المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 4 ص -176-       كتاب النكاح
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السر خسي رحمهما الله تعالى، إملاء: اعلم بأن النكاح في اللغة عبارة عن الوطء تقول العرب تناكحت العرى أي تناتجت. ويقول أنكحنا العري فسنرى لأمر يجتمعون عليه وينظرون ماذا يتولد منه وحقيقة المعنى فيه هو الضم ومنه يقال أنكح الظئر ولدها أي ألزمه ويقال انكح الصبر أي الزمه وقال القائل: 

إن القبور تنكح الأيامى                            والنسوة الأرامل اليتامى

 أي تضمهن إلى نفسها واحد الواطئين ينضم إلى صاحبه في تلك الحالة فسمي فعلهما نكاحا قال القائل:

كبكر تحب لذيذ النكاح

 أي الجماع. وقال القائل:

التاركين على طهر نساءهم                     والناكحين بشطى دجلة البقرا

أي الواطئين ثم يستعار للعقد مجازا إما لأنه سبب شرعي يتوصل به إلى الوطء أو لأن في العقد معنى الضم فإن أحدهما ينضم به إلى الآخر ويكونان كشخص واحد في القيام بمصالح المعيشة.
وزعم الشافعي رحمه الله تعالى أن اسم النكاح في الشريعة يتناول العقد فقط وليس كذلك فقد قال الله تعالى:
{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}[النساء: 6] يعني الاحتلام فإن المحتلم يرى في منامه صورة الوطء. وقال الله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً}[النور: 3] والمراد الوطء وفي الموضع الذي حمل على العقد فذلك لدليل اقترن به من ذكر العقد أو خطاب الأولياء في قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}[النور: 32] أو اشتراط إذن الأهل في قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}[النساء: 25].
ثم يتعلق بهذا العقد أنواع من المصالح الدينية والدنيوية من ذلك حفظ النساء والقيام عليهن والإنفاق ومن ذلك صيانة النفس عن الزنى ومن ذلك تكثير عباد الله تعالى وأمة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحقيق مباهاة الرسول صلى الله عليه وسلم بهم.
كما قال:
"تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة" وسببه تعلق البقاء

 

ج / 4 ص -177-       المقدور به إلى وقته فإن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام الساعة وبالتناسل يكون هذا البقاء وهذا التناسل عادة لا يكون إلا بين الذكور والإناث ولا يحصل ذلك بينهما إلا بالوطء فجعل الشرع طريق ذلك الوطء النكاح لأن في التغالب فسادا وفي الإقدام بغير ملك اشتباه الأنساب وهو سبب لضياع النسل لما بالإناث من بني آدم من العجز عن التكسب والإنفاق على الأولاد فتعين الملك طريقا له حتى يعرف من يكون منه الولد فيوجب عليه نفقته لئلا يضيع وهذا الملك على ما عليه أصل حال الآدمي من الحرية لا يثبت إلا بطريق النكاح فهذا معنى قولنا إنه تعلق به البقاء المقدور به إلى وقته.
ثم هذا العقد مسنون مستحب في قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى وعند أصحاب الظواهر واجب لظاهر الأمر به في الكتاب والسنة ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعكاف بن خالد:
"ألك امرأة؟" فقال: لا فقال صلى الله عليه وسلم: "تزوج فإنك من إخوان الشياطين" وفي رواية: "إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم وإن كنت منا فتزوج فإن المهاجر من أمتي من مات وله زوجة أو زوجتان أو ثلاث زوجات".
ولأن التحرز من الزنى فرض ولا يتوصل إليه إلا بالنكاح وما لا يتوصل إلى الفرض إلا به يكون فرضا وحجتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أركان الدين من الفرائض وبين الواجبات ولم يذكر من جملتها النكاح وقد كان في الصحابة رضي الله عنهم من لم يتزوج ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والصحابة رضي الله عنهم فتحوا البلاد ونقلوا ما جل ودق من الفرائض ولم يذكروا من جملتها النكاح وكما يتوصل بالنكاح إلى التحرز عن الزنى يتوصل بالصوم إليه قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشبان عليكم بالنكاح فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
وتأويل ما روي في حق من تتوق نفسه إلى النساء على وجه لا يصبر عنهن وبه نقول إذا كان بهذه الصفة لا يسعه ترك النكاح فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فالنكاح سنة له.
قال صلى الله عليه وسلم:
"ثلاث من سنن المرسلين النكاح والتعطر وحسن الخلق". وقال صلى الله عليه وسلم: "النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني", أي ليس على طريقتي ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى النكاح أفضل من التخلي لعبادة الله في النوافل وقال الشافعي رحمه الله تعالى التخلي لعبادة الله تعالى أفضل إلا أن تتوق نفسه إلى النساء ولا يجد الصبر على التخلي لعبادة الله واستدل بقوله تعالى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً}[آل عمران: 39] فقد مدح يحيى صلى الله عليه وسلم بأنه كان حصورا والحصور هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على الإتيان فدل أن ذلك أفضل.
ولأن النكاح من جنس المعاملات حتى يصح من المسلم والكافر والمقصود به قضاء الشهوة وذلك مما يميل إليه الطبع فيكون بمباشرته عاملا لنفسه وفي الاشتغال بالعبادة هو عامل لله تعالى بمخالفة هوى النفس وفيه اشتغال بما خلقه الله تعالى لأجله قال الله تعالى:

 

ج / 4 ص -178-       {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56)] فكان هذا أفضل إلا أن تكون نفسه تواقة إلى النساء فحينئذ في النكاح معنى تحصين الدين والنفس عن الزنى كما قال عمر رضي الله عنه أيما شاب تزوج فقد حصن ثلثي دينه فليتق الله في الثلث الباقي فلهذا كان النكاح أفضل في حقه وحجتنا قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان على ديني ودين داود وسليمان عليهما السلام فليتزوج"، وقد اشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزويج حتى انتهى العدد المشروع المباح له.
 ولا يجوز أن يقال إنما فعل ذلك لأن نفسه كان تواقة إلى النساء فإن هذا المعنى يرتفع بالمرأة الواحدة ولما لم يكتف بالواحدة دل أن النكاح أفضل.
 والاستدلال بحال الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الاستدلال بحال يحيى عليه السلام مع أنه كان في شريعتهم العزلة أفضل من العشرة وفي شريعتنا العشرة أفضل من العزلة كما قال صلى الله عليه وسلم:
"لا رهبانية في الإسلام" وقد بينا أن النكاح مشتمل على مصالح جمة فالاشتغال به أولى من الاشتغال بنفل العبادة على ما اختاره الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.
 وليس المقصود بهذا العقد قضاء الشهوة وإنما المقصود ما بيناه من أسباب المصلحة ولكن الله تعالى علق به قضاء الشهوة أيضا ليرغب فيه المطيع والعاصي المطيع للمعاني الدينية والعاصي لقضاء الشهوة بمنزلة الإمارة ففيها قضاء شهوة الجاه والنفوس ترغب فيه لهذا المعنى أكثر من الرغبة في النكاح حتى تطلب ببذل النفوس وجر العساكر لكن ليس المقصود بها قضاء شهوة الجاه بل المقصود إظهار الحق والعدل ولكن الله تعالى قرن به معنى شهوة الجاه ليرغب فيه المطيع والعاصي فيكون الكل تحت طاعته والانقياد لأمره مع أن منفعة العبادة على العابد مقصورة ومنفعة النكاح لا تقتصر على الناكح بل تتعدى إلى غيره وما يكون أكثر نفعا فهو أفضل.
قال صلى الله عليه وسلم:
"خير الناس من ينفع الناس" إذا عرفنا هذا فنقول: بدأ الكتاب فقال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها ولا على بنت أختها ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفي ما في صحفتها فإن الله تعالى هو رازقها".
 وهذا الحديث يرويه رجلان من الصحابة رضي الله عنهم بن عباس وجابر رضي الله عنهما وهو مشهور بلغة العلماء بالمقبول والعمل به ومثله حجة يجوز به الزيادة على كتاب الله تعالى عندنا وفيه دليل على حرمة نكاح المرأة على عمتها وخالتها لأن هذا النهي بصيغة الخير وهذا أبلغ ما يكون من النهي كما أن الأمر قد يكون بصيغة الخبر قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}[البقرة: 228] وقال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ}[البقرة: 233] والنهي يقتضي التحريم.
ثم ذكر هذا النهي من الجانبين إما للمبالغة في بيان التحريم أو لإزالة الإشكال فربما

 

ج / 4 ص -179-       يظن ظان أن نكاح بنت الأخ على العمة لا يجوز ونكاح العمة على بنت الأخ يجوز لتفضيل العمة كما لا يجوز نكاح الأمة على الحرة ويجوز نكاح الحرة على الأمة فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوت هذه الحرمة من الجانبين وقوله: "لا تسأل المرأة طلاق أختها"، نهي بصيغة الخبر وله تأويلان:
إما أن يكون المراد به الأخت دينا بأن تكون امرأتان تحت رجل وهو يحسن إليهما فتجيء إلى الزوج إحداهما وتقول طلق صاحبتي ليتحول نصيبها إلي هذا منهي عنه لأنه سبب للتحاسد والتنافر وقال صلى الله عليه وسلم:
"لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا".
 أو يكون المراد به الأخت نسبا بأن تأتي المرأة إلى زوج أختها وتقول فارقها وتزوجني فإني أوفق لك وهذا منهي عنه لأنه سبب لقطيعة الرحم بينهما وقطيعة الرحم من الملاعن وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات فقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهن". ومعنى قوله: "لتكفئ ما في صحفتها" أي لتحول نصيبها إلى نفسها وروي لتكفئ وكلاهما لغة يقال كفأت القدر وأكفأتها إذا أملتها وأرقت ما فيها وفي بعض الروايات لتكف ما في صحفتها ومعناه لتقنع بما آتاها الله فإن الله تعالى هو رازقها والصحفة عبارة عن الحظ والنصيب.
وقد اشتمل الحديث على الحتم والوعظ والندب فإن قوله:
"فإن الله هو رازقها" وعظ وقوله: "لا تسأل ندب" لأنها لو فعلت ذلك جاز ولكن لا ينبغي لها أن تفعله وقوله: "لا تنكح المرأة على عمتها" حتم حتى إذا فعل ذلك لم يجز النكاح عندنا وقال عثمان البتي رحمه الله تعالى يجوز في غير الأختين لأن المحرم بالنص الجمع بين الأختين وهذا ناسخ لما يتلى في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}[النساء: 24].
ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز ولكنا نقول الحديث صحيح مقبول والعمل به واجب فلكونه مشهورا نقول يجوز نسخ الكتاب به عندنا أو نقول هذا مبين لما ذكر في الكتاب وليس بناسخ لأن الحل في الكتاب مقيد بشرط مبهم وهو قوله تعالى:
{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}[النساء: 24] وهذا الشرط مبهم فالحديث ورد لبيان ما هو مبهم في الكتاب ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مبينا قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل: 44] أو نقول هذا الحديث مقرر للحرمة المذكورة في الكتاب فإن الله تعالى ذكر في المحرمات الجمع بين الأختين لأن بينهما رحما يفترض وصلها ويحرم قطعها وفي الجمع قطيعة لرحم على ما يكون بين الضرائر من التنافر فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل قرابة يفترض وصلها فهي في معنى الأختية في تحريم الجمع والتي بين العمة وبنت الأخ قرابة يفترض وصلها حتى لو كان أحدهما ذكرا والأخرى أنثى لم يجز للذكر أن يتزوج الأنثى صيانة للرحم.

 

ج / 4 ص -180-       وإذا ملكه عتق عليه تحرزا عن قطيعة الرحم فكان الحديث مقررا للحرمة المذكورة في القرآن لا أن يكون ناسخا.
قال: وبلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأمتعن النساء فروجهن إلا من الأكفاء وفي هذا دليل على أن للسلطان يدا في الأنكحة فقد أضاف المنع إلى نفسه وذلك يكون بولاية السلطنة وفيه دليل أن الكفاءة في النكاح معتبرة وأن المرأة غير ممنوعة من أن تزوج نفسها ممن يكافئها وأن النكاح ينعقد بعبارتها.
قال: وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"البكر تستأ مر في نفسها وإذنها صماتها والثيب تشاور". ومعنى قوله، "تستأ مر في نفسها" أي في أمر نفسها في النكاح فهو دليل على أنه ليس لأحد من الأولياء أن يزوجها من غير استئمارها أبا كان أو غيره وقيل معناه تستأ مر خالية لا في ملأ من الناس لكيلا يمنعها الحياء من الرد إذا كانت كارهة ولا تذهب حشمة الولي عنه بردها قوله: "وإذنها صماتها". وفي بعض الروايات: "سكوتها رضاها" وذلك دليل على أن رضاها شرط وأن السكوت منها دليل على الرضا فيكتفي به شرعا لما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إنها تستحي فتسكت فقال صلى الله عليه وسلم: "سكوتها رضاها" ومعنى هذا أنها تستحي من إظهار الرغبة في الرجال وإذا استؤمرت فلها جوابان نعم أو لا وسكوتها دليل على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك الجواب وهو الرضا دون الإباء إذ ليس في الإباء إظهار الرغبة في الرجال وقد يكون السكوت دليل الرضا كسكوت الشفيع بعد العلم بالبيع وسكوت المولى عند رؤيته تصرف العبد عن الحجر عليه وقوله والثيب تشاور دليل على أنه لا يكتفي بسكوت الثيب فإن المشاورة على ميزان المفاعلة ولا يحصل ذلك إلا بالنطق من الجانبين وبظاهره يستدل الشافعي على أن الثيب الصغيرة لا يزوجها أحد حتى تبلغ فتشاور ولكنا نقول هذا اللفظ يتناول ثيبا تكون من أهل المشاورة والصغيرة ليست بأهل المشاورة فلا يتناولها الحديث.
قال: وبلغنا عن إبراهيم رحمه الله تعالى قال:
"البكر تستأ مر في نفسها" فلعل بها داء لا يعلمه غيرها قيل معنى هذا لعلها رتقاء أو قرناء وذلك في باطنها لا يعلمه غيرها فإذا زوجت من غير استئمارها لا يحصل المقصود بالنكاح وينتهك سترها وقيل معناه لا تشتهي صحبة الرجال لمعنى في باطنها من غلبة الرطوبة أو نحو ذلك فإذا زوجت بغير استئمارها لا تحسن العشرة مع زوجها أو لعل قلبها مع غير هذا الذي تزوج منه فإذا زوجت بغير استئمارها لم تحسن صحبة هذا الزوج ووقعت في الفتنة لكون قلبها مع غيره وأي داء أدوى من العشق؟
قال: وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة" وفيه دليل على أن نكاح الأمة على الحرة لا يجوز وأن هذه الحرمة ثابتة شرعا،

