المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 7 ص -55-
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه نتوكل ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم
كتاب العتاق
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة
وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
رحمه الله تعالى إعلم بأن الإعتاق لغة هو
إحداث القوة يقال عتق الفرخ إذا قوى فطار عن
وكره وفي الشريعة عبارة عن إحداث المالكية
والاستبداد للآدمي ومن ضروته انتفاء صفة
المملوكية والرق ولهذا يتعقبه الولاء الذي هو
كالنسب لأن الأب سبب لإيجاد ولده فيكون الولد
منسوبا إليه والعتق مسبب لإحداث صفة المالكية
التي اختص الآدمي بها فصار المعتق منسوبا إليه
بالولاء.
ولهذا ندب الشرع إليه بيانه في حديث ابن عباس
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال:
"أيما مسلم أعتق مؤمنا أعتق الله بكل عضو منه
عضوا من النار" ولهذا استحبوا للرجل أن يعتق العبد وللمرأة أن تعتق الأمة ليتحقق
مقابلة الأعضاء بالأعضاء والتحرير لغة
التخليص يقال طين حر أي خالص عما يشوبه وأرض
حرة أي خالصة لا خراج عليها ولا عشر.
وفي الشريعة عبارة عن جعل الرقبة خالصة لله
تعالى قال الله تعالى:
{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: من الآية35] ولهذا شرع التحرير في التكفير لأجل التطهير
قال الله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
[النساء: من الآية92] ولهذا ندب الشرع إلى فك
الرقبة بقوله:
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ
رَقَبَةٍ}
[البلد:12-13] وفي حديث البراء بن عازب إن رجلا سأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال دلني على عمل يدخلني
الجنة فقال عليه السلام:
"لئن أوجزت
الخطبة فقد أعرضت المسألة فك الرقبة وعتق
النسمة"
قال أوليسا واحدا يا رسول الله قال:
"لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة
أن تعين في ثمنها" وسأل أبو ذر رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أفضل الرقاب فقال:
"أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" فهذه الآثار تبين أن الإعتاق من باب البر والإرفاق وأن أفضل الرقاب
أعزها عند صاحبها.
ثم بدأ الكتاب بحديث أبي الدرداء رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من لعب بطلاق أو عتاق فهو جائز عليه"
ونزلت هذه الآية في ذلك:
{وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً } [البقرة: من الآية231] وقال عمر رضي الله عنه من تكلم بطلاق أو
عتاق أو نكاح فهو جائز عليه أي نافذ لازم وفيه
دليل على أن الهزل بهذه التصرفات جد كما قال
صلى الله عليه وسلم :"ثلاث جدهن جد وهزلهن
ج / 7 ص -56-
جد النكاح
والطلاق والعتاق" والهزل
واللعب سواء فإنه اسم لكلام يكون على نهج كلام
الصبيان لا يراد به ما وضع له ونفوذ هذه
التصرفات بوجود التكلم بها ممن هو من أهلها
ولا معتبر بقصده إلى حكمها لأن بانعدام القصد
إلى الحكم ينعدم الرضا بالحكم وذلك لا يمنع
لزوم هذه التصرفات لو قرن بها شرط الخيار.
والمراد بالآيات في قوله تعالى:
{وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة: من الآية231] الأحكام والهزء اللعب ففيه بيان أنه لا لعب
في أحكام الشرع.
وذكر في الأصل عن الحسن رحمه الله أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم مر بعبد فساوم به
ولم يشتره فجاء رجل فاشتراه فأعتقه ثم أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال
صلى الله عليه وسلم :
"هو أخوك
ومولاك فإن شكرك فهو خير له وشر لك وإن كفرك
فهو شر له وخير لك وإن مات ولم يترك وارثا كنت
أنت عصبته" وفيه دليل
أنه لا بأس بالمساومة لمن لا يريد الشراء
بخلاف ما يقوله بعض الناس أن هذا اشتغال بما
لا يفيد فإن فيه فائدة وهو ترغيب الغير في
شرائه والرجل تفرس فيه خيرا حين رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ساوم به فلهذا اشتراه
وأعتقه وقوله صلى الله عليه وسلم : "هو
أخوك" أي في الدين قال الله تعالى:
{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوَالِيكُمْ}[الأحزاب:
من الآية5].
وفيه دليل على أن الولاء يثبت بالعتق وإن لم
يشترط المعتق بخلاف ما يقوله بعض الناس وقوله:
"فإن
شكرك" أي بالمجازاة على ما صنعت إليه فهو خير له لأنه انتدب إلى ما ندب
إليه في الشرع قال صلى الله عليه وسلم :
"من أزلت إليه نعمة فليشكرها"
"وشر لك" لأنه يصل إليك بعض الجزاء في الدنيا فينتقص بقدره من ثوابك في
الآخرة "وإن كفرك فهو خير لك" لأنه يبقى ثواب
العمل كله لك في الآخرة وشر له لأن كفران
النعمة مذموم قال صلى الله عليه وسلم :
"من لم يشكر الناس لم يشكر الله" وفيه دليل على أن المعتق يكون عصبة للمعتق لأنه قال: "كنت أنت عصبته".
ويستدل بالظاهر من يؤخر
مولى العتاقة عن ذوي الأرحام لأنه قال ولم
يترك وارثا وذوو الأرحام من جملة الورثة ولكن
عندنا مولى العتاقة آخر العصبات مقدم على ذوي
الأرحام.
ومعنى الحديث لم يترك وارثا هو عصبة بدليل
قوله كنت أنت عصبته ثم بين أن من عتق عبدا
ينبغي أن يكتب له بذلك كتابا والمقصود بالكتاب
التوثيق فليكتب على أحوط الوجوه ويتحرز فيه عن
طعن كل طاعن ولهذا ذكر فيه أني أعتقك لوجه
الله فإن من الناس من يقول لا ينفذ العتق إذا
لم يقصد المعتق وجه الله تعالى ونحن لا نقول
بهذا حتى لو قال أعتقك لوجه الله تعالى أو
الشيطان نفذ العتق. والحديث الذي بدأ به
الكتاب يدل عليه ولكن يذكر هذا للتحرز عن جهل
بعض القضاة، وكذلك يكتب ولى ولاؤك وولاء عتقك
من بعدك لأن من الناس من يقول لا يثبت الولاء
إلا بالشرط فيذكره في الكتاب للتحرز عن هذا.
ثم الألفاظ التي يحصل بها العتق نوعان صريح
وكناية فالصريح لفظ العتق والحرية والولاء
ويستوي إن ذكر هذه الألفاظ بصيغة الخبر أو
الوصف أو النداء. أما
ج / 7 ص -57-
بصيغة
الخبر أن يقول قد أعتقتك أو حررتك لأن كلام
العاقل محمول على الصحة ما أمكن ووجه الصحة
هنا متعين وهو الإنشاء وصيغة الإخبار والإنشاء
في العتق واحد وإما على سبيل الوصف أن يقول
أنت حر أنت عتيق لأنه لما وصفه بما يملك
إيجابه فيه جعل ذلك بمنزلة الإيجاب منه لتحقيق
وصفه فإن قال أردت الكذب والخبر بالباطل دين
فيما بينه، وبين الله تعالى للاحتمال ولكنه لا
يدين في القضاء لأن هذا اللفظ في الظاهر موضوع
لإيجاب العتق والقاضي يتبع الظاهر لأن ما وراء
ذلك غيب عنه وكذلك لو قال يا حر يا عتيق لأن
النداء لاستحضار المنادى وذلك بذكر وصف له حتى
يعلم أنه هو المقصود بالنداء فهذا ووصفه إياه
بالعتق سواء وكذلك لو قال لعبده هذا مولاي أو
لأمته هذه مولاتي، لأن المولى يذكر بمعنى
الناصر قال الله تعالى:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى
لَهُمْ} [محمد:11]
ولكن المالك لا يستنصر بمملوكه عادة ويذكر
بمعنى ابن العم قال الله تعالى:
{وَإِنِّي
خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي}
[مريم: من الآية5] ولكن نسب العبد معروف فلا
احتمال لهذا المعنى هنا ويذكر بمعنى الموالاة
في الدين ولكنه نوع مجاز والمجاز، لا يعارض
الحقيقة ويذكر بمعنى المولى إلاعلى على وذلك
غير محتمل عند الإضافة إلى العبد فيتعين
المولى الأسفل ولا يتحقق ذلك إلا بعد العتق
فلهذا عتق به في القضاء وإن قال أردت به
الولاية في الدين، أو الكذب دين فيما بينه
وبين الله تعالى للاحتمال ولم يدين في القضاء
لأنه خلاف الظاهر فإن قال يا مولاي فكذلك
الجواب عندنا.
وقال زفر رحمه الله تعالى لا يعتق بهذا اللفظ
إلا بالنية لأن هذا اللفظ في موضع النداء يقصد
به الإكرام دون التحقيق يقال يا سيدي ويا
مولاي ولو قال له يا سيدي ويا مالكي لا يعتق
به بدون النية فكذلك إذا قال يا مولاي ولكنا
نقول الكلام محمول على حقيقته ما أمكن وحقيقة
قوله يا مولاي لا يكون إلا بولاء له عليه
والعتق متعين لذلك فهذا وقوله يا حر يا عتيق
سواء بخلاف قوله يا سيدي ويا مالكي لأنه ليس
فيه ذكر ما يختص بإعتاقه إياه ومما يلحق
بالصريح هنا قوله لمملوكه وهبت نفسك منك أو
بعت نفسك منك فإنه يعتق به وإن لم ينو لأن
موجب هذا اللفظ إزالة ملكه إلا أنه إذا أوجبه
لإنسان آخر يكون مزيلا لملكه إليه فيتوقف على
قبوله وإذا أوجبه للعبد يكون مزيلا بطريق
الإسقاط لا إليه فلا يحتاج إلى قبوله ولا يرتد
برده فأما بيان ألفاظ الكناية قوله لا سبيل لي
عليك فإنه محتمل يجوز أن يكون المراد لا سبيل
لي عليك في اللوم والعقوبة لأنك وفيت بما
أمرتك به ولا سبيل لي عليك لأني كاتبتك ولا
سبيل لي عليك لأني أعتقتك، والمحتمل لا تتعين
جهة فيه بدون النية فلا يعتق به إلا أن ينوي
العتق وكذلك قوله لا ملك لي عليك يحتمل لا ملك
لي عليك لأني بعتك وكذلك قوله قد خرجت من ملكي
يحتمل هذا المعنى فلا يعتق به ما لم ينو ويدين
في القضاء وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى لو
قال له أطلقتك ينوي به العتق أيضا لأن الإطلاق
يذكر بمعنى التحرير يقال أطلقته من السجن
وحررته إذا خلي سبيله ولأنه يحتمل أن يكون
مراده الإطلاق
ج / 7 ص -58-
من
الرق الذي عليه فهو كقوله لا رق لي عليك فأما
إذا قال لأمته أنت طالق أو قد طلقتك ونوى به
العتق لم تعتق عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى تعتق وكذلك سائر
كنايات الطلاق كقوله قد بنت مني أو حرمت علي
أو أنت خلية أو برية أو بائن أو بتة أو اخرجي
أو اغربي أو استبري أو تقنعي أو اذهبي أو قومي
أو اختاري فاختارت نفسها أو قال ذلك لعبده فهو
كله على الخلاف.
وجه قول الشافعي أن صريح ما يسري كناية فيما
يسري كلفظ التحرير في الطلاق معنى صريح ما
يسري ما وضع لما يسري بطريق المطابقة كناية
لما هو وصف وهو كونه حرا لمعنى آخر هو مسمى
للفظ آخر وتقرير هذا الكلام أن الاستعارة
للاتصال بين الشيئين معنى طريق صحيح في اللغة
يقال للبليد حمار وللشجاع أسد للاتصال معنى
وهو الشجاعة والبلادة، وبين الملكين اتصال من
حيث المشابهة معنى لأن النكاح فيه معنى الرق
قال عليه الصلاة والسلام
"النكاح
رق" ولأنه يستباح بكل واحد منهما الوطء في محله وبين الإزالتين الاتصال
في المعني لأن كل واحد منهما إبطال للملك
ويحتمل التعليق بالشرط وهو ينبئ عن السراية
ويلزم على وجه لا يحتمل الفسخ فإذا ثبتت
المشابهة معنى قلنا ما كان صريحا في إزالة ملك
اليمين وهو لفظ التحرير كان كناية في ملك
النكاح فكذلك ما هو صريح في ملك النكاح يجعل
كناية صحيحة في إزالة ملك اليمين ولأن التحريم
من موجبات التحرير فإن الأمة إذا أعتقت حرمت
على مولاها وذكر الموجب على سبيل الكناية عن
الموجب صحيح كقوله لامرأته اعتدي بنية الطلاق.
"وحجتنا" في ذلك أنه نوى ما لا يحتمله لفظه
فهو كما لو قال لها كلي واشربي ونوى العتق
وهذا لأن المنوي إذا لم يكن من محتملات اللفظ
فقد تجردت النية عن لفظ يدل عليه وبيان ذلك
أنه لا مشابهة بين العتق والطلاق صورة ولا
معنى لأن الطلاق إزالة المانع من الانطلاق فإن
المرأة بعد عقد النكاح حرة محبوسة عند الزوج
فبالفرقة يزول المانع من الانطلاق والإعتاق
إحداث قوة الانطلاق لأنه لم يبق في الرقيق صفة
المالكية، وبالعتق يحدث له صفة المالكية ولا
مشابهة بين احداث القوة وبين إزالة المانع كما
لا مشابهة بين إحياء الميت وبين رفع القيد عن
المقيد ونحن نسلم أن المشابهة في المعنى طريق
الاستعارة ولكن لا في كل وصف بل في الوصف
الخاص لكل واحد منهما والوصف الخاص لكل واحد
منهما ما بينا دون ما ذكره الخصم، ألا ترى أنه
لا يستعار الأسد للجبان والحمار للذكي وبينهما
مشابهة في أوصاف وكل واحد منهما حيوان موجود
ولكن لما انعدمت المشابهة في الوصف الخاص لم
تجز الاستعارة فهذا مثله. فأما إذا استعمل لفظ
التحرير في الطلاق فليس ذلك عندنا للمشابهة
معنى بل لأن موجب النكاح ملك المتعة وملك
الرقبة في محل ملك المتعة يوجب ملك المتعة فما
يزيل ملك الرقبة يكون سببا لإزالة ملك المتعة
فيصلح أن يكون
ج / 7 ص -59-
كناية
عنه. فأما ما يزيل ملك المتعة لا يكون سببا
لإزالة ملك الرقبة فلا يصلح كناية عنه ولهذا
قلنا في طرف الاستجلاب أن ما وضع لاستجلاب ملك
المتعة وهو لفظ النكاح والتزويج لا يثبت به
ملك الرقبة وما وضع لاستجلاب ملك الرقبة وهو
لفظ الهبة، والبيع يصلح لإيجاب ملك المتعة وهو
النكاح ولا يدخل على هذا اللفظ البيع فإنه لا
تنعقد به الإجارة على ما قال في كتاب الصلح
إذا باع سكنى داره من إنسان لا يجوز وإن كان
بهذا اللفظ ثبت ملك الرقبة وهو سبب لملك
المتعة لأن عندنا الاجارة تنعقد بلفظ البيع
فإن الحر إذا قال لغيره بعت نفسي منك شهرا
بدرهم لعمل كذا يكون إجارة صحيحة فأما بيع
السكنى إنما لا يجوز لانعدام المحل لأن لفظ
البيع موضوع للتمليك. والمنافع معدومة لا تقبل
التمليك ولهذا لو أضاف لفظة الإجارة إلى
المنفعة وقال أجرتك منفعة هذه الدار لا يجوز
وإذا أضاف لفظ البيع إلى عين الدار فهو عامل
بحقيقته لأن العين قابل للبيع فلا تجعل كناية
عن الإجارة لهذا ولا معنى لما قاله أنه ذكر
الموجب وعنى به الموجب لأن الموجب حكم والحكم
لا يصلح كناية عن السبب لأنه لا حكم بدون
السبب، والسبب يتحقق بدون الحكم فكان الحكم
كالتبع والأصل يستعار للتبع، ولا يستعار التبع
للأصل لافتقار التبع إلى الأصل واستغناء الأصل
عن التبع وفي قوله اعتدى وقوع الطلاق ليس بهذا
الطريق بل بطريق الإضمار حتى يقع الطلاق به
على غير المدخول بها وإن لم يكن عليها عدة
وكذلك إذا قال لامرأته أنت على حرام فذلك
اللفظ عامل بحقيقته عندنا لا أن يكون كناية
بطريق أنه ذكر الموجب وعنى به الموجب وهذا لأن
التحريم ينافي النكاح ابتداء وبقاء وذلك لا
يوجد هنا فإن حرمة الأمة عليه لا ينافي الملك
ابتداء وبقاء كما في المجوسية، والأخت من
الرضاعة ولو قال لعبده لا سلطان لي عليك ونوى
العتق لم يعتق لأنه ليس من ضرورة انتفاء
سلطانه عنه انتفاء الملك كالمكاتب فإنه لا
سلطان للمولى عليه وهو مملوك بخلاف قوله لا
سبيل لي عليك فإن من ضرورة انتفاء السبيل عنه
من كل وجه العتق لأن له على المكاتب سبيلا من
حيث المطالبة ببدل الكتابة حتى إذا انتفى ذلك
بالبراءة عتق ولو قال لعبده أنت لله لم يعتق.
وإن نوى في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى لأنه صادق في مقالته فالمخلوقات كلها
لله تعالى فهو كما لو قال أنت عبد الله وعند
أبي يوسف يعتق به إذا نوى لأن معنى كلامه أنت
خالص لله بانتفاء ملكه عنه فهو كقوله لا ملك
لي عليك بخلاف قوله أنت عبد الله ولو قال
لعبده يا بني أو لأمته يا بنية لم تعتق لأن
هذا دعاء ولطف منه معناه أن هذا اللفظ في موضع
النداء يقصد به استحضار المنادى وإكرامه مع أن
قوله يا بني تصغير الابن. ولو قال يا ابن لا
يعتق لأنه صادق في مقالته فإنه ابن لأبيه
وإنما الإشكال في قوله يا ابني ولا يعتق بهذا
اللفظ إلا في رواية شاذة عن أبي حنيفة رحمه
الله أنه جعله كقوله يا حر ولكن لا يعتمد على
تلك الرواية والصحيح أن هذا اللفظ في موضع
النداء لاستحضار المنادى وتفهيمه ليحضر، وذلك
بصورة اللفظ لا بمعناه ووقوع العتق بهذا
ج / 7 ص -60-
اللفظ
لاعتبار معنى البنوة فلهذا لا يعتق به عند
النداء حتى لو جعل اسم عبده حرا وكان ذلك
معروفا عند الناس ثم ناداه به فقال يا حر لم
يعتق أيضا وإذا لم يكن هذا الاسم معروفا له
يعتق به في القضاء لأنه ناداه بوصف يملك
إيجابه بخلاف قوله يا ابني فإنه ناداه بوصف لا
يملك إيجابه فينظر إلى مقصوده فيه وهو الإكرام
دون التحقيق. وإن قال هذا ابني ومثله يولد
لمثله عتق ويثبت نسبه منه إن لم يكن له نسب
معروف لأن كلامه دعوة النسب وهو تصرف يملكه
المولى في مملوكه فإذا كان المحل محلا قابلا
للنسب وهو محتاج إلى النسب ثبت نسبه منه
والنسب لا يثبت مقصورا على الحال بل يثبت من
وقت العلوق فتبين أنه ملك ولده فيعتق عليه
ويستوي إن كان أعجميا جليبا أو مولدا لأن صحة
دعوة المولى شرعا بوصلة الملك وحاجة المملوك
إلى النسب وكذلك لو قال هذا أبي أو كانت أمة
فقال هذه أمي ومثلهما يلد مثله عتقا وإن لم
يكن له أبوان معروفان وصدقاه في ذلك ثبت نسبه
منهما فقد اعتبر تصديقهما في دعوى الأبوة
والأمومة عليهما ولم يعتبر في دعوى البنوة لأن
النسب من حق الولد فإنه يشرف به فمدعي البنوة
يقر على نفسه بالمحمولية فلا حاجة إلى تصديقه
لأن الإقرار يلزم المقر بنفسه فأما مدعي
الأبوة والأمومة يحتاج إلى تصديقهما لأنه يحمل
نسبه على غيره فيكون مدعيا ومجرد الدعوى لا
يلزم شيئا بدون الحجة فلهذا يحتاج إلى
تصديقهما ولأن مدعي الأبوة والأمومة يخبر أنه
علق من مائهما وهو غيب عنه فلا بد من تصديقهما
ومدعي البنوة يخبر أنه علق من مائه وقد يعرف
ذلك لكونه عاقلا عند علوقه وإن كان للغلام نسب
معروف فقال هذا ابني يعتق عليه ولا يثبت نسبه
لأنه مكذب فيما قال شرعا حين ثبت نسبه من
الغير ولكن هذا التكذيب في حكم النسب دون
العتق فهو في حكم العتق بمنزلة من لا نسب له
ولهذا قلنا في الفصل الأول إذا قال هذا أبي أو
أمي وكذباه يعتق لأن اعتبار تكذيبهما في حكم
النسب دون العتق.
توضيحه أن المملوك مستغن عن النسب إذا كان
معروف النسب من الغير ولكنه غير مستغن عن
الحرية فيثبت بكلامه ما يحتاج إليه المملوك
دون ما لا يحتاج إليه وهذا بخلاف ما لو قال
لامرأته هذه ابنتي وهي معروفة النسب من الغير
فإنه لا تقع الفرقة بينهما لأن هناك صار مكذبا
في حكم النسب شرعا ولو أكذب نفسه بأن قال غلطت
لا تقع الفرقة وإن لم يكن لها نسب معروف فكذلك
إذا صار مكذبا شرعا وهنا لو أكذب المولى نفسه
في حق من لا نسب له كان العتق ثابتا فكذلك إذا
صار مكذبا في النسب شرعا وحقيقة المعنى فيه
أنه في قوله لامرأته هذا ابنتي غير مقر على
نفسه بشيء ولكنه مقر على المحل بصفة الحرمة
لأنه لا موجب للنسب في ملكه من حيث الإزالة
وإنما موجبه حرمة المحل ثم ينتفي به الملك
ابتداء وبقاء ولم يعتبر إقراره في حرمة المحل
هنا لما كانت معروفة النسب وأما قوله لعبده
هذا ابني إقرار على نفسه لأن للبنوة موجبا في
ملكه، وهو زوال الملك به فإنه يملك ابنه
بالشراء ثم يعتق عليه فيعتبر إقراره فيما يقر
به على نفسه وهو عتقه عليه من حين دخل في ملكه
فأما إذا كان ممن لا يولد
ج / 7 ص -61-
مثله
لمثل المولى فقال هذا ابني لم يعتق في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى الأول وهو قول أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى وعتق في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى الآخر.
وجه قوله الأول أن كلامه محال فيلغو كما لو
قال أعتقتك قبل أن أخلق وبيان الاستحالة أن
قوله هذا ابني أي مخلوق من مائي و ابن خمسين
سنة يستحيل أن يكون مخلوقا من ماء ابن عشرين
سنة وبه فارق معروف النسب فإن كلامه محتمل
هناك لجواز أن يكون مخلوقا من مائه بالزنى أو
يكون مخلوقا من مائه بالشبهة وقد اشتهر نسبه
من الغير ألا ترى أن أم الغلام لو كانت في
ملكه هناك تصير أم ولد له وهنا لا تصير أم ولد
له ولأن الحقيقة تكذبه في هذا الخبر فبلغوا
خبره كما لو قال لصبي صفر في يده هذا جدي أو
قال لعبده هذه ابنتي، أو لأمته هذا غلامي وفي
غير هذا الباب لو قال قطعت يد فلان وله علي
الإرش فأخرج فلان يده صحيحة لم يستوجب شيئا
بخلاف معروف النسب فإن الحقيقة لا تكذبه هناك.
ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر أنه
أقر بنسب مملوكه طائعا فيعتق عليه كما لو قال
لمعروف النسب هذا ابني وتأثيره أن صريح كلامه
محال كما قال ولكن له مجاز صحيح ومعناه عتق
على من حين ملكته لأن البنوة سبب لهذا فإنه
إذا ملك ابنه يعتق عليه فيجعل هذا السبب كناية
عن موجبه مجازا وتصحيح كلام العاقل واجب
وللعرب لسانان حقيقة ومجاز فإذا تعذر تصحيحه
باعتبار الحقيقة يصحح باعتبار المجاز. ألا ترى
أن الوارث إذا أعتق المكاتب يجعل إبراء منه عن
بدل الكتابة بهذا النوع من المجاز إلا أنهما
يقولان المجاز خلف عن الحقيقة ففي كل موضع
يكون الأصل متصورا يمكن أن يجعل المجاز خلفا
عنه كما في مسألة المكاتب وفي كل موضع لا يكون
الأصل متصورا لا يمكن جعل المجاز خلفا عنه
وهنا لا تصور للأصل بخلاف معروف النسب فإن
هناك الأصل متصور فيجوز إثبات المجاز خلفا عنه
ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المجاز
خلف عن الحقيقة في التكلم لا في الحكم لأنه
تصرف من المتكلم في إقامة كلام مقام كلام
والمقصود تصحيح الكلام فلا يعتبر في تصحيح
المجاز تصور الحكم لإثبات الخلافة ألا ترى أنه
لو قال لحرة اشتريتك بكذا كان نكاحا صحيحا
والحرة ليست بمحل لأصل حكم البيع وهو ملك
الرقبة ولهذا المعنى قلنا إن أم الغلام لو
كانت في ملكه لا تعتق لأن اللفظ إذا صار مجازا
لغيره سقط اعتبار حقيقته وهذا مجاز عن الإقرار
بحريته فكأنه قال عتق علي من حين ملكه وليس
لهذا اللفظ موجب في الأم فأما إذا قال لعبده
هذه ابنتي فقد ذكره محمد على سبيل الاستشهاد
في كتاب الدعوى ومن عادته الاستشهاد بالمختلف
على المختلف فلا نسلمه على قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى وبعد التسليم نقول الأصل أن المشار
إليه إذا لم يكن من جنس المسمى فالعبرة للمسمى
كما لو باع فصا على أنه ياقوت فإذا هو زجاج
فالبيع باطل والذكور والإناث من بني آدم جنسان
فإذا لم يكن المشار إليه من جنس المسمى تعلق
الحكم بالمسمي وهو معدوم ولا يتصور تصحيح
ج / 7 ص -62-
الكلام
إيجابا ولا إقرارا في المعدوم وكذا قوله لصبي
صغير هذا جدي فإنه ذكره على سبيل الاستشهاد
هنا وقد منعوه على قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وبعد التسليم نقول لا موجب لذلك الكلام
في ملكه إلا بواسطة الأب وتلك الواسطة غير
ثابتة وبدونها لا موجب لكلامه حتى يجعل كناية
عن موجبه مجازا فأما للبنوة والأبوة موجب في
ملكه بغير واسطة فيجعل كلامه كناية عن موجبة
وبخلاف قوله أعتقتك قبل أن أخلق لأنه لا موجب
فيما صرح به وكذلك قوله قطعت يدك لأنه لا موجب
للجرح بعد البرء إذا لم يبق له أثر فلا يمكن
تصحيح كلامه على أن يجعل كناية عن موجبه فلهذا
كان لغوا وإن قال لعبده هذا أخي لم يعتق.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه
يعتق لأن للأخوة في ملكه موجبا وهو العتق
فيجعل هذا اللفظ كناية عن موجبه.
وجه ظاهر الرواية أن الأخوة اسم مشترك قد يراد
به الأخوة في الدين قال الله تعالى
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: من الآية10] وقد يراد به الاتحاد في القبيلة قال الله
تعالى
{وَإِلَى
عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [لأعراف: من الآية65] وقد يراد به الأخوة في النسب والمشترك لا
يكون حجة بدون البيان حتى لو قال هذا أخي لأبي
أو لأمي نقول يعتق على هذا الطريق.
فإن قيل فالبنوة والأبوة قد تكون بالرضاعة ثم
أثبتم العتق بهذين اللفظين عند الإطلاق قلنا
لأن البنوة من الرضاع مجاز والمجاز لا يعارض
الحقيقة فأما الأخوة مشتركة في الاستعمال كما
بينا ولأن الأخوة لا تكون إلا بواسطة الأب أو
الأم لأنه عبارة عن مجاورة في صلب أو رحم وهذه
الواسطة غير مذكورة ولا موجب لهذه الكلمة بدون
هذه الواسطة فإن قال لأمته فرجك حر أو قال
لعبده رأسك حر يعتق وقد بينا هذا في الطلاق إن
ذكر ما يعبر به عن جميع البدن كذكر البدن
بخلاف اليد أو الرجل فهو في العتاق كذلك وإن
قال نويت الكذب لم يصدق في القضاء كما في قوله
أنت حر وإن قال لعبده أو لأمته ما أنت إلا حر
أو ما أنت إلا حرة فإنهما يعتقان لأن كلامه
اشتمل على النفي والإثبات وهذا آكد ما يكون من
الإثبات دليله كلمة الشهادة فكان هذا كقوله
أنت حر وهذا بخلاف ما لو قال أنت مثل الحر لأن
هذا اللفظ للمشابهة والمشابهة بين الشيئين قد
يكون خاصا وقد يكون عاما فلا يثبت العتق به
بدون النية وكذلك لو قال بدنك حر لأن معناه
بدنك بدن حر.
وفي النوادر قال: لو نوى فقال بدنك بدن حر
يعتق لأن هذا اللفظ للإيجاب لا للتشبيه ولو
قال لعبده أنت حر اليوم من هذا العمل فإنه
يعتق في القضاء لأنه وصفه بالحرية وتخصيصه
وقتا أو عملا لا يغير حكم ما وصفه به وأما
فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان لا يريد
العتق فهو عبده لأنه يحتمل أن يكون مراده لا
أكلفك اليوم هذا العمل والله تعالى مطلع على
ضميره ولكنه خلاف الظاهر فإنه جعل الحرية صفة
له في الظاهر فلهذا لا يدين في القضاء والله
أعلم بالصدق والصواب.
ج / 7 ص -63-
باب عتق ذوي الأرحام
ذكر عن عائشة رضي الله
عنها عن رسول الله صلى عليه وسلم قال:
"من ملك
ذا رحم محرم منه فهو حر" وكذلك روي
عن عمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وفي
هذا دليل على أن من ملك قريبه يعتق عليه لأن
قوله فهو حر جزاء لقوله من ملك مع القرابة
فإنما يتناول حرية المملوك دون المالك وفي بعض
الروايات قال عتق عليه وفيه دليل أن سبب العتق
الملك مع القرابة فإن مثل هذا في لسان صاحب
الشرع بمعنى بيان السبب كما قال من بدل دينه
فاقتلوه وقال تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: من الآية185].
ولهذا قال عامة العلماء إذا ملك أباه أو أمه
أو ابنه يعتق عليه وقال أصحاب الظواهر يلزمه
أن يعتقه ولكن لا يعتق قبل إعتاقه لظاهر قوله
عليه الصلاة والسلام
"لن يجزئ ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" ففيه تنصيص على أنه مستحق عليه إعتاقه ولو عتق بنفس الشراء لم يكن
لقوله فيعتقه معنى ولأن القرابة لا تمنع ثبوت
الملك ابتداء فلا تمنع البقاء بطريق الأولى
ألا ترى أنها لما منعت بقاء ملك النكاح منعت
ثبوته ابتداء.
"وحجتنا" في ذلك قوله تعالى
{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا
آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}[مريم:92-93] فقد نفى البنوة بينه وبين الخلق بإثبات العبودية فذلك
تنصيص على المنافاة بينهما والمتنافيان لا
يجتمعان فإذا كانت البنوة متقررة انتفت
العبودية ومراده عليه الصلاة والسلام من قوله
فيعتقه بذلك الشراء لا بسبب آخر كما يقال
أطعمه فأشبعه وسقاه فأرواه وضرب فأوجع وكتبه
فقرمط وإنما اثبتنا له الملك ابتداء لأن
انتفاء العبودية لا يتحقق إلا به فإذا لم
يملكه لا يعتق بخلاف ملك النكاح لأنه لا فائدة
في اثبات ملك النكاح له على ابنته ثم إزالته
لأنها تعود إلى ما كانت عليه ولأن هذا العتق
صلة ومجازاة فلا يتحقق إلا بعد الملك فأما
انتفاء النكاح بحرمة المحل وهو موجود قبل
العقد ولأن ملك النكاح ليس إلا بملك الحل
فيختص بمحل الحل والأم والإبنة محرمة عليه
بالنص ولا تصور للملك بدون المحل فأما هذا ملك
مال وذلك ثابت في المحل فيثبت له نسبه أيضا إذ
ليس من ضرورة إثباته الاستدامة. وبهذا الحديث
أيضا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى إذا ملك
أخاه أو أخته أو أحدا من ذوي الرحم المحرم منه
أنه يعتق عليه.
وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتق إلا
الوالدين والمولودين لأنه ليس بينهما بعضية
فلا يعتق أحدهما على صاحبه كبني الأعمام بخلاف
الآباء والأولاد فالعتق هناك للبعضية والجزئية
ولأن القرابة التي بينهما في الأحكام كقرابة
بني الأعمام حتى تقبل شهادة كل واحد منهما
لصاحبه ويجوز لكل واحد منهما وضع زكاة ماله في
صاحبه ويجري القصاص بينهما في الطرفين ويحل
لكل واحد منهما حليلة صاحبه ولا يستوجب كل
واحد منهما النفقة على صاحبه مع اختلاف الدين
ولا يتكاتب أحدهما على صاحبه بخلاف الوالدين
والمولودين.
ج / 7 ص -64-
وهذا
بخلاف المناكحة لأن ثبوتها باسم الأختية
والبنتية لا بمعنى القرابة ألا ترى أنها تثبت
بالرضاع ولا تثبت بالقرابة بها ولهذا لا يعتبر
في الحرمة معنى قرب القرابة وبعدها.
"وحجتنا" في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله
عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إني وجدت أخي
يباع في السوق فاشتريته وأنا أريد أن أعتقه"
فقال عليه الصلاة والسلام: "قد أعتقه الله".
والمعنى فيه أن القرابة
المتأيدة بالمحرمية علة العتق مع الملك كما في
الآباء والأولاد وهذا لأن لهذا العتق بطريق
الصلة والقرابة المتأيدة بالمحرمية تأثيرا في
استحقاق الصلة لأنه يفترض وصلها ويحرم قطعها
ألا ترى أن الله تعالى جعل قطيعة الرحم من
الملاعن لقوله تعالى: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ
اللَّه}[محمد:
من الآية22-23] وقال عليه الصلاة والسلام:
"ثلاث معلقات بالعرش منها الرحم يقول قطعت ولم
أوصل".
والدليل عليه أن حرمة المناكحة تثبت بهذه
القرابة بمعنى الصيانة عن ذل الاستفراش
والاستخدام قهرا، فملك اليمين أبلغ في
الاستذلال من الاستفراش، وكذلك يحرم الجمع بين
الأختين نكاحا صيانة للقرابة عن القطيعة بسبب
المنافرة التي تكون بين الضرائر ومعنى قطيعة
الرحم في استدامة ملك اليمين أكثر ولا شك أن
للملك تأثيرا في استحقاق الصلة فيثبت بهذا
التقرير أن علة العتق هذان الوصفان وبعد هذا
لا يضر انتفاء الجزئية بينهما لما ثبت أن علة
العتق هذا دون الجزئية لأن التعدية بمعنى واحد
قد ظهر أثره مستقيم ولأن هذه القرابة في معنى
القرابة بين الجد والنافلة أيضا لأن اتصال أحد
الأخوين بالآخر بواسطة الأب كما أن اتصال
النافلة بالجد بواسطة الأب ولهذا ظهر الاختلاف
بين الصحابة رضي الله عنهم في الجد مع الأخوة
في الميراث.
وشبه بعضهم الجد مع النافلة بشجرة انشعب منها
غصن ومن ذلك الغصن غصن والأخوين بغصنين من
شجرة واحدة. وشبه بعضهم الجد مع النافلة بواد
تشعب منه نهر ومن النهر جدول والأخوين بنهرين
تشعبا من واد فيكون معنى القرب بينهما أظهر
لأن تفرقهما بشعب واحد والأول بشعبين فعرفنا
أن القرابة التي بينهما بمنزلة قرابة الجد مع
النافلة وذلك موجب للعتق مع الملك إلا أن في
حكم الولاية لم يجعل الأخ كالجد لأن المعتبر
فيه الشفقة مع القرابة وشفقة الأخ ليست كشفقة
الجد وفي حكم الإرث كذلك عند أبي حنيفة رضي
الله عنه لأن ذلك نوع ولاية فإنه خلافة في
الملك والتصرف. وبه فارق بني الأعمام
فالواسطات هناك قد كثرت من كل جانب فكانت
القرابة بعيدة بينهما ولهذا لا يثبت بها حرمة
النكاح ولا حرمة الجمع بينهما في النكاح. فأما
المكاتب فلا ملك له على الحقيقة وهذه القرابة
مع الملك علة والحكم الثابت بعلة ذات وصفين
ينعدم بانعدام أحد الوصفين إلا أن المكاتب إذا
ملك أباه يمتنع عليه بيعه وإذا ملك أخاه لا
يمتنع عليه بيعه عند أبي حنيفة رضي الله عنه
لأن المكاتب له كسب وليس له ملك حقيقة وحق
الآباء والأولاد يثبت في الكسب حتى يجب عليه
نفقة أبيه
ج / 7 ص -65-
إذا
كان مكتسبا وإن لم يكن موسرا فأما حق الأخ لا
يثبت في الكسب حتى لا يجب عليه نفقة أخيه
الزمن إذا كان هو معسرا وإن كان مكتسبا وكذلك
إن كان المالك صغيرا فإنه يعتق عليه لتمام علة
العتق وهو الملك مع القرابة فإن الصغير يملك
حقيقة ألا ترى أنه يثبت له صفة الغناء بملكه
حتى يحرم عليه أخذ الصدقة بخلاف المكاتب وكذلك
إن كان المالك كافرا والمملوك مسلما أو على
عكس ذلك لأن الملك مع القرابة يتحقق مع اختلاف
الدين وبهما تمام علة العتق بخلاف استحقاق
النفقة فإن الشرع أوجب ذلك بصفة الوراثة فقال
تعالى:
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: من الآية233] معناه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم وبسبب
اختلاف الدين ينعدم صفة الوراثة فلهذا لا
يستحق النفقة بخلاف الآباء والأولاد
فالاستحقاق هناك بالولاد قال تعالى:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ}
[البقرة: من الآية233] وبسبب اختلاف الدين لا
ينعدم الولاد فهذا بيان معنى الفرق بين هذه
الفصول فإن ملكه الرجل مع آخر عتق نصيبه منه
وسعي العبد للشريك في نصيبه ولا ضمان على الذي
عتق من قبله في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يضمن
لشريكه قيمة نصيبه إن كان موسرا ويسعى العبد
لشريكه إن كان معسرا وكذلك لو ملكاه بهبة أو
صدقة أو وصية فهو على هذا الخلاف وجه قولهما
أن القريب بالشراء صار معتقا لنصيبه لأن شراء
القريب إعتاق ولهذا تتأدى به الكفارة والمعتق
ضامن لنصيب شريكه إذا كان موسرا كما لو كان
العبد بين شريكين فاشترى قريب العبد نصيب أحد
الشريكين منه يضمن لشريكه الذي لم يبع إن كان
موسرا.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما قال في
الكتاب لأن شراء الشريك معه رضا منه بالذي
يكون به العتق ومعنى هذا الكلام أن ضمان العتق
يجب بالإتلاف والإفساد والرضا بالسبب يمنع
وجوب مثل هذا الضمان كما لو أتلف مال الغير
بإذنه.
وفي إثبات الرضا هنا نوعان من الكلام:
أحدهما أنه لما ساعد شريكه على القبول مع علمه
أن قبول شريكه موجب للعتق فقد صار راضيا بعتقه
على شريكه فهو كما لو استأذن أحد الشريكين من
صاحبه في أن يعتق نصيبه فأذن له في ذلك.
والثاني أن المشتريين صارا كشخص واحد لاتحاد
الإيجاب من البائع ولهذا لو قبل أحدهما دون
الآخر لم يصح قبوله ولم يملك نصيبه به ولا شك
أن كل واحد منهما راض بالتمليك في نصيبه فيكون
راضيا بالتمليك في نصيب صاحبه أيضا لما ساعده
على القبول بل يصير مشاركا له في السبب بهذا
الطريق والمشاركة في السبب فوق الرضا به إلا
أن بهذا السبب تتم علة العتق في حق القريب وهو
الملك ولا تتم علة العتق في حق الأجنبي فكان
القريب معتقا دون الأجنبي ولكن بمعاونة
الأجنبي يسقط حقه في تضمينه لما عاونه على
السبب
ج / 7 ص -66-
وفي
هذا يتضح الكلام لأبي حنيفة في الشراء فيما
إذا كان العبد كله لرجل فباع نصفه من قريبه
فإن الخلاف ثابت فيه ولا شك أن إيجاب البائع
رضا منه بقبول المشتري وما ينبنى على قبول
المشتري يحال به على إيجاب البائع كما لو باع
الأمة المنكوحة من زوجها قبل الدخول سقط جميع
المهر لأن الفرقة جاءت من قبل من له المهر وهو
البائع فأما في الهبة والصدقة والوصية كلاهما
أوضح لأن قبول أحدهما في نصيبه صحيح بدون قبول
الآخر ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول
هما كشخص واحد أيضا إلا أن في الهبة والصدقة
والوصية قبول الشخص الواحد في النصف دون النصف
صحيح وهذا بخلاف ما إذا باع أحد الشريكين
نصيبه من قريبه لأن هناك لم يوجد من الشريك
الآخر ما يكون رضا منه أو معاونة على السبب
وبخلاف ما لو قال أحد الشريكين لشريكه إن
ضربته اليوم سوطا فهو حر فضربه سوطا فإن
الحالف يضمن للضارب إن كان موسرا.
ومن أصحابنا من قال موضوع تلك المسألة أن
الشريك قال أيضا إن لم أضربه اليوم سوطا فهو
حر فإقدامه على الضرب بعد هذا يكون لدفع العتق
عن نصيبه فلا يصير به راضيا بعتق نصيب الشريك
على أن هناك إنما يعتق نصيب الشريك بقوله هو
حر وذلك تم بالحالف من غير رضا كان من الضارب
فأما الضرب شرط للعتق والرضا بالشرط لا يكون
رضا بأصل السبب بخلاف ما نحن فيه فإنه إنما
رضي بالسبب حين شاركه فيه، وهذا بخلاف حكم
الفرار فإن الرضا بالشرط من المرأة كالرضا
بالسبب في إسقاط حقها عن الميراث لأنه لا ملك
لها قبل موت الزوج في ماله وإنما يثبت حكم
الفرار دفعا لقصد الزوج الإضرار بها، وذلك
ينعدم بالرضا بالشرط كما ينعدم بالرضا من
السبب بخلاف ما نحن فيه
ولم يفصل في ظاهر الرواية بين أن يكون الشريك
عالما بأن المشتري معه قريب العبد أو لا يكون
عالما.
وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله لأن
سبب الرضا يتحقق وإن لم يكن عالما به فهو كمن
قال لغيره كل هذا الطعام وهو لا يعلم أنه
طعامه فأكله المخاطب فليس للآذن أن يضمنه شيئا
وكذلك لو قال لشريكه أعتق هذا العبد وهو لا
يعلم أنه مشترك بينهما.
وقد روي أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى أن رضاه إنما يتحقق إذا كان عالما فأما
إذا كان لايعلم بذلك فله أن يرد نصيبه بالعيب
لأنه لايتم رضاه وقبوله حين لم يكن عالما بأن
شريكه معتق وبدون تمام القبول لا يعتق نصيب
الشريك فكان هذا بمنزلة العيب في نصيبه فإن لم
يكن عالما به كان له أن يرده. واستشهد في
الكتاب بقول أبي حنيفة رحمه الله بما لو أعتق
أحد الشريكين بإذن شريكه
وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال في هذا
الفصل لا يسقط حق الشريك في التضمين بالإذن
وهذا صحيح على أصله لأن ضمان العتق عنده ضمان
التملك فإن العتق لا يتجزأ على قوله وضمان
التملك لا يسقط بالإذن كما لو استولد أحد
الشريكين الجارية بإذن شريكه.
وجه ظاهر الرواية أن هذا الضمان سببه الإفساد
والإتلاف فسقط بالإذن كضمان الإتلاف
ج / 7 ص -67-
الحقيقي بل أولى لأن هذا الضمان يسقط بالإعسار
وبخلاف ضمان الإتلاف الحقيقي فأما إذا ورث مع
قريبه غيره عتق نصيبه ولا ضمان عليه لشريكه
لأن الميراث يدخل في ملكه بغير قبوله والضمان
لا يجب إلا باعتبار الصنع من جهته ولهذا لو
ورث قريبه لم يجز عن كفارته وهذا بخلاف ما إذا
استولد جارية بالنكاح ثم ورثها مع غيره لأن
هناك المستولد يصير متملكا نصيب شريكه وضمان
التملك لا يعتمد الصنع ولهذا لا يختلف باليسار
والإعسار هناك ولو ملك محرما له برضاع أو
مصاهرة لم يعتق عليه لأنه لا قرابة بينهما
والعتق صلة تستحق بالقرابة والرضاع إنما جعل
كالنسب في الحرمة خاصة ولهذا لا يتعلق به
استحقاق الميراث والنفقة وليس من ضرورة ثبوت
الحرمة العتق عليه إذا ملكه كالوثنية
والمجوسية وكذلك إن ملك ذا رحم ليس بمحرم لأن
مثل هذه القرابة لا يفترض وصلها ولهذا لا
يتعلق بها حرمة المناكحة وحرمة الجمع في
النكاح.
ولو ملك أحد الزوجين صاحبه لم يعتق عليه لأنه
ليس بينهما قرابة ولأن ما بينهما من الزوجية
يرتفع بالملك وإذا اشترى أمة وهي حبلى من أبيه
عتق ما في بطنها لأنه ملك أخاه وليس له أن
يبيع الأمة حتى تضع لأن في بطنها ولدا حرا كما
لو أعتق ما في بطن أمته وهذا لأن الولد يصير
مستثنى بالعتق ولو استثناه شرطا في البيع بطل
البيع فكذلك إذا صار مستثنى بالعتق وله أن
يبيعها بعد الوضع لأن الأمة ما صارت أم ولد
للإبن فان المستولد أبوه ولا يصير الأب متملكا
لها على الابن لأنها ما كانت مملوكة للابن حين
علقت من الأب فلهذا كان له أن يبيعها والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع
والمآب.
