر والحلق أفضل لأنه جاء أوان التحلل عن الإحرام والتحلل بالحلق أو بالتقصير كما أشار الله عز وجل إليه في قوله:
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}[الحج: 29] وقضاء التفث بالحلق يكون وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح هداياه دعى بالحلاق فأهوى إليه الشق الأيمن من رأسه فحلقه وقسم شعره على أصحابه رضي الله تعالى عنهم ثم حلق الشق الأيسر وأعطى شعره أم سليم رضي الله تعالى عنها ولم يذكر الذبح هنا لأنه من حكم المفرد بالحج وليس عليه هدي وهو مسافر أيضا لا تلزمه التضحية ولكنه لو تطوع بذبح الهدي فهو حسن يذبحه بعد الرمي قبل الحلق لما روينا أن أول نسكنا أن نرمي ثم نذبح ثم نحلق والحلق أفضل من التقصير لأن الله تعالى بدأ به في كتابه في قوله:{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}[الفتح: 27] وقال: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196] فهذا بيان أنه ينبغي أن يتحلل بالحلق وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين", فقيل والمقصرين؟ فقال: "رحم الله المحلقين", حتى قال في الرابعة: "والمقصرين" فقد ظاهر في هذا الدعاء ثلاث مرات للمحلقين فدل أنه أفضل.
قال: ثم قد حل له كل شيء إلا النساء فالحاصل أن في الحج إحلالين أحدهما بالحلق والثاني بالطواف فبالحلق يحل له كل شيء كان حراما على المحرم إلا النساء وقال مالك رحمه الله تعالى إلا النساء والطيب وقال الليث رحمه الله تعالى إلا النساء وقتل الصيد لأنهما محرمان بنص القرآن فلا ترتفع حرمتهما إلا بتمام الإحلال ولكنا نقول قتل الصيد ليس نظير الجماع ألا يرى أن الإحرام يفسد بالجماع وقتل الصيد لا يفسده فكان هو نظير سائر المحظورات يرتفع بالحلق ومالك رحمه الله تعالى يقول: استعمال الطيب من

 

ج / 4 ص -21-         دواعي الجماع فلا يحل إلا بالطواف كنفس الجماع وحجتنا حديث عائشة رضي الله عنها كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت واستعمال الطيب لا يفسد الإحرام بحال بخلاف النساء فكان قياس سائر المحظورات ولهذا الأصل قال الشافعي رحمه الله تعالى حرمة الجماع فيما دون الفرج ترتفع بالحلق أيضا لأنه لا يفسد الإحرام بحال ولكنا نقول ما يقصد منه قضاء الشهوة بالنساء فحله مؤخر إلى تمام الإحلال بالطواف شرعا وفي ذلك الجماع في الفرج وفيما دون الفرج سواء.
قال: ثم يزور من يومه ذلك البيت إن استطاع أو من الغد أو من بعد الغد ولا يؤخره إلى ما بعد ذلك فيطوف به أسبوعا ويصلي ركعتين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق أفاض إلى مكة فطاف بالبيت ثم عاد إلى منى وصلى الظهر بمنى وفي بعض الروايات أنه أتى بمكة ليلا فطاف ووجه التوفيق أنه في أيام منى كان يأتي مكة بالليل مستترا فيطوف فمن رأى ذلك منه ظن أن طوافه ذلك للزيارة فنقل كما وقع عنده وإنما طاف للزيارة قبل الظهر وطواف الزيارة ركن الحج وهو الحج الأكبر في تأويل قوله تعالى:
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}[التوبة: 3] ووقته أيام النحر فلا ينبغي أن يؤخره عن أيام النحر والأفضل أداؤه في أول أيام النحر كالتضحية لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها".
ثم لم يذكر السعي عقيب هذا الطواف لأنه قد سعى عقيب طواف التحية وليس عليه في الحج إلا سعي واحد فإن قيل السعي واجب أو ركن وطواف التحية سنة فكيف يترتب ما هو واجب على ما هو سنة قلنا نعم لكن الشرع جوز له أداء هذا الواجب عقيب طواف هو سنة للتيسير فإن الطواف الذي هو ركن لا يجوز قبل يوم النحر وفي يوم النحر على الحاج أعمال كثيرة ولو وجب عليه أداء السعي في هذا اليوم لحقته المشقة فللتيسير جوز له أداء السعي عقيب طواف التحية فلا يعيده يوم النحر.
وكذلك لا يرمل في طوافه يوم النحر لأن الرمل سنة أول طواف يأتي به في الحج فقد أتى به في طواف التحية فلا يعيده في طواف الزيارة لكنه يصلى ركعتين عقيب الطواف لأن ختم كل طواف يكون بركعتين واجبا كان الطواف أو نفلا ثم قد حل له النساء لأنه تم إحلاله ثم يرجع إلى منى فإذا كان الغد من يوم النحر رمي الجمار الثلاث بعد زوال الشمس يبدأ بالتي تلي المسجد فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يأتي المقام الذي يقوم فيه الناس فيقوم فيه فيحمد الله جلت قدرته ويثني عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو بحاجته ثم يأتي الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات كذلك ثم يقوم حيث يقوم الناس فيصنع في قيامه كما صنع في الأول ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها من بطن الوادي بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة ولا يقيم عندها هكذا رواه جابر رضي الله عنه مفسرا فيما نقل من نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ج / 4 ص -22-         والحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: عند افتتاح الصلاة وعند القنوت في الوتر وفي العيدين وعند استلام الحجر وعلى الصفا والمروة وبعرفات وبجمع عند المقامين عند الجمرتين", وهذا دليل على أنه إنما يقيم عند الجمرتين الأولى والوسطى ولا يقيم عند جمرة العقبة والمراد من رفع اليدين الرفع للدعاء دل على أن الدعاء عند المقامين وينبغي للحاج أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات في دعائه في هذا الموقف قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج". والحاصل أن كل رمي بعده رمي فحال الفراغ منه حال وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه وكل رمي ليس بعده رمي فبالفراغ منه قد فرغ من العبادة فلا يقيم بعده للدعاء ولم يذكر في الكتاب أن الرمي ماشيا أفضل أم راكبا.
وحكي عن إبراهيم الجراح قال دخلت على أبي يوسف رحمه الله تعالى في مرضه الذي مات فيه ففتح عينيه وقال الرمي راكبا أفضل أم ماشيا فقلت ماشيا فقال أخطأت فقلت راكبا فقال أخطأت ثم قال كل رمي كان بعده وقوف فالرمي فيه ماشيا أفضل وما ليس بعده وقوف فالرمي راكبا أفضل فقمت من عنده فما انتهيت إلى باب الدار حتى سمعت الصراخ لموته فتعجبت من حرصه على العلم في مثل تلك الحالة.
والذي رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار كلها راكبا إنما فعله ليكون أشهر للناس حتى يقتدوا به فيما يشاهدون منه ألا ترى أنه قال:
"خذوا عني مناسككم فلا أدري لعلي لا أحج بعد هذا العام؟" فإذا كان من الغد رمى الجمار الثلاث حين تزول الشمس كذلك ثم ينفر إن أحب من يومه فإن أقام إلى الغد وهو آخر أيام التشريق فعل كما فعل بالأمس لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة: 203].
قال: وقد كان يكره له أن ينفر قبل أن يقدم ثقله لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يمنع الناس منه ويؤدب عليه ولأنه شغل قلبه بهم إذ قدمهم قبله وربما يمنعه شغل القلب من إتمام سنة الرمي ولا يأمن أن يضيع شيء من أمتعتهم فلهذا كره له أن يقدم ثقله.
قال: ثم يأتي الأبطح فينزل به ساعة وهذا اسم موضع قد نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من منى إلى مكة يسمى المحصب والأبطح وكان بن عباس رضي الله عنهما يقول ليس النزول فيه بسنة ولكنه موضع نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقا والأصح عندنا أنه سنة وإنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدا على ما روي أنه قال لأصحابه رضي الله عنهم بمنى:
"إنا نازلون غدا بالخيف خيف بني كنانة حيث تقاسم المشركون فيه على شركهم", يريد به الإشارة إلى عهد المشركين في ذلك الموضع على هجران بني هاشم فعرفنا أنه نزوله إراءة للمشركين لطيف صنع الله تعالى به فيكون النزول فيه سنة بمنزلة الرمل في الطواف.

 

ج / 4 ص -23-         قال ثم يطوف طواف الصدر ويصلي ركعتين لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف"، ورخص للنساء الحيض ويسمى هذا الطواف طواف الوداع وطواف الصدر لأنه يودع به البيت ويصدر به عن البيت.
 قال: ثم يرجع إلى أهله وقد قال شيخنا الإمام رحمه الله تعالى يستحب له أن يأتي الباب ويقبل العتبة ويأتي الملتزم فيلتزمه ساعة يبكي ويتشبث بأستار الكعبة ويلصق جسده بالجدار إن تمكن ثم يأتي زمزم فيشرب من مائه ثم يصب منه على بدنه ثم ينصرف وهو يمشي وراءه ووجهه إلى البيت متباكيا متحسرا على فوات البيت حتى يخرج من المسجد فهذا بيان تمام الحج الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
"من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
 قال: وإن كان الذي أتى مكة لطواف الزيارة بات بها فنام متعمدا أو في الطريق فقد أساء وليس عليه شيء إلا الإساءة لما روي أن عمر رضي الله عنه كان يؤدب الناس على ترك المقام بمنى في ليالي الرمي ولكن ليس عليه شيء عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن ترك البيتوتة ليلة فعليه مد وإن ترك ليلتين فعليه مدان وإن ترك ثلاث ليال فعليه دم.
 وقاس ترك البيتوتة في وجوب الجزاء به بترك الرمي ولكنا نستدل بحديث العباس رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيتوتة بمكة في ليالي الرمي لأجل السقاية فأذن له في ذلك ولو كان ذلك واجبا ما رخص له في تركه لأجل السقاية ولأن هذه البيتوتة غير مقصودة بل هي تبع للرمي في هذه الأيام فتركها لا يوجب إلا الإساءة كالبيتوتة بمزدلفة ليلة يوم النحر والله أعلم.

باب القران
 قال رضي الله عنه ومن أراد القران فعل مثل ذلك والكلام هنا في فصول:
أحدها: في تفسير القران والتمتع والإفراد فالقران هو الجمع بين الحج والعمرة بأن يحرم بهما أو يحرم بالحج بعد إحرام العمرة قبل أداء الأعمال من قولهم قرن الشيء إلى الشيء إذا جمع بينهما والتمتع هو الترفق بأداء النسكين في سفر واحد من غير أن يلم بينهما بأهله إلماما صحيحا والإفراد بالحج أن يحج أولا ثم يعتمر بعد الفراغ من الحج أو يؤدي كل نسك في سفر على حدة أو يكون أداء العمرة في غير أشهر الحج.
والفصل الثاني: في بيان الأفضل فعندنا الأفضل هو القران ثم بعده التمتع وعلى رواية بن شجاع عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الإفراد أفضل من التمتع وعن محمد رحمه الله تعالى قال حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل عندي من القران وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى الإفراد أفضل من القران وعلى قول مالك رحمه الله تعالى:

 

ج / 4 ص -24-         التمتع أفضل من القران فالشافعي استدل بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا بالحج وأنا ممن كنت أفرد وهكذا روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا بالحج وإنما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مرة فما كان يترك ما هو الأفضل فيما يؤديه مرة واحدة.
ولأن القران رخصة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:
"إنما أجرك على قدر تعبك ونصبك وإنما القران رخصة والإفراد عزيمة والتمسك بالعزيمة خير من التمسك بالرخصة".
ولأن في الإفراد زيادة الإحرام والسعي والحلق فإن القارن يؤدي النسكين بسفر واحد ويلبي لهما تلبية واحدة ويحلق لهما حلقا واحدا ولأجل هذا النقصان يجب عليه الدم جبرا والمفرد يؤدي كل نسك بصفة الكمال وأداء النسك بصفة الكمال يكون أفضل من إدخال النقصان والجبر فيها ومالك رحمه الله تعالى استدل بحديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج وعلماؤنا رحمهم الله تعالى استدلوا بحديث علي وبن مسعود وعمران بن الحصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى سعيين.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقصع بجرتها ولعابها يسيل على كتفي وهو يقول:
"لبيك بحجة وعمرة معا". وأهل الحديث جمعوا رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا ثلاثين نفرا فعشرة منهم تروي أنه كان قارنا وعشرة أنه كان مفردا وعشرة أنه كان متمتعا فنوفق بين هذه الروايات فنقول لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بالعمرة فسمعه بعض الناس ثم رأوه بعد ذلك حج فظنوا أنه كان متمتعا فنقلوا كما وقع عندهم ثم لبى بعد ذلك بالحج فسمعه قوم آخرون فظنوا أنه كان مفردا بالحج ثم لبى بهما فسمعه قوم آخرون فعلموا أنه كان قارنا وكل نقل ما وقع عنده وهو نظير ما روينا من توفيق بن عباس رضي الله عنه في اختلاف الروايات في وقت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم لما وقع الاختلاف في فعله نصير إلى قوله وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"أتاني آت من ربي وأنا بالعقيق فقال: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل لبيك بحجة وعمرة معا". وقال صلى الله عليه وسلم: "يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا"، ولأن في القران معنى الوصل والتتابع في العبادة ومعنى الجمع بين العبادتين وهو أفضل من إفراد كل واحد منهما كالجمع بين الصوم والاعتكاف والجمع بين الحراسة في سبيل الله تعالى مع صلوات الليل ولأن في القران زيادة نسك وهو إراقة دم الهدي وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الحج العج والثج"، والثج إراقة الدم.
والكلام في الحقيقة ينبني على هذا الحرف فإن دم القران عنده دم جبر حتى لا يباح التناول منه وعندنا هو دم نسك يباح التناول منه والدليل على أنه دم نسك أنه يتوقف بأيام النحر

 

ج / 4 ص -25-         كالأضحية ودم الجبر لا يتوقت به وإن سببه مباح محض ودم الجبر يستدعي سببا محظورا لأن النقصان إنما يتمكن بارتكاب ما لا يحل.
وقد تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم من هداياه على ما روي أنه ساق مائة بدنة فنحر نيفا وستين بنفسه وولى الباقي عليا رضي الله عنه ثم أمر أن يؤخذ من كل واحدة قطعة فتطبخ له فأكل من لحمها وحسا من مرقها وقد صح عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا فدل أن دم القران يباح التناول منه وإذا ثبت أنه دم نسك فما يكون فيه زيادة نسك فهو أفضل ولهذا جعل التمتع أفضل من الإفراد في ظاهر الرواية لأن فيه زيادة نسك إلا أن القران أفضل منه لما فيه من زيادة التعجيل بالإحرام بالحج واستدامة إحرامهما من الميقات إلى أن يفرغ منهما وفي حق المتمتع العمرة ميقاتية والحجة مكية.
وعلى رواية بن شجاع رحمه الله تعالى الإفراد أفضل من التمتع لهذا المعنى أن حجة المتمتع مكية يحرم بها من الحرم والمفرد يحرم بكل واحد منهما من الحل ولهذا جعل محمد رحمه الله تعالى الإفراد بكل واحد منهما من الكوفة أفضل لأنه ينشئ سفرا مقصودا لكل واحد منهما وقد صح أن عمر رضي الله عنه نهى الناس عن المتعة فقال متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهي الناس عنهما متعة النساء ومتعة الحج وتأويله أنه كره أن يخلو البيت عن الزوار في غير أشهر الحج فأمرهم أن يعتمروا بسفر مقصود في غير أشهر الحج كيلا يخلو البيت من الزوار في شيء من الأوقات لا أن يكون التمتع مكروها عنده بدليل حديث الصبي بن معبد قال كنت امرأ نصرانيا فأسلمت فوجدت الحج والعمرة واجبتين علي فقرنت بينهما فلقيت نفرا من الصحابة فيهم زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة رضي الله عنهما فقال أحدهما لصاحبه هو أضل من بعيره فلقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبرته بذلك فقال ما قالا ليس بشيء هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
إذا عرفنا هذا فنقول من أراد القران فتأهبه للإحرام كتأهب المفرد على ما بينا إلا أنه في دعائه بعد الفراغ من الركعتين يقول اللهم إني أريد العمرة والحج وكذلك يلبي بهما ويقول لبيك بعمرة وحجة معا وإنما يقدم ذكر العمرة لأن الله تعالى قدمها في قوله تعالى:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}[البقرة: 196] ولأنه في أداء الأفعال يبدأ بالعمرة فكذلك في الإحرام يبدأ في التلبية بذكر العمرة وإن اكتفى بالنية ولم يذكرهما في التلبية اجزأه على قياس الصلاة إذا نوى بقلبه الصلاة وكبر.
قال: ثم يبدأ إذا دخل مكة بطواف العمرة بالبيت وسعى بين الصفا والمروة على نحو ما وصفنا في الحج ثم يطوف للحج بالبيت ويسعى له بين الصفا والمروة وهذا عندنا أن القارن يطوف طوافين ويسعي سعيين وعند الشافعي رحمه الله تعالى يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا واحتج بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف لحجته وعمرته طوافا

 

ج / 4 ص -26-         واحدا وسعى سعيا واحدا هكذا رواه الشافعي وهو منه تناقض بين فإنه روى عن عائشة رضي الله عنها في المسألة الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا ثم روى في هذه المسألة أنه كان قارنا وطاف لهما طوافا واحدا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: "طوافك بالبيت يكفيك لحجك ولعمرتك". وقال صلى الله عليه وسلم "دخلت العمرة في الحجة إلى يوم القيامة", والمعنى فيه: أن مبنى القران على التداخل ألا ترى أنه يكتفي لهما بتلبية واحدة وسفر واحد وحلق واحد فكذلك يثبت التداخل في الأركان.
ولأن العمرة تبع للحج فهي من الحج بمنزلة الوضوء مع الاغتسال فكما يدخل الوضوء في الاغتسال فكذلك العمرة في الحج وحجتنا حديث علي رضي الله عنه وبن مسعود وعمران بن الحصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن وطاف لهما طوافين وسعى سعيين وحديث الصبي بن معبد أنه قرن وطاف طوافين وسعى سعيين فقال له عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
وفي الكتاب ذكر عن علي رضي الله عنه أنه قال يطوف القارن طوافين ويسعى سعيين والمعنى فيه أن القران ضم الشيء إلى الشيء وإنما يتحقق ذلك لأداء عمل كل نسك بكماله ولأن كل واحد منهما عبادة محضة ولا تداخل في أعمال العبادات إنما التداخل فيما يندرى ء بالشبهات ألا ترى أنه لا يتداخل أشواط طواف واحد وسعي واحد ومعنى الدخول المذكور في الحديث الوقت أي دخل وقت العمرة في وقت الحج على معنى أنه يؤديهما في وقت واحد والسفر والتلبية والحلق غير مقصودة إنما السفر للتوصل إلى أداء النسك والتلبية للتحرم والحلق للتحلل فلا تكون مقصودة وإنما المقصود أركان العبادة ألا ترى أن أداء شفعين من التطوع بتكبيرة واحدة وتسليمة واحدة يجوز ولا يدخل أحد الشفعين في الآخر والوضوء مع الاغتسال غير مقصود بل المقصود تطهير البدن ليقوم إلى المناجاة طاهرا وقد حصل ذلك بالاغتسال وهنا كل نسك مقصود فيلزمه أداء أعمال كل واحد منهما والحديث الذي رواه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها:
"طوافك بالبيت يكفيك لحجك وعمرتك"، لا يكاد يصح فإنها قد رفضت العمرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حاضت بسرف على ما نبينه من بعد إن شاء الله تعالى.
قال: ثم يأنى بالأعمال حتى إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر ذبح هدى القران وتجزئه الشاة لقوله تعالى:
{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: 196] قال بن عباس رضي الله تعالى عنه ما استيسر من الهدي شاة وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال اشتركنا حين كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقرة سبعة وفي البدنة سبعة وفي الشاة واحد والبقرة أفضل من الشاة والجزور أفضل من البقرة لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ}[الحج: 32] فما كان أقرب في التعظيم فذلك أفضل وقد نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة في حجة الوداع ولو كان ساق هداياه

 

ج / 4 ص -27-         مع نفسه كان أفضل من ذلك كله لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق الهدايا مع نفسه وقلدها هكذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلدها بيده وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أحل منهما جميعا". وفي رواية: "فلا أحل حتى أنحر". ولهذه الرواية قال الشافعي رحمه الله تعالى تحلل القارن بالذبح لا بالحلق ولكنا نقول التحلل يحصل بالحلق كما في حق المفرد وتأويل الحديث حتى أنحر ثم أحلق بعده على ما روينا أنه حلق رأسه بعد ذبح الهدايا ولأن التحلل من العبادة بما لا يحل في أثنائها كالسلام في الصلاة وذلك بالحلق أو التقصير دون الذبح.
قال: وإذا طاف الرجل بعد طواف الزيارة طوافا ينوي به التطوع أو طواف الصدر وذلك بعد ما حل النفر فهو طواف الصدر لأنه أتى به في وقته فيكون عنه وإن نوى غيره كمن نوى بطواف الزيارة يوم النحر التطوع يكون للزيارة بل أولى لأن ذلك ركن وهذا واجب.
قال: ولا بأس بأن يقيم بعد ذلك ما شاء ثم يخرج ولكن الأفضل أن يكون طوافه حين يخرج وعن أبي يوسف والحسن رحمهما الله تعالى قالا إذا اشتغل بعمل مكة بعد طواف الصدر يعيد طواف الصدر لأنه كاسمه يكون للصدر فإنما يحتسب به إذا أداه حين يصدر وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:
"وليكن آخر عهده الطواف بالبيت"، يشهد لهذا ولكنا نقول ما قدم مكة إلا لأداء النسك فعندما تم فراغه منها جاء أوان الصدر فطوافه بعد ذلك يكون للصدر وتأويل الحديث أن آخر نسكه طواف الصدر لا آخر عمله بمكة وأما العمرة المفردة إذا أرادها يتأهب لها مثل ما وصفناه في الحج إذا أراد الإحرام بها عند الميقات وكذلك إن كان بمكة وأراد أن يعتمر خرج من الحرم إلى الحل من أي جانب شاء وأقرب الجوانب التنعيم وعنده مسجد عائشة رضي الله عنها وسبب ذلك أنها قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل نسائك ينصرفن بنسكين وأنا بنسك واحد فأمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم مكان عمرتها يعني مكان العمرة التي رفضتها على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك الوقت عرف الناس موضع إحرام العمرة فيخرجون إليه إذا أرادوا الإحرام بالعمرة وهو من جملة ما قيل ما نزل بعائشة رضي الله عنها أمر تكرهه إلا كان للمسلمين فيه فرج ثم بعد إحرامه يتقي ما يتقيه في إحرام الحج على ما ذكرنا حتى يقدم مكة ويدخل المسجد فيبدأ بالحجر فيستلمه ويطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم يحلق أو يقصر وقد فرغ من عمرته وحل له كل شيء هكذا فعل رسول الله في عمرة القضاء حين اعتمر من الجعرانة. والاختلاف في فصول:
أحدها: أن عندنا يقطع التلبية في العمرة حين يستلم الحجر الأسود عند أول شوط من الطواف بالبيت وعند مالك رحمه الله تعالى كما وقع بصره على البيت يقطع التلبية لأن العمرة زيارة البيت وقد تم حضوره بوقوع بصره على البيت ولأن هذا الطواف هو الركن في

 

ج / 4 ص -28-         العمرة بمنزلة طواف الزيارة في الحج فكما يقدم قطع التلبية هناك على الاشتغال بالطواف فهنا يقدم قطع التلبية على الاشتغال بالطواف ولكنا نستدل بحديث بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء قطع التلبية حين استلم الحجر الأسود والمعنى فيه أن قطع التلبية هنا عند الطواف بالاتفاق لأن مالكا رحمه الله تعالى اعتبر وقوع بصره على البيت ورؤية البيت غير مقصودة إنما المقصود الطواف فينبغي أن يكون القطع مع افتتاح الطواف وذلك عند استلام الحجر كما قلنا في الحج أن قطع التلبية عند الرمي وذلك مع أول حصاة يرمي بها.
والثاني: أن في العمرة بعد الطواف والسعي يحلق عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى لا حلق عليه إنما العمرة الطواف والسعي فقط وحجتنا قوله تعالى:
{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}[الفتح: 27] وهو بشرى لهم بما عاينوه في عمرة القضاء وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالحلق وحلق رأسه في عمرة القضاء ولأن التحرم للإحرام بالتلبية والتحلل بالحلق فكما سوى بين إحرام العمرة وإحرام الحج في التحرم فكذلك في التحلل ألا ترى أن في باب الصلاة سوى بين المكتوبة والنافلة في التحرم بالتكبير والتحلل بالتسليم فكذلك هذا.
قال: وكذا إن أراد التمتع ولم يسق هديا ويقيم بمكة بعد الفراغ من العمرة حلالا وقد بينا صورة التمتع وهو أن يعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه ذلك من غير أن يلم بأهله بين النسكين إلماما صحيحا وكان مالك رحمه الله تعالى يقول إن أتى بالعمرة قبل أشهر الحج ولم يتحلل من إحرام العمرة حتى دخلت أشهر الحج فهو متمتع وقال الشافعي رحمه الله إذا أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج لم يكن متمتعا وإن كان أداء أعمال العمرة في أشهر الحج فعنده المعتبر وقت الإحرام بالعمرة وعند مالك رحمه الله تعالى وقت التحلل من الإحرام ونحن نقول إن كان أداء الأعمال قبل أشهر الحج لم يكن متمتعا لأن إحرامه في غير أشهر الحج صار بحيث لا يفسد بالجماع فهو بمنزلة ما لو لم يحل منه وإن لم يأت بالأعمال حتى دخلت أشهر الحج فإحرامه للعمرة في أشهر الحج بحيث يفسد بالجماع فهو كما لو أحرم بها في أشهر الحج لأنه مترفق بأداء النسكين في أشهر الحج ثم هو على ثلاثة أوجه:
إما أن يصبر بمكة بعد الفراغ من العمرة حتى يؤدي الحج فيكون متمتعا بالاتفاق.
وإما أن يعود إلى أهله بعد ما حل من عمرته ثم حج من عامه ذلك فلا يكون متمتعا بإجماع بين أصحابنا.
وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى يكون متمتعا ويقول لا أعرف ذلك الإلمام ماذا يكون فهو بناء على أصله في أن المكي له المتعة والقران ويأتي بيان هذا في موضعه إن شاء الله تعالى واعتمادنا فيه على حديث بن عباس رضي الله عنه قال إذا ألم بأهله بين النسكين إلماما صحيحا فهو متمتع وهكذا روي عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما وكان

 

ج / 4 ص -29-         المعنى فيه وهو أنه أنشأ لكل نسك سفرا من أهله والمتمتع من يترفق بأداء النسكين في سفر واحد فأما إذا جاوز الميقات بعد الفراغ من العمرة فأتى بلدة أخرى غير بلدته بأن يكون كوفيا فأتى البصرة ثم عاد وحج من عامه ذلك كان متمتعا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولم يكن متمتعا في قولهما ذكره الطحاوي رحمه الله تعالى في كتابه.
وجه قولهما: أن صورة المتمتع أن تكون عمرته ميقاتية وحجته مكية وهذا حجته وعمرته ميقاتيتان لأنه بعد ما جاوز الميقات حلالا إذا عاد يلزمه الإحرام من الميقات فهو والذي ألم بأهله سواء وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بحديث بن عباس رضي الله عنه فإن قوما سألوه فقال واعتمرنا في أشهر الحج ثم زرنا القبر ثم حججنا فقال أنتم متمتعون ولأنه مترفق بأداء النسكين في سفر واحد لأنه ماض على سفره ما لم يعد إلى أهله فهو بمنزلة ما لو لم يخرج من الميقات حتى حج وعاد فيكون متمتعا.
قال: وإذا كان يوم التروية وهو بمكة فأراد الرواح إلى منى لبس الإزار والرداء ولبي بالحج إن شاء من المسجد أو من الأبطح أو من أي موضع من الحرم شاء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين فسخوا إحرام الحج بالعمرة أن يحرموا بالحج يوم التروية من المسجد الحرام وفي حديث جابر رضي الله عنه قال فخرجنا من مكة فلما جعلناها بظهر أحرمنا بالحج والحاصل أن من بمكة حلال إذا أراد الإحرام بالحج يحرم من الحرم وإذا أراد الإحرام بالعمرة يحرم من الحل لأن موضع أداء الأفعال غير موضع الإحرام وركن العمرة الطواف وهو مؤدى في الحرم فالإحرام بها يكون في الحل ومعظم الركن في الحج الوقوف وهو في الحل فالإحرام به يكون في الحرم.
قال: وإن شاء أحرم بالحج قبل يوم التروية وما قدم إحرامه بالحج فهو أفضل لأن فيه إظهار المسارعة والرغبة في العبادة ولأنه أشق على البدن وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:
"إنما أجرك على قدر نصبك". ولما سئل عن أفضل الأعمال قال: "أحمزها".
قال: ويروح مع الناس إلى منى فيبيت بها ليلة عرفة ويعمل على ما وصفناه في الحج في حق المفرد غير أن عليه دم المتعة يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: 196] ثم يحلق بعد الذبح ويزور البيت فيطوف به أسبوعا يرمل في الثلاثة الأول ويمشي في الأربعة الأواخر على هينته ويصلي ركعتين ويسعى بين الصفا والمروة على قياس ما بيناه في الحج لأن هذا أول طواف يأتي به في الحج.
وقد بينا أن الرمل في أول طواف الحج سنة والسعي عقيب أول طواف في الحج وهذا بخلاف المفرد لأنه طاف للقدوم في الحج هناك وسعى بعده فلهذا لا يرمل في طواف يوم النحر ولا يسعى بعده ولو كان هذا المتمتع بعد ما أحرم بالحج طاف وسعى قبل أن يروح إلى منى لم يرمل في طواف الزيارة يوم النحر ولم يطف بين الصفا والمروة أيضا لأنه قد أتى

 

ج / 4 ص -30-         بذلك في الحج مرة وإن كان حين اعتمر في أشهر الحج ساق هديا للمتعة فينبغي له أن يقلد هديه لقوله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا الْقَلائِدَ}[المائدة: 2] ولكن السنة أن يقلد الهدي بعد ما يحرم بالعمرة لأنه لو قلد الهدي قبل الإحرام وساقه بنية الإحرام صار محرما هكذا روي عن بن عباس رضي الله عنهما وفي سياق الآية ما يدل عليه لأنه بعد ذكر القلائد قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة: 2] فدل أنه بالتقليد يصير محرما والأولى أن يحرم بالتلبية فلهذا كان الأفضل أن يلبي أولا ثم يقلد هديه.
فإذا طاف للعمرة وسعى أقام حراما لأن سوق هدي المتعة يمنعه من التحلل بين النسكين على ما قال صلى الله عليه وسلم:
"لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وتحللت منها". وقال في حديث آخر أما إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر فإذا كانت عشية التروية أحرم بالحج وإن أحب أن يقدم الإحرام ويطوف بالبيت والصفا والمروة لحجته فعل كما بينا في المتمتع الذي لم يسق الهدي إلا أنه إن لم يطف بعد الإحرام بالحج رمل في طواف يوم النحر وإن كان طاف بعد الإحرام بالحج وسعى لم يرمل في طواف يوم النحر ولم يطف بين الصفا والمروة.
قال: ولا يدع الحلق في جميع ذلك ملبدا أو مضفرا أو عاقصا والتلبيد أن يجمع شعر رأسه على هامته ويشده بصمغ أو غيره حتى يصير كاللبد والتضفير أن يجعل شعره ضفائر والعقص هو الإحكام وهو أن يشد شعره حول رأسه وقد بينا أن الحلق أفضل ولا يدع ما هو الأفضل بشيء من هذه الأسباب وقد لبد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه كما روينا من قوله:
"ولبدت رأسي"، ومع ذلك حلق.
قال: والمرأة بمنزلة الرجل في جميع ما وصفناه لأنها مخاطبة كالرجل ألا ترى أن أم سلمة رضي الله عنها لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال من الجنابة وصف لها حال نفسه في الاغتسال؟ فدل أن حال الرجل والمرأة سواء غير أنها تلبس ما بدا لها من الدروع والقمصان والخمار والخف والقفازين لأنها عورة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"المرأة عورة مستورة". وفي لبس الإزار والرداء ينكشف بعض البدن عادة وهي مأمورة بأداء العبادة على أستر الوجوه كما بينا في الصلاة فلهذا تلبس المخيط والخفين وتغطي رأسها ولا تغطي وجهها لأن الرأس منها عورة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها"، فعرفنا أنها لا تغطي وجهها إلا أن لها أن تسدل على وجهها إذا أرادت ذلك على وجه تجافي عن وجهها هكذا روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كنا في الإحرام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نكشف وجوهنا فإذا استقبلنا قوم أسدلنا من غير أن نصيب وجوهنا.
ولا تلبس المصبوغ بورس ولا زعفران ولا عصفر إلا أن يكون قد غسل لأن ما حل في حقها من اللبس كان للضرورة ولا ضرورة في لبس المصبوغ وهي في ذلك بمنزلة الرجل.

 

ج / 4 ص -31-         ولأن هذا تزين وهي من دواعي الجماع وهي ممنوعة من ذلك في الإحرام كالرجل ولا حلق عليها إنما عليها التقصير هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى النساء عن الحلق وأمرهن بالتقصير عند الخروج من الإحرام ولأن الحلق في حقها مثلة والمثلة حرام وشعر الرأس زينة لها كاللحية للرجل فكما لا يحلق الرجل لحيته عند الخروج من الإحرام لا تحلق هي رأسها.
ولا رمل عليها في الطواف بالبيت ولا بين الصفا والمروة لأن الرمل لإظهار التجلد والقوة والمرأة ليست من أهل القتال لتظهر الجلادة من نفسها ولا يؤمن أن يبدو شيء من عورتها في رملها وسعيها أو تسقط لضعف بنيتها فلهذا تمنع من ذلك وتؤمر بأن تمشي مشيا فهذا القدر ذكره في الكتاب في الفرق وقد قال مشايخنا أنها لا ترفع صوتها بالتلبية أيضا لما في رفع صوتها من الفتنة وكذلك لا تستلم الحجر إذا كان هناك جمع لأنها ممنوعة عن مماسة الرجال والزحمة معهم فلا تستلم الحجر إلا إذا وجدت ذلك الموضع خاليا عن الرجال والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب الطواف
اعلم بأن الطواف أربعة ثلاثة في الحج وواحد في العمرة.
أما أحد الأطوفة في الحج فهو طواف التحية ويسمى طواف القدوم وطواف اللقاء وذلك عند ابتداء وصوله إلى البيت وهو سنة عندنا. وقال مالك رحمه الله تعالى هو واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى به ثم قال لأصحابه رضي الله عنهم
"خذوا عني مناسككم" فهذا أمر والأمر على الوجوب ولأن المقصود زيارة البيت للتعظيم فالنسك الذي يكون عند ابتداء الزيارة يكون واجبا بمنزلة الذكر عند افتتاح الصلاة وهو التكبير وحجتنا في ذلك أن الله عز وجل أمر بالطواف والأمر المطلق لا يقتضي التكرار وبالإجماع طواف يوم النحر واجب فعرفنا أن ما تقدم ليس بواجب ولأنه ثبت بالإجماع أن الطواف الذي هو ركن في الحج مؤقت بيوم النحر حتى لا يجوز قبله فما يؤتى به قبل يوم النحر لا يكون واجبا لأنه يؤتى به في الإحرام ولا يتكرر ركن واحد في الإحرام واجبا كالوقوف بعرفة فجعلناه سنة لهذا بخلاف طواف الصدر فإنه يؤتى به بعد تمام التحلل فلو جعلناه واجبا لا يؤدي إلى تكرار الطواف واجبا في الإحرام والطواف في الحج بمنزلة ثناء الافتتاح في الصلاة لأن التلبية عند الإحرام هنا كالتكبير هناك وكما أن ثناء الافتتاح الذي يؤتى به عقيب التكبير سنة فكذلك الطواف الذي يؤتى به عقيب الإحرام سنة ومما يحتج به مالك رحمه الله تعالى أن السعي الذي بعد هذا الطواف واجب ولا يكون الواجب بناء على ما ليس بواجب وقد بينا العذر عن هذا فيما مضى.
والطواف الثاني طواف الزيارة وهو ركن الحج ثبت بقوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ

 

ج / 4 ص -32-         الْعَتِيقِ}[الحج: 29] وبقوله تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}[التوبة: 3] والمراد به طواف الزيارة.
والطواف الثالث طواف الصدر وهو واجب عندنا سنة عند الشافعي رحمه الله تعالى قال لأنه بمنزلة طواف القدوم ألا ترى أن كل واحد منهما يأتي به الآفاقي دون المكي وما يكون من واجبات الحج فالآفاقي والمكي فيه سواء.
ولنا: في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف"، ورخص للنساء الحيض والأمر دليل الوجوب وتخصيص الحائض برخصة الترك دليل على الوجوب أيضا وكما أن طواف الزيارة لتمام التحلل عن إحرام الحج فطواف الصدر لانتهاء المقام بمكة فيكون واجبا على من ينتهي مقامه بها وهو الآفاقي أيضا الذي يرجع إلى أهله دون المكي الذي لا يرجع إلى موضع آخر ويسمى هذا طواف الوداع فإنما يجب على من يودع البيت دون من لا يودعه.
فأما الطواف الرابع فهو طواف العمرة وهو الركن في العمرة وليس في العمرة طواف الصدر ولا طواف القدوم أما طواف القدوم فلأنه كما وصل إلى البيت يتمكن من أداء الطواف الذي هو ركن في هذا النسك فلا يشتغل بغيره بخلاف الحج فإنه عند القدوم لا يتمكن من الطواف الذي هو ركن الحج فيأتي بالطواف المسنون إلى أن يجيء وقت الطواف الذي هو ركن وأما طواف الصدر فقد قال الحسن رحمه الله تعالى في العمرة طواف الصدر أيضا في حق من قدم معتمرا إذا أراد الرجوع إلى أهله كما في الحج ولكنا نقول أن معظم الركن في العمرة الطواف وما هو معظم الركن في النسك لا يتكرر عند الصدر كالوقوف في الحج لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون معظم الركن في نسك وهو بعينه غير ركن في ذلك النسك ولأن ما هو معظم الركن مقصود وطواف الصدر تبع يجب لقصد توديع البيت والشيء الواحد لا يكون مقصودا وتبعا.
قال: وإذا قدم القارن مكة فلم يطف حتى وقف بعرفات كان رافضا لعمرته عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون رافضا لعمرته وهو بناء على ما سبق فإن عنده طواف العمرة يدخل في طواف الحج فلا يلزمه طواف مقصود للعمرة وعندنا لا يدخل طواف العمرة في طواف الحج بل عليه أن يأتي بطواف كل واحد منهما ويقدم العمرة في الأداء على الحج وهذا يفوته بالوقوف لأن معظم أركان الحج الوقوف ويصير به مؤديا للحج على وجه يأمن الفوت فلو بقيت عمرته لكان يأتي بأعمالها فيصير بانيا أعمال العمرة على الحج وهذا ليس بصفة القران فجعلناه رافضا للعمرة لهذا والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بسرف وهي تبكي قال:
"ما يبكيك لعلك نفست؟" فقالت: نعم ،فقال: "هذا شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم فدعي عنك العمرة"، أو قال: "ارفضي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي واصنعي جميع ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت",

 

ج / 4 ص -33-         فقد أمرها برفض العمرة لما تعذر عليها الطواف فلولا أنها بالوقوف تصير رافضة لعمرتها لما أمرها برفض العمرة.
فإن توجه إلى عرفات بعد ما دخل وقت الوقوف فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى روايتان في ذلك في الكتاب يقول لا يصير رافضا حتى إذا عاد من الطريق إلى مكة وطاف للعمرة فهو قارن والحسن يروي عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يصير رافضا للعمرة بالتوجه إلى عرفات وهذا هو القياس على مذهبه كما جعل التوجه إلى الجمعة قبل فراغ الإمام بمنزلة الشروع في الجمعة في ارتفاض الظهر والذي ذكره في الكتاب استحسان والفرق بينه وبين تلك المسألة أنه هناك مأمور بالسعي إلى الجمعة فيتقوى السعي بمشيه وهنا هو منهي عن التوجه إلى عرفات قبل طواف العمرة ولأن الموجب هنا للارتفاض صيرورة ركن الحج مؤدى حتى يكون ما بعده بناء العمرة على الحج وهذا بنفس التوجه لا يحصل وهناك الموجب لرفض الظهر المنافاة بينه وبين الجمعة والسعي من خصائص الجمعة فأقيم مقام الشروع في ارتفاض الظهر به.
فلو طاف للعمرة ثلاثة أشواط ثم ذهب فوقف بعرفات فهو رافض للعمرة أيضا لأن ركن العمرة الطواف فإذا بقي أكثره غير مؤدى جعل كأنه لم يؤد منه شيئا.
ولو كان طاف أربعة أشواط ثم وقف بعرفات لم يكن رافضا للعمرة لأنه قد أدى أكثر الطواف فيكون ذلك كأداء الكل ولهذا قلنا أن بعد أداء أربعة أشواط من طواف العمرة يأمن فسادها بالجماع وبعد أداء ثلاثة أشواط لا يأمن من ذلك وهذا لأن المؤدى إذا كان أكثر فالأقل في مقابلته كالعدم فكان جانب الأداء راجحا فإذا ترجح جانب الأداء فهو بالوقوف بعد ذلك وإن صار مؤديا للحج فإنما يصير مؤديا بعد أداء العمرة.
وإذا كان طاف ثلاثة أشواط فلم يصر رافضا بالوقوف كان مؤديا للعمرة بأداء الأشواط الأربعة بعد الوقوف فيكون بانيا للعمرة على الحج وكما يأمن الفساد في العمرة بطواف أربعة أشواط يأمن ارتفاضها بالوقوف وبعد ما طاف ثلاثة أشواط لا يأمن فسادها بالجماع فلا يأمن ارتفاضها بالوقوف وفي الموضع الذي صار رافضا لها عليه دم لرفضها لأنه خرج منها بعد صحة الشروع قبل أداء الأعمال فيلزمه دم اعتبارا بالمحصر وعليه قضاء العمرة لخروجه منها بعد صحة الشروع فيها والأصل فيه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم مكان عمرتها التي فاتتها ويسقط عنه دم القران لأنه وجب بالجمع بين النسكين في الأداء وقد انعدم وفي الموضع الذي لم يصر رافضا للعمرة يتم بقية طوافها وسعيها يوم النحر وعليه دم القران لأنه تحقق الجمع بينهما أداء.
وإن لم يطف لعمرته حين قدم مكة ولكنه طاف وسعى لحجته ثم وقف بعرفة لم يكن رافضا لعمرته وكان طوافه وسعيه للعمرة دون الحج لأن المستحق عليه البداية بطواف

 

ج / 4 ص -34-         العمرة، فلا تعتبر نيته بخلاف ذلك لأن الأصل أن كل طواف مستحق عليه في وقت بجهة فأداؤه يقع عن تلك الجهة.
وإن نوى جهة أخرى كطواف الزيارة يوم النحر وهذا لاعتبار الطواف بالوقوف فإنه لو وجد منه الوقوف في وقته ونوى شيئا آخر سوى الوقوف للحج يتأدى به ركن الحج ولا تعتبر نيته بخلاف ذلك فكذلك في الطواف إلا أن في الطواف أصل النية شرط حتى لو عدا خلف غريم له حول البيت لا يتأدى به طوافه بخلاف الوقوف فإنه يتأدى بغير النية لأن الوقوف ركن عبادة وليس بعبادة مقصودة ولهذا لا يتنفل به فوجود النية في أصل تلك العبادة يغني عن اشتراط النية في ركنها والطواف عبادة مقصودة ولهذا يتنفل به فلا بد من اشتراط النية فيه ويسقط اعتبار نية الجهة لتعينه كما قلنا في صوم رمضان.
ولأن الوقوف يؤدى في إحرام مطلق فأما طواف الزيارة فإنه يؤدى بعد التحلل من الإحرام بالحلق فوجود النية في الإحرام لا يغني عن النية في الطواف ولكن هذا الفرق الثاني يتأتى في طواف الزيارة دون طواف العمرة والفرق الأول يعم الفصلين فإذا ثبت أن طوافه وسعيه للعمرة فهذا رجل لم يطف لحجته وترك طواف التحية لا يضره فعليه أن يرمل في طواف يوم النحر ويسعى بين الصفا والمروة.
وإن كان طاف للحج وسعى أولا ثم طاف للعمرة وسعى فليس عليه شيء وطوافه الأول للعمرة كما هو المستحق عليه ونيته بخلاف ذلك لغو فلا يلزمه به شيء وإن طاف طوافين لهما ثم سعى سعيين فقد أساء بتقديمه طواف التحية على سعي العمرة ولا شيء عليه أما عندهما فظاهر لأن من أصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه لا يجب بتقديم النسك وتأخيره شيء سوى الإساءة وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقديم نسك على نسك يوجب الدم عليه على ما نبينه إن شاء الله تعالى ولكن في هذا الموضع لا يلزمه دم لأن تقديم طواف التحية على سعي العمرة لا يكون أعلى من طواف التحية أصلا واشتغاله بطواف التحية قبل سعي العمرة لا يكون أكثر تأثيرا من اشتغاله بأكل أو نوم ولو أنه بين طواف العمرة وسعيها اشتغل بنوم أو أكل لم يلزمه دم فكذا إذا اشتغل بطواف التحية.
قال: وإن طاف لعمرته على غير وضوء وللتحية كذلك ثم سعى يوم النحر فعليه دم من أجل طواف العمرة من غير وضوء والحاصل أنه يبني المسائل بعد هذا على أصل وهو أن طواف المحدث معتد به عندنا ولكن الأفضل أن يعيده وإن لم يعده فعليه دم وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتد بطواف المحدث أصلا لأن الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة من حيث أنها عبادة متعلقة بالبيت ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الطواف بالصلاة فقال:
"الطواف بالبيت صلاة فأقلوا فيه الكلام".
ثم الطهارة في الصلاة شرط الاعتداد به فكذلك الطهارة في الطواف وحجتنا في ذلك

 

ج / 4 ص -35-         أن المأمور به بالنص هو الطواف قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا}[الحج: 29] وهو اسم للدوران حول البيت وذلك يتحقق من المحدث والطاهر فاشتراط الطهارة فيه يكون زيادة على النص ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد ولا بالقياس لأن الركنية لا تثبت إلا بالنص فأما الوجوب يثبت بخبر الواحد لأنه يوجب العمل ولا يوجب علم اليقين والركنية إنما تثبت بما يوجب علم اليقين فأصل الطواف ركن ثابت بالنص والطهارة فيه تثبت بخبر الواحد فيكون موجب العمل دون العلم فلم تصر الطهارة ركنا ولكنها واجبة والدم يقوم مقام الواجبات في باب الحج وهو الصحيح من المذهب أن الطهارة في الطواف واجبة وكان بن شجاع رحمه الله تعالى يقول إنه سنة وفي إيجاب الدم عند تركه دليل على وجوبه ثم المراد تشبيه الطواف بالصلاة في حق الثواب دون الحكم ألا ترى أن الكلام الذي هو مفسد للصلاة غير مؤثر في الطواف وأن الطواف يتأدى بالمشي والمشي مفسد للصلاة؟.
ولأن الطواف من حيث أنه ركن الحج لا يستدعي الطهارة كسائر الأركان ومن حيث أنه متعلق بالبيت يستدعي الطهارة كالصلاة وما يتردد بين أصلين فيوفر حظه عليهما فلشبهه بالصلاة تكون الطهارة فيه واجبة ولكونه ركنا من أركان الحج يعتد به إذا حصل بغير طهارة والأفضل فيه الإعادة ليحصل الجبر بما هو من جنسه وإن لم يعد فعليه دم للنقصان المتمكن فيه بترك الواجب فإن نقائص الحج تجبر بالدم وعلى هذا لو طاف للزيارة جنبا يعتد بهذا الطواف في حكم التحلل عن الإحرام وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتد به ثم عليه الإعادة عندنا وإن لم يعد حتى رجع إلى أهله فعليه بدنة لأن النقصان بسبب الجنابة أعظم من النقصان بسبب الحدث.
ألا ترى أن المحدث لا يمنع من قرءاة القرآن والجنب يمنع من ذلك ولأن المنع من الجنابة من وجهين من حيث الطواف ومن حيث دخول المسجد ومنع المحدث من وجه واحد فلتفاحش النقصان هنا قلنا يلزمه الجبر بالبدنة وهو مروي عن بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال البدنة في الحج تجب في شيئين على من طاف جنبا وعلى من جامع بعد الوقوف وإن أعاد طوافه سقطت عنه البدنة واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى أن المعتبر طوافه الثاني أم الأول وكان الكرخي رحمه الله تعالى يقول المعتبر هو الأول والثاني جبر للأول وكان يستدل على هذا بما قال في الكتاب إنه لو طاف لعمرته جنبا في رمضان ثم أعاد طوافه في أشهر الحج وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعا فلو كان المعتبر هو الطواف الثاني كان متمتعا.
ووجه هذا القول أن المعتد به ما يتحلل به من الإحرام والتحلل حصل بالطواف الأول فهو المعتد به والثاني جبر للنقصان المتمكن فيه كالبدنة وكما لو كان محدثا في الطواف الأول كان هو المعتد به والثاني جبرا للنقصان والأصح أن المعتد به هو الثاني وأن

 

ج / 4 ص -36-         الأول ينفسخ بالثاني ألا ترى أنه قال في الكتاب لو طاف للزيارة جنبا في أيام النحر ثم أعاد طوافه بعد أيام التشريق فعليه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لتأخير طواف الزيارة عن وقته ولو كان المعتد به هو الأول لم يلزمه دم التأخير لأن الأول مؤدى في وقته.
وأما مسألة التمتع فلأنه بما أدى من الطواف في رمضان وقع له إلا من عن فساد العمرة فإذا أمن فسادها قبل دخول وقت الحج لا يكون بها متمتعا وهذا لأن الأول كان حكمه مراعى لتفاحش النقصان فإن أعاده انفسخ الأول وصار المعتد به هو الثاني وإن لم يعد كان معتدا به في التحلل كمن قام في صلاته ولم يقرأ حتى ركع كان قيامه وركوعه مراعى على سبيل التوقف فإن عاد فقرأ ثم ركع انفسخ الأول حتى أن من أدرك معه الركوع الثاني كان مدركا للركعة وإن لم يعد وقرأ في الركعتين الأخريين كان الأول معتدا به وهذا بخلاف المحدث لأن النقصان هناك يسير فلا يتوقف به حكم الطواف الأول بل بقي معتدا به على الإطلاق فكان الثاني جابرا للنقصان المتمكن فيه.
وعلى هذا لو طافت المرأة للزيارة حائضا فهذا والطواف جنبا سواء ولو طاف للزيارة وفي ثوبه نجاسة كان مسيئا ولا يلزمه شيء لأن حكم النجاسة في الثوب أخف ألا ترى أن الصلاة مع قليل النجاسة في الثوب تجوز وكذلك مع النجاسة الكثيرة في حالة الضرورة فلا يتمكن بنجاسة الثوب نقصان في طوافه وهذا بخلاف ما إذا طاف عريانا فإنه يؤمر بالإعادة وإن لم يعد فعليه الدم لأن ستر العورة من واجبات الطواف والكشف محرم لأجل الطواف على ما قال صلى الله عليه وسلم:
"ألا لا يطوفن بالبيت بعد العام مشرك ولا عريان". فبسبب الكشف يتمكن نقصان في الطواف.
فأما اشتراط طهارة الثوب ليس لأجل الطواف على الخصوص فلا يتمكن بتركه نقصان في الطواف ولو كان طاف للعمرة جنبا ففي القياس عليه بدنة أيضا كما في طواف الزيارة لأن كل واحد منهما ركن ولكنه ترك القياس هنا وقال عليه الدم فقط لأنه لا مدخل للبدنة في العمرة ألا ترى أن بالجماع لا تجب البدنة في إحرام العمرة بخلاف الحج ولأن الدم يقوم مقام العمرة فإن فات الحج يتحلل بأفعال العمرة ثم الدم في حق المحصر يقوم مقام أفعال العمرة للتحلل فلأن يقوم الدم مقام النقصان المتمكن في طواف العمرة بسبب الجنابة كان أولى فأما الدم لا يقوم مقام طواف الزيارة والبدنة قد تقوم مقامه حتى إذا مات بعد الوقوف وأوصى بالإتمام عنه تجب بدنة لطواف الزيارة فكذلك البدنة تقوم مقام النقصان المتمكن بسبب الجنابة في طواف الزيارة.
إذا عرفنا هذا فنقول: القارن إذا طاف حين قدم مكة طوافين محدثا ثم وقف بعرفات فعليه دم للنقصان المتمكن بسبب الحدث في طواف العمرة ولا شيء عليه بطواف التحية مع الحدث لأن ذلك لا يكون أعلى من ترك طواف التحية أصلا ولكنه يرمل في طواف الحج

 

ج / 4 ص -37-         في يوم النحر ويسعى بين الصفا والمروة استحسانا وإن لم يفعل لم يضره ولا شيء عليه لأن طوافه الأول للتحية معتد به مع الحدث فالسعي بعده معتد به أيضا والطهارة في السعي ليست بشرط ولكن المستحب إعادة ذلك الطواف فكذلك يستحب إعادة ذلك الرمل والسعي يوم النحر وإن لم يفعل لم يضره ولا شيء عليه.
قال: وقال محمد رحمه الله تعالى ليس عليه أن يعيد طواف العمرة وإن أعاد فهو أفضل والدم عليه على كل حال لأنه لا يمكن أن يجعل المعتد به الطواف الثاني لأنه حصل بعد الوقوف ولا يجوز طواف العمرة بعد الوقوف على ما بينا فالمعتبر هو الأول لا محالة وهو ناقص فعليه دم ولم يذكر قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقيل على قولهما ينبغي أن يسقط عنه الدم بالإعادة لأن رفع النقصان عن طواف العمرة بعد الوقوف صحيح كما لو طاف للعمرة قبل الوقوف أربعة أشواط ثم أتم طوافه يوم النحر كان صحيحا فكذا هذا وإذا ارتفع النقصان بالإعادة لا يلزمه الدم وإن طافهما جنبا فعليه دم لطواف العمرة ويعيد السعي للحج لأنه أداه عقيب طواف التحية جنبا فعليه إعادته بعد طواف الزيارة قال فإن لم يعد فعليه دم وهذا دليل على أن طواف الجنب للتحية غير معتبر أصلا فإنه جعله كمن ترك السعي حين أوجب عليه الدم فدل أن الصحيح أن الجنب إذا أعاد الطواف كان المعتد به الثاني دون الأول.
مفرد أو قارن طاف للزيارة محدثا ولم يطف للصدر حتى رجع إلى أهله فعليه دمان أحدهما للحدث في طواف الزيارة والآخر لترك طواف الصدر وإن كان طاف للصدر فعليه دم واحد لترك الطهارة في طواف الزيارة ولا يجعل طوافه للصدر إعادة منه لطواف الزيارة لأن إقامة هذا الطواف مقام طواف الزيارة غير مفيد في حقه فإنه إذا جعل هذا إعادة لطواف الزيارة صار تاركا لطواف الصدر فيلزمه الدم لأجله وإذا لم يكن مفيدا لا يشتغل به وإن كان طاف للزيارة جنبا ولم يطف للصدر حتى رجع إلى أهله فإنه يعود إلى مكة ليطوف طواف الزيارة وإذا عاد فعليه إحرام جديد لأن طوافه الأول معتد به في حق التحلل وليس له أن يدخل مكة بغير إحرام فيلزمه إحرام جديد لدخول مكة ثم يلزمه دم لتأخيره طواف الزيارة عن وقته وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى بمنزلة ما لو أخر الطواف حتى مضت أيام التشريق وسنبين هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
وهذه المسألة تدل على أن المعتبر هو الطواف الثاني وإن لم يرجع إلى مكة فعليه بدنة لطواف الزيارة وشاة لترك طواف الصدر وعلى الحائض مثل ذلك للزيارة وليس عليها لترك طواف الصدر شيء لأن للحائض رخصة في ترك طواف الصدر والأصل فيه حديث صفية رضي الله عنها فإنه أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام النحر أنها حاضت فقال صلى الله عليه وسلم:
"عقري حلقي أحابستنا هي"؟ فقيل: إنها قد طافت قال: "فلتنفر إذن" فهذا دليل على أن الحائض ممنوعة

 

ج / 4 ص -38-         عن طواف الزيارة وأنه ليس عليها طواف الصدر لأنه لما أخبر أنها طافت للزيارة أمرها بأن تنفر معهم وإن طاف للزيارة جنبا وطاف للصدر طاهرا في آخر أيام التشريق كان طواف الصدر مكان طواف الزيارة لأن الإعادة مستحقة عليه فيقع عما هو المستحق وإن نواه عن غيره وفي إقامة هذا الطواف مقام طواف الزيارة فائدة وهي إسقاط البدنة عنه ثم يجب عليه دمان أحدهما لترك طواف الصدر عندهم جميعا والآخر لتأخير طواف الزيارة إلى آخر أيام التشريق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكذلك الجواب في الحائض إذا طافت للزيارة ثم طهرت فطافت للصدر في آخر أيام التشريق.
والحاصل أن طواف الزيارة مؤقت بأيام النحر فتأخيره عن أيام النحر يوجب الدم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا يوجب الدم في قولهما وعلى هذا من قدم نسكا على نسك كأن حلق قبل الرمي أو نحر القارن قبل الرمي أو حلق قبل الذبح فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما لا يلزمه الدم بالتقديم والتأخير وحجتهما في ذلك حديث بن عباس رضي الله عنه أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر حلقت قبل أن أرمي فقال:
"ارم ولا حرج" وقال آخر حلقت قبل أن أذبح فقال: " اذبح ولا حرج", وما سئل عن شيء يومئذ قدم أو أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" فدل أن التقديم والتأخير لا يوجب شيئا.
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى حديث بن مسعود رضي الله عنه قال من قدم نسكا على نسك فعليه دم وتأويل الحديث المرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم عذرهم في ذلك الوقت لقرب عهدهم بتعلم الترتيب وما يلحقهم من المشقة في مراعاة ذلك ومعنى قوله:
"افعل ولا حرج": أي لا حرج فيما تأتي به وبه يقول وإنما الدم عليه بما قدمه على وقته والمعنى فيه أن توقت النسك بزمان كتوقته بالمكان لأنه لا يتأدى النسك إلا بمكان وزمان ثم ما كان مؤقتا بالمكان إذا أخره عن ذلك المكان يلزمه الدم كالإحرام المؤقت بالميقات إذا أخره عنه بأن جاوز الميقات حلالا ثم أحرم فكذلك ما كان مؤقتا بالزمان وهو طواف الزيارة الذي هو مؤقت بأيام النحر بالنص إذا أخره قلنا يلزمه الدم وهذا لأن مراعاة الوقت في الأركان واجب كمراعاة المكان ألا ترى أن الوقوف لا يجوز في غير وقته كما لا يجوز في غير مكانه فبتأخر الطواف عن وقته يصير تاركا لما هو واجب وترك الواجب في الحج يوجب الجبر بالدم.
ثم الأصل بعد هذا أن أكثر أشواط الطواف بمنزلة الكل في حكم التحلل به عن الإحرام عندنا وكذلك في حكم الطهارة وغيرها من الأحكام وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يقوم الأكثر مقام الكمال بناء على أصله في اعتبار الطواف بالصلاة فكما أن أكثر عدد ركعات الصلاة لا يقوم مقام الكمال فكذلك أشواط الطواف لا تقوم مقام الكمال وهذا لأن تقدير الطواف بسبعة أشواط ثابت بالنصوص المتواترة فكان كالمنصوص عليه في القرآن وما يقدر شرعا بقدر لا يكون لما دون ذلك القدر حكم ذلك القدر كما في الحدود وغيرها

 

ج / 4 ص -39-         ولنا أن المنصوص عليه في القرآن الطواف بالبيت وهو عبارة عن الدوران حوله ولا يقتضي ظاهره التكرار إلا أنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا تقدير كمال الطواف بسبعة أشواط فيحتمل أن يكون ذلك التقدير للإتمام ويحتمل أن يكون للاعتداد به فيثبت منه القدر المتيقن وهو أن يجعل ذلك شرط الإتمام ولئن كان شرط الاعتداد يقام الأكثر فيه مقام الكمال لترجح جانب الوجود على جانب العدم إذا أتى بالأكثر منه ومثله صحيح في الشرع كمن أدرك الإمام في الركوع يجعل اقتداؤه في أكثر الركعة كالاقتداء في جميع الركعة في الاعتداد به والمتطوع بالصوم إذا نوى قبل الزوال يجعل وجود النية في أكثر اليوم كوجودها في جميع اليوم وكذلك في صوم رمضان عندنا.
ومن أصحابنا من يقول: الطواف من أسباب التحلل وفي أسباب التحلل يقام البعض مقام الكل كما في الحلق إلا أنا اعتبرنا هنا الأكثر ليترجح جانب الوجود فإن الطواف عبادة مقصودة والحلق ليس بعبادة مقصودة فيقام الربع مقام الكل هناك إذا عرفنا هذا فنقول إذا طاف للزيارة أربعة أشواط يتحلل به من الإحرام عندنا حتى لو جامع بعد ذلك لا يلزمه شيء بخلاف ما لو طاف ثلاثة أشواط وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يتحلل ما بقي عليه خطوة من شوط.
ولو طاف ثلاثة أشواط للزيارة ولم يطف للصدر ورجع إلى أهله فعليه أن يعود بالإحرام الأول ويقضي بقية طواف الزيارة لأن الأكثر باق عليه فكان إحرامه في حق النساء باقيا ولا يحتاج هذا إلى إحرام جديد عند العود ولا يقوم الدم مقام ما بقي عليه ولكن يلزمه العود إلى مكة لبقية الطواف عليه ثم يريق دما لتأخيره عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن تأخير أكثر الأشواط عن أيام النحر كتأخير الكل ويطوف للصدر وإن كان طاف أربعة أشواط أجزأه أن لا يعود ولكن يبعث بشاتين أحداهما لما بقي عليه من أشواط الطواف لأن ما بقي أقل وشرط الطواف الكمال فيقوم الدم مقامه والدم الآخر لطواف الصدر وإن اختار العود إلى مكة يلزمه إحرام جديد لأن التحلل قد حصل له من الإحرام الأول فإذا عاد بإحرام جديد وأعاد ما بقي من طواف الزيارة وطاف للصدر أجزأه وكان عليه لتأخير كل شوط من أشواط طواف الزيارة صدقة لأن تأخير الكل لما كان يوجب الدم عنه فتأخير الأقل لا يوجب الدم ولكن يوجب الصدقة وفي كل موضع يقول تلزمه صدقة فالمراد طعام مسكين مدين من حنطة إلا أن يبلغ قيمة ذلك قيمة شاة فحينئذ ينقص منه ما أحب.
قال: وإن طاف الأقل من طواف الزيارة وطاف للصدر في آخر أيام التشريق يكمل طواف الزيارة من طواف الصدر لأن استحقاق الزيارة عليه أقوى فما أتى به مصروف إلى إكماله وإن نواه عن غيره وعليه لتأخير ذلك دم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثم قد بقي من طوافه للصدر ثلاثة أشواط فصار تاركا للأكثر من طواف الصدر وذلك ينزل منزلة ترك

 

ج / 4 ص -40-         الكل فعليه دم لذلك وإن كان المتروك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط أكمل ذلك من طواف الصدر كما بينا وعليه لكل شوط منه صدقة بسبب التأخير عن وقته لأنه لا يجب في تأخير الأقل ما يجب في تأخير الكل ثم قد بقي من طواف الصدر أربعة أشواط فإنما ترك الأقل منها فيكفيه لكل شوط صدقة لأن الدم يقوم مقام جميع طواف الصدر فلا يجب في ترك أقله ما يجب في ترك كله.
ولو طاف للصدر جنبا فعليه دم لتفاحش النقصان بسبب الجنابة ويكون هو كالتارك لطواف الصدر أصلا ولو طاف للصدر وهو محدث فعليه صدقة لقلة النقصان بسبب الحدث وفي رواية أبي حفص رحمه الله تعالى سوى بين الحدث والجنابة في ذلك لأن طواف الجنب معتد به ألا ترى أن التحلل من الإحرام يحصل به في طواف الزيارة فلا يجب بسبب هذا النقصان ما يجب بتركه أصلا.
قال: ولو طاف بالبيت منكوسا بأن استلم الحجر ثم أخذ على يسار الكعبة وطاف كذلك سبعة أشواط عندنا يعتد بطوافه في حكم التحلل وعليه الإعادة ما دام بمكة فإن رجع إلى أهله قبل الإعادة فعليه دم وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتد بطوافه بناء على أصله أن الطواف بمنزلة الصلاة فكما أنه لو صلى منكوسا بأن بدأ بالتشهد لا يجزيه فكذلك الطواف ولنا الأصل الذي قلنا أن الثابت بالنص الدوران حول البيت وذلك حاصل من أي جانب أخذ ولكن بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم حين أخذ على يمينه على باب الكعبة تبين أن الواجب هذا فكانت هذه صفة واجبة في هذا الركن بمنزلة شرط الطهارة عندنا فتركه لا يمنع الاعتداد به ولكن يمكن فيه نقصانا يجبر بالدم وهذا لأن المعنى فيه معقول وهو تعظيم البقعة وذلك حاصل من أي جانب أخذ فعرفنا أن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداية بالجانب الأيمن لبيان صفة الإتمام لا لبيان صفة الركنية بخلاف أركان الصلاة.
واستدل الشافعي رحمه الله تعالى علينا بما لو بدأ بالمروة في السعي حيث لا يعتد به لما أنه أداه منكوسا فمن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال يعتد به ولكن يكون مكروها والأصح أنه لا يعتد بالشوط الأول لا لكونه منكوسا ولكن لأن الواجب هناك صعود الصفا أربع مرات والمروة ثلاث مرات فإذا بدأ بالمروة فإنما صعد الصفا ثلاث مرات فعليه أن يصعد الصفا مرة أخرى ولا يمكن أن يأمر بذلك إلا بإعادة شوط واحد من الطواف بين الصفا والمروة فأما هنا ما ترك شيئا من أصل الواجب عليه فقد دار حول البيت سبع مرات فلهذا كان طوافه معتدا به.
قال: وإن طاف راكبا أو محمولا فإن كان لعذر من مرض أو كبر لم يلزمه شيء وإن كان لغير عذر أعاده ما دام بمكة فإن رجع إلى أهله فعليه الدم عندنا وعلى قول الشافعي رضي الله عنه لا شيء عليه لأنه صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف للزيارة يوم النحر على

 

ج / 4 ص -41-         ناقته واستلم الأركان بمحجنه ولكنا نقول التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا الطواف ماشيا وعلى هذا على قول من يجعله كالصلاة الدم لأن أداء المكتوبة راكبا من غير عذر لا يجوز فكان ينبغي أن لا يعتد بطواف الراكب من غير عذر ولكنا نقول المشي شرط الكمال فيه فتركه من غير عذر يوجب الدم لما بينا.
فأما تأويل الحديث فقد ذكر أبو الطفيل رحمه الله تعالى أنه طاف راكبا لوجع أصابه وهو أنه وثبت رجله فلهذا طاف راكبا وذكر بن الزبير عن جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف راكبا ليشاهده الناس فيسألوه عن حوادثهم وقيل إنما طاف راكبا لكبر سنه وعندنا إذا كان لعذر فلا بأس به وكذلك إذا طاف بين الصفا والمروة محمولا أو راكبا وكذلك لو طاف الأكثر راكبا أو محمولا فالأكثر يقوم مقام الكل على ما بينا.
قال: وإذا طاف المعتمر أربعة أشواط من طواف العمرة في أشهر الحج بأن كان أحرم للعمرة في رمضان فطاف ثلاثة أشواط ثم دخل شوال فأتم طوافه وحج من عامه ذلك كان متمتعا وإن كان طاف لأكثر في رمضان لم يكن متمتعا لما بينا أن الأكثر يقوم مقام الكل وعلى هذا لو جامع المعتمر بعد ما طاف لعمرته أربعة أشواط لم تفسد عمرته ويمضى فيها وعليه دم وإن جامع بعد ما طاف لها ثلاثة أشواط فسدت عمرته فيمضى في الفاسد حتى يتمها وعليه دم للجماع وعمرة مكانها لما ذكرنا أن الأكثر يقوم مقام الكمال وجماعه بعد إكمال طواف العمرة غير مفسد لأنها صارت مؤداة بأداء ركنها فكذلك بعد أداء الأكثر من الطواف.
قال: وإن طاف للعمرة في رمضان جنبا أو على غير وضوء لم يكن متمتعا إن أعاده في شوال أو لم يعده وبهذه المسألة استدل الكرخي رحمه الله تعالى وقد بينا العذر فيه أنه إنما لا يكون متمتعا لوقوع الأمن له من الفساد بما أداه في رمضان ولو كان ذلك موقوفا لبطل بالإعادة في شوال.
قال: كوفي اعتمر في أشهر الحج فطاف لعمرته ثلاثة أشواط ورجع إلى الكوفة ثم ذكر بعد ذلك فرجع إلى مكة فقضى ما بقي عليه من عمرته من الطواف والسعي وحج من عامه ذلك كان متمتعا لأنه لما أتى بأكثر الأشواط بعد ما رجع ثانيا فكأنه أتى بالكل بعد رجوعه ولو كان طاف أولا أربعة أشواط لم يكن متمتعا كما لو أكمل الطواف وهذا لوجود الإلمام بأهله بين النسكين وأنشائه السفر لأداء كل نسك من بيته.
قال: وترك الرمل في طواف الحج والعمرة والسعي في بطن الوادي بين الصفا والمروة لا يوجب عليه شيئا غير أنه مسيء إذا كان لغير عذر وكذلك ترك استلام الحجر فالرمل واستلام الحجر وهذه الخلال من آداب الطواف أو من السنن وترك ما هو سنة أو أدب لا يوجب شيئا إلا الإساءة إذا تعمد.