 

ج / 4 ص -181-       رضيت الحرة أو لم ترض وهو مذهبنا وقال مالك رحمه الله تعالى إذا رضيت الحرة جاز قال لأن المنع لحق الحرة لا للجمع بدليل أنه إذا تقدم نكاح الأمة بقي نكاحها بعد الحرة والجمع موجود فدل أن المنع لحق الحرة وهو أنه يغصها إدخال ناقصة الحال في فراشها وذلك ينعدم برضاها.
ولكنا نقول: المنع ليس لحقها بل لأنها ليست من المحللات مضمومة إلى الحرة وهي من المحللات منفردة عن الحرة فإن الحل برقها يتنصف كما ينتصف برق الرجل على ما نبينه إن شاء الله تعالى فإذا تزوجها على الحرة فهذا حال ضمها إلى الحرة وهي ليست من المحللات في هذه الحالة وهذا المعنى لا يزول برضاها فلهذا لا يجوز النكاح والكلام فيه أن هذا الحديث ناسخ لما في الكتاب أو مبين بطريق التخصيص على نحو ما بينا في الحديث الأول.
ثم ذكر هذا اللفظ عن علي رضي الله عنه أيضا وزاد فيه وللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث وبه نأخذ فإن القسم ينبني على الحل الذي ينبني عليه النكاح وحظ الأمة فيه على النصف من حظ الحرة
وزعم بعض العلماء رحمهم الله تعالى أنه يسوى بينهما في القسم كما يسوى بينهما في النفقة للمساواة بينهما في الملك والحاجة ولكنا نقول لا يسوى بينهما في النفقة أيضا فالحرة تستحق نفقة خادمها كما تستحق نفقة نفسها والأمة لا تستحق النفقة إلا أن يبوئها المولى بيتا مع زوجها.
قال: وبلغنا عن بن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن بعض العرب كان في الجاهلية يستحل الرجل نكاح امرأة أبيه فإذا مات أبوه ورث نكاحها عنه فأنزل الله تعالى قوله:
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وأنزل الله تعالى قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23] وأن العرب في الجاهلية كانوا فريقين.
فريق يعتقدون الإرث في منكوحة الأب ويقولون إن ولد الرجل إذا لم يكن منها يخلفه في نكاحها كما يخلفه في ملكه فيطأها بغير عقد جديد رضيت أو كرهت وفيه نزل قوله تعالى:
{لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً}[النساء: 19].
وبعضهم كانوا يعتقدون أنها تحل له بعقد جديد وأنه متى رغب فيها فهو أحق بها من غيره وفيه نزل قوله تعالى:
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}[النساء: 22].
وكانوا في الجاهلية يسمون الولد الذي يكون بينهما ولد المقت وإليه أشار الله تعالى في قوله:
{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً}[النساء: 22].
وقوله تعالى:
{إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}[النساء: 22] معناه: أن ما قد سلف في الجاهلية فإنكم لا تؤاخذون بذلك إذا خليتم سبيلهن بعد العلم بالحرمة وقيل معناه ولا ما قد سلف فإن

 

ج / 4 ص -182-       كلمة إلا قد تكون بمعنى ولا. قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[البقرة: 150] فيكون المعنى أنه كما لا يحل ابتداء العقد بعد نزول الحرمة لا يحل امساك ما قد سلف بعد نزول الحرمة لكيلا يظن ظان أن هذه الحرمة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء كحرمة العدة فأما قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23] ففيه بيان المحرمات.
والحاصل أن المحرمات أربعة عشر: سبع من جهة النسب، وسبع من جهة السبب.
أما من جهة النسب فالأمهات بقوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23] فأما الرجل حرام عليه وكذلك جداته من قبل أبيه أو من قبل أمه فعلى قول من يقول إن اللفظ الواحد يجوز أن يراد به الحقيقة والمجاز في محلين مختلفين يقول حرمت الجدات بالنص لأن اسم الأمهات يتناولهن مجازا وعلى قول من يقول لا يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز يقول حرمت الجدات بدليل الإجماع إذ الأمهات هن الأصول وهو حقيقة معنى هذا الاسم وذلك يجمع الكل إلا أن إطلاق الاسم في الأم الأدنى دون غيرها لدليل العرف فعلى هذا يتناول النص الجدات حقيقة.
والثاني: البنات فعلى القول الأول حرمة بنات البنات وبنات البنين وإن سفلن ثابتة بالنص أيضا لأن الاسم يتناولهن مجازا وعلى القول الآخر حرمتهن بدليل الإجماع على ما بينا.
والثالث: الأخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى:
{وَأَخَوَاتُكُمْ}[النساء: 23] وهن أصناف ثلاثة الأخت لأب وأم والأخت لأب والأخت لأم وهن محرمات بالنص فالأختية عبارة عن المجاورة في الرحم أو في الصلب فكان الاسم حقيقة يتناول الفرق الثلاث.
والرابع: العمات تثبت حرمتهن بقوله تعالى:
{وَعَمَّاتُكُمْ}[النساء: 23] ويدخل في ذلك أخوات الأب لأب وأم أو لأب أو لأم.
والخامس: الخالات تثبت حرمتهن بقوله تعالى:
{وَخَالاتُكُمْ}[النساء: 23] ويدخل في ذلك أخوات الأم لأب وأم أو لأب أو لأم.
والسادس: بنات الأخ تثبت حرمتهن بقوله تعالى:
{وَبَنَاتُ الْأَخِ}[النساء: 23] ويدخل في ذلك بنات الأخ لأب وأم أو لأب أو لأم.
والسابع: بنات الأخت تثبت حرمتهن بقوله تعالى:
{وَبَنَاتُ الْأُخْتِ}[النساء: 23] ويستوي في ذلك بنات الأخت لأب وأم أو لأب أو لأم.
وأما السبع اللاتي من جهة السبب: الأمهات من الرضاعة والأخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى:
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}[النساء: 23] والحاصل أنه

 

ج / 4 ص -183-       يثبت بالرضاع من الحرمة ما يثبت بالنسب قال صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
والثالث: أم المرأة فإن من تزوج امرأة حرمت عليه أمها ثبت بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}[النساء: 23] وهذه الحرمة تثبت بنفس العقد عندنا وكان بشر المريسي وبن شجاع رحمهما الله تعالى يقولان لا تثبت إلا بالدخول بالبنت وهو أحد قولى الشافعي رحمه الله تعالى ومذهبنا مذهب عمر وبن عباس رضي الله عنهم وإليه رجع بن مسعود رضي الله عنه حين ناظره عمر رضي الله عنه ومذهبهم مذهب علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما واستدلوا بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}[النساء: 23] والأصل أن الشرط والإستثناء إذا تعقب كلمات منسوقة بعضها على بعض ينصرف إلى جميع ما سبق ذكره ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تزوج امرأة حرمت عليه أمها دخل بها أو لم يدخل وحرمت عليه ابنتها إن دخل بها". وكان بن عباس رضي الله عنهما يقول أم المرأة مبهمة فأبهموا ما أبهم الله بين أن الشرط المذكور ينصرف إلى الربائب دون الأمهات وهذا هو الظاهر لغة فالنساء المذكورة في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}[النساء: 23] مخفوضة بالإضافة وفي قوله: {مِنْ نِسَائِكُمْ}[النساء: 23] مخفوض بحرف من والمخفوضات بأداتين لا ينعتان بنعت واحد ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقول مررت بزيد إلى عمرو الظريفين وهو الأصل في اللغة أن المعمول الواحد لا يكون بعاملين فلو جعلنا قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ}[النساء: 23] عطفا لصار قوله: {مِنْ نِسَائِكُمْ}[النساء: 23] مخفوضا بحرف من وبالإضافة جميعا وذلك لا يجوز فعرفنا أن قوله وربائبكم ابتداء بحرف الواو وأن أمهات النساء مبهمة كما قال بن عباس رضي الله عنهما فأما حرمة الربيبة وهي بنت المرأة لا تثبت الحرمة إلا بالدخول بالأم لقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}[النساء: 23] ولأن الربائب ليس في معنى الأمهات فالظاهر من العبارة أن أم الزوجة تبرز إلى زوج بنتها قبل الدخول وأما بنت المرأة لا تبرز إلى زوج أمها قبل الدخول بالأم.
واختلفت الصحابة رضي الله عنهم أن الحجر هل ينتصب شرطا لهذه الحرمة أو لا فكان علي رضي الله عنه يقول الحجر شرط لقوله تعالى:
{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}[النساء: 23] ولما روي أنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت أم سلمة رضي الله عنهما فقال: "لو لم تكن ربيبتي في حجري ما كانت تحل لي أرضعتني وآباها ثوبية". فأما عمر وبن مسعود رضي الله عنهما كانا يقولان الحجر ليس بشرط وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى للحديث الذي رويناه.
وتفسير الحجر وهو أن البنت إذا زفت مع الأم إلى بيت زوج الأم فهذه كانت في حجره وإذا كانت مع أبيها لم تكن في حجر زوج الأم وإنما ذكر الحجر في الآية على وجه العادة فإن

 

ج / 4 ص -184-       بنت المرأة تكون في حجر زوج أمها لا على وجه الشرط مثل قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}[النور: 33] مذكور على وجه العادة لا على وجه الشرط ألا ترى أنه قال: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}[النساء: 23] شرط للحل عدم الدخول فذلك دليل على أنه بعد ما دخل بالأم لا تحل له البنت قط سواء كانت في حجره أو لم تكن ولا يحل له أن يجمع بين الأم والبنت وإن لم يكن دخل بالأم لأن القرابة التي بينهما أقوى من القرابة التي بين المرأة وعمتها وقد بينا أن هناك لا يجوز الجمع بينهما نكاحا فهنا أولى.
فأما إذا طلق الأم قبل أن يدخل بها أو ماتت يحل له أن يتزوج البنت وكان زيد رحمه الله تعالى يفرق بين الطلاق والموت فيقول: بالموت ينتهي النكاح حتى يتقرر به كمال المهر فنزل ذلك منزلة الدخول ولكنا نقول هذه الحرمة تعلقت شرعا بشرط الدخول فلو أقمنا الموت مقامه كان ذلك بالرأي وكما لا يجوز نصب شرط بالرأي لا يجوز إقامة شرط مقام شرط بالرأي.
فأما حليلة الابن على الأب حرام سواء دخل الابن بها أولم يدخل لقوله تعالى:
{وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ}[النساء: 23] سميت حليلة لأنها تحل للابن من الحل أو هو مشتق من الحلول على معنى أنها تحل على فراشه وهو يحل في فراشها وكما تحرم حليلة الابن نسبا فكذلك حليلة الابن من الرضاع عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تحرم حليلة الابن من الرضاع بناء على أصله أن لبن الفحل لا يحرم واستدل بالتقييد المذكور هنا بقوله: {مِنْ أَصْلابِكُمْ}[النساء: 23] ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". والمراد بقوله تعالى: {مِنْ أَصْلابِكُمْ}[النساء: 23] بيان إباحة حليلة الابن من التبني فإن التبني انتسخ بقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}[الأحزاب: 5] وكان النبي صلى الله عليه وسلم تبنى زيد بن حارثة ثم تزوج زينب بعد ما طلقها زيد فطعن المشركون وقالوا: إنه تزوج حليلة ابنه وفيه نزل قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}[الأحزاب: 40] فهذا التقييد هنا لدفع طعن المشركين.
وكما تحرم حليلة الابن فكذلك حليلة بن الإبن وإن سفل لأن اسم الابن يتناوله مجازا.
فإن قيل ابن الابن لا يكون من صلبه فكيف يصح تعدية هذا التحريم إليه مع هذا التقييد؟
قلنا: مثل هذا اللفظ يذكر باعتبار أن الأصل من صلبه كقوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ}[غافر: 67] والمخلوق من التراب هو الأصل.
وكذلك منكوحة الأب حرام على الابن, دخل بها الأب أو لم يدخل لقوله تعالى:
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}[النساء: 22] وكما يحرم على الابن يحرم على النوافل من قبل الرجال والنساء جميعا لأن اسم الأب يتناول الكل مجازا.