باب لوجوه من العتق
قال رضي الله تعالى عنه "ذكر عن أبي قلابة أن
رجلا أعتق عبدا له عند موته ولا مال له غيره
فأجاز رسول الله صلى اله عليه وسلم ثلثه
واستسعاه في ثلثي قيمته".
وفي هذا دليل أن العتق في المرض يكون وصية
وأنه ينفذ من ثلثه وأن معتق البعض يستسعي فيما
بقي من قيمته فيكون دليلا لنا على الشافعي رضي
الله عنه لأنه لا يرى السعاية على العبد بحال
ولكنه يقول يستدام الرق فيما بقي على ما نبينه
في مسألة تجزي العتق.
وذكر عن الحسن البصري أن رجلا
أعتق ستة أعبد له عند موته فأقرع رسول الله
صلى اله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين ورد
أربعة في الرق وبظاهر هذا الحديث يحتج الشافعي رحمه الله تعالى علينا. فإن المذهب
عندنا أن من أعتق ستة أعبد له في مرضه ولا مال
له غيرهم وقيمتهم سواء يعتق من كل واحد منهم
ثلثه ويسعى في ثلثي قيمته وعند الشافعي رحمه
الله تعالى يجزئهم القاضي ثلاثة أجزاء ثم يقرع
بينهم فيعتق اثنين بالقرعة ويرد أربعة في
الرق. واستدل بهذا الحديث ورجح مذهبه بأن فيه
اعتبار النظر من الجانبين لأنه لو أعتق من كل
واحد منهم ثلثه تعجل تنفيذ الوصية وتأخر اتصال
حق الورثة إليهم بل في هذا إبطال حق الورثة
معنى لأن السعاية في معنى التأوى فإن المال في
ذمة المفلس يكون تأويا فإذا تعذر تنفيذ الوصية
بهذا.
ج / 7 ص -68-
الطريق
وجب جميع العتق في شخصين وتعيين المستحق
بالقرعة لأن ذلك أصل في الشرع وكان في شريعة
من قبلنا قال الله تعالى:{إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ} [آل عمران: من الآية44] وقال: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد
سفرا أقرع بين نسائه والقاضي إذا قسم المال بين الشركاء أقرع بينهم وبهذا تبين أن هذا
ليس في معنى القمار لأن في القمار تعليق أصل
الاستحقاق بخروج القدح وفي هذا تعيين المستحق
فأما أصل الاستحقاق ثابت بإيجاب المعتق.
"وحجتنا" في ذلك أن العبيد استووا في سبب
الاستحقاق وذلك موجب للمساواة في الاستحقاق
فلا يجوز اعطاء البعض وحرمان البعض كما لو
أوصي برقابهم لغيرهم لكل رجل برقبة بل أولى
لأن ملك الوصية يحتمل الرجوع من الموصي والرد
من الموصى له وهذه الوصية لا تحتمل ذلك فإذا
لم يجز حرمان البعض هناك فهنا أولى.
ثم فيما قاله الخصم ضرر الإبطال في حق بعض
الموصى لهم وفيما قلنا ضرر التأخير في حق
الورثة وضرر التأخير متى قوبل بضرر الإبطال
كان ضرر التأخير أهون وإذا لم نجد بدا من نوع
ضرر رجحنا أهون الضررين على أعظمهما مع أنه
ليس في هذا تعجيل حق الموصى له لأن عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى المستسعى مكاتب فلا
يعتق شيء منهم ما لم يصل إلى الورثة السعاية.
وعلى قولهما وإن تعجل العتق للعبيد وذلك ليس
بصنع منا بل بإعتاق الموصي ولزوم تصرفه شرعا
ولو أبطلنا حق بعض العبيد كان ذلك بإيجاب منا
ثم كلامه يشكل بما لو كان ماله دينا على مفلس
فأوصي به له فإنه يسقط نصيبه والباقي دين عليه
إلى أن يقدر على أدائه ولا وجه لتعيين المستحق
بالقرعة لأن تعيين المستحق بمنزلة ابتداء
الاستحقاق فإن الاستحقاق في المجهول في حكم
العين كأنه غير ثابت فكما أن تعليق ابتداء
الاستحقاق بخروج القرعة يكون قمارا فكذلك
تعيين المستحق، وإنما يجوز استعمال القرعة
عندنا فيما يجوز الفعل فيه بغير القرعة كما في
القسمة فإن للقاضي أن يعين نصيب كل واحد منهم
بغير قرعة فإنما يقرع تطييبا لقلوبهم ونفيا
لتهمة الميل عن نفسه. وبهذا الطريق كان يقرع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه
إذا أراد سفرا لأن له أن يسافر بمن شاء منهن
بغير قرعة إذ لا حق للمرأة في القسم في حال
سفر الزوج وكذلك يونس صلوات الله عليه عرف أنه
هو المقصود وكان له أن يلقي نفسه في الماء من
غير إقراع ولكنه أقرع كيلا ينسب إلى ما لا
يليق بالأنبياء. وكذلك زكريا عليه السلام كان
أحق بضم مريم إلى نفسه لأن خالتها كانت تحته
ولكنه أقرع تطييبا لقلوب الأحبار مع أن تلك
كانت معجزة له فقد روى أن أقلامهم كانت من
الحديد وكان الشرط أن من طفا قلمه على وجه
الماء فهو أحق بها وروي أنه كان من القصب،
وكان الشرط أن من استقبل قلمه جري الماء ولم
يجر مع الماء فهو أحق بها بقي اعتمادهم على
الحديث. ومن أصحابنا من قال هذا الحديث غير
صحيح لأن فيه أن الرجل كان له ستة أعبد قيمتهم
سواء ولم يكن له معهم شيء
ج / 7 ص -69-
آخر
وهذا من أندر ما يكون ولو ثبت فيحتمل أن الرجل
أوصى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يعتقهم. وفي الحديث دليل عليه لأنه قال فأعتق
أثنين منهم وكان لرسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يعتق أي الاثنين شاء منهم فأقرع
تطييبا لقلوبهم.
وذكر الجصاص أن معنى قوله فأعتق اثنين أي قدر
أثنين منهم وبه نقول فإنا إذا أعتقنا من كل
واحد منهم ثلثه فقد أعتقنا قدر أثنين منهم
ومعنى قوله فأقرع أي دقق النظر يقال فلان قريع
دهره أي دقيق النظر في الأمور ودقق الحساب بأن
جعل قدر الرقبتين بينهم أسداسا هذا تأويل
الحديث إن صح وعن إسماعيل ابن خالد عن الشعبي
رضي الله تعالى عنهم في رجل أعتق عبدا له عند
الموت ولا مال له غيره
قال عامر قال مسروق هو حر كله جعله لله لا
أرده وقال شريح يعتق ثلثه ويسعى في الثلثين
فقلت لعامر أي القولين أحب إليك قال فتيا
مسروق وقضاء شريح رضي الله تعالى عنهما. وفي
هذا إشارة أن العتق يتجزى في الحكم كما هو
مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأنه يجب
إتمامه ولا يجوز استدامة الرق فيما بقي منه
كما هو فتوى مسروق رحمه الله تعالى.
وعن علي رضي الله عنه أن
رجلا أعتق عبدا له عند الموت وعليه دين قال:
"يسعى العبد في قيمته" وعن أبي يحيى الأعرج رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"يسعى
العبد في الدين"
والمراد إذا
كان الدين بقدر قيمته.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه فإنه قال
تسعى الأمة في ثمنها يعني في قيمتها وهذا لأن
الدين مقدم على الوصية والميراث والعتق في
المرض وصية فوجب رده لقيام الدين ولكن العتق
لا يحتمل الفسخ والرق بعد سقوطه لا يحتمل
العود فكان الرد بإيجاب السعاية عليه وعن
إبراهيم رحمه الله تعالى قال إذا كان وصية
وعتق بدىءبالعتق وهكذا عن شريح وهو قول ابن
عمر رضي الله عنه لأن العتق أقوى سببا فإنه
يلزم بنفسه على وجه لا يحتمل الرد والرجوع عنه
والترجيح بقوة السبب أصل. وعن عمر رضي الله
عنه أنه أعتق عبدا له نصرانيا يدعى بجيس وقال
لو كنت على ديننا لاستعنا بك على بعض أعمالنا
وفيه دليل على أن أعتاق النصراني قربة وأنهم
لا يؤتمنون على شيء من أمور المسلمين فإنهم لا
يؤدون الأمانة في ذلك.
وقد أنكر عمر رضي الله عنه ذلك على أبي موسى
الأشعري فإنه قال له مر كاتبك ليكتب لنا كذا
قال إن كاتبي لا يدخل المسجد قال أجنب هو قال
لا ولكنه نصراني فقال سبحان الله أما سمعت
الله يقول:{تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبَالاً} [آل عمران: من الآية118]. وعن عمر بن عبد العزيز أنه أعتق عبدا له
نصرانيا فمات العبد فجعل ميراثه لبيت المال.
وفيه دليل على أن المسلم لا يرث الكافر وإن
مات ولا وارث له فحصة ماله لبيت المال. وعن
ابن عمر رضي الله عنهما أن أمة فجرت فولدت من
الزنى فأعتقها ابن عمر رضي الله عنه وأعتق
ولدها. وفيه دليل على جواز التقرب إلى الله
تعالى بعتق ولد الزنى. وعن عمر
ج / 7 ص -70-
رضي
الله عنه أنه أوصى بولد الزنى خيرا وأوصى بهم
أن يعتقوا وهذا لأن له من الحرمة ما لسائر بني
آدم ولا ذنب لهم وإنما الذنب لآبائهم كما ذكر
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتأول في
أولاد الزنى:
{وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
[فاطر: من الآية 18].
وذكر عن إبراهيم وعامر رضي الله عنهما قالا لا
يجزئ ولد الزنى في النسمة الواجبة وكأنهما
تأولا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
"ولد الزنى شر الثلاثة" ولسنا نأخذ بقولهما فإن الله تعالى أمر بتحرير الرقبة وأكثر
المماليك لا تعرف آباؤهم عادة وتأويل الحديث:
"شر الثلاثة نسبا" فإنه لا نسب له أو قال ذلك في ولد زنا بعينه نشأ مريدا فكان أخبث
من أبويه وإذا قال الرجل لأمته أمرك بيدك يعني
في العتق فإن أعتقت نفسها في مجلسها عتقت وإن
قامت منه قبل أن تعتق نفسها فهي أمة لأنه
ملكها أمرها وأهم أمورها العتق فتعمل نيبته في
العتق وجواب التمليك يقتصر على المجلس وقد
بيناه في الطلاق وذكرنا هناك أنه إذا لم ينو
الطلاق.
فالقول قوله فكذلك هنا إذا لم ينو العتق وكذلك
إن جعل أمرها في يد غيرها وإن قال لها اعتقي
نفسك فقالت قد اخترت نفسي كان باطلا لأن
كلامها يصلح جوابا للتخيير والمولى ما خيرها
إنما ملكها أمرها وقولها اخترت نفسي لا يصلح
للتصرف بحكم الملك ألا ترى أن المولى يملك
إعتاقها ولو قال لها اخترتك من نفسي أو اخترت
نفسي منك لا تعتق فكذلك قولها اخترت نفسي،
ولأن قوله: اعتقي نفسك إقامة منه إياها مقام
نفسه في إيقاع العتق فإنما يملك الإيقاع
باللفظ الذي كان المولى مالكا للإيقاع به ولو
قال لها أنت حرة إن شئت فإن قالت في مجلسها قد
شئت كانت حرة ولو قامت قبل أن تقول شيئا فهي
أمة والتفويض إلى مشيئتها بمنزلة التمليك منها
فتقتصر على الجواب في المجلس وكذلك إن قال إن
أردت أو هويت أو أحببت أو قال أنت حرة إن كنت
تحبينني أو تبغضينني. فالقول في ذلك قولها ما
دامت في مجلسها كما في الطلاق لأنه لا يوقف
على ما في قلبها إلا بإخبارها فكان هذا بمنزلة
التعليق بالإخبار بذلك وإن قالت في ذلك لست
أحبك ثم قالت أنا أحبك لم تصدق للتناقض ولأن
شرط البر قد تم بقولها الأول فلم يبق لها قول
مقبول بعد ذلك في حق المولى وكذلك لو قال إن
كنت تحبين العتق فأنت حرة
ولو قال أنت حرة إذا حضت كان القول في ذلك
قولها استحسانا لأنه لا يوقف عليه إلا من
جهتها ولكن هذا لا يقتصر على مجلسها لأنها لا
تقدر على الإخبار بالحيض على وجه تكون صادقة
فيه إلا بعد رؤية الدم وربما لا يتحقق في ذلك
المجلس فمتى قالت حضت عتقت ولو قال أنت حرة،
وفلانة إن شئت فقالت قد شئت نفسي لم تعتق لأن
قوله إن شئت ليس بكلام مستقل بنفسه فلا بد من
جعله بناء على ما سبق فيكون معناه إن شئت
عتقكما فلا يتم الشرط بمشيئتها عتق نفسها
وكذلك لو قال لأمتيه أنتما حرتان إن شئتما
فشاءت إحداهما فهو باطل لأن معنى كلامه إن
شئتما عتقكما فلا يتم الشرط بمشيئة إحداهما
ولا بمشيئتهما عتق إحداهما ولو قال أيتكما
شاءت العتق فهي حرة فشاءتا جميعا عتقتا لأن
ج / 7 ص -71-
كلمة
أي تتناول كل واحدة منهما على الأنفراد فإن
شاءت إحداهما عتقت التي شاءت لأن مشيئة كل
واحدة منهما بهذا اللفظ شرط عتقهما ألا ترى
أنه قال أيتكما شاءت ولم يقل شاءتا وإن شاءتا
جميعا عتقتا فإن قال أردت إحداهما لم يصدق في
القضاء ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه
نوى التخصيص في اللفظ العام فإن كان نوى
إحداهما بعينها عتقت هي وإن نوى إحداهما لا
بعينها كان له أن يختار إحداهما فيعتقها ويمسك
الأخرى بمنزلة ما لو أعتق إحداهما لا بعينها
ولو قال كل مملوك لي فهو حر وله عبيد وأمهات
أولاد ومدبرون ومكاتبون عتقوا جميعا إلا
المكاتبين فإنهم لا يعتقون إلا أن ينويهم لأن
كلمة كل توجب التعميم وقد أوجب العتق لكل
مملوك مضاف إليه بالملكية مطلقا بقوله لي وهذا
يتحقق في العبيد وأمهات الأولاد والمدبرين
لأنه يملكهم رقا ويدا حتى يملك استغلالهم
واستكسابهم وهذا غير موجود في المكاتبين فإنه
يملكهم رقا لا يدا، بل المكاتب كالحر يدا حتى
كان أحق بمكاسبه ولا يملك المولى إكسابه
والثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا
فلهذا لا يدخلون إلا أن ينويهم فإن نواهم
فنقول المنوي من محتملات كلامه لأنه قد يضيف
إلى نفسه ما يكون مضافا إليه من وجه دون وجه
وإن قال أردت الرجال دون النساء دين فيما بينه
وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء لأنه نوى
التخصيص في اللفظ العام وهذا بخلاف ما لو قال
نويت السود منهم دون البيض فإنه لا يصدق في
القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأن
هناك نوى التخصيص بوصف ليس في لفظه ولا عموم
لما لا لفظ له فلا تعمل فيه نية التخصيص وهنا
نوى التخصيص فيما في لفظه لأن المملوك حقيقة
للذكور دون الإناث فإن الأنثى يقال لها مملوكة
ولكن عند الاختلاط يستعمل عليهم لفظ التذكير
عادة فإذا نوى الذكر فقد نوى حقيقة كلامه
ولكنه خلاف المستعمل فيدين فيما بينه وبين
الله تعالى ولا يدين في القضاء ولهذا قيل لو
قال نويت النساء دون الرجال كانت نيته لغوا.
قال "وكذلك لو قال لم أنو المدبرين لم يصدق
في القضاء" وفي كتاب الأيمان يقول إذا قال لم
أنو المدبرين لم يدين فيما بينه وبين الله
تعالى ولا في القضاء ففيه روايتان. وجه تلك
الرواية أنه نوى التخصيص بما ليس في لفظه لأن
التدبير وإن كان يوجب استحقاق العتق فلا يوجب
نقصانا في إضافته إليه بالملكية واليد.
وجه هذه الرواية أن إضافته إلى المولى برقه
والتدبير يمكن نقصانا في الرق لأن استحقاق
العتق على وجه لا يحتمل الفسخ لا يكون إلا بعد
نقصان في رقه ولهذا قيل المدبر من وجه كالحر
حتى لا يحتمل البيع فكان هو كالمكاتب من هذا
الوجه غير مضاف إلى المولى بمطلق الملك والرق
إلا أن النقصان هنا في الإضافة بمعنى خفي
فيدين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء
ولا يخرج من الكلام بدون النية وفي المكاتب
النقصان بسبب ظاهر وهو ملك اليد له في مكاسبه
فلا يدخل إلا أن ينويه ولأن قوله كل مملوك لي
حر إنشاء العتق. وقد بينا أن عتق المدبر من
وجه تعجيل لما استحقه مؤجلا فلا يكون انشاء من
كل وجه فإذا قال: لم أنو
ج / 7 ص -72-
المدبرين فقد بين أنه نوى ما يكون إنشاء من كل
وجه خاصة وذلك أمر في ضميره خاصة فيدين فيما
بينه وبين الله تعالى ولو قال لعبيده أنتم
أحرار إلا فلانا كان كما قال لأن الكلام
المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء
الإستثناء وكذلك لو قال لعبدين أنتما حران إلا
سالما وهو اسم أحدهما كان سالم عبدا لأن كلامه
عبارة عما وراء المستثنى وقد بقي سوى المستثنى
عبد يمكن أن يجعل كلامه عبارة عنه ولو قال
سالم حر ومرزوق حر إلا سالما عتقا جميعا لأنه
تكلم بكلامين كل واحد منهما مستقل بنفسه بما
ذكر له من الخبر فكان قوله إلا سالما استثناء
لجميع ما تناوله أحد كلاميه وذلك باطل لأنه
تعطيل. والاستثناء للتحصيل والبيان وإنما
يتحقق ذلك إذا كان يبقى سوى المستثنى شيء
يتناوله ذلك الكلام وهذا بخلاف ما لو قال سالم
ومرزوق حران إلا سالما فإن الاستثناء صحيح هنا
لأن كلامه واحد هنا معنى حين أخر ذكر الخبر
حتى عطف إحداهما على الأخرى وذكر ما يصلح خبرا
للمستثنى. فعرفنا به أن كلامه واحد معنى فكأنه
قال هما حران إلا سالما فإن قال كل مملوك
أملكه أبدا فهو حر فهذا اللفظ إنما يتناول ما
يملكه في المستقبل لأنه قال أبدا وليس للأبد
نهاية في الحقيقة.
وفي العرف هو عبارة عن وقت في المستقبل إلى
موته ومن أصلنا أن العتق يحتمل الإضافة إلى
الملك كالطلاق فبأي سبب يملك المملوك من شراء
أو غيره فإنه يعتق لأن المضاف إلى وقت أو
المعلق بشرط عند وجوده كالمنجز وكذلك لو قال
كل مملوك أملكه إلى ثلاثين سنة وكذلك إذا قال
كل مملوك أشتريه فهو حر لأن الشراء سبب للملك
وإقامة السبب مقام الحكم صحيح فإن أمر غيره
فاشترى مملوكا لم يعتق لأنه جعل الشرط شراء
بنفسه ولم يوجد فإن حقوق العقد في البيع
والشراء إنما تتعلق بالعاقد والعاقد يستغني عن
إضافة العقد إلى الآمر بخلاف النكاح وإن كان
نوى أن لا يشتري هو ولا غيره عتق لأنه شدد
لأمر على نفسه بلفظ يحتمله فإنه نوى الحكم وهو
الملك بما ذكر من سببه وهو الشراء قالوا وهذا
كله إذا كان الرجل ممن يباشر العقد بنفسه فأما
إذا كان الحالف ممن لا يباشر الشراء بنفسه
عادة فأمر غيره بأن يشتري له عتق لأنه باليمين
منع نفسه عما يباشره عادة فإذا كان عادته
الشراء بهذا الطريق ينصرف يمينه إليه عند
الإطلاق. وإن قال: كل مملوك لي حر يوم أكلم
فلانا وليس له مملوك ثم اشترى مملوكا ثم كلمه
لم يعتق لأن قوله أملكه وإن كان ظاهرا في
الاستقبال فالمراد به الحال في الاستعمال يقال
فلان يملك كذا وأنا أملك كذا يعني في الحال
فما ليس بمملوك له في الحال لا يتناوله كلامه
لأن المضاف إلى وقت والمعلق بالشرط إنما
يتناول ما يتناوله المنجز فإذا كان العتق
المنجز بهذا اللفظ لا يتناول إلا ما يملكه في
الحال، فكذا المضاف إلى وقت بخلاف ما سبق لأن
الإضافة هنا في الملك لا في الحرية فلهذا
يتناول ما يملكه في المستقبل وإن كان قال يوم
أكلم فلانا فكل مملوك لي يومئذ حر عتقوا لأنه
أوجب العتق لما يكون في ملكه وقت الكلام وما
كان موجودا في ملكه وقت اليمين وما استحدث
الملك فيه موصوف بأنه مملوك له وقت الكلام
فيعتقون جميعا.
ج / 7 ص -73-
وإن
قال يوم أكلمه فكل مملوك أملكه أبدا فهو حر ثم
اشترى مملوكا ثم كلمه لم يعتق لأن المتعلق
بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز.
وقوله يوم أكلم فلانا شرط وقوله كل مملوك
أملكه أبدا حر فيصير عند وجود الكلام كأنه قال
كل مملوك أملكه أبدا وهذا اللفظ إنما يتناول
ما يملكه بعد الكلام دون ما كان مملوكا له قبل
الكلام والمشتري قبل الكلام مملوك له وقت
الكلام فلا يتناوله إيجابه وإن قال كل مملوك
أملكه حر يوم أكلم فلانا، وهو يريد ما يملكه
فيما يستقبل فاشترى مملوكا ثم كلمه عتق لأنه
نوى حقيقة كلامه، فإن حقيقة قوله أملكه
للاستقبال ولكن يعتق في القضاء من كان في ملكه
يوم حلف لأن ظاهر لفظه يتناول المملوك له في
الحال لغلبة الاستعمال فلا يصدق في صرف اللفظ
عن ظاهره.
وذكر في النوادر أنه يصدق لأن ما نوى من حقيقة
كلامه مستعمل أيضا وإنما لا يصدق في صرف
الكلام عن ظاهره إذا كان المنوي خلاف
المستعمل وإن قال كل مملوك لي حر وله عبد
بينه وبين آخر لم يعتق لأنه أوجب العتق لمملوك
مضاف إليه بالملك مطلقا والمملوك اسم للعبد
وهو المضاف إليه من وجه وإلى شريكه من وجه فلا
يتناوله مطلق كلامه فإن نواه عتق استحسانا وفي
القياس لا يعتق لأن نصيبه من العبد المشترك لا
يسمى عبدا ولا مملوكا فقد نوى خلاف الملفوظ
ولكن في الاستحسان يقول جزء من العبد موصوف
بأنه مملوك كالكل ولهذا صح إضافة التصرفات
المختصة بالملك إلى الجزء الشائع فإذا نواه
فقد شدد على نفسه بلفظ يحتمله وبدون نيته إنما
لم ندخله للعرف فإن المملوك اسم للعبد الكامل
عرفا وقد سقط اعتبار هذا العرف حين نوى بخلافه
توضيحه أن العبد المشترك مضاف إليه من وجه دون
وجه فيكون كالمكاتب يدخل بنيته وإن كان له عبد
تاجر له مماليك وعليه دين أو لا دين عليه عتق
العبد التاجر لأنه مملوك رقبة ويدا فيتناوله
مطلق الإضافة فأما مماليكه فعلى قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى إن كان عليه دين يحيط برقبته
وكسبه لم يعتق مماليكه نواهم أو لم ينوهم وإن
لم يكن عليه دين لم يعتق مماليكه إلا أن
ينويهم.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى سواء كان عليه
دين أو لم يكن فإن نواهم عتقوا وإن لم ينوهم
لا يعتقون وعند محمد رحمه الله تعالى سواء كان
عليه دين أو لم يكن يعتقون إلا أن يستثنيهم
بنيتة وهذا ينبني على أصلين أحدهما في المأذون
أن المولى لا يملك كسب العبد المأذون إذا كان
مستغرقا بالدين عند أبي حنيفة رحمه الله
وعندهما يملكه. والثاني في الأيمان أن كسب
العبد لا يكون مضافا إلى المولى في قول أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد
رضي الله تعالى عنه يكون حتى لو حلف لا يدخل
دار فلان فدخل دار عبده عند محمد رحمه الله
تعالى يحنث لأن حقيقة هذه الإضافة للملك وكسب
العبد مملوك لمولاه وعندهما الإضافة إلى
المولى مجاز وإلى العبد حقيقة لأنه كسبه قال
صلى الله عليه وسلم : "من باع عبدا وله مال ". والدليل عليه أنه يستقيم أن تنفي عن المولى فيقال هذه ليست بداره
بل هي دار
ج / 7 ص -74-
عبده
والعبرة للإضافة لا للملك ألا ترى أنه لو دخل
دارا يسكنها فلان عارية أو إجارة كان جاشا
إذا عرفنا هذا فنقول:
أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فالمولى لا
يملك كسب العبد إذا كان عليه دين حتى لو أعتقه
بعينه لم يعتق فكذلك بمطلق كلامه وإن نواه فإن
لم يكن عليه دين فهو غير مضاف إليه مطلقا فلا
يعتق بمطلق كلامه إلا أن ينويه فإن نواه عتق
لأن المنوي من محتملات كلامه وعند أبي يوسف
رحمه الله تعالى هو مالك له سواء كان عليه دين
أو لم يكن إلا أنه غير مضاف إليه مطلقا فلا
يدخل في كلامه إلا أن ينويه.
وعند محمد رحمه الله تعالى الإضافة باعتبار
الملك وهو مملوك له سواء كان عليه دين أو لم
يكن فيعتق بإيجابه إلا أن يستثنيه بنية فيعمل
استثناؤه لأنه نوى المضاف إليه من كل وجه وهذا
مضاف إليه ملكا ولكنه مضاف إلى عبده كسبا أو
نوى تخصيص لفظه العام فتعمل نيته فيما بينه
وبين الله تعالى. ولهذا لا يصدق في القضاء
وإذا دعا عبده سالما فأجابه مرزوق فقال أنت حر
ولا نية له عتق الذي أجابه لأنه اتبع الإيقاع
الجواب فيصير مخاطبا للمجيب. وإن قال عنيت
سالما عتق سالم بنيته لكون المنوى من محتملات
كلامه ولكنه لا يصدق في القضاء في صرف العتق
عن مرزوق لأن الإيقاع تناوله في الظاهر فلا
يدين في صرفه عنه في القضاء وهو مدين فيما
بينه وبين الله تعالى، وإن قال يا سالم أنت حر
وأشار إلى شخص ظنه سالما فإذا هو عبد آخر له
أو لغيره عتق عبده سالم لأنه اتبع الإيقاع
النداء فتناول المنادى خاصة ولا معتبر لظنه
فإن الظن لا يغني من الحق شيئا وإذا أعتق
الرجل عبده أو أمته ثم جحد العتق حتى أصاب من
الخدمة والغلة ما أصاب ثم أقر به أو قامت عليه
البينة فليس عليه في الخدمة شيء لأنه مجرد
استيفاء المنفعة ولا تتقوم المنفعة إلا بعقد
ألا ترى أنه لو غصب حرا فاستخدمه لم يكن عليه
شيء سوى المأثم عندنا فهذا مثله بل عينه لأنها
تبين أنها كانت حرة حين استخدمها ويرد عليها
ما أصاب من غلتها. ومراده إذا كانت هي التي
أجرت نفسها أو اكتسبت لأنه تبين أنها كانت حرة
مالكة لكسبها فعلى المولى أن يرد عليها ما أخذ
منها وإن كان هو الذي أجرها فما أخذ من الغلة
يكون مملوكا له لأنه وجب بعقده ولكن لا يطيب
له لأنه حصل له بكسب خبيث وعليه في الوطء لها
مهر المثل لأنه تبين أنه وطئها وهي حرة والوطء
في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر وقد سقط
الحد بالشبهة لأنها كانت مملوكة له يومئذ في
الظاهر فوجب المهر. وهذا لأن المستوفي بالوطء
في حكم العين دون المنفعة ولهذا يختص إباحة
تناوله بالملك ولا يملك بالعقد إلا مؤبدا وإن
كان أجنبي جنى عليه ثم أقر المولى أنه كان
أعتقه قبل ذلك لم يصدق على إلزام الجاني حكم
أرش الحر لأن إقراره ليس بحجة في حق الجاني.
وثبوت الحكم بحسب الحجة وإقراره حجة عليه خاصة
فما وجب من أرش المماليك يكون لها لأن المولى
حول ذلك بإقراره إليها وذلك صحيح منه لكونه
مقرى به على نفسه وإن قامت به بينة لزم الجاني
حكم الجناية على الحر لأن البينة حجة في حق
ج / 7 ص -75-
الكل.
والثابت من الحرية بها قبل الجناية كالثابت
معاينة على الحر ولا يجوز عتق الصبي والمجنون
في حال جنونه لأن قولهما هدر شرعا خصوصا فيما
يضرهما، ولأن العتق لا ينفذ إلا بقول ملزم لا
أنه ملزم في نفسه وقولهما غير ملزم شرعا وإن
أعتق في حال افاقته جاز لأنه مخاطب له قول
ملزم وهو يملك العبد حقيقة فينفذ عتقه. وإن
قال أعتقت عبدي وأنا صبي أو أنا نائم فالقول
قوله لأنه أضاف إقراره إلى حالة معهودة تنافي
إعتاقه فكان إنكارا للعتق معنى وإقرارا صورة
والعبرة للمعنى دون الصورة، وكذلك لو قال
أعتقته قبل أن يخلق أو قبل أن أخلق لأنه أضاف
إلى حالة معهودة تنافي تصور الإعتاق فيكون هذا
أبلغ في النفي من الإضافة إلى حالة تنافي
الإعتاق شرعا وإذا وجب تصديقه هناك فهنا أولى.
وإذا قال لعبده أنت حر متى شئت أو كلما شئت أو
إذا ما شئت فقال العبد لا أشاء ثم باعه ثم
اشتراه ثم شاء العتق فهو حر لأنه علق عتقه
بوجود مشيئته في عمره ولم يفت ذلك بقوله لا
أشاء لأنه يتحقق منه المشيئة بعده. وقوله لا
أشاء كسكوته أو قيامه عن المجلس ولا يجعل قوله
لا أشاء رد الأصل كلام المولى لأن تعليق العتق
بالشرط يتم بالمولى فلا يرتد برد العبد وإذا
بقي التعليق نزل العتق لوجود الشرط بمشيئته.
قال "ألا ترى أنه لو قال أنت حر إن دخلت
الدار ثم باعه ثم اشتراه فدخل الدار يعتق"
وهذا مذهبنا فأما عند الشافعي لا يعتق لأن
الملك عنده كما يشترط لانعقاد اليمين يشترط
لبقائها وبالبيع زال ملكه ولكنا نقول الملك
ليس بشرط لانعقاد اليمين وإنما الشرط وجود
المحلوف به فلهذا صححنا إضافة العتق إلى
الملك. والمحلوف به هو العتق ومحلية العبد
للعتق بصفة الرق وذلك لا ينعدم بالبيع إلا أنه
يشترط الملك عند وجود الشرط لنزول العتق لأن
تصرفه يتصل بالمحل عند وجود الشرط فأما قبل
ذلك بقاء اليمين ببقاء ذمته وبقاء المحلوف به
لكونه محلا للعتق فلا معنى لاشتراط الملك فيه.
وإن قال أنت حر حيث شئت فقام من مجلسه بطل ذلك
لأن حيث عبارة عن المكان أي أنت حر في أي مكان
شئت فليس في لفظه ما يوجب تعميما في الوقت
فيتوقت بالمجلس كقوله إن شئت وإن قال أنت حر
كيف شئت عتق في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ولم يعتق في قولهما ما لم يشأ قبل أن يقوم من
مجلسه وقد بينا هذا في الطلاق والعتق قياسه
وقوله كيف شئت في العتق ليس بشيء عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لأن بعد نزول العتق لا
مشيئة لأحد في تغييره من وصف إلى وصف ولهذا لو
شاء العبد عتقا على مال أو إلى أجل أو بشرط أو
شاء التدبير فذلك باطل كله وهو حر وإن قال
عبدي حر وليس له إلا عبد واحد عتق لأنه عرف
محل العتق بإضافته إلى نفسه فكأنه عرفه
بالإشارة إليه ولأنه أوجب ما لا يتم إيجابه
إلا في ملكه فتعين ملكه له. فإن قال لي: عبد
آخر وإياه عنيت لم يصدق إلا ببينة لأن كلامه
تناول ذلك العبد الذي ظهر ملكه فيه باعتبار
الظاهر فيكون هو متهما في صرفه عنه إلا من لا
يعلم فلا يصدقه القاضي إلا بحجة ولو قال أبيعك
عبدا بكذا ولم يسمه ولم يره المشتري فالبيع
باطل لأنه
ج / 7 ص -76-
أوجبه
في مجهول وإيجاب البيع في المجهول باطل وهذه
جهالة تفضي إلى المنازعة بينهما فإن اتفقا أنه
هذا فالبيع جائز لأن الجهالة والمنازعة قد
ارتفعت باتفاقهما وكان بيانهما في الانتهاء
بمنزلة التعيين في الابتداء وإن قال أبيعك
عبدي بكذا ولم يسم كان المشتري بالخيار إذا
رآه لأنه عرفه بالإضافة إلى نفسه فكان بمنزلة
التعريف بالإشارة إلى مكانه وليس في ذلك
المكان مسمى بذلك الاسم إلا واحد وثبوت الخيار
للمشتري لعدم الرؤية.
قال "وليس هذا كالعتق" وظن بعض مشايخنا رحمهم
الله تعالى أن مراده الفرق بينهما في إثبات
خيار الرؤية وليس كذلك بل المراد هو الفرق لأن
إيجاب العتق في المجهول صحيح بخلاف إيجاب
البيع حتى لو قال أعتقت عبدا وليس له إلا عبد
واحد يعتق ذلك العبد بخلاف ما لو قال بعتك
عبدا لأن المنازعة تتمكن بسبب الجهالة في
البيع دون العتق والبيان من المولى مقبول في
العتق لأنه إيجاب لا يقابله استيجاب بخلاف
البيع ولو قال أحد عبدي حر أو أحد عبيدي حر
وليس له إلا عبد واحد عتق ذلك العبد لأنه عرف
محل العتق بإضافته إلى نفسه بالملكية وإذا كان
المضاف إليه بالملكية واحدا كان متعينا
لإيجابه ولو قال لعبديه أحدكما حر عتق أحدهما
لا بعينه لأن العتق يحتمل التعليق بالشرط فيصح
إيجابه في المجهول كالطلاق وهذا لأن المتعلق
بالشرط إنما ينزل عند وجود الشرط والإيجاب في
المجهول في حق العين كالمتعلق بشرط البيان
فيما يحتمل التعليق بالشرط فيصح إيجابه في
المجهول فإن مات أحدهما أو قتل تعين العتق في
الآخر لأن الذي مات خرج من أن يكون محلا
لإيقاع العتق عليه والعتق المبهم في حق
المعين، كالنازل عند البيان فلا بد من بقاء
لمحل ليبقى خياره في البيان وعدم التعين في
الباقي منهما كان لمزاحمة الآخر إياه وقد زالت
هذه المزاحمة بخروج أحدهما من أن يكون محلا
للعتق فلهذا يتعين في الآخر وهذا بخلاف البيع
فإنه لو اشترى أحد العبدين وسمى لكل واحد
منهما ثمنا وشرط الخيار لنفسه ثم مات أحدهما
تعين البيع في الهالك وهنا يتعين العتق في
القائم.
قال علي القمي وفي الحقيقة لا فرق بينهما لأن
الهالك يهلك على ملكه في الفصلين والأصح أن
يقول هناك حين أشرف أحدهما على الهلاك تعين
البيع فيه لأنه تعذر عليه رده كما قبض فإنما
يتعين للبيع وهو حي لا ميت وهنا لو تعين العتق
فيه تعين بعد الموت لأنه بالإشراف على الهلاك
لا يخرج من أن يكون محلا للعتق وبعد الموت هو
ليس بمحل للعتق فيتعين في القائم ضرورة وكذلك
لو باع أحدهما أو وهبه لأنه اكتسب فيه سبب
التمليك والمعتق لا يكون محلا للتمليك فمن
ضرورة اكتساب سبب التمليك. فيه نفي العتق عنه
وذلك يخرجه من مزاحمة الآخر في ذلك العتق وهذا
لأن تصرف العاقل محمول على الصحة ما أمكن ومن
ضرورة صحة هذا التصرف انتفاء ذلك العتق عن هذا
المحل وكذلك لو دبر أحدهما صح تدبيره لأنهما
مملوكاه في الظاهر ومن ضرورة صحة التدبير
انتفاء ذلك العتق عنه لأن المعتق لا يدبر وهذا
لأن التدبير تعليق للعتق بالشرط والعتق في محل
واحد غير متعدد فمن
ج / 7 ص -77-
ضرورة
تنجزه بطلان التعلق بالموت ومن ضرورة صحة
تعليقه بالموت انتفاء تنجز العتق فيه قبله
وكذلك لو كانا أمتين فوطىءإحداهما فعلقت منه
لأنها صارت أم ولد له فمن ضرورة صحة أمية
الولد واستحقاق العتق بها انتفاء العتق المنجز
عنها وإذ انتفى عن إحداهما تعين في الأخرى
لزوال المزاحمة ولو وطىءإحداهما ولم تعلق منه
فكذلك الجواب في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى وفي قول أبي حنيفة لا يتعين العتق
في الأخرى بل يبقى خياره في البيان.
وجه قولهما أن الوطء تصرف لا يحل إلا بالملك
فاقدامه عليه في إحداهما دليل تعيين الملك
فيها ومن ضرورته انتفاء ذلك العتق عنها فتعين
في الأخرى وقاسا بما بينا من التصرفات وبما لو
قال لامرأتين له إحداكما طالق ثلاثا ثم
وطىءإحداهما تعين الطلاق في الأخرى وهذا لأن
فعل المسلم محمول على الحل ما أمكن لأن عقله
ودينه يمنعه من الحرام. ووطؤهما جميعا ليس
بحلال له حتى لا يفتى له بذلك فكان من ضرورة
حل الوطء في إحداهما انتفاء العتق عنها ألا
ترى أنه لو باع جارية على أنه بالخيار ثلاثة
أيام ثم وطئها في مدة الخيار يصير فاسخا للبيع
وهناك الجارية باقية على ملكه ووطؤها حلال له
ثم كان من ضرورة الإقدام على الوطء انتفاء سبب
المزيل عنها فهنا أولى وكذلك لو باع إحدى
الأمتين وسمى لكل واحدة منهما ثمنا وشرط
الخيار لنفسه ثم وطئ إحداهما فليس له أن يعين
البيع فيها بعد ذلك وكذلك إن كان المشتري
بالخيار فوطئ إحداهما تعين البيع فيها لإثبات
صفة الحل لفعله فهذا قياسه.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول وطؤهما جميعا
مملوك له والوطء في الملك بمنزلة الاستخدام
لأنه من حيث الحقيقة ليس في الوطء إلا استيفاء
المنفعة وإنما تظهر المفارقة بينهما من طريق
الحكم وذلك في غير الملك فبقي في الملك الوطء
نظير الاستخدام وبيان أن وطأهما مملوك له أما
من حيث الحكم فلأنهما لو وطئهما بالشبهة كان
الواجب عقر المملوكتين وكان ذلك كله للمولى
وإنما يملك البدل بملك الأصل ومن حيث الحقيقة
فلأنهما كانتا مملوكتين له قبل إيجاب العتق
وإنما أوجب العتق في نكرة وكل واحدة منهما
بعينها معرفة والمنكر غير المعرف فلا يجوز
إيجاب العتق في المعين قبل بيانه لأنه إيجاب
في غير المحل الذي أوجبه.
ولا يقول هو في الذمة كما توهمه بعض أصحابنا
رضي الله عنهم لأنه ما أوجبه في الذمة ولكن
قول هو في المنكر كما أوجبه وعدم التعين لا
يمنع صحة الإيجاب فيما هو أضيق من هذا معنى
حتى لو باع قفيزا من صبرة جاز فلأن لا يمنع
صحة الإيجاب هنا أولى، ولكن الإيجاب في المنكر
كالمتعلق بشرط البيان في حكم العين والتعليق
بالشرط يمنع الوصول إلى المحل وفيما لا يحتمل
التعليق بالشرط كالبيع المعتبر انتفاء معنى
المنازعة لصحة الإيجاب فإذا بقيت كل واحدة
منهما مملوكة له عينا بقي وطء كل واحدة منهما
مملوكا له ولكن لا يفتى بالحل لأن المنكر الذي
وجب فيه العتق فيهما. والحل والحرمة مبني على
الاحتياط فلهذا لا
ج / 7 ص -78-
يفتى
بحل وطئهما له وإن كان وطؤهما مملوكا له وهذا
بخلاف النكاح فإن ملك النكاح ليس إلا ملك الحل
والطلاق موجبه الأصلي حرمة المحل ولا يجتمع
الوصفان في محل واحد فمن ضرورة كون ملك المتعة
بإقباله في الموطوءة انتفاء التطليقات عنها
فيتعين في الأخرى وأما العتق يزيل ملك الرقبة
وحل الوطء باعتبار ملك المتعة لا باعتبار ملك
الرقبة وليس من ضرورة ملك المتعة في محل
انتفاء العتق عن ذلك المحل. ولا يقال هنا لا
سبب لملك المتعة إلا ملك الرقبة ومن ضرورة
انتفاء ملك الرقبة انتفاء ملك المتعة الثابت
بسببه لأن ما كان طريقه طريق الضرورة تعتبر
فيه الجملة لا الأحوال ألا ترى أن الجارية
المبيعة إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر فقطعت
يد الولد وأخذ المشترى الإرش ثم ادعى البائع
نسب الولد بطل البيع وحكم بحرمة الأصل للولد
وبقي الإرش سالما للمشتري ولا سبب في هذا
الموضع لملكه الإرش سوى ملك الرقبة ثم نظر إلى
الجملة دون الأحوال وكذلك لو اشترى لحما
فأخبره عدل أنه ذبيحة مجوسي يحرم عليه تناوله
وسبب الملك هنا ملك العين ولما كان حل التناول
يثبت في الطعام في الجملة من غير ملك نظر إلى
الجملة دون الأحوال بخلاف حل الوطء إذا تقرر
هذا.
فنقول لا منافاة بين ملك المتعة والحرية في
محل واحد ابتداء وبقاء في الجملة وأكثر ما في
الباب أن يكون إقدامه على الوطء دليل بقاء ملك
المتعة له في هذا المحل وذلك لا يوجب منافاة
الحرية عنه ضرورة توضيحه أن وطء إحداهما دليل
الحرمة في الأخرى والتصريح بالحرمة يجوز أن
يقع به الطلاق بأن يقول لامرأته أنت علي حرام
بنية الطلاق فكذلك ما يدل على الحرمة في
الأخرى يحصل به البيان فأما التصريح بالحرمة
لا ينزل به العتق فكذلك البيان لا يحصل بما
يكون دليل الحرمة في إحداهما لأن البيان في حق
المحل كالإيجاب ابتداء ولهذا لا يصح بعد الموت
فأما في البيع بشرط الخيار لو لم يجعله فاسخا
للبيع بالوطء لكان إذا جاز البيع يملكه
المشتري من وقت العقد حتى لو وطئت بالشبهة كان
الإرش للمشتري فتبين به أن البائع وطئها في
غير ملكه.
فلهذا جعلناه بيانا وهنا لو عين العتق في
الموطوءة لا يتبين انعدام ملكه فيها سابقا على
الوطء بدليل أنها لو وطئت بشبهة يكون الإرش
سالما للمولى وإن عين العتق فيها مع أن فسخ
البيع هناك يحصل بالجناية وهنا لا يحصل
بجنايته على إحداهما بالبيان فكذلك بالوطء
وكذلك في بيع إحدى الأمتين. أما إذا كان
الخيار للمشتري فلأنه لا يملك إحداهما إلا بعد
تعيين البيع فيها وإذا كان الخيار للبائع
فلأنه لو عين البيع فيها بعد الوطء يثبت الملك
للمشتري من وقت البيع ويتبين أنه وطئها في غير
ملكه فللتحرز عن هذا تعين البيع في الأخرى
ضرورة.
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله
تعالى أنه لو قبل إحداهما أو لمسها بشهوة أو
نظر إلى فرجها فكذلك أيضا لأن هذه الأفعال لا
تحل إلا في الملك كالوطء ولو أعتق إحداهما
بعينها ثم قال إياها كنت عنيت بذلك العتق
الأول كان مصدقا.
ج / 7 ص -79-
أما
عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى
فلأن العتق الأول في حق العين لم يكن نازلا
حتى يقال له أوقع فكان هذا إيقاعا لذلك العتق
في العين.
وعند محمد رحمه الله تعالى هو نازل في إحداهما
حتى يقال له بين على ما ذكره في الزيادات ولكن
لفظه في الإيقاع والبيان يتقارب. والبيان
مستحق عليه فيحمل فعله على الوجه المستحق، وإن
قال أردت به الإيقاع ابتداء صح إيقاعه لأنها
بقيت على ملكه بعد العتق المبهم محلا قابلا
لتصرفه وبتقرر إيقاعه تخرج عن أن تكون محلا
لذلك العتق المبهم فيتعين في الأخرى كما لو
دبر إحداهما ولو فقأ رجل عين إحداهما فالمولى
على خياره لأن المفقوء عينها محل للعتق
كالأخرى وسواء أوقع العتق عليها أو على
الأخرى. فالواجب على الفاقيء أرش عين الأمة
للمولى أما إذا أوقع على الأخرى فلا إشكال فيه
وكذلك إذا أوقع على المفقوء عينها لأنها كانت
مملوكة حين فقئت عينها فصار أرش عين المملوكة
مستحقا للمولى ثم إيقاع العتق عليها يعمل فيما
بقي منها دون ما فات ونظيره أرش اليد في ولد
الجارية المبيعة إذا ادعى البائع نسبه أنه
يبقي سالما للمشتري وإن قال كنت عنيتها حين
أوقعت العتق أو قال كنت أوقعت العتق عليها قبل
فقء العين لم يصدق في حق الجاني لأن الواجب
عليه أرش مملوكة فهو بهذا الكلام يريد أن
يلزمه أرش عين حرة ولكنه يصدق على نفسه حتى
يكون ذلك الأرش لها لأنه هو المستحق للأرش
ظاهرا وقد أقربه لها فإقراره صحيح في حق نفسه
ولو قتلهما رجل واحد فإن قتل إحداهما قبل
الأخرى فعليه قيمة الأولى للمولى وديه الأخرى
لورثتها لأن بقتل إحداهما يتعين العتق في
الأخرى ضرورة فتبين أنه قتلها وهي حرة وإن
قتلهما معا كان عليه قيمة أمة ودية حرة إن
استوت القيمتان وإن اختلفت فعليه نصف قيمة كل
واحدة منهما ونصف دية حرة لأنا نتيقن أنه قتل
حرة وأمة وقتل الحر يوجب الدية وليست إحداهما
بأولى من الأخرى فيلزمه نصف قيمة كل واحدة
منهما ونصف ديتها لأن البيان فات حين قتلتا
وعند فوت البيان يشيع العتق فيهما.