 

ج / 4 ص -42-         قال: وإذا طاف الطواف الواجب في الحج والعمرة في جوف الحطيم قضى ما ترك منه إن كان بمكة وإن كان رجع إلى أهله فعليه دم لأن المتروك هو الأقل فإنه إنما ترك الطواف على الحطيم فقط وقد بينا أنه لو ترك الأقل من أشواط الطواف فعليه إعادة المتروك وإن لم يعد فعليه الدم عندنا فهذا مثله ثم الأفضل عندنا أن يعيد الطواف من الأصل ليكون مراعيا للترتيب المسنون وإن أعاده على الحطيم فقط أجزأه لأنه أتى بما هو المتروك وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه إعادة الطواف من الأصل بناء على أصله في أن مراعاة الترتيب في الطواف واجب كما هو في الصلاة فإذا ترك لم يكن طوافه معتدا به وعندنا الواجب هو الدوران حول البيت وذلك يتم بإعادة المتروك فقط ولكن الترتيب سنة الإعادة من الأصل أفضل ويلزمون علينا بما لو ابتدأ الطواف من غير موضع الحجر لا يعتد بذلك القدر حتى ينتهي إلى الحجر ولو لم يكن الترتيب واجبا لكان ذلك القدر معتدا به.
ومن أصحابنا من يقول بأنه معتد به عندنا ولكنه مكروه ولكن ذكر محمد رحمه الله تعالى في الرقيات أنه لا يعتبر طوافه إلى الحجر لا لترك الترتيب ولكن لأن مفتاح الطواف من الحجر الأسود على ما روي أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه قال لإسماعيل عليه السلام ائتني بحجر أجعله علامة افتتاح الطواف فأتاه بحجر فألقاه ثم بالثاني ثم بالثالث فناداه قد أتاني بالحجر من أغناني عن حجرك ووجد الحجر الأسود في موضعه فعرفنا أن افتتاح الطواف منه فما أداه قبل الافتتاح لا يكون معتدا به.
قال: فإن طاف لعمرته ثلاثة أشواط وسعى بين الصفا والمروة ثم طاف لحجته كذلك ثم وقف بعرفة فالأشواط التي طافها للحج محسوبة عن طواف العمرة لأنه هو المستحق عليه قبل طواف التحية فإذا جعلنا ذلك من طواف العمرة كان الباقي عليه شوطا واحدا حين وقف بعرفة فيكون قارنا ويعيد طواف الصفا والمروة لعمرته ولحجته لأن ما أدى من السعي بين الصفا والمروة لعمرته كان عقيب أقل الأشواط فلا يكون معتدا به فيجب أن يعيده مع السعي للحج ومع الشوط الواحد عن طواف العمرة وإن رجع إلى الكوفة قبل أن يفعل ذلك فعليه دم لترك ذلك الشوط ودم لترك سعي الحج ولا يلزمه شيء لسعي العمرة لأنه قد سعى لعمرته عقيب ستة أشواط لأن موضوع المسألة فيما إذا كان سعي للحج وذلك يقع عن سعي العمرة وإن لم يكن سعي أصلا فعليه دم لترك السعي في كل نسك قال الحاكم رحمه الله تعالى قوله يعيد الطواف لعمرته غير سديد إلا أن يريد به الاستحباب يريد به بيان أن موضوع المسألة فيما إذا كان سعي بعد طواف التحية ثلاثة أشواط فكان ذلك سعيا معتدا به للعمرة فلا يلزمه إعادته وإن كان يستحب له إعادة ذلك بعد ما أكمل طواف العمرة بالشوط المتروك.
قال: ويكره أن يجمع بين أسبوعين من الطواف قبل أن يصلي في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا بأس بذلك إذا انصرف

 

ج / 4 ص -43-         على وتر ثلاثة أسابيع أو خمسة أسابيع لحديث عائشة رضي الله عنها أنها طافت ثلاثة أسابيع ثم صلت لكل أسبوع ركعتين ولأن مبنى الطواف على الوتر في عدد الأشواط فإذا انصرف على وتر لم يخالف انصرافه مبنى الطواف واشتغاله بأسبوع آخر قبل الصلاة كاشتغاله بأكل أو نوم وذلك لا يوجب الكراهة فكذا هنا إذا انصرف على ما هو مبني الطواف بخلاف ما إذا انصرف على شفع لأن الكراهة هناك لانصرافه على ما هو خلاف مبنى الطواف لا لتأخيره الصلاة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا إتمام كل أسبوع من الطواف بركعتين فيكره له الاشتغال بالأسبوع الثاني قبل إكمال الأول كما أن إكمال كل شفع من التطوع لما كان بالتشهد يكره له الاشتغال بالشفع الثاني قبل إكمال الأول.
قال: وإذا طاف قبل طلوع الشمس لم يصل حتى تطلع الشمس وقد بينا في كتاب الصلاة أن ركعتي الطواف سنة أو واجب بسبب من جهته كالمنذور وذلك لا يؤدى عندنا بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس ولا بعد العصر قبل غروب الشمس وقد روي أن عمر رضي الله عنه طاف قبل طلوع الشمس ثم خرج من مكة حتى إذا كان بذي طوى وارتفعت الشمس صلى ركعتين ثم قال ركعتان مكان ركعتين وكذلك بعد غروب الشمس يبدأ بالمغرب لأن أداء ما ليس بمكتوبة قبل صلاة المغرب مكروه ولا تجزئه المكتوبة عن ركعتي الطواف لأنه واجب كالمنذور أو سنة كسنن الصلاة فالمكتوبة لا تنوب عنه.
قال: ويكره له أن ينشد الشعر في طوافه أو يتحدث أو يبيع أو يشتري فإن فعله لم يفسد عليه طوافه لقوله صلى الله عليه وسلم:
"الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير", وقد بينا أن المراد تشبيه الطواف بالصلاة في الثواب لا في الأحكام فلا يكون الكلام فيه مفسدا للطواف.
قال: ويكره له أن يرفع صوته بقراءة القرآن فيه لأن الناس يشتغلون فيه بالذكر والثناء فقل ما يستمعون لقراءته وترك الاستماع عند رفع الصوت بالقراءة من الجفاء فلا يرفع صوته بذلك صيانة للناس عن هذا الجفاء ولا بأس بقراءته في نفسه هكذا روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان في طوافه يقرأ القرآن في نفسه ولأن المستحب له الاشتغال بالذكر في الطواف وأشرف الأذكار قراءة القرآن.
قال: وإن طافت المرأة مع الرجل لم تفسد عليه طوافه يريد به بسبب المحاذاة لأن الطواف في الأحكام ليس كالصلاة ومحاذاة المرأة الرجل إنما يوجب فساد الصلاة إذا كانا يشتركان في الصلاة فأما إذا لم يشتركا في الصلاة فلا وهنا لا شركة بينهما في الطواف.
قال: وإذا خرج الطائف من طوافه لصلاة مكتوبة أو جنازة أو تجديد وضوء ثم عاد بنى على طوافه لما بينا أنه ليس كالصلاة في الأحكام فالاشتغال في خلاله بعمل لا يمنع البناء عليه وروي عن بن عباس رضي الله عنه أنه خرج لجنازة ثم عاد فبنى على الطواف.

 

ج / 4 ص -44-         قال: وإن أخر الطائف ركعتين حتى خرج من مكة لم يضره لما روينا من حديث عمر رضي الله عنه.
قال: والصلاة لأهل مكة أحب إلى وللغرباء الطواف فإن التطوع من الصلاة عبادة بجميع البدن تشتمل على أركان مختلفة فالاشتغال بهذا أفضل من الاشتغال بطواف التطوع إلا أن في حق الغرباء الطواف يفوته والصلاة لا تفوته لأنه يتمكن من الصلاة إذا رجع إلى أهله ولا يتمكن من الطواف إلا في هذا المكان والاشتغال في هذا المكان بما يفوته أولى كالاشتغال بالحراسة في سبيل الله أولى من صلاة الليل إذا تعذر عليه الجمع بينهما فأما المكي لا يفوته الطواف ولا الصلاة فكان الاشتغال بالصلاة في حقه أولى لما بينا.
قال: رجل طاف أسبوعا وشوطا أو شوطين من أسبوع آخر ثم ذكر له أنه لا ينبغي أن يجمع بين أسبوعين قال يتم الأسبوع الذي دخل فيه وعليه لكل أسبوع ركعتان لأنه صار شارعا في الأسبوع الثاني مؤكدا له بشوط أو شوطين فعليه أن يتمه كمن قام إلى الركعة الثالثة قبل التشهد وقيد الركعة بالسجدة كان عليه إتمام الشفع الثاني ثم كل أسبوع سبب التزام ركعتين بمنزلة النذر فعليه لكل أسبوع ركعتان.
قال: ولا بأس بأن يطوف وعليه خفاه أو نعلاه إذا كانا طاهرين وإنما أورد هذا ردا على المتشفعة فإنهم يقولون لا يطوف إلا حافيا وإذا كان يجوز الصلاة مع الخفين أو النعلين إذا كانا طاهرين فالطواف أولى.
قال: واستلام الركن اليماني حسن وتركه لا يضره وروي عن محمد رحمه الله تعالى أنه يستلمه ولا يتركه وقال الشافعي رحمه الله تعالى يستلمه ويقبل يده ولا يقبل الركن هكذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني ولم يقبله. وابن عباس رضي الله عنه يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني ووضع خده عليه وابن عمر رضي الله عنه يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركنين يعني الحجر الأسود واليماني فهو دليل لمحمد رحمه الله تعالى ووجه ظاهر الرواية أن كل ركن يكون استلامه مسنونا فتقبيله كذلك مسنون كالحجر الأسود وبالاتفاق هنا التقبيل ليس بمسنون فكذا الاستلام.
قال: ولا يستلم الركنين الآخرين إلا على قول معاوية رضي الله عنه فإنه استلم الأركان الأربعة فقال له بن عباس رضي الله عنهما لا تستلم الركنين فقال ليس شيء منه بمهجور ولكنا نقول القياس ينفي استلام الركن لأن ذلك ليس من تعظيم البقعة كسائر المواضع من البيت ولكنا تركنا القياس في الحجر بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي ما سواه على أصل القياس ثم الركنان الآخران ليسا من أركان البيت لأن أهل الجاهلية قصروا البيت عن قواعد الخليل صلوات الله عليه على ما بينا فلا يستلمهما.

 

ج / 4 ص -45-         قال: وإن رمل في طوافه كله لم يكن عليه شيء لأن المشي على هينته في الأشواط الأربعة من الآداب وبترك الآداب لا يلزمه شيء.
قال: وإن مشى في الثلاثة الأول أو في بعضها ثم ذكر ذلك لم يرمل فيما بقي لأن الرمل في الأشواط الثلاثة سنة فإذا فاتت من موضعها لا تقضى والمشي على هينته في الأربعة الأخر من آداب الطواف أو من السنن فإن ترك في الثلاثة الأول ما هو سنتها لا يترك في الأربعة الأخر ما هو سنتها.
قال: وإن جعل لله عليه أن يطوف زحفا فعليه أن يطوف ماشيا لأنه إنما يلتزم بالنذر ما يتنفل به أو ما يكون قربة في نفسه وأصل الطواف قربة فأما الزحف من أفعال أهل الجاهلية وليس بقربة في شريعتنا فلا تلزمه هذه الصفة بالنذر وإن طاف كذلك زحفا فعليه الإعادة ما دام بمكة وإن رجع إلى أهله فعليه دم بمنزلة ما لو طاف محمولا أو راكبا على ما بينا.
قال: وإن طاف بالبيت من وراء زمزم أو قريبا من ظلة المسجد أجزأه عن ذلك لأنه إذا كان في المسجد فطوافه يكون بالبيت فيصير به ممتثلا للأمر فأما إذا طاف من وراء المسجد فكانت حيطانه بينه وبين الكعبة لم يجزه لأنه طاف بالمسجد لا بالبيت والواجب عليه الطواف بالبيت أرأيت لو طاف بمكة كان يجزئه وإن كان البيت في مكة أرأيت لو طاف في الدنيا أكان يجزئه من الطواف بالبيت لا يجزئه شيء من ذلك فهذا مثله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

باب السعي بين الصفا والمروة
قال رضي الله عنه: وإذا سعى بين الصفا والمروة ورمل في سعيه كله من الصفا إلى المروة ومن المروة إلى الصفا فقد أساء ولا شيء عليه وكذلك إن مشى في جميع ذلك لأن الواجب عليه الطواف بينهما قال الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة: 158]. فأما السعي في بطن الوادي والمشي فيما سوى ذلك أدب أو سنة فتركه لا يوجب إلا الإساءة كترك الرمل في الطواف. قال: وإن بدأ بالمروة وختم بالصفا حتى فرغ أعاد شوطا واحدا لأن الذي بدأ بالمروة فيه ثم أقبل منها إلى الصفا لا يعتد به ومعنى هذا أن افتتاح هذا الطواف مشروع من الصفا على ما روينا أنه لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيهما نبدأ فقال: "ابدءوا بما بدأ الله تعالى به". وإذا افتتح من غير موضع الافتتاح لا يعتد بطوافه حتى يصل إلى موضع الافتتاح ثم المعتد به يبقى بعد ذلك فعليه إتمامه بشوط آخر كما لو افتتح الطواف من غير الحجر.
قال: وإن ترك السعي فيما بين الصفا والمروة رأسا في حج أو عمرة فعليه دم عندنا وهذا لأن السعي واجب وليس بركن عندنا الحج والعمرة في ذلك سواء وترك الواجب يوجب الدم وعند الشافعي رحمه الله تعالى السعي ركن لا يتم لأحد حج ولا عمرة إلا به،

 

ج / 4 ص -46-         واحتج في ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سعى بين الصفا والمروة وقال لأصحابه رضي الله عنهم "إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا" والمكتوب ركن وقال صلى الله عليه وسلم:  "ما أتم الله تعالى لامرى ء حجة ولا عمرة لا يطوف لها بين الصفا والمروة"، وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة: 158] ومثل هذا اللفظ للإباحة لا للإيجاب فيقتضي ظاهر الآية أن لا يكون واجبا ولكنا تركنا هذا الظاهر في حكم الإيجاب بدليل الإجماع فبقي ما وراءه على ظاهره.
وإنما ذكر هذا اللفظ والله أعلم لأصحابه لأنهم كانوا يتحرزون عن الطواف بهما لمكان الصنمين عليهما في الجاهلية إساف ونائلة فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم بين في الآية أن المقصود حج البيت بقوله تعالى:
{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ}[البقرة: 158] فكان ذلك دليلا على أن ما لا يتصل بالبيت من الطواف يكون تبعا لما هو متصل بالبيت ولا تبلغ درجة التبع درجة الأصل فتثبت فيه صفة الوجوب لا الركنية فكان السعي مع الطواف بالبيت نظير الوقوف بالمشعر الحرام مع الوقوف بعرفة وذلك واجب لا ركن فهذا مثله وهو نظير رمي الجمار من حيث أنه مقدر بعدد السبع غير مختص بالبيت ولا يصح استدلاله بظاهر الحديث الذي رواه لأن في ظاهره ما يدل على أن السعي مكتوب وبالاتفاق عين السعي غير مكتوب فإنه لو مشى في طوافه بينهما أجزأه.
وفي الحديث الآخر ما يدل على الوجوب دون الركينة لأنه علق التمام بالسعي وأداء أصل العبادة يكون بأركانها فصفة التمام بالواجب فيها وكذلك لو ترك منها أربعة أشواط فهو كترك الكل في أنه يجب عليه الدم به لأن الأكثر يقوم مقام الكمال وإن ترك ثلاثة أشواط أطعم لكل شوط مسكينا إلا أن يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص منه ما شاء وهو نظير طواف الصدر في ذلك وكذلك إن فعله راكبا فإن كان لعذر فلا شيء عليه وإن كان لغير عذر فعليه الدم في الأكثر والصدقة في الأقل لما بينا.
قال: ويجوز سعي الجنب والحائض لأنه غير مختص بالبيت فلا تكون الطهارة شرطا فيه كالوقوف وغيره من المناسك وإنما اشتراط الطهارة في الطواف خاصة لاختصاصه بالبيت.
قال: ولا يجوز السعي قبل الطواف لأنه إنما عرف قربة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الطواف وهكذا توارثه الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهو في المعنى متمم للطواف فلا يكون معتدا به قبله كالسجود في الصلاة أو شرط الاعتداد به تقدم الطواف فإذا انعدم هذا الشرط لا يعتد به كالسجود لما كان شرط الاعتداد به تقدم الركوع فإذا سبق الركوع لا يعتد به.
قال: ويجوز السعي بعد أن يطوف الأكثر من الطواف لأن الأكثر يقوم مقام الكل.

 

ج / 4 ص -47-         قال ويكره له ترك الصعود على الصفا والمروة فإن النبي صلى الله عليه وسلم صعد عليهما وأمرنا بالاقتداء به بقوله: "خذوا عني مناسككم". وكذلك الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ومن بعدهم توارثوا الصعود على الصفا والمروة بقدر ما يصير البيت بمرأى العين منهم فهو سنة متبعة يكره تركها وروي أن عمر رضي الله عنه في نزوله من الصفا كان يقول اللهم استعملني بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وتوفني على ملته واعذني من معضلات الفتن أو من معضلات يوم القيامة ولا يلزمه بترك الصعود شيء لأن الواجب عليه الطواف بينهما وقد أتى بذلك.
قال: وإن طاف لحجته وواقع النساء ثم سعى بعد ذلك أجزأه لأن تمام التحلل بالطواف بالبيت يحصل على ما جاء في الحديث فإذا طاف بالبيت حل له النساء فاشتغاله بالجماع بعد الطواف قبل السعي كاشتغاله بعمل آخر من نوم أو أكل فلا يمنع صحة أداء السعي بعده وإن أخر السعي حتى رجع إلى أهله فعليه دم لتركه كما بينا وأن أراد أن يرجع إلى مكة ليأتي بالسعي يرجع بإحرام جديد لأن تحلله بالطواف قد تم وليس له أن يدخل مكة إلا بإحرام.
قال: والدم أحب إلي من الرجوع لأنه إذا رجع كان مؤديا السعي في إحرام آخر غير الإحرام الذي أدى به الحج وإن أراق دما انجبر به النقصان الواقع في الحج ولأن في إراقة الدم توفير منفعة اللحم على المساكين فهو أولى من الرجوع للسعي وإن رجع وسعى أو كان بمكة وسعى بعد أيام النحر فليس عليه شيء لأن السعي غير مؤقت بايام النحر إنما التوقيت في الطواف بالنص فلا يلزمه بتأخير السعي شيء.
قال: ولا ينبغي له في العمرة أن يحل حتى يسعى بين الصفا والمروة لأن الأثر جاء فيها أنه إذا طاف وسعى وحلق أو قصر حل وإنما أراد به الفرق بين سعي العمرة وسعي الحج فإن أداء سعي الحج بعد تمام التحلل بالطواف صحيح ولا يؤدي سعي العمرة إلا في حال بقاء الإحرام لأن الأثر في كل واحد منهما ورد بهذه الصفة وفي مثله علينا الاتباع إذ لا يعقل فيه معنى ثم من واجبات الحج ما هو مؤدى بعد تمام التحلل كالرمي فيجوز السعي أيضا بعد تمام التحلل وليس من أعمال العمرة ما يكون مؤدى بعد تمام التحلل والسعي من أعمال العمرة فعليه أن يأتي به قبل التحلل بالحلق والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب الخروج إلى منى
قال: ويستحب للحاج أن يصلي الظهر يوم التروية بمنى ويقيم بها إلى صبيحة عرفة هكذا علم جبرائيل عليه السلام إبراهيم صلوات الله عليه حين وقفه على المناسك فإنه خرج به يوم التروية إلى منى فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من يوم عرفة بمنى وإنما سمي يوم التروية لأن الحاج يروون فيه بمنى أو لأنهم يروون ظهورهم فيه بمنى ففي هذه التسمية ما يدل على أنه ينبغي لهم أن يكونوا بمنى يوم التروية وإن صلى الظهر بمكة ثم راح إلى منى لم يضره لأنه لا يتعلق بمنى في هذا اليوم نسك مقصود فلا

 

ج / 4 ص -48-         يضره تأخير إتيانه وإن بات بمكة ليلة عرفة وصلى بها الفجر ثم غدا منها إلى عرفات ومر بمنى أجزأه لما بينا وقد أساء في تركه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أقام بمنى يوم التروية كما رواه جابر رضي الله عنه مفسرا.
قال: ثم ينزل حيث أحب من عرفات ويصعد الإمام المنبر بعد الزوال ويؤذن المؤذن وهو عليه فإذا فرغ قام الإمام يخطب فحمد الله وأثنى عليه ولبى وهلل وكبر وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم ودعى الله تعالى بحاجته وقد بينا هذا فيما سبق.
والحاصل أن في الحج عندنا ثلاث خطب إحداها قبل التروية بيوم والثانية يوم عرفة بعرفات والثالثة في الغد من يوم النحر بمنى.
فيخطب بمكة قبل التروية بيوم يعلمهم كيف يحرمون بالحج وكيف يخرجون منها إلى منى وكيف يتوجهون إلى عرفات وكيف ينزلون بها ثم يمهلهم يوم التروية حتى يعملوا بما علمهم.
ثم يخطب يوم عرفة خطبة يعلمهم فيها ما يحتاجون إليه في هذا اليوم وفي يوم النحر ثم يمهلهم يوم النحر ليعملوا بما علمهم.
ثم يخطب في اليوم الثاني من أيام النحر خطبة يعلمهم فيها بقية ما يحتاجون إليه من أمور المناسك.
وعن زفر رحمه الله تعالى قال يخطب يوم التروية بمنى ويوم عرفة بعرفات ويوم النحر بمنى لأنه يوم التروية يحرم بالحج ويوم عرفة يقف ويوم النحر يطوف بالبيت.
وأركان الحج هذه الأشياء الثلاثة فيخطب في كل يوم يأتي فيه بذلك الركن. ثم بين في الكتاب كيفية الجمع بين الصلاتين بعرفة واشتراط الإمام فيها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقد تقدم بيان هذا الفصل بتمامه.
قال: ومن أدرك مع الإمام شيئا من كل صلاة فهو كإدراك جميع الصلاة في أنه يجوز له الجمع بينهما على قياس الجمعة إذا أدرك الإمام في التشهد منها كان مدركا الجمعة.
قال: وإن كان الإمام سبقه الحدث في الظهر فاستخلف رجلا فإنه يصلي بهم الظهر والعصر لأن الإمام أقامه مقام نفسه فيما كان عليه أداؤه وكان عليه أداء الصلاتين فيقوم خليفته مقامه في ذلك.
قال: فإن رجع الإمام فأدرك معه جزء من صلاة العصر جمع بين الصلاتين لأنه مدرك لأول الظهر ومدرك لآخر العصر وإن لم يرجع حتى فرغ خليفته من العصر فإن الإمام لا يصلي العصر ما لم يدخل وقتها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وهذه المسألة تدل على أن من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الجماعة شرط في الجمع بين الصلاتين هنا كالإمام وإنه بمنزلة الجمعة في هذا وقد ذكر بعد هذا أنه إذا نفر

 

ج / 4 ص -49-         الناس عنه فصلى وحده الصلاتين أجزأه فهو دليل على أن الجماعة فيه ليس بشرط وقيل ما ذكر بعد هذا قولهما لأنه أطلق الجواب وهنا نص على قول أبي حنيفة وقيل بل فيه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في إحدى الروايتين جعلها كالجمعة في اشتراط الجماعة فيها وفي الرواية الأخرى فرق بينهما فقال اشتراط الجماعة هناك لتسمية تلك الصلاة جمعة وفي هذا الموضع إنما سمى هاتين الصلاتين الظهر والعصر وليس في هذا الاسم ما يدل على اشتراط الجماعة ومعنى الجمع هنا منصرف إلى الصلاتين لا إلى المؤدين لهما فلا تشترط الجماعة فيهما.
 قال: وليس في هاتين الصلاتين القراءة جهرا إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول يجهر بالقراءة فيها لأنها صلاة مؤداة بجمع عظيم فيجهر فيها بالقراءة كالجمعة والعيدين ولكنا نقول أن رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقلوا أنه جهر في هاتين الصلاتين بالقراءة وهما يؤديان في هذا المكان كما يؤديان في غيره من الأمكنة وفي غير هذا اليوم فلا يجهر بالقراءة فيهما عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:
"صلاة النهار عجماء"، أي ليس فيها قراءة مسموعة.
قال: وإن خطب قبل الزوال أو ترك الخطبة وصلى الصلاتين معا أجزأه وقد أساء في تركه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الخطبة ليس من شرائط هذا الجمع بخلاف الجمعة وقد بينا ذلك فهذه خطبة وعظ وتذكير وتعليم لبعض ما يحتاج إليه في الوقت فتركها لا يوجب إلا الإساءة كترك الخطبة في العيدين.
قال: وإن كان يوم غيم فاستبان أنه صلى الظهر قبل الزوال والعصر بعده فالقياس أنه يعيد الظهر وحدها لأن العصر مؤداة في وقتها وحين أدى العصر ما كان ذاكرا للظهر فيكون في معنى الناسي والترتيب يسقط بالنسيان ولكن استحسن أن يعيد الخطبة والصلاتين جميعا لأن شرط صحة العصر في هذا اليوم تقديم الظهر عليه على وجه الصحة فإن العصر معجل على وقته وهذا التعجيل للجمع فإنما يحصل الجمع بأداء العصر إذا تقدم أداء الظهر بصفة الصحة فإذا تبين أن الظهر لم يكن صحيحا كان عليه إعادة الصلاتين جميعا.
قال: وإن أحدث الإمام بعد الخطبة قبل أن يدخل في الصلاة فأمر رجلا قد شهد الخطبة أو لم يشهد أن يصلي بهم أجزأهم لأن الخطبة ليست من شرائط هذا الجمع.
قال: وإن تقدم رجل من الناس بغير أمر الإمام فصلى بهم الصلاتين جميعا لم يجزهم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن هذا الإمام شرط هذا الجمع عنده.
قال: وإن مات الإمام فصلى بهم خليفته أو ذو سلطان أجزأهم لأن خليفته قائم مقامه فهو بمنزلة ما لو صلى الإمام بنفسه وإن لم يكن فيهم ذو سلطان صلى كل صلاة لوقتها بمنزلة الجمعة.
قال: ولا جمعة بعرفة يعني إذا كان الناس يوم الجمعة بعرفات لا يصلون الجمعة بها لأن المصر من شرائط الجمعة وعرفات ليس في حكم المصر إذ ليس لها أبنية إنما هي

 

ج / 4 ص -50-         فضاء وليست من فناء مكة لأنها من الحل بخلاف منى عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبي يوسف لأنها من فناء مكة ولأنها بمنزلة المصر في هذه الأيام لما فيها من الأبنية والأسواق المركبة وقد بينا هذا في الصلاة.
قال: ومن وقف بعرفة قبل الزوال لم يجزه ومن وقف بعد زوال الشمس أو ليلة النحر قبل انشقاق الفجر أو مر بها مجتازا وهو يعرفها أو لا يعرفها أجزأه فالحاصل أن ابتداء وقت الوقوف بعد الزوال عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى من طلوع الشمس لأن هذا اليوم مسمى بأنه يوم عرفة فإنما يصير اليوم مطلقا من وقت طلوع الفجر فتبين أن وقت الوقوف من ذلك الوقت واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم:
"الحج عرفة فمن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه". والنهار اسم للوقت من طلوع الشمس سمي نهارا لجريان الشمس فيه كالنهر يسمى نهرا لجريان الماء فيه وحجتنا في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقف بعد الزوال فكان مبينا وقت الوقوف بفعله فدل أن ابتداء الوقوف بعد الزوال.
والدليل عليه ما روينا من حديث بن عمر رضي الله عنه أنه قال للحجاج بعد الزوال إن أردت السنة فالساعة ولا يبعد أن يسمى اليوم بهذا الاسم وإن كان وقت الوقوف بعد الزوال كيوم الجمعة صار وقتا لأداء الجمعة بعد الزوال مع أن اليوم مسمى بهذا الاسم.
ثم الأصل فيما قلنا حديث عروة بن مضرس بن أوس الطائي رحمه الله تعالى أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الجمع وهو بالمشعر الحرام فقال: أكللت راحلتي وأجهدت نفسي وما مررت بجبل من الجبال إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال صلى الله عليه وسلم: "من وقف معنا هذا الموقف وصلى معنا هذه الصلاة وقد كان أفاض قبل ذلك من عرفات ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه".
قال: ومن وقف بعرفة بعد الزوال ثم أفاض من ساعته أو أفاض قبل غروب الشمس أو صلى بها الصلاتين ولم يقف وأفاض أجزأه عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى لا يجزئه إلا أن يقف في اليوم وجزء من الليل وذلك بأن تكون إفاضته بعد غروب الشمس واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم:
"من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج".
ولكنا نقول: هذه الزيادة غير مشهورة وإنما المشهور ما رواه في الكتاب: "ومن فاته عرفة فقد فاته الحج"، وفيما روينا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ساعة من ليل أو نهار" دليل على أن بنفس الوقوف في وقته يصير مدركا للحج وإن لم يستدم الوقوف إلى وقت غروب الشمس.
ثم يجب عليه الدم إذا أفاض قبل غروب الشمس لأن نفس الوقوف ركن واستدامته إلى غروب الشمس واجبة لما فيها من إظهار مخالفة المشركين فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به وترك الواجب يوجب الجبر بالدم فإن رجع ووقف بها بعد ما غابت الشمس لم يسقط الدم إلا في رواية بن شجاع عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى فإنه يقول يسقط عنه الدم قال:

 

ج / 4 ص -51-         لأنه استدرك ما فاته وأتى بما عليه لأن الواجب عليه الإفاضة بعد غروب الشمس وقد أتى به فيسقط عنه الدم كمن جاوز الميقات حلالا ثم عاد إلى الميقات وأحرم.
وفي ظاهر الرواية: لا يسقط عنه الدم لأن الواجب على من وصل إلى عرفات بعد الزوال استدامة الوقوف إلى غروب الشمس ولم يتدارك ذلك بالانصراف بعد الشمس فلا يسقط عنه الدم وإن عاد قبل غروب الشمس حتى أفاض مع الإمام فذكر الكرخي في مختصره أن الدم يسقط عنه لأن الواجب عليه الإفاضة مع الإمام بعد غروب الشمس وقد تدارك ذلك في وقته ومن أصحابنا من يقول لا يسقط الدم هنا أيضا لأن استدامة الوقوف قد انقطعت بذهابه فبرجوعه لا يصير وقوفه مستداما بل ما فات منه لا يمكنه تداركه فلا يسقط عنه الدم.
قال: وإذا أغمي على المحرم فوقف به أصحابه بعرفات أجزأه ذلك لأنه تأدى الوقوف بحصوله في الموقف في وقت الوقوف ألا ترى أنه لو مر بعرفات مار وهو لا يعلم بها في وقت الوقوف أجزأه ولا يبعد أن يتأدى ركن العبادة من المغمى عليه كما يتأدى ركن الصوم وهو الإمساك بعد النية من المغمى عليه.
 قال: ووقوف الجنب والحائض ومن صلى صلاتين ومن لم يصل جائز لأن الوقوف غير مختص بالبيت فلا تكون الطهارة شرطا فيه وفرضية الصلاة عليه غير متصل بالوقوف فتركها لا يؤثر في الوقوف كما لا يؤثر في الصوم.
قال: وإن وقف القارن بعرفة قبل أن يطوف للعمرة فهو رافض لها إن نوى الرفض وإن لم ينو لأن المعنى المعتبر تعذر أداء العمرة بعد الوقوف وهذا متحقق نوى الرفض أو لم ينو ولم يذكر في الكتاب ما إذا اشتبه يوم عرفة على الناس بأن لم يروا هلال ذي الحجة وهو مروي عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا نحروا ووقفوا بعرفة في يوم فإن تبين أنهم وقفوا في يوم التروية لا يجزيهم وإن تبين أنهم وقفوا يوم النحر أجزأهم استحسانا وفي القياس لا يجزيهم لأن الوقوف مؤقت بوقت مخصوص فلا يجوز بعد ذلك الوقت كصلاة الجمعة ولكنه استحسن لقوله صلى الله عليه وسلم:
"عرفتكم يوم تعرفون"، وفي رواية: "حجكم يوم تحجون".
والحاصل أنهم بعد ما وقفوا بيوم إذا جاء الشهود ليشهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك لا ينبغي للقاضي أن يستمع إلى هذه الشهادة ولكنه يقول قد تم للناس حجهم ولا مقصود في شهادتهم سوى ابتغاء الفتنة فإن جاؤوا فشهدوا عشية عرفة فإن كان بحيث يتمكن فيه الناس من الخروج إلى عرفات قبل طلوع الفجر قبل شهادتهم وأمر الناس بالخروج ليقفوا في وقت الوقوف وإن كان بحيث لا يتمكن من ذلك لا يستمع إلى شهادتهم ويقف الناس في اليوم الثاني ويجزئهم.

 

ج / 4 ص -52-         قال وإن جامع القارن بعرفة قبل زوال الشمس وقد طاف لعمرته فعليه دمان ويفرغ من حجته وعمرته وعليه قضاء الحج وهنا فصول:
أحدها: في المفرد بالحج إذا جامع قبل الوقوف يفسد حجه لقوله تعالى:
{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة: 197] فهو دليل على المنافاة بين الحج والجماع فإذا وجد الجماع فسد الحج وعليه المضي في الفاسد والقضاء من قابل على هذا اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من شرع في الإحرام لا يصير خارجا عنه إلا بأداء الأعمال فاسدا كان أو صحيحا وعليه دم عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى عليه بدنة بمنزلة ما لو جامع بعد الوقوف ولكنا نقول هذا الدم لتعجيل هذا الإحلال والشاة تكفي فيه كما في المحصر وجزاء فعله هنا وجوب القضاء عليه لأنه أهم ما يجب في الحج فلا يجب معه كفارة أخرى.
فأما إذا جامع بعد الوقوف بعرفة لا يفسد حجه عندنا ولكن يلزمه بدنة ويتم حجه.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى إذا جامع قبل الرمي يفسد حجه لأن إحرامه قبل الرمي مطلق ألا ترى أنه لا يحل له شيء مما هو حرام على المحرم والجماع في الإحرام المطلق مفسد للنسك كما قبل الوقوف بعرفة بخلاف ما بعد الرمي فقد جاء أوان التحلل وحل له الحلق الذي كان حراما قبل على المحرم والحجة لنا في ذلك حديث بن عباس رضي الله تعالى عنه قال إذا جامع قبل الوقوف فسد نسكه وعليه بدنة وإذا جامع بعد الوقوف فحجته تامة وعليه دم.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه"، وبالاتفاق لم يرد التمام من حيث أداء الأفعال فقد بقي عليه بعض الأركان وإنما أراد به الإتمام من حيث أنه يأمن الفساد بعده وهو المعنى الفقهي أن بالوقوف تأكد حجه ألا ترى أنه يأمن الفوات بعد الوقوف فكما يثبت حكم التأكد في الأمن من الفوات فكذلك في الأمن من الفساد فأما قبل الوقوف حجه غير متأكد ألا ترى أنه يفوته بمضي وقت الوقوف فكذلك يفسد بالجماع وهذا لأن الجماع محظور كسائر المحظورات وارتكاب محظورات الحج غير مفسد له فكان ينبغي أن لا يكون الجماع مفسدا.
تركنا هذا الأصل فيما إذا حصل الجماع قبل تأكد الإحرام بدليل الإجماع وما بعد التأكد ليس في معنى ما قبله فيبقى على أصل القياس وهذا على أصله أظهر فإنه يقول إذا بلغ الصبي قبل الوقوف جاز حجه عن الفرض بخلاف ما بعد الوقوف توضيحه أن عنده لو جامع قبل الرمي يفسد الحج وإذا جامع بعده لا يفسد والجماع قبل الرمي لا يكون أكثر تأثيرا من ترك الرمي وترك الرمي غير مفسد للحج فكيف يكون الجماع قبله مفسدا.
والفصل الثاني: المفرد بالعمرة إذا جامع قبل أن يطوف أكثر الأشواط فسدت عمرته

 

ج / 4 ص -53-         وعليه دم وإن جامع بعد ما طاف أكثر الأشواط لا تفسد عمرته لأن ركن العمرة هو الطواف فيتأكد إحرامه بأداء أكثر الأشواط كما يتأكد إحرام الحج بالوقوف ولكن عليه دم عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى في الوجهين جميعا تفسد عمرته وعليه بدنة لأن الجماع محظور كل واحد من النسكين فكما أن في الحج تجب البدنة بالجماع فكذلك بالعمرة وعندنا لا مدخل للبدنة في العمرة بخلاف الحج على ما بينا في طواف الحج ففي الحقيقة إنما ينبني هذا على الخلاف المعروف بيننا وبينهم في العمرة عندنا العمرة سنة وعلى قوله فريضة كفريضة الحج واحتج بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196] فقد قرن بينهما في الأمر بالإتمام فدل على فرضيتهما.
وفي حديث بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"العمرة فريضة الحج". وقال صبي بن معبد فوجدت الحج والعمرة واجبين علي وقال صلى الله عليه وسلم للخثعمية: "حجي عن أبيك واعتمري"، وحقيقة الأمر للوجوب.
 ولنا: حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الحج جهاد والعمرة تطوع". وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: "لا وأن تعتمر خير لك". ولأن العمرة لا تتوقت بوقت معلوم في السنة وإنما باين النفل الفرض بهذا فإن الفرض يتوقت بوقت والنفل لا يتوقت ولأنه يتأدى بنية غيره فإن عنده المحرم بالحج قبل أشهر الحج يكون محرما بالعمرة وبالإجماع فائت الحج يتحلل بأعمال العمرة والفرض إنما باين النفل بهذا فإن النفل يتأدى بنية الفرض والفرض الذي هو غير معين لا يتأدى بنية النفل.
 فأما الآية فقد قرئت بالنصب وبالرفع والعمرة لله فالقراءة بالرفع ابتداء خبر العمرة لله والنوافل لله تعالى كالفرائض ثم هذا أمر بالإتمام بعد الشروع ولا خلاف فيه وما عرفنا ابتداء فرضية الحج بهذه الآية بل عرفناه بقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}[آل عمران: 97] وبهذا تبين أن المقصود زيارة البيت وهذا المقصود حاصل بفرضية نسك واحد فلا تثبت صفة الفرضية في عدد منه ولهذا لا تتكرر فرضية الحج.
 ومعنى قوله: فريضة أي مقدرة بأعمال كالحج فإن الفرض هو التقدير وبه نقول أنها مقدرة فأكثر ما في الباب أن الآثار قد اشتبهت فيه ولكن صفة الفرضية مع اشتباه الأدلة لا تثبت فإذا ثبت عندنا أن أصله ليس بفرض بل هو تبع للحج لا يكون وجوب البدنة بالجماع في الحج دليلا على وجوبها في العمرة وعنده لما كان فرضا وجب بالجماع فيه ما يجب في الحج.
والفصل الثالث: القارن إذا جامع قبل الزوال وقد طاف لعمرته فإنما جامع بعد تأكد إحرام العمرة فلا تفسد عمرته بهذا الجماع وعليه دم لأجله وجامع قبل تأكد إحرام الحج فيفسد حجه وعليه دم لتعجيل الإحلال وقضاء الحج وقد سقط عنه دم القران بفساد

 

ج / 4 ص -54-         أحد النسكين وإن جامع بعد الوقوف فعليه للعمرة دم وللحج جزور وعليه دم القران لأنه لم يفسد واحد من النسكين بهذا الجماع.
قال: وكذلك لو جامع بعد الحلق قبل أن يطوف بالبيت يريد به في وجوب الجزور عليه لأن إحرامه للحج في حق النساء باق حتى يطوف بالبيت ولكن لا يلزمه دم العمرة هنا لأن تحلله للعمرة قد تم بالحلق.
قال: ومن جامع ليلة عرفة قبل أن يأتي عرفة فسد حجه وعليه شاة لأن إحرامه لا يتأكد بدخول وقت الوقوف وإنما يتأكد بفعل الوقوف ألا ترى أن الأمن من الفوات لا يحصل بدخول وقته وإنما يحصل بالوقوف؟ فكان هذا وما لو جامع قبل دخول وقت الوقوف سواء.
قال: وإذا وقف القارن بعرفة قبل طواف العمرة ثم جامع فقد بينا أن إحرامه للعمرة قد ارتفض بالوقوف ولزمه دم لرفض العمرة وعليه جزور للجماع لأن جماعه صادف إحرام الحج بعد ما تأكد فيتم حجه وعليه قضاء العمرة بعد أيام التشريق.
قال: ومن دخل مكة بغير إحرام فخاف الفوت إن رجع إلى الميقات فأحرم ووقف أجزأه وعليه دم لترك الوقت هكذا نقل عن عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا إذا جاوز الميقات بغير إحرام فعليه دم لترك الوقت وكان المعنى فيه أن الشرع عين الميقات للإحرام فبتأخيره الإحرام عن الميقات يتمكن فيه النقصان ونقائص الحج تجبر بالدم ولما ابتلي ببليتين يختار أهونهما والتزام الدم أهون من الرجوع إلى الميقات لتفويته الحج.
قال: وإذا وقف الحاج بعرفة ثم أهل وهو واقف بحجة أخرى فإنه يرفضها وعليه دم لرفضها وحجة وعمرة مكانها ويمضي في التي هو فيها وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى فأما عند محمد فإحرامه باطل بمنزلة اختلافهم فيمن أحرم بحجتين على ما نبينه وإنما يرفضها لأنه لو لم يرفضها ووقف لها لبقاء وقت الوقوف يصير مؤديا حجتين في سنة واحدة ولا يجوز أن يؤدي في سنة أكثر من حجة واحدة وإذا رفضها فعليه الدم لرفضها لأنه خرج من الإحرام بعد صحة الشروع. قبل أداء الأفعال فلزمه الدم كالمحصر وعليه قضاء حجة وعمرة مكانها بمنزلة المحصر بالحج إذا تحلل وهذا لأنه في معنى فائت الحج وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة وهذا لم يأت بأعمال العمرة فكان عليه قضاؤها مع قضاء الحج.
قال: وكذلك إن أهل بعمرة أيضا يرفضها لأن وقوفه لو طرأ على عمرة صحيحة أوجب رفضها على ما بينا في القارن إذا وقف قبل أن يطوف لعمرته فكذلك إذا اقترن بوقوفه إحرام العمرة وهذا لأنه لو لم يرفضها أدى أفعالها فيكون بانيا أعمال العمرة على أعمال الحج فلهذا يرفضها وعليه دم وقضاؤها لخروجه منها بعد صحة الشروع.

 

ج / 4 ص -55-         قال: وكذلك لو كان أهل بالحج ليلة المزدلفة بالمزدلفة فهو رافض ساعة أهل لأنه لو لم يرفضها عاد إلى عرفات فوقف فيصير مؤديا حجتين في سنة واحدة وهذا بخلاف ما إذا أهل بحجتين فإن هناك إذا عجل في عمل أحدهما لا يصير رافضا للأخر وهنا هو مشغول بعمل أحدهما بل هو مؤد له فلهذا يرتفض الآخر في الحال فكذلك إن أهل بعمرة ليلة المزدلفة فهو رافض لها وفي الكتاب أضاف هذا القول إلى أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يخالفهما في هذا لما قلنا أنه لو لم يصر رافضا كان بانيا أعمال العمرة على أعمال الحج.
فأما إذا أهل بحجة أخرى بعد طلوع الفجر من يوم النحر لم يرفضها لأن وقت الوقوف قد فات فلو بقي إحرامه هذا لا يكون مؤديا حجتين في سنة واحدة ولكنه يتم أعمال الحجة الأولى ويمكث حراما إلى أن يحج في السنة الثانية إلا أنه إن حلق للحجة الأولى يلزمه دم لجنايته على الإحرام الثاني بذلك الحلق وإن لم يحلق فعليه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أيضا لتأخير الحلق في الحجة الأولى عن وقته وعندهما بهذا التأخير لا يلزمه دم.
وأصل المسألة: أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج يكون محرما بالحج عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يكون محرما بالعمرة وهكذا روى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى.
وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى جميع ذي الحجة استدلالا بقوله تعالى:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}[البقرة: 197]. وأقل الجمع المتفق عليه ثلاثة ولكنا نستدل بقول بن عباس وبن مسعود وبن عمر وبن الزبير رضي الله عنهم أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة فأقاموا أكثر الثلاثة مقام الكمال في معنى الآية لمعنى وهو أن بالاتفاق يفوت الحج بطلوع الفجر من يوم النحر وفوات العبادة يكون بمضي وقتها فأما مع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى أن من ذي الحجة عشر ليال وتسعة أيام فأما اليوم العاشر ليس بوقت الحج لأن الفوات يتحقق بطلوع الفجر من اليوم العاشر وهو يوم النحر وفي ظاهر المذهب اليوم العاشر من وقت الحج لأن الصحابة رضي الله عنهم قالوا وعشر من ذي الحجة وذكر أحد العددين من الإيام والليالي بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بإزائه من العدد الآخر ولأن الله تعالى سمى هذا اليوم يوم الحج الأكبر قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}[التوبة: 3] والمراد يوم النحر لا وقت الحج لأداء الطواف فيه دون الوقوف فلهذا يتحقق الفوات بطلوع الفجر منه لفوات ركن الوقوف.
فأما الشافعي رحمه الله تعالى احتج بقوله صلى الله عليه وسلم:
"المهل بالحج في غير أشهر الحج مهل بالعمرة" ولأن الإحرام بالحج كالتكبير للصلاة فكما لا يجوز الشروع في الفريضة قبل

 

ج / 4 ص -56-         دخول وقت الصلاة في الصلاة فكذلك في الحج والإحرام أحد أركان الحج فلا يتأدى في غير وقت الحج كسائر الأركان وإذا لم يصح إحرامه بالحج كان محرما بالعمرة لأن الوقت وقت العمرة ألا ترى أنه لو فات حجه بمضي الوقت يبقى إحرامه للعمرة فكذلك إذا حصل ابتداء إحرامه في غير أشهر الحج.
ولنا: أن الإحرام للحج بمنزلة الطهارة للصلاة فإنه من الشرائط لا من الأركان حتى يكون مستداما إلى الفراغ منه وهذا حد شرط العبادة لأحد ركن العبادة ولأنه لا يتصل به أداء الأفعال فالإحرام يكون عند الميقات وأداء الأفعال بمكة ولو أحرم في أول يوم من أشهر الحج يصح وأداء الأفعال بعد ذلك بزمان فعرفنا أنه بمنزلة الشرط فلا يستدعي صحة الوقت بخلاف الصلاة فإن أداء الأركان هناك يتصل بالتكبير فإذا حصل قبل دخول الوقت لا يتصل أداء الأركان به.
والحديث في الباب شاذ جدا فلا يعتمد على مثله ولكن يكره له أن يحرم بالحج قبل أشهر الحج من أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول الكراهة لمعنى أن الإحرام من وجه بمنزلة الأركان ولهذا لو حصل قبل العتق لا يتأدى به فرض الحج بعد العتق وما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما فلشبهه بالشرائط يجوز قبل الوقت ولشبهه بالأركان يكون مكروها وقيل بل الكراهة لأنه لا يأمن من مواقعة المحظور إذا طال مكثه في الإحرام.
قال: ويجمع الإمام بين صلاة المغرب والعشاء بمزدلفة بآذان وإقامة فإن تطوع بينهما أقام للعشاء إقامة أخرى وقال زفر رحمه الله تعالى إذا تطوع بينهما آذن وأقام للعشاء لأن الفصل بينهما قد تحقق بالاشتغال بالتطوع فهو بمنزلة من يؤدي كل صلاة في وقتها فعليه الآذان والإقامة لكل صلاة ولكنا نقول الجمع بينهما لا ينقطع بهذا الفصل كما لا ينقطع إذا اشتغل بالأكل ولكنه يحتاج إلى إعلام الناس أنه يصلي العشاء وبالإقامة يتم هذا الإعلام والأصل فيه حديث بن عمر رضي الله عنه فإنه صلى المغرب بمزدلفة ثم تعشى ثم أفرد الإقامة للعشاء.
فإن صلى المغرب بعرفات بعد غروب الشمس أو صلاها في طريق المزدلفة قبل غيبوبة الشفق أو بعده فعليه أن يعيدها بمزدلفة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى يكره ما صنع ولا يلزمه الإعادة لأنه أدى الفرض في وقته فإن ما بعد غروب الشمس وقت المغرب بالنصوص الظاهرة وأداء الصلاة في وقتها صحيح ألا ترى أنه لو لم يعد حتى طلع الفجر لم يلزمه الإعادة ولو لم يقع ما أدى موقع الجواز لما سقطت عنه الإعادة بطلوع الفجر.
ولكنا نستدل بحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه فإنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق المزدلفة فلما غربت الشمس قال الصلاة يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم:
"الصلاة أمامك"، ولم يرد بهذا فعل الصلاة لأن فعل الصلاة حركات المصلي وهو معه فأما إن أراد به الوقت

 

ج / 4 ص -57-         أو المكان فإن كان المراد به المكان فقد بين بهذا النص اختصاص أداء الصلاة بمكان وهو المزدلفة فلا يجوز في غيرها وإن كان المراد به الوقت فقد تبين أن وقت المغرب في حق الحاج لا يدخل بغروب الشمس.
وأداء الصلاة قبل الوقت لا يجوز والدليل عليه أنه مأمور بالتأخير لا لأن في الاشتغال بالصلاة انقطاع سيرة فإن أداء الصلاة في وقتها فريضة فلا يسقط بهذا العذر ولكن الأمر بالتأخير للجمع بينهما بالمزدلفة وهذا المعنى يفوت بأداء المغرب في طريق المزدلفة فعليه الإعادة بعد الوصول إلى المزدلفة ليصير جمعا بين الصلاتين كما هو المشروع نسكا ولهذا سقطت عنه الإعادة بطلوع الفجر لأن وجوب الإعادة لمكان إدراك فضيلة الجمع بينهما وهذا يفوت بفوات وقت العشاء ولهذا قلنا إذا بقي في الطريق حتى صار بحيث يعلم أنه لا يصل إلى المزدلفة قبل طلوع الفجر يصلي المغرب ولا يؤخرها بعد ذلك.
قال: ويغلس بصلاة الفجر بالمزدلفة حين ينشق له الفجر الثاني لحديث بن مسعود رضي الله عنه كما بينا ثم يغفي حتى إذا أسفر دفع قبل طلوع الشمس وهذا الوقوف واجب عندنا وليس بركن حتى إذا تركه لغير علة يلزمه دم وحجه تام وعلى قول الليث بن سعد رحمه الله تعالى هذا الوقوف ركن لا يتم الحج إلا به لأنه مأمور به في كتاب الله تعالى قال الله تعالى:
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}[البقرة: 198] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس رحمه الله تعالى: "من وقف معنا هذا الموقف فقد تم حجة". علق تمام حجه بهذا الوقوف فعرفنا أنه لا يتم إلا به.
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم:
" الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه". ولأنه يجوز ترك هذا الوقوف بعذر فإن ضباعة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها كانت شاكية فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصير إلى منى ليلة المزدلفة فأذن لها وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله من المزدلفة بليل ولو كان ركنا لم يجز تركه لعذر وبهذا تبين أن هذا الوقوف مع الوقوف بعرفة بمنزلة طواف الزيارة مع طواف الصدر ثم طواف الصدر واجب وليس بركن ويجوز تركه بعذر الحيض فكذا هذا والمزدلفة كلها موقف إلا حسر وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة وقد بينا الأثر المروي في هذا الباب فيما سبق.
قال: وأحب إلي أن يكون وقوفه بمزدلفة عند الجبل الذي يقال له قزح من وراء الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار لوقوفه ذلك الموضع وقد بينا في الوقوف بعرفة أن الأفضل أن يقف من وراء الإمام قريبا منه ليؤمن على دعائه فكذلك في الوقوف بمزدلفة فإن تعجل من المزدلفة بليل فإن كان لعذر من مرض أو امرأة خافت الزحام فلا شيء عليه لما روينا وإن كان لغير عذر فعليه دم لتركه واجبا من واجبات الحج فإن أفاض منها بعد طلوع الفجر قبل أن يصلي مع الناس فلا شيء عليه لأنه أتى بأصل الوقوف في وقته ولكنه مسيء فيما صنع لتركه امتداد الوقوف.

 

ج / 4 ص -58-         قال: فإن مر بالمشعر الحرام مرا بعد طلوع الفجر فلا شيء عليه لأن وقوفه تأدى بهذا المقدار وكذا إن كان مر بها نائما أو مغمى عليه فلم يقف مع الناس حتى أفاضوا لأن حصوله في موضع الوقوف في وقته يكون بمنزلة وقوفه وقد بينا هذا في الوقوف بعرفة فكذلك في الوقوف بالمشعر الحرام وإن لم يبت بالمزدلفة ليلة النحر بأن نام في الطريق فلا شيء عليه لأن البيتوتة بالمزدلفة ليست بنسك مقصود ولكن المقصود الوقوف بالمشعر الحرام بعد طلوع الفجر وقد أتى بما هو المقصود فلا يلزمه بترك ما ليس بمقصود شيء كما بينا في ترك البيتوتة بها في ليالي الرمي والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب رمي الجمار
قال رضي الله تعالى عنه: ويبدأ إذا وافى منى برمي جمرة العقبة ثم بالذبح إن كان قارنا أو متمتعا ثم بالحلق لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول نسكنا في هذا اليوم أن نرمي ثم نذبح ثم نحلق". ولأن الذبح والحلق من أسباب التحلل ألا ترى أن تحلل المحصر بالذبح فيقدم الرمي عليهما ثم الذبح في معنى التحلل دون الحلق فإن الحلق محظور الإحرام والذبح لا فكان الذبح مقدما على الحلق وقد بينا اختلاف العلماء في وقت ابتداء الرمي في هذا اليوم وكذلك يختلفون في آخر وقته نفى ظاهر المذهب وقته إلى غروب الشمس ولكنه لو رمى بالليل لا يلزمه شيء وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى وقته إلى زوال الشمس وما بعد الزوال يكون قضاء وللشافعي رحمه الله تعالى فيه قولان.
في أحد القولين:؛ إنما يرمي ذلك إلى غروب الشمس فإذا غربت تعين عليه الفدية بفوات الوقت في هذا الرمي وما عرف الرمي قربة إلا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت فيتحقق فواته بفوات الوقت كالوقوف بعرفة.
وفي القول الآخر يقول: يمتد وقته إلى آخر أيام التشريق حتى يأتي بما ترك من الرمي في آخر أيام التشريق ولا شيء عليه لأن الرمي كله في حكم نسك واحد وإن اختلف مكانه وزمانه فلا يتحقق الفوات فيه إلا بفوات وقته وذلك بمضى آخر أيام التشريق وقاس بالتكبيرات فإن من ترك شيئا من الصلوات في هذه الأيام يقضيها بالتكبيرات إلى آخر أيام التشريق وحجتنا في ذلك أن وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر بالنص.
قال صلى الله عليه وسلم:
"إن أول نسكنا في هذا اليوم وذهاب تمام اليوم بغروب الشمس". إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يقيس الرمي في هذا اليوم بالرمي في اليوم الثاني فيقول كما أن في اليوم الثاني وقت الرمي نصف اليوم وهو ما بعد الزوال فكذا في هذا اليوم وقت الرمي نصف اليوم وذلك إلى زوال الشمس إلا أنه رمى بالليل لم يغرم شيئا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا ليلا ولأن اليوم لما كان وقتا للرمي فالليل يتبعه في ذلك كليلة النحر تجعل

 

ج / 4 ص -59-         تبعا ليوم عرفة في حكم الوقوف فإن لم يرمها حتى يصبح من الغد رماها لبقاء وقت جنس الرمي ولكن عليه دم للتأخير في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا دم عليه عندهما وهو نظير ما بينا في تأخير طواف الزيارة عن أيام النحر.
فأبو حنيفة رحمه الله تعالى هنا جعل تأخير الرمي عن وقته بمنزلة تركه ورمي جمرة العقبة يوم النحر نسك تام.
فكما إن تركه يوجب الدم فكذلك تأخيره عن وقته وكذلك إن ترك الأكثر منها لأن الأكثر بمنزلة الكل وإن ترك منها حصاة أو حصاتين أو ثلاثا إلى الغد رماها وتصدق لكل حصاة بنصف صاع من حنطة على مسكين إلا أن يبلغ دما فحينئذ ينقص منه ما شاء لأن المتروك قل فتكفيه الصدقة وقد بينا نظيره في تأخير طواف الزيارة وإن ترك رمي إحدى الجمار في اليوم الثاني فعليه صدقة لأن رمي الجمار الثلاث في اليوم الثاني نسك واحد فإذا ترك أحدها كان المتروك أقل فتكفيه الصدقة إلا أن المتروك أكثر من النصف فحينئذ يلزمه الدم وجعل ترك الأكثر كترك الكل.
قال: وإن ترك الرمي كله في سائر الأيام إلى آخر أيام الرمي رماها على التأليف لأن وقت الرمي باق فعليه أن يتدارك المتروك ما بقي وقته كالأضحية إذا أخرها إلى آخر أيام النحر وعليه دم للتأخير في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا دم عليه في قولهما فإن تركها حتى غابت الشمس من آخر أيام الرمي سقط عنه الرمي بفوات الوقت لأن معنى القربة في الرمي غير معقول وإنما عرفناه قربة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إنما رمى في هذه الأيام فلا يكون الرمي قربة بعد مضي وقتها كما لا يكون إراقة الدم قربة بعد مضي أيام النحر وإذا لم يكن قربة كان عبثا فلا يشتغل به وعليه دم واحد عندهم جميعا لأن الرمي كله نسك واحد وهو واجب فتركه يوجب الجبر بالدم كما هو مذهبنا في ترك السعي بين الصفا والمروة ولا يبعد أن يكون ترك البعض موجبا للدم ثم لا يجب بترك الكل إلا دم واحد كما إن حلق ربع الرأس في غير أوانه يوجب الدم ثم حلق جميع الرأس لا يوجب إلا دما واحدا وقص أظافر يد واحدة يوجب الدم ثم قص الأظافر كلها لا يوجب إلا دما واحدا.
قال: وإن بدأ في اليوم الثاني بجمرة العقبة فرماها ثم بالوسطى ثم بالتي تلي المسجد ثم ذكر ذلك في يومه قال يعيد على الجمرة الوسطى وجمرة العقبة لأنه نسك شرع مرتبا في هذا اليوم فما سبق أوانه لا يعتد به فكان رمي الجمرة الأولى بمنزلة الافتتاح للجمرة الوسطى والوسطى بمنزلة الافتتاح لجمرة العقبة فما أدى قبل وجود مفتاحه لا يكون معتدا به كمن سجد قبل الركوع أو سعى قبل الطواف بالبيت فالمعتد من رميه هنا الجمرة الأولى فلهذا يعيد على الوسطى وعلى جمرة العقبة.
قال: وإن رمى من كل جمرة ثلاث حصيات ثم ذكر بعد ذلك فإنه يبدأ من الأولى

 

ج / 4 ص -60-         بأربع حصيات ليتمها ثم يعيد على الوسطى بسبع حصيات وكذلك على جمرة العقبة ولا يعتد بما رمى من الوسطى وجمرة العقبة لأن ذلك سبق أوانه فإنه حصل قبل أن يأتي بأكثر الرمي عند الجمرة الأولى فكأنه لم يرم منهما شيئا.
قال: وإن رمى من كل واحدة بأربع أربع فإنه يرمي لكل واحدة بثلاث حصيات لأن رمي أكثر الجمرة الأولى بمنزلة كماله في الاعتداد برمي الجمرة الوسطى كما أن أكثر أشواط الطواف ككماله في الاعتداد بالسعي بعده وإذا كان ما رمى من كل جمرة معتدا به فعليه إكمال رمي كل جمرة بثلاث حصيات فإن استقبل رميها فهو أفضل لأنه أقرب إلى موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم فإنه ما اشتغل بالثانية إلا بعد إكمال الأولى.
قال: وإن رمى جمرة العقبة من فوق العقبة أجزأه وقد بينا أن الأفضل أن يرميها من بطن الوادي ولكن ما حول ذلك الموضع كله موضع الرمي فإذا رماها من فوق العقبة فقد أقام النسك في موضعه فجاز.
قال: وكذلك لو لم يكبر مع كل حصاة أو جعل مكان التكبيرات تسبيحا أجزأه لأن المقصود ذكر الله تعالى عند كل حصاة وذلك يحصل بالتسبيح كما يحصل بالتكبير ثم هو من آداب الرمي فتركه لا يوجب شيئا.
قال: وإن رماها بحجارة أو بطين يابس جاز عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز إلا بالحجر اتباعا لما ورد به الأثر فإن فيما لا يعقل المعنى فيه إنما يحصل الامتثال بعين المنصوص ولكنا نقول المنصوص عليه فعل الرمي وذلك يحصل بالطين كما يحصل بالحجر والأصل فيه فعل الخليل صلوات الله عليه ولم يكن له في الحجر بعينه مقصود إنما مقصوده فعل الرمي إما لإعادة الكبش أو لطرد الشيطان على حسب ما اختلف فيه الرواة فقلنا بأي شيء حصل فعل الرمي أجزأه بمنزلة أحجار الاستنجاء فكما يحصل الاستنجاء بالحجر يحصل الاستنجاء بالطين وغيره.
وبعض المتشفعة يقولون: إن رمى بالبعرة أجزأه وإن رمى بالفضة أو الذهب أو اللؤلؤ والجواهر لا يجوز لأن المقصود إهانة الشيطان وذلك يحصل بالبعر دون الذهب والفضة والجواهر ولسنا نقول بهذا ولكن نقول الرمي بالفضة الذهب يسمى في الناس نثارا لا رميا والواجب عليه الرمي فعليه أن يرمي بكل ما يسمى به راميا.
قال: فإن رمى إحدى الجمار بسبع حصيات جملة فهذه واحدة لأن المنصوص عليه تفرق الأعمال لا عين الحصيات فإذا أتى بفعل واحد لا يكون إلا عن حصاة واحدة كما لو أطعم كفارة اليمين مسكينا واحدا مكان إطعام عشرة مساكين جملة لم يجزه إلا عن إطعام مسكين واحدا.
قال: وإن رماها بأكثر من سبع حصيات لم تضره تلك الزيادة لأنه أتى بما هو الواجب عليه فلا يضره الزيادة عليه بعد ذلك.