 

ج / 4 ص -185-       فأما قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}[النساء: 23] معناه حرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين لأنه معطوف على أول الآية والجمع بين الأختين نكاحا حرام وكذلك الجمع بينهما فراشا حتى لا يجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين وهو مذهب علي وبن مسعود وعمار بن ياسر رضوان الله عليهم فإنه قال ما حرم الله تعالى من الحرائر شيئا إلا وحرم من الإماء مثله إلا رجل يجمعهن يريد به الزيادة على الأربع.
وكان عثمان رضي الله عنه يقول أحلتهما آية وحرمتهما آية يريد بآية التحليل قوله تعالى:
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء: 3] وبآية التحريم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}[النساء: 23] فكان يتوقف في ذلك ولكنا نقول عند التعارض يترجح جانب الحرمة ويتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجمع ماءه في رحم أختين"، ولأن المراد من قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا}[النساء: 23] حرمة الجمع فراشا.
كما أن قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23] يقتضي حرمة الاستفراش بأي سبب كان والجمع فراشا يحصل بالوطء بملك اليمين فلهذا يحرم عليه الجمع بينهما فإن تزوجهما في عقدة واحدة بطل نكاحهما لأنه لا وجه لتصحيح نكاح إحداهما بغير عينها فإن النكاح عقد تمليك فلا يثبت في المجهولة ابتداء ولا بعينها إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى ولا يمكن تصحيح نكاحهما لأن الجمع محرم بالنص فتعين البطلان وإن نكح إحداهما قبل الأخرى فنكاح الأولى جائز لأن بهذا العقد لا يصير جامعا ونكاح الثانية فاسد لأن بهذا العقد يصير جامعا بين الأختين فتعين فيه جهة البطلان فيفرق بينهما فإن لم يكن دخل بها فلا شيء لها عليه وإن كان قد دخل بها فعليها العدة ولها الأقل من المسمى ومن مهر المثل لأن الدخول حصل بشبهة صورة النكاح فيسقط به الحد ويجب المهر والعدة كما إذا زفت إليه غير امرأته حكم ذلك مروي عن علي رضي الله عنه.
فأما وجوب الأقل من المسمى ومن مهر المثل فهو مذهبنا وعند زفر رحمه الله تعالى يجب مهر المثل بالغا ما بلغ لأن الواجب عند فساد العقد بدل المتلف ألا ترى أن المقبوض بحكم الشراء الفاسد يكون مضمونا بالقيمة بالغة ما بلغت عند الإتلاف فكذلك المستوفي بالنكاح الفاسد ولكنا نقول المستوفي بالوطء ليس بمال فإنما يتقدر بالمال بالتسمية إلا أن المسمى إذا كان أكثر من مهر المثل لم تجب الزيادة لعدم صحة التسمية فإذا كان أقل لم تجب الزيادة على قدر المسمى لانعدام التسمية فيه ولتمام التراضي على قدر المسمى بخلاف المبيع فإنه مال متقوم بنفسه فبدله يتقدر بالقيمة وإنما يتحول عنه إلى المسمى إذا صحت التسمية فإذا لم تصح لفساد العقد كان مضمونا بالقيمة.
ثم يعتزل عن امرأته حتى تنقضي عدة الأخرى سواء دخل بالأولى أو لم يدخل بها،

 

ج / 4 ص -186-       لأن رحم المعتدة مشغول بمائه حكما ولو وطى ء الأخرى في هذه الحالة صار جامعا ماءه في رحم الأختين وذلك حرام شرعا ولكن أصل نكاح الأولى بهذا لا يبطل لأن اشتغال رحم الثانية عارض على شرف الزوال فلا يبطل ذلك أصل النكاح كالمنكوحة إذا وطئت بالشبهة ووجبت عليها العدة لا يكون للزوج أن يطأها حتى تنقضي عدتها ولا يبطل نكاحها ولا تتزوج المرأة في عدة أختها منه من نكاح فاسد أو جائز عن طلاق بائن أو غير بائن.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى: إن كانت تعتد منه من طلاق رجعي فليس له أن يتزوج أختها وإن كان من ثلاث أو خلع فله أن يتزوج أختها في عدتها وقد روي مثل مذهبه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى ذكر في الأمالي رجوع زيد رضي الله عنه عن هذا القول وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى قول زيد الآخر أنه ليس له أن يتزوجها وحكي أن مروان شاور الصحابة رضي الله عنهم في هذا فاتفقوا على أنه يفرق بينهما وخالفهم زيد ثم رجع إلى قولهم.
وقال عبيدة السلماني: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم على شيء كاجتماعهم على تحريم نكاح الأخت في عدة الأخت والمحافظة على الأربع قبل الظهر وذكر سلمان بن بشار عن علي وبن مسعود وبن عباس رضي الله عنهم المنع من نكاح الأخت المعتدة من طلاق بائن أو ثلاث وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول إن كانت حاملا فليس له أن يتزوج أختها وإن كانت حائلا فله أن يتزوجها وحجة الشافعي رحمه الله تعالى أن النكاح مرتفع بينهما بجميع علائقه فيجوز له نكاح أختها كما بعد انقضاء العدة.
ودليل الوصف أنه لو وطئها وقال علمت أنها علي حرام يلزمه الحد ولو جاءت بولد لأكثر من سنتين حتى علم أن العلوق كان في العدة لم يثبت النسب ولو بقيت بينهما علاقة من علائق النكاح لسقط به الحد وثبت النسب والعدة الواجبة أثر ماء محترم لأنها من حقوق النكاح حتى لا يجب بدون توهم الدخول وما كان من العدة لحق النكاح لا يعتبر فيه توهم الدخول كعدة الوفاة وإذا ثبت الوصف فتأثيره أن المحرم هو الجمع بينهما نكاحا فلا يصير جامعا بهذا حتى لم يبق بينه وبين الأولى علقة من علائق النكاح والمقصود من هذا التحريم صيانة الرحم عن القطيعة التي تكون بسبب المنازعة بينهما في القسم وذلك لا يتحقق بعد الخلع والتطليقات الثلاثة.
ولنا: أن هذه معتدة على الإطلاق فليس له أن يتزوج بأختها كالعدة من طلاق رجعي وهذا لأن العدة حق من حقوق النكاح ألا ترى أنها لا تجب بدون النكاح أو شبهة النكاح ولا معنى لما قال إن وجوبها بماء محترم لأنه إن اعتبر أصل الماء فهو موجود في الزانية ولا عدة وإن اعتبر الماء المحترم فاحترام الماء يكون بالنكاح والدليل عليه أن العدة تختلف

 

ج / 4 ص -187-       بالرق والحرية واشتغال الرحم بالماء لا يختلف وإنما يختلف ملك النكاح لتفاوت بينهما في الحل الذي ينبني عليه النكاح فعرفنا أنه من حقوق النكاح ولكن حق النكاح بعد ارتفاعه إنما يبقى إذا كان النكاح متأكدا وتأكده بالموت أو بالدخول ولهذا لا تجب العدة على المطلقة قبل الدخول وإذا ثبت أنه من حقوق النكاح فالحق يعمل عمل الحقيقة في إثبات الحرمة كما أن حق ملك اليمين للمكاتب كحقيقة ملك اليمين للحر في المنع من نكاح أمته.
وكما أن الرضاع في التحريم ينزل منزلة النسب لأنه في البعضية بمنزلة الحق من الحقيقة والدليل عليه أن في جانبها جعل الحق كالحقيقة في حق المنع من التزوج فكذلك في جانبه ونحن نسلم ارتفاع ملك النكاح بجميع علائقه إنما ندعي بقاء الحق وهذا الحكم عندنا يثبت بدون ملك النكاح فإن بالنكاح الفاسد أصل الملك لا يثبت ثم يكون ممنوعا من نكاح أختها وكما يلزمه الحد إذا وطئها يلزمها الحد إذا مكنت نفسها منه ولا يدل ذلك على زوال المنع من جانبها فكذلك من جانبه وكما لا يجوز له أن يتزوج أختها في عدتها فكذلك لا يجوز أن يتزوج أحدا من محارمها لأنهما في معنى الأختين في حرمة الجمع بينهما وكذلك لا يجوز له أن يتزوج أربعا سواها في عدتها لأن الجمع بين الخمس حرام بالنكاح بمنزلة الجمع بين الأختين.
قال: ولا يحل له أن يجمع بين امرأتين ذواتي رحم محرم من نسب أو رضاع لأن الرضاع في حكم الحرمة بمنزلة النسب وبهذا تبين أن في المنصوص لا يعتبر المعنى وإن المعتبر حرمة الجمع بالنص لا صيانة الرحم عن القطيعة فإنه ليس بين الأختين من الرضاعة قرابة يفترض وصلها ثم كان الجمع بينهما حراما فإن تزوجها فهو على ما بينا في الأختين نسبا زاد في التفريع هنا فقال إن تزوجهما في عقدة ودخل بهما فرق بينه وبينهما وعليهما العدة وإنما تصير كل واحدة منهما شارعة في العدة من وقت التفريق عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى من آخر الوطآت وكذلك في كل نكاح فاسد لأن وجوب العدة بسبب الوطء فيعتبر من آخر الوطآت ولكنا نقول الموجب للعدة شبهة النكاح ورفع هذه الشبهة بالتفريق ألا ترى إن وطأها قبل التفريق لا يلزمه الحد وبعده يلزمه فلا تصير شارعة في العدة ما لم ترتفع الشبهة وذلك بالتفريق بينهما.
والدليل على أن المعتبر هو الشبهة أنه وإن وطئها مرارا لا يجب إلا مهر واحد لاستناده إلى شبهة واحدة إذا ثبت هذا فنقول بعد ما فرق بينه وبينهما ليس له أن يتزوج واحدة منهما حتى تنقضي عدة الأخرى لأن الأخرى في عدته وعدة الأخت تمنع نكاح الأخت فإن انقضت عدتهما معا فله أن يتزوج أيتهما شاء وإن انقضت عدة إحداهما فليس له أن يتزوج التي انقضت عدتها لأن الأخرى معتدة وله أن يتزوج المعتدة لأن الأخرى منقضية العدة.

 

ج / 4 ص -188-       وعدة هذه لا تمنع صاحب العدة من نكاحها إنما تمنع غيره من ذلك وكذلك لو كان دخل بإحداهما ثم فرق بينه وبينهما فالعدة على التي دخل بها دون الأخرى وله أن يتزوج المعتدة ولا يتزوج الأخرى حتى تنقضي عدة المعتدة لما بينا.
قال: وإذا وطى ء الرجل امرأة بملك يمين أو نكاح أو فجور يحرم عليه أمها وابنتها وتحرم هي على آبائه وأبنائه وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن كان الوطء بنكاح أو ملك يمين فكذلك الجواب وإن كان بالزنى لا تثبت به الحرمة واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم:
"الحرام لا يحرم الحلال", وهكذا رواه بن عباس رضي الله عنه.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يبتغي من امرأة فجورا ثم يتزوج ابنتها فقال:
"لا بأس لا يحرم الحرام الحلال" وقالت عائشة رضي الله عنها سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل يبتغي من امرأة حراما ثم يتزوج ابنتها فقال: "يجوز لا يحرم الحرام الحلال وإنما يحرم ما كان من قبل النكاح". وعلل الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه فقال النكاح أمر حمدت عليه والزنا فعل رجمت عليه فأنى يستويان ومعنى هذا أن ثبوت حرمة المصاهرة بطريق النعمة والكرامة فإن الله تعالى من به على عباده بقوله تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً}[الفرقان: 54]وهو معقول فإن أمهاتها وبناتها يصرن كأمهاته وبناته حتى يخلو بهن ويسافر بهن وهذا يكون بطريق الكرامة والزنا المحض سبب لإيجاب العقوبة فلا يصلح سببا لإيجاب الحرمة والكرامة ألا ترى أنه لا يثبت به النسب والعدة فكذلك حرمة المصاهرة وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}[النساء: 22].
وقد بينا أن النكاح للوطء حقيقة فتكون الآية نصا في تحريم موطوءة الأب على الابن فالتقييد بكون الوطء حلالا زيادة ولا تثبت هذه الزيادة بخبر الواحد ولا بالقياس والدليل عليه أن موطوءة الأب بالملك حرام على الابن بهذه الآية فدل أن المراد بالنكاح الوطء لا العقد وقد نقل مثل مذهبنا عن بن مسعود وبن عباس وأبي بن كعب وعمران بن حصين رضي الله عنهم بألفاظ مختلفة والمعنى فيه أنه وطء في محله فيكون موجبا للحرمة كالوطء بالنكاح وملك اليمين.
وتفسير الوصف: أن الوطء في هذا المحل محرم لكونه مثبتا لأن هذا الفعل حرث والحرث لا يكون إلا في محل مثبت وكون المحل مثبتا لا يختلف بالملك وعدم الملك وتأثيره أن ثبوت الحرمة بسبب هذا الوطء في الملك ليس لعين الملك بل لمعنى البعضية لأن الولد الذي يتخلق من الماءين يكون بعضا لكل واحد منهما فتتعدى شبهة البعضية إلى أمهاتها وبناتها وإلى آبائه وأبنائه والشبهة تعمل عمل الحقيقة في إيجاب الحرمة وهذا المعنى لا

 