فإن قيل إذا لم يكن العتق نازلا في إحداهما
كيف يجب عليه دية حرة؟
قلنا: هذا إنما يلزم من يقول أن العتق نازل
في الذمة ونحن قلنا أن العتق نازل في المنكر
وذلك المنكر فيهما لا يعدوهما فعند اتحاد
القاتل يعلم أنه قاتل للمنكر الذي نزل فيه
العتق وهو بمنزلة ما قال في الجامع لو أوصى
لرجل بأحد عبديه ثم مات فأعتقهما الموصى له ثم
عين الوارث وصيته في أحدهما تعين ذلك المعين
من قبله ثم نصف ما وجب في بدل نفس كل واحدة
منهما يكون لمولاها والنصف لورثتها لأن كل
واحدة منهما إن كانت حرة فبدل نفسها لوارثها
وإن كانت أمة فبدل نفسها لمولاها فيتوزع نصفين
للمساواة ولو قتلهما رجلان كل واحد منهما قتل
إحداهما فإن كان على التعاقب فعلى القاتل
الأول قيمة الأولى لمولاها وعلى القاتل الثاني
ديتها لورثتها لأن العتق تعين فيها وإن كان
معا فعلى كل واحد منهما قيمة أمة لأن كل واحد
من القاتلين إنما قتل إحداهما بعينها والعتق
في حق العين كأنه غير نازل،
ج / 7 ص -80-
فكانت
كل واحدة منهما مملوكة عينا وإنما نزول العتق
في المنكر ولا يتيقن أن كل واحد منهما قاتل
لذلك المنكر فإنما وجب على كل واحد منهما
القدر المتيقن به وهو القيمة ولم يبين في
الكتاب أن ذلك للمولى أو لورثتها.
وقيل هذا والأول سواء النصف للمولى من كل
واحدة منهما والنصف للورثة لأن في حق المولى
الحرية ثابتة في إحداهما فلا يستحق بدل نفسها
فيتوزع ذلك نصفين لهذا ولو قطع أيديهما رجل
واحد جميعا معا أو إحداهما قبل الأخرى أو فعل
ذلك رجلان كان الواجب أرش يدي مملوكتين ويسلم
ذلك كله للمولى لأن بعد قطع اليد يبقى خيار
المولى لبقاء كل واحدة منهما محلا للعتق وما
بقي خيار المولى لا يكون العتق نازلا في عين
إحداهما فإنما أبينت يد كل واحدة منهما على
حكم الرق بخلاف الرق فإنه لا يبقى خيار المولى
في البيان بعد ما قتلت أو إحداهما وإذا لم يبق
خياره لم يكن بد من الحكم بشيوع العتق فيهما
وإذا كان قاتلهما واحدا نتيقن بأنه قتل حرة
وأمة وإن لم يجن عليهما أحد ولكن المولى مات
قبل أن يبين عتق من كل واحدة منهما نصفها وسعت
في نصف قيمتها لأن البيان فات بموت المولى فإن
وارثه لا يخلفه في ذلك فإنه لا يقف على مراده
ولأن مجرد الخيار لا يورث ولما فات البيان شاع
العتق فيهما إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى
وبعد ما عتق نصف كل واحدة منهما يجب إخراج
النصف الباقي إلى الحرية بالسعاية. وإن اختار
المولى عند الموت إحداهما عتقت كلها ولا يعتبر
من ثلث ماله لأن الإيقاع كان منه في الصحة وقد
تم الاستحقاق به في حقه معتبرا من جميع ماله
لأنه لا تنكير في جانبه فلا يتغير ذلك ببيانه
عند الموت وهو نظير ما لو طلق إحدى نسائه
الأربع قبل الدخول من غير عينها كان له أن
يتزوج أخرى لأن إحداهن قد بانت في حقه فإنه لا
تنكير في جانبه. ولو جنت إحداهما جناية قبل أن
يختار المولى ثم اختار إيقاع العتق عليها بعد
علمه بالجناية كان مختارا للجناية لأنه كان
متمكنا من أن يوقع العتق على الأخرى فإيقاعه
على هذه في حق أولياء الجناية بمنزلة إعتاق
مبتدأ لأنه يمتنع به دفعها فيصير مختارا للدية
ولا يصدق في حقهم أنه كان أرادها بذلك العتق
السابق. وإن مات المولى قبل البيان عتق من كل
واحدة منهما نصفها وسعت كل واحدة منهما في نصف
قيمتها لورثة المولى وكان على المولى قيمة
التي جنت في ماله لأنه تعذر دفعها حين عتق
نصفها على وجه لم يصر المولى مختارا بل صار
مستهلكا بترك البيان في الأخرى حتى مات فيلزمه
قيمتها كما لو أعتق الجانية قبل أن يعلم
بالجناية
ولو باع إحداهما على أنه بالخيار وقع العتق
على الأخرى لأن تصرفه بالبيع في إحداهما نافذ
ومن ضرورة نفوذه خروجها من أن تكون محلا لذلك
العتق فيتعين في الأخرى، وكذلك لو باع إحداهما
بيعا فاسدا وقبضها المشتري وهذا أظهر لأن
المشتري بالقبض قد ملكها فمن ضرورته تعين
العتق في الأخرى.
ولكن قيل لا معتبر بهذه الزيادة فسواء قبضها
المشتري أو لم يقبضها تعين العتق في الأخرى
لأن البيع اسم خاص لتمليك مال بمال ففي قوله
بعت هذا بكذا إقرار بأنه لا حظ لها
ج / 7 ص -81-
في ذلك
العتق فيتعين في الأخرى. ألا ترى أنه لو عرض
إحداهما على البيع تعين الأخرى للعتق محفوظ عن
أبي يوسف رحمه الله تعالى. فإذا باع إحداهما
بيعا فاسدا أولى وهذا لأن دليل البيان ممن له
الخيار كصريح البيان كما روى أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما خير بريرة قال لها:
"إن وطئك زوجك
فلا خيار لك"وكذلك لو
باع إحداهما بعينها على أن المشتري بالخيار
عتقت الباقية وهذا أظهر لأن المشتري لو أعتقها
عتقت من قبله فمن ضرورة هذا التصرف خروجها من
أن تكون مزاحمة في ذلك العتق وكذلك لو كاتب
إحداهما لأنه بالكتابة يوجب لها ملك اليد في
نفسها ومكاسبها بعوض. وهذا لا يتحقق في العتق
فكان انتفاء العتق عنها من ضرورة تصرفه، وكذلك
لو رهن إحداهما لأنه أثبت للمرتهن يد
الاستيفاء في ماليتها بتصرفه ومن ضرورته
انتفاء العتق عنها وكذلك لو أجر إحداهما لأنه
التزم تسليمها إلى المستأجر بولاية الملك ومن
ضرورته إنتفاء العتق عنها وإن استخدمها لم
تعتق الباقية لأنه ليس من ضرورة استخدامه
إياها انتفاء العتق عنها فالإنسان قد يستخدم
الحرة خصوصا إذا كانت مولاة له ويحل له ذلك
شرعا برضاها فلا يكون ذلك دليل البيان.
وقد بينا أن الإعتاق من الصبي لا يجوز وهو
مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك لو
قال كل مملوك أملكه إذا احتلمت فهو حر لأن
اليمين لا تنعقد إلا بقول ملزم وليس للصبي قول
ملزم شرعا خصوصا فيما لا منفعة له فيه
والمجنون كالصبي وإذا قال الصحيح عبدي حر يوم
أفعل كذا ففعل ذلك وهو معتوه عتق عبده إلا على
قول ابن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه فإنه
يقول المعلق بالشرط عند وجود الشرط. كالمنجز
والمعتوه ليس من أهل تنجيز العتق ولكنا نقول
العته لا يعدم ملكه ولا يمنع تحقق الفعل منه
إنما يهدر قوله ولا حاجة إلى قوله عند وجود
الشرط والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز
بذلك التعليق السابق وقد صح منه، وإذا أعتق
الرجل عبده وهو من أهل الحرب في دار الحرب ثم
صار ذميا أو أسلم وعبده معه في يده فهو عبده
وعتقه وتدبيره في دار الحرب باطل عند أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى عتقه نافذ لأنه
إزالة الملك بطريق الإبطال فيصح في دار الحرب
كالطلاق ثم ملك الحربي أضعف من ملك المسلم
فإذا كان ملك المسلم يزول بالعتق مع تأكده
بالإحراز فملك الحربي أولى وهما يقولان: لا
فائدة في هذا العتق لأنه معتق بلسانه مسترق
بيده وهو محل للاسترقاق والدار دار القهر
فعرفنا أنه غير مفيد شيئا ولأن الإعتاق إحداث
قوة وإذا كان العبد حربيا لا يتحقق فيه معنى
إحداث القوة لأنه عرضة للتملك.
ولهذا قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أهل
الحرب بمنزلة الأرقاء حتى لو كان العبد مسلما
كان العتق نافذا.
وبعض أصحابنا يقولون لا خلاف في نفوذ العتق
على ما فسره محمد رحمه الله تعالى في
ج / 7 ص -82-
السير
الكبير أنه إذا كان من حكم ملكهم أنه يمنع
المعتق من استرقاق المعتق فإنه ينفذ العتق
وإنما الكلام في إثبات الولاء على ما ذكره
الطحاوي أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى لا ولاء عليه للمعتق وله أن يوالي من
شاء.
وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى استحسن أن يكون
ولاؤه للذي أعتقه لأن الولاء كالنسب ولا خلاف
أن النسب يثبت في دار الحرب حتى لو قال
المستأمن لغلمان في يده هؤلاء أولادي أو لجوار
في يده هن أمهات أولادي قبل ذلك منه فكذلك
الولاء يثبت في دار الحرب ثم يتأكد بالخروج
إلى دار الإسلام ولا يبطل.
وهما يقولان ثبوت الولاء للمعتق على المعتق
حكم شرعي ودار الحرب ليس بدار الأحكام وهو أثر
ملك محترم ولا حرمة لملك الكافر ثم لو أحرز
المملوك نفسه بدارنا لم يكن لأحد عليه ولاء
فكذلك المعتق والأصل فيه ما روي أن ستة من أهل
الطائف خرجوا حين كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم محاصرا لهم ثم خرج مواليهم يطلبون ولاءهم
فقال صلى الله عليه وسلم "أولئك
عتقاء الله" إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يقول هناك لم يوجد من الموالي
اكتساب سبب الولاء وإنما زال ملكهم بتباين
الدارين وهنا من المولى قد وجد اكتساب سبب
الولاء بالعتق والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الشهادة في العتق
قال رضي الله عنه "وشهادة الشهود على عتق
الأمة جائزة وإن كانت هي منكرة" لأن هذا فرج
معناه أن عتق الأمة يتضمن تحريم فرجها على
المولى وذلك من حق الشرع وفيما هو حق الله
تعالى الشهادة تقبل حسبة من غير الدعوى.
فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن يكتفي بشهادة
الواحد لأنه أمر ديني وخبر الواحد فيه حجة
تامة.
قلنا: خبر الواحد إنما يكون حجة في الأمر
الديني إذا لم تقع الحاجة إلى التزام المنكر
وهنا الحاجة ماسة إلى ذلك ولأن في هذا ازالة
الملك والمالية عن المولى وخبر الواحد لا يكفي
لذلك فلهذا لا بد من أن يشهد به رجلان.
فإن قيل: فإذا كانت هي أخته من الرضاعة قبلت
الشهادة على عتقها مع جحودها وليس فيه تحريم
الفرج هنا.
قلنا: بل فيه معنى الزنى لأن فعل المولى بها
قبل العتق لا يلزمه الحد وبعد العتق يلزمه
الحد وبضعها مملوك للمولى وإن كان هو ممنوعا
عن وطئها للمحرمية ألا ترى أنه يزوجها وإن بدل
بضعها يكون له فيزول ذلك الملك بإعتاقها ولأن
الأمة في إنكار العتق متهمة لما لها من الحظ
في الصحبة مع مولاها ولا معتبر لإنكار من هو
متهم في إنكاره فجعلناها كالمدعية لهذا فأما
الشهادة على عتق العبد لا تقبل مع جحود العبد
في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وتقبل في
قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.
ج / 7 ص -83-
وجه
قولهما أن المشهود به حق الشرع وعدم الدعوى لا
يمنع قبول الشهادة عليه كعتق الأمة وطلاق
الزوجة.
وبيان ذلك أن المشهود به العتق وهو حق الشرع
ألا ترى أنه لا يحتاج فيه إلى قبول العبد ولا
يرتد برده وإنه مما يجوز أن يحلف به وإنما
يحلف بما هو حق الشرع وأن إيجابه في المجهول
صحيح ولا يصح إيجاب الحق للمجهول ويتعلق به
حرمة استرقاقه وذلك حق الشرع قال النبي عليه
الصلاة والسلام:
"ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة" وذكر في جملتهم من استرق الحر ويتعلق به حكم تكميل الحدود ووجوب
الجمعة، والأهلية للولايات ثم الاسترقاق على
أهل الحرب عقوبة بطريق المجازاة لهم حين
أنكروا وحدانية الله فجازاهم على ذلك بأن
جعلهم عبيد عبيده فإزالته بعد الإسلام يكون
حقا للشرع ولهذا كانت قربة تتأدى بعض الواجبات
بها.
والدليل عليه أن التناقض في الدعوى لا يمنع
قبول البينة حتى لو أقر بالرق ثم ادعى حرية
الأصل وأقام البينة قبلت بينته والتناقض يعدم
الدعوى.
وحجة أبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة
والسلام
"ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد" فقد جعل أداء الشهادة قبل الاستشهاد من أمارات الكذب فظاهره يقتضي
أن لا يكون مقبولا منه إلا حيث خص بدليل
الإجماع والمعنى فيه أن إزالة ملك اليمين
بالقول ولا يتضمن معنى تحريم الفرج فلا تقبل
الشهادة فيه إلا بالدعوى كالبيع وتأثيره أن
المشهود به حق العبد لأن الإعتاق إحداث قوة
المالكية والاستبداد فيتضمن انتفاء ذل
المالكية والرق وذلك كله حق العبد فأما ما
وراء ذلك من ثمرات العتق فلا يعتبر ذلك وإنما
يعتبر المشهود به فإذا كان حقا للعبد يتوقف
قبول البينة على دعواه ونحن نسلم أن في السبب
معنى حق الشرع ولهذا لا يتوقف على قبوله ولا
يرتد برده ولكن هذا لا يدل على قبول البينة
فيه من غير الدعوى كالعفو عن القصاص ثم العبد
غير متهم في هذا الإنكار لأن العاقل لا يجحد
الحرية ليستكسبه غيره فينفق عليه بعض كسبه
ويجعل الباقي لنفسه فصح إنكاره وصار به مكذبا
لشهوده بخلاف الأمة لأنها متهمة في الأنكار
على ما قلنا حتى لو كان العبد متهما بأن كان
لزمه حد قذف أو قصاص في طرف فأنكر العتق تقبل
الشهادة.
ومن أصحابنا من قال التناقض إنما يعدم الدعوى
فيما يحتمل الفسخ بعد ثبوته لأن أول كلامه
ينقض آخره وآخره ينقض أوله فأما فيما لا يحتمل
النقض بعد ثبوته فلا معتبر بالتناقض كما في
دعوى النسب فإن الملاعن إذا أكذب نفسه ثبت
النسب منه ولا ينظر إلى تناقضه في الدعوى ولا
ناقض لحرية الأصل في دارنا فالتناقض فيه لا
يكون معدما للدعوى وهذا ضعيف.
فإن من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه بعد
ما أقر بنسب ولد أمته لغيره لو ادعاه لنفسه لا
يصح للتناقض والنسب لا يحتمل النقض والوجه أن
يسلك فيه طريقة الشبهين فنقول من حيث السبب
المشهود به من حق الشرع بمنزلة طلاق الزوجة
وعتاق الأمة ومن حيث
ج / 7 ص -84-
الحكم
المطلوب بالسبب هو حق العبد كما بينا وما تردد
بين الشبهين يوفر حظه عليهما فلشبهه بحقوق
العباد قلنا الشهادة لا تقبل بدون الدعوى
ولشبهه بحق الشرع قلنا التناقض في الدعوى لا
يمنع قبول البينة عليه وإذا شهدوا أنه أعتق
عبده سالما ولا يعرفون سالما وله عبد واحد
اسمه سالم فإنه يعتق لما بينا أن إيجاب العتق
في المجهول صحيح ولأن ملكه متعين لما أوجبه
فبأن لا يعرف الشهود العبد لا يمنع قبول
شهادتهم كما أن القاضي يفضي بالعتق إذا سمع
هذه المقالة من المولى وإن كان هو لا يعرف
العبد ولو شهدوا به في البيع أبطلته لما بينا
أن الجهالة التي تفضي إلى المنازعة تمنع صحة
البيع وإذا لم يعرف الشهود العبد، فهذه جهالة
تفضي إلى المنازعة ويتعذر على القاضي القضاء
لأجله بالشهادة وإذا شهدوا عليه بعتق عبد
بعينه واختلفا في الوقت أو المكان أو اللفظ أو
اللغة أو شهد أحدهما أنه أعتقه وشهد الآخر أنه
أقر أنه أعتقه فالشهادة جائزة لأن العتق قول
يعاد ويكرر فلا يختلف المشهود به باختلافهما
في الزمان والمكان، ولا باختلافهما في اللغة
وصيغة الإقرار والإنشاء في العتق واحد وإن
اختلفا في الشرط الذي علق به العتق لم يجز لأن
أحدهما يشهد بعتق يتنجز عند دخول الدار والآخر
بعتق يتنجز عند كلام فلان والكلام غير الدخول
فلا يتمكن القاضي من القضاء بواحد من الشرطين
وإن اتفقا على أنه قال له إن دخلت الدار فأنت
حر، وقال المول:ى إنما قلت له إن كلمت فلانا
فأنت حر فأيهما فعل فهو حر لأن التعليق بشرط
الدخول ثبت بشهادة شاهدين وبكلام فلان بإقرار
المولى ولا منافاة بينهما. ولو شهد أحدهما أنه
أعتقه بجعل والآخر أنه كان بغير جعل لم تقبل
الشهادة لأن أحدهما يشهد بعتق متعلق بقبول
البدل والآخر بعتق بات ولأن العتق بجعل يخالف
العتق بغير جعل في الأحكام وكذلك لو اختلفا في
مقدار الجعل والمولى ينكر ذلك فالشهادة لا
تقبل سواء ادعى العبد أقل المالين أو أكثرهما،
لأن أحدهما يشهد بعتق متعلق بقبول ألف والآخر
بقبول ألف وخمسمائة. وإن كان المولى هو المدعي
والعبد منكر فإن كان يدعي أقل المالين عتق
العبد لإقرار المولى بحريته ولا شيء عليه لأنه
أكذب أحد شاهديه وهو الذي شهد له بألف
وخمسمائة. وإن ادعى العتق بألف وخمسمائة قضى
عليه بألف لأن الشهادة هنا لا تقوم على العتق
فالعبد قد عتق بإقرار المولى وإنما تقوم على
المال. ومن ادعى ألفا وخمسمائة وشهد له شاهد
بألف وآخر بألف وخمسمائة يقضي بالألف لاتفاق
الشاهدين لفظا ومعنى وإذا شهد شاهدان أنه
أعتقه إن دخل الدار وآخران إن كلم فلانا
فأيهما وجد عتق العبد لأن كل واحد من
التعليقين ثبت بحجة كاملة ولا تنافي بينهما،
وإن ادعى الغلام أنه أعتقه بألف وأقام شاهدين
وادعاه المولى بألفين، وأقام شاهدين فالبينة
بينة المولى لأنه يثبت الزيادة في حقه ببينته،
وإن أقام العبد بينة أنه قال إذا أديت إلي
ألفا فأنت حر وأنه قد أداها، وأقام المولى
بينته أنه إنما قال له إذا أديت إلي ألفين
فأنت حر فالعبد حر ولا شيء عليه غير الألف
الذي أداه لأن العبد يثبت ببينته تنجز الحرية
فيه وهو حقه ولأنه يجعل كأن الأمرين كانا إذ
لا منافاة بينهما ولو عاينا وجود الكلامين من
المولى تخير العبد وعتق بأداء أي المالين
اختاره ولو أقام العبد
ج / 7 ص -85-
البينة
أنه باعه نفسه بألف فأقام المولى البينة أنه
باعه نفسه بألفين كانت البينة بينة المولى لأن
العتق يتنجز بالقبول هنا فكان إثبات الزيادة
في بينة المولى بخلاف الأول.
قال في الأصل "ولو باعه نفسه بألف درهم
فأداها من مال المولى كان حرا وللمولى أن يرجع
عليه بمثلها والعتق هنا حصل بالقبول لا بأداء
المال" وإنما يتحقق هذا الفصل فيما إذا علقه
بالأداء والوجه فيه أن نزول العتق بوجود الشرط
وقد وجد، وإن كان المؤدي مسروقا أو مغصوبا من
المولى ثم رد هذا المال على المولى كان مستحقا
عليه، فيقع من الوجه المستحق في الحكم ويكون
له أن يرجع عليه بمثله وإن شهد للعبد ابناه أو
أبوه وأمه أن مولاه أعتقه فشهادتهما باطلة،
لأنها تقوم لمنفعة العبد وهؤلاء متهمون في حقه
ولا شهادة لمتهم والعتق يثبت مع الشبهات،
فيثبت بالشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع
الرجال وإذا رجع شهود العتق بعد القضاء لم
يبطل العتق لأنهما لا يصدقان في إبطال الحكم
ولا في إبطال حق العبد، ولكنهما يضمنان قيمته
لأنهما أتلفا ماليته على المولى وقد أقر
بالرجوع أنهما أتلفاه عليه بغير حق والمعتبر
في الضمان عند الرجوع بقاء من بقي على الشهادة
لا رجوع من رجع وقد بينا هذا في الطلاق. وإن
شهد شاهدان بعتقه فلم يحكم بشهادتهما للتهمة
ثم ملكه أحدهما عتق عليه لأنه قد أقر بحريته
وذلك الإقرار صحيح لازم في حقه إلا أنه لم يكن
عاملا لانعدام الملك له في المحل فإذا وجد
الملك عمل وكان كالمجدد للإقرار بعد ما ملكه
فيكون حرا من ماله، وإذا شهدا بعتقه فحكم
بشهادتهما ثم رجعا عنه فضمنا قيمته ثم قامت
بينة غيرهم بأن المولى قد كان أعتقه فإن شهدوا
أنه أعتقه بعد شهادة هؤلاء لم يسقط عنهم
الضمان بالاتفاق لأنهم شهدوا بما هو لغو فإنه
عتق بقضاء القاضي والمعتق لا يعتق،
وإن شهدوا أنه أعتقه قبل شهادة هؤلاء لم
يرجعوا بما ضمنوا في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى يرجعون على المولى بما ضمنوا وهذا بناء
على ما بينا أن عندهما الشهادة على عتق العبد
تقبل من غير دعوى فثبت بشهادة الفريق الثاني
حرية العبد من الوقت الذي شهدوا به. وإن لم
يكن هناك مدعيا لذلك ثم تبين به أن الفريق
الأول لم يتلفوا على المولى شيئا بشهادتهم
وأنه أخذ ما أخذ منهم بغير حق.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل
الشهادة على عتق العبد من غير الدعوى ولا مدعي
لما يشهد به الفريق الثاني فإن العبد قد حكم
بحريته فلا يمكنه أن يدعي العتق والفريق الأول
لما شهدوا بأنه أعتقه في وقت لا يمكنهم أن
يدعوا عتقا في وقت سابق عليه للتناقض فلانعدام
الدعوى لا تقبل شهادة الفريق الثاني ولا يجب
على المولى رد شيء مما أخذه من الفريق الأول.
ولو قيد رجل عبده ثم قال إن لم يكن في قيده
عشرة أرطال حديد فهو حر وإن حل قيده فهو حر
فشهد شاهدان أن في قيده خمسة أرطال حديد فقضى
القاضي بعتقه ثم حل القيد فإذا فيه عشرة
أرطال.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الشهود
يضمنون قيمته للمولى وهو قول أبي
ج / 7 ص -86-
يوسف
رحمه الله تعالى الأول وفي قوله الآخر وهو قول
محمد رحمه الله تعالى لا يضمنون له شيئا وهذا
بناء على أن قضاء القاضي بالعتق بشهادة الزور
عند أبي حنيفة رحمه الله ينفذ ظاهرا وباطنا.
وفي قول أبي يوسف رحمه الله الآخر وهو قول
محمد رحمه الله تعالى ينفذ ظاهر لا باطنا
فتبين أن قضاء القاضي بشهادتهما لم يكن نافذا
في الباطن وأن العبد إنما عتق بحل القيد لا
بشهادتهما فلا يضمنان عندهما شيئا.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إنما عتق
العبد بقضاء القاضي لنفوذ قضائه ظاهرا وباطنا
وقضاء القاضي كان بشهادتهما فلهذا ضمنا قيمته
لأنا علمنا أنهما شهدا بالباطل.
فإن قيل: هما إنما شهدا بشرط العتق لأنهما
شهدا بوزن القيد أنه دون عشرة أرطال وذلك شرط
العتق ولا ضمان على شهود الشرط.
قلنا: لا كذلك بل شهدا بتنجيز العتق لأنهما
زعما أن المولى علق عتقه بشرط موجود والتعليق
بشرط موجود يكون تنجيزا حتى يملكه الوكيل
بالتنجيز وشهود تنجيز العتق يضمنون عند
الرجوع.
فإن قيل: قضاء القاضي إنما ينفذ عند أبي
حنيفة رحمه الله إذا لم يتيقن ببطلانه فأما
بعد التيقن ببطلانه لا ينفذ كما لو ظهر أن
الشهود عبيد أو كفار وهنا قد تيقنا ببطلان
الحجة حين كان وزن القيد خمسة أرطال وبعد ما
علم كذبهم بيقين لا ينفذ الفضاء باطنا فإنما
عتق بحل القيد.
قلنا: لا كذلك بل نفوذ القضاء عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى باعتبار أنه يسقط عن القاضي
تعرف ما لا طريق له إلى معرفته وهو حقيقة صدق
الشهود ولا يسقط عنه الوقوف على ما يتوصل إليه
من كفرهم ورقهم لأن التكليف يثبت بحسب الوسع
وقد تعذر على القاضي هنا الوقوف على حقيقة وزن
القيد لأنه لا يعرف ذلك إلا بعد أن يحله وإذا
حله عتق العبد فيسقط عنه حقيقة معرفة وزن
القيد ونفذ قضاؤه بالعتق بشهادتهما ظاهرا
وباطنا.
فإن قيل: لا كذلك فقد يمكنه معرفة وزن القيد
قبل أن يحله بأن يضع رجلي العبد مع القيد في
طست ويصب فيه الماء حتى يعلو القيد ثم يجعل
على مبلغ الماء علامة ثم يرفع القيد إلى ساقه
ويضع حديدا في الطست إلى أن يصل الماء إلى تلك
العلامة ثم يزن ذلك الحديد فيعرف به وزن
القيد.
قلنا: هذا من أعمال المهندسين ولا تنبني
أحكام الشرع على مثله مع أنه إنما يعرف وزن
القيد بهذا الطريق إذا استوى الحديدان في
الثقل ولا يعرف ذلك ولو شهدا أنه أعتق عبده
سالما وله عبدان اسم كل واحد منهما سالم
والمولى يجحد ذلك لم يعتق واحد منهما في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا بد من
الدعوى لقبول الشهادة عنده. والدعوى لا تتحقق
من المشهود له لأنه غير معين منهما ولا يتمكن
الشهود من تعيينه فبطلت شهادتهما لهذا. وإن
ج / 7 ص -87-
قالا:
قد سماه لنا فنسينا اسمه فشهادتهما باطلة
لإقرارهما على أنفسهما بالغفلة وبأنهما ضيعا
شهادتهما.
وحكي عن زفر رحمه الله تعالى أن الشهادة تقبل
ويقال للمولى بين لأنهما يثبتان كلام المولى
فثبت بشهادتها أن المولى أعتق عبدا له
والجهالة لا تمنع صحة العتق فكان المولى مجبرا
على البيان. ولو شهدا أنه أعتق أحد عبديه بغير
عينه والمولى يجحد ذلك فشهادتهما باطلة في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الدعوى شرط
لقبول البينة على العتق عنده والدعوى من
المجهول لا تتحقق إنما تتحقق الدعوى من كل
واحد منهما بعينه والمشهود به عتق في منكر لا
في معين فلا تقبل.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في هذه
المسألة وفي مسألة الشهادة تقبل ويؤمر المولى
بالبيان لأن الشهادة على العتق عندهما تقبل من
غير دعوى فيثبت به أن المولى أعتق أحدهما بغير
عينه فيؤمر بالبيان لهذا وكذلك لو شهدا بأنه
أعتق إحدى أمتيه.
فإن قيل: في هذا الفصل ينبغي أن تقبل الشهادة
عندهم جميعا لأن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لا
يشترط الدعوى في الشهادة على عتق الأمة.
قلنا: نعم إنما لا يشترط الدعوى في الشهادة
على عتق أمة بعينها لما فيها من تحريم الفرج
فأما العتق المبهم لا يوجب تحريم الفرج عنده.
ولهذا قال لا يكون الوطء بيانا فلهذا كان
الجواب في العبد والأمة سواء هنا إلا أن شهدا
أن هذا كان عند الموت منه فحينئذ تقبل
شهادتهما عنده استحسانا.
وفي القياس لا تقبل لانعدام شرط القبول وهو
الدعوى كما لو كان ذلك في حال حياته وصحته
والاستحسان وجهان:
أحدهما أن العتق المبهم يشيع فيهما بالموت حتى
يعتق من كل واحد منهما نصفه فتتحقق الدعوى من
كل واحد منهما.
والثاني أن العتق في مرض الموت بمنزلة الوصية
حتى يعتبر من الثلث ووجوب تنفيذ الوصية لحق
الموصي فتتحقق الدعوى من وصيه أو وارثه هنا
فلهذا قبلت البينة ولو شهدا أن أحد هذين
الرجلين أعتق عبده لم تجز شهادتهما لأن
المشهود عليه مجهول، وذلك يمنع قبول الشهادة
فإن الإنكار شرط لقبول البينة والإنكار من
المجهول لا يتحقق ولأن القاضي لا يتمكن من
القضاء على واحد منهما بهذه الشهادة وإن إدعى
العبد أو الأمة العتق ولم يكن له بينة حاضرة
لم يحل بين المولى، وبين العبد لأن بمجرد
الدعوى لا يثبت استحقاق العبد العتق فإنه خبر
متمثل بين الصدق وبين الكذب والمخبر غير موثوق
فيه لما له في ذلك من الحظ.
وإلى هذا أشار عليه الصلاة والسلام في قوله:
"لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم".
واليد حق للمولى في مملوكه فكما لا يجوز إبطال الملك بمجرد الدعوى
فكذلك لا يجوز إبطال اليد بالحيلولة، وكذلك إن
أقام شاهدا واحدا لأن الحجة لا تتم بشهادة
ج / 7 ص -88-
الواحد
وهذا الجواب في العبد فأما في الأمة الحيلولة
تثبت إذا ادعت أن شاهدها الآخر حاضر احتياطا
لأمر الفرج.
وقد بينا هذا فيما أمليناه من شرح الجامع وإن
أقام شاهدين حيل بينه وبين مولاه حتى ينظر في
أمر الشاهدين وهذا إذا كان مولاه فاسقا أو
مخوفا عليه على ما فسرناه في الجامع.
والمعنى فيه أن الحجة هنا تمت من حيث الظاهر
حتى لو قضى القاضي بشهادتهما قبل أن تظهر
عدالتهما نفذ قضاؤه فتثبت به الحيلولة احتياطا
بخلاف ما إذا أقام شاهدا واحدا فإذا شهد شاهد
أنه أعتق عبدا له وشهد آخر أنه وهبه لنفسه
فهذا باطل لأنهما اختلفا في المشهود به لفظا
فإن الهبة غير العتق وضعا لأن الهبة تمليك
والإعتاق إحداث القوة أو إبطال الملك.
واختلافهما في المشهود به لفظا يمنع قبول
الشهادة
وإن شهدا جميعا أنه وهب عبده لنفسه فالعبد حر
لأنه ملكه نفسه ومن ملك نفسه يعتق كالمراغم
وقد يجوز أن تكون الهبة إعتاقا كما لو شهدوا
أنه وهبه من قريبه وسلمه إليه فإنه يقضي بعتقه
وقد بينا فيما سبق أنه إذا قال لم أنو به
العتق لا يصدق في القضاء وإذا قال له أنت حر
إن فعلت كذا وذلك من الأمور الظاهرة كالصوم
والصلاة ودخول الدار ونحوه فقال العبد قد فعلت
لا يصدق إلا أن يقيم البينة، أو يقر المولى
لأن العتق المعلق بالشرط إنما يتنجز عند وجود
الشرط فالعبد بدعواه وجود الشرط يدعي تنجيز
العتق فيه وهو غير مصدق في ذلك إلا بحجة بخلاف
قوله إن كنت تحبني أو تبغضني لأن ذلك لا يوقف
عليه إلا من جهته فوجب قبول قوله في ذلك ما
دام في مجلسه فإن قيل: فالصوم كذلك لأنه بينه
وبين ربه لا يقف عليه غيره .
قلنا: لا كذلك فإن ركن الصوم هو الكف وذلك
أمر ظاهر يقف عليه الناس بوقوفهم على ضده وهو
الأكل ولو قال لرجل أعتق أي عبيدي شئت فأعتقهم
جميعا لم يعتق منهم إلا واحد والأمر في بيانه
إلى المولى بخلاف ما لو قال أيكم شاء العتق
فهو حر فشاؤوا جميعا عتقوا لأن كلمة أي فيها
معنى العموم والخصوص من حيث أنها تتناول كل
واحد من المخاطبين على الانفراد فإذا أضاف
المشيئة بها إلى خاص ترجح جانب الخصوص فلا
يتناول إلا واحدا منهم وإذا أضاف المشيئة بها
إلى عام يترجح جانب العموم ولأن هذه الكلمة
إنما توجب التعميم فيمن دخل تحتها دون من لم
يدخل والداخل تحت هذه الكلمة العبيد دون
المخاطب بالمشيئة وإذا قال شئت فلا يكون شرط
العتق إلا مشيئة واحدة. وبالمشيئة الواحدة منه
لا يعتق إلا عبد واحد فأما في قوله شاء إنما
أضاف المشيئة إلى العبيد وكلمة أي اقتضت
التعميم في العبيد فصارت مشيئة كل واحد منهم
شرطا لعتقه فلهذا عتقوا ثم البيان إلى المولى
دون المخاطب بالمشيئة لأن ما فوض إليه قد
انتهى بوجود المشيئة منه بقي العتق واقعا على
أحدهم بغير عينه بإيقاع المولى فالبيان إليه
ولو قال أيكم دخل الدار فهو حر فدخلوا عتقوا
لأن الشرط دخول من دخل تحت كلمة أي وكذلك لو
قال أيكم بشرني بكذا فهو حر فبشروه معا عتقوا
لأن الشرط وجود البشارة ممن دخل تحت كلمة أي
فيتعمم بتعميمه وإن
ج / 7 ص -89-
قال
عنيت واحدا منهم لم يدين في القضاء وهو مدين
فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوي التخصيص
في اللفظ العام وإن بشره واحد بعد واحد فالأول
هو البشير ولا يعتق غيره وقد بينا هذا في كتاب
الطلاق أن البشارة اسم لخبر سار صدق غاب عن
المخبر علمه وإذا قال لآخر أخبر عبدي بعتقه أو
أنه حر أو بشره بعتقه فهو حر ساعة تكلم به
المولى أخبر العبد به أو لم يخبر لأن الباء
للإلصاق وإنما يتحقق إلصاق الأخبار بعتق موجود
منه لا معدوم ولأنه لو أخبره بنفسه بأن قال
أنت حر تضمن ذلك تنجيز العتق من جهته حتى يكون
خبره حقا فكذلك إن أمر غيره حتى يخبره به
ويصير كأنه قال أعتقته فبشره بذلك أو أخبره
فيعتق سواء أخبره أو لم يخبره
وإذا قال لعبد له يا سالم أنت حر وهو يعني
انسانا بين يديه غير سالم فإن سالم حر لأنه
أتبع الإيقاع النداء فإنما يتناول المنادي
وإذا قال أول عبد يدخل علي من عبيدي فهو حر
فأدخل عليه عبد ميت ثم أدخل عليه عبد حي فإنه
يعتق الحي.
قال لأنه هو الأول ولا يحتسب بالميت ولا يكون
الميت أولا وآخرا ومعنى هذا أن الإدخال عليه
للإكرام أو الإهانة ولا يتحقق ذلك في الميت
فيصير الحياة ثابتا بمقتضى كلامه وكأنه قال
أول عبد حي من عبيدي ولأنه جازاه بالحرية
وإنما يجازي به الحي دون الميت لأن الميت ليس
بمحل لإيجاب العتق فيه والثابت بمقتضى الكلام
كالثابت بالنص وإن أدخل عليه عبدان حيان جميعا
معا لم يعتق واحد منهما لأن الأول اسم لفرد
سابق لا يشاركه فيه غيره ولم يتصف واحد منهما
بالفردية عند الإدخال عليه فإن أدخل بعدهما
عبد آخر لم يعتق لأنه وإن اتصف بالفردية فلم
يتصف بالسبق فقد تقدمه عبدان ولو قال أول عبد
أملكه فهو حر فملك عبدين معا لم يعتق واحد
منهما لأنه لم يتصف واحد منهما بالفردية عند
دخوله في ملكه وإن ملك بعدهما آخر لم يعتق
أيضا لأنه لم يتصف بالسبق ولو قال آخر عبد
أملكه فهو حر فملك عبدين ثم عبدا ثم مات
المولى عتق الثالث لأن الآخر اسم لفرد متأخر
وقد اتصف به الثالث حين لم يملك غيره حتى مات.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يعتق من
جميع المال إذا كان تملكه في الصحة لأن صفة
الآخرية ثابت له من حين تملكه فيتبين أنه عتق
من ذلك الوقت وعندهما يعتق من الثلث لأن نزول
العتق عندهما وقت الموت لتحقق الشرط فيه في
هذه الحالة وقد بينا هذا في الطلاق ولو قال
آخر عبد أملكه فهو حر فاشترى عبدا ثم لم يملك
غيره حتى مات لم يعتق لأن هذا أول وصفة
الأولية والآخرية لا يجتمع في شخص واحد من
المخلوقين وإن اشترى عبدين بعده ثم مات لم
يعتق واحد منهم لأن الأول ما اتصف بالآخرية
ليكون آخرا. والعبدان لم يتصف واحد منهما
بالفردية فلا يكون واحد منهما آخرا ولو قال
لأمة لم يملكها أنت حرة من مالي فهذا باطل لأن
تنجيز العتق لا يصح إلا بعد وجود الملك في
المحل ولم يوجد بخلاف قوله إذا ملكتك لأن بذلك
اللفظ لا يصير مضيفا للعتق إلى الملك ولا إلى
سببه وهو فضل من الكلام لأن العتق من جهته لا
يكون إلا من ماله فلا يخرج
ج / 7 ص -90-
به
كلامه من أن يكون تنجيزا ولو قال إذا اشتريتك
فأنت حرة أو إن جامعتك فأنت حرة فاشتراها
وتسراها أو جامعها لم تعتق إلا على قول زفر
فإنه يقول التسري والجماع لا يحل إلا في الملك
فكان هذا في معنى إضافة العتق إلى الملك
بمنزلة قوله إن اشتريتك.
ولكنا نقول الجماع يتحقق في غير الملك فكذلك
التسري فإنه عبارة عن التحصين والمنع من
الخروج وهو ليس بسبب للملك فلا يتحقق به إضافة
العتق إلى الملك صورة ولا معنى فهو بمنزلة
قوله إذا كلمتك فأنت حرة بخلاف الشراء فإنه
سبب للملك وكذلك لو قال كل جارية أتسرى بها
فهي حرة فاشترى جارية بعد يمينه وتسراها لم
تعتق ولو تسرى جارية كانت مملوكة له وقت يمينه
عتقت لأن الإيجاب في حقها يصح لوجود الملك في
المحل وقت الإيجاب بمنزلة قوله كل جارية
أملكها فهي حرة ثم تسري. فالشرط عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى أن يبوئها بيتا
ويحصنها ويجامعها وطلب الولد ليس بشرط.
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يكون
تسريا إلا بطلب الولد مع هذا للعادة الظاهرة
أن الناس يطلبون الأولاد من السراري وفي
الأيمان يعتبر العرف وهما يقولان ليس في لفظه
ما يدل على طلب الولد لأن التسري إما أن يكون
مأخوذا من التسرر كالتقضي وذلك الاخفاء أو
يكون مأخوذا من السرار ومعناه التحصين والمنع
من الخروج أو يكون مأخوذا من السر الذي هو
الجماع كما قال تعالى:
{وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً}[البقرة: من الآية235] فإذا لم يكن فيها ما ينبئ عن طلب الولد لا
يشترط فيه ذلك من غير لفظ وكيف يشترط ذلك
وبحصول الولد تخرج من أن تكون سرية لأنها تصير
أم ولد له فطلبه يخرجه حقيقة من أن تكون سرية
فلا يمكن أن يجعل شرطا لتحقيق التسري ولو
وطىءجارية فعلقت منه لم تعتق لأن التسري
بالتحصين والمنع من الخروج ولم يوجد وإن قال
لعبديه أيكما أكل هذا الرغيف فهو حر فأكلاه
جميعا لم يعتق واحد منهما لأن الشرط أكل
الواحد لجميع الرغيف ولم يوجد وإن أقام أحدهما
البينة أنه أكله فأعتقه القاضي ثم أقام الآخر
البينة أنه هو الذي أكله لم يعتقه القاضي لأنه
جعل الأول آكلا فلا يتصور بعده كون الثاني
آكلا له إذ الرغيف الواحد لا يتكرر فيه فعل
الأكل وهذه البينة إنما تقوم لأبطال القضاء
الأول والبينة لإبطال القضاء لا تقبل.
توضيحه إنا نتيقن بكذب أحد الفريقين وقد ترجح
معنى الصدق في شهادة الفريق الأول بالقضاء
فتعين معنى الكذب في شهادة الفريق الثاني وإن
جاءت البينتان معا لم يعتق واحد منهما لأن
القاضي يتيقن بكذب أحد الفريقين ولا يعرف
الصادق من الكاذب وإذا كانت تهمة الكذب تمنع
القضاء بالشهادة فالتيقن بالكذب أولى.
وعلى هذا لو شهد شاهدان أنه أعتق عبده سالما
يوم النحر بمكة فأعتقه القاضي ثم شهد آخران
أنه أعتق سريعا يوم النحر بالكوفة لم تجز
شهادتهما وإن جاءت البينتان معا لم تقبل واحدة
منهما وهذا والأول سواء وإن ردهما ثم ماتت
إحدى البينتين فأعاد الآخر بينته تلك
ج / 7 ص -91-
لم
يقبل القاضي شهادتهم لأنه قد ردها للتهمة فلا
يقبلها أبدا كما لو رد شهادة الفاسق ثم تاب
فأعادها وإن لم تمت واحدة من البينتين حتى جاء
أحد الغلامين بشاهدين آخرين يشهدان على ما
شهدت به البينة الأولى وجاء الآخر بشهوده
الذين كانوا شهدوا فإن القاضي يجيز شهادة
الآخرين اللذين لم يكونا شهدا عنده لأن شهادة
الفريقين الأولين قد بطلت للتعارض وصارت
كالمعدومة وإنما بقى شهادة الفريق الثاني
لأحدهما ولا معارض له فثبت المشهود به
بشهادتهما ولا يعتبر بما أعاده العبد الثاني
لأن تلك شهادة حكم ببطلانها وكما لا تقوم حجة
القضاء بمثل هذه الشهادة فكذلك المعارضة لا
تثبت بها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
وإليه المرجع والمآب.
باب عتق العبد بين الشركاء
أكثر مسائل هذا الباب
تنبني على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإن
العتق عنده يتجزي حتى إن من أعتق نصف عبده فهو
بالخيار في النصف الباقي إن شاء أعتقه وإن شاء
استسعاه في النصف الباقي في نصف قيمته وما لم
يؤد السعاية فهو كالمكاتب.
وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله
تعالى يعتق كله ولا سعاية عليه لقوله عليه
الصلاة والسلام: "من أعتق
شقصا من عبده فهو حر كله ليس لله فيه شريك".
وفي الكتاب ذكر هذا اللفظ عن عمر أيضا رضي
الله عنه والمعنى فيه أن العتق اسقاط للرق
والرق لا يتجزى ابتداء وبقاء فإسقاطه بالعتق
لا يتجزى أيضا كما أن الحل لما كان لا يتجزى
ابتداء وبقاء فإبطاله بالطلاق لا يتجزى وبيانه
أن فعله إعتاق فلا يتحقق إلا بانفعال العتق في
المحل وبعد انفعال العتق في بعض الشخص لو بقي
الرق في شيء منه كان في ذلك تجزى الرق في محل
واحد وذلك لا يجوز فإن الذي ينبني على العتق
من الأحكام يضاد أحكام الرق من تكميل الحدود
والأهلية للشهادات والإرث والولايات ولا يتصور
اجتماع الضدين في محل واحد ولأن اتصال أحد
النصفين بالآخر أقوى من اتصال الجنين بالأم
لأن ذلك بعرض الفصل ثم إعتاق الأم يوجب عتق
الجنين لا محالة فإعتاق أحد النصفين لأن يوجب
عتق النصف الآخر أولى ولأن الاستيلاد يوجب حق
العتق وهو لا يحتمل الوصف بالتجزي في محل واحد
فحقيقة العتق أولى.