 

ج / 4 ص -61-         قال: وإن نقص حصاة لا يدري من أيتهن نقصها أعاد على كل واحدة منهن حصاة واحدة أخذا بالاحتياط في باب العبادة كما لو ترك سجدة من صلاة من الصلوات الخمس ولا يدري من أيها ترك فعليه قضاء الصلوات الخمس.
قال: وإن قام عند الجمرة ووضع الحصاة عندها وضعا لم يجزه لأن الواجب عليه فعل الرمي والواضع غير رام وإن طرحها طرحا أجزأه وقد أساء لأن الطارح رام إلا أن الرمي تارة يكون أمامه وتارة يكون عند قدميه بالطرح ولكنه مسيء لمخالفة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفا.
قال: فإن رماها من بعيد فلم تقع الحصاة عند الجمرة فإن وقعت قريبا منها أجزأه لأن هذا القدر مما لا يتأتى التحرز عنه خصوصا عند كثرة الزحام وإن وقعت بعيدا منها لم يجزه لأن الرمي قربة في مكان مخصوص ففي غير ذلك المكان لا يكون قربة.
قال: وإن رماها بحصاة أخذها من عند الجمرة أجزأه وقد أساء لأن ما عند الجمرة من الحصى مردود فيتشاءم به ولا يتبرك به وبيانه في حديث سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس رضي الله عنه ما بال الجمار ترمى من وقت الخليل صلاة الله عليه ولم تصر هضابا تسد الأفق فقال أما علمت أن من يقبل حجه رفع حصاه ومن لم يقبل حجه ترك حصاه حتى قال مجاهد لما سمعت هذا من بن عباس رضي الله عنه جعلت على حصياتي علامة ثم توسطت الجمرة فرميت من كل جانب ثم طلبت فلم أجد بتلك العلامة شيئا من الحصا فهذا معنى قولنا أن ما بقي في موضع الرمي مردود ولكن مع هذا يجزئه لوجود فعل الرمي ومالك رحمه الله تعالى يقول لا يجزئه وهذا عجب من مذهبه فإنه يجوز التوضؤ بالماء المستعمل ولا يجوز الرمي بما قد رمى به من الأحجار ومعلوم أن فعل الرمي لا يغير صفة الحجارة.
قال: فإن لم يقم عند الجمرتين اللتين يقوم الناس عندهما لم يلزمه شيء لأن القيام عند الجمرتين سنة فتركه لا يوجب إلا الإساءة.
قال: وإن كان أقام أيام منى بمكة غير أنه يأتي منى في كل يوم فيرمي الجمار فقد أساء ولا شيء عليه لأنه ما ترك إلا السنة وهي البيتوتة بمنى في ليالي الرمي وقد بينا أن العباس رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لأجل السقاية فأذن له فدل أنه ليس بواجب.
قال: فإن رمى جمرة العقبة يوم النحر بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس أجزأه قال بلغنا ذلك عن عطاء رحمه الله تعالى والمروي عنه أنه قال يجعل منى عن يمينه والكعبة عن يساره ويرمي جمرة العقبة بسبع حصيات والأفضل أن يرميها بعد طلوع الشمس وإن رماها قبل طلوع الشمس أجزأه وإن رماها في اليوم الثاني من أيام النحر قبل الزوال لم يجزه لأن وقت الرمي في هذا اليوم بعد الزوال عرف بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجزئه قبله وذكر الحاكم الشهيد رحمه الله تعالى في المنتقى: أن ما قبل الزوال يوم النحر وقت الرمي حتى لو رمى أجزأه.

 

ج / 4 ص -62-         قال: وكذلك في اليوم الثالث من يوم النحر وهو اليوم الثاني من أيام التشريق وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى إن كان من قصده أن يتعجل النفر الأول فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال وإن رمى بعد الزوال فهو أفضل وإن لم يكن ذلك من قصده لا يجزئه الرمي إلا بعد الزوال لأنه إذا كان من قصده التعجيل فربما يلحقه بعض الحرج في تأخير الرمي إلى ما بعد الزوال بأن لا يصل إلى مكة إلا بالليل فهو محتاج إلى أن يرمي قبل الزوال ليصل إلى مكة بالنهار فيرى موضع نزوله فيرخص له في ذلك والأفضل ما هو العزيمة وهو الرمي بعد الزوال وفي ظاهر الرواية يقول هذا اليوم نظير اليوم الثاني فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمى فيه بعد الزوال فلا يجزئه الرمي فيه قبل الزوال.
قال: فإن رمى في اليوم الثالث يخير بين النفر وبين المقام إلى أن يرمي في اليوم الرابع لقوله تعالى:
{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة: 203].وخياره هذا يمتد إلى طلوع الفجر من اليوم الرابع عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى إلى غروب الشمس من اليوم الثالث لأن المنصوص عليه الخيار في اليوم وامتداد اليوم إلى غروب الشمس ولكنا نقول الليل ليس بوقت لرمي اليوم الرابع فيكون خياره في النفر باقيا قبل غروب الشمس من اليوم الثالث بخلاف ما بعد طلوع الفجر من اليوم الرابع فإنه وقت الرمي على ما نبينه إن شاء الله تعالى فلا يبقى خياره بعد ذلك وقد بينا أن الليالي هنا تابعة للأيام الماضية فكما كان خياره ثابتا في اليوم الثالث فكذلك في الليلة التي بعده.
قال: وإن صبر إلى اليوم الرابع جاز له أن يرمي الجمار فيه قبل الزوال استحسانا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قولهما لا يجزئه بمنزلة اليوم الثاني والثالث لأنه يوم ترمى فيه الجمار الثلاث فلا يجوز إلا بعد الزوال بخلاف يوم النحر وأبو حنيفة احتج بحديث بن عباس رضي الله تعالى عنه إذا انتفح النهار في آخر أيام التشريق فارموا يقال انتفح النهار إذا علا واعتبر آخر الأيام بأول الأيام فكما يجوز الرمي في اليوم الأول قبل زوال الشمس فكذا في اليوم الآخر وهذا لأن الرمي في اليوم الرابع يجوز تركه أصلا فمن هذا الوجه يشبه النوافل والتوقيت في النفل لا يكون عزيمة فلهذا جوز الرمي فيه قبل الزوال ليصل إلى مكة قبل الليل.
قال: وأحب إلي أن يرمي الجمار مثل حصاة الخذف هكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فإنه جعل طرف إحدى سبابتيه عند الأخرى فرمى بمثل حصى الخذف وقال:
"هكذا فارموا". وإن رمى بأكبر من ذلك أجزأه ولكن لا ينبغي أن يرمي الكبار من الأحجار لأنه ربما يصيب أحدا فيتأذى به وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بحصى الخذف وإياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".
قال: وليس في القيام عند الجمرتين دعاء مؤقت لما بينا أن التوقيت في الدعاء يذهب

 

ج / 4 ص -63-         برقة القلب ويرفع يديه عندهما حذاء منكبيه للحديث: "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن وفي المقامين عند الجمرتين".
قال: والرجل والمرأة في رمي الجمار سواء كما في سائر المناسك وإن رماها راكبا أجزأه لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار راكبا وقد بينا ما هو المختار عند كل جمرة.
 قال: وقد بينا ما هو المختار عند كل جمرة قال والمريض الذي لا يستطيع رمي الجمار يوضع الحصى في كفه حتى يرمي به لأنه فيما يعجز عنه يستعين بغيره وإن رمى عنه أجزأه بمنزلة المغمى عليه فإن النيابة تجري في النسك كما في الذبح.
قال: والصبي الذي يحج به أبوه يقضي المناسك ويرمي الجمار لأنه يأتي به للتخلق حتى يتيسر له بعد البلوغ فيؤمر به بمثل ما يؤمر به البالغ وإن ترك الرمي لم يكن عليه شيء.
وكذلك المجنون يحرم عنه أبوه لأن فعلهما للتخلق فلا يكون واجبا إذ ليس للأب عليهما ولاية الإيجاب فيما لا منفعة لهما فيه عاجلا ولهذا لا يجب الدم بترك الرمي عليهما وهو معتبر بالكفارات لا يجب شيء منها على الصبي والمجنون عندنا والأصل في جواز الرمي هكذا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة رفعت صبيا من هودجها إليه فقالت: ألهذا حج؟ فقال:
"نعم ولك أجره" فدل ذلك على أنه يجوز للأب أن يحرم عن ولده الصغير والمجنون بمنزلة الصغير والله أعلم بالصواب.

باب الحلق
قال رضي الله عنه الحلق أفضل من التقصير لما روينا من الأثر فيه ولأن المأمور به بعد الذبح قضاء التفث قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}[الحج: 29] وهو في الحلق أتم والتقصير فيه بعض الحلق فلهذا كان الحلق أفضل والتقصير يجزئ وهو أن يأخذ شيئا من أطراف شعره ورواه في الكتاب عن بن عمر رضي الله عنه أنه سئل: كم تقصر المرأة؟ فقال: مثل هذه يعني مثل الأنملة وهذا لأنه لو لم يكن على رأسه من الشعر إلا ذلك القدر كان يتم تحلله بأخذه فكذلك إذا كان على رأسه من الشعر أكثر من ذلك يتم تحلله بأخذ ذلك المقدار.
والتقصير قائم مقام الحلق في حكم التحلل فإذا فعل ذلك في أحد جانبي رأسه أجزأه بمنزلة ما لو حلق نصف رأسه وكذلك أن فعله في أقل من النصف وكان بقدر الثلث أو الربع فكذلك يجزئه لأن كل حكم تعلق بالرأس فالربع منه ينزل منزلة الكمال كالمسح بالرأس ولكنه مسيء في الاكتفاء بهذا المقدار لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه وأمرنا بالاقتداء به فما كان أقرب إلى موافقة فعله فهو أفضل ولأنه إنما يفعل هذا ضنة منه بشعره وفيما هو نسك تكره الضنة فيه بالمال والنفس فكيف بالشعر؟

 

ج / 4 ص -64-         قال: وإذا جاء يوم النحر وليس على رأسه شعر أجرى الموسى على رأسه تشبها بمن يحلق لأنه وسع مثله والتكليف بحسب الوسع ألا ترى أن الأخرس يؤمر بتحريك الشفتين عند التكبير والقراءة في الصلاة فينزل ذلك منه منزلة قراءة الناطق فهذا مثله.
قال: وإن حلق رأسه بالنورة أجزأه لأن قضاء التفث فيه يحصل والموسى أحب إلى لأنه أقرب إلى موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأكره له أن يؤخر الحلق حتى تذهب أيام النحر والحاصل أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الحلق للتحلل في الحج مؤقت بالزمان وهو أيام النحر وبالمكان وهو الحرم وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يتوقت بالزمان ولا بالمكان وعند محمد رحمه الله تعالى يتوقت بالمكان دون الزمان وعند زفر رحمه الله تعالى يتوقت بالزمان دون المكان فزفر رحمه الله تعالى يقول التحلل عن الإحرام معتبر بابتداء الإحرام وابتداء الإحرام مؤقت بالزمان غير مؤقت بالمكان حتى يكره له أن يحرم بالحج في غير أشهر الحج ولا يكره له أن يحرم بالحج في أي مكان شاء قبل أن يصل إلى الميقات فكذلك التحلل عنه بالحلق يتوقت من حيث الزمان دون المكان حتى إذا أخره عن أيام النحر يلزمه الدم وإذا خرج من الحرم ثم حلق لا يلزمه شيء.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: ما كان للتحلل في الحج يتوقت بالزمان والمكان جميعا كالطواف الذي يتم به التحلل لا يكون إلا في المسجد ويتوقت بأيام النحر فكما أنه لو أخر الطواف عن وقته يلزمه دم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فكذلك إذا أخر الحلق عن وقته.
وعلى هذا كان ينبغي أن لا يعتد بحلقه خارج الحرم كما لا يعتد بطوافه ولكن جعلناه معتدا به لأن محل فعله الرأس دون الحرم فيحصل به التحلل ولكنه جان بتأخيره عن مكانه فيلزمه دم بالتأخير عن المكان كما يلزمه بتأخيره عن وقته وهذا لأن الحلق لا يعقل فيه معنى القربة وإنما عرفناه قربة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما حلق للحج إلا في الحرم يوم النحر فما وجد بهذه الصفة يكون قربة وما خالف هذا لا يتحقق فيه معنى القربة فيلزمه الجبر فيه بالدم.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى الحلق الذي هو نسك في أوانه بمنزلة الحلق الذي هو جناية قبل أوانه فكما أن ذلك لا يختص بزمان ولا مكان فكذلك هذا لا يختص بزمان ولا مكان لأنه لو اختص بزمان ومكان لم يكن معتدا به في غير ذلك المكان ولا في غير ذلك الزمان كالوقوف بعرفة فسواء أخره عن أيام النحر أو خرج من الحرم فحلق لا يلزمه شيء ومحمد رحمه الله تعالى يقول تعلق المناسك بالمكان آكد من تعلقها بالزمان ألا ترى أن الطواف المختص بمكان لا يعتد به في غير ذلك المكان والمؤقت من الطواف بزمان يكون معتدا به في غير ذلك الزمان فعرفنا أن تعلقه بالمكان أشد فالحلق الذي هو مختص

 

ج / 4 ص -65-         بالحرم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى به خارج الحرم يتمكن فيه النقصان فيلزمه الجبر بالدم وبتأخيره عن أيام النحر لا يتمكن فيه كثير نقصان فلا يلزمه الجبر بالدم.
فأما في العمرة فلا يتوقت الحلق بزمان حتى لو أخر الحلق فيه شهرا لا يلزمه شيء لأن أصل العمرة لا يتوقت بالزمان وما هو الركن وهو الطواف فيه أيضا لا يتوقت من حيث الزمان فكذلك الحلق فيه لا يتوقت بخلاف الحج ولكنه يتوقت بالحرم حتى لو حلق للعمرة خارج الحرم فعليه دم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى كما في الحج وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا شيء عليه.
قال: وليس على المحصر حلق إذا حل وإن حلق أو قصر فحسن وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى أرى عليه الحلق وإن لم يفعل فلا شيء عليه واحتج أبو يوسف رحمه الله تعالى بالحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية مع أصحابه فأمرهم بالحلق بعد بلوغ الهدايا محلها وكره لهم تأخير ذلك حتى ذكر ذلك لأم سلمة رضي الله عنها فقالت ابدأ بنفسك يا رسول الله فإنهم يظنون أن في نفسك رجاء الوصول إلى البيت للحال فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه. فلما رأوا ذلك منه بادروا إلى الحلق ولأنه لو لم يحصر لكان يتحلل بالحلق عند أداء الأعمال فكذلك بعد الإحصار ينبغي أن يتحلل بالحلق لقدرته على أن يأتي به وإن عجز عن سائر الأفعال.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الحلق إنما يكون نسكا بعد أداء الأفعال فأما قبل أداء الأفعال فهو جناية فإذا تحقق عجزه عن ترتيب الحلق على سائر الأفعال لا يلزمه أن يأتي به وإنما تحلله بالهدي هنا والدليل عليه أن الله تعالى نهى المحصر عن الحلق حتى يبلغ الهدي محله بقوله تعالى:
{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196] فذلك دليل الإباحة بعد بلوغ الهدي محله لا دليل الوجوب.
فأما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية فقد ذكر أبو بكر الرازي أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إنما لا يحلق المحصر إذا أحصر في الحل أما إذا أحصر في الحرم يحلق لأن الحلق عندهما مؤقت بالحرم ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان محصرا بالحديبية وبعض الحديبية من الحرم على ما روي أن مضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ومصلاه في الحرم فإنما حلق في الحرم وبه نقول على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالحلق ليحقق به عزمهم على الانصراف ويأمن المشركون من جانبهم ولا يشتغلون بمكيدة أخرى بعد الصلح.
قال: وليس على الحاج إذا قصر أن يأخذ شيئا من لحيته أو شاربه أو أظفاره أو يتنور لأن التقصير قائم مقام الحلق.
ولو أراد الحلق لم يكن عليه ذلك في لحيته ولا في شاربه فكذلك التقصير وإن فعل لم يضره لأنه جاء أوان التحلل وهذا كله مما يحصل به التحلل لأنه من جملة قضاء التفث.

 

ج / 4 ص -66-         قال: وإن حلق المحرم رأس حلال تصدق بشيء عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه لا شيء عليه لأن المحرم ممنوع عن أزالة ما ينمو من البدن عن نفسه لما فيه من معنى الراحة والزينة له ولا يحصل شيء من ذلك بحلق رأس الحلال فلا يلزمه به شيء ألا ترى أن الحلال لو حلق بنفسه لم يلزمه شيء ولكنا نقول أن إزالة ما ينمو من بدن الآدمي من محظورات الإحرام فيكون المحرم ممنوعا عن مباشرة ذلك من بدن غيره كما يكون ممنوعا من مباشرته في نفسه بمنزلة قتل الصيد فإنه جان في قتل صيد غيره كما يكون جانيا في قتل صيد نفسه إلا أن كمال جنايته بانضمام معنى الراحة والزينة إلى فعله فإذا فعل ذلك في نفسه تكاملت جنايته فلزمه الدم وإذا فعله بغيره لا تتكامل جنايته فتكفيه الصدقة.
قال: وإذا حلق المحرم رأس محرم آخر فإن فعله بأمره فعلى المحلوق دم لأن فعل الغير بأمره كفعله بنفسه ومعنى الراحة والزينة له متحقق فيلزمه دم وعلى الحالق رأسه صدقة لما بينا أنه جان في أصل فعله وإن حلق بغير أمره بأن كان المحرم نائما فجاء وحلق رأسه أو أكرهه على ذلك فعلى المحلوق رأسه دم عندنا ولا شيء عليه عند الشافعي رحمه الله تعالى بناء على أصله أن الإكراه يخرج المكره من أن يكون مؤاخذا بحكم الفعل والنوم أبلغ من الإكراه لأن الإكراه يفسد قصده وبالنوم ينعدم القصد أصلا وعندنا بسبب الإكراه والنوم ينتفي عنه الإثم ولكن لا ينتفي حكم الفعل إذا تقرر سببه.
والسبب هنا ما نال من الراحة والزينة بإزالة التفث عن بدنه وذلك حصل له فيلزمه الدم.
ولا يتخير هنا بين أجناس الكفارات الثلاث بخلاف المضطر لأن هناك العذر سماوي وجد ممن له الحق وهنا العذر كان بسبب وجد من جهة العباد فيؤثر في إسقاط الذنب ولا يخرج به الدم من أن يكون متعينا عليه ثم لا يرجع المحلوق رأسه بهذا الدم على الحالق وقال بعض العلماء يرجع به لأنه هو الذي أوقعه في هذه العهدة وألزمه هذا الغرم ولكنا نقول إنما لزمه ذلك لمعنى الراحة والزينة وهو حاصل له فلا يرجع به على غيره كما لا يرجع المغرور بالعقر لأنه بمقابلة اللذة الحاصلة له بالوطء والجواب في قص الأظفار هنا كالجواب في الحلق.
قال: وإذا أخذ المحرم من شاربه أو من رأسه شيئا أو من مس من لحيته فانتثر منها شعر فعليه في ذلك كله صدقة لوجود أصل الجناية بما أزاله من بدنه ولكن لم تتم جنايته حين فعله لأنه لم يكن مقصودا لتحصيل الراحة والزينة فتكفيه الصدقة.
قال: وإن أخذ ثلث رأسه أو ثلث لحيته فعليه دم ولم يذكر الربع في الكتاب والجواب في الربع كذلك لما بينا أن ما يتعلق بالرأس فالربع فيه بمنزلة الكمال كما في الحلق عند التحلل وهذا لأن حلق بعض الرأس لمعنى الراحة والزينة معتاد فإن الأتراك يحلقون أوساط رؤوسهم وبعض العلوية يحلقون نواصيهم لابتغاء الراحة والزينة فتتكامل الجناية بهذا المقدار،

 

ج / 4 ص -67-         والجناية المتكاملة توجب الجبر بالدم ثم الأصل بعد هذا أنه متى حلق عضوا مقصودا بالحلق من بدنه قبل أوان التحلل فعليه دم وإن حلق ما ليس بمقصود فعليه الصدقة ومما ليس بمقصود حلق شعر الصدر أو الساق ومما هو مقصود حلق الرأس أو الإبطين فإن حلق أحدهما أو نتف أو طلى بنورة فعليه الدم أيضا لأن كل واحد منهما مقصود بالحلق لمعنى الراحة.
وفيما ذكر إشارة إلى أن السنة في الإبطين النتف دون الحلق فإنه قال نتف إبطيه أو أحدهما ولم يذكر الحلق فإن حلق موضع المحاجم فعليه دم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قولهما عليه صدقة لأن ذلك الموضع غير مقصود بالحلق وإنما يحلق للتمكن من الحجامة فهو بمنزلة حلق شعر الصدر والساق وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم وما كان يرتكب في إحرامه الجناية المتكاملة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنه حلق مقصود لأنه لا يتوصل إلى المقصود إلا به وما لا يتوصل إلى المقصود إلا به يكون مقصودا فتتكامل الجناية ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق موضع المحاجم إنما نقل عنه الحجامة وليس من ضرورته الحلق فإن الحجام إذا كان حاذقا يشرط طولا فلا يحتاج إلى الحلق وكذلك إذا لم يكن المحجوم أشعر البدن ولم ينقل في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشعر البدن والدليل عليه أنه كان يتحرز عن الجناية الموجبة للصدقة كما كان يتحرز عن الجناية الموجبة للدم وعندهما هذه جناية موجبة للصدقة.
قال: فإن حلق الرقبة كلها فعليه دم لأنه حلق مقصود للراحة والزينة فإن العلوية يفعلون ذلك ولم يذكر في الكتاب ما إذا حلق شاربه إنما ذكر إذا أخذ من شاربه فعليه الصدقة فمن أصحابنا من يقول إذا حلق شاربه يلزمه الدم لأنه مقصود بالحلق يفعله الصوفية وغيرهم والأصح أنه لا يلزمه الدم لأنه طرف من أطراف اللحية وهو مع اللحية كعضو واحد وإن كانت السنة قص الشارب وإعفاء اللحى وإذا كان الكل عضوا واحدا لا يجب بما دون الربع منه الدم والشارب دون الربع من اللحية فتكفيه الصدقة في حلقه.
قال: وعلى القارن في ذلك كله كفارتان لأنه محرم بإحرامين ففعله جناية على كل واحد منهما فيلزمه جزآن عندنا على ما نبينه في باب جزاء الصيد إن شاء الله تعالى.
قال: وإن أصاب المحرم أذى في رأسه فحلق قبل يوم النحر فعليه أي الكفارات الثلاث شاء والأصل فيه حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتهافت على وجهي وأنا أوقد تحت قدر لي فقال:
" أتؤذيك هوام رأسك؟" فقلت: نعم.
فأنزل الله عز وجل قوله:
{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}[البقرة: 196] فقلت: ما الصيام يا رسول الله؟ فقال: "ثلاثة أيام" فقلت: وما الصدقة؟ قال: "ثلاثة آصع من حنطة على ستة مساكين" فقلت: وما النسك؟ قال: "شاة" وفي الآية دليل على أنه يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة لأنها ذكرت بحرف أو وذلك يوجب التخيير كما في كفارة اليمين.

 

ج / 4 ص -68-         ولو لم يرد النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقدير الصوم بثلاثة أيام لكنا نقدره بستة أيام لأنه لما تقدر الطعام بطعام ستة مساكين وصوم يوم بمنزلة طعام مسكين فينبغي أن يلزمه صوم ستة أيام ولكن ثبت بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصوم ثلاثة أيام فسقط اعتبار كل قياس بمقابلته وكذلك الجواب في كل ما اضطر إليه مما لو فعله غير مضطر لزمه الدم فإذا فعله المضطر فعليه أي الكفارات الثلاث شاء لأنه في معنى المنصوص عليه من كل وجه فيكون ملحقا به.
فإن اختار الصيام يصوم في أي موضع شاء من الحرم أو غير الحرم لأن الصوم عبادة في كل مكان وإن اختار الطعام يجزئه ذلك أيضا في الحرم وغير الحرم عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجزئه ذلك إلا في الحرم لأن المقصود به رفق فقراء الحرم ووصول المنفعة إليهم ولكنا نقول التصدق بالطعام قربة في أي مكان كان فهو بمنزلة الصيام وإن اختار النسك كان مختصا بالحرم بالاتفاق لأن إراقة الدم لا تكون قربة إلا في وقت مخصوص وهو أيام النحر أو مكان مخصوص وهو الحرم وهذا الدم غير مؤقت بالزمان فيكون مختصا بالمكان وهو الحرم ليتحقق معنى القربة فيه فيكون كفارة لفعله.
 قال الله تعالى:
{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: 114] ولأن الله تعالى قال في جزاء الصيد {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة: 95] وذلك واجب بطريق الكفارة فصار أصلا في كل هدي وجب بطريق الكفارة في اختصاصه بالحرم ولأنه بعد ذكر الهدايا قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج: 33] والمراد به الحرم ومعلوم أنه ليس المراد من الاختصاص بالحرم عين إراقة الدم لأن فيه تلويث الحرم إنما المقصود التصدق باللحم بعد الذبح فعليه أن يتصدق بلحمه وكذلك كل دم وجب عليه بطريق الكفارة في شيء من أمر الحج أو العمرة فإنه لا يجزئه ذبحه إلا في الحرم وعليه التصدق بلحمه بعد الذبح على فقراء الحرم وإن تصدق على غيرهم من الفقراء أجزأه عندنا لأن الصدقة على كل فقير قربة.
قال: وإن سرق المذبوح لم يكن عليه شيء لأن بالذبح قد بلغ محله ووجوب التصدق كان متعلقا بالعين فيسقط بهلاك العين كما إذا هلك مال الزكاة سقطت عنه الزكاة.
قال: وإن سرق قبل الذبح فعليه بدله لأنه ما بلغ محله بعد وهو نظير الأضحية الواجبة إذا سرقت قبل الذبح فعلى صاحبها مثلها ولا خلاف أن دماء الكفارات لا يختص بيوم النحر وأن دم المتعة والقران مختص بيوم النحر لأنه نسك يباح التناول منه كالأضحية وهو من أسباب التحلل في أوانه كالحلق فأما دم الإحصار لا يتوقت بيوم النحر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قولهما يختص بيوم النحر لأنه مشروع للتحلل فكان بمنزلة دم المتعة والقران وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنه في معنى دماء الكفارات بدليل أنه لا يباح التناول منه إلا للفقراء بخلاف دم المتعة والقران فإنه يباح التناول منه للأغنياء ثم وجوب هذا الدم للتحلل قبل أوانه فإن أوان التحلل ما بعد أداء الأفعال والمحصر يتحلل قبل أداء

 

ج / 4 ص -69-         الأفعال فكان في فعله معنى الجناية وإن أبيح له ذلك للعذر فالدم الواجب عليه يكون كفارة لا يتوقت بيوم النحر كالدم في حق من كان برأسه أذى.
فأما التطوعات من الدماء يجوز ذبحها قبل يوم النحر وذبحها في يوم النحر أفضل لأن التطوعات هدايا والواجب في الهدايا تبليغها إلى الحرم فإذا وجد ذلك يجوز ذبحها في غير أيام النحر وفي أيام النحر أفضل لأن معنى القربة في إراقة الدم في هذه الأيام أظهر.
قال: ويباح التناول من هدي المتعة والقران والتطوع بمنزلة الأضحية والجواب في الأضحية معلوم وهو أن الواجب يتأدى بإراقة الدم فإنه يباح التناول منه للمضحي ولمن شاء المضحي من غني أو فقير فإن أكل المضحي كلها لم يكن عليه شيء والأفضل له أن يتصدق بالثلث ويأكل الثلثين فكذلك فيما هو في معنى الأضحية من الهدايا ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم تناول من هداياه حتى أمر أن يؤخذ من كل بدنة قطعة فتطبخ له ولو كان الواجب التصدق بها على الفقراء لما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شيئا فكما يباح له تناول لحوم هذه الهدايا يباح له الانتفاع بجلودها أيضا ولا ينتفع بجلود غيرها من دماء الكفارات بل يتصدق بذلك كله كما يتصدق بلحمها هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لناجية حين بعث بالهدايا على يديه وقال:
"تصدق بجلالها وخطمها"، فذلك دليل على وجوب التصدق بجلودها بطريق الأولى.
قال: ولا يعطي أجرة الجزار منها ولا من غيرها شيئا لأن ما يأخذه الجزار إنما يأخذه عوضا عن عمله فيكون ذلك بمنزلة البيع.
قال: ولا ينبغي له أن يبيع شيئا من لحوم الهدايا بثمن لأنها صارت لله تعالى خالصا فلا ينبغي له أن يشتغل بالتجارة فيها ولولا الإذن من قبل من له الحق لما أبيح له تناول بعضها وليس من ضرورة الإذن في التناول الإذن في التجارة والمنصوص عليه الإذن في التناول بقوله تعالى:
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج: 28].
قال: وإذا باع شيئا من لحمها بثمن أو أعطى الجزار أجره عمله من اللحم فعليه أن يتصدق بقيمة ذلك لأنه متلف حق الفقراء في ذلك القدر بصرفه إلى قضاء ما هو مستحق عليه أو بتحصيل عوضه لنفسه وهو الثمن فيلزمه التصدق بقيمته كمن قضى بنصاب الزكاة دينا عليه.
قال: وإذا لم يبق على المحرم غير التقصير فبدأ بقص أظفاره فعليه كفارة ذلك لأن إحرامه باق ما لم يحلق أو يقصر ففعله في قص الأظفار يكون جناية على الإحرام وعلى قول الشافعي لا يلزمه شيء بناء على مذهبه أن تحلل الحاج يكون بالرمي فقص الأظفار بعد الرمي لا يكون جناية منه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب كفارة قص الأظفار
قال رضي الله عنه: وإذا قص المحرم أظفار يديه ورجليه فعليه دم عندنا وقال عطاء

 

ج / 4 ص -70-         رضي الله عنه لا شيء عليه لأن قص الأظفار من الفطرة ولم يصح حديث في النهي عنه بسبب الإحرام فكان نظير الختان ولا بأس بالختان في الإحرام فكذلك قص الأظفار.
ومذهبنا مروي عن بن عباس رضي الله عنه ولأن قص الأظفار من قضاء التفث فإنه إزالة ما ينمو من البدن لمعنى الزينة والراحة كحلق الرأس فيكون مؤخرا إلى ما بعد التحلل ومباشرته قبل ذلك جناية على الإحرام فيوجب الجبر بالدم وإن قص ظفرا واحدا أو ظفرين فعليه لكل ظفر صدقة إلا أن يبلغ دما فينقص عنه ما شاء وعن محمد رحمه الله تعالى قال في كل ظفر خمس الدم لأنه لما وجب الدم في قص خمسة أظافر ففي كل ظفر بحساب ذلك ولكنا نقول إن جنايته لم تتكامل لأن معنى الراحة والزينة لا يحصل بقص ظفر أو ظفرين والجناية الناقصة في الإحرام توجب الجبر بالصدقة.
قال: وإن قص ثلاثة أظافر فعليه دم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول استحسانا وهو قول زفر رحمه الله تعالى وفي قوله الآخر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليه لكل ظفر صدقة. وجه قوله الأول: أن قص أظافر يد واحدة يوجب الدم بالاتفاق والأكثر منها ينزل منزلة الكمال فالثلاث أكثر الأظافر من اليد الواحدة ولكنه رجع عن هذا فقال الدم في الأصل إنما يجب بقص أظافر اليدين والرجلين واليد الواحدة ربع ذلك فتجعل بمنزلة الكمال كربع الرأس في الحلق فكان هذا أدنى ما يتعلق به الدم فلا يمكنه أن يقام الأكثر فيه مقام الكمال إذ لو فعل أدى إلى ما لا يتناهى فيقال إذا قص الظفرين فقد قص أكثر الثلاثة ثم إذا قص ظفرا ونصفا فقد قص أكثر الظفرين ولكن يقال ما كان أدنى المقدار شرعا لا يتعلق بما دونه الحكم المتعلق به.
قال: ولو قص خمسة أظافر متفرقة من اليدين والرجلين يلزمه لكل ظفر صدقة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى يلزمه الدم لأن المقصوص خمسة أظافر فلا فرق بين أن يكون من عضو واحد أو عضوين أو من أعضاء متفرقة كما في الحلق لأنه لا فرق بين أن يحلق ربع الرأس من جانب واحد أو من جوانب متفرقة في إيجاب الدم وكما في حكم الأرش لا فرق في إيجاب دية اليدين بين قطع خمسة أصابع من يد واحدة أو من يدين فهذا مثله وهما يقولان جنايته لم تتكامل لأن معنى الزينة والراحة لا يحصل بقص بعض الأظفار من كل عضو لأنه لا يحسن في النظر أن يكون بعض الأظافر مقصوصا دون البعض فيزداد به شغل قلبه لا أن ينال به الراحة فإذا لم تتكامل الجناية كان عليه لكل ظفر صدقة حتى قالوا لو قص ستة عشر ظفرا من كل عضو أربعة فعليه لكل ظفر طعام مسكين إلا أن يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص منه ما شاء بخلاف الحلق فإن تفريق الحلق من جوانب الرأس عادة فيتم به معنى الراحة.
قال: وإذا انكسر ظفر المحرم فانقطع منه شظية فقلعه لم يكن عليه شيء لأن ذلك

 

ج / 4 ص -71-         المنكسر لا ينمو من البدن فقلعه لا يكون جناية بمنزلة ما لو تكسر من شجر الحرم ويبس إذا أخذه إنسان لا يجب فيه شيء لانعدام معنى النمو.
قال: وإن قص الأظافر كلها في مجالس متفرقة فإن كان حين قص أظافر يد واحدة كفر ثم قص أظافر يد أخرى فعليه كفارة أخرى لأن الجناية الأولى قد ارتفعت بالتكفير ففعله الثاني يكون جناية مبتدأة فيوجب كفارة أخرى وإن لم يكفر حتى قص الأظافر كلها فعليه دم واحد في قول محمد رحمه الله تعالى بمنزلة ما لو قص الأظافر كلها في مجلس واحد لأن هذه الجنايات تستند إلى سبب واحد فلا توجب إلا كفارة واحدة كما في حلق جميع الرأس لا فرق بين أن يكون في مجالس متفرقة أو في مجلس واحد وهذا لأن مبنى الواجب على التداخل وفيما ينبني على التداخل المجلس الواحد والمجالس المتفرقة فيه سواء كما في كفارة الفطر وكما في الحدود.
وفي قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى عليه أربعة دماء باعتبار كل عضو في مجلس دم لأن هذه الأفعال في محال مختلفة وكل واحد منها جناية متكاملة فتوجب الدم وكان بمنزلة ما لو حلق في مجلس وقص الأظافر في مجلس آخر وهذا لأن كفارات الإحرام يغلب فيها معنى العبادة ولا يجري التداخل في العبادة إلا أنه إذا كان في مجلس واحد فالمقصود واحد والمحال مختلفة فرجحنا جانب اتحاد المقصود بسبب اتحاد المجلس.
وأما إذا اختلفت المجالس يترجح جانب اختلاف المحال فيوجب بكل فعل دما بمنزلة من تلا آية السجدة مرارا فإن كان في مجلس واحد فعليه سجدة واحدة وإن كان في مجالس متفرقة فعليه بكل تلاوة سجدة وبه فارق الحلق فإن محل الفعل هناك واحد والمقصود واحد وعلى هذا الاختلاف لو جامع مرة بعد أخرى امرأة واحدة أو نسوة إلا أن مشايخنا رحمهم الله تعالى قالوا في الجماع بعد الوقوف في المرة الأولى عليه بدنة وفي المرة الثانية عليه شاة لأنه قد دخل فيه نقصان بالجناية الأولى فالجناية الثانية صادفت إحراما ناقصا فيجب الدم ويكون قياس الجماع في إحرام العمرة وإن أصابه أذى في أظفاره حتى قصها فعليه أي الكفارات الثلاث شاء للأصل الذي تقدم بيانه أن ما يكون موجبا للدم إذا فعله لعذر تخير فيه المعذور بين الكفارات الثلاث والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب جزاء الصيد
قال رضي الله عنه محرم دل محرما أو حلالا على صيد فقتله المدلول فعلى الدال الجزاء عندنا استحسانا وفي القياس لا جزاء على الدال وبه أخذ الشافعي رحمه الله تعالى قال لأن الجزاء واجب بقتل الصيد بالنص قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً}[المائدة: 95] والدلالة ليست في معنى القتل لأن القتل فعل متصل من القاتل بالمقتول فأما الدلالة والإشارة غير متصل بالمحل وهو الصيد والحكم الثابت بالنص لا يجوز إثباته فيما

 

ج / 4 ص -72-         ليس في معنى المنصوص والدليل عليه جزاء صيد الحرم يجب على القاتل الحلال ولا يجب على الدال إذا كان حلالا بالاتفاق للمعنى الذي قلنا والدليل عليه أن حرمة الصيد في حق المحرم لا تكون أقوى من حرمة مال المسلم ونفسه ولا يضمن الدال على مال المسلم ولا على نفسه شيئا بسبب الدلالة فكذلك هنا إلا أنا تركنا القياس باتفاق الصحابة رضي الله عنهم فإن رجلا سأل عمر رضي الله عنه فقال إني أشرت إلى ظبي وأنا محرم فقتله صاحبي فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ماذا ترى عليه؟ فقال: أرى عليه شاة فقال عمر رضي الله عنه وأنا أرى عليه ذلك وإن عليا وبن عباس رضي الله تعالى عنه سئلا عن محرم دل على بيض نعامة فأخذه المدلول عليه فشواه فقالا: على الدال جزاؤه.والقياس يترك بقول الفقهاء من الصحابة رضي الله عنهم.
وما نقل عنهم في هذا الباب كالمنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا أظن بهم أنهم قالوا جزافا والقياس لا يشهد لقولهم حتى يقول قالوا ذلك قياسا فلم يبق إلا السماع ثم ثبت باتفاقهم أن الدلالة على الصيد من محظورات الإحرام وذلك ثابت بالنص أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب أبي قتادة رضي الله عنهم في صيد أخذه أبو قتادة وكانوا محرمين
"هل أعنتم هل أشرتم هل دللتم" فجعل الإشارة كالإعانة فعرفنا أنه من محظورات الإحرام وذلك يوجب الجزاء وبه فارق صيد الحرم فإن الموجب للحظر هناك معنى في الحل وهو أمن الصيد بسبب الحرم فلا بد من أن يكون فعله متصلا بالمحل حتى يكون جناية في إزالة الأمن عن المحل وهنا الحظر بسبب معنى في الفاعل وهو أنه محرم فكان فعله محظورا لإحرام وإن لم يتصل بالمحل ولهذا كان معنى الجزاء هنا راجحا ومعنى غرامة المحل هناك راجح على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
ثم الإحرام عقد خاص وقد ضمن له ترك التعرض بعقده فإذا تعرض له بالدلالة فقد باشر بخلاف ما التزمه فكان قياس المودع يدل سارقا على سرقة الوديعة بخلاف الدلالة على مال المسلم ونفسه فإنه ما التزم ترك التعرض لذلك بعقد خاص ثم الواجب هناك ضمان الحيوان فيكون بمقابلة المحل فيجب على من اتصل فعله بالمحل والدلالة المعتبرة لإيجاب الجزاء أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد فأما إذا كان المدلول عالما به فلا جزاء على الدال لأن المدلول ما تمكن من قتله بدلالته.
وعلى هذا لو أعار المحرم سكينا من غيره ليقتل صيدا فإن لم يكن مع ذلك الغير ما يقتل به الصيد فعلى المعير الجزاء وإن كان معه ما يقتل به الصيد فلا شيء على المعير لأن تمكنه من قتله لم يكن بإعارة السكين وإنما يجب على الدال الجزاء إذا صدقه المدلول في دلالته فأما إذا كذبه ولم يتبع الصيد بدلالته حتى دله عليه آخر فصدقه وقتل الصيد فالجزاء على الدال الثاني إذا كان محرما دون الأول.

 

ج / 4 ص -73-         ليس في معنى المنصوص والدليل عليه جزاء صيد الحرم يجب على القاتل الحلال ولا يجب على الدال إذا كان حلالا بالاتفاق للمعنى الذي قلنا والدليل عليه أن حرمة الصيد في حق المحرم لا تكون أقوى من حرمة مال المسلم ونفسه ولا يضمن الدال على مال المسلم ولا على نفسه شيئا بسبب الدلالة فكذلك هنا إلا أنا تركنا القياس باتفاق الصحابة رضي الله عنهم فإن رجلا سأل عمر رضي الله عنه فقال إني أشرت إلى ظبي وأنا محرم فقتله صاحبي فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ماذا ترى عليه؟ فقال: أرى عليه شاة فقال عمر رضي الله عنه وأنا أرى عليه ذلك وإن عليا وبن عباس رضي الله تعالى عنه سئلا عن محرم دل على بيض نعامة فأخذه المدلول عليه فشواه فقالا: على الدال جزاؤه.والقياس يترك بقول الفقهاء من الصحابة رضي الله عنهم.
وما نقل عنهم في هذا الباب كالمنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا أظن بهم أنهم قالوا جزافا والقياس لا يشهد لقولهم حتى يقول قالوا ذلك قياسا فلم يبق إلا السماع ثم ثبت باتفاقهم أن الدلالة على الصيد من محظورات الإحرام وذلك ثابت بالنص أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب أبي قتادة رضي الله عنهم في صيد أخذه أبو قتادة وكانوا محرمين "هل أعنتم هل أشرتم هل دللتم" فجعل الإشارة كالإعانة فعرفنا أنه من محظورات الإحرام وذلك يوجب الجزاء وبه فارق صيد الحرم فإن الموجب للحظر هناك معنى في الحل وهو أمن الصيد بسبب الحرم فلا بد من أن يكون فعله متصلا بالمحل حتى يكون جناية في إزالة الأمن عن المحل وهنا الحظر بسبب معنى في الفاعل وهو أنه محرم فكان فعله محظورا لإحرام وإن لم يتصل بالمحل ولهذا كان معنى الجزاء هنا راجحا ومعنى غرامة المحل هناك راجح على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
ثم الإحرام عقد خاص وقد ضمن له ترك التعرض بعقده فإذا تعرض له بالدلالة فقد باشر بخلاف ما التزمه فكان قياس المودع يدل سارقا على سرقة الوديعة بخلاف الدلالة على مال المسلم ونفسه فإنه ما التزم ترك التعرض لذلك بعقد خاص ثم الواجب هناك ضمان الحيوان فيكون بمقابلة المحل فيجب على من اتصل فعله بالمحل والدلالة المعتبرة لإيجاب الجزاء أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد فأما إذا كان المدلول عالما به فلا جزاء على الدال لأن المدلول ما تمكن من قتله بدلالته.
وعلى هذا لو أعار المحرم سكينا من غيره ليقتل صيدا فإن لم يكن مع ذلك الغير ما يقتل به الصيد فعلى المعير الجزاء وإن كان معه ما يقتل به الصيد فلا شيء على المعير لأن تمكنه من قتله لم يكن بإعارة السكين وإنما يجب على الدال الجزاء إذا صدقه المدلول في دلالته فأما إذا كذبه ولم يتبع الصيد بدلالته حتى دله عليه آخر فصدقه وقتل الصيد فالجزاء على الدال الثاني إذا كان محرما دون الأول.

 

ج / 4 ص -74-         تبعا لا يظهر مع الأصل كحرمة الحرم مع حرمة الإحرام فإن المحرم إذا قتل صيدا في الحرم لا يلزمه إلا جزاء واحد وقيل إن حرمة الحرم تبع لحرمة الإحرام فلا يظهر تأثيره مع الإحرام ولكنا نقول كل واحد من الإحرامين أصل مثل صاحبه لأن كل واحد منهما يعم البقاع كلها فلا يكون أحدهما تبعا للآخر بل يعتبر كل واحد منهما في إيجاب موجبه كأنه ليس معه صاحبه.
كما أن حرمة الجماع بسبب حرمة الصوم وعدم الملك إذا اجتمعا بأن زني الصائم في رمضان يجب عليه الحد والكفارة جميعا وكذلك حرمة الخمر ثابتة لعينها فيثبت باليمين إذا حلف لا يشربها حرمة أخرى ثم عند الشرب يلزمه الحد والكفارة جميعا وهذا بخلاف حرمة الحرم فإنها دون حرمة الإحرام ألا ترى أنه لا يعم البقاع كلها وأنه لا بد من اعتباره في حق المحرم فإن المحرم لا يستغني عن دخول الحرم وإذا كان في حكم التبع لم يعتبر في حق المحرم ولأنه لا مقصود هناك سوى وجوب ترك التعرض للصيد وذلك حاصل في حق المحرم بإحرامه فلا يزداد بالحرم في حقه فأما هنا العمرة بعقد مقصود يحوي ترك التعرض للصيد فوجب اعتباره في حق المحرم بالحج كما يجب اعتباره في حق غير المحرم بالحج.
قال: فإن قتل حلالان صيدا في الحرم بضربة واحدة فعلى كل واحد منهما نصف جزاء كامل بخلاف ما إذا ضربه كل واحد منهما ضربة فإنه يجب على كل واحد منهما ما تقتضيه ضربته ثم يجب على كل واحد منهما نصف قيمته مضروبا بضربتين لأن عند اتحاد فعلهما جميع الصيد صار متلفا بفعلهما فيضمن كل واحد منهما نصف الجزاء وعند اختلاف محل الفعل الجزء الذي تلف بضربة كل واحد منهما كان هو المختص بإتلافه فعليه جزاؤه والباقي متلفا بفعلهما فضمانه عليهما وقد قررنا هذا الفرق فيما أمليناه من شرح الجامع.
قال: وإذا قتل المحرم صيدا فعليه قيمة الصيد في الموضع الذي قتله فيه إن كان الصيد يباع ويشترى في ذلك الموضع وإلا ففي أقرب المواضع من ذلك الموضع مما يباع ذلك الصيد ويشترى في ذلك الموضع مما له نظير من النعم أو لا نظير له في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد والشافعي رحمهما الله تعالى فيما له نظير ينظر إلى نظيره من النعم الذي يشبهه في المنظر لا إلى القيمة حتى يجب في النعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى في الحمامة شاة وهو قول بن أبي ليلى وزعم أن بينهما مشابهة من حيث أن كل واحد منهما يعب ويهدر وفيما لا نظير له تعتبر القيمة واحتجا في ذلك بقوله تعالى:
{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}[المائدة: 95] وحقيقة المثل ما يماثل الشيء صورة ومعنى ولا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر العمل بالحقيقة والنظير مثل صورة ومعنى والقيمة مثل معنى لا صورة. وفي قوله: {مِنَ النَّعَمِ}[المائدة: 95]

 

ج / 4 ص -75-         تنصيص على أن المعتبر هو المثل صورة وعلى هذا اتفقت الصحابة رضي الله تعالى عنهم نقل ذلك عن علي وعمر وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم أوجبوا ما سمينا من النظائر وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى أخذا بقول بن عباس رضي الله تعالى عنه فإنه فسر المثل بالقيمة والمعنى الفقهي يشهد له فإن الحيوان لا مثل له من جنسه ألا ترى أن في حق حقوق العباد يكون الحيوان مضمونا بالقيمة دون المثل فكذلك في حقوق الله تعالى.
وكما أن المثل منصوص عليه هنا فكذلك في حقوق العباد في قوله تعالى:
{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194] يوضحه أن المماثلة بين الشيئين عند اتحاد الجنس أبلغ منه عند اختلاف الجنس فإذا لم تكن النعامة مثلا للنعامة كيف تكون البدنة مثلا للنعامة والمثل من الأسماء المشتركة فمن ضرورة كون الشيء مثلا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له ثم لا تكون النعامة مثلا للبدنة عند الإتلاف فكذلك لا تكون البدنة مثلا للنعامة وإذا تعذر اعتبار المماثلة صورة وجب اعتبارها بالمعنى وهو القيمة فأما قوله: {مِنَ النَّعَمِ}[المائدة: 95] فقد قيل فيه تقديم وتأخير ومعناه: فجزاء مثل ما قتل يحكم به ذو عدل منكم من النعم هديا بالع الكعبة
ثم ذكر الأصمعي وأبو عبيدة أن اسم النعم يتناول الأهلي والوحشي جميعا ومعناه فجزاء قيمة ما قتل من النعم الوحشي وحمله على هذا أولى لأن قوله:
{فَجَزَاءٌ}[المائدة: 95] مصدر وما ذكر بعده وصف فإنما يكون وصفا للمذكور وذلك إذا حمل على ما بينا وإيجاب الصحابة رضي الله عنهم لهذه النظائر لا باعتبار أعيانها بل باعتبار القيمة إلا أنهم كانوا أرباب المواشي فكان ذلك أيسر عليهم من النقود وهو نظير ما قال علي رضي الله عنه في ولد المغرور يفك الغلام بالغلام والجارية بالجارية المراد القيمة والاختلاف في هذه المسألة في فصول:
أحدها: ما بينا.
والثاني: أن الذي أتي الحكمين يقوم الصيد. فإذا ظهرت قيمته فالخيار إلى المحرم بين التكفير بالهدي والإطعام والصيام في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى الخيار إلى الحكمين فإذا عينا نوعا عليه يلزمه التكفير به بعينه فأما اعتبار الحكمين بالنص وهو قوله تعالى:
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}[المائدة: 95]. وعلى طريقة القياس يكفي الواحد للتقويم وإن كان المثنى أحوط ولكن يعتبر المثنى بالنص وبيانه في حديث عمر رضي الله عنه فإن رجلين أتياه فقال أحدهما إن صاحبي هذا كان محرما وأنه رمى إلى ظبي وأصاب أحشاءه فماذا يجب عليه فسار عمر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما بشيء ثم قال عليه شاة فقاما من عنده وجعل السائل يقول لصاحبه أن

 

ج / 4 ص -76-         فتوى أمير المؤمنين لا تغني عنك شيئا ألا ترى أنه لم يعرفه حتى سأل غيره فأرى أن تنحر راحلتك هذه وتعظم شعائر الله فسمع ذلك عمر رضي الله عنه فدعاه وعلاه بالدرة فقال يا أمير المؤمنين أني لا أحل لك من نفسي شيئا حرم الله عليك فانظر لنفسك فقال عمر رضي الله عنه أراك حسن اللهجة والبيان أما سمعت الله يقول: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً}[المائدة: 95] فأنا ذو عدل وعبد الرحمن ذو عدل ومن يعمل بكتاب الله تعالى يسمى جاهلا فيكم؟ فتاب الرجل عن مقالته.
 ثم احتج محمد رحمه الله تعالى بظاهر الآية فإنه قال:
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة: 95] فذكر الهدي منصوبا على أنه تفسير لقوله: {يَحْكُمُ}[المائدة: 95] أو مفعول حكم الحكم فهو تنصيص على أن التعيين إلى الحاكم وفي تسمية الله تعالى فعلهما حكما دليل ظاهر على أن الإلزام إليهما وليس إليهما الزام أصل الواجب فعرفنا أن إليهما التعيين.
 وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا الحاجة إلى الحكمين لإظهار قيمة الصيد فبعد ما ظهرت القيمة فهي كفارة واجبة على المحرم فإليه التعيين لما يؤدي به الواجب كما في كفارة اليمين وكما في ضمان قيم المتلفات فإن تعيين ما يؤدي به الضمان إليه دون المقومين فكذا في هذا الموضع فإن اختار التكفير بالهدى فعليه الذبح في الحرم والتصدق بلحمه على الفقراء لقوله تعالى:
{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة: 95] فالهدي اسم لما يهدي إلى موضع معين وإن اختار الإطعام اشترى بالقيمة طعاما فيطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة وإن اختار الصيام يصوم مكان طعام كل مسكين يوما وإن كان الواجب دون طعام مسكين فأما أن يطعم قدر الواجب وأما أن يصوم يوما كاملا فالصوم لا يكون أقل من يوم.
 وعندنا يجوز له أن يختار الصوم مع القدرة على الهدي والإطعام لقوله تعالى:
{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}[المائدة: 95] وحرف {أَوْ}[المائدة: 95] للتخيير وعلى قول زفر رحمه الله تعالى لا يجوز له الصيام مع القدرة على التكفير بالمال وقاس بكفارة اليمين وهدي المتعة والقران وقال حرف أَوْ}[المائدة: 95] لا ينفي الترتيب في الواجب كما في حق قطاع الطريق في قوله تعالى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ}[المائدة: 33] الآية ولكن هذا خلاف الحقيقة والتمسك بالحقيقة واجب حتى يقوم دليل المجاز وقياس المنصوص على المنصوص باطل.
 وإذا اختار الطعام فالمعتبر قيمة الصيد يشترى به الطعام عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى المعتبر قيمة النظير وهو قول محمد رحمه الله تعالى بناء على أصلهما أن الواجب هو النظير فإنما يحوله إلى الطعام باختياره فتعتبر قيمة الواجب وهو النظير كمن أتلف شيئا من ذوات الأمثال فانقطع المثل من أيدي الناس فإنه يجب قيمة المثل.
وعندنا الواجب قيمة الصيد، والأصل كما بينا فإذا اختار أداء الواجب بالطعام تعتبر قيمة الصيد لأنه هو الواجب الأصلي وإن اختار الصيام صام مكان كل نصف صاع يوما عندنا,

 

ج / 4 ص -77-         وعند الشافعي رحمه الله تعالى يصوم مكان كل مد يوما وهذا بناء على الاختلاف في طعام الكفارة لكل مسكين عندنا يتقدر بنصف صاع وعنده بمد ومذهبه في هذا مروي عن بن عباس رضي الله عنه.
قال: فإن أخرج الحلال صيد الحرم ولم يقتله فعليه جزاء استحسانا وإن أرسله في الحل ما لم يعلم عوده إلى الحرم لأنه بالحرم كان آمنا وقد زال هذا الأمن بإخراجه فيكون كالمتلف له إلا أن يعلم عوده إلى الحرم فحينئذ يعود إليه الأمن على ما كان وهو كالمحرم يأخذ صيدا فيموت في يده لزمه جزاؤه لأنه متلف معنى الصيدية فإن معنى الصيدية في نفره وبعده عن الأيدي.
قال: وإذا رمى الحلال صيدا من الحل في الحرم أو من الحرم في الحل فعليه جزاؤه هكذا روي عن جابر وبن عمر رضي الله عنهما وهذا لأنه إذا كان الصيد في الحرم فهو آمن بالحرم وإن كان الرامي في الحرم فهو منهي عن الرمي إلى الصيد من الحرم قال الله تعالى:
{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة: 95] يقال أحرم إذا عقد عقد الإحرام وأحرم إذا دخل الحرم كما يقال أشأم إذا دخل الشام فكان في الوجهين مرتكبا للنهي فيلزمه الجزاء إلا أن يكون الصيد والرامي في الحل فرماه ثم دخل الصيد الحرم فيصيبه فيه فحينئذ لا يلزمه الجزاء لأنه في الرمي غير مرتكب للنهي ولكن لا يحل تناول ذلك الصيد وهذه هي المسألة المستثناة من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإن عنده المعتبر حالة الرمي إلا في هذه المسألة خاصة فإنه اعتبر في حل التناول حالة الإصابة احتياطا لأن الحل بالذكاة يحصل وإنما يكون ذلك عند الإصابة فإن كان عند الإصابة الصيد صيد الحرم لم يحل تناوله وعلى هذا إرسال الكلب.
قال: ولا يحل تناول ما ذبحه المحرم لأحد من الناس وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يحل للمحرم القاتل تناوله ويحل لغيره من الناس وحجته في ذلك أن معنى الذكاة في تسييل الدم النجس من الحيوان وشرط الحل التسمية ندبا أو واجبا على اختلاف الأصلين وذلك يتحقق من المحرم كما يتحقق من الحلال إلا أن الشرع حرم التناول على المحرم القاتل بطريق العقوبة ليكون زجرا له وهذا لا يدل على حرمة التناول في حق غيره كما يجعل المقتول ظلما حيا في حق القاتل حتى لا يرثه وهو ميت في حق غيره وحجتنا في ذلك قوله تعالى:
{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة: 95] والفعل الموجب للحل مسمي باسم الذكاة شرعا فلما سماه قتلا هنا عرفنا أن هذا الفعل غير موجب للحل أصلا والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب أبي قتادة رضي الله تعالى عنهم:
"هل أعنتم هل أشرتم هل دللتم؟" فقالوا: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: " إذن فكلوا".
فإذا ثبت بالأثر أن الإعانة من المحرم توجب الحرمة فمباشرة القتل هنا أولى فإن

 

ج / 4 ص -78-         قيل: كيف يصح هذا الاستدلال وعندكم الصيد لا يحرم تناوله بإشارة المحرم ودلالته قلنا فيه روايتان وقد بينا هما في الزيادات ومن ضرورة حرمة التناول عند الإشارة حرمة التناول عند مباشرة القتل فإن قام هذا الدليل على انتساخ هذا الحكم عند الإشارة فذلك لا يدل على انتساخه عند المباشرة والمعنى فيه أن هذا الاصطياد محرم لمعنى الدين ولهذا حرم التناول عليه فيكون نظير اصطياد المجوسي وذلك موجب للحرمة في حق الكل فهذا مثله.
قال: فإن أدى المحرم جزاءه ثم أكل فعليه قيمة ما أكل في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن كان قتله غيره لم يكن عليه شيء فيما أكل وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يلزمه شيء آخر سوى الاستغفار وحجتهما أن صيد المحرم كالميتة أو كذبيحة المجوسي وتناول الميتة لا يوجب إلا الاستغفار ألا ترى أنه إذا أكل منه حلال أو محرم آخر لم يلزمه إلا الاستغفار فكذا إذا أكل هو منه والدليل عليه أن الحلال إذا ذبح صيدا في الحرم فأدى جزاءه ثم أكل منه لا يلزمه شيء آخر وكذلك المحرم إذا كسر بيض صيد فأدى جزاءه ثم شواه فأكله لا يلزمه شيء آخر كذا هذا وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه تناول محظور إحرامه فيلزمه الجزاء كسائر المحظورات وبيانه أن قتل هذا الصيد من محظورات إحرامه والقتل غير مقصود لعينه بل للتناول منه.
 فإذا كان ما ليس بمقصود محظور إحرامه حتى يلزمه الجزاء به فما هو المقصود بذلك أولى بخلاف محرم آخر فإن هذا التناول ليس من محظورات إحرامه وبخلاف الحلال في الحرم لأن وجوب الجزاء هناك باعتبار الأمن الثابت بسبب الحرم وذلك للصيد لا للحم وكذلك البيض وجوب الجزاء فيه باعتبار أنه أصل الصيد وبعد الكسر انعدم هذا المعنى يقرره أن المقتول بغير حق في حق القاتل كالحي من وجه حتى لا يرث وكالميت من وجه حتى تعتق أم الولد إذا قتلت مولاها ففيما ينبني أمره على الاحتياط جعلناه كالحي في حق القاتل وهو جزاء الإحرام فيلزمه بالتناول جزاء آخر وأما جزاء صيد الحرم غير مبني على الاحتياط في الإيجاب فلهذا اعتبرنا معنى اللحمية فلا يوجب فيه الجزاء.
قال: وإذا أصاب الحلال صيدا في الحل فذبحه فلا بأس بأن يأكل المحرم منه وهو قول عثمان وبن عباس رضي الله عنهما وكان بن عمر رضي الله عنه يكره ذلك حتى روي أن عثمان رضي الله عنه دعاه إلى طعام وكان محرما فرأى اليعاقيب في القصعة فقام فقيل لعثمان رضي الله عنه إنما قام كراهة لطعامك فبلغ ذلك بن عمر رضي الله عنه فقال ما كرهت طعامه ولكن كنت محرما فمن أخذ بقوله استدل بما روي أن رجلا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش فرده فرأى الكراهة في وجهه فقال صلى الله عليه وسلم:
"ما بنا رد لهديتك ولكنا حرم".
ولنا: في ذلك حديث طلحة رضي الله عنه قال: تذاكرنا لحم الصيد في حق المحرم,