ج / 4 ص -189-       يختلف بالملك وعدم الملك لأن سبب البعضية حسي وإنما تكون هذه البعضية موجبة حرمة الموطوءة لأن البعضية الحكمية عملها كعمل حقيقة البعضية وحقيقة البعضية توجب الحرمة في غير موضع الضرورة فأما في موضع الضرورة لا توجب ألا ترى أن حواء عليها السلام خلقت من آدم عليه السلام فكانت بعضه حقيقة وهي حلال له فكذلك شبهة البعضية إنما توجب الحرمة في غير موضع الضرورة وفي حق الموطوءة ضرورة وهذا لأن العلل الشرعية إمارات لا موجبات فلهذا ثبت الحكم بها في الموضع الذي جعلها الشرع علة وقد جعل الشرع موضع الضرورة مستثنى من الحرمة بقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[الأنعام: 119].
فأما النسب فعندنا أحكام النسب تثبت ولكن الانتساب لا يثبت لأنه لمقصود الشرف به ولا يحصل ذلك بالنسبة إلى الزاني والعدة إنما لا تجب لأن وجوبها في الأصل باعتبار حق النكاح أو الفراش وبين النكاح والسفاح منافاة فبانعدام الفراش ينعدم السبب الموجب للعدة.
وبعض أصحابنا رحمهم الله تعالى يقولون الحرمة تثبت هنا بطريق العقوبة كما تثبت حرمة الميراث في حق القاتل عقوبة والأصل فيه قوله تعالى:
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ}(النساء: 160] وعلى هذا الطريق يقولون: المحرمية لا تثبت حتى لا تباح الخلوة والمسافرة بها ولكن هذا التعليل فاسد فإن التعليل لتعدية حكم النص لا لإثبات حكم آخر سوى المنصوص فإن ابتداء الحكم لا يجوز إثباته بالتعليل والمنصوص حرمة ثابتة بطريق الكرامة فإنما يجوز التعليل لتعدية تلك الحرمة إلى الفروع لا لإثبات حكم آخر سوى المنصوص ولكن الصحيح أن نقول هذا الفعل زنا موجب للحد كما قال ولكنه مع ذلك حرث للولد ويصلح أن يكون سببا لثبوت الحرمة والكرامة باعتبار أنه حرث للولد ألا ترى أنه في جانبها الفعل زنا ترجم عليه وإذا حبلت به كان لذلك الولد من الحرمة ما لغيره من بني آدم فيثبت نسبه منها وتحرم هي عليه وثبوت هذا كله بطريق الكرامة لأنه حرث لا لإنه زنا فكذا هنا.
فبهذا التقرير يتبين فساد استدلالهم بالحديث. فإنا لا نجعل الحرام محرما للحلال وإنما نثبت الحرمة باعتبار أن الفعل حرث للولد وحرمة هذا الفعل بكونه زنا على أن هذا الحديث غير مجرى على ظاهره فإن كثيرا من الحرام يحرم الحلال كما إذا وقعت قطرة من خمر في ماء وكالوطء بالشبهة ووطء الأمة المشتركة ووطء الأب جارية الابن فإن هذا كله حرام حرم الحلال لا لأنه حرام بل للمعنى الذي قلنا فكذلك هنا.
ومن فروع هذه المسألة بنت الرجل من الزنى بأن زني ببكر وأمسكها حتى ولدت بنتا حرم عليه تزوجها عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون حراما وله في البنت

 

ج / 4 ص -190-       الملاعنة التي لم يدخل بالأم قولان واستدل فقال نص التحريم قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ}[النساء: 23] وذلك يتناول البنت المضافة إليه نسبا والبنت من الزنى غير مضافة إليه نسبا بل هي حرام الإضافة إليه نسبا ولو أثبتنا الحرمة فيها كان إثبات الحرمة بالزنى وبه فارق جانبها فإن الابن من الزنى يضاف إلى الأم نسبا فكانت هي حراما عليه لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23].
وتبين بهذا التفريق أن هذه الحرمة الثابتة شرعا تنبني على ثبوت النسب شرعا والنسبة إلى الزاني غير ثابتة من كل وجه فكذا هنا وهكذا يقول على أحد القولين في بنت الملاعنة وعلى القول الآخر يفرق بينهما فيقول النسب هناك كان ثابتا باعتبار الفراش لكن انقطع باللعان وبقي موقوفا على حقه حتى لو أكذب نفسه يثبت النسب منه ولا يثبت من غيره وإن أعاده فيجوز إبقاء الحرمة وهنا النسب لم يكن ثابتا أصلا لانعدام الفراش ولا هو بعرض الثبوت منه.
ولنا: إن ولد الزنى بعضه فتكون محرمة عليه كولد الراشدة وهذا لأن البعضية باعتبار الماء وذلك لا يختلف حقيقته بالملك وعدم الملك فالولد المخلوق من الماءين يكون بعض كل واحد منهما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها:
" هي بضعة مني". والبعضية علة صالحة لإثبات الحرمة لأن الإنسان كما لا يستمتع بنفسه لا يستمتع ببعضه إلا أن النسب لا يثبت لا لانعدام البعضية بل للاشتباه لأن الزانية يأتيها غير واحد ولو أثبتنا النسب بالزنى ربما يؤدي إلى نسبة ولد إلى غير أبيه وذلك حرام بالنص حتى أن في جانبها لما كان لا يؤدي إلى هذا الاشتباه كان النسب ثابتا ولأن قطع النسب شرعا لمعنى الزجر عن الزنى فإنه إذا علم أن ماءه يضيع بالزنى يتحرز عن فعل الزنى وذلك يوجب إثبات الحرمة لأن معنى الزجر عن الزنى به يحصل فإنه إذا علم أنه بسبب الحرام مرة يفوته حلال كثير يمتنع من مباشرة الحرام فلهذا أثبتنا الحرمة وإن لم يثبت النسب هنا.
إذا عرفنا هذا فنقول كما ثبتت حرمة المصاهرة بالوطء تثبت بالمس والتقبيل عن شهوة عندنا سواء كان في الملك أو في غير الملك وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تثبت الحرمة بالتقبيل والمس عن شهوة أصلا في الملك أو في غير الملك حتى أنه لو قبل أمته ثم أراد أن يتزوج ابنتها عنده يجوز وكذلك لو تزوج امرأة وقبلها بشهوة ثم ماتت عنده يجوز له أن يتزوج ابنتها بناء على أصله إن حرمة المصاهرة تثبت بما يؤثر في إثبات النسب والعدة وليس للمس والتقبيل عن شهوة تأثير في إثبات النسب والعدة فكذلك في إثبات الحرمة وقاس بالنكاح الفاسد فإن التقبيل والمس فيه لا يجعل كالدخول في إيجاب المهر والعدة وكذلك في إيجاب الحل للزوج الأول فكذا هنا.
ولكنا نستدل بآثار الصحابة رضي الله عنهم فقد روي عن بن عمر رضي الله عنه،

 

ج / 4 ص -191-       أنه قال: إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها بشهوة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وابنتها وعن مسروق رحمه الله تعالى قال بيعوا جاريتي هذه أما أني لم أصب منها ما يحرمها على ولدي من المس والقبلة ولأن المس والتقبيل سبب يتوصل به إلى الوطء فإنه من دواعيه ومقدماته فيقام مقامه في إثبات الحرمة.
كما أن النكاح الذي هو سبب الوطء شرعا يقام مقامه في إثبات الحرمة. إلا فيما استثناه الشرع وهي الربيبة وهذا لأن الحرمة تنبني على الاحتياط فيقام السبب الداعي فيه مقام الوطء احتياطا وإن لم يثبت به سائر الأحكام كما تقام شبهة البعضية بسبب الرضاع مقام حقيقة البعضية في إثبات الحرمة دون سائر الأحكام.
ولو نظر إلى فرجها بشهوة تثبت به الحرمة عندنا استحسانا وفي القياس لا تثبت وهو قول بن أبي ليلى والشافعي رحمهما الله تعالى لأن النظر كالتفكر إذ هو غير متصل بها.
إلا ترى أنه لا يفسد به الصوم وإن اتصل به الإنزال ولأن النظر لو كان موجبا للحرمة لاستوى فيه النظر إلى الفرج وغيره كالمس عن شهوة ولكنا تركنا القياس بحديث أم هانئ رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من نظر إلى فرج امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها". وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه جرد جارية ثم نظر إليها ثم استوهبها منه بعض بنيه فقال: أما أنها لا تحل لك وفي الحديث: "ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها".
ثم النظر إلى الفرج بشهوة نوع استمتاع لأن النظر إلى المحل إما لجمال المحل أو للاستمتاع وليس في ذلك الموضع جمال ليكون النظر لمعنى الجمال فعرفنا أنه نوع استمتاع كالمس بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء ولأن النظر إلى الفرج لا يحل إلا في الملك بمنزلة المس عن شهوة بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء ثم معنى الشهوة المعتبرة في المس والنظر أن تنتشر به الآلة أو يزداد انتشارها فأما مجرد الاشتهاء بالقلب غير معتبر ألا ترى أن هذا القدر يكون من الشيخ الكبير الذي لا شهوة له والنظر إلى الفرج الذي تتعلق به الحرمة هو النظر إلى الفرج الداخل دون الخارج وإنما يكون ذلك إذا كانت متكثة أما إذا كانت قاعدة مستوية أو قائمة لا تثبت الحرمة بالنظر.
ثم حرمة المصاهرة بهذه الأسباب تتعدى إلى آبائه وإن علوا وأبنائه وإن سفلوا من قبل الرجال والنساء جميعا وكذلك تتعدى إلى جداتها وإلى نوافلها لما بينا أن الأجداد والجدات بمنزلة الآباء والأمهات والنوافل بمنزلة الأولاد فيما تنبني عليه الحرمة وذلك كله مروي عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى وعلى هذا إذا جامع الرجل أم امرأته حرمت عليه امرأته نقل ذلك عن أبي بن كعب رضي الله عنه وكان المعني فيه أن الحرمة بسبب المصاهرة مثل الحرمة بالرضاع والنسب وذلك كما يمنع ابتداء النكاح يمنع بقاء النكاح فكذلك هذا يمنع بقاء النكاح كما يمنع ابتداءه

 

ج / 4 ص -192-       قال: رجل له أربع نسوة فطلق واحدة منهن بعد ما دخل بها ثلاثا أو واحدة بائنة أو خلعها لم يجز له أن يتزوج أخرى ما دامت في العدة لأن حرمة ما زاد على الأربع كحرمة الأختين فكما أن هناك العدة تعمل على حقيقة النكاح في المنع فكذا هنا.
فإن قال أخبرتني أن عدتها قد انقضت فإن كان ذلك في مدة لا تنقضي في مثلها العدة لا يقبل قوله ولا قولها إن أخبرت إلا أن تفسر بما هو محتمل من إسقاط سقط مستبين الخلق ونحوه وإن كان ذلك في مدة تنقضي في مثلها العدة أن صدقته أو كانت ساكتة أو غائبة فله أن يتزوج أخرى أو أختها إن شاء ذلك وكذلك إن كذبته في قول علمائنا وعن زفر رحمه الله تعالى ليس له ذلك لأن عدتها باقية فإنها أمينة في الإخبار بما في رحمها وقد أخبرت ببقاء عدتها والزوج إنما أخبر عليها وهي تكذبه في ذلك فيسقط منه اعتبار قوله كشاهد الأصل إن أكذب شاهد الفرع أو راوي الأصل إن كذب الراوي عنه والدليل عليه بقاء نفقتها وسكناها وثبوت نسب ولدها إن جاءت به لأقل من سنتين.
وبالاتفاق إذا حكمنا بثبوت نسب ولدها يبطل نكاح أختها فكذلك إذا قضينا بنفقتها وحجتنا في ذلك أنه أخبر عن أمر بينه وبين ربه عز وجل فكان أمينا مقبول القول فيه إذا احتمل كمن قال صمت أو صليت وبيان الوصف أنه أخبر بحل نكاح أختها له ولا حق للمطلقة في ذلك فإن الحل والحرمة من حق الشرع وإنما حق العباد فيه باعتبار قيام حق لهم في محله ولا حق لها في نكاح أختها فلا يعتبر تكذيبها فيه والدليل أن بمجرد الخبر يثبت له حل نكاح أختها ألا ترى أنها لو كانت غائبة كان له أن يتزوج بأختها ولو بطل ذلك الحق إنما يبطل بتكذيبها وتكذيبها يصلح حجة في إبقاء حقها لا في إبطال حق ثابت للزوج والنفقة والسكنى حقها فيكون باقيا وأما نكاح الأخت لا حق لها فيه فلا يعتبر تكذيبها في ذلك لأن ثبوت الحكم بحسب الحجة وكذلك ثبوت النسب من حقها وحق الولد لأنه يندفع به تهمة الزنى عنها ويتشرف به الولد.
ثم من ضرورة القضاء بالنسب الحكم بإستناد العلوق إلى ما قبل الطلاق فإذا أسندنا صار الخبر بانقضاء العدة قبل الوضع مستنكرا فلهذا بطل نكاح الأخت بخلاف القضاء بالنفقة فإنه يقتصر على الحال وليس من ضرورة الحكم بها الحكم ببقاء العدة مطلقا فإن المال تكثر أسباب وجوبه في الجملة.
توضيحه: أن من ضرورة القضاء بالنسب القضاء بالفراش فتبين أنه صار جامعا بين الأختين في الفراش وليس من ضرورة القضاء بالنفقة القضاء بالفراش وأكثر ما فيه أنه يجتمع عليه استحقاق النفقة للأختين وذلك جائز كما في ملك اليمين.
قال: وإن مات لم يكن لها ميراث وكان الميراث للأخرى هكذا ذكر هنا وذكر في

 

ج / 4 ص -193-       كتاب الطلاق وقال: الميراث للأولى دون الثانية ولكن وضع المسألة فيما إذا كان مريضا حين قال أخبرتني أن عدتها قد انقضت وإنما يتحقق اختلاف الروايات في حكم الميراث إذا كان الطلاق رجعيا فأما إذا كان الطلاق بائنا أو ثلاثا وكان في الصحة فلا ميراث للأولى سواء أخبر الزوج بهذا أو لم يخبر ولكن في كتاب الطلاق لما وضع المسألة في المريض وكان قد تعلق حقها بماله لم يقبل قوله في إبطال حقها كما في نفقتها وهنا وضع المسألة في الصحيح ولا حق لها في مال الزوج في صحته فكان قوله مقبولا في إبطال إرثها.
توضيحه: أن بقوله أخبر أن الواقع صار بائنا فكأنه أبانها في صحته فلا ميراث لها ولو أبانها في مرضه كان لها الميراث وقيل هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لأن عندهما للزوج أن يجعل الرجعي بائنا خلافا لمحمد رحمه الله تعالى ومتى كان الميراث للأولى فلا ميراث للثانية لأن بين إرث الأختين منه بالنكاح منافاة ومتى لم ترث الأولى ورثته الثانية.
قال: وإن ماتت في العدة أو لحقت بدار الحرب مرتدة حل له أن يتزوج أختها لأن لحوقها كموتها فلا تبقى معتدة بعد موتها فإن رجعت مسلمة قبل أن يتزوج أختها فله أن يتزوج أختها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن العدة بعد ما سقطت لا تعود إلا بتجدد سببها وعندهما ليس له أن يتزوج أختها لأنها لما عادت مسلمة كان لحوقها بمنزلة الغيبة ألا ترى أنه يعاد إليها مالها فلا تعود كحالها فتعود كما كانت وإن كان قد تزوج أختها قبل رجوعها ثم رجعت مسلمة عن أبي يوسف رحمه الله تعالى روايتان في إحدى الروايتين يبطل نكاح الأخت وفي الرواية الأخرى لا يبطل ذكر الروايتين عنه في الأمالي.
قال: ولا بأس بأن يتزوج المسلم الحرة من أهل الكتاب لقوله تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}[المائدة: 5] وكان بن عمر رضي الله عنهما لا يجوز ذلك ويقول الكتابية مشركة وقد قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}[البقرة: 221] وكان يقول معنى الآية الثانية و اللاتي أسلمن من أهل الكتاب ولسنا نأخذ بهذا فإن الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب فدل أن اسم المشرك لا يتناول الكتابي مطلقا.
ولو حملنا الآية الثانية على ما قال بن عمر رضي الله عنهما لم يكن لتخصيص الكتابية بالذكر معنى فإن غير الكتابية إذا أسلمت حل نكاحها وقد جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه تزوج يهودية وكذلك كعب بن مالك رحمهما الله تعالى تزوج يهودية وكذلك إن تزوج الكتابية على المسلمة أو المسلمة على الكتابية جاز والقسم بينهما سواء كأن جواز النكاح ينبني على الحل الذي به صارت المرأة محلا للنكاح وعلى ذلك ينبني القسم والمسلمة والكتابية في ذلك سواء إسرائيلية كانت أو غير إسرائيلية وبعض من لا يعتبر قوله فصل بين الإسرائيلية وغيرها ولا معنى لذلك في الجواز لكونها كتابية.