واستدل أبو حنيفة رحمه الله تعالى بحديث سالم
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:
"من أعتق شقصا له في عبد فإن كان موسرا فعليه خلاصه وإلا فقد عتق ما
عتق ورق ما رق"
وقال علي رضي الله عنه يعتق الرجل من عبده ما
شاء وتأويل قوله صلى الله عليه وسلم
"فهو حر"
كله سيصير حرا كله بإخراج الباقي إلى الحرية
بالسعاية فيكون فيه بيانا أنه لا يستدام الرق
فيما بقي منه وهو مذهبنا ولأن هذا إزالة ملك
اليمين فيتجزأ في المحل كالبيع وتأثيره أن
نفوذ تصرف المالك باعتبار ملكه وهو مالك
للمالية دون الرق. فالرق اسم لضعف ثابت في أهل
الحرب مجازاة وعقوبة على كفرهم، وهو لا يحتمل
التملك كالحياة إلا أن بقاء
ج / 7 ص -92-
ملكه
لا يكون إلا ببقاء صفة الرق في المحل كما لا
يكون حيا إلا باعتبار صفة الحياة في المحل
فذلك لا يدل على أن الحياة مملوكة له فإذا ثبت
أنه يملك المالية وملك المالية يحتمل التجزي
فإنما يزول بقدر ما يزيله ولهذا لا يعتق شيء
منه بإعتاق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى حتى كان معتق البعض كالمكاتب إلا في حكم
واحد وهو أن المكاتب إذا عجز يرد في الرق لأن
السبب هناك عقد محتمل للفسخ. وهذا إذا عجز عن
السعاية لا يرد في الرق لأن سببه إزالة ملك لا
إلى أحد وهو لا يحتمل الفسخ وإنما يسمى فعله
إعتاقا مجازا على معنى أنه إذا تم إزالة الملك
بطريق الإسقاط يعقبه العتق الذي هو عبارة عن
القوة لا أن يكون الفعل المزيل ملاقيا للرق
كالقاتل فعله لا يحل الروح وإنما يحل البنية
ثم بنقض البنية تزهق الروح فيكون فعله قتلا من
هذا الوجه ولئن كان فعله إعتاقا فالعتق الذي
ينبني على الأعتاق لا يتجزى والإعتاق في نفسه
متجز حتى يتصور من جماعة في محل واحد فالعتق
للبعض إنما يوجد شطر العلة فيتوقف عتق المحل
إلى تكميله وهو نظير إباحة أداء الصلاة تنبني
على غسل أعضاء هي متجزئة في نفسها حتى يكون
غسل بعض الأعضاء مطهرا ثم يتوقف إباحة أداء
الصلاة على إكمال العدد وحرمة المحل لا تتجزى
وإن كان ينبني على طلقات هي متجزئة حتى كان
الموقع للتطليقة والتطليقتين مطلقا ويتوقف
ثبوت الحرمة على كمال العدد فهنا أيضا نزول
العتق في المحل يتوقف على تمام العلة بإعتاق
ما بقي وإن كان معتق البعض معتقا لأن الأعتاق
يقتضي انفعال العتق كما قال ولكن لا يقتضي
الاتصال بالإعتاق بل يثبت استحقاق الإعتاق
ويتأخر ثبوته في المحل إلى إكمال العلة فأما
الاسترقاق فقد قيل يحتمل الوصف بالتجزي حتى لو
فتح الإمام بلدة ورأى الصواب في أن يسترق
أنصافهم صح ذلك منه والأصح أنه لا يتجزى لأن
سببه وهو القهر لا يتجزى إذ لا يتصور قهر نصف
الشخص دون النصف والحكم ينبني على السبب وكذلك
الاستيلاد سببه لا يتجزى وهو نسب الولد فأما
عتق الجنين عند إعتاق الأم ليس لأجل الاتصال
ألا ترى أن إعتاق الجنين لا يوجب إعتاق الأم
والاتصال موجود ولكن الجنين في حكم جزء من
أجزائها كيدها ورجلها وثبوت الحكم في التبع
ثبوته في المتبوع وأحد النصفين ليس بتبع للنصف
الباقي فلهذا لم يكن إعتاق أحد النصفين موجبا
للعتق في النصف الباقي فإن كان العبد بين
رجلين فأعتق أحدهما نصيبه جاز ثم إن كان
المعتق موسرا فللساكت ثلاث خيارات في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى إن شاء أعتق نصيبه وإن
شاء استسعى العبد في قيمة نصيبه فإذا أدى
السعاية إليه عتق والولاء بينهما وإن شاء ضمن
المعتق نصف قيمته ثم يرجع المعتق على العبد
والولاء كله له وإن كان المعتق معسرا فللساكت
خياران إن شاء أعتق وإن شاء استسعى وليس له حق
تضمين الشريك إلا على قول بشر المريسي.
والقياس فيه أحد الشيئين إما وجوب الضمان على
المعتق موسرا كان أو معسرا لأنه بإعتاق نصيبه
يفسد على الشريك نصيبه فإنه يتعذر عليه
استدامة ملكه والتصرف في نصيبه
ج / 7 ص -93-
وضمان
الإفساد لا يختلف باليسار والعسرة أو القياس
أن لا يجب على المعتق ضمان بحال لأنه متصرف في
نصيب نفسه والمتصرف في ملكه لا يكون متعديا
ولا يلزمه الضمان وإن تعدى ضرر تصرفه إلى ملك
غيره كمن سقى أرضه فنزت أرض جاره أو أحرق
الحصائد في أرضه فاحترق شيء من ملك جاره.
ولكنا تركنا القياسين للآثار فمنه ما روي عن
نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل
يعتق نصيبه في المملوك: "إن كان غنيا
ضمن وإن كان فقيرا يسعى في حصة الآخر".
وهكذا روى عروة عن عائشة وعمر بن شهيب عن أبيه
عن ابن مسعود رضوان الله عليهم أن رجلين من
جهينة كان بينهما عبد فأعتقه أحدهما فرفع ذلك
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمنه
نصيب صاحبه وحبسه حتى باع غنيمة له في ذلك
وذكر الحسن عن عمر رضي الله عنه في العبد بين
اثنين يعتقه أحدهما أنه يضمن نصيب صاحبه إن
كان غنيا وإن كان فقيرا يسعى العبد في النصف
لصاحبه.
وعن إبراهيم عن الأسود بن يزيد أنه أعتق عبدا
له ولأخوة له صغار فذكر ذلك لعمر رضي الله عنه
فقال يستأني بالصغار حتى يدركوا فإن شاؤوا
أعتقوا وإن شاؤوا أخذوا القيمة فلهذه الآثار
قلنا بوجوب الضمان في حالة اليسار دون العسرة
ولكن المعتبر يسار اليسر لا يسار الغنى حتى
إذا كان له من المال قدر قيمة المملوك فهو
ضامن وإن كانت تحل له الصدقة هكذا ذكره في
حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
"قوم عليه نصيب شريكه إن كان له من المال ما
يبلغ ذلك" ولأنه قصد التقرب والصلة بإعتاق نصيبه وتمام ذلك بعتق ما بقي فإذا
كان متمكنا من إتمامه بملكه مقدار ما يؤديه
إلى شريكه كان عليه ذلك ولأن اختلاف هذا
الضمان باليسار والإعسار لتحقيق معنى النظر
للشريك فإنه إذا استسعى العبد يتأخر وصول حقه
إليه وإذا ضمن شريكه يتوصل إلى مالية نصيبه في
الحال وإنما يكون هذا إذا كان موسرا له من
المال ما يبلغ قيمة نصيب شريكه.
ثم على قول أبي يوسف ومحمد لا خيار للساكت
وإنما له تضمين الشريك إن كان موسرا واستسعاء
العبد إن كان معسرا أخذا بظاهر الحديث وبناء
على أصلهما أن العتق لا يتجزى ولهذا كان
الولاء عندهما كله للمعتق في الوجهين جميعا
وهو قول ابن أبي ليلى إلا في حرف واحد يقول
إذا سعى العبد رجع به على المعتق إذا أيسر
لأنه هو الذي ألزمه ذلك بفعله وقاس بالعبد
المرهون إذا أعتقه الراهن وهو معسر فسعى العبد
في الدين رجع به على الراهن إذا أيسر.
ولكنا نقول إذا كانت عسرة المعتق تمنع وجوب
الضمان عليه للساكت فكذلك يمنع وجوب الضمان
عليه للعبد وإنما يسعى العبد في بدل رقبته
وماليته وقد سلم له ذلك فلا يرجع به على أحد
بخلاف المرهون فإنه ليس في بدل رقبته بل في
الدين الذي هو ثابت في ذمة الراهن ومن كان
مجبرا على قضاء دين في ذمة الغير من غير
التزام من جهته يثبت له حق الرجوع به عليه.
ج / 7 ص -94-
فأما
عند الشافعي رحمه الله تعالى إن كان المعتق
موسرا يعتق كله وهو ضامن لنصيب شريكه وإن كان
معسرا فللشريك أن يستديم الرق في نصيبه ويتصرف
فيه بما شاء وقال لا أعرف السعاية على العبد
ووجه قوله أن عسرة العبد أظهر من عسرة المعتق
لأنه ليس من أهل ملك المال فإذا لم يجب الضمان
على المعتق لعسرته فكذلك لا يجب على العبد بل
أولى لأن المعتق معسر جان والعبد معسر غير جان
وهذا لو لزمه السعاية إنما تلزمه في بدل رقبته
وليس للمولى ولاية إلزامه المال بدلا عن رقبته
في ذمته كما لو كاتبه بغير رضاه فلأن لا يكون
ذلك لغير المالك أولى.
"وحجتنا" في ذلك حديث بشر بن نهيك عن أبي
هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال
"من أعتق شقصا من عبد بينه وبين غيره قوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا
قيمة عدل وإلا يستسعى العبد في نصيبه غير
مستغرق عليه". والمعنى فيه أن نصيب الشريك مال متقوم وقد احتبس عند العبد لما
قلنا أن بعد إعتاق البعض يمتنع استدامة الملك
فيما بقي لوجوب تكميل العتق.
والدليل عليه حالة اليسار فإن حكم المحل لا
يختلف بيسار المعتق وعسرته ومن احتبس ملك
الغير عنده يكون ضامنا له موسرا كان أو معسرا
وجد منه الصنع أو لم يوجد كما لو هبت الريح
بثوب إنسان وألقته في صبغ إنسان فانصبغ كان
لصاحب الصبغ أن يرجع عليه بقيمة صبغه إذا
اختار صاحب الثوب إمساك الثوب وكذلك إذا
استولد أحد الشريكين الجارية المشتركة يضمن
نصيب شريكه موسرا كان أو معسرا لاحتباس نصيب
الشريك عنده فكذلك هنا يجب على العبد السعاية
في نصيب الشريك وإن كان معسرا لاحتباس نصيب
الشريك عنده وهذا بخلاف بدل الكتابة لأن وجوبه
بعقد التراضي ووجوب السعاية من طريق الحكم
للاحتباس وذلك متقرر وإن لم يرض به العبد.
فأما بيان مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى
فنقول عنده العتق يتجزى فإنما عتق نصيب المعتق
فقط وبقي نصيب الآخر على ملكه فله أن يعتقه
كما كان له أن يعتقه قبل ذلك فإذا أعتقه كان
الولاء بينهما كما لو أعتقاه معا وله أن
يستسعي العبد في نصيبه لأن نصيبه احتبس عند
العبد حين تعذر استدامة الملك فيه وإذا
استسعاه فأدى السعاية عتق والولاء بينهما لأن
نصيبه عتق من جهته وله أن يضمن شريكه إن كان
موسرا لأنه مفسد عليه نصيبه لما تعذر عليه
استدامة الملك بإعتاق نصيبه ثم بالتضمين يصير
مملكا نصيبه من شريكه فيلتحق بما لو كان العبد
كله له فأعتق نصفه حتى يتخير في النصف الباقي
بين أن يعتقه وأن يستسعيه ولأنه بالتضمين يقيم
المعتق في نصيبه مقام نفسه وقد كان له الخيار
بين أن يعتقه أو يستسعيه فيثبت ذلك للمعتق بعد
أداء الضمان.
فلهذا قال: يرجع على العبد بما ضمن والولاء
كله له لأنه عتق من جهته وإن أعتق أحدهما نصيب
شريكه منه لم يعتق لأن ملك الغير ليس بمحل
للعتق في حقه والسراية عندهما
ج / 7 ص -95-
إنما
تكون بعد مصادفة العتق محله وإذا لم يصادف
محله كان لغوا ولو دبر أحدهما نصيبه وهو موسر.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى التدبير
يتجزى لأن موجبه حق الحرية فيكون معتبرا
بحقيقة الحرية فيبقى بعد تدبير المدبر نصيب
الآخر على ملكه فينفذ عتقه فيه وللمدبر الخيار
إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء ضمن المعتق قيمة
نصيبه مدبرا وإن شاء استسعى العبد في ذلك لأنه
تمكن نقصان في نصيبه بالتدبير لأنه وإن امتنع
البيع ولكنه كان متمكنا من استدامة الملك إلى
موته وإنما تعذر عليه ذلك بإعتاق الشريك
فيضمنه إن كان موسرا وإنما يضمنه مدبرا لأنه
أفسده وهو منقوص بنقصان التدبير ولم يرجع
المعتق على العبد بما ضمن بإعتبار أنه يقوم
مقام من ضمنه وقد كان للمدبر أن يستسعي العبد
في قيمة نصيبه مدبرا وأي ذلك فعل فالولاء
بينهما هنا لأنه بالتدبير استحق ولاء نصيبه
فلا يبطل ذلك وإن ضمن شريكه بخلاف القن.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى حين
دبره الأول صار الكل مدبرا له لأن التدبير
عندهما لا يتجزى كالعتق ويضمن قيمة نصيب شريكه
موسرا كان أو معسرا لأنه صار متملكا على شريكه
نصيبه وضمان التملك لا يختلف باليسار والإعسار
ثم إعتاق الثاني باطل لأنه أعتق ما لا يملكه
وإن كان العبد بين ثلاثة نفر فدبره أحدهم ثم
أعتقه الثاني وهما موسران.
فجواب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في
هذا والأول سواء لأنه حين دبره أحدهم صار الكل
مدبرا له وهو ضامن ثلثي قيمته لشريكيه موسرا
كان أو معسرا وإن كان العبد بين ثلاثة دبره
أحدهم وأعتقه الآخر فالإعتاق من الثاني بعد
ذلك لغو.
وأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تدبير
المدبر يقتصر على نصيبه والإعتاق من الثاني
صحيح لمصادفته المحل ثم للساكت أن يضمن المدبر
ثلث قيمته إن كان موسرا وليس له أن يضمن
المعتق لأن بالتدبير السابق صار نصيبه بحيث لا
يحتمل النقل إلا إلى المدبر بالضمان فلو أثبت
له حق تضمين المعتق انتقل نصيبه إلى المعتق
بالضمان وذلك ممتنع بالتدبير السابق فلهذا
يضمن المدبر دون المعتق وإن شاء استسعى العبد
في ثلث قيمته، وإن شاء أعتقه وإذا ضمن المدبر
فللمدبر أن يرجع بذلك على العبد فيسعى له فيه
وللمدبر أيضا أن يضمن الذي أعتق ثلث قيمته
مدبرا لأنه تعذر عليه استدامة الملك في نصيبه
بإعتاق المعتق فكان له أن يضمنه ثلث قيمته
مدبرا وليس له أن يضمن المعتق ما أدى إلى
الساكت من قيمة نصيبه لأن الساكت لم يكن
متمكنا من تضمين المعتق فكذلك من يقوم مقامه
ولأن صنعه وهو الإعتاق وجد قبل أن يتملك
المدبر نصيب الساكت فلهذا لا يضمنه قيمة هذا
الثلث ويكون الولاء بين المدبر والمعتق أثلاثا
ثلثاه للمدبر وثلثه للمعتق. وإذا كان العبد
بين اثنين، فشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه
أعتقه وصاحبه منكر ذلك فالعبد يسعى في جميع
قيمته بينهما نصفين موسرين أو معسرين أو كان
أحدهما موسرا والآخر معسرا في قول أبي حنيفة،
والولاء
ج / 7 ص -96-
بينهما
نصفان فأما فساد رق العبد فلاتفاقهما على ذلك
وهما يملكانه بطريق الإنشاء ثم يسار المعتق
عنده لا يمنع وجوب السعاية على العبد فكل واحد
منهما بشهادته على شريكه يدعي السعاية لنفسه
في قيمة نصيبه على العبد ويدعي الضمان على
شريكه إلا أن الضمان لم يثبت لإنكار الشريك
فتبقى السعاية لكل واحد منهما على العبد وعند
الأداء يعتق نصيب كل واحد منهما من جهته فكان
الولاء بينهما.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمه الله إن كانا
موسرين فهو حر ولا سعاية عليه لأنهما تصادقا
على حريته وكل واحد منهما يتبرأ من جهة
السعاية ويدعى الضمان على شريكه لأن يسار
المعتق عندهما يمنع وجوب السعاية عليه وما
ادعى كل واحد منهما من الضمان على شريكه لم
يثبت لإنكار شريكه
وإن كانا معسرين يسعى العبد في قيمته بينهما
لأن كل واحد منهما يدعي السعاية هنا فإنه يقول
شريكي معتق وهو معسر وإن كان أحدهما موسرا
والآخر معسرا يسعى للموسر منهما في نصف قيمته
ولم يسع للمعسر في شيء لأن الموسر يدعي
السعاية فإنه يقول شريكي معتق وهو معسر وإن
كان أحدهما موسرا والآخر معسرا يسعى للموسر
منهما في نصف قيمته ولم يسع للمعسر في شيء لأن
الموسر يدعي السعاية فإنه يقول شريكي معتق وهو
معسر فلى استسعاء العبد في قيمة نصيبي وأما
المعسر يتبرى من السعاية ويقول شريكي معتق وهو
موسر فحقي في الضمان قبله فلا يكون له أن
يستسعى العبد بالتبري منه ولا يجب الضمان له
على شريكه بجحوده والولاء في جميع ذلك موقوف
عندهما لأن كل واحد منهما ينفي الولاء عن نفسه
فإن الولاء للمعتق وكل واحد منهما يزعم أن
صاحبه هو المعتق فلهذا توقف الولاء وإذا أعتق
أحد الشريكين العبد واختار الآخر تضمينه
فإختلفا في قيمته يوم أعتقه فإن كان العبد
قائما نظر إلى قيمته يوم ظهر العتق حتى إذا لم
يتصادقا على العتق فيما مضى يقوم للحال لأن
العتق حادث فيحال بحدوثه على أقرب أوقات ظهوره
ووجوب الضمان بالإفساد أو الإتلاف فيكون
المعتبر قيمته وقت تقرر السبب وذلك عند ظهور
العتق فلهذا يقوم في الحال وكذلك إن أراد أن
يستسعي العبد ألا ترى أن له أن يعتق نصيبه
الساعة فكذلك له أن يستسعي العبد في قيمة
نصيبه الساعة ولو تصادقا أنه أعتقه قبل هذا
كان عليه نصف القيمة يوم أعتقه حتى إذا انتقصت
قيمته بزيادة السن فإنه لا تعتبر الزيادة
والنقصان لأن السبب الموجب للضمان على الشريك
هو العتق فينظر إلى قيمته عند ذلك كما في
المغصوب تعتبر قيمته يوم الغصب وإن اختلفا في
قيمته في ذلك الوقت فالقول قول المعتق لأن
القيمة عليه فكان القول قوله في مقداره كما في
المغصوب.
وهذا لأن الشريك يدعي عليه الزيادة وهو منكر
وهذا بخلاف الشفعة فإن المشتري لو أحرق البناء
كان للشفيع أن يأخذ العرصة بحصتها من الثمن في
قسمة الثمن وينظر إلى قيمة الأرض في الحال
ويكون القول في قيمة البناء قول المشتري لأن
الشفيع هناك يتملك على المشتري العرصة فهو
يدعي لنفسه على المشتري حق التملك بأقل
المالين والمشتري ينكر ذلك وهنا الساكت يملك
المعتق نصيبه بالضمان فهو يدعي عليه حق
التمليك فيه بأكثر المالين والمعتق منكر لذلك
فإن مات الذي لم يعتق قبل أن يختار شيئا كان
لورثته من الخيار ما كان له
ج / 7 ص -97-
لأنهم
قائمون مقامه بعد موته وليس في هذا توريث
الخيار بل المعنى الذي لأجله كان الخيار ثابتا
للمورث موجود في حق الورثة فإن شاؤوا أعتقوا
وإن شاؤوا استسعوا العبد وإن شاؤوا ضمنوا
المعتق فإن ضمنوه فالولاء كله للمعتق لأنه
بأداء الضمان إليهم يتملك نصيبهم كما كان
يتملك بالأداء إلى المورث، وإن اختاروا
الإعتاق أو الاستسعاء فالولاء في هذا النصيب
للذكور من أولاد الميت دون الإناث لأن معتق
البعض صار بمنزلة المكاتب والمكاتب لا تورث
عينه وإن كان يورث ما عليه من المال فإنما عتق
نصيب الساكت على ملكه والولاء يكون له فيخلفه
في ذلك الذكور من أولاده دون الإناث إذ الولاء
لا يورث وإن اختار بعضهم السعاية وبعضهم
الضمان فلكل واحد منهم ما اختار من ذلك لأن كل
واحد منهم فيما ناله قام مقام الميت.
وهذا لأن الملك بالإرث يثبت حكما فيكون بمنزلة
الملك بالضمان فكما أن نصيب الساكت يحتمل
التمليك بالضمان من المعتق فكذلك يحتمل
الانتقال إلى الورثة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنه ليس لهم ذلك إلا أن يجتمعوا على التضمين
أو الاستسعاء وهذا هو الأصح لأنه صار بمنزلة
المكاتب والمكاتب لا يملك بالإرث فكذلك هم لا
يملكون نصيب الساكت بعد موته.
والدليل عليه فصل الولاء الذي تقدم أنه لا
يثبت لهم بالإعتاق ابتداء ولكنهم خلف المورث
يقومون مقامه وليس للمورث أن يختار التضمين في
البعض والسعاية في البعض فكذلك لا يكون للورثة
ذلك
وفرع على تلك الرواية وقال لو أعتق أحد الورثة
نصيبه لا يعتق ما لم يجتمعوا على إعتاقه
بمنزلة المكاتب يعتقه أحد الورثة بعد موت
المورث لا يعتق ولا يسقط به شيء من بدل
الكتابة فهذا كذلك ولو لم يمت الساكت ولكن
العبد مات قبل أن يختار الشريك شيئا فله أن
يضمن المعتق قيمة نصيبه إن كان موسرا
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنه ليس له أن يضمنه قيمة نصيبه بعد موت العبد
ووجهه أن نصيبه باق على ملكه والضمان غير
متقرر على الشريك ما لم يختر ضمانه فإذا هلك
على ملكه فليس له أن يقرر الضمان على شريكه
باختياره بعد ذلك وهذا لأن صحة اختيار التضمين
متعلق بشرط وهو أن يملك نصيبه منه بالضمان وقد
فات هذا الشرط بموته لأن الميت لا يحتمل
التمليك.
وجه ظاهر الرواية أن وجوب الضمان عليه
بالإعتاق لأن السبب وهو الإفساد قد تحقق به
فكان ذلك بمنزلة الغصب وموت العبد بعد الغصب
لا يمنع المغصوب منه من تضمين الغاصب وإن كان
التمليك منه من حكم ذلك الزمان فكذلك هنا وهذا
لأنه لما كان يضمنه من وقت العتق وكان محلا
للتمليك عند ذلك فذلك الحكم لا يبطل بموته وإن
خرج به من أن يكون محتملا للتمليك في الحال
فإذا ضمن المعتق رجع بما ضمن في تركة الغلام
لأن في حال حياته كان له أن يستسعيه فيما ضمن
فإذا مات كان له أن يرجع به في تركته وإن كان
معسرا رجع الشريك بقيمة نصيبه في تركة الغلام
لأن السعاية له عليه مستحقة كبدل الكتابة
فيستوفيه من تركته بعد موته وإن كان العبد ترك
مالا قد اكتسب بعضه قبل العتق، وبعضه بعد
ج / 7 ص -98-
العتق
فما اكتسب قبل العتق بين الموليين نصفان لأنه
كان على ملكهما حين اكتسب هذا المال والكسب
لمالك الأصل وما اكتسب بعد العتق فهو تركة
العبد لأنه اكتسبه فيكون ذلك له يرجع فيه
الساكت أو المعتق إذا ضمن وما بقي فهو ميراث
للمعتق لأنه بالضمان ملك نصيب صاحبه فكان
الولاء في الكل له وإن اختلفا فيه فقال أحدهما
هذا مما اكتسبه قبل العتق وهو بيننا وقال
الآخر اكتسب بعده فهو بمنزلة ما اكتسب بعده
لأن الكسب حادث فيحال بحدوثه إلى أقرب الأوقات
ومن ادعى فيه تاريخا سابقا لا يصدق إلا بحجة
وإن اختلفا في قيمته والمعتق موسر فالقول قول
المعتق لأن العبد ميت لا يمكن تقويمه في الحال
ليستدل بذلك على قيمته فيما مضى فيتعين ظاهر
الدعوى والإنكار والساكت يدعي لنفسه زيادة
والمعتق منكر لذلك فإن كان المعتق معسرا ولا
كسب للعبد فنصف القيمة دين للساكت على العبد
إن ظهر له مال يستوفي منه وإن لم يظهر فليس
هذا بأول مدين هلك مفلسا وإن كان العبد حيا
فصالحه الساكت على أقل من نصف قيمته فهو جائز
لأنه استوجب عليه نصف قيمته فهو بالصلح أسقط
بعض حقه واستوفى البعض وذلك يستقيم كما في
الكتابة وإن صالحه على أكثر من نصف قيمته بذهب
أو ورق فالفضل باطل.
أما عندهما فلأن الواجب له نصف القيمة شرعا
فالصلح على أكثر من جنسه يكون ربا وعند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى وإن بقي له الملك في
نصيبه ولكن العبد استحق العتق عند أداء نصف
القيمة شرعا فلا يملك إبطال ذلك الاستحقاق
بالصلح على أكثر منه وكذلك إن صالح المعتق على
أكثر من نصف القيمة فالفضل مردود لأن حقه قبل
العتق يتقدر بنصف القيمة فالصلح على أكثر منه
يكون ربا
ثم هذا على أصلهما ظاهر فإن الصلح على المغصوب
الهالك على أكثر من قيمته لا يجوز عندهما
فكذلك هنا.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يفرق ويقول هناك
المغصوب باق على ملك المغصوب منه ولم يستحق
عليه تمليكه من الغاصب حتى أن له أن يبرئه من
الضمان ليبقى هالكا على ملكه فإذا صالحه على
أكثر من قيمته كان بدل الصلح بمقابلة ملكه
وليس فيه إبطال حق مستحق شرعا فلا يتمكن فيه
الربا وهنا الساكت غير متمكن من استبقاء نصيبه
على ملكه ولكن يستحق عليه إزالته عن ملكه بنصف
القيمة إما سعاية على العبد أو ضمانا يستوفيه
من الشريك فإذا صالح على أكثر منه كان في هذا
الصلح إبطال حق مستحق شرعا.
توضيحه أن المعتق يرجع على العبد بما يضمن فلو
صححنا هذا الصلح رجع على العبد بالزيادة وكما
ليس للساكت أن يلزم العبد أكثر من نصف القيمة
بالصلح فكذلك لا يكون له أن يلزم من يرجع على
العبد وإن صالحه على عروض أكثر من نصف قيمته
فهو جائز لأنه لا يتمكن فيه الربا لاختلاف
الجنس بخلاف ما إذا صالح على الذهب أو الورق
وإنما لا يجوز هناك أيضا إذا كانت الزيادة
بقدر ما لا يتغابن الناس فيه فأما مقدار ما
يتغابن الناس فيه عفو لأن ذلك يدخل تحت تقويم
المقومين فلا يتيقن بالزيادة.
ج / 7 ص -99-
قال
"وإن صالح العبد على شيء من الحيوان إلى أجل
فهو جائز بمنزلة الكتابة".
قال عيسى هذا غلط فإنه استحق السعاية على
العبد وهو نصف القيمة فإذا صالح على حيوان كان
ذلك بدلا عن نصف القيمة المستحق له ولا يثبت
الحيوان دينا في الذمة بدلا عن ما هو مال ألا
ترى أنه لو صالح المعتق على حيوان في الذمة لا
يجوز فكذلك إذا صالح العبد.
وما ذكره في الكتاب أصح لأن نصيب الساكت باق
على ملكه فإذا صالح على حيوان إلى أجل فكأنه
كاتبه عليه وهذا لأنه ليس في هذا الصلح إبطال
حق مستحق للعبد بخلاف ما إذا صالحه على أكثر
من نصف قيمته وبخلاف ما إذا صالح المعتق على
الحيوان لأن هناك يملك نصيبه بما يصح العتق
عليه والحيوان يثبت دينا في الذمة بدلا عن
العتق وإذا أعتقه أحدهما وهو معسر ثم أيسر فلا
ضمان عليه لأن صفة اليسار في العتق تعتبر
لإيجاب الضمان فإذا انعدم وقت الإعتاق تقرر
العتق غير موجب للضمان فلا يصير موجبا بعد ذلك
كمن قطع يد مرتد ثم أسلم ثم مات وإن قال
المعتق أعتقت وأنا معسر وقال الشريك بل أعتقت
وأنت موسر نظر إلى حاله يوم ظهر العتق إما
لأنه كالمنشىءللعتق في الحال أو لأنه لما وقع
الاختلاف فيما مضى يحكم الحال فإذا كان في
الحال موسرا فالظاهر شاهد لمن يدعي اليسار
فيما مضى وإن كان معسرا في الحال فالظاهر شاهد
لمن يدعي العسرة فيما مضى وهو كشرب الرحا مع
المستأجر إذا اختلفا في جريان الماء في المدة
يحكم الحال فإن تصادقا على أن العتق كان سابقا
منه في مدة قد يختلف حاله فيه فالقول قول
المعتق في إنكار يساره ولأنه ينكر المعنى
الموجب للضمان فهو كإنكاره أصل الإعتاق.
قال "وإن كان موسرا يوم أعتقه فاختار الشريك
ضمانه ثم بدا له أن يبرئه ويستسعى الغلام لم
يكن له ذلك" وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما
الله تعالى أنه لو قضى القاضي له بالضمان أو
رضى به المعتق فليس له أن يستسعي الغلام بعد
ذلك وإلا فله ذلك قيل ما ذكره في الكتاب مطلقا
محمولا على ذلك التفصيل وقيل بل المسألة على
روايتين وجه ظاهر الرواية أن المخير بين
الشيئين إذا اختار أحدهما تعين ذلك عليه
كالغاصب مع غاصب الغاصب إذا اختار المغصوب منه
تضمين أحدهما وهذا لأنه باختياره التضمين يصير
مملكا نصيبه من المعتق حتى يكون ولاؤه له
والولاء لا يحتمل الفسخ فلا يمكنه الرجوع عنه
بعد ذلك ومن ضرورة تمليكه منه إسقاط حقه في
السعاية قبل العبد ووجه رواية محمد رحمهما
الله تعالى أن التمليك منه لا يتم إلا بالقضاء
أو الرضا وإن كان ذلك مستحقا شرعا كالتمليك
بالأخذ بالشفعة وحقه في الضمان.
لا يتقرر ما لم يتم التمليك وسقوط حقه في
الاستسعاء بناء على تقرر حقه في الضمان وكان
أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول هكذا
ينبغي في الغاصب وغاصب الغاصب أنه إذا اختار
تضمين أحدهما فقبل القضاء أو الرضا ممن اختار
ضمانه يكون له أن يرجع فيضمنه الآخر فأما إذا
اختار استسعاء العبد فليس له أن يضمن الشريك
بعد ذلك لأنه
ج / 7 ص -100-
ليس
فيه تمليك من أحد بل فيه تقرير لملكه وإبراء
للمعتق عن الضمان وذلك يتم به كما لو أذن له
في أن يعتق نصيبه ولو أن المعتق رجع على العبد
بما لزمه من الضمان ثم أحال الساكت عليه ووكله
بقبض السعاية منه اقتضاء من حقه كان جائزا
والولاية للمعتق لأنه بمنزلة المكاتب للمعتق
والمولى إذا أحال غريما له بدينه على مكاتبه
ليقبضه من بدل الكتابة كان صحيحا وكان صاحب
الدين بمنزلة الوكيل يقبض له أولا ثم لنفسه
وإن لم يختر شيئا حتى جرحه إنسان كان الإرش
عليه للعبد لأنه بمنزلة المكاتب لما عليه من
السعاية أما للساكت أو للمعتق ومن جنى على
مكاتبه أو على مكاتب غيره فعليه الأرش يقبضه
فيستعين به في سعايته ولا تكون جنايته اختيارا
منه للسعاية لأن موجب جنايته لا يختلف
بالاستسعاء أو تضمين الشريك فليس فيه ما يدل
على اختيار السعاية وكذلك لو اغتصب منه مالا
فيه وفاء بنصف قيمته أو أقرض العبد أو بايعه
كان ذلك عليه للعبد لأنه بمنزلة المكاتب له أو
لغيره وهو على خياره لأن موجب هذه المعاملة لا
يختلف بالاستسعاء والتضمين ولو أعتق جزءا من
عبده أو شقصا منه أو بعضه فعندهما يعتق كله.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى البيان إليه
لأن ما سمي يطلق على القليل والكثير منه فأي
مقدار عنى منه يعتق ذلك القدر ويستسعيه فيما
بقي وإن أعتق سهما منه فالسهم في قياس قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى السدس كما قال في
الوصية بسهم من ماله وقد بينا هذا في الإقرار
فيستسعيه في خمسة أسداس وإذا أعتق أمة بينه
وبين آخر ثم ولدت فللشريك أن يضمن المعتق قيمة
نصيبه يوم أعتق ولا يضمنه شيئا من قيمة الولد
لأنه ما صنع في الولد شيئا ولأنه لم يثبت حق
الشريك في الولد لأنها كانت مكاتبة حين ولدت
والمكاتبة أحق بولدها كما أنها أحق بكسبها
وإذا كان العبد بين ثلاثة رهط فأعتق أحدهم
نصيبه ودبر الآخر وكاتب الآخر ولا يعلم أيهم
أول فنقول أما على قول أبي حنيفة عتق المعتق
في نصيبه نافذ ولا ضمان له على أحد تقدم تصرفه
أو تأخر وتدبير المدبر في نصيبه أيضا نافذ وهو
مخير إن شاء استسعى العبد في ثلث قيمته مدبرا
وإن شاء ضمن المعتق فإذا اختار التضمين ضمنه
سدس قيمته مدبرا ورجع على العبد بسدس قيمته
استحسانا وفي القياس ليس له حق التضمين لأن
التدبير منه إن سبق فله حق تضمين المعتق وإن
تأخر فليس له حق تضمينه والضمان لا يجب بالشك
ولأن تدبيره مانع من تمليك نصيبه من المعتق
بالضمان وهو شرط التضمين إذا سبق العتق وفي
الاستحسان اعتبر الأحوال فقال من وجه هو قياس
له ثلث قيمته وهو أن يكون التدبير سابقا ومن
وجه لا يكون ضامنا شيئا فيضمنه سدس القيمة
باعتبار الأحوال ومن وجه يستسعى العبد فيما
بقي وهو سدس القيمة لأنه يستوجب السعاية عليه
على كل حال فأما المكاتب فإن مضى العبد على
كتابته يؤدي إليه مال الكتابة والولاء بينهم
أثلاثا وإن عجز كان للمكاتب أن يضمن المعتق
والمدبر قيمة نصيبه نصفين إذا كانا موسرين
لأنه ليس أحدهما بوجوب الضمان عليه بأولى من
الآخر ويرجعان على العبد بما ضمنا ويكون
ج / 7 ص -101-
ولاؤه
بينهما نصفين ولم يذكر قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى في الكتاب.
وذكر في الزيادات إذا كان العبد بين اثنين
أعتقه أحدهما ودبره الآخر ولا يعلم أيهما أول
فعلى قول أبي يوسف يترجح العتق على التدبير
فيكون ولاؤه للذي أعتقه وللمدبر أن يضمن شريكه
نصف قيمته فيما إذا كان موسرا.
وعند محمد رحمه الله تعالى يجعل كأنهما وقعا
معا ثم يغلب العتق فيعتق كله والولاء بينهما
وللمدبر أن يعتق نصف قيمته مدبرا إذا عرفنا
هذا فنقول الكتابة من الثالث أول عندهما وعند
أبي يوسف رحمه الله تعالى يسبق العتق فيكون
للمكاتب والمدبر ضمان قيمة الثلثين على المعتق
والولاء كله للمعتق.
وعند محمد رحمه الله تعالى المكاتب يضمن
المدبر والمعتق قيمة نصيبه بينهما نصفين
كأنهما وقعا معا وقيل بل ذلك في نصيبه خاصة
فأما في نصيب المكاتب العتق أقوى من التدبير
فإنما يضمن المعتق قيمة نصيبه إذا كان موسرا
وإن كان العبد بين خمسة رهط فأعتق أحدهم ودبر
الآخر وكاتب الثالث نصيبه وباع الرابع نصيبه
وقبض الثمن وتزوج الخامس على نصيبه ولم يعلم
أيهم أول فنقول:
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فحكم
العتق والتدبير على ما بينا في الفصل الأول
إلا أن التضمين والاستسعاء هناك في الثلث وهنا
في الخمس لأن نصيب المدبر الخمس هنا. فأما في
البيع فإن تصادقا أنه كان بعد العتق والتدبير
أو قال البائع كان قبل العتق والعبد في يده
وقال المشتري كان بعده فالبيع باطل لأن معتق
البعض لا يباع فالمبطل للبيع ظاهر في الحال أو
يجعل كأنهما وقعا معا فكان البيع باطلا وإن
تصادقا أنه كان قبل العتق والتدبير فالمشتري
بالخيار إن شاء نقض البيع لتغير المبيع في
ضمان البائع وإن شاء أمضاه وأعتق نصيبه
واستسعاه فيكون ولاؤه له وإن شاء ضمن المعتق
والمدبر قيمة نصيبه إن كانا موسرين إذ ليس
أحدهما بوجوب الضمان عليه بأولى من الآخر
ويرجعان به على العبد. وأما المرأة فإن تصادقا
أن التزويج كان بعد العتق أو التدبير فالنكاح
صحيح ولها خمس قيمته على الزوج لأنه تبين أنه
تزوجها على من هو كالمكاتب وإن تصادقا على أن
التزويج كان قبل العتق والتدبير فلها الخيار
للتغير إن شاءت تركت المسمى وضمنت الزوج خمس
قيمته وإن شاءت أجازت وأعتقت واستسعت العبد في
خمس قيمته وولاء خمسه لها وإن شاءت ضمنت
المعتق والمدبر خمس قيمته نصفين ثم لا تتصدق
هي بالزيادة إن كانت بخلاف المشتري لأن
المشتري إنما حصل له ذلك بمال فيتصدق بربح حصل
لا على ضمانه والمرأة تملكت ذلك لا بأداء مال
فلا يظهر الربح في حقها. فأما نصيب المكاتب
فهو على ما ذكرنا إن أدى البدل إليه عتق من
قبله وإن عجز كان له أن يضمن المدبر والمعتق
قيمة نصيبه نصفين إن كانا موسرين.
وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
فالجواب في العتق، والتدبير على ما
ج / 7 ص -102-
قلنا.
فأما البيع فإن تصادقا أنه كان البيع أولا ثم
العتق ثم التدبير فللمشتري الخيار وإذا اختار
إمضاء البيع ضمن المعتق خمس قيمته إذا كان
موسرا ليس له إلا ذلك وإن تصادقا أنه كان
البيع ثم التدبير ثم العتق واختار المشتري
الامضاء للتدبير ضمن المدبر خمس قيمته موسرا
كان أو معسرا ليس له إلا ذلك .وأما التزويج
فإن تصادقا أنه كان التزويج ثم العتق ثم
التدبير فاختارت الإجازة ضمنت المعتق خمس
القيمة ليس لها إلا ذلك إذا كان موسرا وإن كان
معسرا استسعت الغلام في خمس القيمة وإن كان
التزويج ثم التدبير ثم العتق ضمنت المدبر خمس
قيمته موسرا كان أو معسرا ليس لها إلا ذلك وإن
تصادقا أن التزويج كان بعد العتق فعند أبي
يوسف رحمه الله تعالى ترجع على الزوج بخمس
القيمة وعند محمد رحمه الله تعالى لها مهر
مثلها لأنه ظهر أنه تزوجها على حر.
وقد بينا في كتاب النكاح اختلافهما فيما إذا
تزوجها على عبد فإذا هو حر فأما الكتابة فهو
باطل عندهما كما بينا وعند أبي يوسف رحمه الله
تعالى للمكاتب أن يضمن المعتق قيمة نصيبه إذا
كان معسرا وعند محمد رحمه الله تعالى يضمنه
الأقل من قيمة نصيبه ومن بدل الكتابة على قياس
ما يأتي بعد هذا من اختلافهم في المكاتب بين
اثنين يعتقه أحدهما، ولو كان في العبد شريك
سادس وهب نصيبه لابن له صغير لا يعلم قبل
العتق كان أو بعده فالقول فيه قول الأب لأنه
هو المملك فإن قال الهبة بعد العتق فهو باطل.
وإن قال الهبة قبل العتق فالهبة جائزة ثم يقوم
الأب في نصيب الابن مقام الابن أن لو كان
بالغا في التضمين أو الاستسعاء وليس له حق
الإعتاق فإن كان المعتق والمدبر موسرين ضمنهما
سدس قيمته للابن لأن الاستسعاء بمنزلة الكتابة
وللأب ولاية الكتابة في مال ولده. وإذا أعتق
أحد الشريكين نصيبه من العبد لم يكن للآخر أن
يبيع نصيبه ولا يهبه ولا يمهره لأنه صار
بمنزلة المكاتب والمكاتب لا يحتمل التمليك
بشيء من الأسباب فإن كاتبه على أكثر من نصف
قيمته طرح الفضل عنه لأن هذا بمنزلة الاستسعاء
منه وقد بينا أنه لو استسعاه وصالحه على أكثر
من نصف قيمته دراهم أو دنانير فالفضل مردود.
وإن كاتبه على عروض أكثر من نصف قيمته جاز كما
لو صالحه من السعاية على عروض لأن الفضل لا
يتحقق هنا فإن عجز عن الكتابة سقط عنه ما
التزم من العروض ويجبر على السعاية في نصف
القيمة كما كان قبل الكتابة ولا يكون له أن
يضمن الشريك شيئا لأن مكاتبته بمنزلة
الاستسعاء منه واختياره السعاية يسقط حقه في
تضمين الشريك فليس له أن يرجع فيه فيضمنه
شيئا، وكذلك لو كان قال قد اخترت السعاية فليس
له أن يضمن الشريك بعد ذلك والخيار في هذا عند
السلطان وعند غيره سواء لأن الخيار ثابت
للساكت شرعا فمن يختار بنفسه يكون ملتزما إياه
ولو لم يختر واحدا منهما حتى يموت المعتق كان
للساكت أن يرجع بالضمان في ماله لأن حق
التضمين قد ثبت له بالعتق في الصحة فلا يسقط
ذلك بموته كسائر ديونه. وإذا باع الذي لم يعتق
نصيبه من المعتق أو وهبه على عوض أخذه منه فإن
هذا واختيار الضمان سواء في القياس لأنه تمليك
لنصيبه منه بعوض يستوفيه
ج / 7 ص -103-
منه.
والتضمين ليس إلا هذا غير أن هذا افحشهما لأن
في التضمين تمليكا حكما بسبب ذلك العتق وفي
البيع والهبة بعوض تمليك مبتدأ بسبب ينشآنه في
الحال. ومعتق البعض لا يحتمل ذلك فباعتبار
السبب كان هذا افحش وباعتبار حكم السبب كان
هذا والتضمين سواء والمقصود الحكم دون السبب
إلا أنه إن كان العوض أكثر من نصف القيمة من
الدراهم أو الدنانير فالفضل باطل كما بيناه في
الصلح، وإن دبر الساكت نصيبه فتدبيره اختيار
للسعاية لأن موجب التضمين تمليك نصيبه من
صاحبه بالضمان وقد فوت ذلك بالتدبير لأنه
استحق ولاء نصيبه فكان ذلك إبراء للمعتق عن
الضمان واختيارا للسعاية، وإن كان العتق بعد
التدبير ضمن المعتق نصف قيمته مدبرا إن كان
موسرا لأنه إنما تعذر عليه استدامة الملك في
نصيبه بإعتاق المعتق وكان نصيبه عند الإعتاق
مدبرا فلهذا ضمنه نصف قيمته مدبرا وإن لم يعلم
أيهما أول فهو على القياس والاستحسان الذي
بينا في القياس لا ضمان على المعتق.
وفي الاستحسان يضمن ربع قيمته مدبرا ويرجع به
المعتق على العبد وعلى العبد مثل ذلك للمدبر
والولاء بينهما، ولو كان العبد بين صغير وكبير
فأعتقه الكبير وهو غني وللصغير أب أو وصي فهو
قائم مقامه في اختيار التضمين أو الاستسعاء
وليس له أن يعتق لأنه تبرع وذلك لا يثبت للأب
والوصي في مال الولد فإن لم يكن له أب ولا وصي
استؤني به بلوغه ليختار إما الضمان أو الإعتاق
أو الإستسعاء.
وقيل هذا إذا كان في موضع لا قاضي فيه فإن كان
في موضع فيه قاض نصب القاضي له قيما يختار
التضمين أو الاستسعاء فإن ذلك أنفع للصبي لأنه
يتعذر التصرف في نصيب الصبي من العبد بعد
العتق
وكذلك إن كان مكان الصبي مكاتب أو عبد مأذون
عليه دين فهو مخير بين الضمان والسعاية وليس
له أن يعتق لأنه تبرع لا يحتمله كسب المكاتب
والمأذون فأما التضمين والاستسعاء فله ذلك في
المكاتب لأن المكاتب يملك أن يكاتب والاستسعاء
بمنزلة الكتابة. فأما في العبد المديون فينبغي
أن يكون له حق التضمين فقط لأن الاستسعاء
بمنزلة الكتابة وليس للمأذون أن يكاتب.
ولكن قال سبب الاستسعاء قد تقرر وهو عتق
الشريك على وجه لا يمكن إبطاله وربما يكون
الاستسعاء أنفع من التضمين فلهذا ملك المأذون
ذلك وإن كان لا يملك الكتابة ابتداء. وإذا
اختار المكاتب أو المأذون التضمين أو
الاستسعاء فولاء نصيبهما للمولى لأنه ليس من
أهل الولاء فثبت الولاء لأقرب الناس إليهما
وهو المولى وإن لم يكن على العبد دين فالخيار
للمولى كما يكون بين حرين لأن كسب العبد مملوك
للمولى في هذه الحالة وإذا قال أحد الشريكين
للعبد إن دخلت المسجد اليوم فأنت حر وقال له
الآخر إن لم تدخل المسجد اليوم فأنت حر فمضى
اليوم وقال كل واحد منهما حنث صاحبي فعلى قول
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يسقط
نصف السعاية عن العبد. وعند محمد رحمه الله
تعالى لا يسقط عنه شيء من السعاية إذا كانا
معسرين لأن كل واحد من الشريكين شاهد على
صاحبه
ج / 7 ص -104-
بالعتق
فلا يسقط شيء من السعاية عن العبد إذا كانا
معسرين وهذا لأن المقضي عليه بسقوط حقه في
السعاية مجهول والقضاء بالمجهول لا يجوز ألا
ترى أنه لو كان بينهما عبدان سالم وبزيع فقال
أحدهما إن دخلت المسجد اليوم فسالم حر وقال
الآخر إن لم تدخل اليوم فبزيع حر فمضى اليوم
ولا يدري أدخل أو لم يدخل لا يسقط شيء من
السعاية عن العبد لجهالة المقضي عليه منهما
فهذا مثله.