 

ج / 4 ص -79-         فارتفعت أصواتنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في حجرته فخرج إلينا فقال: "فيم كنتم؟" فذكرنا ذلك له فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بأس به". وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالروحاء مع أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين وهم محرمون فرأى حمار وحش عقيرا وفيه سهم ثابت فأراد أصحابه رضي الله عنهم أخذه فقال صلى الله عليه وسلم: "دعوه حتى يأتي صاحبه". فجاء رجل من بهز فقال يا رسول الله هذه رميتي فهي لك فأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يقسمها بين الرفاق.
والحديث الذي روي أنه رده تصحيف وقع من الراوي والصحيح أنه أهدى إليه حمار وحش ولئن صح فليس المراد بالرجل القطعة من اللحم بل هو العدد من حمار الوحش كما يقال رجل جراد للجماعة منه وكان مالك رحمه الله تعالى يقول إن اصطاد الحلال لأجل المحرم فليس للمحرم أن يتناول منه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمحرمين:
"صيد البر حلال لكم إلا ما اصطدتموه" أو "صيد لكم". ولكنا نقول: هذه اللام لام التمليك فإنما يتناول ما كان مملوكا للمحرم صيدا وسواء اصطاد الحلال لنفسه أو لمحرم فهو لم يصر مملوكا للمحرم صيدا وإنما يصير مملوكا للمحرم حين يهديه إليه بعد الذبح وهو عند ذلك لحم لا صيد فيه فلهذا حل تناوله.
قال: محرم كسر بيض صيد فعليه قيمته وقال بن أبي ليلى رضي الله عنه عليه درهم ومذهبنا مروى عن علي وبن عباس رضي الله عنهم والمعنى فيه وهو أن البيض أصل الصيد فإنه معد ليكون صيدا ما لم يفسد فيعطى له حكم الصيد في إيجاب الجزاء على المحرم بإفساده كما أن الماء في الرحم جعل بمنزلة الولد في حكم العتق والوصية ولأنه منع حدوث معنى الصيدية فيه فيجعل كالمتلف بعد الحدوث بمنزلة المغرور يضمن قيمة الولد لأنه منع حدوث الرق فيه فإن كان فيه فرخ ميت فعليه قيمة الفرخ حيا وهذا استحسان وفي القياس لا يغرم إلا قيمة البيضة لأنه لم تعلم حياة الفرخ قبل كسره ولكنه استحسن فقال: البيض ما لم يفسد فهو معد ليخرج منه فرخ حي والتمسك بهذا الأصل واجب حتى يظهر خلافه ولأن كسر البيضة سبب لموت الفرخ إذا حصل قبل أوانه فإذا ظهر الموت عقيب هذا السبب يحال به عليه.
وكذلك لوضرب بطن ظبية فطرحت جنينا ميتا ثم ماتت فعليه جزاؤهما جميعا أخذا فيه بالثقة لأن الضرب سبب صالح لموتهما وقد ظهر الموت عقيبه وإنما أراد بقوله أخذا بالثقة الإشارة إلى الفرق بين هذا وبين الضمان الواجب لحق العباد فإن من ضرب بطن جارية فألقت جنينا ميتا وماتت لما وجب هناك ضمان الأصل لم يجب ضمان الجنين لأن الجنين في حكم الجزء من وجه وفي حكم النفس من وجه والضمان الواجب لحق العباد غير مبني على الاحتياط فلا يجب في موضع الشك فأما جزاء الصيد مبني على الاحتياط فلهذا رجح شبه النفس في الجنين فاوجب عليه جزاءهما.
قال: وإذا عطب الصيد بفسطاط المحرم أو بحفيرة حفرها للماء فلا شيء عليه بخلاف

 

ج / 4 ص -80-         ما إذا نصب شبكة أو حفر حفيرة لأخذ الصيد لأنه متسبب في الموضعين إلا أن التسبب إذا كان تعديا يكون موجبا للضمان كحفر البئر على الطريق وإذا لم يكن تعديا لا يكون موجبا للضمان كحفر البئر في ملك نفسه ونصب الشبكة من المحرم تعد لأنه قصد به الاصطياد فأما ضرب الفسطاط ليس بتعد إذ لم يقصد به الاصطياد ألا ترى أن الحلال لو نصب شبكة فتعقل بها صيد ملكه حتى لو أخذه غيره كان له أن يسترده منه بخلاف ما إذا ضرب فسطاطا وعلى هذا إذا فزع منه الصيد فاشتد فانكسر لم يلزمه شيء بخلاف ما إذا أفزعه هو أو حركه فإنه وجد بسبب هو فيه متعد فيكون هو ضامنا.
قال: محرم اصطاد صيدا فأرسله محرم آخر من يده فلا شيء عليه لأن الصيد محرم العين على المحرم بالنص قال الله تعالى:
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}[المائدة: 96], فلم يملكه بالأخذ كمن اشترى خمرا لا يملكها لأنها محرمة العين فإذا لم يملكه لم يكن المرسل من يده متلفا عليه شيئا ولأنه فعل عين ما يحق عليه فعله شرعا فهو كمن أراق الخمر على المسلم.
قال: ولو قتله في يده فعلى كل واحد منهما جزاؤه أما القاتل فلأنه جنى على إحرامه بقتل الصيد وأما الآخذ فلأنه كان متلفا لمعنى الصيدية فيه حكما بإثبات يده ثم يرجع الآخذ بما ضمن من الجزاء على القاتل عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى لا يرجع عليه بشيء لأن الآخذ لم يملك الصيد ولا كانت له فيه يد محترمة ووجوب الضمان له على القاتل باعتبار أحد هذين المعنيين ولأنه بالقتل لزمته كفارة يفتي بها ويخرج بالصوم منها فلو رجع عليه إنما يرجع بضمان المالية ويطالب به ويحبس به ولا يجوز له أن يرجع عليه بأكثر مما لزمه.
وحجتنا في ذلك أن اليد على هذا الصيد كانت يدا معتبرة لحق الآخذ لأنه يتمكن به من الإرسال وإسقاط الجزاء به عن نفسه والقاتل يصير مفوتا عليه هذه اليد فيكون ضامنا له وإن لم يملكه الآخذ كغاصب المدبر إذا قتله إنسان في يده يدل عليه أنه قرر عليه ما كان على شرف السقوط وذلك سبب مثبت للرجوع عليه كشهود الطلاق إذا رجعوا قبل الدخول.
والذي قال: يفتي به ويخرج عنه بالصوم فذلك ليس لمعنى راجع إلى نفس الحق بل لمعنى ممن له الحق فإن حقوق الله تعالى على عباده بطريق الفتوى والخروج عنه بالصوم لأن الله تعالى غني عن مال عباده إنما يطلب منهم التعظيم لأمره ومثل هذا التفاوت لا يمنع الرجوع كالأب إذا غصب مدبر ابنه فغصبه منه آخر ثم أن الابن ضمن أباه رجع الأب على الغاصب منه وإن كان هو لا يحبس فيما لزمه لابنه ويكون له أن يحبس الغاصب منه فيما يطالبه به.
قال: ولو أحرم وفي يده ظبي فعليه أن يرسله لأن استدامة اليد عليه بعد الإحرام بمنزلة الإنشاء فإن اليد مستدامة وكما أن إنشاء اليد متلف معنى الصيدية فيه فالاستدامة كذلك.
قال: فإن أرسله إنسان من يده فعلى المرسل قيمته في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى،

 

ج / 4 ص -81-         لذي اليد وهو القياس. وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا شيء عليه استحسانا وهو نظير اختلافهم فيمن أتلف على غيره شيئا من المعازف فأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا فعله أمر بالمعروف ونهي عن المنكر لأنه مأمور شرعا بإرساله فإذا كان ذلك مما يلزمه شرعا ففعل ذلك غيره لا يكون مستوجبا للضمان كمن أراق خمر مسلم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الصيد قبل الإحرام كان ملكا له متقوما ولم يبطل ذلك بالإحرام ألا ترى أن الصيد لو كان في بيته بقي مملوكا متقوما على حاله فالذي أرسله من يده أتلف عليه ملكا متقوما فيضمن له بخلاف إراقة الخمر على المسلم ثم الواجب عليه رفع يده ولو رفع بنفسه يرفعه على وجه لا يفوت ملكه بعد ما يحل من إحرامه.
فإذا فوت هذا المرسل ملكه فقد زاد على ما يحق عليه فعله فيكون ضامنا له وهذا طريقه أيضا في إتلاف المعازف وفرق بين هذا وبين ما إذا أخذ الصيد وهو محرم فقال هناك لم يملكه بالأخذ فالمرسل لا يكون مفوتا عليه ملكا متقوما وهنا بالإحرام لم يبطل ملكه على ما قررنا والدليل في الفرق أن المحرم إذا أخذ صيدا ثم أرسله فأخذه غيره ثم وجده المحرم في يده بعد ما حل فليس له أن يسترده منه ولو أحرم وفي يده صيد فأرسله ثم وجده بعد ما حل في يد غيره كان له أن يسترده منه فدل على الفرق بين الفصلين.
قال: محرم قتل سبعا فإن كان السبع هو الذي ابتدأه فآذاه فلا شيء عليه والحاصل أن نقول: ما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤذيات بقوله:
"خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم". وفي حديث آخر: "يقتل المحرم الحية والفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور"، فلا شيء على المحرم ولا على الحلال في الحرم بقتل هذه الخمس لأن قتل هذه الأشياء مباح مطلقا وهذا البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم كالملحق بنص القرآن فلا يكون موجبا للجزاء.
والمراد من الكلب العقور الذئب. فأما ما سوى الخمس من السباع التي لا يؤكل لحمها إذا قتل المحرم منها شيئا ابتداء فعليه جزاؤه عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا شيء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استثنى الخمس لأن من طبعها الأذي فكل ما يكون من طبعه الأذى فهو بمنزلة الخمس مستثنى من نص التحريم فصار كأن الله تعالى قال لا تقتلوا من الصيود غير المؤذي ولو كان النص بهذه الصفة لم يتناول إلا ما هو مأكول اللحم غير الموذي ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استثني الكلب العقور وهذا يتناول الأسد ألا ترى أنه حين دعا على عتبة بن أبي لهب قال:
"اللهم سلط عليه كلبا من كلابك"؟ فافترسه أسد بدعائه صلى الله عليه وسلم.
 ولأن الثابت بالنص حرمة ممتدة إلى غاية وهو الخروج من الإحرام لأن الله تعالى قال:
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}[المائدة: 96], وهذا يتناول مأكول اللحم فأما غير مأكول اللحم محرم التناول على الإطلاق فلا يتناوله هذا النص وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة: 95]، واسم الصيد يعم الكل لأنه يسمى به لتنفره واستيحاشه

 

ج / 4 ص -82-         وبعده عن أيدي الناس وذلك موجود فيما لا يؤكل لحمه والدليل عليه أن لفظة الاصطياد بهذا المعنى تطلق على أخذ الرجال قال القائل:

 صيد الملوك ثعالب وأرانب                          وإذا ركبت فصيدى الأبطال

ثم النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن المستثنى من النص خمس فهو دليل على أن ما سوى الخمس فحكم النص فيه ثابت والدليل عليه وهو أنا لو جعلنا الاستثناء باعتبار معنى الإيذاء خرج المستثنى من أن يكون محصورا بعدد الخمس فكان هذا تعليلا مبطلا للنص ثم ما سوى الخمس في معنى الأذى دون الخمس لأن الخمس من طبعها البداءة بالأذى وما سواها لا يؤذى إلا أن يؤذي فلم يكن في معنى المنصوص ليلحق به.
والذي قال: الحرمة ثابتة بالنص إلى غاية فحرمة الاصطياد هكذا لأن النص يثبت حرمة الاصطياد لا حرمة التناول وحرمة الاصطياد بهذه الصفة تثبت في غير مأكول اللحم كما تثبت في مأكول اللحم ثم لا اختلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى أن الجزاء يجب بقتل الضبع على المحرم لأن عنده الضبع مأكول اللحم وعندنا هو من السباع التي لم يتناولها الاستثناء وفيه حديث جابر رضي الله عنه حين سئل عن الضبع: أصيد هو؟ فقال: نعم. فقيل: أعلى المحرم الجزاء فيه؟ قال: نعم. فقيل له: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولكن السبع إن كان هو الذي ابتدأ المحرم فلا شيء عليه في قتله عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليه الجزاء لأن فعل الصيد هدر قال صلى الله عليه وسلم:
"العجماء جبار" من غير ذكر الجرح أي جرح العجماء جبار فوجوده كعدمه فيما يجب من الجزاء بقتله على المحرم.
ألا ترى أن في الضمان الواجب لحق العباد إذا كان السبع مملوكا لا فرق بين أن تكون البداءة منه أو من السبع فكذلك فيما يجب لحق الله تعالى وحجتنا في ذلك حديث عمر رضي الله تعالى عنه فإنه قتل ضبعا في الإحرام فأهدى كبشا وقال إنا ابتدأناه ففي هذه التعليل بيان أن البداءة إذا كانت من السبع لا يوجب شيئا ولأن صاحب الشرع جعل الخمس مستثناة لتوهم الأذى منها غالبا وتحقق الأذى يكون أبلغ من توهمه فتبين بالنص أن الشرع حرم عليه قتل الصيد وما ألزمه تحمل الأذى من الصيد فإذا جاء الأذى من الصيد صار مأذونا في دفع أذاه مطلقا فلا يكون فعله موجبا للضمان عليه وبهذا فارق ضمان العباد فإن الضمان يجب لحق العباد ولم يوجد الإذن ممن له الحق في إتلافه مطلقا حتى يسقط به الضمان بخلاف ما نحن فيه.
ولا يدخل على ما ذكرنا قتل المحرم القمل فإنه يوجب الجزاء عليه وإن كان يؤذيه لأن المحرم إذا قتل قملة وجدها على الطريق لم يضمن شيئا لأنها مؤذية ولكن إذا قتل القمل على نفسه إنما يضمن لمعنى قضاء التفث بإزالة ما ينمو من بدنه عن نفسه وهذا بخلاف المحرم إذا كان مضطرا فقتل صيدا لأن الإذن ممن له الحق هناك مقيد وليس بمطلق فإن

 

ج / 4 ص -83-         الإذن في حق المضطر في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ}[البقرة: 196] والإذن عند الأذى ثابت بالنص مطلقا في حق الصيد فلا يكون موجبا للضمان عليه فأما إذا كان هو الذي ابتدأ السبع يلزمه قيمته بقتله لا يجاوز بقيمته شاة عندنا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى تجب قيمته بالغة ما بلغت على قياس ما يؤكل لحمه من الصيود هكذا ذكر أصحابنا هذا الخلاف.
وذكر بن شجاع رحمه الله تعالى في شرح اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن عند زفر فيما هو مأكول اللحم لا يجاوز بقيمته شاة والحاصل أن زفر رحمه الله تعالى يقول بأن الضمان الواجب لحق الله تعالى معتبر بالواجب لحق العباد وهناك لا فرق بين مأكول اللحم وبين غير مأكول اللحم فهنا لا فرق بينهما أيضا فأما أن يقال تجب القيمة بالغة ما بلغت في الموضعين جميعا أو لا يجاوز بالقيمة شاة في الموضعين جميعا وحجتنا في ذلك أن فيما لا يؤكل لحمه وجوب الجزاء باعتبار معنى الصيدية فقط لا باعتبار عينه فإنه غير مأكول وباعتبار معنى الصيدية يكون مرتكبا محظور إحرامه فلا يلزمه أكثر من شاة كسائر محظورات الإحرام.
فأما في مأكول اللحم وجوب الجزاء باعتبار عينه لأنه مفسد للحمه بفعله فتجب قيمته بالغة ما بلغت وكذلك في حقوق العباد وجوب الضمان باعتبار ملك العين فيتقدر بقيمة العين وهذا لأن زيادة القيمة في الفهد والنمر والأسد لمعنى تفاخر الملوك به لا لمعنى الصيدية وذلك غير معتبر في حق المحرم فلهذا لا يلزمه أكثر من شاة إن كان مفردا بالحج أو العمرة وإن كان قارنا لا يجاوز بما يجب عليه شاتين لأنه محرم بإحرامين.
قال: وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير في هذا الحكم سواء على ما بينا وذكر في بعض الروايات في الحديث المستثنى مكان الحدأة الغراب والمراد به الأبقع الذي يأكل الجيف ويخلط فإنه يبتدئ بالأذى فأما العقعق يجب الجزاء بقتله على المحرم لأنه لا يبتدئ بالأذى غالبا والخنزير والقرد يجب الجزاء بقتلهما على المحرم في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وقال زفر رضي الله تعالى عنه لا يجب لأن الخنزير بمنزلة الكلب العقور مؤذ بطبعه وقد ندب الشرع إلى قتله قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"بعثت لكسر الصليب وقتل الخنزير". ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول بأنه متوحش لا يبتدئ بالأذى غالبا فيكون نص التحريم متناولا له.
وكذلك السمور والدلق يجب الجزاء بقتلهما على المحرم والفيل كذلك إذا كان وحشيا فأما الفأرة مستثناة في الحديث وحشيها وأهليها سواء والسنور كذلك في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجب الجزاء بقتله أهليا كان أو وحشيا وفي رواية هشام عن محمد رحمهما الله تعالى ما كان منه بريا فهو متوحش كالصيود يجب الجزاء بقتله على المحرم فأما الضب فليس في معنى الخمسة المستثناة لأنه لا يبتدئ بالأذى

 

ج / 4 ص -84-         فيجب الجزاء على المحرم بقتله. وكذلك الأرنب واليربوع يجب بقتلهما القيمة على المحرم فأما ما كان من هوام الأرض فلا شيء على المحرم في قتله غير أن في القنفذ روايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى:
في إحدى الروايتين قال هو نوع من الفأرة وفي رواية جعله كاليربوع.
فإذا بلغت قيمة شيء من هذه الحيوانات حملا أو عناقا لم يجزه الحمل ولا العناق من الهدي في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأدنى ما يجزى في ذلك الجذع العظيم من الضأن أو الثني من غيرها فإن كان الواجب دون ذلك كفر بالإطعام أو الصيام وجعل هذا قياس الأضحية فكما لا يجزى هناك التقرب بإراقة دم الحمل والعناق مقصودا فكذلك هنا ولأن الواجب بالنص هنا الهدي قال الله تعالى:
{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة: 95] فهو بمنزلة هدي المتعة والقران فكما لا يجزئ الحمل والعناق في هدي المتعة والقران لا يجزئ هنا وأبو يوسف ومحمد وبن أبي ليلى رحمهم الله تعالى جوزوا ذلك في جزاء الصيد استحسانا بالآثار التى جاءت به فإن الصحابة رضي الله عنهم قالوا في الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة ولأن الرجل قد يسمي الدراهم والثوب هديا.
ألا ترى أن الرجل لو قال: لله علي أن أهدي هذه الدراهم يلزمه أن يفعل ذلك؟ فالحمل والعناق أولى في ذلك ولا يستقيم قياسه على هدي المتعة لأنه قياس المنصوص بالمنصوص ولأن الهدي قد يكون عناقا وفصيلا وجديا ألا ترى أنه لو أهدى ناقة فنتجت كان ولدها هديا معها ينحر ولو كان غير هدي لكان يتصدق به كذلك قبل النحر ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أجوزه هديا تبعا لا مقصودا كما يجوز به التضحية تبعا لا مقصودا إذا نتجت الأضحية.
قال: وفي بيض النعامة على المحرم القيمة وفي الكتاب رواه عن عمر وبن مسعود رضي الله عنهما أنهما أوجبا في بيض النعامة القيمة.
قال: ولو أن المحرم رمى صيدا فجرحه ثم كفر عنه ثم رآه بعد ذلك فقتله فعليه كفارة أخرى لأنه صيد على حاله بعد الجرح الأول وقد انتهى حكم ذلك الجرح بالتكفير فقتله الآن جناية أخرى مبتدأة فيلزمه به كفارة أخرى وإن لم يكفر عنه في الأولى لم يضره ولم يكن عليه في ذلك شيء إذا كفر في هذه الأخيرة إلا ما نقصه الجرح الأول يريد به إذا كفر بقيمة صيد مجروح فأما إذا كفر بقيمة صيد صحيح فليس عليه شيء آخر لأن الفعلين منه جناية في إحرام واحد على محل واحد فيكون بمنزلة فعل واحد فلهذا لا يجب عليه إلا كفارة واحدة وهذا لأن حكم الفعل الأول قبل التكفير باق فيجعل الثاني إتماما له فأما بعد التكفير قد انتهى حكم الفعل الأول فيكون الفعل الثاني جناية بمبتدأة.
قال: محرم جرح صيدا ثم كفر عنه قبل أن يموت ثم مات أجزأته الكفارة التى

 

ج / 4 ص -85-         أداها لأن سبب الوجوب عليه جنايته على الإحرام بجرح الصيد فإنما أدى الواجب بعد ما تقرر سبب الوجوب فإذا تم الوجوب بذلك السبب جاز المؤدى كما لو جرح مسلما ثم كفر ثم مات المجروح.
قال: وإذا أحرم الرجل وله في منزله صيد لم يكن عليه إرساله عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه إرساله لأنه متعرض للصيد بامساكه في ملكه وذلك حرام عليه بسبب الإحرام فيلزمه إرساله كما لو كان الصيد في يده بحضرته ولكنا نستدل عليه بالعادة الظاهرة لأن الناس يحرمون ولهم في بيوتهم بروج الحمامات وغيرها ولم يتكلف أحد لإرسال ذلك قبل الإحرام ولا أمر بذلك وهذا لأن المستحق عليه ترك التعرض للصيد لإزالة الصيد عن ملكه وتعرضه إنما يتحقق إذا كان الصيد في يده بحضرته فأما إذا كان الصيد غائبا عنه في بيته لا يكون هو متعرضا له فلا يلزمه إرساله
ألا ترى أنه كما يحرم عليه التعرض للصيد يحرم عليه التطيب ولبس المخيط ولا يلزمه إخراج شيء من ذلك من ملكه قال وللمحرم أن يذبح الشاة والدجاجة لأن هذا ليس من الصيود فإن الصيد اسم لما يكون ممتنعا متوحشا فما لا يكون جنسه ممتنعا متوحشا لا يكون صيدا.
قال: وكذلك البط الذي يكون عند الناس والمراد منه الكسكري الذي يكون في الحياض هو كالدجاج مستأنس بجنسه فأما البط الذي يطير فهو صيد يجب الجزاء فيه على المحرم والحمام أصله صيد يجب على المحرم الجزاء في كل نوع منه وقال مالك رحمه الله تعالى ليس في المسرول من الحمام شيء على المحرم لأنه مستأنس لا يفر من الناس ولكنا نقول الحمام بجنسه ممتنع متوحش فكان صيدا وإن كان بعضه قد استأنس كالنعامة وحمار الوحش وغيرهما.
قال: والذي يرخص للمحرم من صيد البحر هو السمك خاصة فأما طير البحر لا يرخص فيه للمحرم ويجب الجزاء بقتله وهذا لأن الله تعالى أباح صيد البحر مطلقا بقوله عز وجل:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}[المائدة: 96]الآية فالمحرم والحلال فيه سواء ولأن المحرم بالنص قتل الصيد على المحرم والقتل في صيد البحر لا يتحقق ولأن صيد البحر ما يكون بحري الأصل والمعاش كالسمك فأما الطير فهو بري الأصل بحري المعاش لأن توالده يكون في البر دون الماء فيكون من صيد البر ألا ترى أن ما يكون مائي الأصل وإن كان قد يعيش في البر كالضفدع جعل مائيا باعتبار أصله حتى لا يجب على المحرم بقتله شيء فكذلك ما يكون بري الأصل لا يرخص للمحرم فيه.
قال: محرم اصطاد ظبية فولدت عنده قبل أن يحل أو بعد ما حل ثم ذبحها وولدها في الحل أو في الحرم فعليه جزاؤهما جميعا لأنه حين أخذ الظبية وجب عليه أرسالها لإزالة جنايته وذلك حق مستحق عليه في الحل شرعا فيسري إلى الولد ويجب عليه إرسال ولدها

 

ج / 4 ص -86-         معها وما كان من الحق المستحق عليه في العين أو في المعنى لا يرتفع بخروجه عن الإحرام فإذا ذبحهما فقد فوت الحق المستحق فيهما شرعا فلهذا وجب عليه جزاؤهما جميعا ألا ترى أنه لو كان الصيد مملوكا لغيره لكان الرد فيهما مستحقا عليه لحق المالك فبذبحهما يلزمه قيمتهما فهذا مثله أو أولى.
قال: وأكره للمحرم أن يشتري الصيد وأنهاه عنه لأن الصيد في حقه محرم العين فلا يكون مالا متقوما كالخمر فلهذا لا يجوز شراؤه أصلا وإن اشتراه من محرم أو حلال فعليه أن يخلي سبيله بمنزلة ما لو أخذه فإن عطب في يده فعليه جزاؤه لجنايته على الصيد بإثبات يده عليه وأنه إتلاف لمعنى الصيدية فيه ويجب على البائع جزاؤه أيضا إن كان محرما لأنه جان على الصيد بتسليمه إلى المشتري مفوت لما كان مستحقا عليه من تخلية سبيله فكان ضامنا للجزاء.
قال: وإن اصطاد المحرم صيدا فحبسه عنده حتى مات فعليه جزاؤه وإن لم يقتله لأنه متلف معنى الصيدية فيه معنى بإثبات يده عليه والإتلاف الحكمي بمنزلة الإتلاف الحقيقي في إيجاب الضمان عليه كما لو قطع إحدى قوائم الظبي.
قال: محرم أو حلال أخرج صيدا من الحرم فإنه يؤمر برده على الحرم لأنه كان بالحرم آمنا صيدا وقد أزال ذلك الأمن عنه بإخراجه فعليه إعادة أمنه بأن يرده إلى الحرم فيرسله فيه وهذا لأن كل فعل هو متعد في فعله فعليه نسخ ذلك الفعل قال صلى الله عليه وسلم:
"علي اليد ما أخذت حتى ترد", ونسخ فعله بأن يعيده كما كان.
قال: فإن أرسله في الحل فعليه جزاؤه لأنه ما أعاده آمنا كما كان فإن الأمن كان ثابتا بسبب الحرم فما لم يصل إلى الحرم لا يعود إليه ذلك الأمن ولا يخرج الجاني عن عهدة فعله بمنزلة الغاصب إذا رده على غير المغصوب منه إلا أن يحيط العلم بأنه وصل إلى الحرم سالما فحينئذ يبرأ عن جزائه كما إذا وصل المغصوب إلى يد المغصوب منه.
قال: وكل شيء صنعه المحرم بالصيد مما يتلفه أو يعرضه للتلف فعليه جزاؤه إلا أن يحيط علمه بأنه سلم منه فحينئذ يتم انتساخ حكم فعله وذلك بأن يجرحه فتندمل الجراحة بحيث لا يبقى لها أثر أو ينتف ريشه فينبت مكانه آخر أو يقلع سنه فينبت مكانه آخر فحينئذ لا يلزمه شيء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقاسا هذا بالضمان الواجب في حق العباد فإن ذلك يسقط إذا لم يبق للفعل أثر في المحل فكذا هنا وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى يلزمه صدقة باعتبار ما أوصل من الألم إلى الصيد لأن باندمال الجراحة لم يتبين أن الألم لم يصل إليه وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى اعتبار الألم أيضا في الجناية على حقوق العباد حتى أوجب على الجاني ثمن الدواء وأجرة الطبيب إلى أن تندمل الجراحة.
قال: ولا ينبغي للحلال أن يعين المحرم على قتل الصيد لأن فعل المحرم معصية والإعانة على المعصية معصية فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المعين شريكا. ولأن الواجب عليه أن

 

ج / 4 ص -87-         يأمره بالمعروف وينهاه عن التعرض للصيد فإذا اشتغل بالإعانة فقد أتى بضد ما هو واجب عليه فكان عاصيا فيه ولكن ليس عليه شيء سوى الاستغفار لأن الاصطياد ليس بحرام عليه إنما المحرم عليه الإعانة على المعصية وذلك موجب للتوبة.
 قال: وكذلك لا ينبغي له أن يشتريه منه لأن بيعه حرام على المحرم ولأن في امتناعه عن الشراء زجرا للمحرم عن اصطياده فإنه تقل رغبته في الاصطياد إذا علم أنه لا يشترى منه الصيد وسواء أصاب المحرم الصيد عمدا أو خطأ فعليه الجزاء عندنا وهو قول عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم وقال بن عباس رضي الله عنهما ليس على المحرم في قتل الصيد خطأ جزاء لظاهر قوله تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}[المائدة: 95] فالتقييد بالعمدية لإيجاب الجزاء يمنع وجوبه على المخطى ء ولكنا نقول هذا ضمان يعتمد وجوبه الإتلاف فيستوي فيه العامد والخاطى ء كغرامات الأموال وهذه كفارة تجب جزاء للفعل فيكون واجبا على المخطى ء كالكفارة بقتل المسلم وهذا لأن الله تعالى حرم على المحرم قتل الصيد مطلقا وارتكاب ما هو محرم بسبب الإحرام موجب للجزاء عمدا كان أو خطأ.
فأما تقييده بالعمد في الآية فليس لأجل الجزاء بل لأجل الوعيد المذكور في آخر الآية بقوله عز وجل:
{لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} إلى قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}[المائدة: 95) وهذا الوعيد على العامد دون المخطى ء ثم ذكر العمد هنا للتنبيه لأن الدلالة قد قامت على أن صفة العمدية في القتل مانعة من وجوب الكفارة لتمحض الحظرية فذكره الله هنا حتى يعلم أنه لما وجبت الكفارة هنا إذا كان الفعل عمدا وجب إذا كان خطأ بطريق الأولى.
وكذلك إن كان هذا القتل أول ما أصاب أو أصاب قبله شيئا فعليه الجزاء في الوجهين جميعا وكان بن عباس رضي الله عنه يقول يجب الجزاء على المبتدئ بقتل الصيد فأما العائد إليه لا يلزمه الجزاء ولكن يقال له اذهب فينتقم الله منك لظاهر قوله تعالى:
{وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}[المائدة: 95] ولكنا نقول بأن الإتلاف لا يختلف بين الابتداء والعود إليه وجزاء الجناية يجب عند العود إليها بطريق الأولى لأن جناية العائد أظهر من جناية المبتدئ بالفعل مرة فأما الآية فالمراد من عاد بعد العلم بالحرمة كما في قوله تعالى في آية الربا {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}[البقرة: 275] يعنى من عاد إلى المباشرة بعد العلم بالحرمة لا أن يكون المراد العود إلى القتل بعد القتل.
قال: وإذا قتل الحلال الصيد في الحرم فعليه قيمته إلا على قول أصحاب الظواهر وهذا قول غير معتد به لكونه مخالفا للكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى:
{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة: 95] يقال في اللغة إحرم إذا دخل في الحرم كما يقال أشتى إذا دخل في الشتاء وقال صلى الله عليه وسلم: "إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض لا يختلى

 

ج / 4 ص -88-         خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها". فإذا ثبت أمن صيد الحرم بهذه النصوص كان القاتل جانيا بإتلافه محلا محترما متقوما فيلزمه جزاؤه والجزاء قيمة الصيد كما في حق المحرم إلا أن المذهب عندنا أن جزاء صيد الحرم يتأدى بإطعام المساكين ولا يتأدى بالصوم.
وفي التأدي بالهدي روايتان وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يتأدى بالصوم أيضا والمذهب عنده أن الواجب هنا الكفارة كالواجب على المحرم لأن الوجوب لمحض حق الله تعالى فيكون الواجب جزاء الفعل بطريق الكفارة بمنزلة ما يجب على المحرم فكما أن ذلك يتأدى بالصوم إذا لم يجد المال عنده فكذلك هنا والمذهب عند الشافعي رحمه الله تعالى أن معنى الغرامة والمقابلة بالمحل يغلب في الفصلين جميعا لأن الواجب مثل المتلف بالنص أما من حيث الصورة أو من حيث القيمة ومثل الشيء إنما يجب في الأصل ليقوم مقامه فكان جانب المحل هو المراعى في الفصلين جميعا.
 وقد ثبت في حق المحرم أن الواجب يتأدى بالصوم بالنص فكذلك في صيد الحرم وأما عندنا الواجب على المحرم بطريق الكفارة فالمعتبر فيه معنى جزاء الفعل لأنه لا حرمة في المحل إنما المحرم في المباشر وهو إحرامه ألا ترى أنه بعد ما حل من إحرامه يجوز له الاصطياد وإن لم يتبدل وصف المحل وجزاء الفعل يجب بطريق الكفارة فأما في صيد الحرم وجوب الجزاء باعتبار وصف ثابت في المحل وهو صفة الأمن الثابت للصيد بسبب الحرم ألا ترى أنه إنما يتغير هذا الحكم بتغير وصف المحل بخروجه من الحرم إلى الحل ألا ترى أنه كما يجب ضمان الصيد بسبب الحرم يجب ضمان النامي من الأشجار النامية في الحرم لما فيها من حياة مثلها وثبوت الأمن لها بسبب الحرم ولا شك أن ما يجب بقطع الأشجار يكون غرم المحل فكذلك ما يجب بقتل صيد الحرم يكون غرم المحل فكان هذا بغرامات المالية أشبه.
فكما لا مدخل للصوم في غرامات الأموال وإن كان وجوبها لحق الله تعالى كإتلاف مال الزكاة والعشر فكذلك لا مدخل للصوم في جزاء صيد الحرم يقرره وهو أنه لما أزال الأمن عن محل أمن لحق الله تعالى فيلزمه بمقابلته إثبات صفة الأمن عن الجوع للمسكين حقا لله تعالى وذلك بالإطعام يحصل دون الصيام فأما في صيد الإحرام لما كان الواجب لارتكابه فعلا محرما حقا لله تعالى يتأدى ذلك بفعل ما هو مأمور به حقا لله تعالى وهو الصيام وفي الهدي روايتان هنا.
في إحدى الروايتين يقول: لا يتأدى الواجب بإراقة الدم بل بالتصدق باللحم حتى يشترط أن تكون قيمة اللحم بعد الذبح مثل قيمة الصيد فإن كان دون ذلك لا يتأدى الواجب به وكذلك إن سرق المذبوح لأنه لا مدخل لإراقة الدم في الغرامات وإنما المعتبر فيه التمليك من المحتاج وذلك يحصل في اللحم.
وفي الرواية الأخرى يقول: يتأدى الواجب بإراقة الدم حتى إذا سرق المذبوح لا يلزمه

 

ج / 4 ص -89-         شيء ويشترط أن تكون قيمته قبل الذبح مثل قيمة الصيد لأن الهدي مال يجب لله تعالى وإراقة الدم طريق صالح لجعل المال خالصا لله تعالى بمنزلة التصدق ألا ترى أن المضحي يجعل الأضحية خالصا لله تعالى بإراقة دمها؟ فكذلك هنا.
قال: ومن دخل الحرم بصيد فعليه أن يرسله عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس عليه إرساله لأن الأمن بسبب الحرم يثبت لحق الشرع فإنما يثبت في المباح دون المملوك كالأشجار فإن ما ينبته الناس في الحرم لا يثبت فيه حرمة الحرم وقاس هذا بالاسترقاق فإن الإسلام يمنع الاسترقاق لحق الشرع ثم لا يزيل الرق الثابت قبله فكذا هذا ولكنا نقول حرمة الحرم في حق الصيد كحرمة الإحرام فكما أن الحرمة بسبب الإحرام تثبت في حق الصيد المملوك حتى يجب إرساله فكذلك الحرمة بسبب الحرم وليس هذا نظير الأشجار لأن ما ينبته الناس ليس بمحل لحرمة الحرم أصلا بمنزلة الأهلي من الحيوانات كالإبل والبقر والغنم فأما الصيد مملوكا كان أو غير مملوك فهو محل لثبوت الأمن له بسبب الحرم فإن باع الصيد بعد ما أدخله الحرم كان البيع فاسدا يرد إن كان الصيد قائما وإن كان فائتا فعليه جزاؤه لأن حرمة الحرم في الصيد مانعة من بيعه كحرمة الإحرام.
قال: رجل أدخل الحرم بازيا أو صقرا فعليه إرساله لأنه صيد ممتنع فيثبت فيه الأمن بسبب الحرم فعليه إرساله كما لو أخذه في الحرم فإن أرسله فجعل يقتل حمامات الحرم لم يكن عليه في ذلك شيء لأنه بالإرسال ما قصد الاصطياد وإنما قصد مباشرة ما هو مستحق عليه وهو رفع اليد عن الصيد الآمن فلا يكون عليه عهدة ما يفعله الصيد بعد ذلك كمن أعتق عبدا عن كفارته فجعل العبد يرتكب الكبائر لا يكون على المعتق شيء من ذلك فهذا مثله.
قال: ولا خير فيما يرخص فيه أهل مكة من الحجل واليعاقيب ولا يدخل الحرم شيئا منها لحديث بن عمر رضي الله عنه أن عبد الله بن عامر رضي الله عنه أهدى إليه بمكة بيض نعام وظبيين حيين فلم يقبلهما وقال أهديتهما إلي آمنين ما كانا أي ما داما يريد به أنهما صارا آمنين بإدخالهما في الحرم حيين والحجل واليعاقيب من الصيود فبإدخال الحرم إياهما حيين يثبت الأمن فيهما فلا يحل تناول شيء منهما وذلك مروي عن عائشة والحسين بن علي رضي الله تعالى عنه وعادة أهل مكة في هذا الترخيص بخلاف النص فيكون ساقط الاعتبار فإن ذبحهما قبل أن يدخلهما الحرم فلا بأس بتناولهما في الحرم لأنه إنما أدخل اللحم في الحرم واللحم ليس بصيد.
قال: وإن رمى صيدا بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم فعليه جزاؤه لأن جزاء صيد الحرم مبني على الاحتياط ولأنه إذا اجتمع المعني الموجب للحظر والموجب للإباحة في شيء واحد يغلب الموجب للحظر لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال"، فلا يحل تناول هذا الصيد لهذا المعنى أيضا.

 

ج / 4 ص -90-         قال: وإن كان الرامي في الحرم والصيد في الحل فقد بينا أن الاصطياد محرم على من كان في الحرم كما هو محرم على المحرم فهذا وما لو كان الصيد في الحرم سواء وإن كان الرامي في الحل والصيد في الحل إلا أن بينهما قطعة من الحرم فمر فيها السهم فلا شيء عليه ولا بأس بأكله لأنا إن اعتبرنا الرامي فهو حلال في الحل وإن اعتبرنا جانب الصيد فهو صيد الحل وبمرور السهم في هواء الحرم لا تثبت حرمة الحرم في حق الصيد ولا في حق الرامي والسهم ليس بمحل حرمة الحرم فلهذا لا يجب على الرامي شيء ولا بأس بأكله.
قال: وإن جرح صيدا في الحل وهو حلال فدخل الحرم ثم مات فيه لم يكن عليه جزاؤه لأن فعله في وقت الجرح كان مباحا والسراية أثر الفعل فإذا لم يكن أصل فعله موجبا للجزاء لا يكون أثره موجبا كمن جرح مرتدا فأسلم ثم مات وفي القياس لا بأس بأكل هذا الصيد لأن فعله كان مذكيا له موجبا للحل حتى لو مات منه في الحل حل تناوله ولكنه كره أكله استحسانا لما بينا أن حل التناول حكم يثبت عند زهوق الروح عنه وعند ذلك هو صيد الحرم فاعتبار هذا الجانب يحرم التناول واعتبار جانب الجرح يبيح تناوله فيترجح الموجب للحرمة على الموجب للحل.
قال: وإذا ذبح الهدي في جزاء الصيد بالكوفة وتصدق به لم يجزه من الهدي لأن إراقة الدم لا يكون قربة إلا في وقت مخصوص أو مكان مخصوص وهو الحرم كيف وقد نص الله تعالى على التبليغ إلى الحرم هنا بقوله عز وجل:
{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة: 95]؟ ولكن إن كانت قيمة اللحم بعد الذبح مثل قيمة الصيد أجزأه من الطعام إذا أصاب كل مسكين قيمة نصف صاع على قياس كفارة اليمين إذا كسى عشرة مساكين ثوبا واحدا أجزأه من الطعام دون الكسوة إن كانت قيمة ما أصاب كل مسكين قيمة نصف صاع من حنطة أو أكثر.
قال: وإذا أراد الصوم بالكوفة فذلك جائز في حق المحرم لأن الصوم قربة في أي موضع كان فأما صيد الحرم في حق الحلال فقد بينا أنه لا مدخل للصوم فيه إلا أن يكون محرما أصاب الصيد في الحرم فحينئذ تتأدى كفارته بالصوم لأن في حق المحرم لا يظهر حرمة الحرم فالواجب عليه كفارة ألا ترى أنها لا تتجزى فلهذا يتأدى بالصوم وعلى هذا لو دل محرم على صيد في الحرم وجب عليه الجزاء بخلاف الحلال إذا دل على صيد في الحرم لا يلزمه الجزاء كالمحرم بناء على أصله أن الواجب عليه كفارة حتى تتأدى بالصوم فيكون الدال فيه كالمباشر وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا الفصل مثل قول زفر رحمه الله تعالى.
قال: وإذا أكل المحرم من جزاء الصيد فعليه قيمة ما أكل لأن حق الله تعالى بالتصدق تعلق بالمذبوح فإذا صرفه إلى حاجته صار ضامنا قيمته للمساكين وكذلك إن أكله بعد ما ذبحه بمكة فعليه قيمته مذبوحا بخلاف ما إذا سرق فإن الهدي قد بلغ محله حين ذبحه بمكة

 

ج / 4 ص -91-         وبقي وجوب التصدق معلقا بعين المذبوح فإذا هلك من غير صنعه لا يلزمه شيء وإذا استهلكه بالأكل فعليه ضمان قيمته للفقراء بمنزلة مال الزكاة فإذا تصدق بهذه القيمة على مسكين واحد أجزأه بمنزلة اللحم إذا تصدق به على مسكين بخلاف ما إذا اختار التكفير بالإطعام فإنه لا يجزيه لا أن يطعم كل مسكين نصف صاع لأن طعام الكفارة في حق كل مسكين مقدر بنصف صاع كما في كفارة اليمين.
فأما في الهدي التكفير يحصل بإراقة الدم دون التصدق باللحم ثم التصدق بعد ذلك يلزمه باعتبار أنه صار لله تعالى خالصا فهو بمنزلة الزكاة فإن شاء صرف الكل إلى مسكين واحد وإن شاء فرقه على المساكين وفي التكفير بالطعام إذا أعطى كل مسكين نصف صاع ففضل مد تصدق به على مسكين واحد بمنزلة ما لو كان الواجب هذا المقدار يتصدق به على مسكين واحد وإن اختار الصوم يصوم باعتبار هذا المد يوما كاملا أو يطعم لأن الصوم لا يكون أقل من يوم وله أن يفرق الصوم في جزاء الصيد لأنه مطلق في كتاب الله عز وجل قال الله تعالى:
{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}[المائدة: 95] فإن شاء تابع وإن شاء فرق.
قال: وإذا قتل المحرم الجراد فعليه فيه القيمة لأن الجراد من صيد البر وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال تمرة خير من جرادة وقصة هذا الحديث أن أهل حمص أصابوا جرادا كثيرا في إحرامهم فجعلوا يتصدقون مكان كل جرادة بدرهم فقال عمر رضي الله عنه أرى دراهمكم كثيرة يا أهل حمص تمرة خير من جرادة.
قال: وليس على المحرم في قتل البعوض والذباب والنمل والحلمة والقراد شيء لأن هذه الأشياء ليست من الصيود فإنها لا تنفر من بني آدم ولو كانت من الصيود كانت مؤذية بطبعها فلا شيء على المحرم فيها وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرد بعيره في إحرامه وقال بن عباس رضي الله عنه لعكرمة مولاه قم فقرد البعير فقال أنا محرم فقال لو أمرتك بنحره هل كنت تنحره قال نعم فقال كم من قراد وحمنانة تقتل بالنحر بين أنه ليس على المحرم في القراد والحمنانة شيء ويكره له قتل القملة لا لأنه صيد ولكن لأنه ينمو من بدنه فيكون قتله من قضاء التفث والمحرم ممنوع من ذلك بمنزلة إزالة الشعر فإن قتلها فما تصدق به فهو خير من القملة إذ لا خير في القمل كما قال علي رضي الله عنه القملة ضالة لا تلتمس فلهذا يخرج عن الواجب بما يتصدق به من قليل أو كثير.
قال: ولا بأس للمحرم أن يغتسل فإن عمر رضي الله عنه اغتسل وهو محرم وإنما أورد هذا لأن من الناس من كره ذلك ويقول إن الماء يقتل هوام الرأس وليس كذلك بل الماء لا يزيده إلا شعثا.
قال: ولو أن حلالا أصاب بيضا من بيض الصيد فأعطاه محرما فشواه فعلى المحرم جزاؤه لأن البيض أصل الصيد وقد أفسده المحرم بفعله فعليه جزاؤه ولا بأس بأكله

 

ج / 4 ص -92-         بخلاف الصيد إذا قتله المحرم لأنه إنما يحرم بفعل المحرم ما يحتاج في حله إلى الذكاة ولا حاجة إلى الذكاة في حل تناول البيض ألا ترى أن المسلم والمجوسي فيه سواء فكذا المحرم والحلال ووجوب الجزاء على المحرم لا يوجب الحرمة كما لو دل حلالا على صيد يلزمه الجزاء ولا يحرم به تناول الصيد.
قال: محرم أصاب صيدا كثيرا على قصد الإحلال والرفض لإحرامه فعليه لذلك كله دم عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى عليه جزاء كل صيد لأنه مرتكب محظور الإحرام بقتل كل صيد فيلزمه جزاؤه كما لو لم يقصد رفض الإحرام وهذا لأن قصده هذا ليس بشيء لأن إحرامه لا يرتفض بقتل الصيد فكان وجود هذا القصد كعدمه وهو بناء على أصله أن في وجوب الجزاء العبرة للمحل دون الفعل فلا معتبر بقصده إلى الرفض بفعله ولكنا نقول أن قتل الصيد من محظورات الإحرام وارتكاب محظورات العبادة يوجب ارتفاضها كالصوم والصلاة إلا أن الشرع جعل الإحرام لازما لا يخرج منه إلا بأداء الأعمال.
ألا ترى أنه حين لم يكن لازما في الابتداء كان يرتفض بارتكاب المحظور وكذلك الأمة إذا أحرمت بغير إذن مولاها أو المرأة إذا أحرمت بغير إذن زوجها بحجة التطوع لما لم يكن ذلك لازما في حق الزوج كان له أن يحللها بفعل شيء من المحظورات بها فكان هو في قتل الصيود هنا قاصدا إلى تعجيل الإحلال لا إلى الجناية على الإحرام وتعجيل الإحلال يوجب دما واحدا كما في حق المحصر بخلاف ما إذا لم يكن على قصد رفض الإحرام لأنه قصد الجناية على الإحرام بقتل كل صيد فيلزمه جزاء كل صيد وقد بينا أن حكم جزاء الصيد في حق المحرم ينبني على قصده حتى أن ضارب الفسطاط لا يكون ضامنا للجزاء بخلاف ناصب الشبكة.
قال: ولا يتصدق من جزاء الصيد على والده وولده بمنزلة الزكاة وصدقة الفطر فإنه مال وجب التصدق به لحق الله تعالى وإن أعطى منه ذميا أجزأه إلا أن في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى حيث كل صدقة واجبة لا يجوز صرفها إلى فقراء أهل الذمة وقد بينا هذه الفصول في كتاب الصوم فهو على ما ذكرناه ثمة.
قال: وإذا بلغ جزاء الصيد جزورا فهو أحب إلي من أن يشتري بقيمته أغناما لأن المندوب إليه التعظيم في الهدايا قال الله تعالى
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:32] فما كان أقرب إلى التعظيم فهو أولى وإن اشترى أغناما فذبحها وتصدق بها أجزأه على قياس سائر الهدايا نحو هدي الإحصار وهدي المتعة.
قال: وليس عليه أن يعرف بالجزور في جزاء الصيد ولا أن يقلده لأن سنة التقليد والتعريف فيما يكون نسكا وهذا دم كفارة فلا يسن فيه التعريف والتقليد وإن كان لو فعل ذلك لا يضره وعلى هذا هدي الأحصار والكفارات وكان المعنى فيه أن ما يكون نسكا فالتشهير فيه أولى ليكون باعثا لغيره على أن يفعل مثل ما فعله فأما ما يكون كفارة فسببه

 

ج / 4 ص -93-         ارتكاب المحظور فالستر على نفسه في مثله أولى من التشهير قال صلى الله عليه وسلم: "من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر يستر الله تعالى عليه".
قال: وإذا رمى الصيد وهو حلال ثم أحرم فليس عليه في ذلك شيء لأن فعله في الرمي كان مباحا مطلقا ولأن الجناية على الإحرام بما يتعقبه لا بما يسبقه.
قال: وإذا رمى طائرا على غصن شجرة أصلها في الحرم أو في الحل لم ينظر إلى أصلها ولكن ينظر إلى موضع الطائر فإن كان ذلك الغصن في الحل فلا جزاء عليه وإن كان في الحرم فعليه فيه الجزاء لأن قوام الصيد ليس بالغصن قال الله تعالى:
{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ}[النحل: 79] فكان المعتبر فيه موضع الصيد فإن كان ذلك الموضع من هواء الحرم فالصيد صيد الحرم وإن كان من هواء الحل فالصيد صيد الحل.
فأما في قطع الغصن فينظر إلى أصل الشجرة فإن كان في الحل فله أن يقطعه وإن كان في الحرم فليس له أن يقطعه لأن قوام الأغصان بالشجرة فينظر إلى أصل الشجرة فيجعل حكم الأغصان حكم أصلها وإن كان بعض الأصل في الحرم وبعضه في الحل فهو من شجر الحرم أيضا لأنه اجتمع فيه المعنى الموجب للحظر والموجب للحل فهو بمنزلة صيد قائم بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم يكون من صيد الحرم بخلاف ما إذا كانت قوائم الصيد في الحل ورأسه في الحرم فإن قوامه بقوائمه دون رأسه إلا أن يكون نائما ورأسه في الحرم فحينئذ قوامه بجميع بدنه فإذا كان جزء منه في الحرم فهو بمنزلة صيد الحرم.
 ثم الأصل في حرمة أشجار الحرم قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا يختلي خلاها ولا يعضد شوكها".
قال هشام: سألت محمدا رحمه الله تعالى عن معنى هذا اللفظ فقال: كل مالا يقوم على ساق.
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قطع دوحة كانت في موضع الطواف تؤذي الطائفين فتصدق بقيمتها وحرمة أشجار الحرم كحرمة صيد الحرم فإن صيد الحرم يأوي إلى أشجار الحرم ويستظل بظلها ويتخذ الأوكار على أغصانها فكما تجب القيمة في صيد الحرم على من أتلفه فكذلك تجب القيمة على من قطعه.
وشجر الحرم ما ينبت بنفسه لا ما ينبته الناس فأما ما ينبته الناس عادة ليس له حرمة الحرم سواء أنبته إنسان أو نبت بنفسه لأن الناس يزرعون ويحصدون في الحرم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا زجر زاجر فأما ما لا ينبته الناس عادة إذا أنبته إنسان فلا شيء عليه في قطعه أيضا لأنه ملكه والتحق فعله بما ينبته الناس عادة فأما إذا نبت بنفسه فله حرمة الحرم وإن كان مملوكا لإنسان بأن نبت في ملكه حتى قالوا لو نبت في ملك رجل أم غيلان فقطعه إنسان فعليه قيمته لمالكه وعليه قيمة لحق الشرع بمنزلة ما لو قتل صيدا مملوكا في الحرم.

 

ج / 4 ص -94-         قال: وإن قطع رجلان شجرة من شجر الحرم فعليهما قيمة واحدة على قياس صيد الحرم إذا قتله رجلان إلا أن هنا يستوي إن كانا محرمين أو حلالين بخلاف صيد الحرم لأن حرمة الصيد في حق المحرم بسبب الإحرام فيتكامل على كل واحد منهما فأما حرمة الشجرة بسبب الحرم لأن الإحرام لا يمنع قطع الشجرة فلهذا كان المحرم والحلال في ذلك سواء ويكون الواجب على كل واحد منهما نصف القيمة ولا يجزئ فيه الصيام إنما يهدى أو يطعم على قياس ما بينا في صيد الحرم في حق الحلال.
قال: ولا أحب له أن ينتفع بتلك الشجرة التي أدى قيمتها لأنه لو أبيح له ذلك لتطرق الناس إلى مثله فلا تبقى أشجار الحرم وفي ذلك إيحاش صيد الحرم ولكنه لو انتفع بها فلا شيء عليه لأن المقطوع صار مملوكا له بما غرم من القيمة وليس للمقطوع حرمة الحرم بعد القطع فلا شيء عليه في الانتفاع ألا ترى أنه لو ذبح صيد الحرم ثم تناوله بعد ما أدى الجزاء لم يلزمه بالتناول شيء فهذا مثله فإن غرسها فنبتت فله أن يقطعها ويصنع بها ما شاء لأن المقطوع ملكه وهو الذي أنبته وقد بينا أن ما ينبته الناس لا يثبت فيه حرمة الحرم.
 قال: وما تكسر من شجر الحرم ويبس حتى سقط فلا بأس بالانتفاع به لأن ثبوت الحرمة بسبب الحرم بما يكون ناميا فيه حياة مثله والمتكسر وما يبس ليس فيه معنى النمو فلا بأس بالانتفاع به.
قال: ولا يختلي حشيش الحرم ولا يقطع إلا الأذخر فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص فيه وإنما أراد به ما روي أن العباس رضي الله عنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها" قال إلا الأذخر يا رسول الله فإنها لقبورهم وبيوتهم أو لبيوتهم وقبورهم فقال صلى الله عليه وسلم: "إلا الأذخر" وتأويل هذا أنه كان من قصده صلى الله عليه وسلم أن يستثني إلا أن العباس سبقه لذلك أو كان أوحى إليه أن يرخص فيما يستثنيه العباس رضي الله عنه.
وكما لا يرخص في قطع الحشيش في الحرم بالمنجل فكذلك لا يرخص في رعي الدواب في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا بأس بالرعي لأن الذين يدخلون الحرم للحج أو العمرة يكونون على الدواب ولا يمكنهم منع الدواب من رعي الحشيش ففي ذلك من الحرج ما لا يخفى فيرخص فيه لدفع الحرج وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى لا بأس بأن يحتش ويرعى لأجل البلوى والضرورة فيه فإنه يشق على الناس حمل علف الدواب من خارج الحرم ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى استدلا بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها".
وفي الاحتشاش ارتكاب النهي وكذلك في رعي الدواب لأن مشافر الدواب كالمناجل وإنما تعتبر البلوى فيما ليس فيه نص بخلافه فأما مع وجود النص لا معتبر به.
قال: ولا بأس بأخذ الكمأة في الحرم لأنه ليس من نبات الأرض بل هو مودع فيه.

 

ج / 4 ص -95-         وكذلك لا بأس بأخذ حجارة الحرم وقد نقل عن بن عباس وبن عمر رضي الله عنهما أنهما كرها ذلك ولكنا نأخذ بالعادة الجارية الظاهرة فيما بين الناس بإخراج القدور ونحوها من الحرم ولأن الانتفاع بالحجر في الحرم مباح وما يجوز الانتفاع به في الحرم يجوز إخراجه من الحرم أيضا ثم حرمة الحرم خاصة بمكة عندنا وليس للمدينة حرمة الحرم في حق الصيود والأشجار ونحوها.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى للمدينة حرمة الحرم حتى أن من قتل صيدا فيها فعليه الجزاء لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرم مكة وأنا أحرم ما بين لابتيها"، يعنى المدينة وقال: "من رأيتموه يصطاد في المدينة فخذوا ثيابه"، وحجتنا في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى بعض الصبيان بالمدينة طائرا فطار من يده فجعل يتأسف على ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أبا عمير ما فعل النغير"، اسم ذلك الطير وهو طير صغير مثل العصفور ولو كان للصيد في المدينة حرمة الحرم لما ناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا ولأن هذه بقعة يجوز دخولها بغير إحرام فتكون قياس سائر البلدان بخلاف الحرم فإنه ليس لأحد أن يدخلها إلا محرما.
قال: وإذا قتل المحرم البازي المعلم فعليه فيه الكفارة غير قيمته معلما لأن وجوب الجزاء باعتبار معنى الصيدية فكونه معلما صفة عارضة ليست من الصيدية في شيء لأن معنى الصيدية في تنفره وبكونه معلما ينتقص ذلك ولا يزداد لأن توحشه من الناس يقل إذا كان معلما فلا يجوز أن يكون ذلك زائدا في الجزاء بخلاف ما إذا كان مملوكا لإنسان فإن متلفه يغرم قيمته معلما لأن وجوب القيمة هناك باعتبار المالية وماليته بكونه منتفعا به وذلك يزداد بكونه معلما وكذلك الحمامة إذا كانت تجيء من موضع كذا ففي ضمان قيمتها على المحرم لا يعتبر ذلك المعنى وفي ضمان قيمتها للعباد يعتبر فأما إذا كانت تصوت فتزداد قيمتها لذلك ففي اعتبار ذلك في الجزاء روايتان في إحدى الروايتين لا يعتبر لأنه ليس من معنى الصيدية في شيء وفي رواية أخرى يعتبر لأنه وصف ثابت بأصل الخلقة بمنزلة الحمام إذا كان مطوقا.
قال: وإذا اضطر المحرم إلى قتل الصيد فلا بأس بأن يقتله ليأكل من لحمه ويؤدي الجزاء وقد بينا هذا فيما سبق أورد في كتاب اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أنه إذا اضطر إلى ميتة أو صيد فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يتناول من هذا الصيد ويؤدي الجزاء وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يتناول من الميتة لأنه لو قتل الصيد صار ميتة فيكون جامعا بين أكل الميتة وقتل الصيد وله عن أحدهما غنية بأن يتناول الميتة ولكنا نقول حرمة الميتة أغلظ. ألا ترى أن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام وحرمة الميتة لا فعليه أن يتحرز عن أغلظ الحرمتين بالإقدام على أهونهما وقتل الصيد وإن

 

ج / 4 ص -96-         كان محظور الإحرام ولكنه عند الضرورة لا بأس به كالحلق عند الأذى فلهذا يقتل الصيد ويتناول من لحمه ويؤدي الجزاء والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب المحصر
قال رضي الله عنه الأصل في حكم الإحصار قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}[البقرة: 196] أي منعتم من إتمامهما {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: 196] شاة تبعثونها إلى الحرم لتذبح ثم تحلقون لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196].
 فعلى المحصر إذا كان محرما بالحج أن يبعث بثمن هدي يشتري له بمكة فيذبح عنه يوم النحر فيحل من إحرامه وهذا قول علمائنا رحمهم الله تعالى أن هدي الإحصار مختص بالحرم.
وعلى قول الشافعي رضي الله عنه: لا يختص بالحرم ولكن يذبح الهدي في الموضع الذي يحصر فيه وحجته في ذلك حديث بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه رضي الله عنهم معتمرا فأحصر بالحديبية فذبح هداياه وحلق بها وقاضاهم على أن يعود من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام بغير سلاح فيقضي عمرته فإنما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي في الموضع الذي أحصر فيه ولأنه لو بعث بالهدي لا يأمن أن لا يفي المبعوث على يده أو يهلك الهدي في الطريق وإذا ذبحه في موضعه يتيقن بوصول الهدي إلى محله وخروجه من الإحرام بعد إراقة دمه فكان هذا أولى
وحجتنا في ذلك قوله تعالى:
{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196] والمراد به الحرم بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج: 33] بعد ما ذكر الهدايا.
ولأن التحلل بإراقة دم هو قربة وإراقة الدم لا يكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم أو زمان مخصوص وهو أيام النحر ففي غير ذلك المكان والزمان لا تكون قربة ونقيس هذا الدم بدم المتعة من حيث أنه تحلل به عن الإحرام وذلك يختص بالحرم فكذا هذا وأما ما روي فقد اختلفت الروايات في نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدايا حين أحصر.
فروي أنه بعث الهدايا على يدي ناجية لينحرها في الحرم حتى قال ناجية ماذا أصنع فيما يعطب منها؟ قال:
"انحرها واصبغ نعلها بدمها واضرب بها صفحة سنامها وخل بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا" وهذه الرواية أقرب إلى موافقة الآية قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}[الفتح: 25].
فأما الرواية الثانية إن صحت فنقول الحديبية من الحرم فإن نصفها من الحل ونصفها من الحرم ومضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ومصلاه كان في الحرم فإنما سيقت الهدايا إلى جانب الحرم منها ونحرت في الحرم فلا يكون للخصم فيه حجة وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بذلك لأنه ما كان يجد في ذلك الوقت من يبعث الهدايا على يده إلى الحرم.

 

ج / 4 ص -97-         قال: ثم إذا بعث بالهدي إلى الحرم فذبح عنه فليس عليه حلق ولا تقصير في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى وقد بينا هذا وقال الشافعي رحمه الله تعالى الحلق نسك فعلى المحصر أن يأتي به ثم عليه عمرة وحجة هكذا روي عن بن عباس وبن عمر رضي الله تعالى عنهما أما قضاء الحج فإن كان محرما بحجة الإسلام فقد بقيت عليه حين لم تصر مؤداة وإن كان محرما بحجة التطوع فعليه قضاؤها عندنا لأنه صار خارجا منها بعد صحة الشروع قبل أدائها وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجب عليه القضاء وهو نظير الشارع في صوم التطوع إذا أفسده وقد بيناه في كتاب الصوم وأما قضاء العمرة فلأنه صار في معنى فائت الحج حين كان خروجه بعد صحة الشروع قبل أداء الأعمال وعلى فائت الحج أعمال العمرة فإذا لم يأت بها كان عليه قضاء العمرة أيضا.
قال: وإذا بعث بالهدي فإن شاء أقام مكانه وإن شاء رجع لأنه لما صار ممنوعا من الذهاب يخير بين المقام والانصراف وهذا إذا كان محصرا بعدو وفإن كان محصرا بمرض أصابه فعندنا هو والمحصر بالعدو سواء يتحلل ببعث الهدي وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس للمريض أن يتحلل إلا أن يكون شرط ذلك عند إحرامه ولكنه يصبر إلى أن يبرأ فإن هذا حكم ثابت بالنص من الكتاب والسنة والآية في الإحصار بالعدو بدليل قوله تعالى في آخر الآية:
{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}[البقرة: 196].
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محصرا بالعدو ففيما لم يرد فيه النص يتمسك بالأصل وهو لزوم الإحرام إلى أن يؤدي الأفعال إلا أن يشترط ذلك عند الإحرام فحينئذ يصير التحلل له حقا بالشرط لما روي أن ضباعة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها كانت شاكية فقال لها:
"أهلي بالحج واشترطي أن تحلي حيث حبست". فلو كان لها أن تتحلل من غير شرط لما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشرط والمعنى فيه أن ما ابتلى به لا يزول بالتحلل فلا يكون له أن يتحلل كالذي ضل الطريق أو أخطأ العدد أو سرقت نفقته بخلاف المحصر بالعدو فإن ما ابتلي به هناك يزول بالتحلل لأنه يرجع إلى أهله فيندفع شر العدو عنه.
وحجتنا في ذلك قوله تعالى:
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}[البقرة: 196]. فإن أهل اللغة يقولون إن الإحصار لا يكون إلا في المرض ففي العدو يقال حصر فهو محصر وفي المرض يقال أحصر فهو محصر وقال الفراء رحمه الله تعالى يقال في العدو والمرض جميعا أحصر وحصر في العدو خاصة فقد اتفقوا على أن لفظة الإحصار تتناول المرض وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ}[البقرة: 196] لا يمنع من حمله على المرض ومعناه: إذا برئتم قال صلى الله عليه وسلم: "الزكام أمان من الجذام والدمامل أمان من الطاعون"، فعرفنا أن لفظة الأمن تطلق في المرض.
وفي الحديث عن الحجاج بن عمر رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل", فذكر ذلك لابن عباس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما فقالا: صدق.