 

ج / 4 ص -194-       وأما المجوسية لا يجوز نكاحها للمسلم لأنها ليست من أهل الكتاب وذكر بن إسحاق في تفسيره عن علي رضي الله عنه جواز نكاح المجوسية بناء على ما روي عنه أن المجوس أهل كتاب ولكن لما واقع ملكهم أخته ولم ينكروا عليه أسرى بكتابهم فنسوه وهو مخالف للنص فإن الله تعالى قال: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا}[الأنعام: 156] وإذا قلنا للمجوس كتاب كانوا ثلاث طوائف وقال صلى الله عليه وسلم: "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" ولئن كان الأمر على ما قال علي رضي الله عنه ولكن بعد ما نسوا خرجوا من أن يكونوا أهل كتاب.
فأما نكاح الصابئة فإنه يجوز للمسلم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويكره ولا يجوز عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وكذلك ذبائحهم وهذا الاختلاف بناء على أن الصابئين من هم فوقع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنهم قوم من النصارى يقرؤون الزبور ويعظمون بعض الكواكب كتعظيمنا القبلة وهما جعلا تعظيمهم لبعض الكواكب عبادة منهم لها فكانوا كعبدة الأوثان وقالا إنهم يخالفون النصارى واليهود فيما يعتقدون فلا يكونون من جملتهم ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول مخالفتهم للنصارى في بعض الأشياء لا تخرجهم من أن يكونوا من جملتهم كبني تغلب فإنهم يخالفون النصارى في الخمور والخنازير ثم كانوا من جملة النصارى.
قال: ولا بأس بأن يتزوج الرجل المرأة وبنت زوج قد كان لها من قبل ذلك يجمع بينهما لأنه لا قرابة بينهما وقال بن أبي ليلى لا يجوز ذلك لأن بنت الزوج لو كان ذكرا لم يكن له أن يتزوج الأخرى لأنها منكوحة أبيه وكل امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا لم تجز المناكحة بينهما فالجمع بينهما نكاحا لا يجوز كالأختين ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه فإنه جمع بين امرأة علي رضي الله تعالى عنه وابنته ثم المانع من الجمع قرابة بين المرأتين أو ما أشبه القرابة في الحرمة كالرضاع وذلك غير موجود هنا وما قاله بن أبي ليلى رحمه الله تعالى إنما يعتبر إذا تصور من الجانبين كما في الأختين وذلك لا يتصور هنا فإن امرأة الأب لو صورتها ذكرا جاز له نكاح البنت فعرفنا أنهما ليستا كالأختين ولا بأس بأن يجمع بين امرأتين كانتا عند رجل واحد لأنه لا قرابة بينهما وكما جاز للأول أن يجمع بينهما فكذلك للثاني.
وكذلك لا بأس بأن يتزوج المرأة ويزوج ابنه أمها أو ابنتها فإن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه تزوج امرأة وزوج ابنتها من ابنه وهذا لأن بنكاح الأم تحرم الأم هي على ابنه فأما أمها وابنتها تحرم عليه لا على ابنه فلهذا جاز لابنه أن يتزوج أمها أو ابنتها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

 

ج / 4 ص -195-       باب نكاح الصغير والصغيرة
قال: وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تزوج عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة بنت ستة سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين وكانت عنده تسعا ففي الحديث دليل على جواز نكاح الصغير والصغيرة بتزويج الآباء بخلاف ما يقوله بن شبرمة وأبو بكر الأصم رحمهم الله تعالى أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى يبلغا لقوله تعالى:
{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}[النساء: 6] فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة ولأن ثبوت الولاية على الصغيرة لحاجة المولى عليه حتى أن فيما لا تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات ولا حاجة بهما إلى النكاح لأن مقصود النكاح طبعا هو قضاء الشهوة وشرعا النسل والصغر ينافيهما ثم هذا العقد يعقد للعمر وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ فلا يكون لأحد أن يلزمهما ذلك إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ وحجتنا قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}[الطلاق: 4] بين الله تعالى عدة الصغيرة وسبب العدة شرعا هو النكاح وذلك دليل تصور نكاح الصغيرة والمراد بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}[النساء: 6] الاحتلام.
ثم حديث عائشة رضي الله عنها نص فيه وكذلك سائر ما ذكرنا من الآثار فإن قدامة بن مظعون تزوج بنت الزبير رضي الله عنه يوم ولدت وقال إن مت فهي خير ورثتي وإن عشت فهي بنت الزبير وزوج بن عمر رضي الله عنه بنتا له صغيرة من عروة بن الزبير رضي الله عنه وزوج عروة بن الزبير رضي الله عنه بنت أخيه بن أخته وهما صغيران ووهب رجل ابنته الصغيرة من عبد الله بن الحسن فأجاز ذلك علي رضي الله عنه وزوجت امرأة بن مسعود رضي الله عنه بنتا لها صغيرة ابنا للمسيب بن نخبة فأجاز ذلك عبد الله رضي الله عنه.
ولكن أبو بكر الأصم رحمه الله تعالى كان أصم لم يسمع هذه الأحاديث والمعنى فيه أن النكاح من جملة المصالح وضعا في حق الذكور والإناث جميعا وهو يشتمل على أغراض ومقاصد لا يتوفر ذلك إلا بين الأكفاء والكفء لا يتفق في كل وقت فكانت الحاجة ماسة إلى إثبات الولاية للولي في صغرها ولأنه لو انتظر بلوغها لفات ذلك الكفء ولا يوجد مثله ولما كان هذا العقد يعقد للعمر تتحقق الحاجة إلى ما هو من مقاصد هذا العقد فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة للحال لإثبات الولاية للولي.
ثم في الحديث بيان أن الأب إذا زوج ابنته لا يثبت لها الخيار إذا بلغت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخيرها ولو كان الخيار ثابتا لها لخيرها كما خير عند نزول آية التخيير حتى قال لعائشة:
"إني أعرض عليك أمرا فلا تحدثي فيه شيئا حتى تستشيري أبويك" ثم تلا عليها قوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}[الأحزاب: 28] فقالت أفي هذا

 

ج / 4 ص -196-       أستشير أبوي؟ أنا أختار الله تعالى ورسوله ولما لم يخيرها هنا دل أنه لا خيار للصغيرة إذا بلغت وقد زوجها أبوها وذكر ذلك في الكتاب عن إبراهيم وشريح رحمهما الله تعالى.
وابن سماعة رحمه الله تعالى ذكر فيه قياسا واستحسانا قال في القياس يثبت لها الخيار لأنه عقد عليها عقدا يلزمها تسليم النفس بحكم ذلك العقد بعد زوال ولاية الأب فيثبت لها الخيار كما لو زوجها أخوها ولكنا نقول تركنا القياس للحديث ولأن الأب وافر الشفقة ينظر لها فوق ما ينظر لنفسه ومع وفور الشفقة هو تام الولاية فإن ولايته تعم المال والنفس جميعا فلهذا لا يثبت لها الخيار في عقده.
وليس النكاح كالإجارة لأن إجارة النفس ليست من المصالح وضعا بل هو كد وتعب وإنما تثبت الولاية فيه على الصغير لحاجته إلى التأدب وتعلم الأعمال وذلك يزول بالبلوغ فلهذا أثبتنا لها الخيار قال وفي الحديث دليل فضيلة عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين في بدء أمرها وقد أحرزت من الفضائل ما قال صلوات الله عليه:
"تأخذون ثلثي دينكم من عائشة" وفيه دليل أن الصغيرة يجوز أن تزف إلى زوجها إذا كانت صالحة للرجال فإنها زفت إليه وهي بنت تسع سنين فكانت صغيرة في الظاهر وجاء في الحديث أنهم سمنوها فلما سمنت زفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال: وبلغنا عن إبراهيم أنه كان يقول إذا أنكح الوالد الصغير أو الصغيرة فذلك جائز عليهما وكذلك سائر الأولياء وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى فقالوا: يجوز لغير الأب والجد من الأولياء تزويج الصغير والصغيرة وعلى قول مالك رحمه الله تعالى ليس لأحد سوى الأب تزويج الصغير والصغيرة وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى ليس لغير الأب والجد تزويج الصغير والصغيرة فمالك يقول القياس أن لا يجوز تزويجهما إلا أنا تركنا ذلك في حق الأب للآثار المروية فيه فبقي ما سواه على أصل القياس والشافعي رحمه الله تعالى استدل بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تنكح اليتيمة حتى تستأ مر". واليتيمة الصغيرة التي لا أب لها.
قال صلى الله عليه وسلم:
"لا يتم بعد الحلم" فقد نفي في هذا الحديث نكاح اليتيمة حتى تبلغ فتستأ مر.
وفي الحديث أن قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه عثمان بن مظعون من بن عمر رضي الله تعالى عنه فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
"إنها يتيمة وإنها لا تنكح حتى تستأمر" وهو المعنى في المسألة فنقول: هذه يتيمة فلا يجوز تزويجها بغير رضاها كالبالغة وتأثير هذا الوصف أن مزوج اليتيمة قاصر الشفقة عليها ولقصور الشفقة لا تثبت ولايته في المال وحاجتها إلى التصرف في المال في الصغر أكثر من حاجتها إلى التصرف في النفس فإذا لم يثبت للولي ولاية التصرف في مالها مع الحاجة إلى ذلك فلأن لا يثبت له ولاية التصرف في نفسها كان أولى وحجتنا قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] معناه في نكاح اليتامى وإنما يتحقق هذا الكلام إذا كان يجوز نكاح اليتيمة.

 

ج / 4 ص -197-       وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها في تأويل الآية أنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها يرغب في مالها وجمالها ولا يقسط في صداقها فنهوا عن نكاحهن حتى يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وقالت في تأويل قوله تعالى في يتامى النساء {اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ}[النساء: 127] أنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها ولا يرغب في نكاحها لدمامتها ولا يزوجها من غيره كيلا يشاركه في مالها فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر الأولياء بتزوج اليتامى أو بتزويجهن من غيرهم فذلك دليل على جواز تزويج اليتيمة.
وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت عمه حمزة رضي الله عنه من عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه وهي
غيرة والآثار في جواز ذلك مشهورة عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وبن عمر وأبي هريرة رضوان الله عليهم والمعنى فيه أنه وليها بعد البلوغ فيكون وليا لها في حال الصغر كالأب والجد وهذا لأن تأثير البلوغ في زوال الولاية فإذا جعل هو وليا بعد بلوغها بهذا السبب عرفنا أنه وليها في حال الصغر وبه فارق المال لأنه لا يستفيد الولاية بهذا السبب في المال بحال وكان المعنى فيه أن المال تجري فيه الجنايات الخفية وهذا الولي قاصر الشفقة فربما يحمله ذلك على ترك النظر لها فأما الجناية في النفس من حيث التقصير في المهر والكفاءة وذلك ظاهر يوقف عليه إن فعله يرد عليه تصرفه ولأنه لا حاجة إلى إثبات الولاية لهؤلاء في المال فإن الوصي يتصرف في المال والأب متمكن من نصب الوصي وباعتباره تنعدم حاجتها فأما التصرف في النفس لا يحتمل الإيصاء إلى الغير فلهذا يثبت للأولياء بطريق القيام مقام الآباء.
والمراد بالحديث اليتيمة البالغة قال الله تعالى:
{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}[النساء: 2] والمراد البالغين والدليل عليه أنه مده إلى غاية الاستئمار وإنما تستأمر البالغة دون الصغيرة وتأويل حديث قدامة رضي الله عنه أنها بلغت فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها.
ألا ترى أنه روي عن بن عمر رضي الله عنهما أنه قال والله لقد انتزعت مني بعد أن ملكتها فإذا ثبت جواز تزويج الأولياء الصغير والصغيرة فلهما الخيار إذا أدركا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما وبه كان يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى ثم رجع وقال لا خيار لهما وهو قول عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال لأن هذا عقد عقد بولاية مستحقة بالقرابة فلا يثبت فيه خيار البلوغ كعقد الأب والجد وهذا لأن القرابة سبب كامل لاستحقاق الولاية والقريب بالتصرف ينظر للمولى عليه لا لنفسه وهو قائم مقام الأب في التصرف في النفس كالوصي في التصرف في المال فكما أن عقد الوصي يلزم ويكون كعقد الأب فيما قام فعله مقامه فكذلك عقد الولي.
وجه قولهما: إنه زوجها من هو قاصر الشفقة عليها، فإذا ملكت أمر نفسها كان لها