وهما يقولان تيقن القاضي بحنث أحدهما وسقوط
نصف السعاية عن العبد ولا يجوز له أن يقضي
بوجوب ما تيقن سقوطه كمن طلق إحدى نسائه
الأربع قبل الدخول ثم مات قبل أن يبين سقط نصف
الصداق للتيقن به. وإن كان المقضي عليها منهن
مجهولا ولكن لما كان المقضي له معلوما جاز
القضاء به فهنا أيضا المقضي له بسقوط نصف
السعاية عنه معلوم وهو العبد فيجوز القضاء به
وإن كان المقضي عليه مجهولا بخلاف العبدين فإن
الجهالة هناك في المقضي له والمقضي عليه جميعا
فيمتنع القضاء لتفاحش الجهالة وبخلاف ما لو
شهد كل واحد منهما على صاحبه بالعتق لأن هناك
لم يتيقن بسقوط شيء من السعاية عن العبد لجواز
أن يكونا كاذبين في شهادتهما وهنا تيقنا بسقوط
نصف السعاية لأن أحد الموليين حانث لا محالة.
ثم تخريج المسألة على قول أبي حنيفة أن العبد
يسعى في نصف قيمته بينهما نصفين موسرين كانا
أو معسرين أو كان أحدهما موسرا والآخر معسرا
لأنه ليس أحدهما بإسقاط حقه في السعاية بأولى
من الآخر ويسار المعتق عنده لا يمنع وجوب
السعاية على العبد فيتوزع الساقط عليهما نصفين
ويكون الباقي وهو نصف القيمة بينهما نصفان.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن كانا معسرين
فكذلك الجواب وإن كانا موسرين لم يسع لواحد
منهما في شيء لأن كل واحد منهما يدعى الضمان
على شريكه ويتبرى من السعاية فإن يسار المعتق
عنده يمنع وجوب السعاية وإن كان أحدهما موسرا
والآخر معسرا يسعى في ربع قيمته للموسر منهما
لأن المعسر يتبرأ من السعاية والموسر يقول
شريكي معتق وهو معسر فلي حق استسعاء العبد
فلهذا يسعى له في ربع قيمته.
وعند محمد رحمه الله تعالى إن كانا معسرين
يسعى في جميع قيمته بينهما نصفان وإن كانا
موسرين لا يسعى لواحد منهما لأن كل واحد منهما
تبرأ من السعاية فإن يسار المعتق عنده يمنع
وجوب السعاية
وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا يسعى في
نصف قيمته للموسر منهما لأنه يدعي السعاية
عليه ولا يسعى للمعسر في شيء لأنه يتبرأ من
السعاية ويدعي الضمان على شريكه فعليه إثباته
بالحجة "رجل أعتق عبده عند الموت ولا مال له
غيره فأمر العبد موقوف في جنايته وشهادته
ونكاحه بغير إذن المولى" وهذا بخلاف ما لو
وهبه من إنسان في مرضه فإن الهبة تكون صحيحة
حتى لو كانت جارية حل للموهوب له وطؤها بعد
الاستبراء والأصل أن كل تصرف يحتمل النقض بعد
نفوذه فهو نافذ من المريض لقيام ملكه
ج / 7 ص -105-
في
الحال والهبة من هذا النوع وكل تصرف لا يحتمل
النقض بعد نفوذه يتوقف من المريض لأن حاله
متردد بين أن يبرأ فيكون متصرفا في حق نفسه أو
يموت فيكون متصرفا في حق ورثته ولا يمكن دفع
الضرر عن الورثة بالإبطال بعد النفوذ لأن هذا
النوع من التصرف لا يحتمل ذلك فيدفع الضرر
عنهم يتوقف حكم التصرف على ما يتبين في الثاني
والعتق من هذا النوع فيوقف منه حتى إذا بريء
من مرضه تبين أنه كان نافذا وأن حاله في
الجناية والشهادة كحال الحر وإن مات من مرضه
وهو يخرج من ثلثه
وكذلك إن لم يكن له مال سواه فعليه السعاية في
ثلثي قيمته لأن العتق في المرض وصية لا تنفذ
إلا من الثلث وما دام يسعى فهو كالمكاتب لأن
سعايته في بدل رقبته فهو بمنزلة معتق البعض
يكون كالمكاتب ما دام يسعى بخلاف المرهون
يعتقه الراهن وهو معسر فهو وإن كان يسعى في
الدين إلا أن السعاية هناك ليس في بدل الرقبة
بل في الدين الذي هو على الراهن ولهذا يرجع
عليه إذا أيسر فلا يمنع سلامة الرقبة له وهنا
السعاية في بدل الرقبة فلا تسلم له رقبته ما
لم يؤدها وإذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من
العبد في مرضه ثم مات وهو موسر لم يضمن حصة
شريكه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وقالا هو ضامن لشريكه قيمة نصيبه تستوفي من
تركته لأن هذا ضمان الإتلاف والإفساد فإذا
تقرر سببه من المريض كان هو والصحيح سواء
كضمان المغصوب والمتلفات وهذا ضمان التملك
فيستوي فيه الصحيح والمريض كالضمان بالإستيلاد
والحجر بسبب المرض لا يكون أعلى من الحجر بسبب
الرق ثم المكاتب لو كاتب نصيبه كان ضامنا
لنصيب شريكه فالمريض أولى.
وحجة أبي حنيفة رحمه الله ما قال في الكتاب من
قبل أن الضمان لو وجب لوجب أن يكون من مال
الورثة يعني إن تركته تنتقل إلى ورثته بالموت
فلو استوفى ضمان العتق إنما يستوفي من مال
الوارث ولا سبب لوجوب هذا الضمان على الوارث
فإن قيل: لا كذلك بل هذا دين لزمه فيمنع
انتقال المال إلى وارثه.
قلنا: ما لزمه شيء قبل أن يختار الشريك ضمانه
ولو لزمه فهذا ليس بدين صحيح يتقرر ألا ترى أن
العسرة تمنع وجوبه ومثل هذا الدين لا يمنع ملك
الوارث ثم تقريره من وجهين أحدهما أن هذا في
الصورة دين وفي المعنى صلة لأن وجوبها لإكمال
الصلة وهو العتق والصلة وأن تقرر سببها في
حياته يجعل كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى
يتعين من الثلث.
ولهذا الحرف قال ابن أبي ليلى رضي الله تعالى
عنه إن كان الضمان يخرج من ثلث ماله يجب وإلا
فلا
ولكنا نقول لكونه في حكم الصلات لا يمنع نقل
الملك إلى الوارث ولا يجوز استيفاؤه من مال
الوارث لما قلنا ولأن المرض أنفى للضمان من
الفقر حتى أن الفقر لا يمنع ضمان الكفالة
والمرض يمنع منه فيما زاد على الثلث فإذا كان
الفقر ينفي وجوب الضمان للعتق أصلا فلأن ينفيه
من مرض الموت أصلا أولى وهذا بخلاف المكاتب
لأن
ج / 7 ص -106-
الضمان
هناك يجب في كسبه وهو أحق بكسبه يدا وتصرفا
إنما ينعدم بسبب الرق حقيقة الملك والغنا. وقد
بينا أنه لا معتبر بالغنا في وجوب ضمان العتق
إنما المعتبر هو اليسر والأداء على المكاتب
متيسر هناك من كسبه والمكاتب فيما يتقرر منه
من أسباب الصلة كالحر ألا ترى أن المحاباة
اليسيرة تصح منه بالإتفاق ومن المريض تعتبر من
ثلثه وهذا بخلاف ما لو كان العتق في الصحة فإن
الضمان يستوفي من تركته بعد موته لأن السبب
هناك تقرر في حال كونه مطلق التصرف في الصلات
فيتقرر وجوبه عليه ألا ترى أنه لو كفل بمال في
صحته فهو معتبر من جميع ماله بخلاف ما إذا كفل
في مرضه فهذا مثله وإذا أعتق أحد الشريكين
العبد ثم اختلفا فقال المعتق أعتقته وأنا معسر
عام أول ثم أصبت مالا بعد ذلك وقال الآخر بل
أعتقته عام أول وأنت موسر فالقول قول المعتق
لأن حاله يتبدل في مثل هذه المدة وإن أقاما
البينة فالبينة بينة الساكت لأنه يثبت اليسار
والضمان لنفسه بسببه. وإذا كان العبد بين
رجلين فقال أحدهما إن لم أضربه اليوم فهو حر
وقال الآخر إن ضربته سوطا فهو حر فضربه سوطين
ثم مات منهما ففي المسألة حكمان حكم العتق
وحكم الجناية أما حكم العتق أنه يعتق نصيب
الذي لم يضربه لوجود شرط حنثه حين ضربه سوطا
وإن كان موسرا فللضارب الخيار بين أن يضمنه
نصف قيمته مضروبا سوطا وبين أن يستسعي العبد
في ذلك لأنه إنما صار معتقا له وهو منقوص بضرب
السوط الأول وقد بينا أن إيجاد الشرط من
الضارب لا يسقط حقه في الضمان فلهذا كان له أن
يضمنه نصف قيمته مضروبا سوطا وأما حكم الجناية
فإن الضارب يضمن نصف ما نقصه السوط الأول
لشريكه في ماله لأن جنايته بضرب السوط الأول
لاقى ملكا مشتركا بينهما ثم قد انقطعت سراية
هذه الجناية بالعتق بعدها والجناية على
المماليك فيما دون النفس لا تعقله العاقلة
فلهذا يضمن له نصف النقصان بالسوط الأول في
ماله ثم يضمن ما نقصه السوط الآخر كله لأنه
صار بمنزلة المكاتب حين أعتق نصيبه وجنايته
على مكاتبه وعلى مكاتب غيره موجبة للضمان عليه
ويضمن نصف قيمته بعد السوطين لأنه مات من
السوطين جميعا وأحدهما صار هدرا والآخر معتبر
فيضمن نصف قيمته مضروبا سوطين ويجمع ذلك مع
نقصان السوط الثاني فيكون على العاقلة لأن
الجناية الثانية صارت نفسا فما يجب باعتبارها
يكون على العاقلة وهذا تركة العبد يستوفي منه
الشريك ما ضمن لأنه كان له حق الرجوع على
العبد بما ضمن لشريكه فيرجع في تركته بعد موته
وما بقي بعده فهو ميراث للمعتق لأن الولاء قد
صار له في الكل.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا
يغرم نقصان السوط الثاني لأنه بعتق البعض عتق
كله والنقصان غير معتبر في الجناية على
الأحرار ولكن يجب نصف ديته على عاقلته فإن كان
له وارث فهو لوارثه وإلا فهو للمعتق ولا يرجع
فيه بشيء مما ضمن لشريكه وإن كان المعتق معسرا
فإن الشريك الذي لم يعتق لم يرجع بما غرمه من
نقصان السوط الآخر
ج / 7 ص -107-
ومن
نصف قيمته مضروبا سوطين بل بنصف قيمة العبد
لأنه كان له حق استسعاء العبد في ذلك فيستوفيه
من تركته وما بقي فهو بين الشريك والمعتق وبين
أقرب الناس إلى الضارب من العصبة لأن الولاء
بينهما ولكن الضارب قاتل فيكون محروما عن
الميراث ويجعل كالميت فيقوم أقرب عصبة مقامه
في ذلك وعندهما الواجب نصف الدية يستوفي منه
الضارب نصف القيمة وهو السعاية وما بقي فهو
كله للمعتق لأن الولاء في الكل له عندهما.
وإذا قال كل مملوك أملكه فيما استقبل فهو حر
فملك مملوكا مع غيره لا يعتق لأن شرط عتقه أن
يملك مملوكا مطلقا ونصف المملوك لا يتناوله
هذا الاسم فإن اشترى نصيب شريكه عتق لأن الشرط
قد تم حين صار الملك في الكل له ولا فرق بين
أن يملك المملوك جملة أو متفرقا وإن باع نصيبه
أولا ثم اشترى نصيب شريكه لم يعتق لأنه لم
يحصل في ملكه مملوك تام في شيء من أحواله
والعرف الظاهر بين الناس أنهم يريدون بهذا
اللفظ الملك التام ولو قال لمملوك بعينه إذا
ملكتك فأنت حر فاشترى نصفه ثم باع ثم اشترى
النصف الباقي عتق لأن الشرط قد تم حين اشترى
النصف الباقي والموجود في ملكه هذا النصف يعتق
والقياس في المعين وغير المعين سواء غير أنه
استحسن وفرق بينهما بحرفين:
"أحدهما" أن الوصف في المعين غير معتبر
والاجتماع في الملك وصف فيعتبر ذلك في غير
المعين ولا يعتبر في المعين.
"والثاني" العادة فإن الإنسان يقول ما ملكت قط
مائة درهم ولا يريد بذلك مجتمعا لا متفرقا وفي
المعين لا يقول ما ملكت هذه المائة درهم إذا
كان ملكها متفرقا وإن قال إن اشتريته فهو حر
فاشتراه شراء فاسدا لم يعتق لأن شرط حنثه تم
قبل أن يقبضه ولا ملك له في القبض ألا ترى أنه
لو أعتقه لا ينفذ عتقه فإن كان في يده حين
اشتراه عتق ومراده إذا كان مضمونا بنفسه في
يده حتى ينوب قبضه عن قبض الشراء فيصير متملكا
بنفس الشراء فيعتق لوجود الشرط وإذا جنى
المستسعى فهو بمنزلة المكاتب يحكم عليه بالأقل
من أرش الجناية ومن قيمته لأن الرق فيه باق
وهو أحق بمكاسبه فيكون كالمكاتب في جنايته ألا
ترى أنه كالمكاتب في الجناية عليه فإن جنى
جناية أخرى بعد الحكم بالأولى حكم في الثانية
بمثل ذلك لأن الأولى بالقضاء تحولت إلى كسبه
فتتعلق الثانية برقبته وإن لم يكن حكم بالأولى
تحاصا في القيمة لأنهما تعلقا برقبته فلا
يلزمه باعتبارهما إلا قيمة واحدة وبيان هذه
الفصول في كتاب الديات وإن حفر بئرا في غير
ملكه فوقع فيه إنسان فعليه أن يسعى في قيمته
لأنه متعد فيه فهو في حكم الضمان كجنايته بيده
وإن وقع فيه آخر اشتركوا في تلك القيمة
لاستناد الجنايتين إلى سبب واحد وهو الحفر ولا
يجب بالسبب الواحد إلا قيمة واحدة وإن وجد في
داره قتيل سعى في قيمته لأن التدبير في حفظ
داره إليه فكان حكم القتيل الموجود فيها كحكم
الذي جنى عليه بيده وما أفسد من الأموال فهو
عليه بالغا ما بلغ لأنه بمنزلة المكاتب في ذلك
كله عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما هو
حر في جميع أحكامه وإذا أعتق أحد الشريكين
الجارية وهي
ج / 7 ص -108-
حامل
ثم أعتق الآخر ما في بطنها ثم أراد أن يضمن
شريكه نصف قيمة الأم لم يكن له ذلك وهذا
اختيار منه للسعاية لأنه بإعتاق الجنين استحق
ولاءه وهو في حكم جزء من أجزاء الأم ولو اكتسب
سبب الولاء في جزء منها سقط حقه في تضمين
الشريك ولأنه منع تمليك ما في بطنها من الشريك
بالضمان فلهذا صار به مختارا للسعاية ولو
أعتقا جميعا ما في بطنها ثم أعتق أحدهما الأم
وهو موسر كان لصاحبه أن يضمنه نصف قيمتها إن
شاء لأن بعد إعتاق الجنين كانا يتمكنان من
استدامة الملك فيها والتصرف بعد الوضع وقد
امتنع على الساكت ذلك بإعتاق الشريك وهو موسر
فكان له أن يضمنه نصف قيمتها إن شاء والحبل
نقصان في بنات آدم لا زيادة فإنما يضمنه نصف
قيمتها حاملا لأنه أعتقها وهي على هذه الصفة
والله أعلم بالصواب.
باب الشهادة في عتق الشركاء
قال "وإذا شهد الشاهدان أن أحد الشريكين أعتق
العبد ولا يدرون أيهما هو وجحد الموليان لم
تجز شهادتهما" لأنهما لم يبينا المعتق منهما.
والحجة هي البينة فما لا تكون مبينة لا تكون
حجة ولأن الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء
ولا يتمكن القاضي من الإيجاب على المجهول فإن
شهد أحد الشريكين على صاحبه بالعتق لم تجز
شهادته لأنه في الحقيقة يدعي إما الضمان على
شريكه أو السعاية على العبد في نصيبه ولكن
الرق يفسد بإقراره لأنه متمكن من إفساد الرق
بإعتاقه فإذا أقر بفساد الرق بإعتاق الشريك
يعتبر إقراره في ذلك ثم يسعى العبد في قيمته
بينهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
موسرين كانا أو معسرين أو كان أحدهما موسرا
والآخر معسرا لأن يسار المعتق عنده لا يمنع
وجوب السعاية فالشاهد منهما يقول شريك معتق
ولي حق استسعاء العبد مع يساره والمشهود عليه
يقول الشاهد كاذب ولا ضمان لي عليه ولكن لي حق
استسعاء العبد لاحتباس نصيبي عنده.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إن كان
المشهود عليه معسرا فكذلك الجواب وإن كان
موسرا يسعى للمشهود عليه في نصف قيمته ولا
يسعى للشاهد في شيء لأن المشهود عليه يدعى
السعاية مع يسار الشاهد فإنه يزعم أنه كاذب
وليس بمعتق فلا يضمن شيئا مع يساره فإن الشاهد
تبرأ من السعاية عند يسار المشهود عليه لأنه
يقول هو معتق ضامن لنصيبي ويدعي السعاية عند
عسرة المشهود عليه فيسعى له في هذه الحالة ولو
شهد أحد الشريكين مع آخر على شريكه باستيفاء
السعاية لم تجز شهادته عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى لأنه شهد لعبده فإنه بمنزلة
المكاتب لهما ما دام يسعى والمكاتب عبد لمولاه
ولأنه متهم فلعله قصد استخلاص كسبه لنفسه
بشهادته على صاحبه بالاستيفاء وكذلك لو شهد
عليه بغصب أو جراحة أو شيء يجب به عليه مال
فشهادته مردودة لأنه شاهد لعبده. عبد بين
ثلاثة شهد اثنان منهم على صاحبهما أنه أعتقه
فحكم على العبد أن يسعى لهم في قيمته فأدى إلى
واحد منهم
ج / 7 ص -109-
شيئا
كان ذلك بينهم أثلاثا لأن السعاية وجبت لهم
عليه بسبب واحد فيكون المستوفى مشتركا بينهم
ولأنه بمنزلة العبد لهم فلا يكون لأحدهم حق
الاختصاص بشيء من كسبه فإن شهد اثنان منهم على
الآخر أنه استوفى منه حصته لم تجز شهادتهما من
قبل أنهما يجران إلى أنفسهما منفعة حتى يأخذا
منه ثلثي ما استوفاه وكذلك إن شهدا أنه استوفى
المال كله بوكالة منهما لم تجز شهادتهما عليه
لما قلنا ويبرأ العبد من حصتهما لإقرارهما فيه
بقبض مبرىءفإن قبض وكيلهما في براءة المديون
كقبضهما ويستوفي المشهود عليه حصته من العبد
ولا يشاركه في ذلك الشاهدان لأنهما أسقطا
حقهما بالشهادة السابقة ولأنهما يزعمان أنه
ظالم في هذا الاستيفاء لا حق له فيه ولا لهما
وإن شهدا بدين لهذا العبد على أجنبي لم تقبل
لأنه بمنزلة عبدهما ما دام يسعى وإذا شهد
شاهدان على أحد الشريكين أن شريكه الغائب أعتق
حصته من هذا العبد فعلى قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى تقبل هذه الشهادة ويقضي
بعتقه لأن العتق عندهما لا يتجزأ فينتصب
الحاضر خصما عن الغائب وهما في الحقيقة يشهدان
على الحاضر بعتق نصيبه.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل هذه
الشهادة لأن العتق عنده يتجزأ فإنما يشهدان
بعتق نصيب الغائب خاصة وليس عنه خصم حاضر
والقضاء على الغائب بالشهادة لا يجوز ولكن
يحال بينه وبين هذا الحاضر أن يسترقه ويوقف
حتى يقدم الغائب استحسانا. وفي القياس لا يحال
لأن هذه الحيلولة تنبني على ثبوت العتق في
نصيب الغائب ولا يثبت ذلك بالشهادة بدون
القضاء.
ولكن في الاستحسان قال هما يشهدان على الغائب
بالعتق وعلى الحاضر بقصر يده عنه لأن معتق
البعض بمنزلة المكاتب لا يد عليه لمولاه
والحاضر خصم في إثبات قصر يده عنده فتقبل هذه
الشهادة في هذا الحكم إذ ليس من ضرورة القضاء
بها القضاء على الغائب بالعتق فهو نظير من وكل
بعتق عبده فأقام العبد البينة على الوكيل أن
مولاه أعتقه لا يحكم بعتقه ولكن يحكم بقصر يد
الوكيل عنه حتى يحضر المولى فتعاد عليه البينة
فكذلك هنا إذا حضر الغائب فلا بد من إعادة
البينة عليه للحكم بعتقه لأن الأولى قامت على
غير خصم فإن كانا غائبين فقامت البينة على
أحدهما بعينه أنه أعتق العبد لم تقبل هذه
الشهادة إلا بخصومة تقع من قبل قذف أو جناية
أو وجه من الوجوه فحينئذ تقبل البينة إذا قامت
على أن الموليين أعتقاه أو أن أحدهما أعتقه
واستوفى الآخر السعاية منه لأن الخصم الحاضر
لا يتمكن من إثبات ما يدعيه على العبد إلا
بإثبات حريته والعبد لا يتمكن من دفعه إلا
بإنكار حريته فينتصب خصما على الغائبين في ذلك
وإذا شهد شاهد على أحد الشريكين أنه أعتقه
وشهد آخر على الشريك الآخر أنه أعتقه لم يحكم
بشهادتهما أما على مذهب أبي حنيفة رحمه الله
تعالى لا يشكل لأن المشهود به مختلف والمشهود
عليه كذلك. وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى فلأن أحدهما شهد بعتق يبرأ فيه من
نصيب زيد إلى نصيب عمرو والآخر شهد بعتق يبرأ
فيه من نصيب عمرو إلى نصيب زيد ولم يتفق
الشاهدان على واحد من الأمرين فلا يحكم
ج / 7 ص -110-
بشهادتهما. وإن كان العبد لمسلم ونصراني شهد
نصرانيان عليهما بالعتق جازت شهادتهما على
النصراني لأن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض
مقبولة وشهادتهم على المسلمين مردودة فأنما
يثبت العتق في نصيب النصراني خاصة فهذا وما لو
شهدا عليه أنه أعتق نصيبه سواء حتى يخير
المسلم بين الإعتاق والتضمين والاستسعاء فإن
شهدا على المسلم منهما بأنه أعتق نصيبه
فالشهادة باطلة والعبد مملوك لهما على حاله
بخلاف ما إذا شهد النصراني على شريكه بالعتق
فإن ذلك إقرار منه في نصيبه بفساد الرق
والإقرار يلزم بنفسه قبل القضاء وهذه شهادة لا
توجب شيئا إلا بالقضاء وليس للقاضي أن يقضي
على المسلم بشهادة النصراني، ولو شهد نصرانيان
على شهادة مسلمين أن النصراني أعتقه فهذا باطل
لأنهما يثبتان شهادة المسلمين عند القاضي وكما
لا يثبت قضاء القاضي على المسلمين بشهادة
النصراني وإن كان الخصم نصرانيا فكذلك لا تثبت
شهادة المسلمين بشهادة النصراني، وإذا كان
العبد بين ثلاثة نفر ادعى أحدهم أنه أعتق
نصيبه على ألف وشهد له شريكاه على العبد
فالشهادة جائزة لأن نصيبه من العبد قد عتق
بإقراره وإنما بقي دعواه المال عليه فالآخران
يشهدان بالمال على أحدهما ولا تهمة في هذه
الشهادة ولو شهد ابنا أحد الشركاء أن أباهما
قد أعتق العبد بغير جعل جازت شهادتهما لأنهما
يشهدان على أبيهما وشهادة ابن العبد بالعتق
تقبل إن كان العبد ينكر ذلك والمولى يدعيه وإن
كان العبد يدعي ذلك لا تقبل لأنهما يشهدان
لأبيهما وكذلك إن شهدا بوجود شرط العتق بعد
ظهور التعليق فإنما يشهدان لأبيهما فلا تقبل
شهادتهما. ولو ادعى المولى أنه أعتقه بألف
درهم وقال العبد أعتقني بغير شيء فشهد ابنا
المولى للعبد بما ادعى وأقام الأب شاهدين على
أنه أعتقه بألف درهم فإنه يؤخذ له بالألف لأنه
يثبت المال ببينة والعبد ينفي المال بما يقيم
من البينة.
وعند التعارض يرجح بين البينتين وإذا كانت بين
رجلين فشهد ابنا أحدهما على الشريك أنه أعتقها
فشهادتهما باطلة لأنهما شهدا لأمة أبيهما
ولأنهما يشهدان لأبيهما بثبوت حق التضمين له
قبل الشريك إن كان موسرا ولو شهدا على أبيهما
أنه أعتقها جاز ذلك لأنه لا تهمة في شهادتهما
على أبيهما فإن كان الأب موسرا ثم ماتت الخادم
وتركت مالا وقد ولدت بعد العتق ولدا فأراد
الشريك أن يستسعي الولد فليس له ذلك كما في
حياة الأم لم يكن له سبيل على استسعاء الولد
فكذلك بعد موتها إذا خلفت مالا ولكنه يضمن
الشريك كما كان يضمنه في حياتها ثم يرجع
الشريك بما يضمن في تركتها كما كان يرجع عليها
لو كانت حية وما بقي فهو ميراث للابن لأن
بأداء ما عليها من السعاية يحكم بعتقها وعتق
ولدها مستندا إلى حال حياتها على ما نبينه في
المكاتبة وإن لم تدع مالا رجع بذلك على الابن
لأن الابن مولود في الكتابة والمولود في
الكتابة يسعى فيما على أمه بعد موتها لأنه جزء
من أجزائها فبقاؤه كبقائها ولأنه محتاج إلى
تحصيل العتق لنفسه ولا يتوصل إلى ذلك إلا
بأداء ما على أمه وإن لم تمت فاختار الشريك أن
يستسعيها فهي بمنزلة المكاتبة في تلك السعاية.
ج / 7 ص -111-
والحاصل أن بعد موتها ليس للشريك أن يستسعيها
باعتبار بقاء الولد وفي حال حياتها له أن
يستسعيها لأن حق الاستسعاء باعتبار احتباس
نصيب الشريك عندها وذلك لا يتحقق بعد موتها
ولا حق للشريك في ولدها فلهذا لا يستسعيها
باعتبار بقاء الولد ولا باعتبار بقاء المال
ولكنه يضمن الشريك. وأما في حال حياتها فقد
تقرر احتباس نصيب الشريك عندها فكان له أن
يستسعيها وهي بمنزلة المكاتبة ما دامت تسعى
حتى ليس لها أن تتزوج بدون إذن مولاها وإن
ولدت فولدها بمنزلتها وإن اشترت أباها أو أمها
أو ولدها فليس لها أن تبيعهم ولو اشترت أخاها
أو ذا رحم محرم منها فلها أن تبيعهم في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى استحسانا وليس لها
ذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
وهو القياس أصل المسألة في المكاتب.
وجه قولهما أن الحر لو اشترى أخاه يصير في مثل
حاله فكذلك المكاتب إذا اشترى أخاه يصير في
مثل حاله ألا ترى أن في الآباء والأولاد لا
يفصل بين المكاتب وبين الحر حتى يصير في مثل
حاله في الوجهين فكذلك في كل ذي رحم محرم لأن
القرابة المتأيدة بالمحرمية بمنزلة الولاد في
استحقاق الحرية كما في استحقاق العتق بها وهذا
لأن ما للمكاتب من الحق في كسبه يحتمل الكتابة
حتى لو كاتب عبده صح كما أن ما للحر من الملك
يحتمل العتق فإذا سوى هناك بين الأخوة والآباء
في إثبات ما يحتمله ملك الحر, فكذلك يسوى
بينهما هنا في إثبات ما يحتمله كسب المكاتب.
وجه الاستحسان لأبي حنيفة أن من تكاتب عليه
يكون تبعا له أن الكتابة لا تكون إلا ببدل
وليس عليه شيء من البدل فعرفنا أنه تبع ومعنى
الأصالة والتبعية يتحقق فيما بين الآباء
والأولاد لأجل الجزئية فيستقيم أن يتكاتب عليه
بسبب الجزئية فأما معنى الأصالة والتبعية لا
يتحقق بين الأخوة وسائر القرابات فلا يتكاتب
أحدهما على الآخر والثاني أن المكاتب كسائر
الأباء والأولاد يثبت باعتبار الكسب على أن
يوفى بعد ظهور الملك فإن الابن إذا كان مكتسبا
يقضى عليه بنفقة أبيه على أن يملك بالاكتساب
فيؤدي فكذلك هنا ثبت حق الآباء والأولاد في
الكسب على أنه متى ثبت الملك بالعتق عتق عليه
فيمتنع بيعهم لهذا ولا يثبت حق الأخوة في
الكسب على أن يوفي من الملك إذا ظهر فكذلك لا
يثبت حق الأخوة في كسب المكاتب ولا يمتنع عليه
بيعهم ولا يدخل على هذا الكلام أنه لا يقضي
على المكاتب بالنفقة لآبائه وأولاده الأحرار
لأن الاستحقاق بالكسب على أن يقضي من الملك
وهنا لو قضى عليه بالنفقة لزمه ذلك قبل تمام
الملك له بالعتق وذلك لا يجوز لأن ماله من
الحق قبل العتق لا يحتمل الصلة التامة.
توضيحه أن الأقارب يكثرون فلو تعذر عليه بيعهم
إذا دخلوا في ملكه أدى إلى تفويت المقصود
بالكتابة وهو تحصيل المال ليؤدي فيعتق ولا
يوجد مثل ذلك في الآباء.
فلهذا استحسن أبو حنيفة رحمه الله تعالى وإن
اشترت زوجها لم يفسد النكاح. ولها أن
ج / 7 ص -112-
تبيعه،
كالمكاتب لأنه إنما يثبت لها حق الملك في رقبة
الزوج وحق الملك لا يرفع النكاح لأنه أضعف
منه، والضعيف لا يرفع القوي إذا طرأ عليه وإن
كان عبد على هذه الصفة فاشترى امرأته كان له
أن يبيعها إن لم تكن ولدت منه وإن كانت ولدت
منه فاشترى ولدها معها فهي بمنزلته لأن حق
الأم تبع لحق الولد. وثبوت التبع بثبوت
المتبوع وقد امتنع عليه بيع الولد فيمتنع عليه
بيع الأم أيضا، وإن كفل عن المستسعي رجل
بسعايته لمولاه فهو باطل لأن السعاية كبدل
الكتابة والكفالة ببدل الكتابة باطلة لأنه
عبده فلا يتقرر عليه دينه فهذا مثله وإن مات
ولم يترك مالا حاضرا وترك دينا على الناس فلم
يختصموا في أمره حتى خرج الدين فهو بمنزلة
المال الحاضر يؤدي منه سعايته ويكون ما بقي
ميراثا والولد الحر والمولود في السعاية
والمشتري في ذلك سواء لأن الكل يعتقون بعتقه
ثم يجر ولاء ولده الحر لأن الأب في الولاء أصل
كما في النسب وإنما كان ولاؤه لموالي الأم
لعدم الولاء في جانب الأب فإذا ظهر الولاء في
جانبه انجر إليه ولاء أولاده وسنقرر هذا في
موضعه وإن لم يخرج الدين حتى جني ولده الحر
كانت الجناية على عاقلة أمه لأنه مولى لموالي
الأم ما لم يظهر له ولاء في جانب الأب فإن
اختصم موالي الأم وموالي الأب في ولايته قبل
خروج الدين فقضي به لموالي الأم ثم خرج الدين
بعد ذلك كان الدين لموالي الأب كله لا يكون
للابن فيه شيء في القياس ولكنا ندع العتاقين
ونجعل السعاية للمولى وما بقي ميراثا للابن.
وجه القياس أن القاضي لما حكم بولائه لموالي
الأم فقد حكم برق الأب إلى هذا الوقت وهو ميت
والرقيق لا يرثه الحر.
توضيحه أنه قطعه عن جانب الأب حين قضى بولائه
لموالي الأم وقضى بجنايته عليهم ووجه
الاستحسان أن حكم الكتابة فيه لكونه معتق
البعض وذلك لا يحتمل الفسخ فيبقى بعد قضاء
القاضي حكم الكتابة فيه على حاله. فإذا خرج
ماله يؤدي كتابته ويحكم بحريته مستندا إلى حال
حياته لأنه لا يمكن الحكم بحريته مقصورا على
الحال فتبين أنه مات حرا والحر يرثه ابنه الحر
والقاضي ما قضى بقطع نسبه عن أبيه ولو كان
العبد في سعاية وله ولد من أمة له ثم مات
العبد كان للابن أن يسعى فيما على أبيه بمنزلة
المولود في الكتابة ولو كان عبد وأمة زوجين
لرجل وأعتق نصف كل واحد منهما وقضى عليهما
بالسعاية في نصف قيمتهما ثم ولدت ولدا فقتل
الولد وترك مالا فديته وماله لأمه لأن الولد
جزء من أمه يتبعها في الملك والرق ولم يعتق
فكان تابعا لأمه داخلا في سعايتها فلهذا كان
بدل نفسه وماله لها ولو جنى الولد جناية سعي
في الأقل من قيمته ومن الجناية لأنه بمنزلة
المكاتب وهذا هو الحكم في جناية المكاتب ولو
مات أبواه سعى فيما بقي على أمه دون أبيه لأنه
يتبعها في حكم الكتابة دون الأب فيقوم مقامها
في السعاية فيما عليها ولو ماتت أمه عن مال
أدى منه سعايتها وما بقي فهو ميراث للابن لأنه
يعتق بعتقها ولا ميراث للزوج منها لأن الزوج
مكاتب ما لم يؤد السعاية وإن مات الزوج عن مال
يؤدي ما عليه من سعايته وما بقي ميراث لمعتقه
لا
ج / 7 ص -113-
يرث
ابنه ولا امرأته من ذلك شيئا لأنهما بمنزلة
المكاتبين ما لم تؤد الأم سعايتها وهذا وما لو
كوتب الزوجان كل واحد منهما بعقد على حدة سواء
في جميع ما ذكرنا.
وذكر في الأصل عن ابراهيم أن معتق النصف إذا
جنى فنصف جنايته على العاقلة والنصف عليه وإذا
جنى عليه فارش نصف الجناية عليه إرش العبيد
وإرش النصف الآخر إرش الأحرار وكأنه اعتبر
البعض بالكل ولسنا نأخذ بهذا بل هو بمنزلة
العبد في الجناية والجناية عليه لأن بين
الحرية والرق في محل واحد منافاة وقد قررناه
فيما سبق وإذا شهد الشاهدان على أحد الشريكين
أنه أقر بعتق المملوك وهو موسر جاز ذلك وثبوت
إقراره بالبينة كثبوته بسماع القاضي منه ويضمن
لشريكه إن كان موسرا نصف قيمته ويرجع به على
الغلام والولاء له وإن كان جاحدا للعتق لأن
القاضي حكم عليه بخلاف زعمه وبقضاء القاضي سقط
اعتبار زعمه بخلافه، ألا ترى أن العبد لو كان
كله له فشهدا عليه بعتقه كان الولاء له وإن
كان منكرا وإن شهدا أنه أقر أنه حر الأصل عتق
ولا ولاء له لأن الثابت من إقراره بالبينة
كالثابت بالمعاينة وإنما يقضي القاضي على
المقر بما يقر به ويجعله في حقه كأنه حق وحرية
الأصل لا تعقب الولاء وإن شهدوا على إقراره أن
الذي باعه كان أعتقه عتق كما لو سمع القاضي
إقراره بذلك وهذا لأنه أقر بنفوذ العتق فيه
ممن كان مالكا له وولاؤه موقوف لأن كل واحد
منهما ينفيه عن نفسه فإن البائع يقول أنا ما
أعتقته وإنما عتق بإقرار المشتري فله ولاؤه
والمشتري يقول بل أعتقه البائع فالولاء له
فلهذا توقف ولاؤه على أن يرجع أحدهما إلى
تصديق صاحبه فيكون الولاء له لأن الولاء لا
يحتمل النقض بعد ثبوته فلا يبطل بالتكذيب أصلا
ولكن يبقى موقوفا فإذا صدقه ثبت منه وإن شهدا
على إقراره أن البائع كان دبره أو كاتب أمه أو
أن البائع كان استولدها قبل البيع فإنه يخرج
كل واحد منهما من ملكه لإقراره أنه لم يملكهما
بالشراء وأنهما باقيان على ملك البائع ولا
يرجع على البائع بالثمن لأن إقراره ليس بحجة
على البائع في إبطال البيع وقد استحق البائع
الثمن به ولا يعتقان حتى يموت البائع فإذا مات
عتقا لأن المشتري أقر بتعلق عتقهما بموت
البائع والبائع كان مقرى بأن إقرار المشتري
فيهما نافذ لأن يملكهما فعند موت البائع يحصل
التصادق منهما على الحرية إذا كان المدبر يخرج
من ثلث مال البائع فلهذا يحكم بعتقهما
والجناية عليهما كالجناية على مملوكين قبل موت
البائع لأنهما لا يعتقان إلا بموته، وتوقف
جنايتهما في قول أبي حنيفة.
وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
عليهم السعاية في الأقل من قيمتهما وأرش
جنايتهما
والقياس ما قاله أبو حنيفة رحمه الله تعالى
لأن المشتري إن كان صادقا فموجب جنايتهما على
البائع ابتداء لأن موجب جناية المدبر وأم
الولد القيمة على المولى ابتداء وإن كان كاذبا
فجنايتهما تتعلق برقبتهما ويخاطب المشتري بذلك
ومع جهالة المستحق عليه لا يتمكن القاضي من
القضاء بشيء فلهذا تتوقف جنايتهما ولكنهما
استحسنا فقالا هما بمنزلة المكاتبين في الحال
حتى يكتسبان وينفقان على أنفسهما من كسبهما
ولا سبيل لأحد على
ج / 7 ص -114-
أخذ
الكسب منهما وإنما كان موجب جناية المكاتب على
نفسه لكونه أحق بكسبه فإذا وجد ذلك المعنى
هنا.
قلنا عليهما السعاية في الأقل من قيمتهما ومن
أرش الجناية, وكذلك أمة بين رجلين أقر أحدهما
أنها ولدت من الآخر وأنكر الآخر ذلك فهي
موقوفة تخدم المنكر يوما ويرفع عنها يوم ولا
سبيل للمقر عليها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى الآخر.
وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وهو
قول محمد رحمه الله تعالى تسعى في نصف قيمتها
للمنكر لأن اقرار أحدهما على شريكه بأمية
الولد كشهادته عليه بعتق نصيبه وقد بينا أن
هناك يسعى للمنكر في نصيبه فكذلك هنا، ولكن
أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هناك تعذر
استدامة الملك لأن ما أقر به لو كان حقا كان
استدامة الملك فيها ممتنعا فلهذا تخرج إلى
الحرية بالسعاية وهنا ما أقر به من أمية الولد
لو كان حقا لم يكن استدامة الملك فيها ممتنعا
فلا معنى لإيجاب السعاية عليها للمنكر ولكن في
زعم المنكر أنها مشتركة بينهما كما كانت وأن
شريكه كاذب فكان له أن يستخدمها يوما من كل
يومين كما قبل هذا الأوان وليس للمقر أن
يستخدمها في اليوم الآخر لأنه يزعم أنها صارت
أم ولد لشريكه وإن حقه في الضمان قبل شريكه
ولا حق له في الاستخدام فلهذا لم يكن للمقر
عليها سبيل وجنايتها والجناية عليها تكون
موقوفة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله تعالى.
وفي قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه
الله تعالى هي بمنزلة المكاتبة تسعى في
الجناية عليها بأخذ الإرش فتستعين بها هكذا
ذكر في الكتاب وهو ظاهر لأن عندهما لما قضى
عليها بالسعاية في نصيب الجاحد كانت كالمكاتب
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لما كانت
موقوفة الحال لا يقضى فيها بشيء فكذلك حكم
جنايتها والجناية عليها.
وقيل الصحيح أن عند أبي حنيفة نصف جنايتها على
الجاحد لأن نصفها مملوك له مطلقا حتى يستخدمها
بقدره والنصف الآخر يتوقف وعلى قول أبي يوسف
الأول وهو قول محمد جنايتها عليها تسعى في
الأقل من قيمتها ومن إرش الجناية لأنها أحق
بكسبها، ألا ترى أنها تنفق على نفسها من كسبها
ولو جعلناها موقوفة فمن ينفق عليها وإذا لم
يكن بد من أن تجعل أحق بكسبها كان موجب
جنايتها في كسبها كالمكاتبة والله تعالى أعلم
بالصواب.
باب عتق ما في البطن
قال: "رجل قال لجاريته
كل ولد تلدينه فهو حر فما ولدته في ملكه فهو
حر" لأن ملك الأم سبب لملك الولد فإن الجنين
يتبع الأم في الملك وقيام سبب الملك عند
التعليق كقيام الملك في صحة التعليق
ألا ترى أن في اليمين المضاف جعل التعليق بسبب
الملك وهو الشراء كالتعليق بالملك ولو كان
الملك موجودا في المحل الذي يلاقيه وقت
التعليق كان التعليق صحيحا فكذلك إذا كان سبب
الملك موجودا ولا يعتق ما لم تلد لأنه جعل شرط
العتق الولادة وإن مات المولى وهي حبلى ثم
ولدته لم تعتق لأنها صارت ملكا للوارث
ج / 7 ص -115-
بالموت
فإنما وجد الشرط بعد زوال ملك المعتق وكذلك لو
باعها المولى وهي حبلى جاز بيعه لقيام ملكه
وقدرته على تسليمها وإذا ولدت بعد ذلك لم تعتق
لأن الشرط وجد في غير ملك الحالف وإن ضرب ضارب
بطنها فالقته ميتا كان فيه ما في جنين الأمة
لأنه ما دام في البطن فهو رقيق ولو كان قال كل
ولد تحبلين به فهو حر كان فيه ما في جنين الحر
لأن شرط العتق هنا وجود الحبل وقد علم أنه كان
موجودا قبل الضرب فإنما وجدت جناية الضارب على
جنين هو حر وإن ولدته بعد البيع لأقل من ستة
أشهر فهو حر والبيع باطل لأنا تيقنا بوجود
الولد قبل البيع وحريته فإنما باعها وفي بطنها
ولد حر فيكون البيع باطلا.
وقال لها: إن كان أول ولد تلدينه غلاما فهو حر
وإن كانت جارية فأنت حرة فولدت غلامين
وجاريتين فإن علم أن الغلام أول ما ولدت فهو
حر والباقون أرقاء وإن علم أن الجارية أول ما
ولدت فهي مملوكة والباقون مع الأم أحرار لأن
بولادة الجارية الأولى عتقت الأمة وإنما عتقت
بعد انفصال هذه الجارية عنها فكانت هي مملوكة,
والباقون أحرار لأنهم انفصلوا منها بعد حريتها
والولد لا ينفصل من الحرة إلا حرا وإن لم يعلم
أيهم أول يعتق من الأم نصفها لأنها تعتق في
حال وترق في حال ويعتق ثلاثة أرباع كل واحد من
الغلامين لأن أحدهما حر بيقين فإنها إن ولدت
الغلام أولا فهذا الغلام حر وإن ولدت الجارية
أولا فالغلامان يعتقان بعتق الأم فأحدهما حر
بيقين والآخر يعتق في حال دون حال فيعتق نصفه
ثم حرية ونصف بينهما نصفان إذ ليس أحدهما
بأولى من الآخر فيعتق من كل واحد منهما ثلاثة
أرباعه ويسعى في ربع قيمته ويعتق من كل واحدة
من الجاريتين ربعها لأن إحداهما أمة بيقين
والأخرى تعتق في حال دون حال فإنها إن ولدت
الغلام أولا فالجاريتان مملوكتان وإن ولدت
إحدى الجاريتين أولا فهذه مملوكة والأخرى حرة
فإذا كانت إحداهما تعتق في حال دون حال يعتق
نصفها وليست إحداهما بأولى من الأخرى فكان نصف
الحرية بينهما لكل واحدة منهما ربع حرية وتسعى
كل واحدة في ثلاثة أرباع القيمة وإن تصادق
الأم والمولى على أن هذا الغلام أول عتق ما
تصادقا عليه والباقون أرقاء لأن اليد لهما
والقول قول ذي اليد فيمن لا يعبر عن نفسه في
رقه وحريته فإن تصادقا على شيء وجب الأخذ بما
تصادقا عليه وإن اختلفا فيه فالقول قول المولى
مع يمينه لأن المعتق هو المولى فكان قوله في
بيان من عتق مقبولا مع يمينه إن ادعت الأم
خلاف ذلك لأنها تدعي عليه ما لو أقر به لزمه
وإنما يستحلف على العلم بالله ما يعلم أنها
ولدت الجارية أولا لأنه يستحلف على فعلها
والاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم.
وإذا قال لها إن كان حملك غلاما فأنت حرة وإن
كانت جارية فهي حرة فكان حملها غلاما وجارية
لم يعتق أحد منهم لأن الحمل اسم لجميع ما في
البطن قال تعالى: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق: من الآية4] والعدة لا تنقضي إلا بوضع جميع ما في البطن
فإنما جعل شرط عتقها كون جميع ما في البطن
غلاما وشرط عتق الجارية كونها جميع ما في
البطن ولم يوجد ذلك,
ج / 7 ص -116-
وكذلك
قوله إن كان ما في بطنك لأن ما هو من ألفاظ
العموم فهو يقتضي أن يكون جميع ما في بطنها
بتلك الصفة ولو كان قال في الكلامين إن كان في
بطنك عتقت الجارية والغلام لأنه جعل شرط عتقها
وجود الغلام في بطنها وقد تبين أنه كان موجودا
والتعليق بشرط موجود يكون تنجيزا فعلمنا أنها
عتقت قبل انفصال الولدين عنها فيعتق الولدان
جميعا.