 

ج / 4 ص -98-         وعن الأسود بن يزيد قال خرجنا من البصرة عمارا أي معتمرين فلدغ صاحب لنا فأعرضنا الطريق لنسأل من نجده فإذا نحن بركب فيهم بن مسعود رضي الله تعالى عنه فسألناه عن ذلك فقال ليبعث صاحبكم بدم ويواعد المبعوث على يديه أي يوم شاء فإذا ذبح عنه حل والمعنى فيه أن المعنى الذي لأجله ثبت حق التحلل للمحصر بالعدو موجود هنا وهو زيادة مدة الإحرام عليه لأنه إنما التزم إلى أن يؤدي أعمال الحج وبتعذر الأداء تزداد مدة الإحرام عليه ويلحقه في ذلك ضرب مشقة فأثبت له الشرع حق التحلل وهذا المعنى موجود هنا فقد يزداد عليه مدة الإحرام بسبب المرض والمشقة عليه في المكث محرما مع المرض أكثر فيثبت له حق التحلل بطريق الأولى.
والدليل على أن المعنى هذا لا ما قال إن العدو إذا أحاطوا به من الجوانب الأربعة أو حبسوه في موضع لا يزول ما به بالتحلل بأن إن كان لا يمكنه الرجوع إلى أهله مع ذلك يثبت له حق التحلل عرفنا أن المعنى ما قلنا فأما الذي ضل الطريق عندنا فليس محصرا لأنه إن وجد من يبعث بالهدي على يده فذلك الرجل يهديه إلى الطريق فلا حاجة به إلى التحلل وإن لم يجد من يبعث بالهدي على يديه فإنما يتحلل لعجزه عن تبليغ الهدي محله والذي أخطأ العدد فائت الحج وفائت الحج يتحلل بأعمال العمرة.
فأما إذا سرقت نفقته فذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إن كان يقدر على المشي فليس له أن يتحلل بالهدي وإن كان لا يقدر على المشي فهو محصر يتحلل بالهدي وهكذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى إلا أنه قال إن كان يعلم أنه يقدر على المشي إلى البيت يلزمه المشي وإلا فلا ولا يبعد أن لا يلزمه المشي في الابتداء ويلزمه بعد الشروع كما لا يلزمه حجة التطوع ابتداء ويلزمه الإتمام إذا شرع فيها والفقير لا يلزمه حجة الإسلام ويلزمه الاتمام إذا شرع فيها.
قال: وإذا كان محرما بعمرة فأحصر يتحلل بالهدي إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول حكم الإحصار لمن يخاف الفوت والمعتمر لا يخاف الفوت ولكنا نقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر بالحديبية كان محرما بالعمرة وقد بينا حديث بن مسعود رضي الله عنه في الملدوغ والمعنى فيه زيادة مدة الإحرام عليه والمعتمر في هذا كالحاج فيتحلل بالهدي إلا أنه إذا بعث بالهدي هنا يواعد صاحبه يوما أي يوم شاء لأن عمل العمرة لا يختص بوقت فكذا الهدي الذي يتحلل به عن إحرام العمرة بخلاف المحصر بالحج على قولهما لأن أعمال الحج مختصة بوقت الحج فكذلك الهدي الذي به يتحلل مؤقت بيوم النحر وإذا حل من عمرته فعليه عمرة مكانها لأن الشروع فيها قد صح.
قال: والقارن يبعث بهديين لأنه محرم بإحرامين وتحلله عن كل واحد منهما يحصل قبل أداء الأعمال فلهذا يبعث بهديين وإذا تحلل بهما فعليه عمرتان وحجة يقضيهما بقران أو

 

ج / 4 ص -99-         إفراد لما بينا أن إحدى العمرتين تلزمه للتحلل عن العمرة بعد الشروع فيها والأخرى للتحلل عن إحرام الحج وقد بينا في المفرد بالحج أن عليه عمرة وحجة إذا تحلل بالهدي.
قال: وإن بعث القارن بهدي واحد ليتحلل به من أحد الإحرامين لا يصح ذلك ولا يتحلل به لأن أوان التحلل من الإحرامين في حق القارن واحد كما قال صلى الله عليه وسلم:
"فلا أحل منهما" وبالهدي الواحد لا يتحلل منهما فلا يكون له أن يتحلل أصلا.
قال: وإذا بعث بهديين فلا يحتاج إلى أن يعين الذي للعمرة منهما والذي للحج لأن هذا التعيين غير مفيد فلا يعتبر أصلا ثم المذهب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن دم الإحصار لا يختص بيوم النحر حتى لو واعد المبعوث على يده بأن يذبح عنه في أول أيام العشر جاز وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يختص بيوم النحر فالإهداء دم يتحلل به من إحرام الحج فيختص بيوم النحر كهدي المتعة والقران.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إن الله تعالى نص في هدي الإحصار على مكان بقوله:
{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196]. فالتقيد بالزمان يكون زيادة عليه فلا يثبت بالرأي ثم هذا بمنزلة دماء الكفارات فإنه يجب للإحلال قبل أوانه ولهذا لا يباح التناول منه ودماء الكفارات تختص بالحرم ولا تختص بيوم النحر بخلاف دم المتعة والقران فإنه نسك يباح التناول منه بمنزلة الأضحية إذا عرفنا هذا فنقول إذا بعث بالهدي ثم زال الإحصار فالمسئلة على ثلاثة أوجه.
إن كان يقدر على إدراك الحج والهدي جميعا فعليه أن يتوجه لأداء الحج وليس له أن يتحلل بالهدي لأن ذلك كان للعجز عن أداء الحج فكان في حكم البدل وقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فسقط اعتبار البدل ويلزمه أن يتوجه فإذا أدرك هديه صنع به ما شاء لأنه ملكه وقد كان عينه لمقصود وقد استغنى عنه.
وإن كان لا يقدر على إدراك الحج والهدي جميعا لا يلزمه التوجه لأن العجز عن أداء الأعمال لم ينعدم بزوال الإحصار فكان له أن يتحلل بالهدي وإن توجه ليتحلل بأعمال العمرة فله ذلك لأنه فائت الحج وفائت الحج يتحلل بأعمال العمرة وله في هذا التوجه غرض وهو أن لا يلزمه قضاء العمرة.
وأما إذا قدر على إدراك الحج ولم يقدر على إدراك الهدي وإنما يتصور هذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا عندهما لأن عندهما هذا الهدي يختص بيوم النحر فلا يتصور إدراك الحج دون الهدى ثم في القياس على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يلزمه أن يتوجه وليس له أن يتحلل بالهدي وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأن العجز عن أداء الأعمال قد ارتفع بزوال الإحصار وقد بينا أن حكم البدل يسقط اعتباره إذا قدر على الأصل فيلزمه أن يتوجه ولكنه استحسن فقال له أن يتحلل بالهدي لأنه لو توجه ضاع ما له فإن

 

ج / 4 ص -100-       الهدي ملكه جعله لمقصود وهو التحلل فإن كان لا يدركه ولا يتحلل به يضيع ماله وحرمة المال كحرمة النفس فكما كان الخوف على نفسه عذرا له في التحلل فكذلك الخوف على ماله والأفضل له أن يتوجه لأنه أقرب إلى الوفاء بما وعد وهو أداء ما شرع فيه.
قال: وكذلك المرأة تحرم بالحج وليس لها محرم ولا زوج يخرج معها فهي بمنزلة المحصر وهذا بناء على أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج لسفر الحج إلا مع محرم أو زوج عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا وجدت رفقة نساء ثقات فلها أن تخرج وإن لم تجد محرما واحتج في ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة فاشتراط المحرم يكون زيادة على النص ومثل هذه الزيادة تعدل عندكم النسخ ثم هذا سفر لإقامة الفرض فلا يشترط فيه المحرم كسفر الهجرة فإن التي أسلمت في دار الحرب لها أن تهاجر إلى دار الإسلام بغير محرم وهذا لأن شرائط إقامة الفرض ما يكون في وسع المرء عادة ولا ولاية لها على المحرم في إحرامه ولا يجب على المحرم الخروج معها وليس عليها أن تتزوج لأجل هذا الخروج بالاتفاق فعرفنا أن المحرم ليس بشرط إلا أن عليها أن تتحرز عن الفتنة وفي اختلاطها بالرجال فتنة وهي تستوحش بالوحدة فتخرج مع رفقة نسوة ثقات لتسأنس بهن ولا تحتاج إلى مخالطة الرجال.
وحجتنا في ذلك حديث بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها". فقام رجل فقال: إني أريد الخروج في غزوة كذا وإن امرأتي تريد الحج فماذا أصنع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أخرج معها لا تفارقها", ففي هذا دليل على أنهم فهموا من السفر الذي ذكره سفر الحج حتى قال السائل ما قال وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزوج بأن يترك الغزو ويخرج معها دليل على أنه ليس لها أن تخرج إلا مع زوج أو محرم والمعنى في ذلك أنها تنشئ سفرا عن اختيار فلا يحل لها ذلك إلا مع زوج أو محرم كسائر الأسفار بخلاف المهاجرة فإنها لا تنشئ سفرا ولكنها تقصد النجاة.
ألا ترى أنه لو وصلت إلى جيش من المسلمين في دار الحرب حتى صارت آمنة لم يكن لها أن تسافر بعد ذلك من غير محرم ولأنها مضطرة هناك لخوفها على نفسها ألا ترى أن العدة هناك لا تمنعها من الخروج وهنا لو كانت معتدة لم يكن لها أن تخرج للحج وتأثير فقد المحرم في المنع من السفر كتأثير العدة فإذا منعت من الخروج لسفر الحج بسبب العدة فكذلك بسبب فقد المحرم وهذا لأن المرأة عرضة للفتنة وباجتماع النساء تزداد الفتنة ولا ترتفع إنما ترتفع بحافظ يحفظها ولا يطمع فيها وذلك المحرم وتفسيره من لا يحل له نكاحها على التأبيد بسبب قرابة أو رضاع أو مصاهرة ألا ترى أنه يجوز له أن يخلو بها لأنه لا يطمع فيها إذا علم أنها محرمة عليه أبدا فكذلك يسافر بها.

 

 

ج / 4 ص -101-       قال: ويستوي أن يكون المحرم حرا أو مملوكا مسلما أو كافرا لأن كل ذي دين يقوم بحفظ محارمه إلا أن يكون مجوسيا فحينئذ لا تخرج معه لأنه يعتقد إباحتها له فلا ينقطع طمعه عنها فلهذا لا تسافر معه ولا يخلو بها إذا عرفنا هذا فنقول إذا لم تجد المحرم وقد أحرمت بحجة الإسلام فهي ممنوعة من الخروج شرعا فصارت كالمحصر تبعث بالهدي فتتحلل به.
وإن كانت ذات زوج وأرادت أن تخرج لحجة الإسلام مع المحرم فليس للزوج أن يمنعها من الخروج عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى له أن يمنعها من الخروج لأنها صارت كالمملوكة له بعقد النكاح وثبت له حق الاستمتاع بها فهي بهذا الخروج تحول بين الزوج وبين حقه أو تلزمه مشقة السفر فكان له أن يمنعها من ذلك كما يمنعها من الخروج لزيارة الأقارب وكما يمنعها من الخروج لحجة التطوع.
لكنا نقول: فرض الحج يتوجه عليها باستجماع الشرائط فكان ذلك مستثنى من حق الزوج وبسبب عقد النكاح لا يثبت عليها للزوج ولاية المنع من أداء الفرائض ألا ترى أنه لا يمنعها من صيام شهر رمضان والمولى لا يمنع مملوكه من أداء الصلاة لأن ذلك مستثنى من حقه فهذا مثله بخلاف ما إذا لم تجد محرما فإن هناك الفرض لم يتوجه عليها لانعدام شرائطه حتى لو كانت لا تحتاج إلى سفر بأن كان بينها وبين مكة دون مسيرة ثلاثة أيام فليس للزوج أن يمنعها وإن لم تجد محرما لأن اشتراط المحرم للسفر لا لما دونه.
وأما حج التطوع فالخروج لأجله لم يصر مستثنى من حق الزوج لأن ذلك ليس بفرض عليها فإذا أحرمت بحجة التطوع كان للزوج أن يمنعها ويحللها إلا أن هنا لا يتأخر تحليله إياها إلى ذبح الهدي ولكن يحللها من ساعته وعليها هدي لتعجيل الإحلال وعمرة وحجة لصحة شروعها في الحج بخلاف حجة الإسلام لأن هناك لا تتحلل إلا بالهدي لأن هناك لا حق للزوج في منعها لو وجدت محرما وإنما تعذر عليها الخروج لفقد المحرم فلا تتحلل إلا بالهدي وهنا تعذر الخروج لحق الزوج وكما لا يكون لها أن تبطل حق الزوج لا يكون لها أن تؤخر حق الزوج فكان له أن يحللها من ساعته وتحليله لها أن ينهاها ويصنع بها أدنى ما يحرم عليها في الإحرام من قص ظفر ونحوه ولا يكون التحليل بالنهي ولا بقوله حللتك لأن عقد الإحرام قد صح فلا يصح الخروج إلا بارتكاب محظوره وذلك لا يحصل بقوله حللتك وهو نظير الصوم إذا صح الشروع فيه لا يصير خارجا إلا بارتكاب محظوره حتى أن الزوج لو نهاها عن صوم التطوع لا تصير خارجة عن الصوم بمجرد نهيه وكذلك المملوك يهل بغير إذن مولاه فللمولى أن يحلله لقيام حقه في خدمته ومنافعه والمملوك في هذا كالزوجة في حجة التطوع على ما بينا.
قال: والمحصر بالحج إذا بعث بهديين حل بأولهما لأنه ما لزمه للتحلل إلا هدي واحد والأول منهما معين لأداء الفرض والثاني يكون تطوعا والإحلال لا يتوقف على هدي التطوع.

 

ج / 4 ص -102-       قال: وإن حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم لإحلاله لأنه حل قبل أوانه كما قال الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196] ويعود حراما كما كان حتى ينحر هديه لأن ذبح الهدي متعين للتحلل فلا يحل بغيره كطواف الزيارة لما كان متعينا للإحلال به في حق النساء لا يحصل الإحلال بغيره.
قال: وإن كان المحصر معسرا لم يحل أبدا إلا بدم لأن الدم متعين لإحلاله بالنص كما أن طواف الزيارة متعين لإحلاله في حق النساء فكما لا يحصل الإحلال بغيره هناك فكذلك هذا وكان عطاء رحمه الله تعالى يقول إذا عجز عن الهدي نظر إلى قيمة الهدي فجعل ذلك طعاما يطعم به المساكين كل مسكين نصف صاع أو يصوم مكان طعام كل مسكين يوما فيتحلل به بمنزلة الهدي في جزاء الصيد قال أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي وهذا أحب إلي وللشافعي رحمه الله تعالى فيه قولان أحدهما هكذا والثاني أنه إذا عجز عن الهدي صام مكانه عشرة أيام على قياس هدي المتعة لكنا نقول هذا كله قياس المنصوص على المنصوص ولا يجوز ذلك بل المرجع في كل موضع إلى ما وقع التنصيص عليه ولا يجوز العدول عنه إلى غيره.
قال: وكل شيء صنعه المحصر قبل أن يحل فهو بمنزلة المحرم الذي ليس بمحصر وكذلك إن ذبح عن المحصر هديه في غير الحرم فإنه يبقى حراما على حاله حتى يبعث بهدي فيذبح عنه في الحرم وإن كان قد حل قبل ذلك فعليه دم لإحلاله سواء كان عالما به أو لم يكن عالما.
قال: ويجزئه في هدي الإحصار الجذع العظيم من الضأن والثني من غيرها لما روي عن بن عباس رضي الله عنه قال ما استيسر من الهدي شاة وعن جابر رضي الله عنه قال أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم كل سبعة من الصحابة في بدنة عام الحديبية فتبين بهذا أن الواجب هنا ما يجزى في الضحايا والذي يجزى في الضحايا ما سمينا فكذا هنا وإن سرق الهدي بعد ما ذبح عنه فليس عليه شيء لأنه بلغ محله فإن أكل منه الذي ذبحه بعد ما ذبح فهو ضامن لقيمة ما أكل يتصدق به عن المحصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمبعوث على يده: "لا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا" ولأنه قد لزمه التصدق بجميع اللحم عن المحصر فإذا أكل منه شيئا كان ضامنا بدله وحكم البدل حكم المبدل فعليه أن يتصدق ببدله عن المحصر أيضا.
قال: وإن قدم مكة قارنا فطاف وسعى لعمرته وحجته ثم خرج إلى بعض الآفاق قبل أن يقف بعرفة فأحصر فإنه يبعث بالهدي ويحل به وعليه حجة وعمرة مكان حجته وليس عليه عمرة مكان عمرته لأنه فرغ من عمرته حين طاف لها وسعى وإنما بقى عليه للعمرة الحلق أو التقصير فلهذا لا يبعث بهدي لأجل العمرة وإنما يبعث بالهدي للتحلل عن إحرام الحج.
فإن قيل: أليس أنه طاف وسعى لحجته فينبغي أن يكفيه ذلك للتحلل كما في فائت الحج؟

 

ج / 4 ص -103-       قلنا: ما أتى به من الطواف لم يكن واجبا بل كان ذلك طواف التحية ولا يجوز أن يتحلل بمثله فلهذا يبعث بالهدي للتحلل من الإحرام للحج ولهذا كان عليه قضاء عمرة لأن ذلك الطواف والسعي صار وجوده كعدمه في حكم الإحصار فعليه عمرة وحجة وعليه دم لتقصيره في غير الحرم وهذا الدم إنما يلزمه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن عندهما الحلق للعمرة يتوقت بالحرم خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى وقد بينا هذا.
قال: فإذا وقف بعرفة ثم أحصر لم يكن محصرا لأن معنى قوله تعالى:
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}[البقرة: 196] أي منعتم عن إتمام الحج والعمرة وقال صلى الله عليه وسلم: "من وقف بعرفة فقد تم حجه"، فإنما منع هذا بعد الإتمام فلهذا لا يكون محصرا ولأن حكم الإحصار إنما يثبت عند خوف الفوت وبعد الوقوف بعرفة لا يخاف الفوت فلا يكون محصرا ولكنه يبقى محرما إلى أن يصل إلى البيت فيطوف طواف الزيارة وطواف الصدر ويحلق أو يقصر وعليه دم لترك الوقوف بمزدلفة ولرمي الجمار دم ولتأخير الطواف دم ولتأخير الحلق دم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ليس عليه لتأخير الحلق والطواف شيء وقد تقدم بيان هذه الفصول.
فإن قيل: أليس أنكم قلتم إذا ازدادت عليه مدة الإحرام يثبت حكم الإحصار في حقه وقد ازدادت مدة الإحرام هنا فلماذا لا يثبت حكم الإحصار في حقه.
قلنا لا كذلك فإنه يتمكن من التحلل بالحلق إلا من النساء وإن كان يلزمه بعض الدماء فلا يتحقق العذر الموجب للتحلل هنا.
قال: وإذا قدم مكة فأحصر بها لم يكن محصرا وذكر علي بن الجعد عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال سألت أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن المحرم يحصر في الحرم فقال لا يكون محصرا فقلت: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية وهي من الحرم؟ فقال: إن مكة يومئذ كانت دار الحرب فأما اليوم فهي دار الإسلام فلا يتحقق الإحصار فيها قال أبو يوسف رحمه الله تعالى وإنما أنا أقول إذا غلب العدو على مكة حتى حالوا بينه وبين البيت فهو محصر والأصح أن يقول إذا كان محرما بالحج فإن منع من الوقوف وطواف الزيارة جميعا فهو محصر وإن لم يمنع من أحدهما لا يكون محصرا لأنه إن لم يكن ممنوعا من الطواف يمكنه أن يصبر حتى يفوته الحج فيتحلل بالطواف والسعي وإن لم يكن ممنوعا من الوقوف يمكنه أن يقف بعرفة ليتم حجه وإن كان ممنوعا منهما فقد تعذر عليه الإتمام والتحلل بالطواف فيكون محصرا كما لو أحصر في الحل.
قال: رجل أهل بعمرتين معا فسار إلى مكة ليقضيهما ثم أحصر قال يبعث بالهدي لواحد والأصل في هذه المسألة أن نقول من أحرم بعمرتين معا أو بحجتين معا انعقد إحرامه بهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد والشافعي

 

ج / 4 ص -104-       رحمهما الله تعالى: ينعقد إحرامه بأحدهما لأن الإحرام غير مقصود لعينه بل لأداء الأفعال به ولا يتصور أداء حجتين في سنة واحدة ولا أداء عمرتين في وقت واحد والعقد إذا خلا عن مقصوده لا يكون منعقدا أصلا فإذا خلا أحد العقدين هنا عما هو مقصود لم ينعقد الإحرام إلا بأحدهما.
وقاسا بالصوم والصلاة فإن من شرع في صومين في يوم واحد وفي صلاتين بتكبيرة واحدة لا يصير شارعا إلا في أحدهما وهذا على أصل الشافعي رحمه الله تعالى واضح لأن عنده الإحرام من الأركان ولهذا لا ينعقد الإحرام بالحج في غير أشهر الحج عنده وعند محمد رحمه الله تعالى وإن كان الإحرام من الشرائط ففي بعض الأحكام جعل من الأركان ألا ترى أن فائت الحج ليس له أن يستديم الإحرام إلى أن يؤدي الحج به في السنة القابلة ولو كان من الشرائط لكان له ذلك كما في الطهارة للصلاة فإذا كان من الأركان فهو بمنزلة سائر الأعمال لا يتصور اجتماع المثنى منه في وقت واحد كالوقوف لحجتين والطواف لعمرتين.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا: لا تنافي بين العقدين بدليل أنه يثبت أحدهما وهما متساويان والأصل أنه إذا كان منافاة بين العقدين المتساويين أن لا يثبت أحدهما كنكاح الأختين معا وإذا ثبت أنه لا منافاة انعقد الإحرام.
ثم أداء الأفعال لا يتصل بالإحرام والتنافي بينهما في أداء الأفعال وإذا كان أداء الأفعال لا يتصل بالإحرام لا يمنع انعقاد الإحرام بهما بخلاف الصوم والصلاة فالشروع هناك من الأداء ويتصل به الأداء والوقت معيار الصوم فلا يتصور أداء الصومين في وقت واحد.
ثم الإحرام سبب لالتزام الأداء من غير أن يتصل به الأداء فيكون بمنزلة النذر والنذر بالعمرتين صحيح وقد بينا فيما سبق أن الإحرام من جملة الشرائط ابتداء وإن أعطى له حكم الأركان انتهاء فكان بمنزلة الطهارة للصلاة فلا تتحقق المنافاة فيه كمن تطهر لأداء الصلاتين.
إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي يوسف رحمه الله تعالى من عقد إحرامه بهما يصير رافضا لأحدهما لأنه كما فرغ من الإحرام جاء أو إن أداء الأعمال والمنافاة متحققة فيصير رافضا لأحدهما وعليه دم لرفضها ويمضي في الآخر فإن كان أحرم بعمرتين فعليه قضاء العمرة التي رفضها وإن كان إحرامه بحجتين فعليه قضاء عمرة وحجة لرفض أحدهما وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يصير رافضا لأحدهما ما لم يشتغل بالعمل للآخر.
ففي ظاهر الرواية: كما يسير إلى مكة لأداء الأعمال يصير رافضا لأحدهما وفي الرواية الأخرى ما لم يأخذ في الطواف لا يصير رافضا لأحدهما لأنه لما لم يتناف الإحرامان ابتداء لا يتنافيان بقاء بل البقاء أسهل من الابتداء وإنما المنافاة في الأعمال فما لم يشتغل بعمل أحدهما لا يصير رافضا للآخر.

 

ج / 4 ص -105-       وفائدة هذا الاختلاف إنما تظهر فيما إذا أحصر قبل أن يسير إلى مكة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبعث بهديين للتحلل لأنه محرم بإحرامين وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يبعث بهدي واحد لأنه صار رافضا لأحدهما فإنما أحصر وهو حرام بإحرام واحد وعند محمد رحمه الله تعالى لم ينعقد إلا إحرام واحد فلا يبعث إلا بهدي واحد وإن كان سار إلى مكة ثم أحصر فإنما يبعث بهدي واحد لأنه صار رافضا لأحدهما حين سار في عمل الآخر فعليه دم للرفض ودم آخر للتحلل فأما حكم القضاء فإن كان أهل بعمرتين فعليه قضاء عمرتين وإن كان أهل بحجتين فعليه قضاء حجتين وعمرتين.
قال: رجل أهل بشيء واحد لا ينوي حجة ولا عمرة ينعقد إحرامه مع الإبهام لما روي أن عليا وأبا موسى رضي الله عنهما لما قدما من اليمن قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بم أهللتما؟" قالا: أهللنا بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صحح رسول الله صلى الله عليه وسلم إحرامهما مع الإبهام وقد بينا أن الإحرام بمنزلة الشرط للنسك ابتداء والإبهام فيه لا يمنع صحته كالطهارة للصلاة وبعد ما انعقد الإحرام مبهما فللخروج منه طريقان شرعا إما الحج أو أعمال العمرة فيتخير بينهما إن شاء خرج عنه بأعمال العمرة وإن شاء بأعمال الحج وكان تعيينه في الانتهاء بمنزلة التعيين في الابتداء فإن أحصر قبل أن يعين شيئا فعليه أن يبعث بهدي واحد لأنه محرم بإحرام واحد فالتحلل عن إحرام واحد وعليه قضاء عمرة استحسانا وفي القياس عليه قضاء حجة وعمرة لأن إحرامه إن كان للحج فعليه قضاء حجة وعمرة والأخذ بالاحتياط في قضاء العبادات واجب ولكنه استحسن فقال المتيقن به يصير دينا في ذمته فقط والمتيقن العمرة ولما كان متمكنا من الخروج عن عهدة هذا الإحرام قبل الإحصار بأداء العمرة فكذلك بعد الإحصار يتمكن من الخروج عن هذه العهدة بأداء العمرة.
قال: وإن لم يحصر فهو على خياره ما لم يطف بالبيت فإن طاف بالبيت قبل أن ينوي شيئا فهي عمرة لأن طواف العمرة واجب والتحية في الحج ليس بواجب فلا تتحقق المعارضة بين الواجب وبين ما ليس بواجب فلهذا جعلنا طوافه للعمرة ويحصل التعيين به.
قال: وكذلك إذا جامع قبل التعيين فعليه دم الجماع والمضي في أعمال العمرة وقضاء عمرة لأنه لا يلزمه إلا المتيقن به إذا آل الأمر إلى أن يصير دينا والمتيقن هو العمرة فلهذا تعين إحرامه للعمرة ولأنه لو تعين للحج وقد أفسدها بالجماع في هذه السنة فيفوته الحج بصفة الصحة أصلا في هذه السنة وإذا تعين للعمرة لا يفوته شيء فلهذا تعين إحرامه للعمرة.
قال: ولو أهل بشيء واحد كما بينا وسمى ثم نسيه وأحصر بعث بهدي واحد لما بينا أنه محرم بإحرام واحد.
قال: وإذا تحلل بالهدي فعليه عمرة وحجة وهذا احتياط وأخذ بالثقة لجواز أن يكون حين أحرم نوى الحج فيلزمه قضاء عمرة وحجة بخلاف الأول فإن هناك يتيقن أنه لم ينو

 

ج / 4 ص -106-       الحج عند إحرامه ووجوب القضاء عليه باعتبار نية الحج فإذا تيقن هناك أنه لم ينو الحج لا يكون للأمر بالاحتياط معنى وهنا هو غير متيقن فمن الجائز أنه حين أحرم نوى الحج فكان هذا أوان الأخذ بالاحتياط فلهذا يحتاط ويقضي عمرة وحجة.
والفرق بين ما إذا لم يعين في الابتداء وبين ما إذا عين ثم نسي ظاهر في المسائل ألا ترى أن من أعتق إحدى أمتيه بغير عينها لا يجب عليه أن يجتنبهما وبمثله لو أعتق إحداهما بعينها ثم نسي فعليه أن يجتنبهما إلا أن يتذكر وكذا إن لم يحصر في هذا الفصل ولكنه وصل إلى البيت فعليه أن يؤدي عمرة وحجة ويلزمه ما يلزم القارن لأنه يحتمل أنه نوى إحرام الحج ويحتمل أنه نوى إحرام العمرة فيجمع بينهما أخذا بالاحتياط في العبادة ألا ترى أن من نسي صلاة من صلاة اليوم والليلة لا يعرفها يلزمه قضاء صلاة يوم وليلة استحسانا؟ فكذلك هنا.
قال: ولو جامع قبل أن يصل إلى البيت فعليه هدي واحد للجماع لأنه يتيقن أنه محرم بإحرام واحد ولكن عليه إتمام عمرة وحجة لأن الفاسد معتبر بالصحيح فكما أن قبل الإفساد عليه عمرة وحجة فكذلك بعد الإفساد عليه المضي في عمرة وحجة لأنه لا يخرج من الإحرام بالإفساد قبل أداء الأعمال والفاسد معتبر بالصحيح وليس عليه دم القران لأن دم القران إنما يلزمه عند صحة النسكين.
قال: ولو جامع بعد ما نوى أن يجعلها عمرة وحجة ولبى بهما فعليه دمان لأنه يتيقن بعد ما لبى بهما أنه محرم بإحرامين بطريقة إضافة أحد الإحرامين إلى الآخر فعليه دمان للجماع وحكمه في القضاء مثل الأول كما بينا.
قال: ولو أهل بشيئين ثم نسيهما فأحصر بعث بهديين لأنه متيقن أنه محرم بإحرامين فإذا تحلل بهديين كان عليه عمرتان وحجة استحسانا وفي القياس عليه حجتان وعمرتان لأن من الجائز أنه نوى عند إحرامه حجتين فعليه قضاء عمرتين وحجتين احتياطا ولكنه استحسن فقال فعل المسلم محمول على الصحة ما أمكن وعلى ما هو الأفضل فلا يحمل على الفساد إلا بعد تعذر حمله على الصحة فلو جعلنا إحرامه بحجة وعمرة كان فيه حمل أمره على الصحة وعلى ما هو الأفضل وهو القران ولو جعلنا إحرامه بحجتين كان فيه حمل أمره على الفساد لأنه يتعذر عليه الجمع بينهما أداء فلهذا جعلناه كالمحرم بالحج والعمرة.
فإذا تحلل بهديين كان عليه عمرتان وحجة بمنزلة القارن وإن لم يحصر ووصل إلى البيت فكذلك الجواب يجعل إحرامه عمرة وحجة كما يعمل القارن استحسانا وكان القياس أن يقضي عمرته وحجته مع الناس وعليه دم القران وعليه دم آخر وحجة وعمرة لأن من الجائز أنه كان أحرم بحجتين فعليه دم لرفض إحداهما وقضاء وحجة وعمرة ومن الجائز أنه أحرم بعمرة وحجة فعليه دم القران فقلنا إنه يحتاط من كل جانب فيقضي عمرته وحجته مع الناس وعليه دم القران لاحتمال أحد الجانبين ثم عليه دم وقضاء عمرة وحجة لاحتمال الجانب الآخر.

 

ج / 4 ص -107-       وإن كان قد أهل بعمرتين فقد أتى بأعمال إحداهما وقضى الأخرى مع قضاء الحج فيصير خارجا مما عليه بيقين هذا هو القياس ولكنه استحسن فجعله قارنا حملا لأمره على الصحة وعلى ما يفعله الناس ثم عليه دم وقضاء عمرة وحجة وكذلك لو جامع فيهما وهو بمنزلة القارن إذا جامع استحسانا لأن الفاسد معتبر بالصحيح والله أعلم بالصواب.

باب الجماع
قال: وإذا جامع الرجل امرأته وهما مهلان بالحج قبل أن يقفا بعرفة فعلى كل واحد منهما شاة ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل هكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج قال: "يريقان دما ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل". وهكذا روي عن الصحابة عمر وعلي وبن مسعود رضي الله عنهم ولكنهم قالوا إذا رجعا للقضاء يفترقان معناه أن يأخذ كل واحد منهما في طريق غير طريق صاحبه ومالك رحمه الله تعالى أخذ بظاهر هذا اللفظ فقال: كما خرجا من بيتهما فعليهما أن يفترقا ولكن هذا بعيد من الفقه فإن له أن يواقعها ما لم يحرما والافتراق للتحرز عن المواقعة فلا معنى للأمر بالافتراق في وقت تحل المواقعة بينهما فيه وزفر رحمه الله تعالى يقول يفترقان من وقت الإحرام لأن الافتراق نسك بقول الصحابة رضي الله عنهم وأوان أداء ما هو نسك بعد الإحرام وهذا ليس بقوي فإن الافتراق ليس بنسك في الأداء فلا يكون نسكا في القضاء لأن القضاء بصفة الأداء.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا قربا من الموضع الذي جامعها فيه يفترقان لأنهما لا يأمنان إذا وصلا إلى ذلك الموضع أن تهيج بهما الشهوة فيواقعها فيفترقان للتحرز عن هذا وهذا ليس بصحيح أيضا لأنه إنما واقعها في السنة الأولى بسبب النكاح القائم بينهما فلو وجب الافتراق إنما يجب عن النكاح وأحد لا يأمر بهذا ثم إذا بلغا إلى ذلك الموضع فتأملا فيما لحقهما من المشقة بسبب لذة يسيرة ازدادا ندما وتحرزا عن ذلك ثانيا لكيلا يصيبهما الآن مثل ما أصابهما في المرة الأولى ولكنا نقول مراد الصحابة رضي الله عنهم أنهما يفترقان على سبيل الندب إن خافا على أنفسهما الفتنة لا أن يكون ذلك واجبا عليهما كما يندب الشاب إلى الامتناع عن التقبيل في حالة الصيام إذا كان لا يأمن على نفسه ما سوى ذلك.
قال: وإن كانا قارنين فعلى كل واحد منهما شاتان لأن كل واحد منهما محرم بإحرامين وعلى كل واحد منهما قضاء عمرة وحجة إن لم يكن طاف بالبيت قبل المواقعة وقد سقط دم القران عنهما لفساد نسكهما وإن لزمهما المضي في الفاسد لأن هذا دم نسك فلا يجب إلا على من جمع بين الحج والعمرة بصفة الصحة وإن كان طاف بالبيت قبل الجماع فكذلك الجواب في أنه يجب عليه دمان لأن بالطواف لم يتحلل عن إحرام العمرة ما لم يحلق ولكن ليس عليه قضاء العمرة هنا لأنه إنما جامع بعد ما أدى عمرته لأن ركن

 

ج / 4 ص -108-       العمرة هو الطواف فلم تفسد عمرته بهذا وإنما فسد حجه فعليه قضاؤه وقد سقط عنه دم القران بفساد أحد النسكين وإن جامع بعد ما وقف بعرفة لم يفسد واحد من النسكين عندنا وقد بينا هذا ولكن عليه جزور لجماعه بعد الوقوف في إحرام الحج وشاة لجنايته على إحرام العمرة وعليه دم القران لأنه أدى النسكين بصفة الصحة.
قال: وإذا جامع الحاج بعد ما وقف بعرفة فأهدى جزورا ثم جامع بعد ذلك فعليه شاة لأنه دخل إحرامه نقصان بالجماع الأول فالجماع الثاني صادف إحراما ناقصا فيكفيه شاة بخلاف الجماع في المرة الأولى فإن هناك صادف إحراما تاما فكان عليه جزور.
قال: وإن طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة بعد ما حلق أو قصر ثم جامع فليس عليه شيء لأن أكثر أشواط الطواف في حكم التحلل كجميع الطواف فكما أنه لو أتم الطواف تحلل في حق النساء فكذلك إذا أتى بأكثر أشواط الطواف.
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا طاف جنبا ثم جامع بعد قبل الإعادة في القياس لا شيء عليه كما لو طاف محدثا لأن التحلل يحصل بطواف الجنب وفي الاستحسان عليه دم فيحتاج إلى الفرق بين هذا وبين ذلك والفرق ما بينا أن طواف الجنب غير معتد به إلا في حكم التحلل ولهذا لو أعاده انفسخ الأول بالثاني في أصح الطريقين فصار في المعنى كالجماع قبل الطواف وهنا ما أتى به من أكثر أشواط الطواف معتد به على الإطلاق توضيحه أن ما بقي هنا يقوم الدم مقامه فيكون هذا نظير النقصان في طواف المحدث ولو طاف محدثا ثم جامع لم يلزمه شيء بخلاف ما إذا طاف جنبا فإن الواجب هناك لا يجب بمقابلة أصل الطواف عند فوت أدائه وهي البدنة فجماعه في تلك الحالة كجماعه قبل الطواف وإن لم يكن حلق قبل الطواف حتى جامع بعد ما طاف أربعة أشواط فعليه دم لارتكاب محظور الإحرام فإن التحلل بالطواف لا يحصل إذا لم يحلق.
قال: والمس والتقبيل عن شهوة والجماع فيما دون الفرج أنزل أو لم ينزل لا يفسد الإحرام وللشافعي رحمه الله تعالى قول إنه إذا اتصل به الإنزال يفسد به الإحرام على قياس الصوم فإنه يفسد بالتقبيل إذا اتصل به الإنزال.
ولكنا نقول فساد الإحرام حكم متعلق بعين الجماع ألا ترى أن بارتكاب سائر المحظورات لا يفسد وما تعلق بعين الجماع من العقوبة لا يتعلق بالجماع فيما دون الفرج كالحد ثم ما يجب هنا أبلغ مما يجب هناك وهو القضاء فيكون قياس الكفارة في الصوم ولا يجب بالجماع فيما دون الفرج الكفارة هناك فكذلك لا يجب هنا القضاء ولكن عليه دم أما إذا أنزل فغير مشكل وكذلك إذا لم ينزل عندنا وللشافعي رحمه الله تعالى قول إنه لا يلزمه شيء إذا لم ينزل على قياس الصوم فإنه لا يلزمه شيء إذا لم ينزل بالتقبيل فكذلك في الحج

 

ج / 4 ص -109-       ولكنا نقول: الجماع فيما دون الفرج من جملة الرفث فكان منهيا عنه بسبب الإحرام وبالإقدام عليه يصير مرتكبا محظور إحرامه فيلزمه الدم وهكذا ينبغي في الصوم إلا أن الشرع ورد بالرخصة في التقبيل هناك ثم المحرم هناك قضاء الشهوة ولا يحصل ذلك بالتقبيل بدون الإنزال وهنا المحرم الجماع بدواعيه والتقبيل من جملتها ألا ترى أن التطيب محرم هنا ولا يحرم هناك؟
قال: والنظر لا يوجب على المحرم شيئا وإن أنزل لأن النظر بمنزلة التفكر إذا لم يتصل منه صنع بالمحل ولو تفكر فأمنى لا يلزمه شيء فكذلك إذا نظر.
قال: وحكم الجماع في الحج والعمرة واحد إذا كان عن نسيان أو عمد أو في حال نوم أو إكراه أو طوع إلا في الإثم أما الناسي عندنا يفسد نسكه بالجماع ويلزمه ما يلزم العامد إلا أنه لا يأثم بعذر النسيان وللشافعي رضي الله عنه قول إنه لا يفسد النسك بجماع الناسي على قياس الصوم ولكنا نقول هذا الحكم تعلق بعين الجماع وبسبب النسيان لا ينعدم عين الجماع وهذا لأنه قد اقترن بحالة ما يذكره وهو هيئة المحرمين فلا يعذر بالنسيان كما في الصلاة إذا أكل أو شرب بخلاف الصوم فإنه لم يقترن بحالة ما يذكره فجعل النسيان فيه عذرا في المنع من إفساد الصوم بخلاف القياس.
قال: وإن كانت نائمة أو مكرهة يفسد حجها عندنا ولا يفسد عند الشافعي رحمه الله تعالى بناء على أصله أن الإكراه متى أباح الإقدام أعدم أصل الفعل من المكره في الإحكام والنوم يعدم أصل الفعل من النائم ولهذا قال لا يفسد الصوم بهذا الفعل في حالة الإكراه أو النوم فكذلك الإحرام وعندنا تأثير الإكراه والنوم في دفع المأثم لا في إعدام أصل الفعل ألا ترى أنه يلزمه الاغتسال ويثبت به حرمة المصاهرة فكذلك يتعلق به فساد النسك ويستوي إن كان الزوج محرما أو حلالا بالغا أو صغيرا عاقلا أو مجنونا أو تكون المرأة مجنونة أو صغيرة لأن فساد النسك متعلق بعين الجماع وذلك لا ينعدم بالجنون والصغر إذا كان يجامع مثله وإنما قلنا إنه يتعلق بعين الجماع لأن المنهي عنه في الإحرام الرفث والرفث اسم الجماع.
قال: رجل أهل بعمرة وجامع فيها ثم أحرم بأخرى ينوي قضاءها قال هي هي لأنه بالجماع وإن فسد نسكه فقد لزمه المضي في الفاسد ولا يخرج من الإحرام إلا بأداء الأعمال فنيته في الإحرام بالإهلال الثاني لغو لأنه ينوي إيجاد الموجود ونية القضاء كذلك.
فإن الإحرام الواحد لا يتسع للقضاء والأداء فكان عليه دم للجماع ويفرغ منها وعليه عمرة وكذلك هذا الحكم لو كان مهلا بالحجة.
قال: وإن جامع في العمرة قبل الطواف ثم أضاف إليها حجة يقضيهما جميعا لأن إضافة الحج إلى العمرة الصحيحة جائز فإلى العمرة الفاسدة أولى وليس عليه دم القران لفساد أحد النسكين وكذلك يسقط عنه دم ترك الوقت إذا أفسد بعد ما أحرم به يعني إذا

 

ج / 4 ص -110-       جاوز الميقات حلالا ثم أحرم بعمرة أو حجة فعليه دم لترك الإحرام من الميقات فإن أفسدها بالجماع سقط عنه هذا الدم لأنه وجب عليه قضاء النسك فيعود فيحرم من الميقات ولأن الدم إنما يلزمه بترك الإحرام من الميقات لأنه يؤدي النسك بهذا الإحرام ولم يتأد نسكه بهذا الإحرام حين أفسده ولهذا لزمه قضاؤه.
قال: المحرم بالعمرة إذا جامع النساء ورفض إحرامه وأقام حلالا يصنع ما يصنع الحلال من الطيب والصيد وغيره فعليه أن يعود حراما كما كان لأن بإفساد الإحرام لم يصر خارجا منه قبل أداء الأعمال وكذلك بنية الرفض وارتكاب المحظورات فهو محرم على حاله إلا أن عليه بجميع ما صنع دم واحد لما بينا أن ارتكاب المحظورات استند إلى قصد واحد وهو تعجيل الإحلال فيكفيه لذلك دم واحد وعليه عمرة مكان عمرته لأنها لزمته بالشروع والأداء بصفة الفساد لا ينوب عما لزمه بصفة الصحة فعليه قضاؤها والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب الدهن والطيب
اعلم بأن المحرم ممنوع من استعمال الدهن والطيب لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج الشعث التفل"، وقال: "يأتون شعثا غبرا من كل فج عميق". واستعمال الدهن والطيب يزيل هذا الوصف وما يكون صفة العبادة يكره إزالته إلا أن في ظاهر الرواية قال إن استعمل الطيب في عضو كامل يلزمه الدم وقد فسره هشام عن محمد رحمهما الله تعالى قال كالفخذ والساق ونحوهما وإن استعمله فيما دون ذلك فعليه الصدقة وعلى قول محمد رحمه الله تعالى عليه بحصته من الدم وقال الشعبي رحمه الله تعالى القليل والكثير من الطيب سواء في وجوب الدم به لأن رائحة الطيب توجد منه سواء استعمل القليل أو الكثير.
ولكنا نقول: الجزاء إنما يجب بحسب الجناية وإنما تتكامل الجناية بما هو مقصود من قضاء التفث والمعتاد استعمال الطيب في عضو كامل فتم به جنايته وفيما دون ذلك في جنايته نقصان فتكفيه الصدقة ومحمد رحمه الله تعالى يوجب بحصنه من الدم اعتبارا للجزء بالكل كما هو أصله وذكر في المنتقى إذا طيب شاربه أو طرفا من أطراف لحيته دون الربع فعليه الصدقة وإن استعمل الطيب في ربع رأسه فعليه الدم وكذلك في ربع عضو آخر وجعل الربع بمنزلة الكمال على قياس الحلق.
ثم الدهن إذا كان مطيبا كدهن البان والبنفسج والزنبق فهو طيب يجب باستعماله الدم وكذلك إذا كان الدهن قد طبخ وجعل فيه طيب فأما إذا أدهن بزيت أو بخل غير مطبوخ فعليه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليه صدقة وقال الشافعي رحمه الله تعالى لو استعمله في الشعر فعليه دم وإن استعمله في غيره لم يلزمه شيء لأن استعمال الدهن في الشعر يزيل الشعث فيكون من قضاء التفث وأما في غير الشعر ليس فيه معنى قضاء التفث ولا معنى استعمال الطيب لأن الدهن مأكول وليس

 

ج / 4 ص -111-       بطيب فيكون قياس الشحم والسمن وبهذا يحتج أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولكنهما قالا استعمال الدهن يقتل الهوام فيكون فيه بعض الجناية فيلزمه الصدقة.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الدهن أصل الطيب فإن الروائح تلقى في الدهن فيصير تاما فيجب باستعمال أصل الطيب ما يجب باستعمال الطيب كما إذا كسر المحرم بيض الصيد يلزمه الجزاء كما يجب بقتل الصيد.
قال: وإذا دهن شقاق رجله بزيت أو شحم أو سمن لم يكن عليه شيء لأن قصده التداوي والتداوي غير ممنوع منه في حال الإحرام ولأنه لو أكله لم يلزمه شيء فإن دهن به شقاق رجله أولى.
قال: ويكره للمحرم أن يشم الطيب والزعفران هكذا روي عن عمر وجابر رضي الله عنهما وكان بن عباس رضي الله عنه لا يرى به بأسا لأنه إنما يحرم عليه مس الطيب وهو لم يمسه وإن شم رائحته كمن اجتاز في سوق العطارين لم يكره له ذلك وإن كان محرما مع أن الريحان من جملة نبات الأرض لا من الطيب فهو كالتفاح والبطيخ ونحوهما ولكنا نأخذ بقول عمر رضي الله عنه لأن في الطيب معنى الرائحة واستعمال عين الطيب غير مقصود بل المقصود من الطيب رائحته فما يوجد منه رائحة الطيب يكره للمحرم أن يشمه لأن ذلك من قضاء التفث.
وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في التفاح هكذا ومن فرق فقال المقصود هناك الأكل فأما الريحان فليس فيه مقصود سوى رائحته فيمنع منه في حالة الإحرام ولكن لا يجب عليه شيء لأن الاستمتاع لا يتم بمجرد اشتمام الرائحة بمنزلة الجلوس عند العطار ونحوه وذكر حمران عن إبان عن عثمان رضي الله تعالى عنهم أنه سئل عن المحرم أيدخل البستان قال نعم ويشم الريحان فهو دليل لمن أخذ بقول بن عباس رضي الله تعالى عنه.
قال: فإن كان تطيب أو ادهن قبل الإحرام ثم وجد ريحه بعد الإحرام لم يضره وكذلك إن أجمر ثيابه قبل أن يحرم ثم لبسها بعد الإحرام فلا شيء عليه وذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أن المحرم إذا دخل بيتا قد أجمر فيه فطال مكثه حتى علق ثوبه لا يلزمه شيء ولو أجمر ثيابه بعد الإحرام فعليه الجزاء لأن الإجمار إذا كان في البيت فعين الطيب لم يتصل بثوبه ولا ببدنه إنما نال رائحته فقط بخلاف ما إذا أجمر ثيابه فإن عين الطيب قد علق بثيابه فإذا كان الإجمار قبل الإحرام لم يكن ممنوعا عن استعمال عين الطيب يومئذ وإنما بقي مع المحرم رائحته فلا يلزمه شيء.
قال: ولا بأس بأن يأكل الطعام الذي فيه الزعفران أو الطيب هكذا روي عن بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يأكل السكباج الأصفر في إحرامه ولأن قصده بهذا الطعام

 

ج / 4 ص -112-       التغذي لا التطيب وإن أكل الزعفران من غير أن يكون في الطعام فعليه دم إن كان كثيرا لأن الزعفران لا يتغذى به كما هو وإنما يجعل تبعا للطعام.
ومن أكل الزعفران كما هو يضحك حتى يموت فكان هو بالأكل مطيبا فمه بالزعفران وهو عضو فيلزمه الدم فأما إذا جعل في الطعام فقد صار مستهلكا فيه إن كان في طعام قد مسته النار وإن كان في طعام لم تمسه النار مثل الملح وغيره فلا بأس به أيضا لأنه صار مغلوبا فيه والمغلوب كالمستهلك إلا أن يكون الزعفران غالبا على الملح فحينئذ هو والزعفران البحت سواء.
وإن مس طيبا فإن لزق بيديه تصدق بصدقة إلا أن يكون ما لزق بيديه كثيرا فحينئذ يلزمه الدم وقد بينا حد الكثير فيه وإن لم يلتزق به شيء فلا شيء عليه بمنزلة ما لو اجتاز في سوق العطارين وإن استلم الركن فأصاب فمه أو يده خلوق كثير فعليه دم وإن كان قليلا فعليه صدقة إذ لا فرق بين أن يكون الخلوق التزق به من الركن أو من موضع آخر.
 قال ولا بأس بأن يكتحل المحرم بكحل ليس فيه طيب فإن كان فيه طيب فعليه صدقة إلا أن يكون كثيرا فعليه الدم لأن الكحل ليس بطيب فلا يمنع من استعماله وإن كان فيه طيب فتتفاوت الجناية باستعماله من حيث القلة والكثرة كما في سائر الأعضاء وإن كان من أذى فعليه أي الكفارات الثلاث شاء لما بينا أن فيما يجب فيه الدم على المحرم إذا لم يكن معذورا فإن كان عن عذر وضرورة يتخير بين الكفارات الثلاثة.
وكذلك لو تداوى بدواء فيه طيب فألزقه بجراحة أو شرب شرابا لأن التداوي يكون عن ضرورة وإن داوى قرحة بدواء فيه طيب فألزقه بجراحه ثم خرجت به قرحة أخرى والأولى على حالها فداوى الثانية مع الأولى فليس عليه إلا كفارة واحدة فكأنه فعل الكل دفعة واحدة إذا لم تبرأ الأولى لأن الجنايات استندت إلى سبب واحد.
قال: وللمحرم أن يبط القرحة ويجبر الكسر ويعصب عليه وينزع ضرسه إذا اشتكى ويحتجم ويغتسل ويدخل الحمام لأن هذا كله من باب المعالجة فالمحرم والحلال فيه سواء ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم بالقاحة ودخل عمر رضي الله تعالى عنه الحمام بالجحفة وهو محرم.
قال: وإن غسل رأسه ولحيته بالخطمى فعليه دم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليه صدقة لأن الخطمى ليس بطيب بل هو كالأشنان يغسل به رأسه ولكنه يقتل الهوام فلذلك يلزمه الصدقة وروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال لا يلزمه شيء قالوا وتأويل تلك الرواية أنه إذا غسل رأسه بالخطمى بعد الرمي يوم النحر فأما قبل ذلك يلزمه الصدقة عنده وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول:

 

ج / 4 ص -113-       الخطمى من الطيب فإن له رائحة وإن لم تكن زكية وهو يقتل الهوام أيضا فتتكامل الجناية باعتبار المعنيين فلهذا يلزمه الدم.
قال: وإن خضبت المحرمة بالحناء يدها فعليها دم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب بالحناء وقال:
"الحناء طيب" ولأن له رائحة مستلذة وإن لم تكن زكية وإن خضب رأسه بالوسمة رجل أو امرأة فلا دم عليه لأن الوسمة ليست بطيب إنما تغير لون الشعر إلا أنه روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا خضب رأسه بالوسمة فعليه دم لا للإخضاب ولكن لتغطية الرأس به وهذا هو الصحيح. قال: وإن خضب لحيته به فليس عليه دم ولكن إن خاف أن يقتل الهوام أطعم شيئا لأن فيه معنى الجناية من هذا الوجه ولكنه غير متكامل فتلزمه الصدقة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب ما يلبسه المحرم من الثياب
قال: ولا بأس بأن يلبس المحرم القباء ويدخل فيه منكبيه دون يديه عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى ليس له ذلك لأن القباء مخيط فإذا أدخل فيه منكبيه صار لابسا للمخيط فإن القباء يلبس هكذا عادة ولكنا نقول لبس القباء إنما يحصل بإدخال اليدين في الكمين فإذا لم يفعل ذلك كان واضعا القباء على منكبيه لا لابسا وهذا لأنه في معنى لبس الرداء لأنه يحتاج إلى تكلف حفظه على منكبيه عند اشتغاله بعمل كما يحتاج إليه لابس الرداء أما إذا أدخل يديه في كميه فلا يحتاج في حفظه على نفسه عند الاشتغال بالعمل فيكون لابسا للمخيط وكذلك إن زره عليه كان لابسا لأنه لا يحتاج إلى تكلف حفظه عليه بعد ما زره فإن فعل ذلك يوما أو أكثر فعليه دم وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى إذا لبس المخيط لزمته الكفارة وإن كان في ساعة واحدة لأن لبس المخيط محظور الإحرام فيصير هو مرتكبا محظور الإحرام فيلزمه الدم وإن فعله في ساعة واحدة كالتطيب.
ولكنا نقول: إنما تتم جنايته بلبس مقصود واللبس المقصود في الناس عادة يكون في يوم كامل فإن من أصبح يلبس الثياب ثم لا ينزعها إلى الليل فإذا لبس في هذه المدة تكاملت الجناية باستمتاع مقصود وفيما دون ذلك لم تتكامل جنايته باستمتاع مقصود فتكفيه صدقة إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول أولا قد يرجع المرء إلى بيته قبل الليل فينزع ثيابه التي لبسها للناس فكان للبس في أكثر اليوم استمتاعا مقصودا عادة والأكثر ينزل منزلة الكمال.
قال: ولا بأس بأن يلبس الخز والبرود إذا لم يكن مخيطا كما كان يفعله في غير الإحرام إلا أنه لا يلبس البرد المصبوغ بالعصفر أو الزعفران أو الورس فقد روى ابن عمر،

 

ج / 4 ص -114-       رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس المزعفر والمورس في حالة الإحرام وكذلك المصبوغ بالعصفر عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس به لما روى عن عثمان رضي الله عنه أنه رأى على عبد الله بن جعفر رضي الله عنه رداء معصفرا في إحرامه فأنكر عليه ذلك فقال علي رضي الله عنه ما أرى أحدا يعلمنا السنة ولأن العصفر ليس بطيب فهو قياس ثوب هروي ولا بأس للمحرم أن يلبسه ولكنا نستدل بحديث عائشة رضي الله عنها فإنها كرهت لبس المعصفر في الإحرام وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنكر على طلحة الرداء المعصفر حتى قال لا تعجل يا أمير المؤمنين فإنه ممشق ولأن العصفر له رائحة وإن لم تكن زكية فكان بمنزلة الورس والزعفران.
وتأويل حديث عبد الله رضي الله عنه أنه كان قد غسل وصار بحيث لا ينفض قد عرف عبد الله بن جعفر ذلك ولم يعرفه عثمان رضي الله عنه أو كان ذلك مصبوغا بمدر على لون العصفر وقد عرف ذلك علي رضي الله عنه ولم يعرفه عثمان فلهذا قال ما قال فأما المصبوغ على لون الهروي وهو أدمي اللون ليس له رائحة فكان قياس المعصفر إذا غسل حتى صار بحيث لا ينفض وقد بينا هناك أنه لا يلزمه شيء فهذا مثله ثم التقدير في إيجاب الدم عند لبس المصبوغ بنحو ما بينا في لبس القباء.
وكذلك لو لبس قميصا أو سراويل أو قلنسوة يوما إلى الليل فعليه دم وإن كان فيما دون ذلك فعليه صدقة كما بينا وإنما أراد بهذا إذا لبسه على الوجه المعتاد أما إذا ائتزر بالسراويل أو ارتدى بالقميص أو اتشح به فلا شيء عليه لأنه يحتاج إلى تكلف حفظه على نفسه عند اشتغاله العمل فلا يكون لابسا للمخيط وأما في القلنسوة فلتغطية الرأس بها يلزمه الجزاء وقد بينا أن المحرم ممنوع عن تغطية الرأس وقد ذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا لم يجد الأزار ففتق لسراويل إلا موضع التكة فلا بأس حينئذ بلبسه بمنزلة المئزر وهو نظير ما ورد به الأثر فيما إذا لم يجد لمحرم نعلين قطع خفيه أسفل من الكعبين ليصير في معنى النعلين وفسر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى الكعب في هذا الموضع بالمفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك وعلى هذا قال المتأخرون من مشايخنا لا بأس للمحرم بأن يلبس المشك لأنه لا يستر الكعب فهو بمنزلة النعلين.
فإن لبس القميص والقلنسوة والقباء والسراويل يوما إلى الليل فعليه دم واحد لأن جنس الجناية واحد والمقصود واحد وهو الاستمتاع بلبس المخيط فعليه دم واحد كما لو حلق رأسه كله وكذلك إن غطى وجهه يوما فعليه دم وقد بينا فيما سبق أنه ليس للمحرم أن يغطي وجهه ولا رأسه عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد ورد الأثر بالنهي عن تغطية اللحية في الإحرام لأنه من الوجه فعرفنا أنه لا يغطي وجهه.
قال: ولا بأس بأن يلبس الهميان والمنطقة يشد بها حقويه فيها نفقته هكذا روي عن

 

ج / 4 ص -115-       عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: هل يلبس المحرم الهميان؟ فقالت: استوثق من نفقتك بما شئت وفي حديث بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه لم ير للمحرم بأسا بأن يعقد الهميان على وسطه وفيه نفقته" وكان مالك رحمه الله تعالى يقول إن كان فيه نفقته فلا بأس وإن كان فيه نفقة غيره كرهت له ذلك لأنه لا حاجة إلى حمل نفقة غيره ولكنا نقول جواز لبس الهميان والمنطقة باعتبار أنه ليس في معنى لبس المخيط وفي هذا يستوي نفقته ونفقة غيره وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كره للمحرم لبس المنطقة المتخذة من الإبريسم فقيل لأنه في معنى المخيط وقيل هو بناء على أصل أبي يوسف رحمه الله تعالى في كراهة ما قل من الحرير وكثر للرجال.
قال: ويتوشح المحرم بالثياب ولا يعقد على عنقه لأنه إذا عقده لا يحتاج في حفظه على نفسه إلى تكلف فكان في معنى لبس المخيط وكذلك قالوا إذا ائتزر فلا ينبغي له أن يعقد إزاره على نفسه بحبل أو غيره فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شد فوق إزاره حبلا فقال:
"ألق ذلك الحبل ويلك". وكذلك يكره له أن يخل رداءه بخلال لأنه لا يحتاج إلى تكلف في حفظه على نفسه ولكنه مع هذا لو فعل لا شيء عليه لأن المحظور عليه الاستمتاع بلبس المخيط ولم يوجد ذلك.
قال: ويكره له أن يعصب رأسه فإن فعل يوما إلى الليل فعليه صدقة لأنه غطى بعض رأسه بالعصابة وهو ممنوع من تغطية الرأس إلا أن ما غطى به جزء يسير من رأسه فتكفيه الصدقة لعدم تمام جنايته وإن عصب شيئا من جسده من علة أو غير علة فلا شيء عليه لأنه غير ممنوع عن تغطية سائر الجسد سوى الرأس والوجه ولكن يكره له أن يفعل ذلك من غير علة كما يكره شد الإزار وشد الرداء على ما بينا.
قال: وإن غطى المحرم ربع رأسه أو وجهه يوما فعليه دم وإن كان دون ذلك فعليه صدقة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إن غطى أكثر رأسه فعليه دم وإلا فعليه صدقة لأن القليل من تغطية الرأس لا تتم به الجناية والقلة والكثرة إنما تظهر بالمقابلة وهذا أصل أبي يوسف رحمه الله تعالى في المسائل وفي ظاهر الرواية الجواب قال ما يتعلق بالرأس من الجناية فللربع فيه حكم الكمال كالحلق وهذا لأن تغطية بعض الرأس استمتاع مقصود يفعله الأتراك وغيرهم عادة بمنزلة حلق بعض الرأس فأما المحرمة تغطي كل شيء منها إلا وجهها وتلبس كل شيء من المخيط وغيره إلا الثوب المصبوغ فإن فيما لا حاجة بها إلى لبسه فهي بمنزلة الرجل وفيما تحتاج إلى لبسه وستره يخالف حالها حال الرجل وقد بيناه.
قال: ولا بأس لها أن تلبس القفازين هكذا روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان يلبس بناته القفازين في الإحرام ولها أن تلبس الحرير والحلي وعن عطاء رحمه الله تعالى أنه يكره للنساء لبس الحلي في الإحرام والصحيح أنه لا بأس به. وقد روي

 

ج / 4 ص -116-       عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يلبس نساءه الحلي في حالة الإحرام ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتين تطوفان بالبيت وعليهما سواران من ذهب الحديث فدل أنه لا بأس بذلك.
قال: وكل ما يحل للمرأة أن تلبسه في غير حالة الإحرام فكذلك يحل في حالة الإحرام إلا المصبوغ على ما بينا.
قال: ولا بأس بأن تسدل الخمار على وجهها من فوق رأسها على وجه لا يصيب وجهها وقد بينا ذلك عن عائشة رضي الله عنها لأن تغطية الوجه إنما يحصل بما يماس وجهها دون ما لا يماسه فيكون هذا في معنى دخولها تحت سقف ويكره لها أن تلبس البرقع لأن ذلك يماس وجهها فإن لبس المحرم ما لا يحل له من الثياب أو الخفاف يوما أو أكثر من ذلك لضرورة فعليه أي الكفارات شاء وقد بينا فيما سبق أن ما يجب الدم بلبسه في غير موضع الضرورة إذا لبسه لأجل الضرورة يتخير فيه بين الكفارات ما شاء وذكر في الرقيات عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا اضطر إلى لبس قميص فلبس قميصين فعليه أي الكفارات شاء وإذا اضطر إلى لبس قميص فلبس معه عمامة أو قلنسوة فعليه دم في لبس القلنسوة ويتخير في الكفارات أيها شاء في لبس القميص لأن في الفصل الأول زيادة في موضع الضرورة فلا تكون جناية مبتدأة كما لو اضطر إلى لبس قميص فلبس جبة وفي الفصل الثاني الزيادة في غير موضع الضرورة فكانت جناية مبتدأة فتعلق بها ما هو موجبها قال  فإن لبس المخيط للضرورة أياما وكان ينزع بالليل للنوم لا للاستغناء عن ذلك فهذه كلها جناية واحدة بخلاف ما إذا نزع لزوال الضرورة ثم اضطر إليه بعد ذلك فلبس فإنه يلزمه كفارة أخرى لأن حكم الضرورة الأولى قد انتهى بالبرء وهو نظير ما تقدم فيمن يداوي القرحة بدواء فيه طيب مرارا أن عليه كفارة واحدة ما لم يبرأ فإذا بريء ثم خرجت به قرحة أخرى فداواها بالطيب فهذه جناية أخرى ولو كان به حمى غب فكان يلبسه يوم الحمى ولا يلبسه في غير ذلك فهذه كلها جناية واحدة لا يجب بها إلا كفارة واحدة لأن العلة المحوجة إلى اللبس قائمة.
أرأيت لو جلس في الشمس فاستغنى عن لبس المخيط فلما ذهبت الشمس احتاج إلى المخيط فأعاد اللبس أكانت هذه جناية أخرى بل الكل جناية واحدة ما دامت العلة قائمة فعليه أي الكفارات شاء فإن اختار الإطعام فدعى المساكين فغداهم وعشاهم أجزأه ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ولم يجزه في قول محمد رحمه الله تعالى فأبو يوسف رضي الله تعالى عنه اعتبر المقصود فقال هذا طعام كفارة فيتأدى بالتغدية والتعشية كسائر الكفارات ومحمد رحمه الله تعالى يعتبر المنصوص عليه فيقول المنصوص عليه الصدقة هنا لقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}[البقرة: 196]، وما ورد بلفظة الصدقة لا يتأدى بطعام الإباحة كالزكاة وصدقة الفطر.