 

ج / 4 ص -198-       الخيار كالأمة إذا زوجها مولاها ثم أعتقها وهذا لأن أصل الشفقة موجود للولي ولكنه ناقص يظهر ذلك عند المقابلة بشفقة الآباء وقد ظهر تأثير هذا النقصان حكما حين امتنع ثبوت الولاية في المال للأولياء فلاعتبار وجود أصل الشفقة نفذنا العقد ولاعتبار نقصان الشفقة أثبتنا الخيار لأن ثبوت الولاية لكيلا يفوت الكفء الذي خطبها فيكون بمعنى النظر لها وإنما يتم النظر بإثبات الخيار حتى ينظر لنفسه بعد البلوغ بخلاف الأب فإنه وافر الشفقة تام الولاية فلا حاجة إلى إثبات الخيار في عقده وكذلك في عقد الجد لأنه بمنزلة الأب حتى تثبت ولايته في المال والنفس وأما القاضي إذا كان هو الذي زوج اليتيمة ففي ظاهر الرواية يثبت لها الخيار لأنه قال ولهما الخيار في نكاح غير الأب والجد إذا أدركا وروى خالد بن صبيح المروزي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يثبت الخيار.
وجه تلك الرواية: أن للقاضي ولاية تامة تثبت في المال والنفس جميعا فتكون ولايته في القوة كولاية الأب ووجه ظاهر الرواية أن ولاية القاضي متأخرة عن ولاية العم والأخ فإذا ثبت الخيار في تزويج الأخ والعم ففي تزويج القاضي أولى وهذا لأن شفقة القاضي إنما تكون لحق الدين والشفقة لحق الدين لا تكون الأمن المتقين بعد التكلف فيحتاج إلى إثبات الخيار لهما إذا أدركا فأما الأم إذا زوجت الصغير والصغيرة جاز عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي إثبات الخيار لهما إذا أدركا عنه روايتان.
في إحدى الروايتين لا يثبت لأن شفقتها وافرة كشفقة الأب أو أكثر والأصح أنه يثبت الخيار لأن بها قصور الرأي مع وفور الشفقة ولهذا لا تثبت ولايتها في المال وتمام النظر بوفور الرأي والشفقة فلتمكن النقصان في رأيها أثبتنا لهما الخيار إذا أدركا فإن اختارا الفرقة عند الإدراك لم تقع الفرقة إلا بحكم الحاكم لأن السبب مختلف فيه من العلماء من رأي ومنهم من أبي وهو غير متيقن به أيضا فإن السبب قصور الشفقة ولا يوقف على حقيقته فكان ضعيفا في نفسه فلهذا توقف على قضاء القاضي وهذا بخلاف خيار الطلاق فإن المخيرة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضي لأن السبب هناك قوي في نفسه وهو كونها نائبة عن الزوج في إيقاع الطلاق أو مالكة أمر نفسها بتمليك الزوج وهذا بخلاف خيار العتق فإن المعتقة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضي لأن السبب هناك قوي وهو زيادة ملك الزوج عليها فإن قبل العتق كان يملك مراجعتها من قرأين ويملك عليها تطليقتين وعدتها حيضتان وقد زاد ذلك بالعتق فكان لها أن تدفع الزيادة ولا تتوصل إلى دفع الزيادة إلا بدفع أصل الملك فكما أن دفع أصل الملك عند انعدام رضاها يتم بها فكذلك دفع زيادة الملك فأما هنا بالبلوغ لا يزداد الملك وإنما كان ثبوت الخيار لتوهم ترك النظر من الولي وذلك غير متيقن به فلهذا لا تتم الفرقة إلا بالقضاء فالحاصل أن الفرق بين خيار البلوغ وخيار العتق في أربعة فصول:

 

ج / 4 ص -199-       أحدها: ما بينا.
والثاني: خيار المعتقة لا يبطل بالسكوت بل يمتد إلى آخر المجلس كخيار المخيرة وخيار البلوغ في جانبها يبطل بالسكوت لأن المعتقة إنما يثبت لها الخيار بتخيير الشرع حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ملكت بضعك فاختاري"، فيكون بمنزلة الثابت بتخيير الزوج فأما هنا الخيار يثبت للبكر لانعدام تمام الرضا منها ورضاء البكر يتم بسكوتها شرعا ألا ترى أنها لو زوجت بعد البلوغ فسكتت كان سكوتها رضا فكذلك إذا زوجت قبل البلوغ ولهذا قلنا لو بلغت ثيبا لا يبطل خيارها بالسكوت كما لو زوجت بعد البلوغ وكذلك الغلام لا يبطل خياره بالسكوت لأن السكوت في حقه لم يجعل رضا كما لو زوج بعد البلوغ.
والثالث: أن خيار العتق يثبت للأمة دون الغلام وخيار البلوغ يثبت لهما جميعا لأن ثبوت خيار العتق باعتبار زيادة الملك وذلك في عتق الأمة دون الغلام وثبوت خيار البلوغ لنقصان شفقة الولي وذلك موجود في حق الغلام والجارية ولأن في تزويج الغلام المولى ينظر له لا لنفسه وفي تزويج الأمة ينظر لنفسه باكتساب المهر وإسقاط النفقة عن نفسه فلهذا اختلفا في حكم الخيار وهنا لا يختلف معنى نظر الولي بالغلام والجارية فلهذا يثبت الخيار في الموضعين جميعا ولا يقال بأن الغلام هنا يتمكن من التخلص بالطلاق كما في المعتق لأنه لا يتمكن من التخلص عن المهر بالطلاق ولم يكن متمكنا من التخلص عند العقد بخلاف العبد فإنه كان عند العقد متمكنا من التخلص بالطلاق ووجوب المهر يومئذ كان في مالية المولى وباعتباره ملك المولى إجباره على النكاح فلهذا فرقنا بينهما.
والرابع: أن المعتقة إذا علمت بالعتق ولم تعلم أن لها الخيار لا يسقط خيارها حتى تعلم به والتي بلغت إذا لم تعلم بالخيار وعلمت بالنكاح فسكتت سقط خيارها لأن سبب الخيار في العتق وهو زيادة الملك حكم لا يعلمه إلا الخواص من الناس فتعذر بالجهل وقد كانت مشغولة بخدمة المولى فعذرناها لذلك أما خيار البلوغ فظاهر يعرفه كل واحد ولظهوره ظن بعض الناس أنه يثبت في انكاح الأب أيضا فلهذا لا تعذر بالجهل ولأنها ما كانت مشغولة بشيء قبل البلوغ فكان سبيلها أن تتعلم ما تحتاج إليه بعد البلوغ فلهذا لا تعذر بالجهل.
قال: فإن اختار الصغير أو الصغيرة الفرقة بعد البلوغ فلم يفرق القاضي بينهما حتى مات أحدهما توارثا لأن أصل النكاح كان صحيحا والفرقة لا تقع إلا بقضاء القاضي فإذا مات أحدهما قبل القضاء كان انتهاء النكاح بينهما بالموت فيتوارثان بمنزلة ما لو وجد الإعتراض بعدم الكفاءة فمات أحدهما قبل قضاء القاضي وباعتبار هذا المعنى نقول يحل للزوج أن يطأها ما لم يفرق القاضي بينهما لأن أصل النكاح كان صحيحا بخلاف النكاح الفاسد فإن أصل الملك لم يكن ثابتا فلا يثبت حل الوطء والتوارث.

 

ج / 4 ص -200-       قال: وإذا مات زوج الصغيرة عنها بعد ما دخل بها أو طلقها وانقضت عدتها كان لأبيها أن يزوجها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس للأب أن يزوج الثيب الصغيرة حتى تبلغ فيشاورها لقوله صلى الله عليه وسلم: "والثيب تشاور" فقد علق هذا الحكم باسم مشتق من معنى وهو الثيوبة فكان ذلك المعنى هو المعتبر في إثبات هذا الحكم كالزنا والسرقة لإيجاب الحد.
وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"الأيم أحق بنفسها من وليها" والمراد بالأيم الثيب ألا ترى أنه قابلها بالبكر فقال البكر تستأمر في نفسها والمعنى فيه أنها ثيب ترجى مشورتها إلى وقت معلوم فلا يزوجها وليها بدون رضاها كالنائمة والمغمى عليها وتأثير هذا الوصف أن في الثيوبة معنى الاختبار وممارسة الرجال.
وفي النكاح في جانب النساء معنيان: معنى الضرر بإثبات الملك عليها ومعنى المنفعة بقضاء شهوتها فمن ترجح معنى قضاء الشهوة في جانبها تختار الزوج ومن ترجح معنى ضرر الملك تختار التأيم وإنما تتمكن من التمييز بالتجربة لأن لذة الجماع بالوصف لا تصير معلومة والتجربة إنما تحصل بالثيوبة فكانت صفة الثيوبة في حقها نظير البلوغ في حق الغلام وفي حق التصرف في المال ولهذا تزول ولاية الإفتيات عليها بالثيوبة لأن فيه تفويت ما يحدث لها في التأني من الرأي وهذا بخلاف المجنونة لأن الجنون لا يفقد شهوة الجماع ولو لم يزوجها وليها كان فيه إضرار بها في الحال والصغر يفقد شهوة الجماع فلا يكون في تأخير العقد إلا أن تبلغ معنى الإضرار بها ولأنه ليس لزوال الجنون غاية معلومة ولا يدري أيفيق أم لا وفي تأخير العقد لا إلى وقت معلوم إبطال حقها فأما الصغر لزواله غاية معلومة فلا يكون في تأخير العقد إلى بلوغها إبطال حقها.
وحجتنا في ذلك أنه ولي من لا يلي نفسه وماله فيستبد بالعقد عليها كالبكر وتأثيره أن الشرع باعتبار صغرها أقام رأي الولي مقام رأيها كما في حق الغلام وكما في حق المال وبالثيوبة لا يزول الصغر وكذلك معنى الرأي لا يحصل لها بالثيوبة في حالة الصغر لأنها ما نضت شهوتها بهذا الفعل ولو ثبت لها رأي فهي عاجزة عن التصرف بحكم الرأي فيقام رأي الولي مقام رأيها كما أنها لما كانت عاجزة عن التصرف في ملكها أقيم تصرف الولي مقام تصرفها.
والمراد بالحديث البالغة لأنه علق به ما لا يتحقق إلا بعد البلوغ وهو المشاورة وكونها أحق بنفسها وذلك إنما يتحقق في البالغة دون الصغيرة ولئن ثبت أن الصغيرة مراد فالمراد المشورة على سبيل الندب دون الحتم كما أمر باستئمار أمهات البنات فقال وتؤامر النساء في إبضاع بناتهن وكان بطريق الندب فهذا مثله وكما يجوز للأب عندنا تزويج الثيب الصغيرة فكذلك يجوز لغير الأب والجد وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز لمعنيين: أحدهما أنها يتيمة, والثاني أنها ثيب.

 

 

ج / 4 ص -201-       قال: وإذا اجتمع في الصغيرة أخوان لأب وأم فأيهما زوجها جاز عندنا ومن العلماء رحمهم الله تعالى من يقول لا يجوز ما لم يجتمعا عليه لأن هذا قام مقام الأب فيشترط اجتماعهما لنفوذ العقد كالموليين في حق العبد أو الأمة أو المعتقة ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنكح الوليان فالأول أحق" وفي هذا تنصيص على أن كل واحد منهما ينفرد بالعقد والمعنى فيه أن سبب الولاية هو القرابة وهو غير محتمل للوصف بالتجزي والحكم الثابت أيضا غير متجز وهو النكاح فيجعل كل واحد منهما كالمنفرد به لثبوت صفة الكمال في حق كل واحد منهما بكمال السبب وكونه غير محتمل للتجزي كما في ولاية الأمان يثبت لكل واحد من المسلمين بهذا الطريق بخلاف الموليين فإن هناك السبب هو الملك أو الولاء وذلك متجز في نفسه فلم يتكامل في حق كل واحد منهما ألا ترى أن أحد الموليين لا يرث جميع المال بالولاء وإن تفرد به أحد الأخوين يرث جميع المال فلهذا فرقنا بينهما.
وإن كان أحد الأخوين لأب وأم والآخر لأب فعندنا الأخ لأب وأم أولى بالتزويج وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يستويان لأن ولاية التزويج لقرابة الأب دون قرابة الأم فإن الولي إنما يقوم مقام الأب لقرابته منه وقد استويا في قرابة الأب ولكنا نستدل بحديث علي رضي الله تعالى عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"النكاح إلى العصبات"، والأخ لأب وأم في العصوبة مقدم وهو المعنى فإنه يدلي بقرابتين فيترجح على من يدلي بقرابة واحدة ويثبت الترجيح بقرابة الأم وإن كان لا يثبت به أصل الولاية كالعصوبة والأصل في ترتيب الأولياء قوله صلى الله عليه وسلم: "النكاح إلى العصبات" والمولى عليها لا يخلو إما أن تكون صغيرة أو كبيرة معتوهة فإن كانت صغيرة فأولى الأولياء عليها أبوها ثم الجد بعد الأب قائم مقام الأب في ظاهر الرواية وذكر الكرخي رحمه الله تعالى أن هذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
فأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الأخ والجد يستويان لأن من أصلهما أن الأخ يزاحم الجد في العصوبة حتى يشتركا في الميراث فكذا في الولاية وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الجد مقدم في العصوبة فكذلك في الولاية والأصح أن هذا قولهم جميعا لأن في الولاية معنى الشفقة معتبر وشفقة الجد فوق شفقة الأخ ولهذا لا يثبت لها الخيار في عقد الجد كما لا يثبت في عقد الأب بخلاف الأخ ويثبت للجد الولاية في المال والنفس جميعا ولا يثبت للأخ وكذلك في حكم الميراث حال الجد أعلى حتى لا ينقص نصيبه عن السدس بحال فلهذا كان في حكم الولاية بمنزلة الأب لا يزاحمه الأخوة ثم بعد الأجداد من قبل الآباء وإن علوا الأخ لأب وأم ثم الأخ لأب ثم بن الأخ لأب وأم ثم بن الأخ لأب ثم العم لأب وأم ثم العم لأب ثم بن العم لأب وأم ثم بن العم لأب على قياس ترتيب العصوبة.