وإذا قال إذا كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت
حرة وإن كانت جارية فهي حرة فولدتهما جميعا
فإن علم أن الغلام أول عتقت هي مع ابنتها
والغلام رقيق وإن علم أنها ولدت الجارية أولا
عتقت الجارية والأم مع الغلام رقيقان وإن لم
يعلم واتفق الأم والمولى على شيء فكذلك لأن
اليد لهما.
وإن قالا لا ندري فالغلام رقيق والابنة حرة
ويعتق نصف الأم لأنها إن ولدت الغلام أولا فهي
حرة والغلام رقيق وإن ولدت الجارية أولا
فالجارية حرة والغلام والأم رقيقان فالأم تعتق
في حال دون حال فيعتق نصفها والغلام عبد بيقين
والجارية حرة بيقين إما أن تعتق بنفسها أو
بعتق الأم ولو كأن قال إن كان أول ولد تلدينه
غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية فإن ولدت
الغلام أولا فالغلام رقيق والأم والجارية
حرتان وإن ولدت الجارية أولا فهم أرقاء فالأم
تعتق في حال دون حال فيعتق نصفها وكذلك
الجارية والغلام رقيق بيقين.
وذكر في الكيسانيات عن محمد رحمه الله تعالى
في هذا الفصل أنه لا يحكم بعتق واحد منهم ولكن
يحلف المولى بالله ما يعلم أنها ولدت الغلام
أولا فإن نكل عن اليمين فنكوله كإقراره وإن
حلف فهم أرقاء بخلاف الفصل الأول لأنا تيقنا
بحرية بعضهم واعتبار الأحوال بعد التيقن
بالحرية صحيح وهنا لم يتيقن بشيء من الحرية
لجواز أنها ولدت الجارية أولا فلا معنى
لاعتبار الأحوال ولكنها تدعي عليه شرط العتق
وهو منكر فالقول قوله مع يمينه.
ولو قال ما في بطنك حر فولدت بعد ذلك لستة
أشهر لا يعتق وإن ولدت لأقل من ستة أشهر عتق
لأنه أوجب العتق لما هو موجود في بطنها وإذا
ولدت لأقل من ستة أشهر فقد تيقنا أنه كان
موجودا فأما إذا ولدت لستة أشهر فصاعدا لم
نتيقن أنه كان موجودا والعلوق يضاف إلى أدنى
مدة الحمل إلا في حالة الضرورة وإن ولدت واحدا
لأقل منها بيوم والآخر لأكثر منها بيوم عتقا
لأنا تيقنا بوجود الأول في بطنها وقت اليمين
حين ولدته لأقل من ستة أشهر وهما توأم واحد
خلقا من ماء واحد فالحكم بوجود أحدهما في
البطن في وقت حكم بوجودهما. وإذا أعتق أمته
ولها زوج حر فولدت ولدا لستة أشهر فصاعدا بعد
العتق فنفاه الزوج لاعن ولزم الولد أمه لأن
الحل قائم بين الزوجين فإنما يستند العلوق إلى
أقرب الأوقات وهو ستة أشهر وتبين أنها علقت به
في حال هما أهل اللعان فيقطع النسب عنه
باللعان ويكون ولاؤه لموالي الأم لأنه لا نسب
له من جهة الأب وإن وضعته لأقل من ستة أشهر
لزم أباه ولاعن أما اللعان فلأنه قذفها في
الحال وهي محصنة وأما لزوم الولد أباه فلانا
تيقنا أن العلوق كان قبل
ج / 7 ص -117-
العتق
وهي لم تكن من أهل اللعان فلزمه نسب الولد على
وجه لا يملك نفيه فلا يتغير ذلك بالعتق بعده
وولاء الولد لموالي الأم لأنه كان موجودا في
البطن حين أعتق الأم فصار الولد مقصودا بالعتق
وله ولاء نفسه, ولو قال لأمته إن كنت حبلى
فأنت حرة فإن ولدت لأقل من ستة أشهر فهي حرة
وولدها لأنه تبين أنه كان منجزا عتقها
بالتعليق بشرط موجود وإن ولدت لستة أشهر أو
أكثر لم تعتق لأنا لم نتيقن بوجود الشرط لجواز
أن يكون هذا الولد من علوق حادث وما لم نتيقن
بوجود الشرط لا ينزل الجزاء ولو قال لها ما في
بطنك حر فضرب رجل بطنها بعد هذا القول لأقل من
ستة أشهر فألقت جنينا ميتا ففيه ما في جنين
الحرة لأنا علمنا أنه كان موجودا في بطنها حين
قال ذلك وأنه حكم بعتقه.
فإن قيل: فلعله كان ميتا وإعتاق الميت باطل.
قلنا: قد ظهر لموته سبب وهو الضرب فيحال
بالحكم عليه. ولما حكمنا بوجوب الضمان على
الضارب فقد حكمنا بحياته إلى هذا الوقت فعلى
الجاني ما في جنين الحرة ولو قال لها إن كان
أول ما تلدينه غلاما ثم جارية فأنت حرة وإن
كانت جارية ثم غلاما فالغلام حر فولدت غلامين
وجاريتين لا يعلم أيهما أول عتق نصف الأم وربع
الأولاد لأنها إن ولدت الغلام أولا ثم الجارية
فالأم حرة وإن ولدت الجارية أولا ثم الغلام
فالأم رقيقة فهي تعتق في حال دون حال فيعتق
نصفها وأحد الغلامين رقيق بيقين والآخر يعتق
في حال دون حال فيعتق ربع كل واحد منهم ولا
يقال من الجائز أنها ولدت الغلامين أولا ثم
الجاريتين لأن هذا بمنزلة ولادة الغلام أولا
ثم الجارية وإذا ولدت الجاريتين أولا, ثم
الغلامين فهذا بمنزلة ولادة الجارية أولا ثم
الغلام لأن الشرط ولادة الغلام بعد ولادة
الجارية, وقد وجد سواء تخلل بينهما ولادة
جارية أخرى أو لم يتخلل وإن ولدت غلاما وجارية
في بطن لا يعلم أيهما أول عتق نصف الأم ونصف
الغلام لأن الأم تعتق في حال دون حال, وكذلك
الغلام فيعتق نصف كل واحد منهما والابنة أمة
لأنها إن ولدت الغلام أولا ثم الجارية فإنما
عتقت الأم بعد انفصال الجارية فهي أمة. وإن
ولدت الجارية أولا فهي أمة.
فعرفنا أن رقها متعين, وإن قال أول ولد تلدينه
فأنت حرة فولدت ولدا ميتا عتقت لأن الميت ولد
كالحي ألا ترى أن الجارية تصير به أم ولد
والمرأة تصير به نفساء فيتم شرط عتقها
بولادته, ولو كان قال هو حر لا ينحل يمينه
بولادة الميت حتى إذا ولدت ولدا حيا بعد ذلك
عتق الولد الحي في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى ولم يعتق في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى.
وجه قولهما: أن انحلال شرط اليمين تحقق بولادة
الولد الميت وليس من ضرورة انحلال اليمين نزول
الجزاء, ألا ترى أنه لو قال أول عبد اشتريه
فهو حر فاشترى عبدا لغيره انحلت اليمين حتى لو
اشترى بعد ذلك عبدا لنفسه لم يعتق
ج / 7 ص -118-
والدليل عليه أنه لو قال: أول ولد تلدينه فهو
حر وامرأته طالق فولدت ولدا ميتا وقع الطلاق
ثم عندكم لو ولدت ولدا حيا بعد ذلك يعتق الحي
وهذا لا وجه له لأن الشرط إن صار موجودا
بولادة الميت انحلت اليمين وإن لم يصر موجودا
فينبغي أن لا يقع الطلاق والدليل عليه أن هذا
الحي ثاني ولد حتى لو قال ثاني ولد تلدينه فهو
حر يعتق هذا ولا يكون الشخص الواحد أولا
وثانيا.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما حكي عن
أبي سعيد البردعي رحمه الله تعالى أنه كان
يقول الولد الميت ولد في حق الغير حتى أن
العدة تنقضي به والجارية تصير أم ولد وليس
بولد في حق نفسه حتى لا يسمى ولا يصلى عليه
فإذا كان الجزاء عتق الأم أو طلاق المرأة كان
الميت ولدا فيه وإذا كان الجزاء عتق الولد لم
يكن الميت ولدا فيه ولكن هذا تشه ومع أنه تشه
لا معنى له فإنه يقال ينبغي أن يجعل ولدا في
حق المولى حتى ينحل يمينه به وينبغي أن يجعل
ولدا في حق الولد الثاني حتى لا يعتق.
فالوجه الصحيح أن يقول جازى بكلامه ما لا
يجازى به إلا الحي فتصير الحياة مدرجة في
كلامه ويكون المضمر كالمصرح به فكأنه قال أول
ولد تلدينه حيا فهو حر وإنما قلنا ذلك لأن
كلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن ولا يصح
هذا الكلام إلا بإضمار الحياة في الولد لأن
الإعتاق إحداث القوة وذلك يتحقق في الحي دون
الميت فتبين بقوله فهو حر أن حياة الولد مضمر
في كلامه, ألا ترى أنه لو قال إذا ولدت ولدا
ميتا فهو حر كان كلامه لغوا وبه فارق الطلاق
وعتق الأم لأنه لا حاجة في تصحيح ذلك الكلام
إلى إضمار الحياة في الولد, ألا ترى أنه لو
صرح بموت الولد كان التعليق صحيحا ثم ما ثبت
بطريق الاقتضاء يجعل ثابتا للحاجة والضرورة
ففيما تتحقق فيه الحاجة يجعل مدرجا في كلامه
وفيما لا تتحقق فيه الحاجة لا يجعل مدرجا ولا
يبعد أن يكون الشرط واحدا ثم يحكم بوجوده في
بعض الجزاء دون البعض كما لو قال لامرأته إذا
حضت فأنت طالق وفلانة معك فقالت حضت تصدق في
وقوع الطلاق عليها دون ضرتها ولما ثبت أن
الحياة مدرجة في كلامه فالذي ولدته بعد الميت
أول ولد حي وإن كان في الصورة ثاني ولد وليس
هذا كقوله أول عبد اشتريه فهو حر لأن المشتري
لغيره محل للعتق
ألا ترى أن العتق ينفذ فيه من مالكه ومن
المشتري موقوفا على إجازة مالكه فلا حاجة إلى
إضمار الشراء لنفسه لتصحيح الكلام وها هنا
الميت ليس بمحل للعتق أصلا فلهذا جعلنا الحياة
مدرجة في كلامه.
وإن قال أول ولد تلدينه فهو حر فولدت ولدا
وشهدت امرأة على الولادة وكذبها المولى وقال
هذا عبدي من غيرها لم يعتق بشهادة امرأة في
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قول أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يعتق وقد تقدم
نظيره في الطلاق وقد بينا أن عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى بشهادة القابلة إنما يثبت ما
هو من أحكام الولادة على الخصوص والعتق ليس من
أحكام الولادة على الخصوص
ج / 7 ص -119-
وعندهما لما قبلت شهادة القابلة في حق نسب
الولد فكذلك تقبل فيما جعل بناء على الولادة,
ألا ترى أنه لو قال إن كان بها حبل فهو مني ثم
جاءت امرأة تشهد على الولادة بعد هذا القول
بيوم صارت أم ولد له وبالاستيلاد يثبت حق
الحرية ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يفرق
فيقول الاستيلاد من أحكام نسب الولد فأما هذا
العتق ليس من حكم الولادة وشهادة القابلة حجة
ضرورية فلا تكون حجة إلا فيما هو في حكم
الولادة.
وإن قال لها أنت حبلى فإذا ولدت فأنت حرة
فشهدت امرأة على الولادة عتقت لا بشهادة
القابلة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بل
بمجرد قول الأمة لأنه لما أقر بأنها حبلى فقد
جعل شرط وقوع العتق عليها ظهور ما هو موجود في
بطنها وقد ظهر بقولها كما إذا قال لها إذا حضت
فأنت حرة وقد تقدم نظير هذا في الطلاق.
وإذا قال لها إذا حبلت فأنت حرة ثم وطئها
فينبغي له في الورع والتنزه أن يعتزلها حتى
يعلم أحامل هي أم لا لأن سبب الحبل هو الوطء
فبعدما وطئها يحتمل أنها قد حبلت وقد عتقت فلو
وطئها كان حراما عليه والتحرز عن الحرام واجب
فلهذا نأمره على طريق التنزه أن يعتزلها فإذا
حاضت علمنا أنها ليست بحامل فيطأها مرة أخرى
بعد ما تطهر وهكذا دأبه ودأبها وإن ولدت بعد
هذه المقالة لأكثر من سنتين وقد وطئها قبل
الولادة لأقل من ستة أشهر فعليه العقر لأنا
تيقنا بوجود شرط العتق بعد اليمين وتيقنا بأنه
وطئها بعد ما علقت فإنما وطئها وهي حرة
بالشبهة فعليه العقر وإن ولدته لأقل من سنتين
لم تعتق لأنا لم نتيقن بوجود الشرط وهو الحبل
بعد اليمين لجواز أن يكون هذا الولد من علوق
كان قبل اليمين فإن قيل: فأين ذهب قولكم أن
يستند العلوق إلى أقرب الأوقات.
قلنا: نعم يستند العلوق إلى أقرب الأوقات إذا
لم يكن فيه إثبات العتق بالشك لأن العتق بالشك
لا ينزل وقد تقدم نظيره في الرجعة في الطلاق.
وإذا قال لأمتيه ما في بطن أحداكما حر فله أن
يوقع على أيهما شاء لأن ما في البطن في حكم
العتق كالمنفصل وقد بينا في المنفصل أنه لو
أوجب العتق في غير المعين كان البيان إليه
فكذلك فيما في البطن فإن ضرب إنسان بطن
إحداهما فالقت جنينا ميتا وقع العتق على ما في
بطن الأخرى لأن الذي انفصل ميتا خرج من أن
يكون محلا للعتق ومزاحما للآخر فيما أوجب
فيتعين العتق في الآخر ضرورة ولو ضرب بطن كل
واحدة منهما رجل معا فالقتا جنينين ميتين لأقل
من ستة أشهر منذ تكلم بالعتق كان على كل واحد
منهما ما في جنين الأمة لأن كل واحد من
الجنينين كان مملوكا يقينا وبعد إيجاب العتق
في المجهول بقيا كذلك.
وقد بينا في المنفصلين أنه لو قتل كل واحد
منهما رجل كان على كل واحد من القاتلين قيمة
مملوك فهذا مثله.
وإن قال: ما في بطن هذه حر وما في بطن هذه حر
أو سالم عتق ما في البطن الأولى والخيار بين
سالم وما في بطن الثانية إليه لأنه أوجب العتق
لما في بطن الأولى بعينها وخير
ج / 7 ص -120-
نفسه
بين عتق ما في بطن الثانية وسالم لأنه أدخل
بينهما حرف أو ذلك للتخيير فكأنه قال ما في
بطن هذه حر واحد الآخرين فيعتق الأول بعينه
والخيار إليه في الآخرين يوقع العتق على أيهما
شاء, وإذا قال لأمتيه ما في بطن إحداكما حر ثم
خرجت إحداهما وجاءت أخرى فقال ما في بطن
إحداكما حر ثم ولدن كلهن لأقل من ستة أشهر
فالقول فيه قول المولى.
وأصل هذه المسألة في العبيد ذكرها في مواضع من
الكتب, والتخريج في الكل واحد فنقول رجل له
ثلاثة أعبد دخل عليه اثنان فقال أحدكما حر ثم
خرج أحدهما ودخل الثالث فقال أحدكما حر
فالبيان إلى المولى لأن الإيهام كان منه ولأن
حكم الكلامين يختلف بيانه.
فإن قال عنيت بالكلام الأول الثابت أو أعنيه
الآن واختاره عتق الثابت بالكلام الأول وتبين
أنه في الكلام الثاني جمع بين حر وعبد وقال
أحدكما حر فلا يجب به شيء إذا لم ينو العبد.
وإن قال عنيت بالكلام الأول الخارج عتق الخارج
بالكلام الأول وصح الكلام الثاني لأنه جمع فيه
بين عبدين فقال أحدكما حر فالبيان إليه فإن
بين أولا أنه عنى بالكلام الثاني الثابت تعين
الخارج بالكلام الأول لأن الثابت خرج من
مزاحمة الخارج في موجب الكلام الأول حين أنشأ
عتقه بعده.
وإن قال عنيت بالكلام الثاني الداخل عتق
الداخل ولا بد من أن يبين مراده بالكلام
الأول, وإن مات قبل أن يبين عتق من الخارج
نصفه ومن الثابت ثلاثة أرباعه ومن الداخل نصفه
في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى
وربعه في قول محمد رحمه الله تعالى لأنه وجب
بالكلام الأول حرية تتردد بين الخارج والثابت
وقد فات البيان بموت المولى فيشيع فيهما فلهذا
يعتق من الخارج نصفه ومن الثابت نصفه بالكلام
الأول والكلام الثاني لا يجب به شيء إن كان
المراد بالكلام الأول الثابت ويجب به حرية إن
كان المراد بالكلام الأول الخارج فأوجبنا به
نصف حرية باعتبار التردد ثم هذا النصف يتردد
بين الثابت والداخل فيكون نصفه وهو الربع
للثابت فاجتمع له ثلاثة أرباع حرية وحصل
للداخل ربع حرية بالكلام الثاني.
فلهذا قال محمد رحمه الله تعالى يعتق منه ربعه
ولأنه شريك الثابت في الكلام الثاني, فلا يصيب
إلا قدر ما يصيب الثابت بهذا الكلام وشبه هذا
بمن له ثلاث نسوة لم يدخل بشيء منهن قال
لاثنتين منهن أحداكما طالق فخرجت إحداهما
ودخلت الثالثة فقال إحداكما طالق ثم مات قبل
أن يبين يسقط من مهر الخارجة ربعه ومن مهر
الثانية ثلاثة أثمانه ومن مهر الداخلة ثمنه
للطريق الذي قلنا.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا
الكلام الثاني صحيح على كل حال فإن كان مراده
الثابت عتق به ما بقي وهو النصف وإن كان مراده
الداخل عتق به كله فالداخل
ج / 7 ص -121-
يعتق
في حال ولا يعتق في حال فيعتق نصفه, وبيان هذا
الكلام أما على أصل أبي حنيفة رحمه الله فظاهر
لأن الحرية الأولى لما شاعت فيهما كان الثابت
معتق البعض ومعتق البعض عنده بمنزلة المكاتب
أهل لإنشاء العتق فيه فيصح الكلام الثاني على
كل حال.
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله العتق لا يتجزأ
بعد وقوعه على محل بعينه بعد وقوعه ولم يكن
واقعا على الثابت حين تكلم بالكلام الثاني فصح
الكلام الثاني.
وأما مسألة الطلاق فقد قيل هو مذكور في
الزيادات وهو قول محمد رحمه الله.
فأما عندهما يسقط من مهر الداخلة ربعه وبعد
التسليم الفرق واضح على أصل أبي حنيفة رحمه
الله لأن الطلاق عنده لا يتجزأ بخلاف العتق
فالكلام الثاني ليس بصحيح على كل حال وإنما
الإشكال على قول أبي يوسف رحمه الله والفرق
أنه يوجد شخص متردد الحال بين الرق والحرية
ويكون محلا لإنشاء العتق وهو المكاتب والثابت
بهذه الصفة حين تكلم بالكلام الثاني فأمكن
تصحيح الكلام الثاني من هذا الوجه على كل حال
فأما الطلاق لا يوجد شخص متردد الحال بين أن
تكون مطلقة ومنكوحة ثم يصح وقوع الطلاق عليها
فلا وجه لتصحيح الكلام الثاني من كل وجه.
قلنا: إن كان صحيحا يسقط به نصف مهر وإن لم
يصح لم يسقط به شيء فسقط به ربع مهر ثم يتردد
هذا الربع بين الثابتة والداخلة فيصيب الداخلة
نصف الربع وهو الثمن فلهذا سقط ثمن مهرها وإن
كان المولى قال ذلك في مرضه ومات قبل البيان
ولا مال له سواهم فإنهم يقتسمون الثلث على قدر
حقهم فيضرب الخارج في الثلث بسهمين والثابت
بثلاثة أسهم والداخل بسهمين في قولهما فيكون
الثلث بينهم على سبعة والقسمة من أحد وعشرين
كل رقبة سبعة فيستسعي الخارج في خمسة أسباعه
وكذلك الداخل والمقيم في أربعة أسباعه.
وعلى قول محمد رحمه الله تعالى الداخل إنما
يضرب بسهم واحد فيكون الثلث بينهم على ستة
والقسمة من ثمانية عشر يسعى الخارج في ثلثي
قيمته والثابت في نصف قيمته والداخل في خمسة
أسداس قيمته إذا عرفت هذا التخريج في العبيد
فكذلك فيما في بطن الجواري لأن الجنين في حكم
العتق كالمنفصل
وإن قال لأمته قد أعتقت ما في بطنك على ألف
درهم عليك فقبلت ثم وضعت غلاما لأقل من ستة
أشهر فهو حر لأنا تيقنا أنه كان موجودا في
البطن حين علق العتق بقبولها المال وقد وجد
منها القبول والمال باطل لأنه لا يمكن إيجابه
على الجنين لأن المولى شرطه على الأم دون
الجنين ولأنه لا ولاية للأم على الجنين في
الزام المال إياه ولا يمكن إيجابه على الأم
لأن الجنين في حكم العتق كشخص واحد على حدة
واعتاق شخص ببدل على شخص آخر لا يجوز وهذا
بخلاف الطلاق فإنه لو طلق امرأته بمال على
أجنبي وقبل الأجنبي ذلك وجب المال عليه ولو
أعتق عبده بمال على أجنبي وقبل الأجنبي ذلك لا
يلزمه المال لأن المولى منتفع بالعتق من حيث
تحصيل الثواب
ج / 7 ص -122-
لنفسه
في العقبى, والولاء في الدنيا ومن انتفع بملك
نفسه لا يستوجب بدله على غيره بالشرط كمن أكل
طعام نفسه ببدل على غيره فأما الزوج غير منتفع
بالطلاق ولكنه مبطل لملكه فإذا شرط بدلا على
غيره والتزمه ذلك الغير كان صحيحا كالعفو عن
القصاص والإبراء عن الدين ولو ولدت الأمة
غلاما ثم كاتبت على نفسها وعليه ألف درهم أجزت
ذلك والتزمه إن كبر أو عقل فرضي, وفرض الجواب
على هذا الموضع إنما يستقيم على طريقة القياس,
فأما على طريقة الاستحسان على ما ذكره في
الجامع وغيره من المواضع غير مستقيم بل الصحيح
من الجواب ما ذكره.
في رواية أبي حفص رحمه الله تعالى أن
المكاتبة تجوز وتلزم الأم ولا يلزم الغلام من
المال شيء ولكن يعتق بأدائها وهذا لأنه لا
ولاية للأم على الولد في الزام بدل الكتابة
إياه فيكون هذا بمنزلة ما لو كاتب له عبدا
حاضرا وعبدا له غائبا على ألف درهم في القياس
يتوقف العقد في حق الغائب على إجازته لأنه ليس
للحاضر عليه ولاية.
وفي الاستحسان ينفذ العقد وتكون الألف كلها
على الحاضر بقبوله فكان المولى شرط البدل كله
عليه وجعل عتق الآخر معلقا بأدائه وذلك صحيح
بدون القبول من الآخر فكذلك في هذه المسألة.
قال فكاتبها على نفسها أو عليه على ألف درهم.
وهكذا عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي
في وضع هذه المسألة أنها كاتبت عليه فعلى هذا
الجواب مستقيم" لأن المقصود بالكتابة الولد
دون الأم فإن لم تكن الأم داخلة في العقد
يعتبر وجود القبول من الابن إذا كبر أو عقل
ومقصوده الفرق بين حالة الاجتنان في البطن وما
بعد الانفصال فإن في حالة الاجتنان في البطن
لا يتوقف لأنه لا ولاية لأحد عليه في حالة
الاجتنان وإنما يتوقف ماله مجيز حال وقوعه
فأما بعد الانفصال قد تولى عليه في هذا العقد
لما له فيه من المنفعة له فيتوقف على إجازته
وإذا كبر أو عقل فرضي لزمه المال.
ولو قال لأمته ما في بطنك حرمتي ما أدى إلى
ألفا فوضعته لأقل من ستة أشهر فمتى ما أدى فهو
حر لأن ما في البطن في تنجيز العتق كالمنفصل
فكذلك في تعليق عتقه بأدائه المال بخلاف
الكتابة لأن فيها الزام المال إياه ولا ولاية
لأحد عليه في ذلك وليس في التعليق الزام المال
إياه بل التعليق يتم بالمعلق وحده وكلامه قبل
الانفصال وبعده سواء.
ولو قال بعد الانفصال متى أدى إلى هذا المولود
ألفا فهو حر صح وعتق إذا أدى فكذلك إذا قال
قبل الانفصال ولو قال لثلاث إماء له ما في بطن
هذه حر وما في بطن هذه أو في بطن هذه عتق ما
في بطن الأولى وهو مخير في الباقيتين لإدخاله
حرف التخيير بين الثانية والثالثة. ولو قال إن
كان ما في بطن جاريتي غلام فاعتقوه وإن كانت
جارية فاعتقوها ثم مات فكان في بطنها غلام
وجارية فعلى الوصي أن يعتقهما من ثلثه وكان
ينبغي على قياس ما سبق
ج / 7 ص -123-
أن لا
يعتق واحدا منهما لأنه شرط أن يكون جميع ما في
بطنها غلاما أو جميع ما في بطنها جارية وقد
تقدم نظيره في التخيير ولكنه في هذا الموضع
اعتبر مقصود المولى وهو الوصية بإعتاق الغلام
عنه وبإعتاق الجارية وكلامه هذا ليس بتعليق
فكأنه قال اعتقوا ما في بطنها غلاما كان أو
جارية أو كلاهما فيجب على الوصي أو الورثة
تنفيذ الوصية فيهما من ثلثه.
وإن قال: إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت
حرة وإن كانت جارية ثم غلاما فهما حران فولدت
غلاما وجاريتين لا يعلم أيهما أول عتق نصف
الأم لأنها تعتق في حال وهو أن تكون ولادة
الغلام أولا ولا تعتق في حال وهو أن تكون
ولادة الجارية أولا فيعتق نصفها ونصف الغلام
أيضا لأنها إن ولدت الجارية ثم الغلام فالغلام
حر وإن ولدت الغلام أولا فالغلام رقيق فيعتق
نصفه.
قال ويعتق من كل واحدة من الجاريتين ربعها
وتسعى في ثلاثة أرباع قيمتها.
قال: "أبو عصمة رحمه الله وهذا غلط بل الصحيح
أنه يعتق من كل واحدة منهما ثلاثة أرباعها
وتسعى في الربع" لأن إحداهما حرة بيقين فإنها
إن ولدت الغلام أولا عتقت الأم والجاريتان
تعتقان بعتقها, وإن ولدت الجارية أولا ثم
الغلام عتقت إحدى الجاريتين فإحداهما حرة
بيقين والأخرى تعتق في حال دون حال فيعتق
نصفها فيكون السالم لهما حرية ونصف بينهما لكل
واحدة ثلاثة أرباع الحرية.
ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من تكلف لتصحيح
جواب الكتاب فقال إحدى الجاريتين مقصودة
بالعتق في حال فلا يعتبر مع هذا جانب التبعية
بينهما وإذا سقط اعتبار جانب التبعية فاحداهما
تعتق في حال دون حال فيعتق نصفها ثم هذا النصف
بينهما لاستواء حالهما فإنما يعتق من كل واحدة
ربعها ولكن هذا يكون مخالفا في التخريج
للمسائل المتقدمة.
إذا فالأصح ما قاله أبو عصمة رضي الله عنه
وإذا كانت الأمة بين رجلين فأعتق أحدهما ما في
بطنها وهو غني ثم ولدت بعد ذلك بيوم غلاما
ميتا فلا ضمان على المعتق لأن نفوذ عتقه لا
يكون إلا باعتبار حياة الجنين ولم يعلم ذلك
حقيقة ولا حكما حين انفصل ميتا والضمان بالشك
لا يجب, وإن كان رجل ضرب بطنها فألقت جنينا
ميتا فعلى الضارب ما في جنين الأمة نصف عشر
قيمته إن كان غلاما وعشر قيمتها إن كانت
جارية.
وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن العتق
عنده يقتصر على نصيب المعتق من الجنين ويبقى
الرق فيه باعتبار نصيب الشريك فلهذا يجب على
الضارب ما في جنين الأمة ثم يكون على المعتق
نصف ذلك لشريكه لأن جنايته إنما تثبت بما وجب
من الضمان على الضارب فيتقدر حكم الضمان بقدر
ذلك فلهذا كان على المعتق نصف ذلك لشريكه ثم
يرجع به فيما أدى الضارب لأنه بدل نفسه فيكون
تركة له, وقد بينا أن المعتق إذا ضمن يرجع بما
ضمن فيما تركه معتق البعض بعد موته ثم الباقي
ميراث عنه للذي أعتقه إن لم يكن له وارث أقرب
منه من أخ أو نحوه لأن الولاء في جميعه للمعتق
حين ضمن نصيب شريكه
ج / 7 ص -124-
وأما
على قول أبي يوسف ومحمد رحمه الله تعالى يجب
على الضارب ما يجب في جنين الحرة لأن العتق
عندهما لا يتجزأ ويكون ذلك كله للمعتق ميراث
بولائه ويكون على المعتق نصف قيمته لشريكه
معتبرا بوقت الانفصال لأن ضمان العتق إنما
يعتبر بوقت الإعتاق ولكن يتعذر الوقوف على ذلك
لكونه مجتنا في البطن فيعتبر قيمته بأقرب
أوقات الإمكان وذلك بعد الانفصال. وإن لم يضرب
بطنها أحد ولكن ولدت بعد العتق بيوم ولدا حيا
ثم مات فعلى المعتق نصف قيمته معتبرا بوقت
الانفصال لما بينا, فإن لم تلد حتى أعتق الآخر
الأم وهو موسر ثم ولدت فاختار شريكه أن يضمنه
نصف قيمة الأم فله ذلك لأنه بعد اعتاق الجنين
كان متمكنا من استدامة الملك في الأم وقد أفسد
شريكه ذلك حين أعتقها فله أن يضمنه نصف قيمتها
ويرجع بذلك الضمان على الأمة وولاء الأمة للذي
أعتقها وولاء الولد بينهما, في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى لأنهما أعتقاه. وفي قول أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولاء الولد كله
لمعتق الولد, وإن دبر أحدهما ما في البطن ثم
أعتق الآخر الأم البتة وهو غني ثم ولدت بعده
بيوم فإن الذي أعتق الأم يضمن نصف قيمة الأم
ويرجع بذلك عليها ويكون ولاء الأم للذي أعتقها
لما بينا وولاء الولد لهما جميعا في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لأن تدبير المدبر اقتصر
على نصيبه فاستحق نصف ولاء الولد والنصف الآخر
من الولد إنما عتق باعتاق الشريك الذي أعتق
الأم فلهذا كان ولاء الولد بينهما.
وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
التدبير لا يتجزأ فصار كله مدبرا للذي دبره
واستحق ولاء جميعه ويكون هو ضامنا نصف قيمة
الولد لشريكه موسرا كان أو معسرا ثم الشريك
باعتاق الأم يصير ضامنا له نصف قيمتها وولاء
الأم لمن أعتقها وولاء الولد للمدبر لأنه
استحق ولاءه وإن عتق بعد ذلك تبعا للأم فلهذا
كان له ولاء الولد والله أعلم بالصواب.
باب العتق على المال
قال: "رجل أعتق عبده على
مال من عروض أو حيوان أو غير ذلك أو باعه نفسه
أو وهب له نفسه على أن يعوضه كذا فهو جائز
وإذا قبله العبد فهو حر في جميع أحكامه" لأنه
علق عتقه بقبول المال ولأنه جعل التزام المال
من العبد بمقابلة العتق وقد وجد ذلك بقبوله
والولاء للمولى لأنه عتق على ملكه فإن العبد
ليس من أهل أن يملك مالية نفسه فيبطل ملك
المالية بإعتاق المولى وتحدث القوة للعبد
بإيجاب المولى وهو موجب للولاء بعوض كان أو
بغير عوض والمال دين على العبد لأنه التزمه
بقبوله وقد كانت له ذمة صالحة للإلتزام فيها
وتأيدت بالعتق ويجوز وجوب المال عليه وإن لم
يملك ما يقابله من ملك المولى كما يجب المال
على المرأة بقبول الطلاق وعلى القاتل بقبول
الصلح وإن كان لا يملك شيئا بمقابلته ولهذا كل
ما يصلح التزامه عوضا في الطلاق يصلح التزامه
عوضا هنا وإن اختلفا في المال في جنسه أو
مقداره فالقول قول العبد لأنه عتق باتفاقهما
والمال عليه للمولى فالقول في بيانه قوله
والبينة بينة المولى إما لإثباته الزيادة أو
لأنه يثبت حق نفسه ببينة.
ج / 7 ص -125-
ولو
قال المولى: أعتقتك أمس على ألف درهم فلم تقبل
وقال العبد قبلت فالقول قول المولى مع يمينه
لأنه أقر بتعليق العتق بقبوله المال وهو يتم
بالمولى ولهذا يتوقف بعد المجلس إذا كان العبد
غائبا ثم العبد يدعي وجود الشرط بقبوله
والمولى منكر لذلك فالقول قوله كما لو قال له
قلت لك أمس أنت حر إن شئت فلم تشأ وقال العبد
بل قد شئت فالقول قول المولى بخلاف ما لو قال
لغيره بعتك هذا الثوب أمس بألف درهم فلم تقبل
وقال المشتري قبلت فالقول قول المشتري لأن
البائع أقر بالبيع ولا يكون البيع إلا بقبول
المشتري فهو في قوله لم يقبل راجع عما أقر به
وإذا أعتقه على مال حال أو مؤجل فله أن يشتري
بذلك المال منه ما بدا له يدا بيد لأنه دين
يجوز الإبراء عنه ولا يستحق قبضه في المجلس
فيجوز الاستبدال به كالإثمان ولا خير فيه
نسيئة لأن الدين بالدين حرام في الشرع ولو
أعتق أمته على مال فولدت ثم ماتت ولم تدع شيئا
فليس على الولد من ذلك المال شيء لأنه انفصل
عنها بعد حريتها فكان حرا وليس على الحر شيء
من دين مورثه إذا مات ولو أعطته في حياتها
كفيلا بالمال الذي أعتقها عليه جاز لأنها حرة
فثبت المال دينا عليها بصفة القوة والكفالة
بمثله من الديون صحيحة بخلاف بدل الكتابة.
وإن قال لعبده إذا أديت إلي فأنت حر لم يكن
مكاتبا ولم يعتق حتى يؤدي لأن الكتابة توجب
المال على المكاتب بالقبول فيثبت له بمقابلته
ملك اليد والمكاسب وهنا المال لا يجب على
العبد فلا يثبت له ملك اليد والمكاسب ولكن هذا
اللفظ من المولى تعليق لعتقه بأداء المال
فيكون كالتعليق بسائر الشروط ولهذا لا يحتاج
فيه إلى قبول العبد ولا يبطل بالرد ولا يمتنع
على المولى بيعه ولكن متى جاء بالمال عتق وليس
للمولى أن يمتنع من قبوله عندنا استحسانا.
وفي القياس له ذلك وهو قول زفر رحمه الله
تعالى لأنه تعليق العتق بالشرط فلا يجبر
المولى على إيجاد الشرط كما لو علقه بسائر
الشروط وإذا لم يكن مجبرا على إيجاد الشرط لا
يتم الشرط بفعل العبد لأن الشرط أن يتصل
بالمولى نص على ذلك بقوله ولا يتصل به إلا
بقبوله ودليل الوصف أنه لا يسري إلى الولد ولا
يمتنع عليه بيعه ولا يصير العبد أحق بمكاسبه
ولا يحتمل الفسخ والدليل عليه أنه لو باعه ثم
اشتراه ثم جاء بالمال لم يجبر على قبوله فكذلك
قبل البيع لأن حكم التعليق بالشرط لا يختلف
بما قبل البيع وبعده.
وجه الاستحسان أنه مملوك تعلق عتقه بأداء مال
معلوم إلى المولى فإذا خلى بين المال والمولى
يعتق كالمكاتب وتأثيره أن هذا اللفظ باعتبار
الصورة تعليق وباعتبار المعنى والمقصود كتابة
لأنه حثه على اكتساب المال ورغبة في الأداء
بما جعل له من العتق وليست الكتابة إلا هذا
وهذا المال عوض من
وجه ألا ترى أن في زوجته الطلاق بهذه الصفة
يكون بائنا وأن المولى لو وجد المال زيوفا
فرده كان له أن يستبدله بالجياد وما تردد بين
أصلين يوفر حظه عليهما فوفرنا عليه التعليق في
الابتداء لمراعاة لفظ المولى ودفع الضرر عنه
ووفرنا عليه معنى الكتابة في الانتهاء دفعا
للضرر والغرور عن العبد فقلنا كما وضع المال
بين يدي
ج / 7 ص -126-
المولى
يعتق يدل عليه أنه علق العتق بفعل يباشره
العبد وهو الأداء وفي مثله لا يكون للمولى أن
يمتنع منه ولا أن يمنع عبده من ذلك الفعل كما
لو قال له أنت حر إن شئت فشاء العبد في المجلس
يعتق وليس للمولى أن يمتنع من ذلك الفعل. فأما
إذا باعه ثم اشتراه قد روى عن أبي يوسف رحمه
الله تعالى أنه إذا جاء بالمال يعتق وهذا وما
قبل البيع سواء لأن التعليق لا يبطل بالبيع
وعلى ما ذكره في الزيادات أنه لا يجبر المولى
على القبول والعذر واضح فإن معنى التعليق لا
يبطل بالبيع ولكن معنى الكتابة يبطل بنفوذ
البيع فيه وإجبار المولى على القبول كان من
حكم الكتابة وقد بطل ذلك بنفوذ البيع فيه
فلهذا لا يجبر على القبول بعده فأما قبل البيع
معنى الكتابة باق كما بينا.
ولسنا نعني بقولنا يجبر المولى على القبول
الإجبار حسا وإنما نعني أن بمجرد التخلية بينه
وبين المال يعتق وليس للمولى أن يمتنع عنه
وإذا أحضر العبد المال لا يمكن المولى من أن
يهرب منه ثم لا يعتق العبد إلا بأداء جميع
المال لأن الشرط لا يتم إلا به حتى لو بقي من
المال درهم فهو عبد على حاله ولمولاه أن يبيعه
وكذلك لو كان قال له إن أديت إلي ألفا إلا أن
هذا على المجلس في ظاهر الرواية.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه
لا يتوقت بالمجلس كالتعليق بسائر الشروط وجه
ظاهر الرواية. أنه بمنزلة التعليق بمشيئة
العبد لأنه يتخير بين الأداء والامتناع منه
فكما يتوقت بالمجلس إذا قال له أنت حر إن شئت
فكذلك هذا توضيحه أنه في الكتابة يحتاج إلى
القبول في المجلس, والأداء هنا بمنزلة القبول
هناك من حيث أن حكم الكتابة يثبت به فيعتبر
وجود الأداء في المجلس هنا إذا لم يكن في لفظه
ما يدل على الوقت كما يعتبر القبول في المجلس
في الكتابة وإن اختلفا في مقدار المال فالقول
قول المولى مع يمينه لأن التعليق بالشرط تم به
فالقول قوله في بيانه بخلاف مسألة أول الباب
فإن العبد هناك عتق بالقبول فيكون الاختلاف
بينهما في الدين الواجب عليه وهنا لا يعتق إلا
بالأداء فإنما وقع الاختلاف بينهما فيما يقع
به العتق فلهذا كان القول قول المولى فيه. وإن
أقاما البينة فالبينة بينة العبد لأنه لا
منافاة بين البينتين فيجعل كان الأمرين كانا
فأي الشرطين أتى به العبد يعتق ولأن البينات
للإلزام وفي بينة العبد معنى الإلزام فإنها
إذا قبلت عتق العبد بأداء الخمسمائة وليس في
بينة المولى إلزام فإنها وإن قبلت لا يجبر
العبد على أداء المال.
وإذا قال لأمته إذا أديت إلي ألفا فأنت حرة
فولدت ولدا ثم أدت لم يعتق ولدها معها لأنها
إنما عتقت عند الأداء وقد انفصل الولد عنها
قبل هذا فلا يسري إليه ذلك العتق. وقد بينا أن
حكم الكتابة لا يثبت بهذا اللفظ قبل الأداء
فبقي ولدها مملوكا للمولى مطلقا وإن أدت الألف
من مال مولاها عتقت لوجود الشرط وللمولى أن
يرجع عليها بمثله لأن مقصود المولى لم يحصل
بها فإن مقصوده أن يحثها على الاكتساب لتؤدي
من كسبها فيملك المولى ما لم يكن له ملكا قبل
هذا وبأداء مال المولى إليه لا يحصل هذا
المقصود فيرجع عليها بمثله دفعا
ج / 7 ص -127-
للضرر
عنه وكذلك إن أدت من كسب اكتسبه قبل هذا القول
لأن ذلك الكسب من ملك المولى قبل التعليق ولو
أدته من كسب اكتسبته بعد هذا القول لم يرجع
المولى عليها بشيء آخر لأن مقصوده قد تم فإن
استحق المقبوض من يد المولى لم يبطل العتق لأن
الشرط تم بأداء المستحق والعتق بعد وقوعه لا
يحتمل الفسخ وللمولى أن يرجع عليها بمثله لأن
مقصوده لم يحصل بهذا الأداء, ولو كان المولى
مريضا حين قال لها إن أديت إلي ألفا فأنت حرة
فاكتسبت وأدت ثم مات المولى من مرضه فإنها
تعتق من ثلثه في القياس وهو قول زفر رحمه الله
تعالى لأن كسبها ملك المولى فلا يكون ملكه
عوضا عن ملكه والعتق في المرض بغير عوض يكون
معتبرا من الثلث.
وفي الاستحسان تعتق من جميع ماله لأن المؤدى
في حكم العوض حتى إذا وجده زيوفا استبدله
بالجياد ولأن الضرر مندفع عن الورثة حين
استوفى المولى منها مقدار ماليتها وهذا بناء
على اعتبار معنى الكتابة فيه عند الأداء
استحسانا.
ولو قال لها إذا أديت إلي ألفا كل شهر مائة
فأنت حرة وقبلت فهذه مكاتبة وليس له أن يبيعها
وإن أدت عتقت وإن كسرت شهرا واحدا ثم أدت إليه
ذلك الشهر كان جائزا هكذا في نسخ أبي سليمان.
وفي نسخ أبي حفص رضي الله عنه قال لا تكون
مكاتبة وله أن يبيعها قبل الأداء, ولو كسرت
شهرا ثم أدت في الشهر الثاني لم تعتق.
وجه رواية أبي حفص رضي الله عنه أن تعليق
العتق بشرط واحد وبشروط كثيرة سواء كما في
سائر الشروط وليس في هذا أكثر من أنه علق عتقه
بوجود أداء المائة عشر مرات في عشرة أشهر ولو
علقه بأداء الألف جملة واحدة لم تكن مكاتبة
ولا تعتق إلا بوجود صورة الشرط فكذلك إذا علقه
بالأداء عشر مرات.
ووجه رواية أبي سليمان رضي الله عنه أنه أتى
بمعنى الكتابة حين جعل المال مؤجلا منجما عليه
والتأجيل والتنجيم من حكم الكتابة والعبرة في
العقود للمعاني دون الألفاظ, ألا ترى أنه لو
قال ملكتك هذا العبد بكذا كان بيعا وإن لم
يصرح بلفظ البيع ولأن التأجيل والتنجيم
للتيسير وذلك في المال الواجب فعرفنا أنه قصد
إيجاب المال عليه ولا يجب عليه المال إلا
بالكتابة.
ولو قال لها إذا أديت إلي ألفا في هذا الشهر
فأنت حرة فلم تؤدها في ذلك الشهر وأدتها في
غيره لم تعتق على الروايتين جميعا وبهذا
استشهد في نسخ أبي حفص ووجه الفرق على رواية
أبي سليمان أنه ليس في هذا اللفظ ما يدل على
معنى الكتابة من التنجيم والتيسير على العبد
بل فيه اشتراط تعجيل أداء المال فلم يكن كتابه
وقد فات الشرط بمضي الشهر قبل أدائه فلهذا لا
يعتق بخلاف ما إذا صرح بالتنجيم.
وإذا قال متى أديت إلي ألفا فأنت حرة فمات
المولى قبل الأداء بطل هذا القول كما
ج / 7 ص -128-
يبطل
التعليق بسائر الشروط إذ لا فائدة في بقائه
بعد موت المولى لأنها صارت مملوكة للوارث فلا
يتوهم وجود الشرط بعد هذا على ملك المولى
لتعتق به بخلاف الكتابة فإن المكاتب ثبت له
حكم المالكية يدا بعقد الكتابة فلا يصير ملكا
للوارث ولكن يبقى على حكم ملك المولى حتى يعتق
بأدائه وإن كان قال إن أديت ألفا بعد موتي
فأنت حرة فهذه وصية لأن العتق بمال والعتق
بغير مال في صحة إيجابه من المولى سواء.
ولو قال أنت حرة بعد موتي كان صحيحا فكذلك إذا
قال إذا أديت ألفا بعد موتي فأنت حرة إذا جاءت
بالمال فعلى الوصي أن يقبله منها ويعتقها ثم
إن كانت قيمتها ألف درهم أو أقل فليس عليها
شيء آخر استحسانا, وإن كانت قيمتها أكثر من
ذلك فالفضل يعتبر من الثلث وهذا ومسئلة المريض
سواء.