 

ج / 4 ص -117-       قال: فإن لبس المحرم قميصه ولم يزرره فعليه الجزاء لأن استمتاعه بلبس المخيط قد تم فإنه يستغني عن التكلف لحفظ القميص على نفسه وإن لم يزره.
قال: ولا بأس للمحرم بلبس الطيلسان فإنه بمنزلة الرداء ولكنه يكره له أن يزره عليه وهذا قول بن عمر رضي الله عنه وكان بن عباس رضي الله عنه يقول لا بأس بذلك لأن الطيلسان ليس بمخيط ولكنا أخذنا بقول بن عمر رضي الله عنه لأن الازار محيط عليه ولأنه إذا زره لا يحتاج إلى التكلف لحفظه على نفسه فكان بمنزلة لبس المخيط.
قال: ولا يلبس المحرم الجوربين كما لا يلبس الخفين وقد بينا هذا.
قال: ولا بأس بأن يضرب المحرم فسطاطا ليستظل فيه عندنا وكان مالك رحمه الله تعالى يكره ذلك وهذا مروي عن بن عباس رضي الله عنه ولكنا نأخذ بما روي أن عثمان رضي الله عنه كان يضرب له فسطاط في إحرامه وأن عمار بن ياسر رضي الله عنه كان إذا آذاه الحر ألقى ثوبه على شجرة واستظل تحته ولأنه لا بأس بأن يستظل بسقف البيت لأن ذلك لا يماس بدنه فكذلك الفسطاط.
قال: وإن دخل تحت ستر الكعبة حتى غطاه فإن كان الستر يصيب رأسه ووجهه كرهت له ذلك لتغطية الرأس والوجه به وإن كان لا يصيب رأسه ولا وجهه فلا بأس به ولا شيء عليه لأن التغطية إنما تحصل بما يماس بدنه وعلى هذا لو حمل المحرم شيئا على رأسه فإن كان شيئا من جنس ما لا يغطى به الرأس كالطست والإجانة ونحوها فلا شيء عليه وإن كان من جنس ما يغطى به الرأس من الثياب فعليه الجزاء لأن ما لا يغطى به الرأس يكون هو حاملا لا مستعملا ألا ترى أن الأمين لو فعل ذلك لا يصير ضامنا؟
قال: فإن كان المحرم نائما فغطى رجل وجهه ورأسه بثوب يوما كاملا فعليه دم لأن ما فعله به غيره كفعله في الجزاء وإن كانا يفترقان في المأثم وقد بيناه في حلق الرأس والجماع ونحوه وعذر النوم لا يمنع إيجاب الجزاء عليه كما لو انقلب على صيد في حال نومه فقتله.
قال: صبي أحرم عنه أبوه وجنبه ما يجنب المحرم فلبس ثوبا أو أصاب طيبا أو صيدا فليس عليه شيء عندنا والشافعي رحمه الله تعالى يوجب الكفارة المالية على الصبي كالبالغ بناء على أصله في إيجاب الزكاة عليه ويأمر الولي بأدائه من ماله وعندنا المالي والبدني سواء في أن وجوب ذلك ينبني على الخطاب والصبي غير مخاطب ثم إحرام الصبي للتخلق فلا تتحقق جنايته في الإحرام بهذه الأفعال وهذا لأنه ليس للأب عليه ولاية الإلزام فيما يضره ولو جعلنا إحرامه ملزما إياه في الاجتناب عن المحظورات وموجبا للكفارة عليه لم يكن تصرف الأب في الإحرام واقعا بصفة النظر له فلهذا جعلناه تخلقا غير ملزم إياه فلا يلزمه الجزاء بارتكاب المحظور غير أن الأب يمنعه من ذلك لتحقيق معنى التخلق والاعتياد.

 

ج / 4 ص -118-       باب النذر
قال: وإذا حلف بالمشي إلى بيت الله تعالى فحنث فعليه حجة أو عمرة استحسانا وفي القياس لا شيء عليه لأن الالتزام بالنذر إنما يصح فيما يكون من جنسه واجب شرعا والمشي إلى بيت الله تعالى ليس من جنسه واجب شرعا فلا يصح الالتزام بالنذر توضيحه أن الالتزام باللفظ ولم يلزمه ما تلفظ به بالاتفاق وهو المشي فلأن لا يلزمه ما لم يتلفظ به من الحج والعمرة أولى ولكنا تركنا القياس بحديث علي رضي الله عنه قال فيمن نذر المشي إلى بيت الله تعالى فعليه حجة أو عمرة والعرف الظاهر بين الناس أنهم يذكرون هذا اللفظ ويريدون به التزام النسك واللفظ إذا صار عبارة عن غيره مجازا سقط اعتبار حقيقته ويجعل كأنه تلفظ بما صار عبارة عنه ولأنه لا يتوصل إلى بيت الله تعالى إلا بالإحرام فكأنه التزم الإحرام بهذا اللفظ والإحرام لأداء أحد النسكين أما الحج أو العمرة فكأنه التزم بهذا اللفظ ما يخرج به عن الإحرام فلهذا يلزمه حجة أو عمرة ويمشي فيها كما التزم فإذا ركب أراق دما لحديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه حيث قال يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى غني عن تعذيب أختك مرها فلتركب ولترق دما" ولأن الحج ماشيا أفضل فإن الله تعالى قدم المشاة على الركبان فقال: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}[الحج: 27] ولهذا كان بن عباس رضي الله تعالى عنه بعد ما كف بصره يتأسف على تركه الحج ماشيا والحسن بن علي رضي الله تعالى عنه كان يمشي في طريق الحج والجنائب تقاد بجنبه فقيل له ألا تركب؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مشى في طريق الحج كتب الله له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم". قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: "الواحدة بسبعمائة ضعف". فإذا ثبت أن المشي أفضل قلنا: إذا ركب فقد أدى أنقص مما التزم فعليه لذلك دم.
 فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد كره أبو حنيفة رحمه الله تعالى المشي في طريق الحج؟
 قلنا: لا كذلك وإنما كره الجمع بين الصوم والمشي وقال إذا جمع بينهما ساء خلقه فجادل رفيقه والجدال منهي عنه فإن اختار المشي فالصحيح من المذهب أنه يلزمه المشي من بيته.
 وقال بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى: يلزمه المشي من الميقات لأنه التزم المشي في النسك وذلك عند إحرامه من الميقات ولكن العادة الظاهرة أن الناس بهذا اللفظ يقصدون المشي من بيوتهم وقد قال علي وبن مسعود رضي الله عنهما في قوله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196]، قال إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك فميقات الرجل في الإحرام منزله ولكن يرخص له في تأخير الإحرام إلى الميقات ولو أحرم من بيته لا إشكال أنه يمشي من بيته فكذلك إذا أخر الإحرام قلنا يمشي من بيته كما التزم ثم لا يركب إلى أن

 

ج / 4 ص -119-       يطوف طواف الزيارة لأن تمام الخروج من الإحرام به يحصل فإن تمام التحلل في حق النساء إنما يحصل بالطواف وإذا اختار العمرة مشى إلى أن يحلق فإن قرن بهذه العمرة حجة الإسلام أجزأه لأن القارن يأتي بكل واحد من النسكين بكماله فنسك العمرة التزمه بالنذر والحج حجة الإسلام وقد أداهما بصفة الكمال فعليه دم القران لذلك وإن كان ركب فعليه دم لركوبه مع دم القران.
قال: وكل من وجب عليه دم في المناسك جاز أن يشاركه في بدنة ستة نفر قد وجبت عليهم الدماء فيها ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جوز ذلك في كل سبعة من أصحابه عام الحديبية ولا فرق بين أن يكون جنس الواجب عليهم واحدا أو مختلفا في حكم الجواز حتى إذا قصد بعضهم دم المتعة وبعضهم دم الإحصار وجزاء الصيد فذلك جائز بخلاف ما إذا قصد بعضهم اللحم لأن الواجب إراقة دم هو قربة وإراقة الدم في كونه قربة لا يتجزأ فإذا قصد بعضهم اللحم لم يكن فيه معنى القربة خالصا فأما عند اختلاف جهات القربة فقصد كل واحد منهم معنى القربة فقط فلهذا يتأدى الواجب به ولو كان كله جنسا واحدا كان أحب إلي لأن دماء القرب مختلفة بعضها لا يحل التناول منه للأغنياء كدماء الكفارات وبعضها يحل فإذا اتحد الجنس فقد اتحد معنى القربة في المذبوح فيكون أقرب إلى الجواز.
قال: فإذا نذر المشي إلى بيت الله تعالى ونوى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو مسجدا آخر فلا شيء عليه أما صحة نيته فلأنها مطابقة للفظه والمساجد كلها بيوت الله تعالى قال الله تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}[النور: 36] وإذا عملت نيته صار ذلك كالملفوظ به فلا يلزمه شيء لأن سائر المساجد يباح دخولها بغير إحرام فلا يصير به ملتزما للإحرام.
وعلى هذا لو قال: أنا أمشي إلى بيت الله تعالى قال فإن نوى به العدة فلا شيء عليه لأن المواعيد لا يتعلق بها اللزوم ولكن يندب إلى الوفاء بالوعد وإن نوى به النذر كان نذرا وكذلك إن لم يكن له نية فهو نذر وكذلك إن لم يكن نوى شيئا من المساجد فهو على الكعبة للعادة الظاهرة فإن الناس إذا أطلقوا هذه اللفظة يريدون بها الكعبة.
 وعلى هذا لو قال: علي المشي إلى مكة أو إلى الكعبة فهو وقوله إلى بيت الله سواء وقوله وإن قال علي المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام فلا شيء عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أخذا بالقياس فيه لأن الناس لا يطلقون هذا اللفظ عادة لإرادة التزام الحج والعمرة بخلاف ما تقدم من الألفاظ الثلاثة.
ثم المسجد الحرام بمنزلة الفناء للكعبة والحرم بمنزلة الفناء لمكة فلا يجعل ذكر الفناء كذكر الأصل في النذر بل يجعل هذا بمنزلة ما لو قال لله علي المشي إلى الصفا أو إلى المروة أو إلى مقام إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه فلا يلزمه شيء. وأبو يوسف ومحمد

 

ج / 4 ص -120-       رحمهما الله تعالى قالا نأخذ بالاحتياط أو بالاستحسان في هذين الفصلين أيضا لأنه لا يتوصل إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام إلا بالإحرام فصار بهما ملتزما للإحرام.
قال: ولو قال: على السفر إلى مكة أو الذهاب أو الاتيان إلى مكة أو الركوب فلا شيء عليه والقياس في الألفاظ كلها واحد ولكن فيما تعارف الناس التزام النسك به تركنا القياس فيه للعرف فما لا عرف فيه أخذنا بالقياس فإن قال إن كلمت فلانا فلله علي حجة يوم أكلمه ينوي أنه يجب عليه يوم يكلمه فكلمه وجب عليه حجة يقضيها متى شاء ولم يكن محرما بها يومئذ ما لم يحرم بمنزلة ما لو قال علي حجة اليوم كانت واجبة عليه يحرم بها متى شاء لأنه التزمها في ذمته.
والشروع في الأداء لا يتصل بالالتزام في الذمة كسائر العبادات فإن من قال لله علي أن أصوم اليوم لا يصير صائما بنذره والإحرام شروع في الأداء فلا يثبت بالالتزام ولأن ما يوجب على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه ومن وجب عليه الحج بوجود الزاد والراحلة لا يصير محرما بنفس الوجوب عليه فكذلك لا يصير محرما بمجرد ما قال وإن وصل الاستثناء بنذره لم يلزمه شيء لأن الاستثناء يخرج الكلام من أن يكون عزيمة قال صلى الله عليه وسلم:
"من حلف بطلاق أو عتاق واستثني فلا حنث عليه".
ولو قال لآخر: علي حجة إن شئت فقال قد شئت فهو عليه لأن تعليق النذر بالشرط صحيح فإذا علقه بمشيئته وشاء جعل كأنه أرسل النذر عند ذلك فيلزمه كالطلاق والعتاق وقوله علي حجة مثل قوله لله علي حجة لأن الحج لا يكون إلا لله تعالى والالتزام بقوله علي ولو قال إن فعلت كذا فأنا أحرم فإن نوى به العدة فلا شيء عليه وإن نوى به الايجاب لزمه إذا فعل ذلك إما حجة أو عمرة وإن لم يكن له نية فالقياس أن لا يلزمه شيء لأن ظاهر لفظه عدة وفي الاستحسان يلزمه لأن في عرف اللسان يراد بمثله التحقيق للحال ألا ترى أن المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله والشاهد يقول بين يدي القاضي أشهد ويريد به التحقيق لا العدة وقوله أنا أهدي بمنزلة قوله أنا أحرم.
قال: وإن قال: إن فعلت كذا فأنا أحج بفلان فحنث فإن كان نوى فأنا أحج وهو معنا فعليه أن يحج وليس عليه أن يحج به وإن نوى أن يحججه فعليه أن يحججه كما نوى لأن الباء للالصاق فقد ألصق فلانا بحجة وهذا يحتمل معنيين أن يحج فلان معه في الطريق وأن يعطي فلانا ما يحج به من المال والتزام الأول بالنذر غير صحيح والتزام الثاني صحيح لأن الحج يؤدي بالمال عند اليأس عن الأداء بالبدن فكان هذا في حكم البدل وحكم البدل حكم الأصل فيصح التزامه بالبدل كما يصح التزامه بالأصل.
فإن نوى الوجه الأول عملت نيته لاحتمال كلامه ولكن المنوي لا يصح التزامه بالنذر فلا يلزمه به شيء وإنما عليه أن يحج بنفسه فقط.

 

ج / 4 ص -121-       وإن نوى الثاني فقد نوى ما يصح التزامه بالنذر فيلزمه ذلك وإذا لزمه ذلك فإما أن يعطيه من المال ما يحج به أو يحج به مع نفسه ليحصل به الوفاء بالنذر فإن لم يكن له نية فعليه أن يحج وليس عليه أن يحجج فلانا لأن لفظه في حق فلان محتمل والوجوب لا يحصل باللفظ المحتمل وإن كان قال فعلي أن أحجج فلانا فهذا محكم غير محتمل فإنه تصريح الالتزام بإحجاج فلان وذلك صحيح بالنذر.
ولو قال إن فعلت كذا فأنا أهدي فلانا ففعل ذلك الفعل فلا شيء عليه لأن النذر بالهدي لا يصح إلا في الملك وهو قد نذر هدي ما لا يملكه وما لا مالية فيه فكان نذره لغوا إذ لا ولاية له على فلان ليهديه إلا أن يكون فلان ذلك ولده فحينئذ يكون على القياس والاستحسان المعروف في نذر ذبح الولد.
قال: ولو قال إن فعلت كذا فأنا أهدي كذا وسمى شيئا من ماله فعليه أن يهديه لأنه التزم أن يهدي ما هو مملوك له والهدي قربة والتزام القربة في محل مملوك له صحيح كما لو نذر أن يتصدق به ثم الإهداء يكون إلى مكان وذلك المكان وإن لم يكن في لفظه حقيقة ولكن صار معلوما بالعرف أنه مكة فإن الله تعالى قال في الهدايا
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج: 33] فإذا تعين المكان بهذا المعنى فإن كان ذلك الشيء مما يتقرب بإراقة دمه فعليه أن يذبحه بمكة وإن كان لا يتقرب بإراقة دمه وإنما يتقرب بالتصدق به فإنه يتصدق به على مساكين مكة وإن كان ذلك الشيء لا يستطيع أن يهديه بنفسه كالدار والأرض فعليه أن يهديه بقيمته لأن التقرب يحصل بالعين تارة ويحصل بمعنى المالية أخرى فإذا كانت العين لا تحول من مكان إلى مكان عرفنا أن مراده التزام التصدق بماليته فعليه أن يهدي قيمته يتصدق به على مساكين مكة وإن أعطاه حجبة البيت أجزأه بعد أن يكونوا فقراء لأنهم بمنزلة غيرهم من المساكين.
قال: وكذلك إن قال فثوبي هذا ستر البيت أو قال أنا أضرب به حطيم البيت فعليه أن يهديه استحسانا وفي القياس لا شيء عليه لأن ما صرح به في كلامه لا يلزمه لأنه ليس بقربة فلأن لا يلزمه غيره أولى وفي الاستحسان إنما يراد بهذا اللفظ الاهداء به فصار اللفظ عبارة عما يراد به غيره فكأنه التزم أن يهديه لأن اللفظ متى صار عبارة عن غيره سقط اعتباره في نفسه حقيقة.
قال: وإن قال مالي هدى فعليه أن يهدي ماله كله قال بلغنا عن إبراهيم أنه قال في مثل هذا يتصدق بماله كله ويمسك منه قدر قوته فإذا أفاد ما لا يتصدق بقدر ما أمسك وأورد هذه المسألة في كتاب الهبة فيما إذا قال مالي صدقة فقال في القياس ينصرف هذا إلى كل مال له وهو قول زفر رحمه الله تعالى وفي الاستحسان ينصرف إلى مال الزكاة خاصة بخلاف أما إذا قال جميع ما أملك فمن أصحابنا من قال ما ذكر هنا جواب القياس لأن

 

ج / 4 ص -122-       التزام الهدي في كل مال كالتزام الصدقة في كل مال والأصح أن يفرق بينهما فيقال في لفظة الصدقة إنما حمل هذا اللفظ على مال الزكاة خاصة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجبه الله تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصدقة في المال مختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه العبد على نفسه وهنا إنما أوجب الهدي وما أوجب الله تعالى من الهدي لا يختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه على نفسه فلهذا اعتبرنا فيه حقيقة اللفظ ولكنه يمسك مقدار قوته لأن حاجته مقدمة على حاجة غيره فإذا أفاد مالا تصدق بمثل ما أمسك لتعلق حق المساكين به.
ثم قال وكذلك إن قال كل مالي صدقة في المساكين فهذا مثل الأول في قول إبراهيم رحمه الله تعالى وهذا العطف يؤيد ما قلنا أولا أن المذكور جواب القياس فإن القياس والاستحسان منصوص عليهما في لفظ الصدقة في كتاب الهبة وإن قال إن فعلت كذا فغلامي هذا هدي فباعه ثم فعل ذلك لم يلزمه شيء لأن المعلق بالشرط عند وجوده كالمنشأ ولو أنشأ النذر عند ذلك الفعل لم يلزمه شيء لأن العبد ليس في ملكه فكذلك إذا وجد الشرط وكذلك إن كان الغلام في غير ملكه حين حلف ثم اشتراه ثم فعل ذلك لأن اليمين بالنذر في محل معين لا يصح إلا باعتبار الملك أو الإضافة إلى الملك ولم يوجد الملك ولا الإضافة إلى الملك في المحل وقت اليمين فلم ينعقد يمينه أصلا.
قال: وإن قال إن كلمت فلانا فهذا المملوك هدي ثم اشتراه صحت يمينه لوجود الإضافة إلى الملك ثم عند وجود الشرط وهو الكلام يصير كأنه أرسل النذر وإنما ينصرف إلى شراء بعده لا إلى شراء سبقه.
قال: وإن قال فهذه الشاة هدي إلى بيت الله تعالى أو إلى مكة أو إلى الكعبة وهو يملكها فعليه أن يهديها لأنه لو أطلق التزام الهدي صح نذره باعتبار هذا المكان فإذا صرح به كان أولى.
قال: وإذا قال إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لم يلزمه أن يهديهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولزمه ذلك عندهما وهو نظير ما سبق من التزام المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لما جعل ذكر هذين الموضعين عندهما كذكر مكة ولم يجعل كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كذلك هنا فإن قيل فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينبغي أن يلزمه هنا لأن ذكره الحرم والمسجد الحرام غير ملزم فكأنه لم يذكر ولكنه قال هذه الشاة هدي فتلزمه بخلاف المشي فإن هناك لو قال علي مشي لا يلزمه شيء قلنا هذا غير صحيح لأنه إذا قال هذه الشاة هدي إنما يلزمه باعتبار أن ذكر مكة يصير مضمرا في كلامه بدلالة العرف فإذا نص إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لا يمكن أن يجعل ذكر مكة مضمرا في كلامه فلهذا لا يلزمه شيء عنده.

 

ج / 4 ص -123-       قال: وكل شيء يجعله على نفسه من المتاع والرقيق فإنما عليه أن يبيعه ويتصدق به على مساكين أهل مكة وإن تصدق به بالكوفة أجزأه وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجزيه لأنه التزم الهدي والهدي لا يكون إلا في موضع فكان من ضرورة ما نص عليه تعيين مساكين أهل مكة للتصدق عليهم ولكنا نقول هو بهذا اللفظ ملتزم للقربة في هذه المحال والفعل الذي هو قربة في هذه المحال التصدق بها فكأنه نذر أن يتصدق بها والتصدق على فقراء الكوفة كالتصدق على فقراء مكة لأن معنى القربة في التصدق إنما يحصل بسد خلة المحتاج وفي هذا فقراء مكة وفقراء الكوفة سواء.
قال: وكل هدى جعله على نفسه من الإبل والبقر والغنم فعليه أن يذبحه بمكة لأن فعل القربة في هذه المحال بإراقة الدم وإراقة الدم لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم أو زمان مخصوص وهو يوم النحر وفي لفظه ما ينبئ عن المكان دون الزمان ولهذا كان عليه أن يذبحه بمكة وبعد الذبح صار المذبوح لله تعالى خالصا فالسبيل أن يتصدق بلحمه والأولى أن يتصدق به على مساكين مكة وإن تصدق على غيرهم أجزأه عندنا لما بينا في الفصل الأول إن كان ذلك في أيام النحر فعليه أن ينحر بمنى كما هو السنة في الهدايا وإن كان في غير أيام النحر فعليه أن يذبح بمكة وهذا على سبيل بيان الأولى فأما في حكم الجواز إذا ذبحه في الحرم جاز كما قال صلى الله عليه وسلم:
"منى منحر وفجاج مكة كلها منحر".
قال: ولو قال إن فعلت كذا فعلي هدي ففعله كان عليه ما استيسر من الهدي شاة لأن اسم الهدي عند الإطلاق يتناول الإبل والبقر والغنم فإن هذه الحيوانات يتقرب بإراقة دمها إلا أن عند الاطلاق يلزمه المتيقن وهو الشاة فإن نوى الإبل أو البقر كان عليه ما نوى لأنه شدد الأمر على نفسه في نيته ونوى التعظيم فيما التزمه من الهدي فيلزمه ما نوى ولا يذبحها إلا بمكة لتصريحه بالهدي فإن كان قال علي بدنة فإن كان نوى شيئا من البدن بعينه فعليه ما نوى لأن المنوي إذا كان من محتملات كلامه فهو كالمصرح به وإن لم يكن له نية فعليه بقرة أو جزور لأن اسم البدنة مشتق من البدانة وهي الضخامة والعظم وذلك لا يتناول الشاة وإنما يتناول البقرة والجزور هكذا نقل عن علي وبن عباس رضي الله عنهما.
 وعن بن مسعود وبن عمر رضي الله عنهما أن لفظة البدنة لا تتناول إلا الجزور فإن سائلا سأل ابن مسعود رضي الله عنه أن صاحبا لنا أوجب بدنة أفتجزى البقرة؟ فقال: مم صاحبكم؟ فقال: من بني رباح فقال: ومتى اقتنت بنو رباح البقر؟ وإنما وهم صاحبكم الإبل.
ثم إن كان نوى أن ينحرها بمكة فليس له أن ينحرها إلا بمكة كما نوى لأن المنوي كالمصرح به وإن كان لم يكن له نية نحرها حيث شاء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يجزئه إلا أن ينحرها بمكة.

 

ج / 4 ص -124-       وجه قوله إنه التزم التقرب بإراقة الدم وإراقة الدم لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص أو زمان مخصوص وإذا لم يختص هنا بالزمان يختص بالمكان وهو الحرم كما لو أوجبه بلفظة الهدي وهما قالا كما لا يختص بالزمان لأنه ليس في لفظه ما يدل عليه فكذلك لا يختص بالمكان لأنه ليس في لفظة البدنة ما يدل عليه بخلاف لفظة الهدي.
وإذا لم يكن في لفظه ما يدل على مكان أو زمان عرفنا أن مراده التزام التقرب والتصدق باللحم وذلك يحصل في أي موضع نحر وهو قياس ما لو قال لله علي جزور كان له أن ينحر في أي مكان شاء ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول لإعادة في استعمال لفظة الجزور في معنى الهدي بخلاف لفظة البدنة ألا ترى أن اسم البدنة لا ينطلق إلا على ما هو معد للقربة كاسم الهدي بخلاف اسم الجزور ولمعنى القربة جعلنا اسم البدنة متناولا للبقرة والجزور جميعا لأن كل واحد منهما يجزئ في الهدايا والضحايا عن سبعة فعرفنا أن معنى التقرب بإراقة الدم معتبر في لفظة البدنة كما هو معتبر في لفظة الهدي فكان مختصا بالحرم.
قال: ولا يقلد إلا هدي متعة أو قران أو تطوع من الإبل والبقر دون الغنم والكلام في فصول:
أحدها: أن التقليد في الهدايا سنة ثبتت بقوله تعالى:
{وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ}[المائدة: 2] وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قلد هداياه في حجة الوداع وصفة التقليد هو أن يعلق على عنق البدنة نعل أو قطعة أدم أو عروة مزادة قيل والمعنى فيه إعلام الناس أن هذا أعد للتطوع بإراقة دمه فيصير جلده عن قريب مثل هذه القطعة من الجلد المقصود به التشهير وقد بينا أن التشهير فيما هو نسك دون ما هو جبر ولهذا لا يقلد إلا هدي متعة أو قران أو تطوع والمقصود أن لا يمنع من الماء والعلف إذا علم أنه هدي وهذا فيما يبعد عن صاحبه في الرعي كالإبل والبقر دون الغنم فإن الغنم يعدم إذا لم يكن صاحبه معه فلهذا لا يقلد الغنم وهذا عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى يقلد الغنم أيضا لأن التقليد سنة في الهدايا والغنم من الهدايا وقد ورد فيه أثر ولكنه شاذ فلم نأخذ به وهذا لأن تقليد الغنم غير معتاد في الناس ظاهرا بخلاف تقليد الإبل والبقر.
قال: والتجليل حسن لأن هدايا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم كانت مقلدة مجللة حيث قال لعلي رضي الله عنه:
"تصدق بجلالها وخطامها" وإن ترك التجليل لم يضره والتقليد أحب إلي من التجليل لأن للتقليد ذكرا في كتاب الله تعالى دون التجليل.
وأما الإشعار فهو مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما هو حسن في البدنة وإن ترك لم يضره وصفة الإشعار هو أن يضرب بالمبضع في أحد جانبي سنام البدنة

 

ج / 4 ص -125-       حتى يخرج الدم منه ثم يلطخ بذلك الدم سنامه سمى ذلك إشعارا بمعنى أنه جعل ذلك علامة له والإشعار هو الإعلام وكان بن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول الإشعار في الجانب الأيسر من السنام وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر البدن بيده وهو مروي عن الصحابة رضي الله عنهم ظاهر حتى قال الطحاوي رحمه الله تعالى ما كره أبو حنيفة رحمه الله تعالى أصل الإشعار وكيف يكره ذلك مع ما اشتهر فيه من الآثار وإنما كره إشعار أهل زمانه لأنه رآهم يستقصون ذلك على وجه يخاف منه هلاك البدنة لسرايته خصوصا في حر الحجاز فرأى الصواب في سد هذا الباب على العامة لأنهم لا يراعون الحد.
فأما من وقف على ذلك بأن قطع الجلد فقط دون اللحم فلا بأس بذلك ثم حجتهما من حيث المعنى لأن المقصود من الإشعار والتقليد إعلام بأنها بدنة حتى إذا ضلت ردت وإذا وردت الماء والعلف لم تمنع لكن هذا المقصود بالتقليد لا يتم لأن القلادة تحل ويحتمل أن تسقط منه فإنما يتم بالإشعار لأنه لا يفارقه فكان الإشعار حسنا لهذا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول معنى الإعلام بالتقليد يحصل وهو لإكرام البدنة وليس في الإشعار معنى الإكرام بل ذلك يؤذي البدنة ولأن التجليل مندوب إليه وإنما كان مندوبا لدفع أذى الذباب عن البدنة والإشعار من جوالب الذباب فلهذا كرهه أبو حنيفة رحمه الله تعالى.
قال: ولا يصير بالإشعار والتجليل محرما وإنما يصير محرما بالتقليد وأصل هذا أن الإحرام لا ينعقد بمجرد النية عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى ينعقد بمجرد النية وجعل الإحرام قياس الصوم من حيث إنه التزام الكف عن ارتكاب المحظورات ومثل هذه العبادة يحصل الشروع فيها بمجرد النية كالصوم وعلى قولنا الإحرام قياس الصلاة لأن الإحرام لأداء الحج أو العمرة وذلك يشتمل على أركان مختلفة كالصلاة فكما لا يصير شارعا في الصلاة بمجرد النية بدون التحريمة فكذلك في الإحرام بخلاف الصوم فإنه ليس للصوم إلا ركن واحد وهو الإمساك وذلك معلوم بزمانه فكان الوقت للصوم معيارا ولهذا لا يصح في كل زمان إلا صوم واحد فبعد وجود النية ودخول وقت الأداء لا حاجة إلى مباشرة فعل الأداء فلهذا صار شارعا فيه بمجرد النية.
وهنا الزمان ليس بمعيار للحج ولهذا صح أداء النفل في الزمان الذي يؤدي فيه الفرض وإنما أداؤه بأفعاله وبمجرد النية لا يصير مباشرا للفعل فلا يصير شارعا في الأداء أيضا ولكن لو قلد البدنة بنية الإحرام أو أمر فقلد له وهو ينوي الإحرام صار محرما عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يصير محرما إلا بالتلبية على القول الذي يقول لا ينعقد الإحرام بمجرد النية وحجته في ذلك أن الفعل لا يقوم مقام الذكر في التحرم للعبادة كما في الصلاة لما كان الشروع فيها بالتكبير لا يقوم الفعل فيه مقامه حتى لو ركع أو سجد بنية

 

ج / 4 ص -126-       الشروع في الصلاة لا يصير شارعا، ولا فرق بينهما، لأن الهدي نسك في هذه العبادة كالركوع والسجود في الصلاة.
توضيحه: أن تقليد الهدي لا يكون أقوى من من إراقة دم الهدي وبإراقة دم الهدي على قصد الإحرام لا يصير محرما فكذلك بالتقليد وحجتنا في ذلك قوله تعالى:
{وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ}[المائدة: 2] إلى أن قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة: 2] ولم يتقدم ذكر الإحرام.
ففي قوله:
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة: 2] إشارة إلى أن الإحرام يحصل بتقليد الهدي وذلك مروي عن الصحابة عمر وبن مسعود وبن عباس رضي الله تعالى عنهم حتى روي عن قيس بن سعد أنه كان يغسل رأسه فبعد ما غسل أحد شقي رأسه نظر فإذا هداياه قد قلدت فقام وترك غسل الشق الآخر وقال: إما إن من قلدت هذه الهدايا له فقد أحرم.
والمعنى فيه: أن الحج يشبه الصلاة من وجه والصوم من وجه فمن حيث إنه ليس في إثنائه ذكر مفروض كان مشبها بالصوم ومن حيث إنه يشتمل على أركان مختلفة كان مشبها بالصلاة فيوفر على الشبهين حظهما من الحكم.
فنقول: بشبهه بالصلاة لا يصير شارعا فيه بمجرد النية وبشبهه بالصوم يصير شارعا فيه وإن لم يأت بالذكر إذا أتى بفعل يقوم مقام الذكر وهذا لأن المقصود بالتلبية إظهار إجابة الدعوة وبتقليد الهدي يحصل إظهار الإجابة أيضا وفرق بين التجليل والتقليد فقال بالتجليل لا يصير محرما وإن نوى لأن التجليل لا يختص به ما أعد للقربة فقد تجلل البدنة لا على قصد التقرب بها فلا يكون ذلك دليل الإجابة بخلاف التقليد بالصفة التي ذكرنا فإنه لا يكون إلا عند قصد التقرب فكان إظهارا للإجابة وكذلك بالإشعار لا يصير محرما أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلا يشكل لأن الإشعار مكروه عنده فكيف يصير محرما به وعندهما الإشعار بمنزلة التجليل فإنه إخراج شيء من الدم من البدنة وذلك لا يختص بحال التقرب بها فلم يكن ذلك دليل الإجابة فلهذا لا يصير محرما.
ثم إذا نوى عند التقليد حجة أو عمرة فهو على ما نوى لأن التقليد بمنزلة التلبية وإن لم يكن له نية في حجة أو عمرة إنما نوى الإحرام فقط فهو بمنزلة ما لو أتى بنية الإحرام مطلقا فإن شاء جعله حجا وإن شاء جعله عمرة وإن قلد الشاة بنية الإحرام لا يصير محرما لما بينا أن التقليد في الشاة ليس بقربة فلا يصير به محرما وإن قلد الهدي وبعث به وهو لا ينوي الإحرام ثم خرج في أثره لم يصر محرما حتى يدرك هديه فإذا أدركه وسار معه صار محرما الآن والأصل فيه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقلدها وبعث بها وأقام بأهله حلالا لا يحرم به ما يحرم على المحرم فعرفنا أنه لا يصير محرما بمجرد التقليد والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا مختلفين في هذه المسألة على ثلاثة أقاويل.

 

ج / 4 ص -127-       فمنهم من يقول: إذا قلدها صار محرما ومنهم من قال إذا توجه في أثرها صار محرما ومنهم من قال إذا أدركها فساقها صار محرما.
فأخذنا بالمتيقن من ذلك وقلنا إذا أدركها وساقها صار محرما لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم في هذه الحالة إلا في بدنة المتعة فإنه لا يصير محرما حتى يخرج على أثرها وإن لم يدركها استحسانا وفي القياس لا يصير محرما حتى يدركها فيسوقها كما في هدي التطوع ولكنه استحسن فقال لهدي المتعة نوع اختصاص لبقاء الإحرام بسببه فإن المتمتع إذا ساق الهدي فليس له أن يتحلل من النسكين بخلاف ما إذا لم يسق الهدي وكما كان له نوع اختصاص ببقاء الإحرام فكذلك بابتداء الشروع في الإحرام لهدي المتعة نوع اختصاص وذلك في أن يصير محرما بنفس التوجه وإن لم يدرك الهدي بخلاف هدي التطوع.
قال: وإن اشترك قوم في هدي المتعة وهم يؤمون البيت فقلدها بعضهم بأمر أصحابه صاروا محرمين لأن فعله بأمر شركائه كفعلهم بأنفسهم وإن قلدها بغير أمرهم صار هو محرما دونهم لأن فعله بغير أمرهم لا يقوم مقام فعلهم وبدون فعل من جهتهم لا يصيرون محرمين ألا ترى أنه لو قلدها أجنبي بغير أمرهم لا يصيرون محرمين فكذلك إذا قلد بعضهم بغير أمر الشركاء يصير هو محرما دونهم.
قال: ويتصدق بجلال هديه إذا نحره لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:
"تصدق بجلالها وخطامها".
قال: ولا يعطي شيئا من ذلك في أجر جزارته لا من جلده ولا من لحمه ولا من جلاله هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "ولا تعط الجزار منها شيئا"، وقال: "من باع جلد أضحيته فلا أضحية له".
قال: ويستحب له أن يأكل من هدي المتعة والقران والتطوع فإن الله تعالى أمر به بقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا}[الحج: 36]. وأدنى ما يثبت بالأمر الاستحباب فلذلك يستحب له ولا ينبغي له أن يتصدق بأقل من الثلث هكذا روي عن بن مسعود رضي الله عنه أنه بعث بهدي مع علقمة فأمره أن يتصدق بثلث وأن يأكل ثلثا وأن يبعث إلى آل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بثلث.
قال: وإن ساق بدنة لا ينوي بها الهدي قال إذا كان ساقها إلى مكة فهو هدي وإنما أراد بهذا إذا قلدها وساقها لأن هذا لا يفعل عادة إلا بالهدي فكان سوقها بعد إظهار علامة الهدي عليها بمنزلة جعله إياها بلسانه هديا.
قال: ولا يجزئ في الهدايا والضحايا إلا الجذع من الضأن إذا كان عظيما فما فوق ذلك،

 

ج / 4 ص -128-       أو الثني من المعز والإبل والبقر لقوله صلى الله عليه وسلم: "ضحوا بالثنيان ولا تضحوا بالجذعان". إلا أن الجذع من الضأن إذا كان عظيما يجزئ لما روي أن رجلا ساق جذعانا إلى منى فبادت عليه فقال: أبو هريرة رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "نعمت الأضحية الجذع من الضأن"، فانتهزوها.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم النحر:
"من ضحى قبل الصلاة فليعد". قال أبو بردة بن نيار إني ذبحت نسكي لأطعم أهلي وجيراني فقال صلى الله عليه وسلم: "تلك شاة لحم فأعد نسكك". فقال: عندي عتود خير من شاتين فقال صلوات الله عليه: "يجزيك ولا يجزئ أحدا بعدك"، فدل أن ما دون الثني من المعز لا يجوز والجذع من الضأن عند الفقهاء ما أتى عليه سبعة أشهر وعند أهل اللغة ما تم له ستة أشهر والثني من الغنم عند الفقهاء ما أتى عليه سنة وطعن في الثانية وعند أهل اللغة ما تم له سنتان والثني من المعز والبقر ما تم له سنتان وطعن في الثالثة ومن الإبل الجذع ما تم له أربع سنين والثني ما تم له خمس سنين.
قال: ولا يجزئ في الهدايا العوراء أو المقطوعة الذنب أو الأذن اشتراها كذلك أو وجدت عنده بعد الشراء لحديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"استشرفوا العين والأذن". ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بالعوراء البين عورها والعجفاء التي لا تبقى والعرجاء التي لا تمشي إلى منسكها والحادث من هذه العيوب بعد الشراء بمنزلة الموجود وقت الشراء في المنع من الجواز وهكذا إن أضجعها ليذبحها فأصابها شيء من ذلك في القياس ولكن في الاستحسان هذا لا يمنع الجواز لأنها تضطرب عند الذبح فيصيبها شيء من ذلك ولا يمكن التحرز في هذه الحالة فجعل عفوا لهذا ولأنه أضجعها ليتلفها فتلف جزء منها في هذه الحالة لا يؤثر في المنع من الجواز بخلاف ما قبله.
قال: وإن كان الذاهب من العين أو الأذن أو الذنب بعضه فإن كان ما ذهب منه كثيرا يمنع الجواز أيضا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحى بالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة فالشرقاء مشقوفة الأذن عرضا والخرقاء طولا والمقابلة التي ذهب قدام أذنها والمدابرة أن يكون الذاهب خلف أذنها إلا أن القليل لا يمكن التحرز عنه عادة فجعل عفوا والحد الفاصل بين القليل والكثير عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في ظاهر الرواية أن يكون الذاهب أكثر من الثلث فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الثلث كثير"، ولكن جعله من الكثير الذي يجزى في الوصية بخلاف ما وراءه فعرفنا أن ما زاد على الثلث حكمه مخالف للثلث وما دونه.
وذكر بن شجاع عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أن الذاهب إذا كان بقدر الربع يمنع على قياس ما تقدم من المسائل أن الربع ينزل منزلة الكمال كما في المسح والحلق وعلى قولهما إذا كان الذاهب أكثر من الباقي لم يجز وإن كان الباقي أكثر من الذاهب أجزأه لأن

 

ج / 4 ص -129-       القلة والكثرة من الأسماء المشتركة فإنما يظهر عند المقابلة وإن كان الذاهب والباقي سواء لم يجز في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن المانع من الجواز إذا استوى بالمجوز يترجح المانع وقال أبو يوسف أخبرت بقولي أبا حنيفة رحمه الله تعالى فقال قولي قولك أو مثل قولك قيل هذا رجوع من أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلى قوله وقيل هو إشارة إلى التفاوت بين القولين.
قال: ويجزى في الهدي الخصي ومكسورة القرن لأن ما لا قرن له يجزى فمكسور القرن أولى وهذا لأنه لا منفعة للمساكين في قرن الهدي وأما جواز الخصي فلأنه أطيب لحما وقال الشعبي رحمه الله تعالى ما زاده الخصا في طيبة لحمه خير للمساكين مما فات من الخصيين والأصل فيه ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين موجوأين ينظران في سواد ويمشيان في سواد ويأكلان في سواد أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته.
قال: فإن اشترى هديا ثم ضل منه فاشترى مكانه آخر وقلده وأوجبه ثم وجد الأول فإن نحرهما فهو أفضل لأنه أتى بالواجب وزاد ولأنه كان وعد أن ينحر كل واحد منهما والوفاء بالوعد مندوب إليه وإن نحر الأول وباع الثاني جاز لأنه ما أوجب الثاني ليكون أصلا بنفسه وإنما أوجبه ليكون خلفا عن الأول قائما مقامه فإذا أوجد ما هو الأصل سقط اعتبار الخلف وإن باع الأول وذبح الآخر فإن كانت قيمتهما سواء أو كانت قيمة الثاني أكثر جاز لأنه مثل الأول أو أفضل منه وإن كانت قيمة الأول أكثر فعليه أن يتصدق بالفضل لأنه جعل الأول هديا أصلا فإنما يجوز إقامة الثاني مقام الأول بشرط أن لا يكون أنقص من الأول فإذا كان أنقص كان عليه أن يتصدق بقدر النقصان لأنه قصد أن يمنع شيئا مما جعله لله تعالى وليس له ذلك فيتصدق بالفضل ليتم جعل ذلك القدر من المالية لله تعالى.
وهدي المتعة والتطوع في هذا سواء لأنهما صار لله تعالى إذا جعلهما هديا في الوجهين جميعا فإن عرف بهدي المتعة فهو حسن لأن هدي المتعة نسك فينبني أمره على الشهرة وإن ترك ذلك لم يضره لأن الواجب هو التقرب بإراقة الدم فالتعريف فيه ليس من الواجب في شيء وإن كان معه للمتعة هديان فنحر أحدهما حل لأن ما زاد على الواحد تطوع فلا يتوقف حكم التحلل عليه.
قال: وهدي التطوع إذا بلغ الحرم فعطب فنحر وتصدق به أجزأه بخلاف هدي المتعة فإن ذلك مختص بيوم النحر فلا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فأما هدي التطوع غير مختص بيوم النحر وإنما عليه تبليغه محله بأن يذبحه في الحرم وقد فعل ذلك.
قال: فإن اشترى بدنة لمتعته ثم اشترك ستة نفر فيها بعد ما أوجبها لنفسه خاصة لا يسعه ذلك لأنه لما أوجبها لنفسه صار الكل لازما عليه فإن قدر ما يجزئ من هدي المتعة

 

ج / 4 ص -130-       كان واجبا عليه وما زاد على ذلك وجب بإيجابه فإشراكه الغير بعد ذلك مع نفسه يكون رجوعا عما أوجب في البعض وكما لا يجوز له أن يرجع في الكل فكذلك لا يجوز له أن يرجع في البعض ولأن إشراكه بيع للبعض منهم وليس له أن يبيع شيئا مما أوجبه هديا وإن فعل فعليه أن يتصدق بالثمن وإن كان نوى عند الشراء أن يشرك فيها ستة نفر أجزأه ذلك لأنه ما أوجب الكل على نفسه بمجرد الشراء فكان هذا وما لو اشتراه السبعة سواء فإن لم يكن له نية عند الشراء ولكن لم يوجبها حتى أشرك فيها ستة نفر أجزأه ولكن الأفضل أن يكون ابتداء الشراء منهم أو من أحدهم بأمر الباقين حتى تثبت الشركة منهم في الابتداء.
قال: وإذا ولدت البدنة بعد ما اشتراها لهديه ذبح ولدها معها لأنه جعلها لله تعالى خالصا والولد جزء منها فإن كان انفصاله بعد ما جعلها لله تعالى سرى حق الله تعالى إليه فعليه أن يذبحها والولد معها وإن باع الولد فعليه قيمته اعتبارا للجزء بالكل وإن اشترى بها هديا فحسن وإن تصدق بها فحسن اعتبارا للقيمة بالولد فإن الأفضل أن يذبح ولو تصدق به كذلك أجزأه فكذلك بقيمته.
قال: وإذا مات أحد الشركاء في البدنة أو الأضحية فرضي وارثه أن يذبحها معهم عن الميت أجزأهم وهو الاستحسان وفي القياس لا يجوز لأن الميت إذا لم يوص بأن يذبح عنه فقد انقطع حكم القربة عن نصيبه فصار ميراثا لوارثه والوارث لم يقصد التقرب بذبحه عن نفسه فخرج ذلك القدر من أن يكون قربة وهذا لأن التقرب بالذبح تقرب بطريق الإتلاف وذلك لا يجوز عن الميت بغير أمره كالعتق ولكنه استحسن فقال يجوز لأن المقصود هو التقرب وتقرب الوارث بالتصدق عن الميت صحيح وإن لم يوص به فكذلك تقربه بإيفاء ما قصد المورث في نصيبه بإراقة الدم فالتصدق به يكون صحيحا.
قال: وإن كان أحد الشركاء في البدنة كافرا أو مسلما يريد به اللحم دون الهدي لم يجزهم أما إذا كان أحدهم كافرا فلا يتحقق معنى القربة في نفسه لوجود ما ينافي معنى القربة وهو كفره وإراقة الدم الواحد إذا اجتمع فيه ما ينافي معنى القربة مع الموجب لها يترجح المنافي وأما إذا كان مراد أحدهم اللحم فلا يجزئ الباقين عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجزيهم لأن المنافي لمعنى القربة لم يتحقق هنا ليكون معارضا ونصيب كل واحد منهم بمنزلة هدي على حدة ولكل واحد منهم ما نوى.
ولكننا نقول الذي نوى اللحم فكأنه نفى معنى القربة في نصيبه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما ذبحه أبو بردة قبل الصلاة:
"تلك شاة لحم"؟ فعرفنا أن هذه عبارة عما لا يكون قربة وما يمنع الجواز وإراقة الدم لا يتجزى فإذا اجتمع فيه المانع من الجواز مع المجوز يترجح المانع كما لو كان أحدهم كافرا فأما إذا نووا القربة ولكن اختلفت جهات قصدهم فعلى

 

ج / 4 ص -131-       قول زفر رحمه الله تعالى لا يجوز أيضا لأن إراقة الدم لا يتبعض فلا تسع فيها الجهات المختلفة ولكنا نقول قصد الكل التقرب فكانت الإراقة لله خالصا فلا يعتبر فيه اختلاف الجهات بعد ذلك ألا ترى أن الواحد إذا وجبت عليه دماء من جهات مختلفة فنحر بدنة ينوي عن ذلك كله أجزأه؟ فكذلك الشركاء.
 قال: ولا يركب البدنة بعد ما أوجبها لأنه جعلها لله جلت قدرته خالصا فلا ينبغي له أن يصرف شيئا من عينها أو منافعها إلى نفسه قبل أن يبلغ محله إلا أن يحتاج إلى ركوبها فحينئذ لا بأس بذلك لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال:
"اركبها" فقال: إنها بدنة يا رسول الله فقال: "اركبها ويلك" وإنما أمره بذلك لأنه رآه عاجزا عن المشي محتاجا إلى ركوبها فإذا ركبها وانتقص بركوبه شيء ضمن ما نقص ذلك لأنه صرف جزء منها إلى حاجته.
 وكذلك لا يحلب لبنها لأن اللبن متولد منها فلا يصرفه إلى حاجة نفسه ولكن ينبغي أن ينضح ضرعها بالماء البارد حتى يتقلص لبنها ولكن هذا إذا كان قريبا من وقت الذبح فأما إذا كان بعيدا ينزل اللبن ثانيا وثالثا فيصير ذلك بالبدنة ضارا فيحلبها ويتصدق بلبنها وإن صرفه إلى حاجة نفسه تصدق بمثل ذلك أو بقيمته وأي الشركاء فيها نحرها يوم النحر أجزأهم لأن كل واحد يستعين بشركائه في نحرها في وقته دلالة فيجعل ذلك بمنزلة الأمر به إفصاحا.
قال: وإذا عطب الهدي في الطريق نحره صاحبه فإن كان واجبا فهو لصاحبه يصنع به ما شاء لأنه قصد بهذا إسقاط الواجب عن ذمته فإذا خرج من أن يكون صالحا لإسقاط الواجب به بقي الواجب في ذمته كما كان وهذا ملكه فيصنع به ما شاء وإن كان تطوعا نحره وصبغ نعله بدمه ثم ضرب به صفحته ولم يأكل منه شيئا بل يتصدق به وذلك أفضل من أن يتركه للسباع هكذا نقل عن عائشة رضي الله عنها.
 والأصل فيه ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عام الحديبية الهدايا على يد ناجية بن جندب الأسلمي رضي الله عنه وأمره أن يسلك بها الفجاج والأودية حتى يخرج بها إلى منى فقال ماذا أصنع بما عطب على يدي منها؟ فقال:
"انحرها واصبغ نعلها بدمها" والمراد بالنعل قلادتها "واضرب بها صفحة سنامها ثم خل بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا أحد من رفقتك منها شيئا". ومقصوده مما ذكر أن يجعل عليها علامة يعلم بتلك العلامة أنها هدي فيتناول منها الفقراء دون الأغنياء وإنما نهاه أن يتناول منها لأنه كان غنيا مع رفقته.
 ثم المتطوع بالهدايا إنما يتناول بإذن من له الحق والإذن معلق بشرط بلوغه محله قال الله تعالى:
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا}[الحج: 36] فإذا لم تبلغ محلها لا يباح له التناول منها ولا أن يطعم غنيا بل يتصدق بها على الفقراء لأنه قصد بها التقرب إلى الله تعالى فإذا

 

ج / 4 ص -132-       فات معنى التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم يتعين التقرب إلى الله تعالى بالتصدق وذلك بالصرف إلى الفقراء دون الأغنياء فإن أعطى من ذلك غنيا ضمن قيمته ويتصدق بجلالها وخطمها أيضا كما يفعل ذلك إذا بلغت محلها.
قال: وإذا أخطأ الرجلان فنحر كل واحد منهما هدي صاحبه أو أضحيته عن نفسه أجزأه استحسانا وفي القياس لا يجزئ لأن كل واحد منها غير مأمور بما صنع في هدي صاحبه فكان متعديا ضامنا ولكنه استحسن فقال كل واحد منهما مأذون بما صنع من صاحبه دلالة لأن صاحب الهدي والأضحية يستعين بكل أحد أن ينوب عنه في الذبح في وقته دلالة والإذن دلالة بمنزلة الإذن إفصاحا كقرب ماء السقاية ونحوها ويأخذ كل واحد منهما هديه من صاحبه فيصنع به ما شاء بمنزلة ما لو فعله صاحبه بأمره.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى، قال لكل واحد منهما الخيار بين أن يأخذ من صاحبه هديه فيصنع به ما شاء كما لو ذبحه بنفسه وبين أن يضمن صاحبه قيمة هديه فيشتري بها هديا آخر ويذبحه في أيام النحر وإن كان بعد أيام النحر تصدق بالقيمة وإن نحر هديه قائما أو أضجعه فأي ذلك فعل فهو حسن وبلغنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينحرونها قياما معقولة الأيدي اليسرى وفي قوله تعالى:
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}[الحج: 36] ما يدل على أنه لا بأس بأن ينحرها قائمة لأن وجوب الجنب السقوط من القيام.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس هدايا أو ستا فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ فدل أنه ينحر قياما وقد حكي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال نحرت بيدي بدنة قائمة معقولة فكدت أهلك قوما من الناس لأنها نفرت فاعتقدت أن لا أنحر بعد ذلك إلا باركة معقولة أو أستعين بمن يكون أقوى عليه مني.
قال: ولا أحب أن يذكر مع اسم الله تعالى غيره نحو قوله اللهم تقبل من فلان لقوله صلى الله عليه وسلم:
"جردوا التسمية" يعني ذكر اسم الله تعالى عند الذبح ويكفي في هذا أن ينويه بقلبه أو يذكره قبل ذكر التسمية ثم يقول بسم الله والله أكبر وينحر.
قال: ولا يذبح البقر والغنم قياما لأنه مندوب في كل نوع أن يذبحه على وجه يكون أيسر على المذبوح قال صلى الله عليه وسلم:
"إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" الحديث.
قال: ويستحب له أن يذبح هديه أو أضحيته بيده لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق مائة بدنة في حجة الوداع فنحر نيفا وستين بنفسه وولى الباقي عليا رضي الله عنه وفي هذا دليل على أن الأولى أن يذبح بنفسه فأما إذا لم يقدر على ذلك ولم يهتد لذلك فلا بأس بأن يستعين بغيره لأن فعل الغير بأمره كفعله بنفسه.

 

ج / 4 ص -133-       قال: ولا أحب أن يذبحه يهودي أو نصراني لأن هذا من باب القربة فلا يستعان فيه بالكافر قال صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نستعين في أمر ديننا بمن ليس على ديننا".
قال: وإن ذبح هديه يوم النحر بعد طلوع الفجر أجزأه ولا يجزيه قبل طلوع الفجر إن كان هدي المتعة لأنه مؤقت بيوم النحر وإنما يدخل يوم النحر بعد طلوع الفجر الثاني وإن جعل ثوبه هديا أجزأه أن يهدي قيمته لأنه جعله لله تعالى وفيما صار لله تعالى صرف العين والقيمة سواء كما في الزكاة وكذلك لو جعل شاة من غنمه هديا أجزأه أن يهدي قيمتها وفي رواية أبي حفص رحمه الله تعالى أجزأه أن يهدي مثلها قال ألا ترى أنه يعطي في الزكاة قيمة الشاة؟ فيجوز.
وذكر في الجامع الكبير إذا قال لله علي أن أهدي شاتين وسطين فأهدى شاة تبلغ قيمتها قيمة شاتين لا يجوز بخلاف الزكاة لأنه التزم إراقة دمين وإراقة دم واحد لا يقوم مقام إراقة دمين وما ذكر في هذا الموضع أنه لا يجزئه التصدق بالقيمة لأنه إنما التزم التقرب بإراقة الدم فلا يقوم التصدق بالقيمة مقامه حتى قيل في المسألة روايتان فعلى ما ذكر هنا يجب أن يجوز هناك أيضا.
وإن قال: لله علي أن أهدي شاة فأهدى جزورا يجزئه وهو محسن في ذلك لأنه أدى الواجب عليه وزيادة فإن الجزور قائم مقام سبع من الغنم حتى يجزئ عن سبعة نفر ففيه وفاء بالواجب وزيادة وإنما أورد هذا لإيضاح أنه إذا أهدى مثل ما عينه في نذره أو أفضل منه أو أهدى قيمته أجزأه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الحج عن الميت وغيره
قال رضي الله عنه: رجل دفع مالا إلى رجل ليحج به عن الميت فلم يبلغ مال الميت النفقة فأنفق المدفوع إليه من ماله ومال الميت فإن كان أكثر النفقة من مال الميت وكان ماله بحيث يبلغ ذلك أو عامة النفقة فهو جائز وإلا فهو ضامن يرده ويحج من حيث يبلغ لأن المعتبر في الحج عن الغير الإنفاق من ماله في الطريق والأكثر له حكم الكل والتحرز عن القليل غير ممكن فقد يضيفه إنسان يوما فلا ينفق من مال الميت وقد يستصحب مع نفسه زادا أو ثوبا من مال نفسه وقد يشرب الماء فيعطي السقاء شيئا من عند نفسه وما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا فاعتبرنا الأكثر وقلنا إذا كان أكثر النفقة من مال الميت فكأن الكل من مال الميت وإن كان أكثر النفقة من مال نفسه كان جميع نفقته من مال نفسه فيكون الحج عنه ويضمن ما أنفق من مال الميت لأنه مخالف لأمره فإنه أمر بأن ينفق في سفر الحج بذلك السفر عن الميت لا عن نفسه

 

ج / 4 ص -134-       وهذه المسألة تدل على أن الصحيح من المذهب فيمن حج عن غيره أن أصل الحج يكون عن المحجوج عنه وأن إنفاق الحاج من مال المحجوج عنه كإنفاق المحجوج عنه من مال نفسه أن لو قدر على الخروج بنفسه وبنحوه جاءت السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسائله: "حجي عن أبيك واعتمري".
وقال رجل يا رسول الله إن أبي مات ولم يحج أفيجزئني أن أحج عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
"نعم" وحديث الخثعمية مشهور حيث قالت يا رسول الله إن فريضة الله الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفيجزئني أن أحج عنه؟ فقال صلوات الله تعالى عليه: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يقبل منك؟" قالت: نعم فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أحق أن يقبل" فدل أن أصل الحج يقع عن المحجوج عنه.
وروي عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال: للمحجوج عنه ثواب النفقة فأما الحج يكون عن الحاج وهذا لأن الحج عبادة بدنية والعبادات البدنية لا تجري النيابة في أدائها لأن الواجب عليه إنفاق المال في الطريق وأداء الحج فإذا عجز عن أداء الحج بقي عليه مقدار ما يقدر عليه وهو إنفاق المال في الطريق فلزمه دفع المال لينفقه الحاج في طريق الحج.
ولكن الأول أصح فإن فرض الحج لا يسقط بهذا عن الحاج وكذلك في هذه المسألة إذا كان أكثر نفقته من مال نفسه حتى صار حجه عن نفسه كان ضامنا لما أنفق من مال الميت ولو كان للميت ثواب النفقة فقط لا يصير ضامنا لأن ذلك قد حصل للميت فلما قال يضمن ويحج به عن الميت من حيث يبلغ عرفنا أن الحج عن الميت.
قال: وإن أنفق المدفوع إليه من مال نفسه وفي مال الميت وفاء بحجه رجع به في مال الميت إذا كان قد دفع إليه وجاز الحج عن الميت لأنه قد يبتلى بالإنفاق من مال نفسه في طريق الحج بأن لا يكون مال الميت حاضرا أو يتعذر عليه إظهاره ولا فرق في حق الميت بين أن ينفق من ماله وبين أن ينفق من مال نفسه فيرجع به في مال الميت كالوصي والوكيل يشتري لليتيم ويعطي الثمن من مال نفسه يرجع به في مال اليتيم.
قال: فإن نوى الحاج عن الغير أن يقيم بمكة بعد النفر خمسة عشر يوما بطلت نفقته من مال الميت لأن بهذه النية صار مقيما بمكة وتوطنه بمكة لحاجة نفسه لا لحاجة الميت فلا يستحق فيه النفقة في مال الميت وإنما استحقاقه النفقة في مال الميت في سفره ذاهبا وجائيا لأنه في ذلك عامل للميت وإن كان أقام دون خمسة عشر يوما فهو مسافر على حاله فنفقته في مال الميت.
وقد كان بعض المتقدمين من مشايخنا، رحمهم الله تعالى، يقول: إن أقام بعد النفر ثلاثا فنفقته في مال الميت لأنه محتاج إلى هذا القدر من المقام للاستراحة وإن أقام أكثر من ذلك

 

ج / 4 ص -135-       فنفقته في مال نفسه ولكن هذا الجواب كان في زمانهم لأنه كان يقدر أن يخرج من مكة متى شاء فأما في زماننا لا يقدر على الخروج إلا مع الناس فإن كان مقامه بمكة لانتظار خروج قافلته فنفقته في مال الميت سواء أقام خمسة عشر يوما أو أقل أو أكثر لأنه لا يقدر على الخروج إلا معهم فلم يكن هو متوطنا بمكة لحاجة نفسه وإن أقام بعد خروج قافلته فحينئذ ينفق من مال نفسه فإن بدا له بعد المقام أن يرجع فنفقته في مال الميت لأنه كان استحق نفقة الرجوع في مال الميت وإنما كان ينفق من مال نفسه لتأخير الرجوع فإذا أخذ في الرجوع عادت نفقة الرجوع في مال الميت وهو نظير الناشزة إذا عادت إلى بيت زوجها تستحق النفقة وكذلك المضارب إذا أقام في بلدته أو في بلدة أخرى ونوى الإقامة خمسة عشر يوما لحاجة نفسه لم ينفق من مال المضاربة فإن خرج مسافرا بعد ذلك كانت النفقة في مال المضاربة.
وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال: لا تعود نفقته في مال الميت هنا لأن القياس أن لا يستوجب نفقة الرجوع في مال الميت لأنه في حق الرجوع عامل لنفسه لا للميت ولكنا تركنا ذلك وقلنا أصل سفره كان لعمل الميت فما بقي ذلك السفر تبقى نفقته في مال الميت وبالوصول لم يبق ذلك السفر ثم هو أنشأ سفرا بعد ذلك لحاجة نفسه وهو الرجوع إلى وطنه فلا يستوجب لهذا السفر النفقة في مال الميت ولم يذكر في الكتاب أنه إذا وصل إلى مكة قبل وقت الحج بزمان كيف يكون حاله في الإنفاق.
وقد ذكر في النوادر عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه إذا قدم في الأيام العشر فنفقته في مال الميت وإن قدم قبل ذلك أنفق من مال نفسه إلى أن تدخل أيام العشر ثم نفقته في مال الميت بعد ذلك لأن العادة أن قدوم قوافل مكة يتقدم ويتأخر ولكنه في الأيام العشر موافق لما هو العادة فأما قدومه قبل أيام العشر مخالف لما هو العادة وهو في هذه الإقامة ليس يعمل للميت شيئا فلهذا كانت نفقته في مال نفسه.
قال: فإن أوصى أن يحج عنه بألف درهم فبلغت حججا فالوصي بالخيار إن شاء دفع كل سنة حجة وإن شاء أحج عنه رجالا في سنة واحدة وهو أفضل لأن الوصية بالحج بمال مقدر بمنزلة الوصية بالتصدق بمال مقدر وفي ذلك الوصي بالخيار بين التقديم والتأخير والتعجيل أفضل لأنه أقرب إلى تحصيل مقصود الموصي وأبعد عن فوات مقصوده بهلاك المال.
قال: وإذا حج العبد بإذن مولاه فإن ذلك لا يجزئه عن حجة الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم:
"أيما عبد حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا عتق وأيما صبي حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا بلغ وأيما أعرابي حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا هاجر".