 

ج / 4 ص -202-       فأما المجنونة إذا كان لها بن فللأبن عليها ولاية التزويج عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس للإبن ولاية تزويج الأم إلا أن يكون من عشيرتها بأن كان أبوه تزوج بنت عمه وهذا بناء على أصل يأتي بيانه من بعد إن شاء الله تعالى في أن المرأة لا ولاية لها على نفسها عنده والولد جزء منها فلا يثبت له الولاية عليها وعندنا تثبت لها الولاية على نفسها فكذلك تثبت لابنها وحجته في ذلك أن ثبوت الولاية لمعنى النظر للمولى عليه ولا يحصل ذلك بإثبات الولاية للابن لأنه يمتنع من تزويج أمه طبعا فلا ينظر لها في التزويج ولئن فعل ذلك يميل إلى قوم أبيه وربما لا يكون كفء لها إلا أن يكون من عشيرتها فحينئذ ينعدم هذا الضرر فأثبتنا له الولاية وحجتنا في ذلك الحديث النكاح إلى العصبات والابن يستحق العصوبة وهو المعنى الفقهي أن الوراثة نوع ولاية لأن الوارث يخلف المورث ملكا وتصرفا والوراثة هي الخلافة في التصرفات وللوراثة أسباب الفريضة والعصوبة والقرابة ولكن أقوى الأسباب العصوبة لأن الإرث بها متفق عليه ويستحق بها جميع المال فلهذا رتبنا الولاية على أقوى أسباب الإرث وهو العصوبة ولا ينظر إلى امتناعه من تزويجها طبعا فإن ذلك موجود فيما إذا كان الابن من عشيرتها وهذا لأنه إذا خطبها كفء فلو لم يزوجها الابن حكم القاضي عليه بالعضل فيزوجها بنفسه كما في سائر الأولياء.
ثم اختلف أصحابنا رضي الله عنهم في الأب والابن أيهما أحق بالتزويج فقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى الابن أحق لأنه مقدم في العصوبة ألا ترى أن الأب معه يستحق السدس بالفريضة فقط وقال محمد رحمه الله تعالى الأب أولى لأن ولاية الأب تعم المال والنفس فلا يثبت للابن الولاية في المال ولأن الأب ينظر لها عادة والابن ينظر لنفسه لا لها فكان الأب مقدما في الولاية وبعد هذا الترتيب في الأولياء لها كالترتيب في أولياء الصغيرة.
قال: فإن زوجها الأبعد والأقرب حاضر توقف على إجازة الأقرب لأن الأبعد كالأجنبي عند حضرة الأقرب فيتوقف عقده على إجازة الولي فإن كان الأقرب غائبا غيبة منقطعة فللأبعد أن يزوجها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يزوجها السلطان وقال زفر رحمه الله تعالى لا يزوجها أحد حتى يحضر الأقرب وحجتهم في ذلك أن الأبعد محجوب بولاية الأقرب وولايته باقية بعد الغيبة إذ لا تأثير للغيبة في قطع الولاية ألا ترى أنه لا ينقطع التوارث وأن الولاية من حق الولي ليطلب به الكفاءة فلا يبطل شيء من حقوقه بالغيبة.
 والدليل عليه أنه لو زوجها حيث هو جاز النكاح فدل أن ولاية الأقرب باقية إذا ثبت هذا فالشافعي رحمه الله تعالى يقول تعذر عليها الوصول إلى حقها من جهة الأقرب مع بقاء ولايته فيزوجها السلطان كما لو عضلها الأقرب بخلاف ما إذا كان الأقرب صغيرا أو

 

ج / 4 ص -203-       مجنونا لأنه لا ولاية له عليها والأبعد محجوب بولاية الأقرب إلا بالغيبة وزفر رحمه الله تعالى يقول الأبعد لا يزوجها لبقاء ولاية الأقرب وكذلك السلطان لا يزوجها لأن ولاية السلطان متأخرة عن ولاية الأبعد فإذا لم تثبت الولاية للأبعد هنا فالسلطان أولى بخلاف ما إذا عضلها لأن هناك هو ظالم في الامتناع من إيفاء حق مستحق عليه فيقوم السلطان مقامه في دفع الظلم لأنه نصب لذلك وهنا الأقرب غير ظالم في سفره خصوصا إذا سافر للحج وهو غير ممتنع من إيفاء حق مستحق عليه ليقوم السلطان مقامه في الإيفاء فيتأخر إلى حضوره.
وحجتنا في ذلك أن ثبوت الولاية لمعنى النظر للمولى عليه حتى لا يثبت إلا على من هو عاجز عن النظر لنفسه وجعل الأقرب مقدما لأن نظره لها أكثر لزيادة القرب ثم النظر لها لا يحصل بمجرد رأي الأقرب بل رأى حاضر منتفع به وقد خرج رأيه من أن يكون منتفعا به في هذه الحال بهذه الغيبة فالتحق بمن لا رأي له أصلا كالصغير والمجنون ورأي الأبعد خلف عن رأي الأقرب وفي ثبوت الحكم للخلف لا فرق بين انعدام الأصل وبين كونه غير منتفع به ألا ترى أن التراب لما كان خلفا عن الماء في حكم الطهارة فمع وجود الماء النجس يكون التراب خلفا كما أن عند عدم الماء يكون التراب خلفا لأن الماء النجس غير منتفع به في حكم الطهارة فهو كالمعدوم أصلا ونظيره الحضانة والتربية يقدم فيه الأقرب فإذا تزوجت الأقرب حتى اشتغلت بزوجها كانت الولاية للأبعد وكذلك النفقة في مال الأقرب فإذا انقطع ذلك ببعد ماله وجبت النفقة في مال الأبعد فأما إذا زوجها الأقرب حيث هو فإنما يجوز لأنها انتفعت برأيه ولكن هذه المنفعة حصلت لها اتفاقا فلا يجوز بناء الحكم عليه فلهذا تثبت الولاية للأبعد.
توضيحه: أن للأبعد قرب التدبير وبعد القرابة وللأقرب قرب القرابة وبعد التدبير وثبوت الولاية بهما جميعا فاستويا من هذا الوجه فكانا بمنزلة وليين في درجة واحدة فأيهما زوجها يجوز والولاية إنما تثبت للقاضي عند الحاجة ولا حاجة إلى ذلك لما ثبتت الولاية للأبعد بالطريق الذي قلنا.
ثم تكلموا في حد الغيبة المنقطعة فكان أبو عصمة سعد بن معاذ رحمه الله تعالى يقول أدنى مدة السفر تكفي لذلك وهو ثلاثة أيام ولياليها لأنه ليس لأقصى مدة السفر نهاية فيعتبر الأدنى وإليه يشير في الكتاب فيقول أرأيت لو كان في السواد ونحوه أما كان يستطلع رأيه فهذا دليل على أنه إذا جاوز السواد تثبت للأبعد وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى فيه روايتان:
في إحدى الروايتين قال: من جابلقا إلى جابلتا وهما قريتان أحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب فقالوا هذا رجوع منه إلى قول زفر رحمه الله تعالى أن الولاية لا تثبت للأبعد وإنما ذكر هذا على طريق المثل.

 

ج / 4 ص -204-       وفي الرواية الأخرى قال: من بغداد إلى الري. وهكذا روي عن محمد رحمه الله تعالى.
وفي رواية قال: من الكوفة إلى الري ومن مشايخنا رحمهم الله تعالى من يقول حد الغيبة المنقطعة أن يكون جوالا من موضع إلى موضع فلا يوقف على أثره أو يكون مفقودا لا يعرف خبره وقيل إن كان في موضع يقطع الكري إلى ذلك الموضع فليست الغيبة بمنقطعة وإن كان إنما يقطع الكري إلى ذلك الموضع بدفعتين أو أكثر فالغيبة منقطعة وقيل إن كانت القوافل تنفر إلى ذلك الموضع في كل عام فالغيبة ليست بمنقطعة وإن كانت لا تنفر فالغيبة منقطعة والأصح أنه إذا كان في موضع لو انتظر حضوره أو استطلاع رأيه فات الكفء الذي حضر لها فالغيبة منقطعة وإن كان لا يفوت فالغيبة ليست بمنقطعة وبعد ما تثبت الولاية للأبعد إذا زوجها ثم حضر الأقرب فليس له أن يرد نكاحها لأن العقد عقد بولاية تامة.
قال: ولا يجوز لغير الولي تزويج الصغير والصغيرة لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا نكاح إلا بولي" قال: والوصي ليس بولي عندنا في التزويج وقال بن أبي ليلى رحمه الله تعالى للوصي ولاية التزويج لأن وصي الأب قائم مقام الأب فيما يرجع إلى النظر للمولى عليه ألا ترى أنه في التصرف في المال يقوم مقامه فكذلك في التصرف في النفس ومالك رحمه الله تعالى يقول إن نص في الوصاية على التزويج فله أن يزوجها كما لو وكل بذلك في حياته وإن لم ينص على ذلك فليس له أن يزوج ولكنا نستدل بما روينا "النكاح إلى العصبات" والوصي ليس بعصبة إذا لم يكن من قرابته فهو كسائر الأجانب في التزويج.
وإن كان الوصي من القرابة بأن كان عما أو غيره فله ولاية التزويج بالقرابة لا بالوصاية ولهذا يثبت لهما الخيار إذا أدركا وإن حصل التزويج ممن له ولاية التصرف في المال والنفس جميعا لأن ولايته في المال بسبب الوصاية ولا تأثير للوصاية في ولاية التزويج فكان وجوده كعدمه وكذلك إن كانا في حجر رجل يعولهما فحال هذا الرجل دون حال الوصي فلا يثبت له ولاية التزويج ولأن من يعول الصغير إنما يملك عليه ما يتمحض منفعة للصغير كالحفظ وقبول الهبة والصدقة والنكاح ليس بهذه الصفة قال ومولى العتاقة تثبت له الولاية إذا لم يكن هناك أحد من القرابة لأن العصوبة تستحق بولاء العتاقة وعليه ينبني ولاية التزويج.
قال  والرجل من عرض النسب إذا لم يكن أقرب منه يعني به العصبات فأما ذوو الأرحام كالأخوال والخالات والعمات فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يثبت لهم ولاية التزويج عند عدم العصبات استحسانا وعلى قول محمد رحمه الله تعالى لا يثبت وهو القياس وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة وقول أبي يوسف رحمه الله تعالى مضطرب فيه وذكر في كتاب النكاح قوله مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي كتاب الولاء ذكر في الأم

 

ج / 4 ص -205-       قوله مع محمد رحمه الله تعالى أن الأم إذا عقدت الولاء على ولدها لم يصح عندهما والخلاف في التزويج وعقد الولاء سواء وكذلك في الأم وعشيرتها من ذوي الأرحام.
وجه قولهما: الحديث
"النكاح إلى العصبات" وإدخال الألف واللام دليل على أن جميع الولاية في باب النكاح إنما نثبت لمن هو عصبة دون من ليس بعصبة والدليل عليه أنه لا يثبت لغير العصبات ولاية التصرف في المال بحال وأن مولى العتاقة مقدم عليهم فلو كان لقرابتهم تأثير في استحقاق الولاية بها لكانوا مقدمين على مولى العتاقة إذ لا قرابة لمولى العتاقة.
وحجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى حديث بن مسعود رضي الله عنه في إجازته تزويج امرأته ابنتها على ما روينا فإن الأصح أن ابنتها لم تكن من عبد الله فإنما جوز نكاحها بولاية الأمومة والمعنى فيه وهو أن استحقاق الولاية باعتبار الشفقة الموجودة بالقرابة وهذه الشفقة توجد في قرابة الأم كما توجد في قرابة الأب فيثبت لهم ولاية التزويج أيضا إلا إن قرابة الأب يقدمون باعتبار العصوبة وهذا لا ينفي ثبوته لهؤلاء عند عدم العصبات كاستحقاق الميراث يكون بسبب القرابة ويقدم في ذلك العصبات ثم يثبت بعد ذلك لذوي الأرحام وبه ينتقض قولهم أن مولى العتاقة في الولاية مقدم على ذوي الأرحام فإن في الإرث أيضا يقدم مولى العتاقة ولا يدل ذلك على أنه لا يثبت لذوي الأرحام أصلا فكذا هنا وعلى هذا الخلاف مولى الموالاة له ولاية التزويج على الصغير والصغيرة إذا لم يكن لهما قريب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وليس له ذلك عند محمد رحمه الله تعالى لأنه مؤخر عن ذوى الأرحام.
قال: ولا ولاية للأب الكافر والمملوك على الصغير والصغيرة إذا كان حرا مسلما لأن اختلاف الدين يقطع التوارث فكذلك يقطع ولاية التزويج قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا}[لأنفال: 72] نص على قطع الولاية بين من هاجر وبين من لم يهاجر حين كانت الهجرة فريضة فكان ذلك تنصيصا على انقطاع الولاية بين الكفار والمسلمين بطريق الأولى وكذلك الرق ينفي الولاية حتى يقطع التوارث ولأنه ينفي ولايته عن نفسه فلأن ينفي ولايته عن غيره أولى وأما الكافر فثبت له ولاية التزويج على ولده الكافر كما تثبت للمسلم قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[لأنفال: 73] والدليل عليه جريان التوارث فيما بينهم كما يجري فيما بين المسلمين.
قال: ولأنكحة الكفار فيما بينهم حكم الصحة إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول أنكحتهم باطلة لأن الجواز نعمة وكرامة ثابتة شرعا والكافر لا يجعل أهلا لمثله ولكنا نستدل بقوله تعالى:
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}[المسد:4] ولو لم يكن لهم نكاح لما سماها امرأته وقال صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح" وهذه نعمة كما قال: "ولكن الأهلية لهذه النعمة باعتبار صفة الآدمية" وبالكفر لم يخرج من أن يكون من بني آدم فلا يخرج من أن يكون أهلا لهذه النعمة.