ولو قال لعبدين له إذا أديتما إلي ألفا فأنتما
حران فأدى أحدهما حصته لم يعتق لأن شرط العتق
أداؤهما جميعا المال والشرط يقابل المشروط
جملة ولا يقابله جزءا فجزءا وإنما ذلك من
أحكام المعاوضات وكذلك لو أدى أحدهما جميع
الألف من عنده لم يعتق لأن الشرط أداؤهما فلا
يتم بأداء أحدهما فإن قال المؤدي خمسمائة من
عندي وخمسمائة بعث بها صاحبي لاؤأديها إليك
عتقا لأن أداء الرسول كأداء المرسل فيتم الشرط
بهذا وهو أداؤهما جميعا المال فإن أداها عنهما
رجل آخر لم يعتقا لأن الشرط أداؤهما بخلاف
الكتابة فإن شرط العتق هناك براءته عن المال
وذلك يحصل بأداء الأجنبي إذا قبله المولى ثم
للمؤدي أن يرجع فيها لأنه أداها ليعتقا به ولم
يحصل مقصوده فإن قال أؤديها إليك على أنهما
حران أو على أن تعتقهما فقبل على ذلك عتقا
ويرجع المال إلى المؤدي أما العتق فلأن قبول
المولى على هذا الشرط بمنزلة الإعتاق من
المولى إياهما وأما ثبوت حق الرجوع فلأن عوض
العتق لا يجب على الأجنبي وقد بينا هذا في
الباب المتقدم, وإذا أداها وقال هما أمراني أن
أؤديها إليك عنهما فقبلها عتقا لأنه رسول
عنهما في الأداء وأداء الرسول كأداء المرسل
وقوله لعبده متى أديت إلي ألفا فأنت حر أو إن
أديت أو إذا أديت إذن منه له في التجارة
استحسانا لوجود دليل الإذن فإنه حثه على أداء
المال ولا يتمكن من الأداء إلا بالاكتساب
فيكون هذا ترغيبا له في الاكتساب ليؤدي المال
ولم يرد الاكتساب بالتكدي لأنه يدني المرء
ويخسسه وإنما مراده الاكتساب بالتجارة ودلالة
الإذن كصريح الإذن ألا ترى أنه لو قال أد إلي
ألفا كل شهر كذا كان ذلك منه إذنا له في
التجارة فإن اكتسب ألفي درهم فأدى إليه ألفا
عتق لوجود الشرط وللمولى أن يأخذ منه الألف
الباقية لأنه كسب عبده بخلاف المكاتب فقد ثبت
له المالكية يدا في مكاسبه بعقد الكتابة فلهذا
سلم الفضل له وهنا ما ثبت للعبد حكم المالكية
في مكاسبه وإنما اعتبرنا معنى الكتابة عند
الأداء ليندفع الضرر والغرور عن العبد وذلك في
قدر ما شرط عليه أداؤه فأثبتنا حقه بذلك القدر
وما زاد عليه فهو للمولى لأن الثابت بالضرورة
لا يعدو موضع الضرورة.
ج / 7 ص -129-
وإن
قال إذا أديت إلي ألفا فأنت حر فقال العبد
للمولى حط عني منها شيئا أو اقبل مني مكانها
مائة دينار فحط عنه المولى مائة درهم وأدى
تسعمائة لم يعتق, ألا ترى أنه لو أبرأه عن
جميع المال لم يعتق وهذا لأن الشرط وجود أداء
الألف فلا يتم بأداء تسعمائة بخلاف الكتابة
فإن المال هناك واجب على المكاتب فيتحقق
إبراؤه عنه سواء أبرأه عن الكل أو حط بعضه
وهنا لا مال على العبد فالحط والإبراء باطل
ولا يعتق ما لم يتم الشرط وليس للعبد أن يسترد
من المولى ما أخذ منه لأن كسبه مملوك لمولاه
وهو نظير ما لو قال له إذا خدمتني سنة فأنت حر
فخدمه أقل من سنة وتجاوز المولى عما بقي لم
يعتق لأن الشرط لم يتم وكذلك لو صالحه من
الخدمة على مال كان باطلا ولا يعتق بها لأن
العتق المتعلق بالشرط لا ينزل ما لم يوجد
الشرط بعينه ولا تتحقق الخدمة بهذا الصلح فلا
يعتق به إلا أن يقول المولى له عند الصلح أنت
حر إن أديت هذا.
ولو قال لعبده إن أديت إلي كذا من العروض فأنت
حر فأداها إليه عتق لوجود الشرط إلا أنه إن
كان ذلك شيئا يصلح أن يكون عوضا في الكتابة
يجبر المولى على قبوله بمنزلة الألف وإن كان
لا يصلح عوضا في الكتابة لا يجبر على قبوله
ولكن إن قبله يعتق لأن الإجبار على القبول
باعتبار معنى الكتابة.
ولو قال أخذ مني وولدي سنة ثم أنت حر أو إذا
خدمتني وإياه سنة فأنت حر فمات المولى قبل مضي
السنة لم يعتق به لأن الشرط لم يتم وقد بينا
أن التعليق يبطل بموت المولى وكذلك إن مات
الولد فقد فات شرط العتق بموته فلا يعتق بعد
ذلك.
ولو قال أنت حر على أن تخدمني سنة فقبل فهو حر
والخدمة عليه يؤخذ بها لأنه أوجب له العتق هنا
بقبول الخدمة وفي الأول أوجب له العتق بوجود
الخدمة ثم الخدمة في مدة معلومة تصلح أن تكون
عوضا فيصح التزامه دينا بمقابلة العتق فإن مات
المولى فللورثة أن يأخذوه بما بقي من خدمة
السنة من قيمته في قياس قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى الآخر وهو قول أبي يوسف رحمه الله
تعالى وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله
تعالى إنما يأخذونه بما بقي من الخدمة.
قال عيسى وهذا غلط بل على قولهم جميعا هنا
يأخذونه بما بقي من خدمة السنة لأن الخدمة دين
عليه فيخلفه وارثه بعد موته كما لو كان أعتقه
على ألف درهم واستوفى بعضها ثم مات كان للورثة
أن يأخذوه بما بقي من الألف ولكن في ظاهر
الرواية يقول الناس يتفاوتون في الخدمة وإنما
كان الشرط أن يخدم المولى فيفوت ذلك بموت
المولى كما يفوت بموت العبد ولو مات العبد قبل
تمام السنة فللمولى أن يأخذ من تركته بقدر ما
بقي عليه من خدمة السنة من قيمته في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى الآخر وهو قول أبي يوسف
رحمه الله تعالى وفي قوله الأول وهو قول محمد
رحمه الله تعالى من قيمة الخدمة.
وأصل المسألة في كتاب البيوع إذا باع نفس
العبد منه بجارية فاستحقت أو هلكت قبل
ج / 7 ص -130-
القبض في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر وهو قول أبي يوسف
رحمه الله تعالى يرجع على العبد بقيمة نفسه
وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى
يرجع بقيمة الجارية إلا أن هذا القدر ليس بقوي
فإن الخدمة عبارة عن خدمة البيت وهو معروف بين
الناس لا يتفاوتون فيه فلا يفوت بموت المولى
ولكن الأصح أن يقول الخدمة عبارة عن المنفعة
والمنفعة لا تورث فلا يمكن إبقاء عين الخدمة
بعد موت المولى فلهذا كان المعتبر قيمته أو
قيمة الخدمة على حسب ما اختلفوا فيه والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع
والمآب.
باب بيع أمهات الأولاد
قال: "رضي الله عنه بيع أم الولد باطل في قول
جمهور الفقهاء وكان بشر المريسي وداود ومن
تبعه من أصحاب الظواهر رضوان الله عليهم
أجمعين يجوزون بيعها" لأن المالية والمحلية
للبيع قبل الولادة معلوم فيها بيقين فلا يرتفع
إلا بيقين مثله وخبر الواحد لا يوجب علم
اليقين, ولكنا نقول في معارضة هذا الكلام لما
حبلت من المولى امتنع بيعها بيقين فلا يرتفع
ذلك إلا بيقين مثله ولا يقين بعد انفصال
الولد, "فإن قال" إنما امتنع بيعها لأن في
بطنها ولدا حرا وقد علمنا انفصاله عنها.
قلنا: لا كذلك بل إنما امتنع بيعها لثبوت
الحرية في جزء منها فإن الولد يعلق من الماءين
حر الأصل وماؤها جزء منها وثبوت الحرية لجزء
منها مانع من بيعها وهذا المعنى لا ترتفع
بالانفصال وإليه أشار عمر رضي الله عنه فقال
أبعد ما اختلطت لحومكم بلحومهن ودماؤكم
بدمائهن أو إنما امتنع بيعها لأنها صارت
منسوبة إليه بواسطة الولد يقال أم ولده وهذه
النسبة توجب العتق فيمتنع البيع ضرورة
وبالانفصال يتقرر هذا المعنى ولا يرتفع.
ثم الآثار المشهورة تدل على ذلك فمنه حديث
عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي
صلى اله عليه وسلم قال:
"أيما أمة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر
منه" ولما ولدت مارية إبراهيم من رسول الله صلى اله عليه وسلم ورضي عنها
وقيل لرسول الله صلى اله عليه وسلم ألا
تعتقها؟ قال:
"قد أعتقها ولدها" ففي هذين الحديثين دليل استحقاق العتق لها وذلك يمنع البيع.
وفي حديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال أمر
رسول الله صلى اله عليه وسلم يعتق أمهات
الأولاد من غير الثلث, وأن لا يبعن في دين
ففيه دليل استحقاق العتق وانعدام المالية
والتقوم فيها حين لم يجعل عتقها من الثلث ولم
يثبت حق الغرماء فيها.
وفيه دليل أنه لا يجوز بيعها لحاجة المولى في
حياته ولا بعد موته وحديث سلامة بنت معقل قالت
اشتراني الحباب ابن عمرو فولدت منه ثم مات
فجئت إلى النبي صلى اله عليه وسلم فأخبرته أني
ولدت من الحباب فقال: "من وارث الحباب؟" فقال أبو بشر بن عمرو فقال:
"أعتقوا هذه فإذا أتانا سبي فأتونا حتى نعوضكم" وتأويله أن وارث الحباب كان ينكر ولادتها منه ومع ذلك
ج / 7 ص -131-
أمره
رسول الله صلى اله عليه وسلم أن يعتقها
احتياطا ووعده العوض من عنده فهو دليل على أن
الاستيلاد إذا كان ظاهرا ثبت به استحقاق العتق
ولا يجوز بيعها.
وحديث عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه قال استشارني عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه في عتق أمهات الأولاد فاجتمعت أنا
وهو على عتقهن ثم رأيت بعد ذلك أن أرقهن فقال
أبو عبيدة رأي ذوي عدل أحب إلي من رأي ذي عدل
وحده فدل أنهم كانوا مجمعين على استحقاق العتق
لها في الابتداء.
فإن قيل: فكيف جوز علي رضي الله تعالى عنه
مخالفة الإجماع بعد ذلك؟
قلنا: يحتمل أنه كان من مذهبه أن الإجماع لا
يتم إلا بانقراض ذلك العصر ويحتمل أن معنى
قوله ثم رأيت أن أرقهن إلى أداء السعاية فلا
يكون هذا منه خلافا في أصل استحقاق العتق بل
في صفته أنه من الثلث أو من جميع المال.
وعن إبراهيم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كان ينادي على منبر رسول الله صلى اله عليه
وسلم ألا إن بيع أمهات الأولاد حرام ولا رق
عليها بعد موت مولاها وعن إبراهيم في أم الولد
إذا أسقطت سقطا قد استبان خلقه كانت به أم ولد
هكذا, روى عنه حماد وروى عنه الحكم إذا أسقطت
مضغة أو علقة كانت به أم ولد وكأنه على هذه
الرواية اعتبر نفس اختلاط الماءين كما في حديث
عمر رضي الله عنه
ولسنا نأخذ بهذا وإنما نأخذ بحديث حماد عنه
لأن السقط الذي لم يستبن شيء من خلقه ليس بولد
فلا تصير به أم ولد بخلاف السقط الذي استبان
بعض خلقه فإنه ولد في الأحكام فيتحقق نسبتها
إليه بواسطة
وإذا أقر الرجل أن حمل أمته منه صارت أم ولد
له وله خدمتها ووطؤها ولا يجوز له أن ينقل
ملكها إلى غيره أما إذا ظهر ولادتها بعد هذا
الإقرار فلا إشكال فيه لأن نسب الولد ثبت منه
بإقراره فإن ثبوت النسب من وقت العلوق بإقراره
وإقراره مصادف محله وأما إذا لم تظهر ولادتها
وزعم المولى أنه كان ريحا في بطنها وصدقته في
ذلك فهي بمنزلة أم الولد أيضا لأن الحمل اسم
للولد وقد ثبت لها حق العتق بإقراره المتقدم
فلا يصدقان على إبطاله كما لا يصدقان على
إبطال حقيقة العتق وكذلك لو كان قال ما في
بطنك من ولد فهو مني ولو كان قال ما في بطنك
مني ثم تصادقا أنه كان ريحا في بطنها فله أن
يبيعها لأنه ليس في لفظه تصريح بوجود الولد في
بطنها فلا يكون مقرى لها بحق العتق بهذا اللفظ
بخلاف ما سبق.
وإن قال إن كانت حبلى فهو مني فولدت ولدا أو
أسقطت سقطا قد استبان خلقه فإن أقر المولى به
فهي أم ولده إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر
لأن ولادتها هذا الولد ثبت بإقراره ووجوده في
البطن عند دعواه معلوم وإن أنكر المولى
الولادة فشهدت عليه امرأة جاز ذلك وثبت النسب
لأن الولادة تثبت بشهادة المرأة الواحدة كما
تثبت بإقراره, ثم النسب وأمية الولد إنما تثبت
بإقرار المولى لا بشهادة القابلة وإذا ولدت
المدبرة من السيد صارت أم ولد له وبطل
التدبير.
ج / 7 ص -132-
معناه
أنه لا يظهر حكم التدبير بعد ثبوت أمية الولد
لأن كل واحد منهما يوجب استحقاق العتق لها في
الحال وتعلق التنجز بموت المولى والاستحقاق
بالاستيلاد أقوى حتى يكون من جميع المال
والتدبير من الثلث والضعيف لا يظهر في مقابلة
القوي فلهذا قال وقد بطل التدبير, وإذا أقر في
صحته أن أمته هذه قد ولدت منه صارت أم ولده
لأنه أقر باستحقاق العتق لها في حال يملك
إنشاء عتقها مطلقا والمقر يعامل في حق نفسه
كأنما أقر به حق إذا لم يكن في المحل حق لأحد
سواه كان الثابت بإقراره كالثابت بالمعاينة
وإن أقر بذلك في مرضه فإن كان معها ولد فكذلك
الجواب لأن نسب الولد ثبت منه فإن المريض غير
محجور على الإقرار بالنسب وثبوت نسب الولد
شاهد لها بمنزلة ما لو أقامت البينة على أنها
أم ولده وإن لم يكن معها ولد عتقت من الثلث
لأن إقراره لها باستحقاق العتق بمنزلة تنجيز
العتق ولو نجز عتقها كان من الثلث لأن حق
الورثة قد تعلق بها بمرضه.
توضيحه أنه إذا كان معها ولد فهو محتاج إلى
إثبات نسب ولده منه كيلا يضيع نسله وحاجته
مقدم على حق الورثة فإنما صرفها مع ولدها إلى
حاجته فكانت من جميع ماله وإذا لم يكن معها
ولد فهو بكلامه ما صرفها إلى حاجته بل أقر
بعتقها بعد موته فيكون معتبرا من ثلثه, وإذا
زوج أم ولده من رجل جاز النكاح لأن الفراش
الثابت له عليها سببه ملك اليمين وذلك غير
ملزم للمولى فلا يمنع صحة تزويجه إياها فإذا
ولدت من الزوج فولدها بمنزلتها أما ثبوت النسب
من الزوج فلأنها ولدته على فراشه وأما ثبوت حق
أمية الولد لهذا الولد فلأنه جزء منها فإنما
ينفصل عنها بصفتها وكما أنها تعتق بالموت ولا
تسعى لأحد فكذلك ولدها من غير المولى, ألا ترى
أن الولد لا ينفصل من الحر إلا حرا وعلى
المولى في جناية أم الولد قيمتها لا يلزمه
أكثر من ذلك وإن كثرت الجناية منها لأنه
بالاستيلاد السابق منع دفعها بالجناية على وجه
لم يصر مختارا لأنه ما كان يعلم أنها تجنى ولو
كانت محل الدفع لم يكن عليه إلا دفعها
بالجناية وإن كثرت الجناية منها فكذلك لا
يلزمه إلا قيمة واحدة لأنه ما منع إلا رقبة
واحدة وأما الدين الذي يلحقها بغصب أو استهلاك
فإنها تسعى فيه بالغا ما بلغ لأن الدين ثابت
في ذمتها, ولو كانت محل البيع لكانت تباع فيه
ويصرف كسبها ورقبتها إلى ديونها فإذا تعذر
بيعها بالاستيلاد وجب قضاء ديونها من كسبها
بخلاف الجناية فإنها تتباعد عن الجاني وتتعلق
بأقرب الناس إليه, ألا ترى أن دين المملوك
يبقى في ذمته بعد بيعه ولا تبقى الجناية في
رقبته بعد بيعه أو عتقه, وولد أم الولد ثابت
النسب من المولى ما لم ينفه لأنها فراش له
وقال عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" ولكن
ينتفي عنه بمجرد النفي عندنا.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى إن لم يكن
استبرأها بحيضة يلزمه نسب ولدها وليس له أن
ينفيه وإن كان قد استبرأها بحيضة بعد ما وطئها
لا يلزمه نسب ولدها إلا بالدعوة.
وحكمها وحكم الأمة التي ليست بأم ولد سواء
عنده بناء على أصلين له أحدهما أنه لا عدة على
أم الولد بعد العتق كالأمة القنة وإنما يلزمها
الاستبراء بحيضة وقد بينا هذا في كتاب
ج / 7 ص -133-
النكاح. والثاني أن عنده الأمة تصير فراشا
بنفس الوطء وقد بينا هذا أيضا فيما أمليناه من
شرح الدعوى فإذا صارت عنده فراشا بالوطء لا
يرتفع حكم هذا الفراش إلا بالاستبراء, فإن
جاءت بالولد قبل أن يستبرئها يلزمه النسب
لوجود دليله شرعا فلا يملك نفيه كما لو قامت
البينة به وإن استبرأها بحيضة فقد انعدم حكم
ذلك الفراش لأن بسببها كان اشتغال رحمها بمائه
بالوطء وقد انعدم ذلك بالاستبراء فلا يلزمه
النسب إلا بالدعوة وعندنا له على أم الولد
فراش معتبر ولهذا لزمها أن تعتد بثلاث حيض بعد
العتق فثبت النسب باعتبار الفراش ولكن هذا
الفراش غير ملزم في حقه ولهذا يملك تزويجها من
غيره فكما ينفرد بنقل الفراش إلى غيره ينفرد
بنفي نسب الولد وإنما يملك نفيه ما لم يقض به
القاضي أو يتطاول ذلك فأما بعد قضاء القاضي
فقد لزمه بالقضاء على وجه لا يملك إبطاله
وكذلك بعد التطاول لأنه يوجد منه دليل الإقرار
في هذه المدة من قبول التهنئة ونحوه فيكون
كالتصريح بالإقرار. واختلافهم في مدة التطاول
قد سبق بيانه في باب اللعان من كتاب الطلاق,
فأما الأمة والمدبرة فلا يلزمه ولدهما وإن
حصنهما وطلب ولدهما ما لم يقربه لأن الفراش
على المملوكة لا يثبت بالوطء عندنا والنسب لا
يثبت بدون الفراش إلا أنه روي عن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى أنه إذا وطئها ولم يعزل عنها
وحصنها فله أن يدعي نسب ولدها وليس له أن
ينفيه فيما بينه وبين ربه لأن الظاهر أنه منه
والبناء على الظاهر واجب فيما لا تعلم حقيقته,
فأما إذا عزل عنها أو لم يحصنها فله أن ينفيه
لأن هذا الظاهر يقابله ظاهر آخر.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا وطئها
ولم يستبرئها بعد ذلك حتى جاءت بالولد فعليه
أن يدعيه سواء عزل عنها أو لم يعزل حصنها أو
لم يحصن تحسينا للظن بها وحملا لأمرها على
الصلاح ما لم يتبين خلافه ولأن ما يظهر عقيب
سببه يكون محالا به عليه حتى يتبين خلافه وعند
محمد رحمه الله تعالى لا ينبغي له أن يدعي
النسب إذا لم يعلم أنه منه ولكن ينبغي له أن
يعتق الولد ويستمتع بها ويعتقها بعد موته لأن
استلحاق نسب ليس منه لا يحل شرعا فيحتاط من
الجانبين وذلك في أن لا يدعي النسب ولكن يعتق
الولد ويعتق الأم بعد موته لاحتمال أن يكون
منه ولا ينبغي له أن يزوج أم ولده حتى
يستبرئها بحيضة لجواز أن تكون حاملا من المولى
فلا يكون تزويجها صحيحا ولكن هذا التوهم يوجب
الاحتياط ولا يبطل النكاح فإذا اشتراها فقد
علم أنها ليست بحامل فيتزوجها بعد ذلك, وإن
زوجها قبل الاستبراء فولدت لأقل من ستة أشهر
فهو من المولى والنكاح فاسد لأنا تيقنا أن
العلوق سبق النكاح على فراش المولى وإن زوجها
وهي حامل ومن كان في بطنها ولد ثابت النسب من
أحد لا يجوز تزويجها وإن ولدته لأكثر من ستة
أشهر فالنسب ثابت من الزوج لأنها علقت على
فراشه فإن ادعاه المولى عتق بإقراره ونسبه
ثابت من الزوج وقد تقدم بيان هذا الفصل, وإذا
حرمت أم الولد على مولاها بوطء ابنه إياها فإن
جاءت بولد بعد ذلك لأكثر من ستة أشهر لم يلزمه
إلا أن يدعيه.
ج / 7 ص -134-
وعند
زفر رحمه الله تعالى ثبت النسب منه وله أن
ينفيه لأنه ما اعترض على فراش آخر فيكون النسب
ثابتا منه بالفراش وثبوت الحرمة بهذا السبب
كثبوتها بالحيض وذلك لا يقطع الفراش, ولكنا
نقول تحسين الظن بالمسلم واجب فلو أثبتنا
النسب منه من غير دعوة لكان فيه حمل أمره على
الفساد والحكم عليه بمباشرة الوطء الحرام وذلك
لا يجوز إلا أن توجد الدعوى منه فحينئذ يحكم
بذلك بإقراره وإن جاءت به لأكثر من سنتين وإن
جاءت به لأقل من سنتين وزعم أنه كان من علوق
قبل الحرمة وجب قبول قوله في ذلك للإحتمال
وإذا مات عن أم ولده أو أعتقها فعليها أن تعتد
بثلاث حيض هكذا نقل عن علي و ابن مسعود رضي
الله عنهما وقد بينا هذا في كتاب النكاح وكذلك
إن كانت حرمت عليه قبل ذلك لأنها بالحرمة ما
صارت فراشا لغيره إلا أن يثبت نسب الولد منه
لتحسين الظن به لا لانعدام الفراش حتى إذا
ادعى يثبت النسب منه فإذا أعتقها فقد زال
الفراش إليها بالعتق في هذه الحالة فتلزمها
العدة لهذا وإذا أعتق أم ولده فجاءت بولد ما
بينها وبين سنتين من يوم أعتقها فنفاه فنفيه
باطل لأن فراشها قد تأكد بحريتها, ألا ترى أنه
لا يملك تزويجها من غيره ما لم تنقض عدتها
فكانت كالمنكوحة في هذه الحالة والمعتدة من
نكاح متى جاءت بولد لأقل من سنتين من وقت
الفرقة ثبت النسب من الزوج على وجه لا يملك
النفي فكذلك هنا وإن أقرت بانقضاء عدتها بثلاث
حيض ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ثبت النسب
منه وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لا يثبت
نسبه منه كما في المعتدة من نكاح, وإذا تزوج
أمة رجل فولدت ثم اشتراها أو ملكها بسبب آخر
صارت أم ولد له عندنا, وعلى قول الشافعي رحمه
الله تعالى لا تصير أم ولد له.
وفي المغرور إذا ملك الجارية له وجهان احتج
بقوله صلى اله عليه وسلم:
"أيما أمة ولدت من سيدها فشرط لثبوت حق العتق لها أن تلد من سيدها" وهذه ولدت
من زوجها لا من سيدها والمعنى فيه أنها علقت
برقيق فلا تكون أم ولد بذلك كما لو استولدها
بالزنى ثم ملكها وتأثيره أن ثبوت حق أمية
الولد إذا علقت من سيدها باعتبار أن الولد
يعلق حر الأصل من الماءين وماؤها جزء منها
فثبوت الحرية لذلك الجزء يوجب ثبوت الحرية
لجميعها إلا أن اتصال الولد بها بعرض الانفصال
وجعل الولد كشخص على حدة في بعض الأحكام
فلوجود حقيقة الاتصال أثبتنا حق العتق لما بقي
منها ولكونه بعرض الانفصال وبمنزلة شخص على
حدة في بعض الأحكام لا تثبت حقيقة الحرية لما
بقي منها في الحال وهذا المعنى لا يوجد إذا
علقت برقيق وحقها في أمية الولد ليس في معنى
حق الولد في الحرية لأن الولد إنما يعتق عليه
باعتبار الجزئية ولهذا لو كان الاستيلاد
بالزنى فملكه يعتق عليه ولا يوجد ذلك المعنى
في حق الأم وعلى هذا الطريق يقولون في المغرور
أن الجارية تصير أم ولد له إذا ملكها لأنها
علقت بحر والطريق الآخر أن موجب الاستيلاد
ثبوت حق العتق لها فإذا حصل قبل الملك لا يكون
موجبا في الملك الذي يحدث بعده كالتدبير
وحقيقة العتق وعلى هذا الطريق في المغرور
يقولون لا تصير أم ولد له.
ج / 7 ص -135-
"وحجتنا" في ذلك أنه ملكها وله منها ولد ثابت
النسب فتكون أم ولده كما لو استولدها في ملكه
وتأثيره أن حق العتق ثبت لها بالاستيلاد كما
قال صلى اله عليه وسلم
"أعتقها ولدها" والملك في
المحل شرط فإذا تقرر السبب قبل الملك توقف على
وجود شرطه وهو الملك, ألا ترى أن في حرية
الولد لما تقرر السبب قبل الملك وهو النسب
توقف على وجود شرطه وهو الملك حتى إذا ملكه
يعتق فكذلك في الأم لأن حقها تابع لحق الولد
بخلاف التدبير والعتق قبل الملك فإن ذلك, لغو
شرعا فلا يظهر حكمه بعد الملك وهذا السبب
متقرر شرعا.
توضيحه أن حق العتق لأم الولد باعتبار أنها
منسوبة إليه بواسطة الولد فإن للجزئية تأثيرا
في النسبة والولد جزء منها فتصير هي منسوبة له
باعتبار هذه الواسطة حتى يقال أم ولده وهذا
متقرر حتى يثبت نسب الولد بنكاح كان أو بملك
ولا معتبر بما قاله الخصم من حرية الماء الذي
هو في حكم الجزء ولأنه لو أعتق ما في بطن
جاريته لم يثبت لها حق العتق ولا حقيقة العتق
فلو كان ثبوت حق العتق لها باعتبار الاتصال
والجزئية لثبت هنا لأن الثابت لها باعتبار
الجزئية من جنس ما هو ثابت للجزء والثابت
للولد حرية الأصل على وجه لا يعقب الولاء
والثابت لها حق العتق على وجه يثبت به الولاء
ولا مشابهة بينهما فعرفنا أن الطريق فيه ما
قلنا وهو ثبوت نسب الولد ويستوي إن كان النكاح
بينهما ظاهرا أو أقر بذلك وأنكر مولاها ثم ملك
لأن المقر يعامل في حق نفسه كان ما أقر به حق,
فأما إذا استولدها بالزنى وأقر بذلك ثم ملكها
في القياس تصير أم ولد له وهو قول زفر رحمه
الله تعالى لأنه أقر لها بحق العتق وللولد
بحقيقة العتق ثم في حقيقة العتق للولد لا فرق
بين ما إذا أقر به بالنكاح أو الزنى فكذلك في
حق العتق لها.
ولكن استحسن علماؤنا رحمهم الله تعالى فقالوا
إنها لا تصير أم ولد له لأن الموجب لحق العتق
لها صيرورتها منسوبة إليه بواسطة الولد وهذا
المعنى لا يوجد هنا لأن نسب الولد بالزنى لا
يثبت وهي لا تصير منسوبة إليه بدون هذه
الواسطة فلهذا لا تكون أم ولد له فأما الولد
يعتق عليه إذا ملكه لأنه وإن انعدم هذا المعنى
في حق الولد فقد وجد معنى آخر وهو الجزئية لأن
الجزئية لا تنعدم حقيقة بسبب أن الولد بالزنى
والإنسان كما لا يستديم الملك على نفسه لا
يستديم الملك على جزئه فلهذا يعتق الولد إذا
ملكه يقرره أن حال الأم في حق أمية الولد كحال
الأخ فإنه ينسبه إلى أخيه بواسطة الأب ثم من
ملك أخاه من الزنى لا يعتق الأخ لأن الواسطة
قد انعدمت حين لم يثبت النسب بالزنى فكذلك
الواسطة هنا قد انعدمت حين لم يثبت نسب ولدها
بالزنى فلهذا لا تصير أم ولد له ولو زوج أمته
عبده فولدت فادعاه المولى بعتق الولد وتكون
أمه بمنزلة أم الولد له وهنا نسب الولد غير
ثابت من المولى ومع ذلك الجارية تكون أم ولد
له وإنما كان كذلك لاحتمال أن يكون الولد ثابت
النسب من المولى بعلوق سبق النكاح والشبهة بعد
النكاح إلا أن هذا الاحتمال غير معتبر في حق
النسب لثبوت نسبه من الزوج واستغنائه به عن
النسب فبقي معتبرا في حق الأم لأنها محتاجة
إلى حق أمية
ج / 7 ص -136-
الولد
بخلاف ما إذا أقر بالاستيلاد بالزنى لأنه لا
احتمال النسب هناك مع تصريحه بالزنى, وإذا
اشترى أمة لها ثلاثة أولاد فادعى أحدهم فإن
كانوا ولدوا في بطن واحد ثبت نسبهم جميعا منه
لأنهم في حكم النسب كشخص واحد فإنهم خلقوا من
ماء واحد وإن كانوا في بطون مختلفة لم يثبت
إلا نسب الذي ادعاه والباقيان رقيقان ويبيعهما
إن شاء لأنهم ولدوا في غير ملكه فتكون دعوته
فيهم دعوة تحرير ودعوة التحرير بمنزلة الإعتاق
ولو أعتق أحدهم لم يعتق إلا ذاك فكذلك إذا
ادعى نسب أحدهم ولو ولدوا في ملكه بأن ولدت
أمة رجل ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فإن ادعى
الأصغر فإنه يثبت نسب الأصغر منه وله أن يبيع
الآخرين بالاتفاق وإن ادعى الأكبر ثبت نسب
الأكبر منه والأوسط والأصغر بمنزلة الأم ليس
له أن يبيعهما ولا يثبت نسبهما منه إلا على
قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول ثبت نسبهما
منه لأنه ثبت لها حق أمية الولد من حين علقت
بالأكبر ونسب ولد أم الولد ثابت من المولى ما
لم ينفه ولا يجوز أن يقال تخصيص الأكبر
بالدعوة دليل النفي في حق الآخرين لأن هذا
مفهوم والمفهوم ليس بحجة عندنا.
ولكنا نقول يحق عليه شرعا الإقرار بنسب ولد هو
منه ولما خص الأكبر بالدعوة بعد ما لزمه هذا
شرعا كان هذا نفيا للآخرين وهذا نظير ما قيل
السكوت لا يكون حجة ولكن السكوت بعد لزوم
البيان يجعل دليل النفي فهذا مثله وكما أن
دليل الدعوة كالتصريح فدليل النفي كالتصريح به
ولو نفى الآخرين لم يثبت نسبهما وكانا عنده
بمنزلة أمهما, وكذلك لو اشترى ابن أم ولد له
من غيره بأن استولد جارية بالنكاح ثم فارقها
فزوجها المولى من غيره فولدت ثم اشترى الجارية
مع الولدين فالجارية تكون أم ولد له وولده حر,
فأما ولدها من غيره فله أن يبيعه في قول
علمائنا رحمهم الله تعالى ولا تصير بمنزلة
الأم.
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى تصير بمنزلة
الأم ليس له أن يبيعه ويعتق بموته لأنها ولدته
بعد تمام سبب أمية الولد وهو نسب الولد فيكون
حاله كحال أمه, ألا ترى أنها لو ولدته بعد ما
ملكها من غيره كان الولد بمنزلة أمه فكذلك
هنا.
وحجتنا: أن السبب لا يوجب الحكم إلا في محله
والمحل ملكه فما لم يثبت الملك فيها لا يثبت
لها حق أمية الولد بذلك النسب وكل ولد انفصل
قبل ثبوت حق أمية الولد فيها لا يسري حق أمية
الولد لأن السراية باعتبار الاتصال, ألا ترى
أنه لو أعتق أمته وقد ولدت قبل ذلك لم يعتق
الولد فكذلك لا يسري حق أمية الولد إلى الولد
المنفصل قبل ثبوت الحق فيها بخلاف ما تلد بعد
ثبوت الحق فيها وإذا ولدت أمة بين رجلين
فادعاه أحدهما في صحته أو في مرضه فهو ابنه
لأنه يملك جزءا منها وقيام ملكه في جزء منها
كقيام الملك في جميعها في صحة الدعوة فإن
اعتبار جانب ملكه يثبت النسب منه بالدعوة
واعتبار جانب ملك شريكه يمنع من ذلك فيغلب
المثبت للنسب احتياطا, ألا ترى أنه يسقط الحد
عنه بهذا الطريق ويجب العقر فكذلك يثبت النسب
منه بالدعوة لأن الولد محتاج إلى النسب
ج / 7 ص -137-
وبعضه
ملكه فلا بد من إثبات نسب ذلك البعض منه
بدعوته والنسب لا يتجزى في محل واحد والجارية
أم ولد له لأن نصيبه منها صار أم ولد
والاستيلاد لا يحتمل التجزي في محل واحد لأنه
فرع النسب فيصير متملكا نصيب شريكه لضرورة عدم
احتمال الاستيلاد للتجزي ويضمن نصف قيمتها
لشريكه يوم وطئها فعلقت لأن أمية الولد ثبت
لها من وقت العلوق فيصير متملكا نصيب شريكه
عليه من ذلك الوقت ولا يتملكها إلا بعوض فلهذا
يضمن قيمتها من ذلك الوقت وعليه نصف عقرها لأن
أصل الوطء حصل منه ونصفها ملك لشريكه وقد سقط
الحد بشبهة فيجب العقر وإنما قلنا ذلك لأن
تملك نصيب الشريك هنا حكم الاستيلاد لا شرطه
فإن قيام ملكه في نصفها يكفي لصحة الاستيلاد,
وحكم الشيء يعقبه وليس عليه من قيمة الولد شيء
لأن الولد علق حر الأصل باعتبار قيام الملك له
في نصفها وقت العلوق ولأنه حين علق كان ماء
مهينا لا قيمة له فلهذا لا يغرم من قيمة الولد
للشريك شيئا وضمان نصف قيمتها عليه في حالتي
اليسار والعسرة لأنه ضمان التملك إلا أنه روى
المعلي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا
كان المستولد معسرا تؤمر هي بالسعاية في نصف
قيمتها للشريك لأن حق العتق قد ثبت لها فنصيب
الشريك من وجه كأنه احتبس عندها وكذلك إن ادعى
أحدهما نسب الولد وأعتق الآخر الولد وخرج
القول منهما معا فعتق الآخر باطل وكذلك إن
ادعى أحدهما نسب الولد وأعتقها الآخر لأن دعوى
النسب تستند إلى وقت العلوق فيكون سابقا معني
وإن اقترن بالعتق صورة ولما ثبت به للولد حرية
الأصل فاعتاق الآخر إياه باطل وكذلك الأم لما
صارت أم ولد لمدعي النسب من حين علقت فقد
أعتقها الآخر وهو لا يملكها فلهذا كان العتق
باطلا ودعوة الآخر أولى كافرا كان أو مسلما
لأن صحة دعوة النسب باعتبار ملكه وقت العلوق
والمسلم والكافر في ذلك سواء, فإن كانت
الجارية بين مسلم وذمي ومكاتب وعبد فولدت
فادعوا جميعا فدعوة المسلم أولى عندنا.
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى وهو رواية عن
أبي يوسف دعوة المسلم والذمي سواء, أما
المكاتب والعبد فليس لهما حقيقة الملك ولا
تعارض دعوتهما دعوة من له حقيقة الملك وأما
المسلم والذمي فزفر يقول لكل واحد منهما ملك
في نصيبه على الحقيقة وصحة الدعوى باعتبار
الملك فلا يترجح المسلم بإسلامه بعد ما تساويا
في السبب كما في سائر الدعاوى
ولكنا نقول دعوة المسلم توجب الإسلام للولد
ودعوة الكافر توجب الكفر له فيترجح الموجب
للإسلام لأنه أنفع للولد توضيحه أنه لا بد من
اعتبار دعوة المسلم والحكم بإسلام الولد به
وبعد ما حكم بذلك فقول الكافر على المسلم ليس
بحجة فلهذا كانت دعوة المسلم أولى وإن كان
نصيبه أقل الإنصباء لأن صحة دعوته باعتبار أصل
ملكه في جزء منها إذ لا معتبر بقدر الملك في
تصحيح الدعوى وعليه ضمان حصة شركائه من قيمة
الأمة والعقر لما بينا وعلى كل واحد من
الآخرين حصة شركائه من العقر لإقراره بالوطء
حين ادعى النسب, إلا
ج / 7 ص -138-
أن
العبد يؤخذ به بعد العتق لأن وجوب هذا الدين
لا بسبب التجارة فإقراره به صحيح في حقه
فيؤاخذ به بعد العتق ولو كان مكان الحر المسلم
مدبرا مسلما كان الولد ولد الذمي الحر لأن
الملك على الحقيقة له وليس لأحد من شركائه
حقيقة الملك, وقد بينا أن الدعوة بحقيقة الملك
لا تعارضه الدعوة بحق الملك ثم في تصحيح دعوة
الكافر هنا إثبات الحرية للولد وفيه منفعة
ظاهرة له ولا يقال في تصحيح دعوة المملوك
إثبات الإسلام للولد لأن في الحال منفعته في
الحرية فيما يرجع إلى أمور الدنيا أظهر
وباعتبار المال إذا بلغ لا يمكنه أن يحصل
الحرية لنفسه ويمكنه أن يكتسب سبب الإسلام
لنفسه بأن يهديه الله تعالى فيسلم فلهذا رجحنا
جانب الحرية وجعلنا الولد ولد الذمي الحر ولو
لم يكن فيهم ذمي كان ابن المكاتب لأن للمكاتب
حق الملك في كسبه وليس للعبد والمدبر ذلك فلا
تعارض دعوتهما دعوة المكاتب يقرره أن المكاتب
له نوع مالكية فإنه مالك يدا ولو رجحنا دعوته
ثبت للولد مثل ذلك أيضا لأنه يتكاتب عليه.
فلهذا رجحنا دعوته على دعوة المدبر والعبد ولو
لم يكن فيهم مكاتب لم تجز دعوى المدبر والعبد
لأن كسبهما ملك المولى ودعوى النسب في ملك
الغير لا يصح من الحر فكيف يصح من العبد
وبنحوه علل فقال من قبل أن المولى لم يزوجهم,
ولو صدقهما المولى بالولد وقالا كنا وطئناها
بغير نكاح لم يثبت النسب أيضا لما قلنا. وذكر
في كتاب الدعوى أن دعوة العبد المأذون نسب ولد
جارية من كسبه تكون صحيحة كدعوة المكاتب لما
للمأذون من اليد في كسبه فقالوا تأويل ما ذكر
هنا أن العبد إذا كان محجورا عليه فوهب له
جارية وهو فارغ عن الدين حتى يكون كسبه خالص
حق المولى وليس له فيه يد ولا ملك فحينئذ لا
يثبت النسب منه إذا لم يدع شبهة, وإذا ولدت
الأمة من الرجل ثم اشتراها هو وآخر فهي أم ولد
له لأن نصيبه منها صار أم ولد له والاستيلاد
لا يحتمل التجزي فيثبت في نصيب شريكه أيضا
ويضمن لصاحبه نصف قيمتها موسرا كان أو معسرا
لأن هذا ضمان التملك فالرضا لا يمنع وجوبه
وكذلك إن ورثاها لأن ضمان التملك لا يعتمد
الصنع وبالإرث إنما ينعدم الصنع وهذا لأن وجوب
هذا الضمان باحتباس نصيب الشريك عند المستولد
ملكا وهذا المعنى يتقرر في الميراث فإن ورثا
معها الولد وكان الشريك ذا رحم محرم من الولد
عتق عليهما جميعا لأن علة العتق وهو الملك
والقرابة تم لكل واحد منهما في نصيبه وإن كان
الشريك أجنبيا عتق نصيب الأب وسعى للشريك في
نصيبه لأن وجوب ضمان العتق يعتمد الصنع
والميراث يدخل في ملكه من غير صنع وكذلك إن
اشتريا أو وهب لهما.
عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن عرف الأجنبي
أن شريكه أبوه أو لم يعرف وعندهما يضمن الأب
نصيب الشريك إن كان موسرا وقد بينا هذا فيما
سبق أمة بين رجلين قد ولدت من زوج حر فاشترى
الزوج حصة أحدهما من الأم والولد وهو موسر فهو
ضامن لنصيب شريكه من الأم لأنه يملك نصيبه حين
صارت أم ولد له وشريكه في الولد بالخيار إن
ج / 7 ص -139-
شاء
ضمنه وإن شاء استسعاه وإن شاء أعتقه في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن بالشراء صار
معتقا لنصيبه من الولد ولم يساعده الشريك على
ذلك ولا رضي به ولو أن أمة غرت رجلا من نفسها
فادعت أنها حرة فتزوجها وولدت له ولدا ثم
استحقها رجل فإنه يقضي له بها وبقيمة الولد
والعقر على الواطىءهكذا روي عن عمر وعلي رضي
الله عنهما.
وقد بينا أحكام ولد المغرور في كتاب النكاح
والدعوى ثم إذا عتقت رجع عليها الأب بقيمة
الولد لأن ضمان الغرور كضمان الكفالة والمملوك
إنما يؤاخذ بضمان الكفالة بعد العتق فإن اشترى
أب الولد نصفها من مولاها صارت أم ولد له لأن
نسب ولدها ثبت منه ويضمن نصف قيمتها لمولاها
لأنه يملك النصف الباقي عليه بالاستيلاد وإذا
ادعى رجلان ولد جارية بينهما فهو ابنهما
ويرثهما ويرثاه وحكم ثبوت النسب من رجلين قد
بيناه بتمامه فيما أمليناه من شرح الدعوى.
ومقصوده هنا بيان حكم أمية الولد فنقول
الجارية أم ولد لهما لثبوت سبب ولدها منهما
والاستيلاد لا يحتمل الوصف بالتجزي في المحل
ولكن إذا ثبت لاثنين لا يظهر به حكم التجزي في
المحل كملك القصاص لا يحتمل الوصف بالتجزي في
المحل ثم يجوز أن يجب القصاص لاثنين على شخص
واحد والعتق على قولهما لا يتجزي في المحل ثم
إذا باشره رجلان كان كل واحد منهما معتقا
للنصف فإذا ثبت أنها أم ولد لهما قلنا تخدم كل
واحد منهما يوما كما كانت تفعله قبل هذا لأنه
لا تأثير للاستيلاد في إبطال ملك الخدمة وإذا
مات أحدهما عتقت ولا ضمان للشريك في تركة
الميت بالإتفاق لوجود الرضا منهما بعتقها عند
الموت ولا سعاية عليها في قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رضي الله تعالى عنهما
تسعى في نصف قيمتها للشريك الحي فلو أعتقها
أحدهما في حياته عتقت ولا ضمان على المعتق
للشريك ولا سعاية عليها في قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى, وعندهما يضمن المعتق نصف قيمتها
أم ولد لشريكه إن كان موسرا وتسعى في نصف
قيمتها إن كان معسرا, وأصل هذه المسألة أن رق
أم الولد ليس بمال متقوم.
في قول أبي حنيفة رحمه الله, وعلى قولهما هو
مال متقوم وجه قولهما أنها مملوكة لمالك محترم
فتكون مالا متقوما كالأمة القنة ودليل الوصف
أنه يملك استخدامها واستكسابها ووطأها بملك
اليمين.
ولو قال كل مملوك لي حر تدخل أم الولد في ذلك
وإذا ثبت بقاء ملك اليمين فصفة المالية
والتقوم لا تنفصل عنه لأن المملوكية في الآدمي
ليس إلا عبارة عن المالية والتقوم بكون المالك
محترما ولأن الاستيلاد تعلق عتقها بموته فتكون
مالا متقوما كالمدبرة إلا أن المدبرة تسعى
للغرماء والورثة وأم الولد لا تسعى لأنها
مصروفة إلى حاجته فإن الاستيلاد من حوائجه
كيلا يضيع ماؤه وحاجته مقدمة على حق الغرماء
والورثة كحاجته إلى الجهاز والكفن بخلاف
المدبرة فإن التدبير ليس من أصول حوائجه.
ج / 7 ص -140-
وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى يقول المالية والتقوم
إنما يثبت بالإحراز, ألا ترى أن الصيد قبل
الإحراز لا يكون مالا متقوما وبعد الإحراز
يصير مالا متقوما والآدمي باعتبار الأصل ليس
بمال لأنه مخلوق ليكون مالكا للمال لا ليصير
مالا ولكن متى صح إحرازه على قصد التمول صار
مالا متقوما ويثبت به ملك المتعة تبعا فإذا
حصنها واستولدها فقد ظهر أن إحرازه لها كان
لملك المتعة لا لقصد التمول فصار في صفة
المالية كأن الإحراز لم يوجد أصلا فلا يكون
مالا متقوما وهذا لأن ملك المتعة ينفصل عن ملك
المالية ألا ترى أن للزوج على المنكوحة ملك
المتعة دون ملك المالية.
والدليل عليه من جهة الحكم أنها لا تسعى
للغرماء والورثة وما كان مالا متقوما في حياته
يتعلق به حق غرمائه وورثته وحاجته إلى النسب
فنقول ليس من ضرورة ثبوت نسب الولد ثبوت حق
أمية الولد لها حتى تجعل حاجته مسقطا حق
الغرماء والورثة عنها فعرفنا أنها إنما لا
تسعى للغرماء والورثة لأنه لم يبق فيها صفة
المالية والتقوم بخلاف المدبرة فإن إحرازها
للمالية حين لم يظهر منه قصد إلى إحرازها لملك
المتعة ولهذا تقومت في حق الغرماء والورثة,
إذا عرفنا هذا الأصل فنخرج المسائل عليه منها
أنه لو مات أحدهما فلا سعاية عليها في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لأن نصيب الشريك منها
ليس بمال متقوم فلا يلزمها بدله وإذا أبرئت عن
السعاية عتقت لبراءتها عن السعاية.
وعندهما لما كان نصيب الشريك منها مالا متقوما
وقد سلم لها بالعتق فعليها السعاية كما في
الأمة إذا أعتقها أحد الشريكين وهو معسر وكذلك
لو أعتقها أحدهما عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى لأنها ليست بمال متقوم فلا يكون مضمونا
على الشريك بالإفساد ولا بالإتلاف.