 

ج / 4 ص -136-       وإنما قال هذا حين كانت الهجرة فريضة وكان المعنى فيه أن العتق من شرائط وجوب الحج ولا يتحقق الوجوب بدون شرطه فيكون المؤدى قبل وجود الشرط نفلا فلا ينوب عن الفرض وهذا بخلاف الفقير إذا حج ثم استغنى حيث جاز ما أدى عن الفرض لأن ملك المال ليس بشرط للوجوب إنما شرط الوجوب التمكن من الوصول إلى موضع الأداء ألا ترى أن المكي الذي هو في موضع الأداء لا يعتبر في حقه ملك المال وفي حق الآفاقي لا يتقدر المال بالنصاب بل يختلف ذلك باختلاف قربه من موضع الأداء وبعده فعرفنا أن الشرط هو التمكن من الوصول إلى موضع الأداء فبأي طريق وصل الفقير إلى ذلك الموضع وجب الأداء فإنما حصل أداؤه بعد الوجوب فكان فرضا.
فأما العتق من شرائط الوجوب. فإن العبد الذي هو بمكة لا يلزمه الحج فالمؤدى قبل العتق لا يكون فرضا توضيحه أنه إنما أدى الحج بمنافعه ومنافع الفقير حقه فإذا أداه بما هو حقه كان فرضا فأما منافع العبد لمولاه وبإذن مولاه لا تخرج المنفعة من ملكه فإنما أداه بما هو ملك الغير وملك الغير لا يسقط ما هو فرض العمر عنه وهذا بخلاف الجمعة إذا أداها بإذن المولى لأن الجمعة تؤدى في وقت الظهر ومنافعه لأداء الظهر صارت مستثناة عن حق المولى فإنما أداه بمنافع مملوكة له فهذا جائز عنه بخلاف ما نحن فيه فإن هذا غير مستثنى من حق المولى فلا تتأدى به حجة الإسلام.
قال: فإن أصاب صيدا فعليه الصيام لأنه صار جانيا على إحرامه بقتل الصيد وهو ليس من أهل التكفير بإراقة الدم ولا بالإطعام فيكفر بالصوم كما إذا حنث في يمينه كان عليه أن يكفر بالصوم.
قال: وإن جامع مضى فيه حتى يفرغ منه لأن حجه وإن فسد لكن عليه المضي في الفاسد وإن إحرامه كان لازما فلا يخرج عنه إلا بأداء أفعال الحج فاسدا كان أو صحيحا وعليه الهدي إذا عتق لتعجل الإحلال بالجماع وهذا الدم لا يقوم الصوم مقامه والأصل في كل دم لا يقوم الصوم مقامه يتأخر عن العبد حتى يعتق وكل ما يقوم الصوم مقامه فعليه أن يؤديه بالصوم وعليه حجة مكان هذه ينوي حجة الإسلام لأنه أفسدها بعد ما صح شروعه فيها فعليه قضاؤها.
وإن لم يجامع ولكنه فاته الحج يحل بالطواف والسعي والحلق لأنه بعد صحة شروعه في الإحرام يتحلل بما يتحلل به الحر والحر إنما يتحلل بعد فوات الحج بأعمال العمرة فكذلك العبد وعليه أن يحج حجة إذا عتق سوى حجة الإسلام لفوات ما شرع فيه وإن أطعم عنه مولاه أو ذبح عنه من الدماء ما يلزمه لا يجزئه لأنه لم يصر مالكا للطعام الذي يؤدى في الكفارة ولا لما يراق دمه فإن الرق ينافي الملك وبدون الملك فيما كفر به لا تسقط عنه الكفارة إلا في الإحصار خاصة فإن على مولاه أن يبعث بهدي عنه حتى يحل لأنه هو الذي أدخله في

 

ج / 4 ص -137-       هذه العهدة بإذنه بالإحرام فإنه لو أحرم بغير إذنه كان له أن يحلله بغير هدي فإذا أحرم بإذنه كان المولى هو المكتسب لسبب وجوب هذا الدم فعليه أن يحلله ولا يبعد أن يجب على المولى حق بسبب عبده كما يجب عليه صدقة الفطر عن عبده ثم على العبد إذا عتق حجة وعمرة كما هو الحكم في المحصر إذا كان حرا ويتحلل بالهدي العبد إذا تحلل به.
قال: وإذا أراد الرجل أن يحج رجلا عن نفسه فأحب إلي أن يحج رجلا قد حج عن نفسه لأنه أبعد عن اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى ولأنه أهدى في إقامة أعمال الحج لصيرورتها معهودة عنده فإن أحج صرورة عن نفسه يجوز عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز ويكون حج الصرورة عن نفسه لا عن الآمر وحجته ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يلبي عن شبرمة، فقال عليه الصلاة والسلام:
"من شبرمة"؟ فقال أخ لي أو صديق لي فقال عليه الصلاة والسلام: "حج عن نفسك ثم عن شبرمة"، وحجتنا في ذلك حديث الخثعمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوز لها أن تحج عن أبيها ولم يستفسر أنها حجت عن نفسها أو لا وفي الحديث الأخير تعارض فقد روي أنه سمع رجلا يلبي عن نبيشة فقال: "من نبيشة"؟ فقال: صديق لي. فقال: "إذا حججت عن نبيشة فحج عن نفسك".
وتأويل الحديث الأخير أن ذلك الرجل لم يحرم بعد ولكن على سبيل التعليم للكيفية في التلبية عن الغير فأشار عليه عليه الصلاة والسلام بأن يبدأ بالحج عن نفسه وبه نقول إن الأفضل أن يحج عن نفسه أولا.
والاختلاف في هذا نظير الاختلاف في الصرورة إذا حج بنية النفل عندنا حجة يكون نفلا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يكون عن حجة الإسلام وحجته في ذلك أن نية النفل لغو لأنه عبارة عن الزيادة ولا يتصور ذلك قبل الأصل وإذا لغت نية النفل يبقى مطلق نية الحج وبمطلق النية يتأدى الفرض يدل عليه أن نية النفل نوع سفه قبل أداء حجة الإسلام والسفيه مستحق الحجر فجعل نية النفل لغوا تحقيقيا لمعنى الحجر فيبقى مطلق النية ويجوز أن تتأدى حجة الإسلام بغير نية كما في المغمى عليه إذا أحرم عنه أصحابه فبنية النفل أولى.
وحجتنا في ذلك أن وقت أداء الفرض في الحج يتسع لأداء النفل فلا يتأدى الفرض منه بنية النفل كالصلاة بخلاف الصوم عندنا ووقت أداء الصوم لا يتسع لأداء النفل وهذا لأن الحج عبادة معلومة بالأفعال لا بالوقت فكان الوقت ظرفا له لا معيارا وفي مثله لا يتميز الفرض من النفل إلا بالتعيين وقوله يتأدى بمطلق النية قلنا عندنا لا يتأدى إلا بالتعيين غير أن التعيين يثبت بالنص تارة وبالدلالة أخرى وفي الحج التعيين حاصل بدلالة العرف.
فالظاهر أن الإنسان لا يتحمل المشقة العظيمة ثم يشتغل بأداء النفل مع بقاء الفرض عليه.
والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص كمن اشترى بدراهم مطلقة ينصرف إلى نقد البلد

 

ج / 4 ص -138-       بدلالة العرف وإنما يعتبر العرف إذا لم يوجد التصريح بخلافه فإذا صرح بنية النفل سقط اعتبار العرف فكان حجه عما نوى وما قال باطل على أصله في الصوم فإنه لا يلغي اعتبار نية النفل بل يجعله معتبرا في الإعراض عن الفرض والمغمى عليه آذن لأصحابه بطريق الدلالة في الإحرام عنه فينزل ذلك منزلة الإذن إفصاحا فإنما يتأدى له الحج بالنية وإن أراد أن يعين رجلا بماله للحج عن نفسه فالصرورة أولى بذلك ممن قد حج لأن الصرورة بماله يتوسل إلى أداء الفرض ومن قد حج مرة يتوسل إلى أداء النفل وكما أن درجة أداء الفرض أعلى كانت الإعانة عليه بالمال أولى.
قال: والحج التطوع جائز عن الصحيح يريد به أن الصحيح البدن إذا أحج رجلا بماله على سبيل التطوع عنه فهو جائز لأن هذا انفاق المال في طريق الحج ولو فعله بنفسه كان طاعة عظيمة فكذلك إذا صرفه إلى غيره ليفعله عنه يكون جائزا وكونه صحيحا لا يمنعه عن أداء التطوع بهذا الطريق وإن كان يمنعه عن أداء الفرض لأن في التطوع الأمر موسع عليه ألا ترى أن في الصلاة يجوز التطوع قاعدا مع القدرة على القيام وإن كان لا يجوز ذلك في الفرض فكذا هنا في حجة الإسلام.
والحاصل أن العبادات المالية المقصود منها صرف المال إلى سد خلة المحتاج وذلك يحصل نيابة فيجوز الإنابة فيها في حالة الاختيار والضرورة.
والعبادات البدنية المحضة المقصود منها إما التعظيم بالجوارح كالصلاة وإما إتعاب النفس الأمارة بالسوء ابتغاء مرضات الله تعالى وذلك لا يحصل بالنائب أصلا ولا تجري النيابة في أدائها.
والحج فيه المعنيان جميعا معنى التعظيم للبقعة وذلك بالنائب يحصل ومعنى تحمل المشقة للتوسل إلى أدائها وذلك بالنائب لا يحصل فلا تجزئ النيابة فيها عند القدرة على الأداء بنفسه لانعدام أحد المعنيين في الأداء بالنائب وتجزى النيابة فيها عند تحقق العجز عن الأداء بالبدن لحصول أحد المعنيين بالنائب.
وفي العبادات البدنية المعتبر الوسع ولا يعتبر العجز للحال لأن الحج فرض العمر فيعتبر فيه عجز مستغرق لبقية العمر ليقع به اليأس عن الأداء بالبدن فقلنا إن كان عجزه بمعنى لا يزول أصلا كالزمانة يجوز الأداء بالنائب مطلقا وإن كان عارضا يتوهم زواله بأن كان مريضا أو مسجونا فإذا أدى بالنائب كان ذلك مراعى فإن دام به العذر إلى أن مات تحقق اليأس عن الأداء بالبدن فوقع المؤدي موقع الجواز وإن بريء من مرضه تبين أنه لم يقع فيه اليأس عن الأداء بالبدن فكان عليه حجة الإسلام والمؤدي تطوع له والمال جعل خلفا عن القدرة على الأداء بالبدن في جواز الأداء به بعد تقرر الوجوب.

 

ج / 4 ص -139-       فأما في ثبوت حكم الوجوب بسببه ففيه اختلاف العلماء فالمذهب عندنا أن المعضوب والمقعد والزمن لا يجب عليه الحج باعتبار ملك المال وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يجب وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وحجته في ذلك حديث الخثعمية حيث قالت إن فريضة الله الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة فقولها شيخا كبيرا نصب على الحال يعني لزمه الحج في هذه الحالة ولم ينكر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فدل أن الحج يجب على المعضوب والمقعد والزمن.
والمعنى فيه: أن شرط الوجوب التمكن من أداء الواجب بالمال فإذا جاز أداء الواجب بالمال عند العجز عن الأداء بالبدن عرفنا أن شرط الوجوب يتم به وإذا جاز بقاء الواجب بعد وقوع اليأس عن الأداء بالبدن يؤدى بالمال فكذلك يثبت الوجوب بالبدن ابتداء بهذه الصفة كالصوم في حق الشيخ الفاني يجب باعتبار بدله وهو الفدية وحجتنا في ذلك قوله تعالى:
{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران: 97] فإنما أوجب الله تعالى الحج على من يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى والزمن لا يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى فلا يتناوله هذا الخطاب.
ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشرط ما لا يوصله إلى البيت بقوله:
"من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى" وزاد المعضوب وراحلته لا يبلغانه بيت الله تعالى فصار وجوده كعدمه.
ولأن المقصود بهذه العبادة تعظيم البقعة بالزيارة والمال شرط ليتوسل به إلى هذا المقصود وما هو المقصود فائت في حق المعضوب ولا يعتبر وجود الشرط لأن الشرط تبع والتبع لا يقوم مقام الأصل في إثبات الحكم به ابتداء وإن كان يبقى الحكم بعد ثبوته باعتباره واعتبار الابتداء بالبقاء فاسد فإنه إذا افتقر بهلاك ماله بعد ما وجب الحج عليه يبقى واجبا ثم لا يجب ابتداء على الفقير وليس هذا نظير الفدية في حق الشيخ الفاني لأنه بدل عن أصل الصوم بالنص فيجوز أن يجب الأصل باعتبار البدل وهناك المال ليس ببدل عن أصل الحج ألا ترى أنه لا يتأدى بالمال وإنما يتأدى بمباشرة النائب بالحج عنه فإذا لم يكن المال بدلا عن أصل الحج لا يثبت الوجوب باعتباره.
والروايات اختلفت في الخثعمية ففي بعضها قالت هو شيخ كبير وهذا بيان أنه في الحال بهذه الصفة لا أنه في وقت الوجوب بهذه الصفة ثم مرادها أن تزول فريضة الحج عنه في حال كونه شيخا لا أنه وجب عليه.
ولظاهر هذا الحديث قال الشافعي رحمه الله تعالى المعضوب الذي لا مال له إذا بذل ولده له الطاعة ليحج عنه يلزمه فرض الحج وبطاعة غيره من القرابات لا يلزمه لأن الخثعمية لما بذلت الطاعة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج دينا على أبيها بقوله:
"فدين الله أحق" ولم يستفسر أنه غني أو فقير فدل أن بذل الولد الطاعة يلزمه الحج وهذا لأن الولد كسبه فيكون بمنزلة ماله.

 

ج / 4 ص -140-       فكما أن القدرة على الأداء بالمال تكفي للايجاب عنده فكذلك القدرة بمنفعة الابن الذي هو كسبه وهذا لأنه ليس للولد في هذه الطاعة كثير منه على أبيه بخلاف سائر القرابات فإن ذلك لا يخلو عن منة وحجتنا في ذلك أن الولد متبرع في بذل هذه الطاعة كغيره فلا يجوز أن يكون تبرعه موجبا للحج على الأب ألا ترى أن الابن لو بذل المال لأبيه لا يلزمه قبوله ولا يجب الحج باعتبار هذا البذل فكذلك ببذل الطاعة بل أولى لأن هناك لم يكن للابن أن يرجع بعد ذلك ليتمكن الأب من مكافأته إذا استفاد مالا وهنا للابن أن يرجع عما بذل من الطاعة فإذا لم يجب الحج على الوالد ببذل الولد المال فببذله الطاعة أولى.
وعلى الأصل الذي قلنا إن المعتبر استطاعة توصله إلى البيت يتضح الكلام في هذه المسألة وعلى هذا الأصل قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى الأعمى لا يلزمه الحج وإن وجد مالا وقائدا وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يلزمه ذلك وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى.
وجه قولهما: أن الأعمى متمكن من الأداء ببدنه ولكنه محتاج إلى قائد يهديه إلى ذلك فيكون بمنزلة الضال والذي ضل الطريق إذا وجد من يهديه إلى الطريق يلزمه الحج وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هو عاجز عن الوصول إلى البيت بنفسه فكان بمنزلة المعضوب وهذا لأن ملك المال إنما يعتبر إذا كان يوصله إلى البيت والمال هنا لا يوصله إليه وبذل القائد الطاعة غير معتبر فكان وجود ذلك كعدمه فلهذا لا يلزمه الحج.
وأما إذا مات الرجل فأوصى أن يحج عنه فعلى الوصي أن يحج بماله لأن بموته تحقق العجز عن الأداء بالبدن والوصي قائم مقامه فكما أنه بعد وقوع اليأس يحج بماله في حياته فكذا وصيه تقوم مقامه بعد موته والأولى أن يحجج الوصي بماله رجلا فإن حجج امرأة جاز مع الكراهة لأن حج المرأة أنقص لأنه ليس فيه رمل ولا سعي في بطن الوادي ولا رفع الصوت بالتلبية ولا الحلق فكان إحجاج الرجل عنه أكمل من إحجاج المرأة.
قال: وإن أحج بماله رجلا فجامع ذلك الرجل في إحرامه قبل الوقوف بعرفة فقد فسد حجه وهو ضامن للنفقة لأنه أمر بإنفاق المال في سفر يؤدي به حجا صحيحا فبالإفساد يصير مخالفا فيكون ضامنا للنفقة وعليه المضي في الفاسد والدم وقضاء الحج وبهذا استدل محمد رحمه الله تعالى أن أصل الحج يكون للحاج حتى إن القضاء عليه عند الإفساد دون المحجوج عنه فأما على ظاهر الرواية إذا وافق فالحج عن المحجوج عنه ألا ترى أنه لا بد له من أن ينوي عن المحجوج عنه ولكن إذا خالف خرج من أن يكون بأمر المحجوج عنه فكان واقعا عن نفسه فعليه موجبه كالوكيل بالشراء إذا وافق كان مشتريا لأمره ولو خالف كان مشتريا لنفسه.
قال: ولو قرن مع الحج عمرة كان مخالفا ضامنا للنفقة عند أبي حنيفة رحمه الله

 

ج / 4 ص -141-       تعالى وعندهما لا يصير مخالفا استحسانا لأنه أتى بالمأمور به وزاد عليه ما يجانسه فلا يصير به مخالفا كالوكيل بالبيع إذا باع بأكثر مما سمى له من جنسه.
توضيحه: أن القران أفضل من الإفراد فهو بالقران زاد للميت خيرا فلا يكون مخالفا.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هو مأمور بإنفاق المال في سفر مجرد للحج وسفره هذا ما تفرد للحج بل للحج والعمرة جميعا فكان مخالفا كما لو تمتع ولأن العمرة التي زادها لا تقع عن الميت لأنه لم يأمره بذلك ولا ولاية عليه للحاج في أداء النسك عنه إلا بقدر ما أمره ألا ترى أنه لو لم يأمره بشيء لم يجز أداؤه عنه فكذلك إذا لم يأمره بالعمرة.
فإذا لم تكن عمرته عن الميت صار كأنه نوى العمرة عن نفسه وهناك يصير مخالفا فكذا هنا إلا أنه ذكر بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه وإن نوى العمرة عن نفسه لا يصير مخالفا ولكن يرد من النفقة بقدر حصة العمرة التي أداها عن نفسه وذهب في ذلك إلى أنه مأمور بتحصيل الحج للميت بجميع النفقة فإذا ضم إليه عمرة نفسه فقد حصل الحج للميت ببعض النفقة وبهذا لا يكون مخالفا كالوكيل بشراء عبد بألف إذا اشتراه بخمسمائة ولكن هذا ليس بشيء فإنه مأمور بأن يجرد السفر للميت فإذا اعتمر لنفسه لم يجرد السفر للميت ثم الذي يحصل للميت ثواب النفقة فبقدر ما ينتقص به ينتقص من الثواب فكان هذا الخلاف ضررا عليه لا منفعة له.
ثم دم القران عندهما يكون على الحاج من مال نفسه وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان مأمورا بالقران من جهة الميت حتى لم يصر مخالفا لأن دم القران نسك وسائر المناسك عليه فكذلك هذا النسك ولأن لهذا الدم بدلا وهو الصوم ولو كان معسرا لم يشكل أن الصوم عليه دون المحجوج عنه فكذلك الهدي يكون عليه.
قال: وكذلك لو أمر بالعمرة عن الميت فقرن معها حجة فهو على الخلاف الذي ذكرنا إلا أن على قولهما نفقة ما بقي من الحج بعد أداء العمرة يكون على الحاج خاصة لأنه في ذلك عامل لنفسه لا للميت فلا يستوجب النفقة في مال الميت وبهذا الفصل يتضح كلام أبي حنيفة رحمه الله تعالى على ما بينا.
قال: وإذا كان أمر بالحج فبدأ واعتمر في أشهر الحج ثم حج من مكة كان مخالفا في قولهم جميعا لأنه مأمور بأن يحج عن الميت من الميقات والمتمتع يحج من جوف مكة فكان هذا غير ما أمر به ولأنه مأمور بالانفاق في سفر يعمل فيه للميت وإنما أنفق في سفر كان عاملا فيه لنفسه لأن سفره إنما كان للعمرة وهو في العمرة عامل لنفسه.
قال: وكل دم يلزم المجهز يعني الحاج عن الغير فهو عليه في ماله لأنه إن كان دم

 

ج / 4 ص -142-       نسك فإقامة المناسك عليه وإن كان دم كفارة فالجناية وجدت منه وإن كان دما وجب بترك واجب فهو الذي ترك ما كان واجبا عليه فلهذا كانت هذه الدماء عليه في ماله إلا دم الإحصار فإنه في مال المحجوج عنه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى هو على الحاج أيضا لأن وجوبه لتعجيل الإحلال فيكون قياس الدم الواجب بالجماع ولأنه في معنى دم القران لأنه مشروع للتحلل وهما احتجا وقالا دم الإحصار للخروج عن الإحرام وهو بمباشرة الإحرام كان عاملا للميت فكان الميت هو المدخل له في هذا حكما فعليه إخراجه كما بينا في العبد إذا أحرم بإذن مولاه ثم أحصر كان عليه إخراجه.
توضيحه أن دم الإحصار بمنزلة نفقة الرجوع ونفقة الرجوع في مال الميت وكان الحاج هو المنتفع به فكذلك دم الإحصار في ماله وإن كان الحاج هو المنتفع به ثم يرد ما بقي من المال على وصي الميت فيحج به إنسانا من حيث يبلغ ولا ضمان عليه فيما أنفق لأنه لم يكن مخالفا لأمر الميت فيما أنفق ألا ترى أنه لو مات في الطريق لم يضمن ما أنفق فكذلك إذا أحصر وقوله من حيث يبلغ يعني إذ كان ما بقي من المال لا يمكن أن يحج به من منزل الميت فيحج به من حيث يمكن وصار هذا كما لو لم يبلغ في الابتداء ثلث ماله إلا هذا القدر فيحج به بحسب الإمكان.
وأصل المسألة: أن من أوصى بأن يحج عنه بثلث ماله فإنما يحج من منزله لأنه لو خرج للحج بنفسه كان يخرج من منزله فكذلك يحج عنه بعد موته من منزله فإن كان ثلث ماله لا يكفي للحج من منزله يحج عنه من حيث يبلغ استحسانا وفي القياس تبطل هذه الوصية لأنه عجز الوصي عن تنفيذ ما أمر به وهو الحج من منزله فكان هذا بمنزلة ما إذا أوصي بأن يشتري نسمة بألف درهم فتعتق عنه وكان ثلث ماله دون الألف درهم تبطل الوصية.
وجه الاستحسان أن المقصود من الحج ابتغاء مرضاة الله تعالى ونيل الثواب فيكون بمنزلة الوصية بالصدقة وذلك ينفذ بحسب الإمكان بخلاف الوصية بالعتق فإن العبد إن كان معينا فالوصية تقع له وكذلك إن لم يكن معينا فإنما أوصى بعبد يساوي ألفا فلا يجوز تنفيذه بعبد يساوي خمسمائة فلو وجدوا من يحج عن الميت من منزله بذلك المال ماشيا لا يجوز لهم أن يحجوا من منزله وإنما يجوز من حيث يبلغ راكبا حتى قال محمد رحمه الله تعالى في النوادر راكب البعير في ذلك أفضل من راكب الحمار وهذا لأنه لا يلزمه أن يحج بنفسه ماشيا وإن وجد النفقة فكذلك لا يحج عنه ماشيا لأن الحاصل للميت ثواب النفقة على ما بينا.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال الخيار إلى الوصي إن شاء أحج عنه من حيث يبلغ راكبا وإن شاء من منزله ماشيا لأن في أحد الجانبين زيادة في المسافة

 

ج / 4 ص -143-       ونقصانا في النفقة وفي الجانب الآخر زيادة في النفقة ونقصان في المسافة وفي كل واحد منهما نيل الثواب فيختار الوصي أي الجانبين شاء.
فأما المحصر بعد ما تحلل فعليه قضاء الحج والعمرة بمنزلة ما لو كان أحرم عن نفسه فتحلل بالهدي وهذا شاهد لمحمد رحمه الله تعالى فإن المحصر غير مخالف ومع ذلك كان قضاء الحجة والعمرة عليه فدل أن أصل حجه عن نفسه وأن للميت ثواب النفقة فإن أمره رجلان كل واحد منهما بالحج فأهل بحجة عنهما كان ضامنا لهما جميعا لأن كل واحد منهما أمره بأن ينفق من ماله في سفر يخلص له وأن ينويه بعينه عند الإحرام وإذا لم يفعل صار مخالفا ولا يستطيع أن يجعل الحجة لواحد منهما لأنهما قد لزماه عن نفسه وهذا لأنه حين نواهما ولم يمكن تصحيح نيته عنهما لأن الحجة الواحدة لا تكون عن الاثنين وليس أحدهما بأولى من الآخر فبطلت نيته عنهما فبقيت نية أصل الإحرام فكان محرما عن نفسه فلا يستطيع أن يحوله إلى غيره من بعد.
وهذا بخلاف من أحرم عن أبويه كان له أن يجعله عن أيهما شاء لأنه متبرع وكان ذلك أمرا بينه وبين الله تعالى فلا يتحقق الخلاف في تركه تعيين أحدهما في الابتداء بل يجعل التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء وهنا هو غير متبرع فيما صنع وهذا أمر بينه وبين العباد فبترك التعيين في الابتداء يصير مخالفا.
وإن أمره أحدهما بالحج والآخر بالعمرة ولم يأمراه بالجمع فجمع بينهما كان مخالفا أيضا لأنه ما أتي بسفر خالص لواحد منهما فلم يكن مستوجبا للنفقة في مال واحد منهما وإن أمراه بالجمع جاز لأن كل واحد منهما صرح أن مقصوده تحصيل النسك لا خلوص السفر له وقد حصل مقصود كل واحد منهما ولا ضمان عليه فيما أنفق من مالهما وهدي المتعة عليه في ماله وكذلك إن أمره بالقران رجل واحد لأن الهدي نسك وسائر المناسك على الحاج فكذا هذا النسك.
قال: رجل استأجر رجلا ليحج عنه لم تجز الإجارة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى تجوز وأصل المسألة أن الاستئجار على الطاعات التي لا يجوز أداؤها من الكافر لا يجوز عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه كل ما لا يتعين على الأجير أداؤه يجوز الاستئجار عليه إذا كان تجزى فيه النيابة واستدل بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث رقى الملدوغ بفاتحة الكتاب فأعطي قطيعا من الغنم فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لمن أكل برقيه باطل:
"لقد أكلت برقيه حق" والرقية بهذه الصفة طاعة ثم جوز أخذ البدل عليه والمعنى فيه أن الحج تجزى فيه النيابة في الأداء ولا يتعين على الأجير إقامته فيجوز استئجاره عليه كبناء الرباط والمسجد.

 

ج / 4 ص -144-       وبهذا الوصف تبين أن عمل الأجير وقع للمستأجر والدليل عليه أنه استوجب النفقة في ماله عندكم وإنما يستوجب النفقة في ماله إذا عمل له والدليل عليه أنه إذا خالف لا يستوجب النفقة عليه وإذا وقع عمله له استحق الأجر عليه بخلاف من استؤجر على الإمامة فإن عمله في الصلاة يقع له لا لغيره وكذلك من استؤجر على الجهاد فإن المجاهد يؤدي الفرض لنفسه فلا يكون عمله لغيره وحجتنا في ذلك حديث مرداس السلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياك والخبز الرقاق" والشرط على كتاب الله وحديث أبي بن كعب رضي الله عنه حين علم سورة من القرآن فأعطى قوسا فقال صلى الله عليه وسلم: "أتحب أن يقوسك الله بقوس من النار؟" فقال: لا فقال صلوات الله عليه: "رد عليه قوسه".
وفي حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا". ولأن المباشر لعمل الطاعة عمله لله تعالى فلا يصير مسلما إلى المستأجر فلا يجب الأجر عليه بخلاف بناء الرباط والمسجد فالعمل هناك ليس بعبادة محضة بدليل أنه يصح من الكافر والدليل عليه أن المؤذن والمصلي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما كان يأخذ أجرا كما قال الله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}[الأنعام: 90] فكذلك الخليفة وأما حديث الرقية قلنا كان ذلك مالا أخذه من الحربي بطريق الغنيمة ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اضربوا لي فيها بسهم"، مع أن ذلك لم يكن مشروطا بعينه وعندنا ما ليس بمشروط يجوز أخذه. وإذا ثبت أن الاستئجار على الحج لا يجوز قلنا العقد الذي لا جواز له بحال يكون وجوده كعدمه وإذا سقط اعتبار العقد بقي أمره بالحج فيكون له نفقة مثله في ماله وهذه النفقة ليس يستحقها بطريق العوض ولكن يستحق كفايته لأنه فرغ نفسه لعمل ينتفع به المستأجر فيستحق الكفاية في ماله كالقاضي يستحق كفايته في بيت المال والعامل يستحق الكفاية في مال الصدقة والمرأة تستحق النفقة في مال الزوج لا بطريق العوض.
قال: ويجوز حجة الإسلام عن المحبوس إذا مات قبل أن يخرج لأنه قد تحقق اليأس عن الأداء بالبدن.
قال: والحاج عن غيره إن شاء قال لبيك عن فلان وإن شاء اكتفى بالنية بمنزلة الحاج عن نفسه إن شاء صرح بالحج عند الإحرام وإن شاء نوى واكتفى بالنية.
قال: وإن كان الميت أوصى بالقران فخرج المجهز يؤم البيت وساق هديا فقلده يكون محرما بهما جميعا لأن إحرامه عن غيره معتبر بإحرامه عن نفسه وقد بينا أن ذلك يحصل بسوق الهدي كما يحصل بالتلبية فكذلك إحرامه عن غيره وكذلك إن لم يكن الهدي لقرانه إنما هو من نذر كان عليه أو من جزاء صيد أو من جماع في إحرام قبل هذا أو

 

ج / 4 ص -145-       إحصار كان قبل هذا فساق معه لذلك هديا بدنة وقلدها فهو محرم على قياس ما لو نوى الإحرام عن نفسه فإنه يصير محرما بتقليد هذه الهدايا وسوقها فكذلك إذا نوى الإحرام عن غيره لأن هذه الهدايا عليه في ماله على كل حال.
قال: رجل أمره رجلان أن يحج عن كل واحد منهما فأهل بحجة عن أحدهما لا ينوي عن واحد منهما قال له أن يصرفه إلى أيهما شاء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى أرى ذلك عن نفسه وهو ضامن لنفقتهما وحجته في ذلك أنه مأمور من كل واحد منهما بتعيين النية له فإذا لم يفعل صار مخالفا كما إذا نوى عنهما جميعا بخلاف الحاج عن الأبوين فإنه غير مأمور به من جهتهما ألا ترى أنه يصح نيته عنهما فكذلك عن أحدهما بغير عينه وهذا لأن النية بمنزلة الركن في العبادات فإن قيمة العمل يكون بالنية فبتركه تعيين النية يكون مخالفا في حق كل واحد منهما وهما قالا الإبهام في الابتداء لا يمنع من انعقاد الإحرام صحيحا والتعيين في الانتهاء بمنزلة التعيين في الابتداء ألا ترى أنه لو أحرم لا ينوي حجة ولا عمرة بعينها كان له أن يعين في الانتهاء ويجعل ذلك كتعيينه في الابتداء وهذا لأن الإحرام بمنزلة الشرط لأداء النسك ألا ترى أنه يصح في غير وقت الأداء ولا يتصل به الأداء فتركه نية التعيين فيه لا يجعله مخالفا.
وإذا عين قبل الاشتغال بعمل الأداء كان ذلك كالتعيين في الابتداء حتى أنه لو اشتغل بالطواف قبل التعيين لم يكن له أن يعين بعد ذلك عن واحد منهما لأنه لما اشتغل بالعمل تعين إحرامه عن نفسه فإن أداء العمل مع إبهام النسك لا يكون وليس أحدهما بأولى من الآخر فتعين إحرامه عن نفسه فلا يملك أن يجعله لغيره بعد ذلك.
قال: وإذا أهل الرجل عن نفسه وعن ولده الصغير الذي معه ثم أصاب صيدا فعليه دم واحد ولا يجب عليه من جهة إهلاله عن ابنه شيء لأن عبارته في إهلاله عن ابنه كعبارة ابنه أن لو كان من أهله فيصير الابن محرما بهذا لا أن يصير الأب محرما عنه بقي للأب إحرام واحد فعليه جزاء واحد بخلاف القارن فهو محرم عن نفسه بإحرامين فكان عليه جزآن.
قال: وإذا أم الرجل البيت فأغمي عليه فأهل عنه أصحابه بالحج ووقفوا به في المواقف وقضوا له النسك كله قال يجزيه ذلك عن حجة الإسلام في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يجزيه والقياس قولهما لأنه لم يأمر أصحابه بالإحرام عنه وليس للأصحاب عليه ولاية فلا يصير هو محرما بإحرامهم عنه لأن عقد الإحرام عقد لازم وإلزام العقد على الغير لا يكون إلا بولاية ولأن الإحرام لا ينعقد إلا بالنية وقد انعدمت النية من المغمى عليه حقيقة وحكما لأن نية الغير عنه بدون أمره لا تقوم مقام نيته والدليل عليه أن سائر المناسك لا تتأدى بأداء الأصحاب عنه فكذلك الإحرام.

 

ج / 4 ص -146-       وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو أنه لما عاقدهم عقد الرفقة فقد استعان بهم في كل ما يعجز عن مباشرته بنفسه والإذن دلالة بمنزلة الإذن إفصاحا كما في شرب ماء السقاية وكمن نصب القدر على الكانون وجعل فيه اللحم وأوقد النار تحته فجاء إنسان وطبخه لم يكن ضامنا لوجود الإذن دلالة وإذا ثبت الإذن قامت نيتهم مقام نيته كما لو كان أمرهم بذلك نصا.
وأما سائر المناسك فالأصح أن نياتهم عنه في أدائها صحيح إلا أن الأولى أن يقفوا به وأن يطوفوا به ليكون أقرب إلى أدائه لو كان مفيقا ولو أدوا عنه جاز ومن أصحابنا من فرق فقال الإحرام بمنزلة الشرط فتجزى النيابة في الشروط وإن كان لا تجزى في الأعمال ألا ترى أن المحدث إذا غسل أعضاءه غيره كان له أن يصلي بتلك الطهارة وإن كانت النيابة لا تجزى في أعمال الصلاة.
توضيحه أن النيابة عند تحقق العجز ففي أصل الإحرام تحقق عجزه عنه بسبب الإغماء فينوب عنه أصحابه فأما في أداء الأعمال لم يتحقق العجز لأنهم إذا أحضروه المواقف كان هو الواقف وإذا طافوا به كان هو الطائف بمنزلة من طاف راكبا لعذر.
قال: فإن أصاب الذي أهل عن المغمى عليه صيدا فعليه الجزاء من قبل إهلاله عن نفسه إن كان محرما وليس عليه من جهة إهلاله عن المغمى عليه شيء لما بينا أن بهذا الإهلال يصير المغمى عليه محرما كما لو كان أمره به إفصاحا فأما المهل بهذا الإهلال لا يصير محرما فلا يلزمه الجزاء باعتبار إحرامه.
قال: وإذا حج الرجل عن أبيه أو عن أمه حجة الإسلام من غير وصية أوصى بها الميت أجزأه إن شاء الله تعالى.
قال: بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخثعمية:
"أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أما كان يقبل منك؟" فقالت: نعم فقال صلوات الله عليه: "الله أحق أن يقبل". وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم للتي سألته أن تحج عن أبيها: "حجي واعتمري". وأن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال يا رسول الله إن أمي قد توفيت وإنها كانت تحب الصدقة أفأ تصدق عنها؟ فقال: "نعم" فهذه الآثار تدل على أن الوارث يتبرع على مورثه بمثل هذه القرب.
فإن قيل: فلماذا قيد الجواب بالاستثناء بعد ما صح الحديث فيه؟
قلنا: لأن خبر الواحد لا يوجب علم اليقين.
فإن قيل: فقد أطلق الجواب في كثير من الأحكام الثابتة بخبر الواحد.
قلنا: خبر الواحد موجب للعمل ففيما طريقه العمل أطلق الجواب فيه فأما سقوط

 

ج / 4 ص -147-       حجة الإسلام عن الميت بأداء الورثة طريقه العلم فإنه أمر بينه وبين ربه تعالى فلهذا قيد الجواب بالاستثناء.
قال: رجل أوصى بحجة فأحج الوصي عنه رجلا فهلكت النفقة من ذلك الرجل قال يحج عنه حجة أخرى من ثلث ما بقي من المال وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن بقي من ثلث مال الميت ما يمكن أن يحج به يحج عنه ثانيا وإلا فقد بطلت الوصية وعند محمد رحمه الله تعالى الوصية تبطل لأن الوصي قائم مقام الموصي في تعيين المال ولو عين الموصي مالا فهلك بطلت الوصية فكذلك إذا عين الوصي وأبو يوسف يقول محل الوصية الثلث فتعيين الوصي الثلث صحيح لأن به يتميز الثلث للوصية فأما تعيينه في الثلث غير صحيح لأن جميع الثلث محل الوصية فما بقي شيء يجب تنفيذ الوصية فيه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول تعيين المال ليس بمقصود وإنما المقصود به الحج عن
الميت فإذا لم يفد هذا التعيين ما هو المقصود صار كأن التعيين لم يوجد وما هلك من المال صار كأن لم يكن فلهذا يحج عنه بثلث ما بقي.
قال: وإن أوصى بحجة وعتق نسمة والثلث لا يسعهما يبدأ بالذي بدأ به الميت لأن البداية تدل على زيادة العناية وقد ثبت وجوب تنفيذ الوصية الأولى قبل ذكر الثانية فلا يتغير ذلك بذكر الوصية الثانية إذ ليس في آخر كلامه ما يغير موجب أوله إلا أن يكون الحج حجة الإسلام فحينئذ يبدأ بها وإن أخره الميت لأن الترجيح بالبداية بعد المساواة في القوة ولا مساواة بين الفرض والنفل في القوة ولأن الظاهر أن الموصي يقصد تقديم الفرض في الأداء وإن أخره في الذكر لأن إسقاط الفرض عن ذمته يترجح عنده على التبرع بما ليس عليه.
قال: وإن أوصى بأن يحج عنه بثلثه ولم يقل حجة حج عنه بجميع الثلث لأنه جعل الثلث مصروفا إلى هذا النوع من القربة فيجب تحصيل مقصوده في جميع الثلث كما لو أوصى أن يفعل بثلثه طاعة أخرى.
قال: وإن أوصى أن يحج عنه رجل حجة فأحجوه فلما قدم فضل معه كسوة ونفقة فإن ذلك لورثة الميت لأن الحاج عن الغير لا يتملك المال المدفوع إليه فإن التمليك يكون بطريق الاستئجار وقد بينا بطلان الاستئجار على الطاعة وإنما ينفق المال على ملك الموصي بطريق الإباحة لاستحقاقه الكفاية حين فرغ نفسه ليعمل له فما فضل من ذلك يكون باقيا على ملك الميت فيرد على ورثته.
قال: وإذا أوصى لرجل فقال: أحجوا فلانا حجة ولم يقل عني ولم يسم كم يعطي فإنه يعطي بقدر ما يحجه حجة وله أن لا يحج به إذا أخذه بل يصرفه إلى حاجة أخرى لأنه ما أمره بالحج عنه إنما جعل ذلك الحج عيارا لما أوصى له به من المال ثم أشار عليه بأن

 

ج / 4 ص -148-       يحج بذلك المال عن نفسه فكانت وصية صحيحة يجب تنفيذها بالدفع إليه ومشورته غير ملزمة فإن شاء حج به وإن شاء لم يحج.
قال: وإذا أوصى أن يحج عنه رجل بعينه أو بغير عينه وأوصى بوصايا لأناس بأكثر من الثلث قسم الثلث بينهم بالحصص يضرب للحج فيه بأدنى ما يكون من نفقة الحج لأن الوصية بالحج وجب تنفيذها له بنفقة الموصي ووجب تنفيذ سائر الوصايا حقا للموصى لهم فعند اختلاف الحقوق تجري المزاحمة بينهم في الثلث لمراعاة حق كل مستحق بخلاف ما ذكرنا من الحج والعتق لأن تنفيذ الوصيتين هناك لحق الموصي فلهذا كانت البداية بما بدأ به الميت.
ثم ما خص الحج من الثلث هنا يحج به من حيث يبلغ لأنه هو الممكن من تحصيل مقصود الموصي بمنزلة ما لو لم يكن ثلث ماله إلا هذا وأوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من حيث يبلغ فإن أحجوا به من موضع فرجع الحاج بفضل نفقة وكسوة فقد تبين أنهم أخطأوا فكان الوصي ضامنا لما أنفقه فيضم ذلك إلى ما بقي ويحج به عن الميت من حيث يبلغ إلا إذا كان الفاضل شيئا يسيرا فحينئذ هذا والأول سواء في القياس ولكن في الاستحسان تجزى الحجة عن الميت ولا يكون الوصي ضامنا لأن اليسير من التفاوت لا يمكن الاحتراز عنه فلا بد من أن يبقى بعد رجوعه كسرة أو جراب خلق أو ثوب خلق فلهذا جعل هذا القدر عفوا ولكن يرد على الورثة أو على الموصى له إن كان هناك موصى له بالثلث.
قال: وإذا أهلت المرأة بحجة الإسلام لم يكن لزوجها أن يمنعها إذا كان معها محرم وإن لم يكن معها محرم كان له أن يمنعها وهي بمنزلة الحرة المحصرة وقد بينا فيما تقدم أن من شرائط وجوب الحج عليها في حقها المحرم عندنا ثم يشترط أن تملك قدر نفقة المحرم لأن المحرم إذا كان يخرج معها فنفقته في مالها إلا في رواية عن محمد رحمه الله تعالى يقول نفقة المحرم في ماله لأنه غير مجبر على الخروج فإذا تبرع به لم يستوجب بتبرعه النفقة عليها ولكن في ظاهر الرواية هي لا تتوسل إلى الحج إلا بنفقة المحرم كما لا تتوسل إلا بنفقتها فكما يشترط لوجوب الحج عليها ملك الزاد والراحلة ويجعل ذلك شرطا لنفسها فكذلك للمحرم الذي يخرج معها يجعل ذلك شرطا وقد بينا شرائط الوجوب فيما سبق ولم يتعرض في شيء من المواضع لا من الطريق.
واختلف مشايخنا أن أمن الطريق شرط للوجوب أم شرط للأداء وكان بن أبي شجاع رحمه الله تعالى يقول هو شرط الوجوب لأن بدونه يتعذر الوصول إلى البيت إلا بمشقة عظيمة فيكون شرط الوجوب كالزاد والراحلة وكان أبو حازم رحمه الله تعالى يقول هو شرط الأداء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الاستطاعة فسرها بالزاد والراحلة ولا تجوز الزيادة في شرط وجوب العبادة بالرأي ولم يكن الطريق في وقت أخوف مما كان يومئذ لغلبة أهل

 

ج / 4 ص -149-       الشرك في ذلك الموضع ولم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن الطريق فدل أن ذلك ليس من شرائط الوجوب إنما شرط الوجوب ملك الزاد والراحلة للذهاب والمجيء وملك نفقة من تلزمه نفقته من العيال كالزوجة والولد الصغير وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى مع ذلك زيادة نفقة شهر لأن الظاهر أنه إذا رجع لا يشتغل بالكسب إلا بعد مدة فاستحسن اشتراط ملك نفقة شهر بعد رجوعه.
ثم بعد استجماع شرائط الوجوب يجب على الفور حتى يأثم بالتأخير عند أبي يوسف رواه عنه بشر بن المعلى وهكذا ذكره بن شجاع عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال سئل عمن له مال أيحج به أم يتزوج قال بل يحج به فذلك دليل على أن الوجوب عنده على الفور وعن محمد رحمه الله تعالى يسعه التأخير بشرط أن لا يفوته بالموت فإن أخر حتى مات فهو آثم بالتأخير وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يأثم بالتأخير وإن مات.
واستدل محمد بتأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج بعد نزول فرضيته فإنها نزلت فرضية الحج في سنة ست من الهجرة وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة عشر.
والمعنى فيه: أن الحج فرض العمر فكان جميع العمر وقت أدائه ولا يستغرق جميع العمر أداؤه فصار جميع الوقت في حق الحج كجميع وقت الصلاة في حق الصلاة وهناك التأخير يسعه بشرط أن لا يفوته عن وقته ودليل صحة هذا الكلام أنه إذا أخره كان مؤديا لا قاضيا فدل أن جميع العمر وقت أدائه.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى استدلا بقوله صلى الله عليه وسلم:
"من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى ولم يحج عليه فلا أن يموت يهوديا أو نصرانيا" الحديث. وقال عمر رضي الله عنه لقد هممت أن أنظر إلى من ملك الزاد والراحلة ولم يحج فأحرق عليهم بيوتهم والله ما أراهم مسلمين قالها ثلاثا.
والمعنى فيه: أن السنة الأولى بعد ما تمت الاستطاعة متعينة لأداء الحج بعد دخول وقت الحج فالتأخير عنه يكون تفويتا كتأخير الصوم عن شهر رمضان وتأخير الصلاة عن وقتها.
بيانه: وهو أن يمضي هذا الوقت يعجز عن الأداء بيقين وقدرته على الأداء بمجيء أشهر الحج من السنة الثانية موهوم فربما لا يعيش إليها وبالموهوم لا تثبت القدرة فبقي مضي هذا الوقت تفويتا له.
توضيحه: أن وقت أداء أشهر الحج من عمره لا من جميع الدنيا وهذه السنة متعينة لذلك لأن عدم التعيين لاعتبار المعارضة ولا تتحقق المعارضة إلا أن يتيقن بحياته إلى السنة الثانية ولا طريق لأحد إلى معرفة ذلك ولهذا قلنا لو أخره كان مؤديا لأنه لما بقي إلى

 

ج / 4 ص -150-       السنة الثانية تحققت المعارضة فخرجت السنة الأولى من أن تكون متعينة وكانت هذه السنة في حقه تعد لما أدركها بمنزلة السنة الأولى.
فأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم فقد منع ذلك بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى فقالوا نزول فريضة الحج بقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}[آل عمران: 97] وإنما نزلت هذه الآية في سنة عشر فأما النازل سنة ست فقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196] وهذا أمر بالإتمام لمن شرع فيه فلا يثبت به ابتداء الفرضية مع أن التأخير إنما لا يحل لما فيه من التعريض للفوت ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمن من ذلك لأنه مبعوث لبيان الأحكام للناس والحج من أركان الدين فأمن أن يموت قبل أن يبينه للناس بفعله.
ولأن تأخيره كان لعذر وذلك أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويلبون تلبية فيها شرك وما كان التغيير ممكنا للعهد حتى إذا تمت المدة بعث عليا رضي الله تعالى عنه حتى قرأ عليهم سورة براءة ونادى أن لا يطوفن بهذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان ثم حج بنفسه ومن ذلك أنه كان لا يستطيع الخروج وحده بل يحتاج إلى أصحاب يكونون معه ولم يكن متمكنا من تحصيل كفاية كل واحد منهم ليخرجوا معه فلهذا أخره أو كان للنسيء الذي كان يفعله أهل الجاهلية وقد بينا هذه الأعذار في الخلافيات.
قال: وإن أهلت المرأة بغير حجة الإسلام فللزوج أن يمنعها من الخروج إن كان لها محرم أو لم يكن لأنها ممنوعة عن التطوع بغير إذن الزوج قال صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة:
"لا تصومي تطوعا إلا بإذن زوجك". ولأنا لو مكناها من ذلك فوتت على الزوج حقه أصلا لأنها كما خرجت عن حجة أحرمت بأخرى وهي لا تملك تفويت حق الزوج عليه فلهذا كان له أن يمنعها وهي بمنزلة المحصرة إلا أن للزوج أن يحللها هنا قبل أن تبعث بالهدى ليوفر حقه عليه بخلاف ما إذا عدمت المحرم في حجة الإسلام وقد بينا هذا فيما سبق وكذلك المملوك إذا أهل بغير إذن المالك.
قال: وإذا أذن لعبده أو لأمته في الإحرام كرهت له أن يمنعه بعد ذلك ولو حلله جاز بخلاف الزوج وقد تقدم بيان هذا الفرق أيضا إعادة للفرق وهو أنه لما باع المملوك بعد الإذن له فللمشتري أن يحلله بغير كراهة عندنا لأن الكراهة في حق البائع كان لمعنى خلف الوعد وذلك غير موجود في حق المشتري وعلى قول زفر رحمه الله تعالى ليس للمشتري أن يحلله ويكون له أن يرده عليه بعيب الإحرام وجعله بمنزلة النكاح إذا زوج أمته ثم باعها لم يكن للمشتري أن يبطل ذلك النكاح لأنه سبق ملكه ولكن يجوز له أن يردها إذا لم يكن عالما به فكذلك هنا ولكنا نقول المشتري في ملك الرقبة قائم مقام البائع ولم يكن للبائع ولاية إبطال النكاح بعد صحته فلا يكون ذلك للمشتري أيضا وقد كان للبائع

 

ج / 4 ص -151-       ولاية التحليل من الإحرام قبل أن يبيعه فيكون ذلك للمشتري أيضا وإذا ثبت له ولاية التحليل لم يكن ذلك عيبا لازما.
توضيحه: أن النكاح حق العباد فيكون معارضا لحق المشتري فيترجح عليه بالسبق فأما الإحرام لزومه ليس لحق العباد وحق العبد في المحل مقدم على حق الله تعالى فلهذا كان للمشتري أن يحلله.
وعلى هذا الخلاف إذا أحرمت المرأة ثم تزوجت كان للزوج أن يحللها إذا أحرمت بغير حجة الإسلام عندنا وعند زفر ليس له ذلك وإن أحرمت المرأة بحجة التطوع بغير إذن زوجها فحللها ثم جامعها ثم بدا له أن يأذن لها في عامه ذلك فعليها أن تحج بإحرام مستقبل وعليها دم لأنها قد تحللت من الإحرام الأول بإحلال الزوج قبل أداء الأعمال فعليها الدم وقضاء الحج وليس عليها قضاء العمرة عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليها ذلك بمنزلة ما لو أذن لها بعد تحول السنة وهذا لأن بالتحلل الأول وجب عليها قضاء حجة وعمرة كما هو الحكم في المحصر وصار ذلك دينا في ذمتها فلا فرق بين أن يأذن لها في عامه ذلك أو في عام آخر وحجتنا في ذلك أن وجوب العمرة على المحصر باعتبار فوت أداء الحج في هذه السنة بالقياس على فائت الحج فإن فائت الحج يلزمه أداء العمرة فإذا أذن لها فحجت في هذه السنة لم يتحقق سبب وجوب العمرة عليها فأما بعد تحول السنة فقد تحقق سبب وجوب العمرة عليها وهو فوات أداء الحج في السنة الأولى فلهذا فرقنا بينهما والله أعلم بالصواب.

باب المواقيت
قال: بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام جحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم ولأهل العراق ذات عرق وهذا الحديث مروي عن عائشة رضي الله عنها فأما بن عباس روى الحديث وذكر المواقيت الأربعة ولم يذكر ذات عرق لأهل العراق وبن عمر رضي الله عنه روى الحديث وذكر المواقيت الثلاث ولم يذكر ذات عرق ولا يلملم.
وفي هذه الآثار دليل على أن كل من وصل إلى شيء من هذه المواقيت وهو يريد دخول مكة يلزمه الإحرام لأن توقيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو عن فائدة ولا فائدة في هذه المواقيت سوى المنع من تأخير الإحرام بعد ما انتهى إلى هذه المواقيت فإن قبل ذلك كان يسعه التأخير بالاتفاق.
والشافعي رحمه الله تعالى لظاهر الحديث يقول: الأفضل أن يكون إحرامه عند الميقات وعلماؤنا رحمهم الله تعالى قالوا التأقيت لبيان أنه لا يسعه التأخير عنه فأما الأفضل أن يحرم قبل أن ينتهي إلى المواقيت لحديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن

 

ج / 4 ص -152-       النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفرت له ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر ووجبت له الجنة" وقال علي وبن مسعود رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196] أن إتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله.
قال وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من وقتنا له وقتا فهو له وقت ولمن مر به من غير أهله ممن أراد الحج والعمرة" ففي هذا دليل أن كل من ينتهي إلى الميقات على قصد دخول مكة أن عليه أن يحرم من ذلك الميقات سواء كان من أهل ذلك الميقات أو لم يكن ألا ترى أن من دخل مكة من أهل الآفاق حلالا فأراد أن يحرم بالحج كان ميقاته للإحرام ميقات أهل مكة؟ فكذا هنا.
ثم أخذ الشافعي رحمه الله تعالى بظاهر هذا الحديث فقال إنما يجب الإحرام عند الميقات على من أراد دخول مكة للحج أو العمرة وأما من أراد دخولها لقتال فليس عليه الإحرام عنده قولا واحدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها يوم الفتح بغير إحرام وإن أراد دخولها للتجارة أو طلب غريم له فله فيه قولان:
في أحد قوليه: لا يلزمه الإحرام لأن الإحرام غير مقصود لعينه بل لأداء النسك به وهذا الرجل غير قاصد أداء النسك فكان الحرم في حقه كسائر البقاع فكان له أن يدخلها بغير إحرام.
 فأما عندنا ليس لأحد ينتهي إلى الميقات إذا أراد دخول مكة أن يجاوزها إلا بإحرام سواء كان من قصده الحج أو القتال أو التجارة لحديث بن شريح الخزاعي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح:
"إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة". فقد ترخص للقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما أحلت لي ساعة" فلا تحل لأحد بعده فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بدخول مكة للقتال بغير إحرام وإنما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه.
وجاء رجل إلى بن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: إني جاوزت الميقات من غير إحرام فقال: ارجع إلى الميقات ولب وإلا فلا حج لك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا يجاوز الميقات أحد إلا محرما" ولأن وجوب الإحرام على من يريد الحج والعمرة عند دخول مكة لإظهار شرف تلك البقعة وفي هذا المعنى من يريد النسك ومن لا يريد النسك سواء فليس لأحد ممن يريد دخول مكة أن يجاوز الميقات إلا محرما فأما من كان وراء الميقات إلى مكة فله أن يدخلها لحاجته بغير إحرام عندنا.
وفي أحد قولي الشافعي، رحمه الله تعالى: ليس له ذلك فإنه لا يفرق على أحد

 

ج / 4 ص -153-       القولين بين أهل الميقات وأهل الآفاق في أنه لا يدخل أحد منهم مكة إلا محرما وحجتنا في ذلك حديث بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحطابين أن يدخلوا مكة بغير إحرام والظاهر أنهم لا يجاوزون الميقات فدل أن كل من كان داخل الميقات له أن يدخل مكة بغير إحرام.
وابن عمر رضي الله عنه خرج من مكة يريد المدينة فلما انتهى إلى قديد بلغته فتنة بالمدينة فرجع إلى مكة ودخلها بغير إحرام وكان المعنى فيه أن من كان داخل الميقات فهو بمنزلة أهل مكة لأنه محتاج إلى الدخول في كل وقت ولأن مصالحهم متعلقة بأهل مكة ومصالح أهل مكة متعلقة بهم فكما يجوز لأهل مكة أن يخرجوا لحوائجهم ثم يدخلوها بغير إحرام فكذا لأهل الميقات وهذا لأنا لو ألزمناهم الإحرام في كل وقت كان عليهم من الضرر ما لا يخفى فربما يحتاجون إليه في كل يوم فلهذا جوزنا لهم الدخول بغير إحرام إلا إذا أرادوا النسك فالنسك لا يتأدى إلا بإحرام وإرادة النسك لا تكون عند كل دخول.
وإذا أراد الإحرام وأهله في الوقت أو دون الوقت إلى مكة فوقته من أهله حتى لو أحرموا من الحرم أجزأهم وليس عليهم شيء لأن خارج الحرم كله بمنزلة مكان واحد في حقه والحرم حد في حقه بمنزلة الميقات في حق أهل الآفاق.
وكما أن ميقات الآفاقي للإحرام من دويرة أهله ويسعه التأخير إلى الميقات فكذا هنا يسعه التأخير إلى الحرم ولكن الشرط هناك أن لا يجاوز الميقات إلا محرما والشرط هنا أن لا يدخل الحرم إلا محرما لأن تعظيم الحرم بهذا يحصل.
فإن دخل مكة قبل أن يحرم فأحرم منها فعليه أن يخرج من الحرم فيلبي فإن لم يفعل حتى يطوف بالبيت فعليه دم لأنه ترك الميقات المعهود في حقه للإحرام فهو بمنزلة الآفاقي يجاوز الميقات بغير إحرام ثم يحرم وراء الميقات وهناك يلزمه الدم إذا لم يعد لتأخير الإحرام عن مكانه فكذلك هنا يلزمه الدم إذا لم يعد إلى الحل وإن عاد فالخلاف فيه مثل الخلاف في الآفاقي إذا عاد إلى الميقات بعد ما أحرم وراء الميقات على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال: وإن أراد الكوفي بستان بني عامر لحاجة فله أن يجاوز الميقات غير محرم لأن وجوب الإحرام عند الميقات على من يريد دخول مكة وهذا لا يريد دخول مكة إنما يريد البستان وليس في تلك البقعة ما يوجب التعظيم لها فلهذا لا يلزمه الإحرام فإذا حصل بالبستان ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة له كان له أن يدخلها بغير إحرام لأنه لما حصل بالبستان حلالا كان مثل أهل البستان ولأهل البستان أن يدخلوا مكة لحوائجهم من غير إحرام فكذلك هذا الرجل وهذا هو الحيلة لمن يريد دخول مكة من أهل الآفاق بغير إحرام.

 

ج / 4 ص -154-       إلا أنه روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إن نوى الإقامة بالبستان خمسة عشر يوما كان له أن يدخل وإن نوى الإقامة بالبستان دون خمسة عشر يوما ليس له أن يدخل مكة إلا بإحرام لأن بنية الإقامة خمسة عشر يوما يصير متوطنا بالبستان فيصير بمنزلة أهل البستان وإن نوى المقام بها دون خمسة عشر يوما فهو ماض على سفره فلا يدخل مكة إلا بإحرام.
وجه ظاهر الرواية وهو أنه حصل بالبستان قبل قصده دخول مكة فإنما قصد دخول مكة بعد ما حصل بالبستان فكان حاله كحال أهل البستان.
قال: وليس للرجل من أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة أن يقرن أو أن يتمتع وهم في ذلك بمنزلة أهل مكة أما المكي فلأنه ليس له أن يتمتع بالنص لأن الله تعالى قال في ذلك:
{لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة: 196].
واختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حاضري المسجد الحرام فقال مالك رحمه الله تعالى هم أهل مكة خاصة وقال الشافعي رحمه الله تعالى هم أهل مكة ومن يكون منزله من مكة على مسيرة لا يجوز فيها قصر الصلاة وقلنا أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة من حاضري المسجد الحرام بمنزلة أهل مكة بدليل أنه يجوز لهم دخول مكة بغير إحرام فلا يكون لهم أن يتمتعوا.
وكما لا يتمتع من هو من حاضر المسجد الحرام فكذلك لا يقرن بين الحج والعمرة وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز له القران من قبل أن القارن على قوله يترفه بإدخال عمل أحد النسكين في الآخر والمكي في هذا وغيره سواء وعندنا معنى الترفه بالقران والتمتع في أداء النسكين في سفر واحد لا في إدخال عمل أحدهما في الآخر ومن كان من حاضري المسجد الحرام فهو غير محتاج إلى السفر لأداء النسك ولا يلحقه بالسفر كثير مشقة فكما لا يكون له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج فكذلك لا يكون له أن يقرن بينهما عندنا.
إلا أن المكي إذا كان بالكوفة فلما انتهى إلى الميقات قرن بين الحج والعمرة فأحرم لهما صح ويلزمه دم القران لأن صفة القارن أن تكون حجته وعمرته متقارنتين يحرم بهما جميعا معا وقد وجد هذا في حق المكي ولو اعتمر هذا المكي في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك لا يكون متمتعا لأن الآفاقي إنما يكون متمتعا إذا لم يلم بأهله بين النسكين إلماما صحيحا والمكي هنا يلم بأهله بين النسكين حلالا إن لم يسق الهدي وكذلك إن ساق الهدي لا يكون متمتعا بخلاف الآفاقي إذا ساق الهدي ثم ألم بأهله محرما كان متمتعا لأن العود هناك مستحق عليه فيمنع ذلك صحة إلمامه بأهله وهنا العود غير مستحق عليه وإن ساق الهدي فكان إلمامه بأهله صحيحا فلهذا لم يكن متمتعا.