 

ج / 4 ص -206-       قال: ولو زوج الأب ابنته الصغيرة ممن لا يكافئها أو زوج ابنه الصغير امرأة ليست بكفء له جاز في قول أبي حنيفة استحسانا ولم يجز عندهما وهو القياس وكذلك لو زوج ابنته بأقل من صداق مثلها أو ابنه بأكثر من صداق مثلها بقدر ما لا يتغابن الناس فيه لا يجوز عندهما هكذا قال في الكتاب ولم يبين ماذا لا يجوز حتى ظن بعض أصحابنا أن الزيادة والنقصان لا يجوز فأما أصل النكاح صحيح لأن المانع هنا من قبل المسمى وفساد التسمية لا يمنع صحة النكاح كما لو ترك التسمية أصلا أو زوجها بخمر أو خنزير ولكن الأصح أن النكاح لا يجوز هكذا فسره في الجامع الصغير.
وجه قولهما: أن ولاية الأب مقيدة بشرط النظر ومعنى الضرر في هذا العقد ظاهر فلا يملكها الأب بولايته كما لا يملك البيع والشراء في ماله بالغبن الفاحش والدليل عليه أنه لو زوج أمتها بمثل هذا الصداق لا يجوز فإذا زوجها أولى وولايته عليها دون ولاية المرأة على نفسها ولو زوجت هي نفسها من غير كفء أو بدون صداق مثلها يثبت حق الاعتراض للأولياء فهذا أولى ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى ترك القياس بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها على صداق خمسمائة درهم زوجها منه أبو بكر رضي الله عنه وزوج فاطمة رضي الله عنها من علي رضي الله عنه على صداق أربعمائة درهم ومعلوم أن ذلك لم يكن صداق مثلهما لأنه إن كان صداق مثلهما هذا المقدار مع أنهما مجمع الفضائل فلا صداق في الدنيا يزيد على هذا المقدار.
والمعنى فيه: أن النكاح يشتمل على مصالح وأغراض ومقاصد جمة والأب وافر الشفقة ينظر لولده فوق ما ينظر لنفسه فالظاهر أنه إنما قصر في الكفاءة والصداق ليوفر سائر المقاصد عليها وذلك أنفع لها من الصداق والكفاءة فكان تصرفه واقعا بصفة النظر فيجوز كالوصي إذا صانع في مال اليتيم جاز ذلك لحصول النظر في تصرفه وإن كان هو في الظاهر يعطي مالا غير واجب وهذا بخلاف تصرف الأب في المال إذ لا مقصود هناك سوى المالية فإذا قصر في المالية فليس بإزاء هذا النقصان ما يجبره وهذا بخلاف ما إذا زوج أمتهما لأن سائر مقاصد النكاح لا تحصل للصغير والصغيرة هنا إنما يحصل للأمة ففي حق الصغير قد انعدم ما يكون جبرا للنقصان وبخلاف العم والأخ لأنه ليس لهما شفقة وافرة فيحمل تقصيرها في الكفاءة والمهر على معنى ترك النظر والميل إلى الرشوة لا لتحصيل سائر المقاصد وبخلاف المرأة في نكاح نفسها لأنها سريعة الانخداع ضعيفة الرأي متابعة للشهوة عادة فيكون تقصيرها في الكفاءة والصداق لمتابعة الهوى لا لتحصيل سائر المقاصد على أن سائر المقاصد تحصل لها دون الأولياء وبسبب عدم الكفاءة والنقصان في الصداق يتعير الأولياء وليس بإزاء هذا النقصان في حقهم ما يكون جابرا فلهذا يثبت لهم حق الاعتراض.

 

ج / 4 ص -207-       قال: وإذا أقر الولد على الصغير أو الصغيرة بالنكاح لم يثبت النكاح بإقراره ما لم يشهد به شاهدان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يثبت النكاح بإقراره وإنما يتبين هذا الخلاف فيما إذا أقر الولي عليهما ثم أدركا وكذباه وأقام المدعى عليهما بعد البلوغ شاهدين بإقرار الولي بالنكاح في الصغر وعلى هذا الخلاف الوكيل من جهة الرجل والمرأة إذا أقر على موكله بالنكاح وكذلك المولى إذا أقر على عبده بالنكاح فهو على هذا الخلاف أيضا أما إذا أقر على أمته بالنكاح صح إقراره بالاتفاق فهما يقولان أقر بما يملك إنشاءه فيصح كالمولى إذا أقر على أمته وهذا لأن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب فإذا حصل بما لا يملك إنشاءه تتمكن التهمة في إخراج الكلام مخرج الإخبار وإذا حصل بما لا يملك انشاءه لا يكون متهما في إخراج الكلام مخرج الأخبار لتمكنه من تحصيل المقصود بطريق الإنشاء ألا ترى أن المطلق إذا قال قبل انقضاء العدة كنت راجعتها كان مصدقا بخلاف ما لو أقر بذلك بعد انقضاء العدة.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا إقرار على الغير والإقرار على الغير لا يكون حجة لأنه شهادة وشهادة الفرد لا تثبت الحكم بقي كونه مالكا للإنشاء فنقول هو لا يملك إنشاء هذا العقد إلا بشاهدين كما قال صلى الله عليه وسلم:
"لا نكاح إلا بشهود"، فلا يملك الإقرار به إلا من الوجه الذي يملك الإنشاء وهكذا نقول إذا ساعده شاهدان على ذلك كان صحيحا اعتبارا للإقرار بالإنشاء وهذا بخلاف الأمة فإن المولى هناك يقر على نفسه لأن بضعها مملوك للمولى وإقرار الإنسان على نفسه صحيح مطلقا من غير أن يكون ذلك معتبرا بالإنشاء فأما في حق العبد الإقرار عليه لا على نفسه فلا يملك الأ من الوجه الذي يملك الإنشاء وأصل كلامهم يشكل بإقرار الوصي بالاستدانة على اليتيم فإنه لا يكون صحيحا وإن كان هو يملك إنشاء الاستدانة.
قال: وإن كان للصغيرة وليان فزوجها كل واحد منهما رجلا فإن علم أيهما أول جاز نكاح الأول منهما لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أنكح الوليان فالأول أحق"، وهذا لأن الأول صادف عقده محله وعقد الثاني لم يصادف محله لأنها بالعقد الأول صارت مشغولة وإن لم يعلم أيهما أول أو وقع العقدان معا بطلا جميعا لأنه لا وجه لتصحيحهما وليس أحدهما بأولى من الآخر فتعين جهة البطلان فيهما.
قال: وإذا تزوج الصغير امرأة فأجاز ذلك وليه جاز عندنا لأن الصبي العاقل من أهل العبارة عندنا ولكن يحتاج إلى انضمام رأي الولي إلى مباشرته ليحصل تمام النظر فإذا أجاز الولي جاز ذلك وكان ذلك كمباشرة الولي بنفسه حتى يثبت له الخيار إذا بلغ وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا ينفذ بإجازة الولي لأن من أصله أن عبارة الصبي غير معتبرة

 

ج / 4 ص -208-       في العقود وكذلك من أصله أن العقود لا تتوقف على الإجازة وعلى هذا لو زوجت الصغيرة نفسها فأجاز الولي ذلك جاز عندنا ولم يجز عند الشافعي رحمه الله تعالى لهذين المعنيين ومعنى ثالث أن عبارة النساء عنده لا تصلح لعقد النكاح وإن كان المجيز غير الأب والجد فلمعنى رابع على قوله أيضا وهو أن هذا المجيز لا يملك مباشرة التزويج وإن أبطل الولي عقدهما بطل وإن لم يتعرض له بالإجازة ولا بالإبطال حتى بلغا فالرأي إليهما أن أجازا ذلك العقد جاز كما لو أجاز الولي في صغرهما ولا ينفذ بمجرد بلوغهما إلا أن يجيز لأن النظر عند مباشرتهما ما تم لصغرهما ونفوذ هذا العقد يعتمد تمام النظر فلهذا يعتمد إجازتهما بعد البلوغ.
قال: وإذا زوج الأب ابنته الصغيرة وضمن لها المهر عن زوجها فهو جائر لأنه صير نفسه زعيما والزعيم غارم بخلاف ما إذا باع مال ولده الصغير وضمن الثمن عن المشتري لا يصح الضمان لأن ثبوت حق قبض الثمن للأب هناك بحكم العقد لا بولايته عليه ألا ترى أن بعد بلوغه الأب هو الذي يقبض الثمن دون الصبي وفيما يكون وجوبه بحكم عقده فهو كالمستحق لأن حقوق ذلك العقد تتعلق بالعاقد ولهذا لو أبرأ المشتري عن الثمن كان صحيحا فإذا ضمن الثمن عن المشتري كان في معنى الضامن لنفسه فلا يصح.
فأما ثبوت حق قبض الصداق للأب بولاية الأبوة لا بمباشرته عقد النكاح لأن حقوق العقد في النكاح لا تتعلق بالعاقد ألا ترى أنها لو بلغت كان القبض إليها دون الأب فكان الأب في هذا الضمان كسائر الأجانب ولو ضمن الصداق لها أجنبي آخر وقبل الأب ذلك كان الضمان صحيحا فكذلك إذا ضمنه الأب فإذا بلغت إن شاءت طالبت الزوج بالصداق بحكم النكاح وإن شاءت طالبت بحكم الضمان وإذا أداه الأب لم يرجع على الزوج لأنه ضمن بغير أمره وإن كان ضمن عن الزوج بأمره فحينئذ يكون له أن يرجع عليه إذا أدى فإن كان هذا الضمان في مرض الأب ومات منه فهو باطل لأنه قصد إيصال النفع إلى وارثه وتصرف المريض فيما يكون فيه إيصال النفع إلى وارثه باطل.
قال: وإذا زوج ابنه الصغير في صحته وضمن عنه المهر جاز يعني إذا قبلت المرأة الضمان ثم إذا أدى الأب لم يرجع بما أدى على الابن استحسانا وفي القياس يرجع عليه لأن غيره لو ضمن بأمر الأب وأدى كان له أن يرجع به في مال الابن فكذلك الأب إذا ضمن لأن قيام ولايته عليه في حالة الصغر بمنزلة أمره إياه بالضمان عنه بعد البلوغ ألا ترى أن الوصي لو كان هو الضامن بالمهر عن الصغير وأدى من مال نفسه يثبت له الرجوع في ماله؟ فكذلك الأب.
وجه الاستحسان: أن العادة الظاهرة أن الآباء بمثل هذا يتبرعون وفي الرجوع لا

 

ج / 4 ص -209-       يطمعون والثابت بدلالة العرف كالثابت بدلالة النص فلا يرجع به إلا أن يكون شرط ذلك في أصل الضمان فحينئذ يرجع لأن العرف إنما يعتبر عند عدم التصريح بخلافه كتقديم المائدة بين يدي الإنسان يكون إذنا له في التناول بطريق العرف فإن قال له لا تأكل لم يكن ذلك إذ ناله فهذا مثله بخلاف الوصي فإن عادة التبرع في مثل هذا غير موجودة في حق الأوصياء بل يكتفي من الوصي أن لا يطمع في مال اليتيم فلهذا ثبت له حق الرجوع إذا ضمن وأدى من مال نفسه وإن مات الأب قبل أن يؤدي فهذه صلة لم تتم لأن تمام الصلة يكون بالقبض ولم يوجد ولكنها بالخيار إن شاءت أخذت الصداق من الزوج وإن شاءت من تركة الأب بحكم الضمان لأن الاستحقاق كان ثابتا لها في حياة الأب بحكم الكفالة فلا يبطل ذلك بموته وإذا استوفت من تركة الأب رجع سائر الورثة بذلك في نصيب الابن أو عليه إن كان قبض نصيبه وقال زفر رحمه الله تعالى لا يرجعون لأن أصل الكفالة انعقدت غير موجبة للرجوع عند الأداء بدليل أنه لو أداه في حياته لم يرجع عليه فبموته لا يصير موجبا للرجوع ولكنا نقول إنما لا يرجع في حياته إذا أدى لمعنى الصلة وقد بطل ذلك بموته قبل التسليم فكان هذا بمنزلة ما لو ضمن عنه بعد البلوغ بأمره واستوفاه من تركته بعد وفاته وإن كان هذا الضمان في مرض الأب الذي مات فيه فهو باطل لأنه تبرع منه على ولده بضمان الصداق منه وتبرع الوالد على ولده في مرضه باطل وكذلك كل من ضمن عن وارثه أو لوارثه ثم مات فضمانه باطل لما بينا.
قال: والمجنون المغلوب بمنزلة الصبي في جميع ذلك لأنه مولى عليه كالصغير ويستوي إن كان جنونه أصليا أو طارئا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى في الجنون الأصلي كذلك الجواب بأن بلغ مجنونا فأما في الجنون الطارئ لا يكون للمولى عليه ولاية التزويج لأنه ثبت له الولاية على نفسه عند بلوغه والنكاح يعقد للعمر ولا تتجدد الحاجة إليه في كل وقت فبصيرورته من أهل النظر لنفسه يقع الاستغناء فيه عن نظر الولي بخلاف المال فإن الحاجة إليه تتجدد في كل وقت ولكنا نقول ثبوت الولاية لعجز المولى عليه عن النظر لنفسه والجنون الأصلي والعارض في هذا سواء فربما لم يتفق له كفء في حال إفاقته حتى جن أو ماتت زوجته بعد ما جن فتتحقق الحاجة في الجنون الطارى كما تتحقق في الجنون الأصلي والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
تم الجزء الرابع, ويليه الجزء الخامس
وأوله:باب نكاح البكر