 

ج / 4 ص -155-       وعلى هذا روى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن المكي إذا خرج إلى الكوفة ثم مات وأوصى بأن يحج عنه من منزله وهو بمكة بمنزلة الآفاقي يخرج مسافرا فيوصي بأن يحج عنه ولو أوصى هذا المكي بأن يقرن عنه من الكوفة لأن القران لا يكون من مكة فعرفنا أن مراده أن يقرن عنه من حيث هو.
قال: والمكي إذا خرج من مكة لحاجة له فلم يجاوز الوقت فله أن يدخل مكة بغير إحرام وإن جاوز لم يكن له أن يدخل مكة إلا بإحرام لما بينا أن من قصد إلى موضع فحاله في حكم الإحرام كحال أهل ذلك الموضع.
قال: ووقت أهل مكة للإحرام بالحج الحرم وكذلك كل من حصل بمكة حلالا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه رضي الله تعالى عنهم بفسخ إحرام الحج والإحرام بالعمرة فحلوا منها فلما كان يوم التروية أمرهم بأن يحرموا بالحج من جوف مكة.
قال: وميقات إحرام أهل مكة للعمرة التنعيم أو غيره من الحل لأن موضع الإحرام غير موضع أداء النسك وأداء الحج يكون بالوقوف وهو في الحل فالإحرام به يكون في الحرم وأداء نسك العمرة بالطواف وهو في الحرم فالإحرام بها يكون في الحل.
قال: كوفي جاوز الميقات نحو مكة ثم أحرم بالحج ووقف بعرفة جاز حجه وعليه دم لترك الوقت لأنه لما انتهى إلى الميقات وجب عليه الإحرام بالحج من الميقات لما روي عن بن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا يجاوز الميقات أحد إلا محرما فإذا جاوزه حلالا فقد ارتكب المنهي وأخر الإحرام عن الميقات"، فتمكن نقصان في حجه ونقصان الحج يجبر بالدم فإن رجع إلى الميقات ولبى إن رجع قبل أن يحرم وأحرم بالحج من الميقات فلا شيء عليه بالاتفاق لأنه تلافي المتروك في وقته ومكانه فصار في الحكم كأنه لم يجاوز الميقات إلا محرما فإن الواجب عليه أداء الحج بإحرام يباشره من الميقات وقد أتى بذلك.
وإن كان أحرم بعد ما جاوز الميقات ثم عاد إلى الميقات فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن لبى عند الميقات يسقط عنه الدم وإن لم يلب لم يسقط عنه الدم وعندهما يسقط عنه الدم في الحالين جميعا وعند زفر رحمه الله تعالى لا يسقط عنه الدم في الوجهين لأن المستحق عليه إنشاء الإحرام بالحج من الميقات فإذا أحرم بعد ما جاوز الميقات فقد ترك ما هو المستحق عليه فلزمه الدم كما لو لم يعد وهذا لأن الواجب عليه إنشاء تلبية واجبة عند الميقات ووجوب التلبية عند الإحرام لا بعده فهو وإن لبى عند الميقات فإنما أتى بتلبية غير واجبة فلا يصير به متداركا لما فاته بخلاف ما إذا عاد فأحرم من الميقات.
وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان الواجب عليه أن يكون محرما عند

 

ج / 4 ص -156-       الميقات لا أن ينشئ الإحرام عند الميقات ألا ترى أنه لو أحرم قبل أن ينتهي إلى الميقات ثم مر بالميقات محرما ولم يلب عند الميقات لا يلزمه شيء وكذلك إذا عاد إلى الميقات بعد ما أحرم ولم يلب فقد تدارك ما هو واجب عليه وهو كونه محرما عند الميقات واستدل أبو حنيفة رحمه الله تعالى بقول بن عباس رضي الله عنهما أنه قال لذلك الرجل ارجع إلى الميقات وإلا فلا حج لك والمعنى فيه أنه لما انتهى إلى الميقات حلالا وجب عليه التلبية عند الميقات والإحرام فإذا ترك ذلك بالمجاوزة حتى أحرم وراء الميقات ثم عاد فإن لبى فقد أتى بجميع ما هو المستحق عليه فيسقط عنه الدم وإن لم يلب فلم يأت بجميع ما استحق عليه وهذا بخلاف من أحرم قبل أن ينتهي إلى الميقات لأن ميقاته هناك موضع إحرامه وقد لبى عنده فقد خرج الميقات المعهود من أن يكون ميقاتا للإحرام في حقه فلهذا لا يضره ترك التلبية عنده بخلاف ما نحن فيه على ما بينا.
قال: فإن قرن هذا الكوفي بعد ما جاوز الميقات فأحرم بالحج والعمرة ولم يرجع إلى الميقات فعليه دم واحد عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليه دمان لأنه أخر الإحرامين جميعا عن الميقات فيلزمه لكل إحرام دم ألا ترى أن القارن إذا ارتكب سائر المحظورات يجب عليه ضعف ما يجب على المفرد فكذلك إذا أحرم وراء الميقات وعلماؤنا قالوا المستحق عليه عند الميقات إحرام واحد ألا ترى أنه لو أحرم بالعمرة عند الميقات ثم أحرم بالحج بعد ما جاوز الميقات كان جائزا ولا شيء عليه فعرفنا أن المستحق عليه عند الميقات إحرام واحد فيجب عليه بتأخير ذلك الإحرام دم واحد بخلاف سائر المحظورات فإنه صار بجنايته مرتكبا محظور إحرامين، فكان عليه جزآن.
وكذلك إن أهل بعمرة بعد ما جاوز الميقات ثم أهل بحجة بمكة فعليه دم واحد لتأخيره إحرام العمرة عن الميقات لأنه لما دخل مكة بإحرام العمرة فميقات إحرامه للحج الحرم وقد أحرم به في الحرم وإن كان أهل بالحجة بعد ما جاوز الميقات ثم دخل مكة فأهل بالعمرة أيضا كان عليه دمان لأنه أخر إحرام الحج عن ميقاته فوجب عليه دم ولما دخل مكة بإحرام الحجة فميقات إحرامه للعمرة الحل بمنزلة ميقات أهل مكة فحين أهل بالعمرة في الحرم فقد ترك ميقات إحرام العمرة أيضا فيلزمه لذلك دم آخر.
قال: كوفي دخل مكة بغير إحرام لحاجة له فقال عليه حجة أو عمرة أي ذلك شاء لأن دخول مكة سبب لوجوب الإحرام عليه فمباشرة ذلك السبب بمنزلة التزامه الإحرام بالنذر وفي نذر الإحرام يلزمه حجة أو عمرة فكذلك إذا لزمه الإحرام بدخول مكة فإن رجع إلى الميقات فأهل بحجة الإسلام أجزأه عن حجة الإسلام وعما لزمه بدخول مكة استحسانا عندنا وفي القياس لا يجزيه عما لزمه لدخول مكة وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه بدخول مكة بغير إحرام وجب عليه حجة أو عمرة وصار ذلك دينا في ذمته. وحجة الإسلام

 

ج / 4 ص -157-       لا تنوب عما صارت نسكا دينا في ذمته ألا ترى أنه لو تحولت السنة ثم أحرم بالحج في السنة الثانية من الميقات لا ينوب هذا عما لزمه لدخول مكة فكذلك في السنة الأولى.
ولكن استحسن علماؤنا رحمهم الله تعالى فقالوا لو كان حين انتهى إلى الميقات في الابتداء أحرم بحجة الإسلام ناب ذلك عما يلزمه لدخول مكة لأن الواجب عليه أن يكون محرما عند دخول مكة لا أن يكون إحرامه لدخول مكة كمن اعتكف في رمضان أجزأه لأن الواجب عليه أن يكون صائما في مدة الاعتكاف لا أن يكون صومه للاعتكاف.
فإذا عرفنا هذا فنقول: لو أحرم عند الميقات في الابتداء كان يؤدي حجة الإسلام بذلك الإحرام في تلك السنة وقد أداها حين عاد إلى الميقات فأحرم بحجة الإسلام فصار به متلافيا للمتروك فيسقط عنه ما لزمه لدخول مكة فأما بعد ما تحولت السنة لم يصر متلافيا للمتروك لأنه لو أحرم بالحج في السنة الأولى لم يكن له أن يؤدي الحج بذلك الإحرام في الثانية فعرفنا أنه لا يصير متلافيا للمتروك.
فإن قيل: أليس أنه لو عاد إلى الميقات وأحرم بعمرة منذورة لا يسقط عنه بهذا العود ما لزمه بدخول مكة وهو حين انتهى إلى الميقات لو أحرم بالعمرة المنذورة ودخل به مكة لا يلزمه شيء ثم لا يصير به متداركا لما هو الواجب؟.
قلنا: هو خارج على ما ذكرنا لأن العمرة وإن لم تكن مؤقتة فيكره أداؤها في خمسة أيام من السنة فلو أحرم بها في الابتداء لم يكن له أن يؤخرها إلى الوقت المكروه فلا يصير بالرجوع إلى الميقات والإحرام بالعمرة متداركا للمتروك.
قال: وإذا جاوز الميقات حلالا ثم أحرم بالحج ففاته الحج سقط عنه دم الوقت عندنا ولم يسقط عند زفر رحمه الله تعالى لأن الدم بمجاوزة الميقات صار واجبا عليه فلا يسقط بفوات الحج كما لو وجب عليه الدم بالتطيب أو لبس المخيط لا يسقط عنه ذلك بفوات الحج ولكنا نقول لما فاته الحج وجب عليه القضاء وهو للقضاء يحرم من الميقات فينعدم به المعنى الذي لأجله يلزمه الدم وهو أداء الحج بإحرام بعد مجاوزة الميقات بخلاف سائر الدماء لأن وجوب ذلك عليه بما ارتكب من المحظورات ولا ينعدم ذلك بفوات الحج وعلى هذا لو جامع قبل الوقوف حتى فسد حجه سقط عنه دم الوقت عندنا لأن القضاء وجب عليه فإذا عاد للقضاء يحرم من الميقات فانعدم به المعنى الذي لأجله كان يلزمه الدم.
قال: وكذلك من جاوز الميقات غير محرم ثم أتى وقتا آخر فأحرم منه أجزأه ولا شيء عليه لأن إتيانه وقتا آخر بمنزلة رجوعه إلى الميقات والإحرام عنده للأصل الذي قلنا إن من حصل في ميقات فإحرامه يكون من ذلك الميقات سواء كان من أهل ذلك الميقات أو لم يكن فإنما أحرم بالحج من ميقاته فلهذا لا يلزمه الدم.

 

ج / 4 ص -158-       قال: عبد دخل مكة مع مولاه بغير إحرام ثم أذن له مولاه فأحرم بالحج فعليه إذا عتق دم لترك الوقت لأنه مخاطب فيتحقق منه السبب الموجب للدم وهو تأخير الإحرام بالحج من ميقاته ولكن ما يلزمه من الدم إذا لم يكن له مال يتأخر إلى ما بعد العتق وهذا بخلاف النصراني يدخل مكة ثم يسلم ثم يحرم من مكة أو الصبي يدخل مكة بغير إحرام ثم يحتلم بمكة فيحرم بالحج فإن هناك لا يلزمه بترك الوقت شيء لأن النصراني لم يكن مخاطبا بالإحرام بالحج حين انتهى إلى الميقات فإن الخطاب بالإحرام إنما يتوجه على من يصح منه الإحرام وكذلك الصبي فلا يتحقق منهما تأخير الإحرام الواجب لأنه إنما لزمهما الإحرام عند الإسلام والبلوغ وعند ذلك هما بمكة وميقات إحرام الحج في حق من هو بمكة الحرم وقد أحرما منه بخلاف العبد على ما بينا.
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن النصراني لو أسلم أو بلغ الصبي فمات قبل إدراك الوقت وأوصى كل واحد منهما بأن يحج عنه حجة الإسلام فوصيتهما باطلة عند زفر رحمه الله تعالى لأنه لم يلزمهما الحج قبل إدراك الوقت إذ لا يتصور الأداء قبل إدراك الوقت فلا تصح وصيتهما به وعلى قول أبي يوسف يصح لأن سبب الوجوب قد تقرر في حقهما والوقت شرط الأداء وانعدام شرط الأداء لا يمنع تقرر سبب الوجوب فتصح وصيتهما بالأداء في وقته.
قال: ولو أن الصبي أهل بالحج قبل أن يحتلم ثم احتلم قبل أن يطوف بالبيت أو قبل أن يقف بعرفة لم يجزه عن حجة الإسلام عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يجزئه وهو بناء على ما بينا في كتاب الصلاة إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره عنده يجزئه عن الفرض ويجعل كأنه بلغ قبل أداء الصلاة وهنا أيضا يجعل كأنه بلغ قبل مباشرة الإحرام فيجزئه ذلك عن حجة الإسلام قال وهذا على أصلكم أظهر لأن الإحرام عندكم من الشرائط دون الأركان ولهذا صح الإحرام بالحج قبل دخول أشهر الحج.
ولكنا نقول: حين أحرم هو لم يكن من أهل أداء الفرض فانعقد إحرامه لأداء النفل فلا يصح أداء الفرض به وهو نظير الصرورة إذا أحرم بنية النفل عندنا لا يجزئه أداء الفرض به وعنده ينعقد إحرامه للفرض والإحرام وإن كان من الشرائط عندنا ولكن في بعض الأحكام هو بمنزلة الأركان ومع الشك لا يسقط الفرض الذي ثبت وجوبه بيقين فلهذا لا يجزئه حجة الإسلام بذلك الإحرام إلا أن يجدد إحرامه قبل أن يقف بعرفة فحينئذ يجزئه عن حجة الإسلام لأن ذلك الإحرام الذي باشره في حالة الصغر كان تخلقا ولم يكن لازما عليه فيتمكن من فسخه بتجديد الإحرام.
وهذا بخلاف العبد فإنه لو أعتقه المولى بعد ما أحرم لا يجزئه عن حجة الإسلام وإن

 

ج / 4 ص -159-       جدد الإحرام بعد العتق لأن إحرام العبد لازم في حقه لكونه مخاطبا فلا يتمكن بعد العتق من فسخ ذلك الإحرام وإنما طريق خروجه من ذلك الإحرام أداء الأفعال فسواء جدد التلبية أو لم يجدد فهو باق في ذلك الإحرام فلا يجزئه عن حجة الإسلام بخلاف الصبي على ذكرنا وإن أعتق العبد قبل أن يحرم ثم أحرم بحجة الإسلام أجزأه لأن شرط الوجوب تقرر في حقه بالعتق فلهذا يجزئه عن حجة الإسلام.
قال: وإذا دخل الرجل مكة بغير إحرام فوجب عليه حجة أو عمرة فأهل بها بعد سنة في وقت غير وقته الأول هو أقرب منه قال يجزيه ولا شيء عليه لأنه في السنة الأولى لو أحرم من هذا الميقات أجزأه عما يلزمه لدخول مكة وجعل هذا كعوده إلى الميقات الأول فكذلك في السنة الثانية إذا جاء إلى هذا الميقات لأن من حصل عند ميقات فحكمه حكم أهل ذلك الميقات والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الذي يفوته الحج
قال رضي الله عنه: رجل أهل بحجة ففاته فإنه يحل بعمرة وعليه الحج من قابل قال وبلغنا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما.
والمراد بالحديث المرفوع ما رواه بن عباس وبن عمر رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج وليتحلل بالعمرة وعليه الحج من قابل".
وأما حديث عمر وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما ما رواه الأسود قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول من فاته الحج تحلل بعمرة عليه الحج من قابل ثم لقيت زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه بعد ذلك بثلاثين سنة فسمعته يقول مثل ذلك وكان المعنى فيه أن الإحرام بعد ما انعقد صحيحا فطريق الخروج عنه أداء أحد النسكين أما الحج أو العمرة كمن أحرم إحراما بهما وهنا تعذر عليه الخروج عنه بالحج حين فاته الحج فعليه الخروج بعمل العمرة ثم إن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أصل إحرامه باق بالحج ويتحلل بعمل العمرة وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يصير إحرامه إحرام عمرة وعند زفر رحمه الله تعالى ما يؤديه من الطواف والسعي بقايا أعمال الحج لأنه بالإحرام بالحج التزم أداء أفعال يفوت بعضها بمضي الوقت ولا يفوته البعض فيسقط عنه ما يفوت بمضي المدة ويلزمه ما لا يفوت وهو الطواف والسعي.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا: الطواف والسعي للحج إنما يتحلل بهما

 

ج / 4 ص -160-       من الإحرام بعد الوقوف فأما قبل الوقوف فلا وحاجته إلى التحلل هنا قبل الوقوف فإنما يأتي بطواف وسعي يتحلل بهما من الإحرام وذلك طواف العمرة ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى يصير أصل إحرامه للعمرة ضرورة لأن التحلل بطواف العمرة إنما يكون بإحرام العمرة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا لا يمكن جعل إحرامه للعمرة إلا بفسخ إحرام الحج الذي كان شرع فيه ولا طريق لنا إلى ذلك والدليل عليه أن المكي إذا فاته الحج يتحلل بعمل العمرة من غير أن يخرج من الحرم ولو انقلب إحرامه للعمرة لكان يلزمه الخروج إلى الحرم لأنه ميقات إحرام العمرة في حق المكي.
قال: فإن كان أهل بحجة وعمرة فقدم مكة وقد فاته الحج فإنه يطوف بالبيت وبالصفا والمروة لحجه ويحل وعليه الحج من قابل ولا يجعل ما أتى به من الطواف والسعي قبل فوات الحج كافيا للتحلل عن إحرام الحج لأن ذلك كان طواف التحية وهو سنة فلا يحصل به التحلل فإن كان طاف لعمرته وسعى فقد أتى بهما وإن لم يكن طاف بعمرته يطوف لها الآن لأن العمرة لا تفوته ثم يطوف بعد ذلك لحجته ويسعى حتى يتحلل وهذا دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى على أن أصل إحرامه لا ينقلب عمرة لأنه لو انقلب عمرة لصار جامعا بين إحرام عمرتين وأدائهما في وقت واحد وذلك لا يجوز ثم لا يجب عليه الدم بالقياس على المحصر وهذا فاسد لأن المحصر عاجز عن التحلل بالطواف والسعي وفائت الحج قادر على ذلك ثم فائت الحج يقطع التلبية حين يستلم الحجر في الطواف لما بينا أن هذا الطواف عمل العمرة وأوان قطع التلبية في حقه ما هو أوان قطع التلبية في حق المعتمر فإن كان قارنا فإنما يقطع التلبية حين يأخذ في الطواف الثاني لأن العمرة ما فاتته فيجعل كأنه طاف لها قبل الفوات فلا يقطع التلبية عندها وإنما يقطع التلبية إذا أخذ في الطواف الذي يتحلل به عن الإحرام في الحج.
قال: ولو فاته الحج فمكث حراما حتى دخلت أشهر الحج من قابل فتحلل بعمل العمرة ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا وهذا أيضا يدل على أن إحرامه لم ينقلب إحرام عمرة فإنه لو انقلب إحرام عمرة كان متمتعا كمن أحرم للعمرة في رمضان فطاف لها في شوال ولكنه بعمل العمرة يتحلل من إحرام الحج في شوال وليس هذا صورة المتمتع.
قال: رجل أهل بحجة فجامع فيها ثم قدم وقد فاته الحج فعليه دم لجماعه ويحل بالطواف والسعي لأن الفاسد معتبر بالصحيح فكما أن التحلل بالإحرام الصحيح بعد الفوات يكون بالطواف والسعي فكذلك عن الإحرام الفاسد ولو كان أصاب في حجه صيدا فعليه الكفارة لأن إحرامه بعد الفساد باق فيجب بارتكاب المحظور ما يلزمه بارتكابه في الإحرام الصحيح وهذا الذي أفسد الحج إنما يقطع التلبية بعد الفوات حين يأخذ في الطواف ألا ترى

 

ج / 4 ص -161-       أنه لو لم يفته كان أوان قطع التلبية في حقه حين يرمي جمرة العقبة اعتبارا بمن صح حجه؟ فكذلك بعد الفوات.
قال: رجل أهل بحجة فقدم مكة وقد فاته الحج فأقام حراما حتى يحج مع الناس من قابل بذلك الإحرام قال لا يجزئه عن حجته وبهذا يستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى على أن إحرامه صار للعمرة حيث لا يجوز أداء الحج به ولكنا نقول قد بقي أصل إحرامه للحج ولكنه تعين عليه الخروج بإعمال العمرة فلا يبطل هذا التعيين بتحول السنة مع أن إحرامه انعقد لأداء الحج في السنة الأولى فلو صح أداء الحج به في السنة الثانية تغير موجب ذلك العقد بفعله وليس إليه تغيير موجب عقد الإحرام.
وإن قدم وقد فاته الحج فأهل بحجة أخرى فإنه يطوف للذي قد فاته ويسعى ويرفض التي أهل بها وعليه فيها ما على الرافض وعليه قضاء الفائت أيضا لأن أصل إحرامه بعد الفوات تعين للحج فهو بالإهلال بحجة أخرى يصير جامعا بين حجتين فلهذا يرفض التي أهل بها وقد تعين عليه التحلل عن الأولى بالطواف والسعي فلا يتغير ذلك بفعله وإن نوى بهذه التي أهل بها قضاء الفائت فهي هي يعني لا يلزمه بهذا الإهلال شيء لأنه نوى إيجاد الموجود فإن إحرامه بالحج باق بعد الفوات ونية الإيجاد فيما هو موجود لغو فيتحلل بالطواف والسعي وعليه قضاء الفائت فقط بخلاف الأول فقد نوى بالإهلال هناك حجة أخرى سوى الموجود.
قال: وإن أهل بعمرة بعد ما فاته الحج رفضها أيضا ومضى في عمل الفائتة لأنه لما لزمه التحلل عن الأول بعمل العمرة يصير جامعا بين العمرتين من حيث العمل وذلك لا يجوز فلهذا يرفض التي أهل بها وقد تعين عليه التحلل عن الأولى بالطواف والسعي فلا يتغير ذلك بفعله.
قال: رجل أهل بحجتين وقدم مكة وقد فاته الحج قال يحل بالطواف والسعي وعليه عمرة وحجتان ودم لأنه صار رافضا لإحدى الحجتين ولزمه دم لرفضها وقضاء حجة وعمرة ثم قد فاتته الأخرى فيتحلل منها بالطواف والسعي وعليه قضاؤها ولا يكون له أن يتحلل منهما بعمل عمرتين لأنهما لا يجتمعان عملا فكما أخذ في عمل إحداهما صار رافضا للأخرى ولزمه الدم بالرفض.
قال: وإذا ساق هديا للقران فقدم وقد فاته الحج قال يصنع بهديه ما شاء لأنه ملكه وقد أعده لمقصوده فإذا فاته ذلك المقصود صنع به ما أحب وكذلك إن لم يفته ولكنه جامع لأن بالجماع فسد حجه وخرج من أن يكون قارنا وإنما أعد هذا الهدي للقران فإذا فاته ذلك صنع به ما شاء.

 

ج / 4 ص -162-       فإن كان هديه قد نتج في الطريق ثم فاته الحج أو جامع أو أحصر صنع أيضا بالولد ما شاء لأنه جزء من الأم فكما يصنع بالأم ما شاء فكذلك بالولد وإن لم يكن شيء من هذه العوارض فعليه أن ينحر الأم والولد جميعا فإن نحر الأم ووهب الولد أو باعه فعليه قيمة الولد وكذلك إن ولد هذا الولد ولدا فعليه قيمة ذلك الولد أيضا لأن ما ثبت من الحق في الأصل سري إلى الولد لكونه جزءا من أجزائه.
وإن كان قد كفر عن الولد بعد ما وهبه أو باعه ثم حدث له ولد لم يكن عليه من قبل ولده شيء لأن بأداء الكفارة قد سقط عنه الحق في الولد لله تعالى فلا يلزمه فيما يلد هذا الولد بعد ذلك شيء بخلاف ما قبل التكفير فإن حق الله تعالى في الولد لازم إياه قبل التكفير فيسري إلى ما يتولد منه وهو نظير من أخرج ظبية من الحرم فكفر عنها ثم ولدت ثم ماتت لم يكن عليه فيها ولا في ولدها شيء وإن لم يكفر عنها كان عليه فيها وفي ولدها الكفارة.
قال: محرم بالحج قدم مكة وطاف بالبيت ثم خرج إلى الربذة فأحصر بها ثم قدم مكة بعد فوات الحج فعليه أن يحل بعمرة ولا يكفيه الطواف الأول لأن ذلك كان طواف التحية وليس لطواف التحية أثر في التحلل ولأن التحلل بالطواف يكون في يوم النحر أو بعده وذلك الطواف كان قبل يوم النحر فلا يكون معتبرا في التحلل وإن كان خروجه إلى الربذة بعد الوقت لم يفته لقوله صلى الله عليه وسلم:
"من أدرك عرفة فقد أدرك الحج" ثم قد تقدم بيان ما عليه من الدماء بعد هذا بسبب الترك والتأخير.
قال: فإن أهل بعمرة في أشهر الحج ثم قدم مكة بعد يوم النحر يقضي عمرته وليس عليه شيء لأن العمرة غير مؤقتة فلا يفوته عمل العمرة بمضي أيام النحر فلهذا لا يلزمه شيء والحاصل أن جميع السنة وقت العمرة عندنا ولكن يكره أداؤها في خمسة أيام يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق هكذا روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة.
ولأن الله تعالى سمى هذه الأيام أيام الحج فيقتضي أن تكون متعينة للحج الأكبر فلا يجوز الاشتغال فيها بغيرها وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا تكره العمرة في يوم عرفة قبل الزوال لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله ولكن مع هذه الكراهة لو أدى العمرة في هذه الأيام صح فيبقى محرما في هذه الأيام بها وهو نظير بقاء حرمة الصلاة بعد دخول وقت الكراهة.
قال: وإذا أهل الحاج صبيحة يوم النحر بحجة أخرى لزمته ويقضي ما بقي عليه من الأولى ويقيم حراما إلى أن يؤدي الحج بهذا الإحرام من قابل لأنه أحرم بعد مضي وقت الحج من السنة الماضية فينعقد إحرامه لأداء الحج به في السنة القابلة وعليه بجمعه بين الحجتين دم لأن إحرامه

 

ج / 4 ص -163-       للحج باق ما لم يتحلل بالحلق والطواف والجمع بين إحرام الحجتين ممنوع عنه فإذا فعل ذلك لزمه الدم بالجمع المنهي عنه وهذا بخلاف ما إذا أهل بحجتين لأن الدم هناك يلزمه لرفض إحداهما لأن الجمع هناك لا يتحقق حين صار قاضيا لإحداهما وهنا يتحقق لأنه يؤدي ما بقي من أعمال الأولى من غير أن يصير رافضا للأخرى فلهذا لزمه للجمع بينهما دم.
وإن قدم الحاج مكة فأدرك الوقوف بمزدلفة لم يكن مدركا للحج لقوله صلى الله عليه وسلم:
"من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج" ثم ذكر بعد هذا حكم الإهلال بحجتين أو بعمرتين وقد بينا ذلك ويستوي فيه إن أهل بهما معا أو بإحداهما ثم بالأخرى معا لأنه جامع بين الإحرامين في الحالين فإن رفض إحدى العمرتين ثم قضاها في العام القابل ومعها حجة فهو قارن لأن القران بالجمع بين الحجة والعمرة فكما أن كون الحج في ذمته لا يمنع تحقق القران فكذلك كون العمرة واجبة في ذمته.
وكذلك إن أتى بهذه العمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فهو متمتع إن لم يكن ألم بأهله بين النسكين حلالا فإن ألم بأهله بين النسكين حلالا لم يكن متمتعا بلغنا ذلك عن بن عمر وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وهذا بخلاف القارن إن رجع إلى أهله بعد طواف العمرة لأنه إنما رجع محرما فلم يصح إلمامه بأهله فلهذا كان قارنا.
وقد بينا الفرق بين المتمتع الذي ساق الهدي وبين الذي لم يسق الهدي في حكم الإلمام بأهله وقد بينا الفرق أيضا في حكم المكي الذي قدم الكوفة وبينا القران والتمتع وروى بن سماعة عن محمد أن المكي إذا قدم الكوفة إنما يجوز له أن يقرن إذا كان خروجه من الميقات قبل دخول أشهر الحج فأما إذا دخلت أشهر الحج قبل خروجه من الميقات فقد حرم عليه القران والتمتع فلا يرتفع ذلك بالخروج عن الميقات بعد ذلك.
قال: وإذا قدمت المرأة مكة محرمة بالحج حائضا مضت على حجتها غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:
"واصنعي جميع ما يصنعه الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" فإذا طهرت بعد مضي أيام النحر طافت للزيارة ولا شيء عليها بهذا التأخير لأنه كان بعذر الحيض وعليها طواف الصدر لأنها طاهرة وإن حاضت بعد ما طافت للزيارة يوم النحر فليس عليها طواف الصدر لما بينا من الرخصة الواردة للحائض في ذلك.
قال: وليس على أهل مكة ومن وراء الميقات طواف الصدر إنما ذلك على أهل الآفاق الذين يصدرون عن البيت بالرجوع إلى منازلهم فإن نوى الإقامة بمكة واتخذها دارا سقط عنه طواف الصدر إن كانت نيته قبل أن يحل النفر الأول لأن وقت الصدر بعد حل النفر الأول فإنما جاء وقت الصدر وهو من أهل مكة فلا يلزمه طواف الصدر.

 

ج / 4 ص -164-       وإن كانت نيته الإقامة بعد ما حل النفر الأول فعليه طواف الصدر في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن ذلك قد لزمه بمجيء وقت الصدر قبل نية الإقامة فلا يسقط عنه بنيته الإقامة بعد ذلك كالمرأة إذا حاضت بعد خروج وقت الصلاة لا تسقط عنها تلك الصلاة.
وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إذا نوى الإقامة قبل أن يأخذ في طواف الصدر سقط عنه طواف الصدر لأنه وإن دخل وقته فلا يصير طواف الصدر دينا عليه بدخول وقته فنيته الإقامة بعد دخول وقته وقبله سواء كالمرأة إذا حاضت بعد دخول وقت الصلاة لا تلزمها تلك الصلاة.
فأما إذا نوى الإقامة بعد ما أخذ في طواف الصدر فعليه أن يأتي بذلك الطواف لأن بالشروع فيه لزم إتمامه فلا يسقط بنية الإقامة بعد ذلك فإن بدا له الخروج من مكة بعد ما اتخذها دارا لا يلزمه طواف الصدر لأنه بمنزلة المكي يقصد الخروج من مكة وإن نوى أن يقيم بمكة أياما ثم يصدر لم يسقط عنه طواف الصدر وإن نوى الإقامة سنة أو أكثر لأن بهذه النية لم يصر كأهل مكة لأن المكي غير عازم على الصدر منها بعد مدة وهذا على الصدر منها بعد مدة فيبقى عليه طواف الصدر على حاله.
قال: وليس على فائت الحج طواف الصدر لأن العود للقضاء مستحق عليه ولأنه صار بمنزلة المعتمر المقيم في حق الأعمال وليس على المعتمر طواف الصدر.
قال: رجل قصد مكة للحج فدخلها بغير إحرام ووافاها يوم النحر وقد فاته الحج فأحرم بعمرة وقضاها أجزأه وعليه دم لترك الوقت لأنه لو أحرم بالحج بعد ما جاوز الميقات وقضاه كان عليه دم لترك الوقت فكذلك إذا أحرم بالوقت بالعمرة وقضاها لأن الواصل إلى الميقات يلزمه الإحرام حاجا كان أو معتمرا وإن لم يحرم بعمرة ولكنه أحرم بحجة فهو محرم حتى يحج مع الناس من قابل وقد بينا حكم الإحرام في غير أشهر الحج ولكنه ينبغي أن يرجع إلى الوقت فيلبي منه ليسقط عنه الدم فإن لم يرجع فعليه دم لتأخير الإحرام.
قال: ومن فاته الحج لم يسعه أن يقيم في منزله حراما من غير عذر ويبعث بالهدي ولا يحل بالهدي إن بعث به لأن التحلل بالهدي للمحصر وهذا غير محصر بل هو فائت الحج وقد تعين عليه التحلل بالطواف والسعي شرعا فلا يتحلل بغير ذلك والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الجمع بين الاحرامين
قال: والعمرة لا تضاف إلى الحج والحج يضاف إلى العمرة قبل أن يعمل منها شيئا وبعد أن يعمل هكذا نقل عن بن عباس رضي الله عنه وهذا لأن الله تعالى جعل العمرة بداية والحج نهاية بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}[البقرة: 196] فمن أضاف الحجة إلى

 

ج / 4 ص -165-       العمرة كان فعله موافقا لما في القرآن ومن أضاف العمرة إلى الحج كان فعله مخالفا لما في القرآن فكان مسيئا من هذا الوجه ولكن مع هذا هو قارن فإن القارن هو جامع بين العمرة والحج وهو جامع بينهما على كل حال إلا أنه إذا أضاف الحج إلى العمرة بأن أهل بالعمرة أولا ثم بالحج فهو جامع مصيب للسنة فيكون محسنا ومن أهل بالحج ثم بالعمرة فهو جامع مخالف للسنة فكان مسيئا لهذا ويلزمه في الوجهين جميعا ما أوجب الله تعالى على المتمتع المترفق بأداء النسكين في سفر واحد.
كما قال الله تعالى:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: 196] وهو شاة في قول علي وبن عباس وبن مسعود رضي الله عنهم وفي قول بن عمر وعائشة رضي الله عنهما بدنة وأخذنا بالأول لحديث جابر رضي الله عنه قال تمتعنا بالعمرة إلى الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتركنا في البدنة عن سبعة فإن لم يجد الهدي فعليه صوم ثلاثة أيام في الحج والأفضل أن يصوم قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة لأن صوم اليوم بدل عن الهدي فالأولى أن يؤخره إلى آخر الوقت الذي يفوته بمضيه رجاء أن يجد الهدي.
قال: ولو صام هذه الأيام الثلاثة بعد إحرامه للعمرة قبل إحرام الحجة جاز عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وحجته ظاهر الآية قال الله تعالى:
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}[البقرة: 196] وحين صام قبل أن يحرم بالحج فصومه هذا ليس في الحج وحجتنا في ذلك أن نقول جعل الحج ظرفا للصوم وفعل الحج لا يصلح ظرفا للصوم فعرفنا أن المراد به الوقت كما قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}[البقرة: 197] وهذا قد صام في وقت الحج بعد ما تقرر السبب وهو التمتع لأن معنى التمتع في أداء العمرة في سفر الحج في وقت الحج وقد وجد ذلك.
وأداء العبادة البدنية بعد وجود سبب وجوبها جائز كالمسافر إذا صام شهر رمضان وإن لم يصم حتى جاء يوم النحر تعين عليه الهدي عندنا وهو قول عمر رضي الله تعالى عنه فإن رجلا أتاه يوم النحر فقال إني تمتعت بالعمرة إلى الحج فقال اذبح شاة فقال ليس معي شيء فقال سل أقاربك فقال ليس هنا أحد منهم فقال لغلامه يا مغيث أعطه قيمة شاة وذلك لأن البدل كان مؤقتا بالنص فبعد فوات ذلك الوقت لا يكون بدلا فتعين عليه الهدي.
والشافعي رحمه الله تعالى كان يقول في الابتداء يصوم أيام التشريق وهو مروي عن بن عمر وعائشة رضي الله عنهما ولكن هذا فاسد فقد صح النهي عن الصوم في هذه الأيام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أداء الواجب بها ولو وجد الهدي بعد صوم يومين من الثلاثة كان عليه الهدي لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالخلف بخلاف ما إذا قدر على أصل الهدي بعد ما يحل يوم النحر لأن المقصود هو التحلل فإنما قدر على

 

ج / 4 ص -166-       الأصل بعد حصول المقصود بالبدل وهو كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة وأما صوم السبعة ليس ببدل فيما هو المقصود وهو التحلل ألا ترى أن أوان أدائها بعد التحلل ووجوب الهدي لا يمنع أداءها والمراد من الرجوع المذكور في قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}[البقرة: 196] مضي أيام التشريق حتى إذا صام بعد مضيها قبل أن يرجع إلى أهله جاز عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى إلا أن ينوي المقام فحينئذ يجوز الصوم.
قال: وإن أهل الآفاقي بالحج فطاف لها شوطا ثم أهل بالعمرة رفضها وعليه قضاؤها ودم للرفض لأن إحرام الحج قد تأكد بما أتى به من الطواف فإن ذلك من عمل الحج ولو بقي إحرامه للعمرة كان بانيا عمل العمرة على أعمال الحج وذلك لا يجوز فلهذا يرفضها وإن كان أهل بالعمرة أولا فطاف لها شوطا ثم أهل بالحج مضى فيها لأنه يبني أعمال الحج على العمرة وذلك صحيح إلا أنه لو طاف للعمرة أقل الأشواط يكون قارنا وإن طاف لها أكثر الأشواط ثم أهل بالحج كان متمتعا لأن المتمتع من يحرم بالحج بعد عمل العمرة ولا كثر الطواف حكم الكل والقارن من يجمع بينهما وقد صار جامعا حين أحرم بالحج وقد بقي عليه أكثر طواف العمرة.
وقد بينا أن المكي لا يقرن بين الحج والعمرة ولا يضيف أحدهما إلى الآخر فإن قرن بينهما رفض العمرة ومضى في الحج لأنه ممنوع من الجمع بينهما فلا بد من رفض أحدهما ورفض العمرة أيسر لأنها دون الحج في القوة ولأنه يمكنه أن يقضيها متى شاء وكذلك إن أحرم أولا بالعمرة ثم أحرم بالحج رفض العمرة لأن الترجيح بالبداءة بعد المساواة في القوة ولا مساواة هنا فيرفض العمرة على كل حال وإن مضى فيهما حتى قضاهما أجزأه لأن النهي لا يمنع تحقق المنهي عنه وهذا بخلاف الجامع بين الحجتين والعمرتين فإن الجمع بينهما عملا منفي هناك ومع النفي لا يتحقق الاجتماع فيكون رافضا لأحدهما على كل حال.
وهنا الجمع بين الحج والعمرة في حق المكي منهي عنه ومع النهي يتحقق الجمع فيجب عليه الدم لجمعه بينهما ولكن هذا الدم ليس نظير الدم في حق الآفاقي إذا قرن بينهما فإن ذلك نسك يحل التناول منه وهذا جبر لا يحل التناول منه لأن وجوب هذا الدم بارتكاب ما هو منهي عنه فيكون واجبا بطريق الجبر للنقصان فلهذا لا يباح التناول منه.
وإن كان طاف للعمرة شوطا أو ثلاثة أشواط ثم أحرم بالحج رفض الحج في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يرفض العمرة لأنه أهل بالحج فأكثر أعمال العمرة باق عليه وللأكثر حكم الكل فكأنه أهل بالحجة قبل أن يأتي بشيء من أعمال العمرة فيرفضها.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إن إحرام العمرة قد تأكد بما أتى به من طواف

 

ج / 4 ص -167-       العمرة وإحرام الحج لم يتأكد بشيء من عمله والمتأكد بأداء العمل أقوى من غير المتأكد فلهذا يرفض الحجة.
والدليل على أن التأكد يحصل بشوط من الطواف ما بينا في الآفاقي إذا طاف للحج شوطا ثم أحرم للعمرة كان عليه رفضها لتأكد إحرام الحج بالعمل قبل الإهلال بالعمرة بخلاف ما لو أهل بالعمرة قبل أن يأتي بشيء من طواف الحج.
ولو كان المكي طاف للعمرة أربعة أشواط ثم أحرم بالحج فنقول إنما أحرم بالحج بعد ما أتى بأكثر طواف العمرة وللأكثر حكم الكل فكأنه أحرم بالحج بعد الفراغ من العمرة فلا يرفض شيئا ولكن يفرغ من عمرته ومن حجته وعليه دم لأنه صار كالمتمتع وهو منهي عن التمتع إلا أنه لا يحل التناول من هذا الدم لأنه دم جبر كما بينا.
ولو كان هذا الطواف منه للعمرة في غير أشهر الحج كان عليه الدم أيضا لأنه أحرم بالحج قبل أن يفرغ من العمرة وليس للمكي أن يجمع بينهما فإذا صار جامعا كان عليه الدم ولو كان هذا آفاقيا لم يكن عليه هذا الدم لأنه غير ممنوع من الجمع بينهما قال في الأصل وعليه دم لترك الوقت في العمرة أيضا وإنما أراد به إذا كان أحرم للعمرة في الحرم فإن ميقات أهل مكة لإحرام العمرة هو الحل.
قال: كوفي أهل بحجة وطاف لها ثم أهل بعمرة قال يرفض عمرته لأنه لو لم يرفضها كان بانيا للعمرة على الحجة هذا إذا أهل بعمرة بعرفة فإن أهل بها يوم النحر قبل أن يحل بحجته أو بعد ما حل قبل أن يطوف أمر أن يرفضها أيضا وإن لم يرفضها ومضى فيها أجزأه وعليه دم إن كان أهل بها قبل أن يحل بحجته وإن كان بعد ما حل من حجته فليس عليه شيء إن لم يترك الوقت فيها ولا يؤمر بأن يرفضها إذا أحرم بها بعد تمام الإحلال لأنه وإن كان منهيا عن الإحرام فبعد ما أحرم يجب عليه الإتمام لأنه غير جامع بينه وبين إحرام آخر فإذا أداها كان صحيحا بخلاف ما إذا أهل بها بعرفات فإن هناك قد صار رافضا للعمرة لتحقق المنافي على ما سبق ثم إن كان إهلاله بالعمرة قبل أن يحل من الحج فقد صار جامعا بين الإحرامين على وجه هو منهي عن ذلك فلزمه لذلك دم وإن كان بعد ما حل لم يصر جامعا بين الإحرامين فلا يلزمه شيء.
قال: مكي أهل بالحجة فطاف لها شوطا ثم أهل بالعمرة قال يرفض العمرة لأن إحرامه للحج قد تأكد وقبل تأكده كان يؤمر برفض العمرة فبعد تأكده أولى فإن لم يرفضها وطاف لها وسعى أجزأه لما بينا أن النهي لا يمنع تحقق المنهي عنه ولكن عليه دم لإهلاله بها قبل أن يفرغ من حجته وقد صار جامعا بينهما وهو ممنوع من هذا الجمع.

 

ج / 4 ص -168-       قال: محرم بعمرة جامع ثم أضاف إليها عمرة أخرى قال يرفض هذه ويمضي في الأولى لأن الفاسد معتبر بالصحيح في وجوب الإتمام ولو كانت الأولى صحيحة كان عليه أن يمضي فيها ويرفض الثانية فكذلك بعد فسادها وكذلك لو لم يجامع في الأولى ولكنه طاف لها شوطا ثم أحرم بالثانية يرفض الثانية لأن الأولى قد تأكدت لما طاف لها فتعينت الثانية للرفض وكذا هذا في حجتين.
قال: وإذا أهل بحجتين معا ثم جامع قبل أن يسير فعليه للجماع دمان في قول أبي حنيفة لأن من أصله أنه لا يصير رافضا لأحدهما ما لم يأخذ في عمل الأخرى وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى عليه دم واحد للجماع لأنه كما فرغ من الإحرامين صار رافضا لأحدهما فجماعه جناية على إحرام واحد وإن كان ذلك الجماع منه بعد ما سار فعليه دم واحد لأنه صار رافضا لأحدهما حين سار إلى مكة فجماعه جناية على إحرام واحد ثم ما يلزمه بالرفض وبالإفساد من القضاء والدم قد بيناه فيما سبق فإن أحرم لا ينوي شيئا فطاف ثلاثة أشواط ثم أهل بعمرة فإنه يرفض هذه الثانية لأن الأولى قد تعينت عمرة حين أخذ في الطواف لما بينا أن الإبهام لا يبقى بعد الشروع في الأداء بل يبقى ما هو المتيقن وهو العمرة فحين أهل بعمرة أخرى فقد صار جامعا بين عمرتين فلهذا يرفض الثانية.
قال: وإذا كان للكوفي أهل بالكوفة وأهل بمكة يقيم عند هؤلاء سنة وعند هؤلاء سنة فاعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا لأنه ملم بين النسكين بأهله إلماما صحيحا فإن لم يكن له أهل بمكة واعتمر من الكوفة في أشهر الحج وقضى عمرته ثم خرج إلى مصر ليس فيه أهله ثم حج من عامه ذلك كان متمتعا ما لم يرجع إلى المصر الذي كان فيه أهله ثم قال بلغنا ذلك عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب رضي الله عنهما وإبراهيم رحمه الله تعالى.
وقد بينا أن الطحاوي رحمه الله تعالى ذكر في هذا الفصل خلافا بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهما الله تعالى وهو الصحيح أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يكون متمتعا وحديث زيد الثقفي رضي الله عنه أنه سأل بن عباس رضي الله عنهما فقال أتينا عمارا فقضيناها ثم زرنا القبر ثم حججنا فقال أنتم متمتعون والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه ما لم يصل إلى أهله فهو متمتع كمن لم يجاوز الميقات وعندهما من خرج من الميقات فهو كمن وصل إلى أهله في أنه لا يكون متمتعا بعد ذلك فإن كان له بالكوفة أهل وبالبصرة أهل فرجع إلى أهله بالبصرة ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا لأنه ألم بأهله بين النسكين حلالا.
قال: وإن اعتمر الكوفي في أشهر الحج وساق هديا للمتعة وهو يريد الحج فطاف لعمرته

 

ج / 4 ص -169-       ولم يحلق ثم رجع إلى أهله ثم حج كان متمتعا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ولم يكن متمتعا في قول محمد رحمه الله تعالى إذا كان رجوعه إلى أهله بعد ما أتى بأكثر طواف العمرة وحجته وهو أنه ملم بأهله بين النسكين وهو إلمام صحيح فإن العود غير مستحق عليه حتى لو بعث بهديه لينحر عنه ولم يحج كان جائزا فهو بمنزلة المكي الذي اعتمر من الكوفة وساق الهدي لمتعته فهناك لا يكون متمتعا فكذلك هنا وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى يقولان إلمامه غير صحيح بأهله هنا لأنه محرم على حاله ما لم ينحر عنه الهدي فكان العود مستحقا عليه وذلك يمنع صحة إلمامه بأهله كالقارن إذا أتى بعمل العمرة ثم رجع إلى أهله ثم عاد فحج كان قارنا ولم يصح إلمامه بأهله محرما فكذا هذا وهذا بخلاف من لا هدي معه وقد حل هناك من إحرام العمرة فإنما لم بأهله حلالا فكان إلمامه صحيحا.
قال: رجل أهل بعمرة في أشهر الحج وساق هديا معه لمتعته ثم بدا له أن يحل وينحر هديه ويرجع إلى أهله ولا يحج كان له ذلك لأن بمجرد النية قبل الإحرام لا يلزمه أداء الحج في هذه السنة فإن فعل ذلك ثم حج من عامه فلا شيء عليه لأنه ألم بأهله بين النسكين حلالا فخرج من أن يكون متمتعا.
وإن أراد أن ينحر هديه ويحل ولا يرجع إلى أهله ويحج من عامه ذلك لم يكن له ذلك لأنه إذا لم يقصد الرجوع إلى أهله فهو قاصد إلى التمتع فكان هديه هدي المتعة فليس له أن ينحرها قبل يوم النحر لاختصاص هدي المتعة بيوم النحر ولأنه لما ساق الهدي وهو عازم على التمتع لزمه البقاء في الإحرام إلى أن يفرغ من عمل الحج وليس له أن يتعجل في الإحلال قبل وقته فإن فعل ذلك ثم رجع إلى أهله ثم حج فلا شيء عليه لأنه لما رجع إلى أهله فقد خرج من أن يكون متمتعا وإنما كان يلزمه تأخير الخروج عن إحرام العمرة لأجل التمتع فإذا خرج من أن يكون متمتعا تبين أن إحلاله كان في وقته فلا يلزمه شيء.
وإن فرغ من عمرته وحل ونحر هديه ثم أقام بمكة حتى حج من عامه فعليه دمان لمتعته فإنه أتى بالنسكين في سفر واحد فكان متمتعا وما نحر من الهدي قبل يوم النحر فلا يجزئه عن هدي المتعة فلهذا لزمه دم المتعة ودم آخر لإحلاله قبل وقته لأنه لما كان متمتعا وقد ساق الهدي لم يكن له أن يحل قبل يوم النحر وهو قد حل من عمرته قبل يوم النحر فعليه دم لتعجيل الإحلال.
قال: رجل أهل بعمرة في أشهر الحج ثم أفسدها بالجماع فلما فرغ منها أهل بأخرى ينوي قضاءها ثم حج من عامه لم يكن متمتعا أما بالعمرة الأولى فلأنه أفسدها بالجماع والتمتع بالعمرة الفاسدة لا يكون وأما بالثانية فلأنه أحرم لها من غير الميقات والمتمتع من

 

ج / 4 ص -170-       تكون عمرته ميقاتية وحجته مكية ولأنه لما دخل مكة بالعمرة الفاسدة صار بمنزلة أهل مكة وإن كان حين فرغ من العمرة الفاسدة خرج من مكة حتى جاوز المواقيت ثم أهل بعمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فإن كان جاوز الوقت قبل أشهر الحج كان متمتعا لأنه بمجاوزة الميقات صار في حكم من لم يدخل مكة.
فإذا اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه فقد أتى بعمرة ميقاتية وحجة مكية فكان متمتعا وإن لم يجاوز الوقت إلا في أشهر الحج فليس بمتمتع لأن أشهر الحج لما دخلت وهو داخل الميقات حرم عليه التمتع كما هو حرام على أهل مكة ومن هو داخل الميقات فلا تنقطع هذه الحرمة بخروجه من الميقات بعد ذلك في حق المكي ومن هو داخل الميقات فإن كان دخوله الأول في أشهر الحج بعمرة فأفسدها وأتمها مع الفساد ثم رجع إلى أهله ثم عاد فقضاها وحج من عامه ذلك كان متمتعا لأن سفره الأول قد انقطع برجوعه إلى أهله فصار كأن لم يوجد فالمعتبر سفره الثاني وقد أدى النسكين في هذا السفر بصفة الصحة فكان متمتعا.
وإن رجع إلى بلدة أخرى ثم عاد فقضى عمرته وحج من عامه لم يكن متمتعا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى بناء على الأصل الذي قررنا أنه ما لم يصل إلى بلدته فهو في الحكم كأن لم يخرج من مكة فلا يكون متمتعا وعندهما يكون متمتعا لأن من أصلهما أن بخروجه من الميقات انقطع حكم ذلك السفر في حق التمتع بمنزلة ما لو رجع إلى بلدته فإذا عاد معتمرا وحج من عامه كان متمتعا لأداء النسكين في سفر واحد صحيحا وإن دخل بعمرة فاسدة في أشهر الحج فقضاها ثم خرج حتى جاوز الميقات ثم قرن عمرة وحجة كان قارنا لأن أكثر ما فيه أن حاله كحال المكي متى حصل بمكة بالعمرة الفاسدة وقد بينا أن المكي إذا خرج من الميقات ثم قرن حجة وعمرة كان قارنا فهذا مثله.
ولو قضى عمرته الفاسدة ثم أهل من مكة بعمرة وبحجة فإنه يرفض العمرة لأنه متى حصل بمكة بعمرة فاسدة فهو بمنزلة مكي محرم بهما وقد بينا أن المكي يرفض العمرة إذا أحرم بهما كذلك هنا.
ولو كان أهل بعمرة في أشهر الحج فطاف لها شوطا ثم أهل بحجة فهو على الخلاف الذي ذكرناه في حق المكي أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يرفض الحج لتأكد إحرام العمرة بالطواف وعندهما يرفض العمرة على ما مر لأنه لما لم يطف لها أربعة أشواط فهو بمنزلة من لم يطف لها شيئا وإذا ترك المكي أو الكوفي ميقات الإحرام في العمرة وطاف لها شوطا ثم أراد أن يلبي من الوقت لم ينفعه ولم يسقط عنه الدم لأن إحرامه وراء الميقات قد تأكد بالطواف فهو وإن عاد إلى الميقات ولبى فلم يصر متداركا لما فاته في وقته فلا يسقط

 

ج / 4 ص -171-       عنه الدم ألا ترى أنه إذا عاد لا يمكن أن يجعل كالمنشى ء للإحرام الآن لأن ما تقدم من الطواف محسوب له وكيف يجعل كالمنشى ء الآن وطوافه قبل ذلك محسوب فلهذا لا يسقط عنه الدم والله أعلم بالصواب.

باب التلبية
قال: وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". اتفق على هذا رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في نقل تلبيته فإن اقتصر عليه فحسن وإن زاد على هذا فحسن أيضا عندنا وبعض أصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى يقولون يباح له الزيادة وأكثرهم على أن ذلك مكروه لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول في تلبيته لبيك ذي المعارج لبيك فقال له: ما كنا نلبي هكذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه ذكر منظوم فلا يزاد عليه كالأذان والتشهد وحجتنا في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في تلبيته "لبيك إله الحق لبيك".
وعن بن مسعود أنه خرج من مسجد الخيف يلبي فقال قائل لا يلبي هنا فقال بن مسعود رضي الله عنه أجهل الناس أم طال بهم العهد لبيك عدد التراب لبيك وعن بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول في تلبيته لبيك مرهوب منك ومرغوب إليك والنعمى والفضل والحسن لك لبيك لبيك.
وتأويل حديث سعد رضي الله عنه أن ذلك الرجل كان ترك التلبية المعروفة واكتفى بذلك القدر فلهذا أنكر عليه وهكذا نقول إذا ترك التلبية المعروفة كان مكروها فأما إذا أتى بالمعروف ثم زاد كان ذلك حسنا لأن المقصود هو الثناء على الله تعالى وإظهار العبودية من نفسه.
وقد نقل من طريق أهل البيت عليهم السلام تلبية طويلة من ذلك والجاريات في الفلك على مجاري من سلك ثم الحاج والقارن في قطع التلبية سواء لأنه لا يحل من النسكين قبل يوم النحر وقطع التلبية حين يرمي جمرة العقبة وقد بينا وقت قطع التلبية في حق فائت الحج والمحصر ومن أفسد حجه وإنما يصير محرما بالتلبية إذا نوى الإحرام فأما بدون النية لا يصير محرما وإن لبى كما لا يصير بالتكبير شارعا في الصلاة إذا لم ينو والتهليل والتسبيح بنية الإحرام به بمنزلة التلبية كما عند افتتاح الصلاة وقد بينا الفرق بينه وبين الصلاة لأبي يوسف رحمه الله تعالى.
وإذا توضأ الأخرس ولبس ثوبين وصلى ركعتين ثم نوى الإحرام بقلبه وحرك لسانه كان محرما لأنه أتى بما في وسعه وليس عليه فوق ذلك.كان إذا شرع في الصلاة بتحريك

 

ج / 4 ص -172-       اللسان مع النية يصح شروعه والمرأة بمنزلة الرجل في التلبية غير أنها لا ترفع صوتها لما بينا أن صوتها فتنة وإذا لم يلب القارن والمفرد بالحج والعمرة إلا مرة واحدة فقد أساء ولا شيء عليه لأن الشروع في الإحرام بالتلبية كما أن صحة الشروع في الصلاة بالتكبير ولو لم يأت المصلي إلا بتكبيرة الافتتاح جازت صلاته وكان مسيئا فكذلك إذا لم يأت المحرم بالتلبية إلا مرة واحدة جاز لأنه أتى بما هو الواجب وترك المسنون فيكون مسيئا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الصيد في الحرم
قال رضي الله عنه: رجل رمى صيدا في الحل وهو في الحل فأصابه في الحرم كان عليه الجزاء لأنه من جنايته وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيما أعلم ومعنى هذا التعليل أن ذهاب السهم حتى وصل إلى الصيد كان بقوة الرامي وهو مباشر لذلك الفعل حتى يستوجب القصاص به إذا رمى إلى مسلم عمدا فقتله وإنما أصابه بعد ما صار صيد الحرم فكان هو قاتلا صيد الحرم بفعله فيلزمه الجزاء وهذا بخلاف ما لو أرسل كلبه على صيد في الحل فطرد الكلب الصيد حتى قتله في الحرم حيث لا يضمن قال لأن هذا ليس من جنايته ومعنى هذا أن طرد الكلب الصيد فعل أحدثه الكلب فلا يصير المرسل به جانيا على صيد الحرم.
وحقيقة المعنى في الفرق أن الرامي مباشر لما يصيبه سهمه وفي مباشرة الفعل لا فرق بين أن يكون متعديا وبين أن يكون غير متعد فيما يلزمه من الجزاء ألا ترى أن من رمى سهما في ملك نفسه فأصاب مالا أو نفسا كان ضامنا له فأكثر ما في الباب هنا أنه في أصل الرمي لم يكن متعديا وهذا لا يمنع وجوب الجزاء عليه عند مباشرته فأما مرسل الكلب متسبب لإتلاف ما يأخذه الكلب لا مباشر حتى لا يلزمه القصاص بحال والمتسبب إذا كان متعديا في تسببه كان ضامنا وإذا لم يكن متعديا لا يكون ضامنا كمن حفر بئرا في ملك نفسه وهنا هو غير متعد في إرسال الكلب على صيد في الحل فلهذا لا يلزمه الجزاء.
قال: وإن زجر الكلب بعد ما دخل في الحرم فانزجر وأخذ الصيد فعليه جزاؤه استحسانا وفي القياس لا يلزمه شيء لأن الأخذ من الكلب يكون محالا على أصل الإرسال دون الزجر ألا ترى لو أن مسلما أرسل كلبه على صيد فزجره مجوسي فانزجر حتى أخذ الصيد حل تناوله وأصل الإرسال هنا لم يكن جناية فوجود الزجر بعد ذلك كعدمه.
وجه الاستحسان أنه في هذا الزجر متسبب لأخذ الصيد وهو متعد في هذا التسبب ثم أصل الإرسال هنا ما انعقد تعديا وكان ذلك في حكم الزجر كالمعدوم أصلا وهو نظير القياس والاستحسان الذي ذكره في كتاب الصيد أن الكلب المعلم إذا انبعث على أثر الصيد من غير

 

ج / 4 ص -173-       إرساله فزجره صاحبه فانزجر حتى أخذ الصيد إنما يحل تناوله استحسانا بخلاف ما إذا أرسله مجوسي ثم زجره مسلم لأن أصل الإرسال هناك كان معتبرا فيحال الحكم عليه دون الزجر.
قال: ولو أرسل كلبا في الحرم على ذئب فأصاب صيدا في الحرم لم يكن عليه شيء لأنه غير متعد في هذا التسبب فإن إرسال الكلب على الذئب مباح له فلهذا لا يوجب عليه الضمان وإن أخذ الكلب الصيد بخلاف ما إذا رمى إلى ذئب فأصاب صيدا لأنه مباشر فلا يعتبر فيه معنى التعدي ولكن قتل الصيد في الحرم خطأ موجب للضمان كقتله عمدا وكذلك لو أرسل حلال كلبا على صيد في الحل فذهب الكلب إلى صيد في الحرم فقتله لم يكن عليه جزاء كما لو دخل الصيد الذي أرسله عليه في الحرم فقتله فيه.
قال: ولو أرسل المجوسي كلبا على صيد في الحرم فزجره مسلم محرم فانزجر فقتل الصيد كان على المحرم جزاؤه لأن زجر المحرم لا يكون دون دلالته على الصيد والمحرم يضمن الصيد بالدلالة فبالزجر أولى ولا يؤكل ذلك الصيد لا لزجر المحرم فإن حرمة الصيد تثبت به كما تثبت بالدلالة ولكن لأن أخذه محال به على أصل الإرسال والمرسل كان مجوسيا.
قال: ولو نصب شبكة للصيد فأصاب الصيد فعليه جزاؤه لأنه متعد في هذا التسبب ولو نصبها لذئب أو سبع آذاه وابتدأه فوقع فيه صيد لم يكن عليه شيء لأنه غير متعد في هذا التسبب وهو قياس نصب الفسطاط من المحرم على ما سبق.
قال: محرم دل محرما على صيد وأمره بقتله وأمر المأمور ثانيا بقتله فقتله كان على كل واحد منهم جزاء كامل لأن كل واحد منهم جان على الصيد بما صنع القاتل بالمباشرة والآمر الثاني بدلالة القاتل عليه والآمر الأول بإعلامه الآمر الثاني بمكان الصيد حتى أمر به غيره فكانوا جميعا ضامنين وهذا لأن فعل المأمور الثاني كفعل آمره ولو قتل الآمر الثاني وجب الجزاء به على الآمر الأول فكذلك إذا أمر به غيره
حتى قتله وجزاء الصيد في حق المحرم لا يتجزأ فلهذا كان على كل واحد من الثلاثة جزاء كامل.
قال: ولو أخبر محرم محرما بصيد فلم يره حتى أخبره به محرم آخر فلم يصدق الأول ولم يكذبه ولكن طلب الصيد فقتله كان على كل واحد منهم جزاؤه لأن كل واحد منهم جان فيما صنع وهذا بخلاف ما إذا أكذب الأول فإن هناك لا يلزمه الجزاء لأنه بتكذيبه إياه انتسخ حكم دلالته فلم يكن قتل الصيد بعد ذلك محالا به على دلالة الأول وإنما كان محالا به على دلالة الثاني فأما إذا لم يصدقه ولم يكذبه لم ينتسخ حكم دلالته.
قال: محرم أرسل محرما إلى محرم فقال إن فلانا يقول لك إن في هذا الموضع صيدا فذهب فقتله كان على المرسل والرسول والقاتل الجزاء لأن كل واحد منهم متعد

 

ج / 4 ص -174-       فيما صنع فإن القاتل إنما تمكن من قتل الصيد بإرسال المرسل وتبليغ الرسول فلهذا ضمن كل واحد منهم الجزاء.
قال: وإن دل محرم على صيد رجلا وهو يعلم به ويراه فقتله لم يكن على الدال شيء لأن تمكن القاتل من قتل الصيد لم يكن بدلالته فقد كان متمكنا منه قبل دلالته.
 قال: محرم استعار من محرم سكينا ليذبح بها صيدا فأعاره إياه فذبح الصيد فلا جزاء على صاحب السكين ويكره له ذلك أما الكراهة بالاعانة على المعصية بما أعطاه من الآلة وأما حكم الجزاء فأكثر مشايخنا يقولون تأويل هذه المسألة أنه إذا كان مع المحرم القاتل سلاح يقتل بذلك السلاح الصيد فحينئذ لا يلزم الجزاء على من أعطي السكين لأنه وإن لم يعطه كان متمكنا من قتله فإذا لم يكن تمكنه بما أعطى لا يجب عليه الجزاء كما لا يجب الجزاء على الدال إذا كان للمدلول علم بمكان الصيد فأما إذا لم يكن مع المحرم القاتل ما يقتل به الصيد ينبغي أن يجب الجزاء على هذا المعير لأن التمكن من قتل الصيد كان بإعارته السكين وإلى هذا أشار في السير الكبير والأصح عندي أنه لا يجب الجزاء على المعير للسكين على كل حال لوجهين.
أحدهما: أن الصيد مأخوذ المستعير قبل إعارة السكين منه وكان قد تلف معنى الصيدية بأخذ المستعير إياه حكما وبقتله حقيقة فأما إعارة السكين ليس بإتلاف معنى الصيدية عليه لا حقيقة ولا حكما بخلاف الدلالة فإنه إتلاف لمعنى الصيدية من وجه حين أعلم بمكانه من لا يقدر الصيد على الامتناع منه فإن امتناع الصيد ممن يقدر على الامتناع منه يكون بجناحه ومن لا يقدر على الامتناع منه يكون بتواريه عن عينه فإذا أعلمه بمكانه صار متلفا معنى الصيدية حكما.
والثاني: أن الإعارة تتصل بالسكين لا بالصيد فإنها صحيحة وإن لم يكن هناك صيد ولا يتعين استعماله في حق قتل الصيد بخلاف الإشارة إلى قتل الصيد فإنها متصلة بالصيد ليس فيها فائدة أخرى سوى ذلك ولا يتم ذلك إلا بصيد هناك فلهذا يتعلق وجوب الجزاء بها.
ولم يذكر في الكتاب مسألة نكاح المحرم وهي مسألة خلافية معروفة عندنا يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج وليته وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس للمحرم أن يتزوج ولا أن يزوج ولو فعل لم ينعقد النكاح لحديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا ينكح المحرم ولا ينكح". ولأن المقصود من النكاح الوطء وبسبب الإحرام يحرم عليه الوطء بدواعيه فيحرم العقد الذي لا يقصد به إلا هذا وهذا بخلاف شراء الأمة فإن الشراء غير مقصود للوطء بل للتجارة والمحرم غير ممنوع عنه ألا ترى أن المسلم لا يتزوج المجوسية ولا أخته من الرضاعة لأنه لما حرم عليه وطؤها حرم عليه العقد أيضا وله أن

 

ج / 4 ص -175-       يشتري هؤلاء وحجتنا حديث بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة رضي الله عنها وهو محرم وهكذا روي عن عائشة رضي الله عنها.
واختلفت الروايات في حديث أبي رافع قال في بعض الروايات تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال وفي بعضها تزوجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال وكنت أنا السفير فيما بينهما.
ويتبين بهذا الحديث أن المراد من حديث عثمان رضي الله عنه الوطء دون العقد فإنه للوطء حقيقة وإن كان مستعارا للعقد مجازا على ما نبينه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.
ومن حيث المعنى: الكلام واضح في المسألة فإن النكاح عقد معاوضة والمحرم غير ممنوع عن مباشرة المعاوضات كالشراء ونحوه ولو جعل عقد النكاح بمنزلة ما هو المقصود به وهو الوطء لكان تأثيره في ايجاب الجزاء أو إفساد الإحرام به لا في بطلان عقد النكاح.
توضيحه: أن بعد الإحرام يبقى النكاح بينه وبين امرأته صحيحا ولو كان عقد الإحرام ينافي ابتداء النكاح لكان منافيا للبقاء كتمجسها والحرمة بسبب الرضاع ولما لم يناف بقاء النكاح فكذلك الابتداء وبهذا فارق شراء الصيد أيضا لأن الإحرام يمنع استدامة اليد على الصيد فيمنع إثبات اليد بالشراء ابتداء بخلاف النكاح والدليل عليه أنه لو راجعها وهو محرم كان صحيحا بالاتفاق.
وعلى أصل الشافعي رحمه الله تعالى الرجعة سبب يحل الوطء به ثم لم يكن المحرم ممنوعا عنه فكذلك النكاح وأصل كلامه يشكل بالظهار فإن الظهار يحرم الوطء بدواعيه ولا يمنع العقد ابتداء بأن ظاهر منها ثم فارقها ثم تزوجها ثم الشافعي رحمه الله تعالى يمنع المحرم من تزويج وليته وليس في هذا تطرق المحرم إلى استباحة الوطء فعرفنا أن كلامه من حيث المعنى ضعيف جدا والله أعلم.
قال رحمه الله تعالى وغفر له هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات مصليا على سيد السادات محمد المبعوث بالرسالات وعلى أهله من المؤمنين والمؤمنات تم كتاب المناسك ولله المنة وله الحمد الدائم الذي لا يفنى أمده ولا ينقضي عدده.