وعندهما يضمن للشريك إن كان موسرا بمنزلة
القنة, ومنها أم الولد بين الشريكين جاءت بولد
فادعاه أحدهما ثبت النسب منه بالدعوة وعتق ولم
يضمن لشريكه شيئا من قيمته ولا سعاية عليه في
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن ولد أم
الولد بمنزلة أمه فلا يكون مالا متقوما عنده
وعندهما يضمن نصيب شريكه إن كان موسرا ويسعى
له الولد إن كان معسرا, ومنها أن أم الولد لا
تضمن بالغصب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
حتى لو غصبها غاصب فماتت عنده لم يضمن شيئا
لأن ضمان الغصب يختص بما هو مال متقوم بخلاف
ضمان القتل فإن الحر يضمن بالقتل دون الغصب
وعندهما أم الولد تضمن بالغصب لأنها مال
متقوم.
وذكر محمد في الرقبات أن عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى أم الولد تضمن بالغصب على نحو ما
يضمن به الصبي الحر حتى لو ماتت حتف أنفسها لم
يضمن الغاصب شيئا ولو قربها إلى مسبعة
فافترسها السبع يضمن لأن هذا ضمان الجناية لا
ضمان الغصب, ألا ترى أنه يضمن الصبي الحر
بمثله والذي يوضح كلام أبي حنيفة أن الباقي
للمولى على أم ولده ملك الخدمة والمنفعة
والمتعة وملك المتعة لا يضمن بالإتلاف ولا
بالغصب بخلاف المدبرة فالباقي عليها ملك
المالية حتى يقضي دينه من ماليتها بعد موته
والمال يضمن بالإتلاف.
ج / 7 ص -141-
ويدخل
على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فصل أم ولد
النصراني إذا أسلمت وفصل المغرور بأم الولد
وسنبين عذر كل فصل في موضعه فإن كانت أم ولد
لرجل خالصة فأعتق نصفها عتق جميعها ولا سعاية
عليها أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلا
سعاية عليها بحال وبراءتها عن السعاية توجب
عتقها وعندهما هي كالأمة القنة في هذا الحكم.
قال: "أمة بين رجلين ولدت ولدين في بطن واحد
أو بطنين مختلفين فادعى أحدهما الولد الأكبر
والآخر الأصغر معا فأنا كانا في بطن واحد فهما
ابناهما جميعا" لأنهما خلقا من ماء واحد فدعوة
كل واحد منهما لأحدهما تكون دعوة لهما وإن
كانا في بطنين فالأكبر ولد الذي ادعاه لأنه
ادعى نسب ولد جارية مشتركة بينهما وقد حصل
العلوق في ملكهما فتستند دعوته إلى حالة
العلوق وتصير الجارية أم ولد له ويضمن نصف
عقرها ونصف قيمتها لمدعي الأصغر فأما الأصغر
في القياس عبد لمدعي الأكبر بمنزلة أمه لا
يثبت نسبه لمدعيه لأن الجارية صارت أم ولد
المدعي الأكبر من حين علقت به فمدعي الأصغر
ادعى نسب ولد أم ولد الغير فلا تصح دعوته
ويضمن جميع العقر لإقراره بوطء أم ولد الغير
وقد سقط الحد عنه للشبهة.
وفي الاستحسان يثبت نسب الأصغر من مدعي الأصغر
لأنها حين علقت بالأصغر كانت مشتركة بينهما في
الظاهر فيصير ذلك شبهة معتبرة في إثبات نسب
الأصغر من مدعيه بالدعوة وقيام الملك له في
نصفها ظاهرا عند ذلك بمنزلة المغرور ونسب ولد
المغرور يكون ثابتا باعتبار الظاهر وإن تبين
الأمر بخلافه ويضمن قيمته كاملة لشريكه أما
على أصلهما فلا يشكل لأن ولد أم الولد عندهما
مال متقوم وقد تبين أن مدعي الأصغر أتلفه
بالدعوة على مدعى الأكبر وإنما الإشكال على
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى والعذر أن يقول
سقوط المالية والتقوم باعتبار ثبوت حق أمية
الولد ولم يثبت في هذا الولد لأنه انفصل من
أمه قبل ثبوت حق أمية الولد فيها بدعوة مدعي
الأكبر وما لم يثبت الحق في الأم لا يسري إلى
الولد فلهذا ضمن قيمتها لشريكه أو عذره هنا
نظير عذره في المغرور بأم ولد الغير أن الولد
يكون حرا بالقيمة لأنه تعلق حر الأصل وثبوت
أمية الولد فيه مبني على ثبوت الرق فإذا لم
يثبت الرق فيه أصلا لا يثبت حكم أمية الولد
فيه وإنما يضمن قيمته لأنه منع حدوث الرق فيه
بسبب الغرور فهذا مثله.
قال: ويضمن العقر لشريكه.
وقال في موضع من كتاب الدعوى يضمن نصف العقر
لشريكه وليس هذا باختلاف الرواية لكن مراده
هنا بيان جميع ما يجب عليه ومراده ثم بيان
حاصل ما يبقى عليه لأنه قد وجب له على مدعي
الأكبر نصف العقر فنصف العقر بنصف العقر, قصاص
يبقى لمدعي الأكبر على مدعي الأصغر نصف العقر.
قال وكذلك لو كان مدعى الأكبر ذميا ومدعي
الأصغر مسلما لأن كل واحد منهما
ج / 7 ص -142-
منفرد
فيما ادعى والترجيح بالإسلام عند المزاحمة
فأما عند عدم المزاحمة تصح دعوة الذمي كما تصح
دعوة المسلم.
قال: "أمة بين رجلين فجاءت بولدين في بطن واحد
أحدهما حي والآخر ميت فادعى أحدهما الميت ونفى
الحي لزمه الحي" لأنهما خلقا من ماء واحد
ودعوته أحدهما بمنزلة دعوتهما فيثبت نسب الحي
منه ولا يملك نفيه بعد ذلك.
فإن قيل: الميت ليس بمحل للدعوة بدليل أنه
لو لم يكن معه ولد حي لا يثبت نسبه منه فإذا
لم تصادف دعوته محله كان لغوا.
قلنا: إنما لا تصح دعوته نسب الميت لأنه غير
مفيد وهذا المعنى ينعدم إذا كان معه في ذلك
البطن ولد حي ولأن معنى قوله هو ابني أي مخلوق
من مائي حتى تصير الجارية أم ولد له فإذا كان
هناك ولد حي فإقراره بأن الميت مخلوق من مائه
إقرار بأن الحي مخلوق من مائه لأنهما خلقا من
ماء واحد فلهذا أثبتنا نسب الحي منه وكذلك لو
ادعى كل واحد منهما الميت أو ادعى كل واحد
منهما أحد الولدين ثبت نسب الحي منهما جميعا
لما بيناه.
قال: "وإذا قال أحد الموليين إذا كان في بطنها
غلام فهو مني وإن كانت جارية فليست مني وقال
الآخر إن كانت جارية فهي مني وإن كان غلاما
فليس مني والقول منهما معا فما ولدت من ولد في
ذلك البطن فهو لهما جميعا" لأن أصل الدعوة من
كل واحد منهما صحيح لما في بطنها والتقسيم
الذي ذكراه باطل فإنه رجم بالغيب وتقسيم فيما
هو في الرحم ولا يعلم ما في الرحم إلا الله
تعالى فإذا لغى هذا التقسيم ثبت النسب منهما
بالدعوة إذا كان القول منهما معا وإن كان
أحدهما سابقا فالولد ولده غلاما كان أو جارية
لأن أصل الدعوة منه قد صح والتقسيم بطل وقد
صارت الجارية أم ولد له فالدعوة من الآخر حصل
في غير الملك وفي ولد ثابت النسب من غيره فكان
باطلا.
قال: "وإن قال أحدهما إن كان في بطنها غلام
فهو مني إلى سنتين وقال الآخر بعد ذلك بيوم إن
كان في بطنها جارية فهي مني إلى سنتين فولدت
غلامين بعد قولهما لتمام ستة أشهر منذ قالا
ذلك لا يثبت النسب بتلك الدعوة فهما رقيقان
لهما" لأنا لم نتيقن بوجودهما في البطن وقت
الدعوة وقول المدعيين إلى سنتين لغو لأنه رجم
بالغيب منهما فلا طريق لهما إلى معرفة مدة
بقاء الولد في البطن وإن جاءت بآخرهما لأقل من
ستة أشهر من القول الأول وجاءت بالأول قبل ذلك
بثلاثة أيام فهما ولدا الأول لأنا تيقنا
بوجودهما في البطن حين ادعى الأول فيثبت
نسبهما منه وهذا لأنهما خلقا من ماء واحد فمن
ضرورة وجود أحدهما وقت دعوته وجود الآخر كذلك
وإن جاءت بالولد الأول لأقل من ستة أشهر من
إقرار الثاني ولأكثر من ستة أشهر من إقرار
الأول فهما ولدا الآخر لأنا لم نتيقن بوجودهما
في البطن وقت دعوة الأول منهما فبطلت دعوته
وتيقنا بوجودهما في البطن وقت دعوة الآخر
فلهذا ثبت نسبهما من الآخر وصارت الجارية أم
ولد له وما ولدت بعد هذا من ولد فهو يلزم
الآخر إلا أن ينفيه.
ج / 7 ص -143-
قال:
"أمة بين رجلين ولدت من رجل قال زوجتمانيها
فصدقه أحدهما فيه وقال الآخر بل بعناكها فإن
نصفها بمنزلة أم الولد" لأن مدعي البيع قد أقر
بأن المستولد استولد ملك نفسه وأنها صارت أم
ولد له وإقراره في نصيبه منها صحيح لأنه مملوك
له في الظاهر قال ونصفها رقيق للذي قال زوجناك
لأنه ينكر أمية الولد في نصيبه وقد بينا أن
أحد الشريكين في الجارية إذا أقر أنها أم ولد
لشريكه لا يثبت حكم الاستيلاد بهذا الإقرار في
نصيب شريكه إذا كذبه فكذلك إذا أقر أنها أم
ولد لغيره.
قال: "ويعتق نصف الولد حصة الذي أقر بالبيع"
لأنه أقر بحرية الولد وإقراره في نصيب نفسه
صحيح ويسعى الولد في نصف قيمته للذي أنكر
البيع بمنزلة ما لو شهد أحد الشريكين على
صاحبه بالعتق إلا أن هناك يسعى للشاهد عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لأنه يدعي السعاية وهنا
لا يسعى الولد للمقر بالبيع لأنه يتبرأ من
السعاية ويزعم أن الولد حر الأصل ثم يكون على
الواطئ العقر لهما نصفه للمقر بالنكاح يأخذه
بحساب المهر لتصادقهما عليه ونصفه لمدعي البيع
يأخذه من الوجه الذي ادعى لأنهما يتصادقان على
وجوب هذا المقدار له وإن اختلفا في جهته فإن
الزوج يقول هو مهر ومدعى البيع يقول هو ثمن
والاختلاف في السبب بعد الاتفاق على وجوب أصل
المال لا يمنع من الاستيفاء فلهذا يستوفيه من
الوجه الذي يدعيه فأما إذا مات أب الولد سعت
الجارية في نصف قيمتها للمقر بالنكاح لأن مدعي
البيع يزعم أنها أم ولد لأب الولد وإنها عتقت
بموته ولا سعاية عليها فيعتبر زعمه في نصيبه
ولا يعتبر في نصيب شريكه فتسعى في نصف قيمتها
لمدعي النكاح.
وهذا عندهم جميعا لأن أمية الولد لم تثبت في
هذا النصف على ما بينا.
قال: "ولو كان الأب ادعى الشراء كانت أم ولد
له ويضمن نصف الثمن للذي صدقه بالبيع" لأن
نصيبه منها صار ملكا لأب الولد لتصادقهما على
البيع والشراء فيصير الكل أم ولد له ويضمن نصف
قيمتها. ونصف عقرها للذي كذبه لأن البيع في
نصيبه لم يثبت فهي كأمة مشتركة بين اثنين
يستولدها أحدهما.
" قال " " ولو كانت الجارية مجهولة لا تعرف
لمن كانت فقال أب الولد زوجتماني وقالا
بعناكها فهي أم ولد له وابنها حر " لأنها في
الظاهر مملوكته فصارت أم ولد وكان ولدها حرا
باعتبار الظاهر ولا يصدق هو في الإقرار أنها
لغيره فيما يرجع إلى إبطال حقها ويكون على
الواطئ القيمة لهما لأن إقراره صحيح في حق
نفسه وقد زعم أنها مملوكة لهما في يده وقد
تعذر عليه ردها عليهما فيغرم قيمتها لهذا ولا
يسقط حقهما عن هذه القيمة إقرارهما بالبيع لأن
البيع لم يثبت حين كذبهما ولأن تعذر الاسترداد
لم يكن بإقرارهما بالبيع. ألا ترى أنهما وإن
جحدا البيع والنكاح جميعا لم يكن لهما حق
الاسترداد.
ثم قال في نسخ أبي سليمان رحمه الله وكذلك لو
كانت معروفة بأنها لهما وهذا غلط والصواب ما
ذكر في نسخ أبي حفص رضي الله عنه ونوادر هشام
ج / 7 ص -144-
قال
ولو كانت معروفة بأنها لهما كان عليه العقر
وهذا لأن تعذر الاسترداد هنا بإقرارهما
بالبيع, ألا ترى أنهما لو أنكرا البيع
والتزويج كانت أمة قنة لهما فيكون إقرارهما
بالبيع مانعا لهما من الاسترداد فلهذا لم يكن
لهما أن يضمناه قيمتها وإنما وجب عليه العقر
لإقراره بالوطء في ملك الغير وقد سقط الحد عنه
بدعوى النكاح فيلزمه العقر.
قال: "وإذا ادعى الواطئ الهبة وادعيا هما
بالبيع والجارية مجهولة لا يدري لمن كانت فهي
أم ولد له باعتبار الظاهر لما بينا وعليه
قيمتها لهما" لأن الهبة لم تثبت لإنكارهما
والبيع لم يثبت بإنكاره إلا أن تعذر الاسترداد
ما كان بإقرارهما بالبيع على ما بينا بل
باستهلاكه جارية زعم أنها لهما فيضمن قيمتها
لهما.
قال: "وإن قالا غصبتها وقال صدقتما وهي مجهولة
لم يصدق عليها بعد الذي دخلها من العتق
باعتبار الظاهر وعليه قيمتها" لأنه أقر بغصبها
منهما وقد تعذر ردها عليهما بما ثبت فيها من
أمية الولد.
قال: "وإن صدقتهم بذلك صدقت وكانت أمة لهما"
لأن الحق لها فإن تصادقوا على شيء ثبت ذلك
بتصادقهم.
وفي رواية أبي حفص وهشام رضي الله عنهما قال
لا تصدق بعد العتق لأنها صارت أم ولد لمن هي
في يديه باعتبار الظاهر وكما لا يقبل قولها في
إبطال حقيقة العتق بعد ما حكم بثبوته فكذلك لا
يقبل قولها في إبطال حق العتق لما في ذلك من
حق الشرع.
قال: "ولو كانت لهما بينة عليها أخذاها وولدها
رقيق لهما" لأن الثابت بالبينة كالثابت
بالمعاينة فظهر أنه غاصب زنى بجارية مغصوبة
فعليه الحد إن لم يدع الشبهة وإن ادعى بيعا أو
هبة أو نكاحا سقط الحد عنه لتمكن الشبهة فقد
آل الأمر إلى الخصومة والاستحلاف والحد بمثله
يسقط ولكن لا يثبت النسب لأن بمجرد دعواه لم
يثبت له في هذا المحل ملك ولا حق ملك وثبوت
النسب ينبني على ذلك.
قال: "وإن ملكها يوما مع ولدها كانت أم ولد له
وكان الولد ولده" لأن إقراره صحيح في حق نفسه
وإنما لم يصح لقيام حق الغير في المحل فإذا
زال بملكه إياها كان كالمجدد للإقرار في هذه
الحالة فيثبت نسب الولد منه لأنه ادعاه بسبب
صحيح محتمل فيكون الولد حرا والجارية أم ولده
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه
المرجع والمآب.
باب مكاتبة أم الولد
قال: "رضي الله عنه وإذا كاتب الرجل أم ولده
على خدمتها أو على رقبتها فذلك جائز" لأنها
مملوكة له وعقد الكتابة يرد على المملوك
ليتوصل به إلى ملك اليد والمكاسب في الحال
والحرية في ثاني الحال وحاجة أم الولد إلى هذا
كحاجة غيرها.
توضيحه أن موجب الكتابة مالكية اليد في
المنافع والمكاسب للمكاتب وأم الولد مملوكة
للمولى يدا وكسبا فيصح منه إثبات هذه المالكية
لها بالبدل ثم كل ما يصلح عوضا في
ج / 7 ص -145-
كتابة
القن يصلح عوضا في كتابة أم الولد فإذا أدت
المكاتبة عتقت لفراغ ذمتها عن بدل الكتابة وإن
مات المولى قبل أن تؤدي عتقت لأن حكم
الاستيلاد باق بعد الكتابة ومن حكم الاستيلاد
عتقها بعد موته.
قال: "ولا شيء عليها من البدل" لأنها كانت
تؤدي لتعتق وقد عتقت فصارت مستغنية عن أداء
البدل كما لو أعتقها في حال حياته ويسلم الكسب
لها لأنها عتقت وهي مكاتبة وبالعتق تتأكد
المالكية الثابتة لها بالكتابة.
قال: "وإن باعها نفسها أو أعتقها على مال
فقبلت فهي حرة والمال دين عليها" لأن أقل
درجاتها أن يكون للمولى عليها ملك المتعة
وإسقاطه الملك ببدل عليها صحيح كالطلاق بجعل
والمال دين عليها لأنها التزمته بقبولها فإن
مات المولى لم يسقط ذلك الدين عنها لأن حكم
الاستيلاد بطل بعتقها في حياته وإنما المال
دين عليها وليس للاستيلاد تأثير في الابراء عن
الدين.
قال: "وإن كاتب أم ولده فجاءت بولد بعد
الكتابة لأكثر من ستة أشهر ثم مات المولى قبل
أن يقربه لا يلزمه النسب" لأنها بالكتابة حرمت
عليه حتى يمنع من وطئها ولو وطئها يغرم عقرا
خارجا من ملكه والفراش ينعدم بمثل هذه الحرمة
فإذا جاءت بالولد لمدة يتوهم أن تكون من علوق
حادث بعد الكتابة لم يثبت النسب وإن جاءت به
لأقل من ستة أشهر فهو ثابت النسب من المولى
لتيقننا أنها علقت به قبل الكتابة وهو حر وقد
عتقت هي أيضا بموت المولى.
قال: "وإن كان حيا فادعاه فهو ابنه وإن جاءت
به لأكثر من سنتين" لأنها ما صارت فراشا لغيره
وحرمتها على المولى إذا كانت بسبب لا تزيل
ملكه عنها ولا تجعلها فراشا لغيره يمنع ثبوت
النسب منه قبل الدعوة ولا يمنع ثبوت النسب منه
بعد الدعوة كما لو حرمت بجماع ابن المولى
إياها ولأنا قبل الدعوة إنما لا نثبت النسب
منه تحرزا عن الحكم عليه بارتكاب الحرام ووجوب
العقر ويسقط اعتبار هذا التحرز إذا أقر هو
بالولد فإن جنت في كتابتها جناية سعت فيها لأن
موجب جنايتها كان على المولى قبل الكتابة لأن
كسبها للمولى وقد زال ذلك بالكتابة فإنها صارت
أحق بكسبها أو كان موجب جنايتها على المولى
لأنه بالاستيلاد كان مانعا دفعها بالجناية وقد
انعدم هذا المعنى بالكتابة لأن المكاتبة ليست
بمحل للدفع فهي والقنة إذا كوتبت سواء.
قال: "وإن جنى عليها كان الإرش لها" لأن إرش
الجناية بمنزلة الكسب وهي أحق بمكاسبها.
قال: "وإن ماتت وتركت ولدا ولدته في المكاتبة
من غير المولى سعى فيما على أمه" لأنه انفصل
عنها وهي مكاتبة فيكون حكمه حكمها باعتبار أنه
جزء من أجزائها وقد كانت في حياتها
ج / 7 ص -146-
تسعى
على النجوم لحاجتها إلى تحصيل العتق لنفسها
بالأداء وحاجة هذا الجزء إلى ذلك كحاجتها
فتبقى الكتابة ببقاء هذا الجزء.
قال: ولو اشترت ابنا لها عبدا لم يكن لها أن
تبيعه لأنه صار داخلا في كتابتها فإن الكتابة
ثبت لها نوع مالكية فإذا كان لها نوع مالكية
ثبت مثل ذلك لولدها وقد بينا أن من يكاتب
عليها يكون مملوكا للمولى حتى إذا أعتقه نفذ
عتقه فيه وابنها وأبواها في ذلك سواء إلا أنها
إذا ماتت عن هذا الابن المشترى فعند أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى يسعى على هذه النجوم
كالابن المولود في الكتابة.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في القياس
يباع هذا الولد في الكتابة لأنه انفصل عنها
قبل ثبوت أمية الولد فيها فلم يثبت حق أمية
الولد لهذا الولد وإن ملكته فيباع بعد موتها
في المكاتبة كسائر أكسابها بخلاف المولود في
الكتابة فإنه بمنزلتها لأنه انفصل منها وهي أم
ولد مكاتبة.
وفي الاستحسان إن جاء بالمكاتبة حالا قبل منه
ولم يبع فيها لأنه في الحقيقة جزء منها فيقوم
مقامها في أداء الكتابة إلا أنه ليس بجزء من
مكاتبة فلا يبقى الأجل ببقائه ولكن يأتي
بالمال حالا فيكون مقبولا منه لما فيه من حصول
مقصود المولى بخلاف المولود في الكتابة لأنه
جزء من المكاتبة يقرره أن السراية من الأصل
إلى الجزء المتصل دون المنفصل فيثبت حقيقة
سراية العقد إلى الولد المولود في الكتابة
فيسعى على النجوم ولا يثبت حقيقة سراية العقد
إلى الولد المشترى فلا يثبت النجوم في حقه
ولكن فيما هو المقصود وهو تحصيل العتق بالأداء
حكم هذا الجزء وحكم الأصل سواء فإذا جاء
بالمال حالا يقبل منه.
قال: "ولو كانت اشترت أباها أو أمها فإنه يؤخذ
فيهما بالقياس بعد موتها فيباعان في المكاتبة
عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى" لأن الأب
والأم ليسا بجزء من الولد وامتناع بيعهما
عليها في حياتها كان لمالهما من الحق في كسبها
وقد انعدم هذا المعنى بموتها لأن حاجتها مقدمة
على حاجة أبويها فلهذا يباعان في مكاتبتها
بخلاف الولد فإنه جزء منها فيجعل بقاء هذا
الجزء كبقائها فيما هو المقصود وقد بينا
اختلافهم في غير الوالدين والمولودين من
القرابات أنه هل يمتنع عليها بيعهم إلا أن
الحاكم الجليل رضي الله عنه ذكر فيما سبق أن
القياس والاستحسان عند أبي حنيفة رحمه الله في
الأخوة وغيرهم.
وقد نص هنا في الأصل أن القياس والاستحسان في
الأب والأم في القياس لها أن تبيعهما لأنهما
لا يتبعانها فلا يمكن إثبات حكم الكتابة فيهما
بطريق التبعية ولهذا لا يمتنع بيعهما بعد
موتها.
وفي الاستحسان يمتنع عليها بيعهما لأن حق
الوالدين يثبت في الكسب ولها كسب على ما قررنا
وهذا هو الأصح.
قال: "وإذا أسلمت أم ولد النصراني قومت قيمة
عدل فبيعت بقيمتها" لأنه تعذر إبقاؤها في
ج / 7 ص -147-
ملك
المولى ويده بعد إسلامها وإصراره على الكفر
فتخرج إلى الحرية بالسعاية كما بينا في معتق
البعض وهذا لأن ملك الذمي محترم فلا يمكن
إزالته مجانا وهو إشكال لهما على أبي حنيفة
رحمه الله تعالى في أن رق أم الولد مال متقوم
وإن وراء ملك المتعة عليها شيء آخر فإن ملكه
المتعة في هذه الحالة يزال من غير بدل كما لو
أسلمت امرأته وأبى أن يسلم.
والعذر لأبي حنيفة رحمه الله تعالى من وجهين:
أحدهما: أن الذمي يعتقد فيها المالية والتقوم
ويحرزها لذلك لأنه معتقد جواز بيعها وإنما
نبني في حقهم الحكم على اعتقادهم كما في مالية
الخمر.
والثاني: أن ملكه فيها محترم وإن لم يكن مالا
متقوما وقد احتبس عندها لمعنى من جهتها فيكون
مضمونا عليها عند الاحتباس وإن لم يكن مالا
متلوما كالقصاص فإنه ليس بمال متقوم ثم إذا
احتبس نصيب أحد الشريكين عند القاتل بعفو
الآخر يلزمه بدله ولم يبين مقدار قيمتها وهي
أم ولد وهذا مشكل فإنها لو كانت بحيث تباع فلا
نقصان في قيمتها ولكن قيل قيمة المدبرة قدر
ثلثي قيمتها قنة وقيمة أم الولد قدر ثلث
قيمتها قنة لأن للمالك في مملوكه ثلاث منافع
الاستخدام والاسترباح بالبيع وقضاء ديونه من
ماليته بعده فبالتدبير ينعدم أحد هذه المعاني
وهو الاسترباح ويبقى منفعتان وبالاستيلاد
ينعدم اثنان ويبقى واحد فتتوزع القيمة على ذلك
ثم لا تعتق ما لم تؤد السعاية عندنا, وقال زفر
رحمه الله تعالى تعتق في الحال والسعاية دين
عليها لأن إزالة ذل الكافر عن المسلم واجب وفي
استدامه الملك عليها ذل.
ولكنا نقول الذل في الاستخدام قهرا بملك
اليمين وذلك يزول بالاستسعاء لأنها تصير
بمنزلة المكاتبة أحق بنفسها ومكاسبها فالمقصود
يحصل بهذا ودفع الضرر عن الذمي واجب.
ولو قلنا يزول ملكه عنها في الحال ببدل في ذمة
مفلسة والمال في ذمة المفلس تاو لأدى إلى
الإضرار به وكان هذا في الحكم بمنزلة إزالتها
عن ملكه بغير بدل ولهذا لا تعتق ما لم تؤد
السعاية وليس لها أن تعجز نفسها إلا أن يسلم
المولى وإن مات المولى أعتقت وسقط عنها
السعاية.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى تخارج معنى
هذا أنها تخرج من يد المولى وتؤمر بأن تكتسب
وتنفق على نفسها إلى أن يموت المولى فحينئذ
تعتق فإنه لا يرى السعاية على المملوك بحال
فجعل طريق إزالة الذل إخراجها من يد المولى
كما قلنا ولو ولدت لأكثر من ستة أشهر منذ صارت
مستسعاة لم يثبت نسبه من المولى لأنها في حكم
المكاتبة ولو ماتت كان على هذا الولد ان يسعى
فيما على أمه بمنزلة المولود في الكتابة.
قال: "وإذا اختلف المولى وأم الولد في
المكاتبة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
يتحالفان وتنفسخ المكاتبة بعد التحالف وهو قول
أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى" لأن
الكتابة في معنى البيع من حيث أنه لا يصح إلا
بتسمية البدل وأنه يحتمل الفسخ بعد تمامه ثم
رجع فقال يكون القول قولها ولا يتحالفان لأن
حكم التحالف في البيع ثابت أيضا
ج / 7 ص -148-
بخلاف
القياس فلا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه
والكتابة ليس في معنى البيع أما من حيث الصورة
فالبيع مشروع للاسترباح مبني على الضيق
والمماكسة والكتابة للأرقاء مبني على التوسع
ومن حيث المعنى الكتابة بعد تمامها بأداء
البدل لا تحتمل الفسخ بخلاف البيع وفي الحال
موجب العقد إثبات صفة المالكية يدا في المنافع
والمكاسب فما مضى منه فائت لا يتحقق رده
فعرفنا أنه ليس في معنى المنصوص من كل وجه فلو
ألحق به بالمشاركة في بعض الأوصاف كان قياسا
والثابت بخلاف القياس لا يمكن إثباته بطريق
المقايسة.
توضيحه أن البيع لازم من الجانبين فكان المصير
إلى التحالف فيه مفيدا حتى إذا نكل أحدهما
لزمه ما قال صاحبه وفي الكتابة هذا لا يتحقق
فإنها لو نكلت لا يلزمها شيء وكان لها أن تعجز
نفسها فإذا انعدم التحالف وجب اعتبار الدعوى
والإنكار فيكون القول قولها مع يمينها
لإنكارها الزيادة وإن أقاما البينة فالبينة
بينة المولى لأنه يثبت الزيادة ببينته إلا
أنها إن ادعت مقدار ما أقامت البينة عليه تعتق
لأنها أثبتت الحرية لنفسها عند أداء هذا
المقدار فوجب قبول بينتها على ذلك بمنزلة ما
لو كاتبها على ألف درهم على أنها متى أدت
خمسمائة عتقت وهذا لأنه لا يبعد أن يكون عليها
بدل الكتابة بعد عتقها كما لو أدت الكتابة
بمال مستحق تعتق وبدل الكتابة عليها بحاله.
" قال " " وإذا كاتب أم ولده على ألف درهم أو
أمته على ألف درهم على أن يرد عليها وصيفا
وسطا فالكتابة باطلة في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى".
وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى تجوز
الكتابة وتقسم الألف على قيمتها وعلى قيمة
وصيف وسط فتكون مكاتبة بما يخصها ولا خلاف أن
العقد في الوصيف باطل لأنها تكون مشترية
للوصيف من مولاها وشراء الحيوان بغير عينه
باطل.
ثم وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الألف
مذكور بمقابلة شيئين فيقسم عليهما بالقيمة
وامتناع ثبوت حكم العقد في أحدهما لا يمنع
ثبوته في الآخر كما لو كان الوصيف بعينه
فاستحقه إنسان يكون العقد صحيحا في حقها بما
يخصها من البدل ولا يجوز إبطال هذا العقد
لمعنى الجهالة في بدل الكتابة لأن هذه الجهالة
باعتبار ذكر الوصيف وهو لا يمنع صحة الكتابة
كما لو كاتبها على وصيف وسط لأن هذه الجهالة
لا تفضي إلى المنازعة لأن قيمة الوصيف الوسط
معلوم فإذا قسم الألف على قيمتها وقيمة وصيف
وسط تتبين حصتها على وجه لا يبقى بينهما
منازعة.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان
الحيوان بغير عينه ليس بمحل للبيع أصلا
وانقسام البدل من حكم الدخول في العقد فإذا لم
يدخل الوصيف في العقد كان هذا كتابة بالحصة
ابتداء والكتابة بالحصة لا تصح كما لو كاتبها
على ما يخصها من الألف إذا قسم على قيمتها
وقيمة عبد آخر.
والدليل عليه أنه لو خاطب عبدين بالكتابة بألف
فقبل أحدهما دون الآخر لم يكن
ج / 7 ص -149-
صحيحا
لأنه لو صح كان بحصته من الألف حتى لو كان سمي
بمقابلة كل واحد منهما شيئا معلوما صح القبول
من أحدهما وهذا لأن الكتابة في الحاجة إلى
تسمية البدل وفسادها بالشروط التي نتمكن في
صلب العقد بمنزلة البيع والبيع بمنزلة هذه
الجهالة يبطل فكذا الكتابة وليس هذا بمنزلة
الكتابة على وصيف فإن بالإجماع لو تزوج امرأة
على وصيف صحت التسمية ولو تزوجها على ما يخصها
من الألف إذا قسم على مهر فلانة لا تصح
التسمية وكان لها مهر مثلها ثم المعنى أن تعين
صفة النبطية في الوصيف باعتبار استحقاقه بعقد
المعاوضة وذلك يتحقق إذا سمى الوصيف بدلا في
الكتابة ولا يتحقق هنا لما لم يصر الوصيف
مستحقا بالعقد.
قال: "ولو ضمن رجل لرجل عن أم ولده المكاتبة
فهو باطل" كما في القنة فإنه ليس لها ذمة
صحيحة في حق المولى ما لم تعتق فلا يكون مال
الكتابة دينا متقررا عليه.
قال: "وإذا أسلمت أم ولد النصراني فكاتبها
بأكثر من قيمتها جازت الكتابة" لأن المقصود
يحصل بهذا العقد وهو إخراجها من يد الكافر.
فإن قيل: البدل المستحق عليها يقدر بالقيمة
شرعا فينبغي أن لا تجوز الزيادة على ذلك كما
بينا في معتق البعض.
قلنا: هنا ما تعذر على المولى استدامة الملك
فيها فإنه لو أسلم كان له أن يستديم ملكه فيها
فعرفنا أن استحقاق الإزالة ببدل مقدر لم يتقرر
هنا بخلاف معتق البعض فإن عجزت هنا ردت في
الرق وتسعى في قيمتها لأن اظهار العجز هنا
مفيد بخلاف ما إذا كانت مستسعاة في قيمتها.
قال: "مسلم تزوج أم ولد ذمي فولدت له سعى
الولد في قيمة نفسه" لأنه مسلم بإسلام أبيه
وهو بمنزلة الأم مملوك للمولى الذمي فيجب
إزالته عن ملكه بالاستسعاء وكذلك لو كان الزوج
كافرا فأسلم لأن الولد ما دام صغيرا فإنه يصير
مسلما بإسلام أبيه.
قال: "مكاتب ذمي اشترى أمة مسلمة فأولدها كانت
على حالها" لأنه يتعذر عليه بيعها وثبت لها
نوع حق تبعا لما ثبت من حق الولد فإن عتق
المكاتب بالأداء تم ملكه فيها وصارت أم ولد
للذمي فتسعى في قيمتها فإن عجز فرد رقيقا أجبر
المولى على بيعها لأن الملك تقرر فيها للمولى
فلم تصر أم ولد ولكن المولى كافر وهي مسلمة
فيجبر على بيعها.
قال: "حربي خرج إلى دارنا مستأمنا ومعه أم
ولده لم يكن له أن يبيعها" لأن حق أمية الولد
تبع لحق الولد في النسب والنسب يثبت في دار
الحرب كما يثبت في دارنا فكذلك ما ينبني عليه
من أمية الولد لها وكما لا يمكن من بيع ابنه
في دار الإسلام فكذلك لا يمكن من بيع أم ولده
ولو أسلمت سعت في قيمتها لأن ملك المستأمن
محترم كملك الذمي فيتعذر إزالة ملكه عنها
مجانا فلهذا سعت في قيمتها والله أعلم بالصواب
وإليه المرجع والمآب.
باب دعوى الرجل رق الغلام في يده
قال: "رضي الله عنه غلام صغير لا ينطق في يد
رجل فقال هذا عبدي فهو كما قال: إذا
ج / 7 ص -150-
لم
يعرف خلافه" لأنه لا يد له في نفسه ولا قول
فيتقرر قول ذي اليد عليه وما في يده مملوك له
باعتبار الظاهر فإذا ادعى ما يشهد له الظاهر
به كان القول فيه قوله كما لو كان في يده دابة
أو ثوب فقال هذا لي.
قال: "وإن أدرك الصغير فقال أنا حر الأصل
فعليه البينة" لأنه يدعي إبطال ملك ثبت عليه
لذي اليد بدليل شرعي فلا يقبل ذلك منه إلا
بحجة.
قال: "وإن كان حين ادعاه الذي في يده يعبر عن
نفسه فقال أنا حر فالقول قوله" لأنه في يد
نفسه وله قول معتبر شرعا فلا تتقرر عليه يد ذي
اليد مع ذلك بل يد نفسه تكون دافعة ليد ذي
اليد لأنها أقرب إليه فكان القول قوله في
حريته لتمسكه بما هو الأصل وكذلك لو قال
الغلام أنا لقيط لأن اللقيط حر باعتبار الأصل
والدار فهو كقوله أنا حر فإن أقام الذي في يده
البينة أنه عبده وأقام الغلام البينة أنه حر
أخذت بينة الغلام لأنه يثبت حرية الأصل ببينته
وبينة الملك لا تعارض بينة الحرية من وجهين:
أحدهما: أن الحرية لا تحتمل النقض والفسخ
والملك يحتمل الإبطال.
والثاني: أن الإثبات في بينة الحرية أكثر لأنه
يتعلق بالحرية أحكام متعدية إلى الناس كافة
ولأن في بينته ما يدفع بينة ذي اليد وليس في
بينة ذي اليد ما يدفع بينته فإن الحرية تتحقق
بعد الملك.
وإن قال الذي في يده هذا عبدي وقال الغلام أنا
عبد فلان فهو عبد الذي في يديه لأنه لما أقر
بالرق على نفسه لم يبق له يد ولا قول معتبر في
نفسه بل تتقرر يد ذي اليد عليه فالقول قوله
أنه ملكه بخلاف الأول فإن هناك هو ينكر رقه
أصلا وقوله في دفع الرق عن نفسه مقبول وفي
تعيين مالكه غير مقبول لأنه يحول به ملكا
ثابتا لذي اليد إلى غيره وكذلك لو كان في يدي
رجلين يدعي كل واحد منهما أنه له فقال هو أنا
عبد أحدهما لأنه لما أقر بالرق على نفسه تقررت
يدهما عليه وإن كان لا ينطق فأقام أحدهما
البينة أنه عبده وأقام الآخر البينة أنه ابنه
من أم ولده قضى به للذي ادعاه لأن في بينته
زيادة اثبات النسب والحرية للولد فتترجح بذلك
فإن أقام كل واحد منهما البينة أنه عبده ولد
عبده ووقتت إحدى البينتين وقتا قبل وقت الأخرى
قضى به للأول إذا كان بذلك الميلاد معناه إذا
كان سن الغلام موافقا للوقت الأول فقد ظهر
علامة الصدق في شهادة شهوده وعلامة الكذب في
شهادة شهود الآخر وإن علم أنه على غير ذلك
الميلاد قضى به للآخر لأن علامة الكذب ظهرت في
شهادة أسبق التاريخين وذلك مانع من العمل بها
فإن كان يشك فيه قضى به بينهما لاستواء
الحجتين فإن كان كل واحد منهما أثبت الملك
لنفسه من حين ولد لأن الملك لا يسبق الولادة
ولا يعتبر سبق التاريخ مع ذلك ولكن لما كان كل
واحد من الأمرين محتملا قضى به بينهما.
وقيل هذا قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى ينبغي أن يقضي به لصاحب
ج / 7 ص -151-
الوقت
الأول لأنهما استويا في معنى الاحتمال وصاحب
أسبق التاريخين أثبت الملك لنفسه في وقت لا
ينازعه فيه أحد فيجب القضاء بالملك له.
ثم لا يستحق عليه بعد ذلك إلا بسبب من جهته
وإن لم توقت واحدة منهما وقتا غير أن إحدى
البينتين شهدت أن هذا المولى أعتق أمه قبل أن
تلده أو دبرها أو أعتق الغلام وأمه حامل به أو
دبره قضى به لصاحب العتق لأنه في بينته زيادة
إثبات الحرية للغلام إما مقصودا أو تبعا لأمه
ولأن العتق قبض من المعتق فبإثباته العتق أو
التدبير يثبت أن اليد له وبينة ذي اليد تترجح
في إثبات الملك من وقت الولادة ألا ترى أنه لو
كان في يد غيرهما فأقام كل واحد منهما البينة
أنه عبده غير أن إحدى البينتين شهدوا أنه دبره
أو أعتقه البتة يقضي به له لأنه بالتدبير
والعتق يستحق الولاء والولاء كالنسب ولو كان
في إحدى البينتين زيادة إثبات النسب ترجحت
بذلك فكذلك الولاء.
قال: "صبي في يدي رجلين ادعى أحدهما أنه ابنه
والآخر أنه عبده فهو حر و ابن الذي ادعاه"
لأنه يقر له بالنسب والحرية وإقراره فيما في
يده صحيح وثبوت النسب والحرية في البعض ينفي
الرق فيما بقي منه وإن كان في أيديهما
يتجاذبانه فمات من عملهما بعد هذه المقالة
فالدية على عاقلتهما لأنهما قتلاه خطأ بعد ما
حكم بحريته ونسبه لمدعي البنوة ويكون ذلك
لأقرب الناس منه بعد الذي ادعى أنه ابنه لأنه
قاتل فيكون محروما عن الميراث وإذا صار محروما
كان كالميت وإذا ادعى كل واحد منهما أنه عبده
ولد عنده من هذه الأمة لأمة واحدة والأمة في
يد أحدهما وهي مقرة بالملك له فالأمة لمن هي
في يده والولد بينهما لأن الاستحقاق باعتبار
اليد وقد اختص أحدهما باليد في الأمة واستويا
في اليد في الولد.
فإن قيل: لما ثبت الملك في الأمة لأحدهما
والولد يتبع الأم في الملك فينبغي أن يقضي
بالولد له.
قلنا: ثبوت الملك له في الأمة باعتبار يده
واليد حجة دافعة للاستحقاق لا موجبة له فلا
يستحق به ما في يد الآخر من الولد.
وعلى هذا لو كان الصبي في يد أحدهما والأم في
يد الآخر فلكل واحد منهما ما في يده على ما
بينا قال أرأيت لو كانت جدته في يد الآخر أكان
يدفع إلى الصبي من كانت جدته في يده هذا بعيد.
قال: "وإذا كان الصبي في يد رجل فأعتقه ثم جاء
آخر يدعي أنه عبده ويقيم البينة على ذلك فإنه
يقضي به" لأن اليد لا تعارض البينة بل تبين
بهذه البينة أن ذا اليد أعتق ملك غيره إلا أن
يقيم المعتق البينة أنه كان له ولد عنده أو
أعتقه فحينئذ تترجح بينته لما قلنا.
قال: "وإذا كان العبد في يد رجل فدبره أو
أعتقه ثم أقام الآخر البينة أنه له وأقام ذو
اليد البينة أنه له أعتقه أو دبره فهو أولى"
لأنه يثبت زيادة العتق واستحقاق الولاء ولأن
حجة
ج / 7 ص -152-
ذي اليد في الحقيقة للعبد فإنه يثبت به حريته وولاءه والولاء كالنسب
فكأنه هو الذي يقيم البينة على ذلك, قال:
"وإذا كان الصبي في يد رجل فباعه من رجل ثم
ادعى أنه كان دبره أو أعتقه قبل البيع لم يصدق
على ذلك" لأنه متناقض في دعواه ولأنه يسعى في
نقض ما قد تم به وهو البيع كذلك لو ادعى أنه
ابنه ولم يكن العلوق به في ملكه لأن هذا دعوة
التحرير ودعوة التحرير لا تصح كالإعتاق من غير
المالك إلا أن يكون العلوق به في ملكه فيصدق
على النسب حينئذ فيفسخ البيع فيه لأن حق
استحقاق النسب يثبت له بالعلوق في ملكه ولم
يبطل ذلك بالبيع لأن البيع دونه في احتمال
النقض.
وهذه زفرية موضعها كتاب البيوع والدعوى وإن لم
يكن شيء من ذلك ولكن الصبي أدرك فأقام البينة
أنه حر عتق ولا شيء عليه لأنه أثبت حريته
بالحجة وإنما يرجع المشتري بالثمن على البائع
فإن كان كبيرا مقرى بالملك وأمر المشتري أن
يشتريه وأخبره أنه عبد للبائع فاشتراه ثم أقام
البينة أنه حر عتق لأنا قد بينا أن التناقض لا
يمنعه من إثبات حرية الأصل بالبينة كما لا
يمنعه من إثبات النسب لأن حرية الأصل لا ناقض
لها فإن لم يقدر المشتري على الذي باعه كان له
أن يرجع على العبد بالثمن الذي أداه إلى
البائع لأنه مغرور من جهته حين أقر بالملك
وأمره أن يشتريه وصحة البيع كان بقوله فإنه لو
قال أنا حر ما كان يشتريه أحد ولا يصح البيع
فيه والغرور متى تمكن في عقد المعاوضة فهو
مثبت حق الرجوع للمغرور على الغار وصار كأنه
التزم للمشتري سلامة نفسه أو رد الثمن عليه
إلا أن البائع إذا كان حاضرا فرجوعه على
البائع لأنه هو الذي قبض الثمن حقيقة والمشتري
سلمه إليه مختارا فإذا تعذر الرجوع عليه بعينه
كان له أن يرجع على العبد ليندفع الضرر عنه ثم
يرجع العبد بذلك على البائع لأنه يقوم مقام
المشتري في الرجوع عليه حين ضمن له بالثمن وإن
كان المشتري أقر بحريته عتق باقراره وولاؤه
موقوف ولا يرجع بالثمن على البائع ولا على
العبد لأن إقراره ليس بحجة عليهما والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع
والمآب.
باب ما لا يثبت النسب فيه من أم الولد
قال: "رضي الله عنه وإذا زوج الرجل أمته من
عبده فولدت ولدا فادعاه المولى لم يثبت نسبه
منه" لأن نسبه ثابت من العبد بالفراش فلا يثبت
من غيره ولكنه يعتق عليه وتصير الجارية أم ولد
له لما ذكرنا قبل هذا وإذا استولد الرجل جارية
غيره وادعى شبهة بشراء أو غيره وكذبه مولاها
لم يثبت نسبه لأن بمجرد دعواه لم يثبت له شبهة
في المحل في حق مولاها حين عارضه بالتكذيب
وثبوت النسب ينبني على وجود الشبهة في المحل
فإن ملكه يوما ثبت نسبه منه لأن الشبهة في
المحل في حقه تثبت بقوله فإن خبره محمول على
الصدق في حقه إلا أنه امتنع العمل به للمعارضة
من مولاها وحق المعارضة كان له باعتبار ملكه
فإذا زال ذلك سقطت معارضته وخلص الحق للمدعي
حين ملكه فيثبت النسب منه كما لو وجد الإقرار
في الحال وإن أعتقه مالكه فهو مولاه ولا يثبت
نسبه من المدعي إلا أن يصدقه الغلام فحينئذ
يثبت النسب منه
ج / 7 ص -153-
لأن
الحق في نسبه خلص له وقد تقرر بالتصديق منه
وليس في ثبوت نسبه تعرض للولاء الثابت للمولى
إذ لا منافاة بينهما.
فإن قيل: قبل العتق ليس في إثبات النسب
أيضا تعرض للملك الثابت للمولى قلنا: نعم ولكن
النسب لا يثبت إلا بحجة ومجرد الدعوى مع قيام
المعارضة لا يكون حجة فأما دعواه عند تصديق
الغلام بنفوذ العتق يكون حجة.
قال: "وإذا استولد الأب جارية ولده غصبا
والولد صغير أو كبير مسلم أو ذمي أو مستأمن أو
مرتد وقد علم الأب أنها عليه حرام وادعاه بعد
الولادة ثبت نسبه منه كذبه الولد في ذلك أو
صدقه وهو ضامن لقيمتها وهي أم ولد له ولا عقر
عليه" أما سقوط الحد عنه مع العلم بالحرمة
فللتأويل الثابت له في مال الولد بظاهر قوله
صلى الله عليه وسلم :
"أنت ومالك لأبيك". وأما ثبوت
النسب منه فلان حق التملك له في مال ولده عند
حاجته ثابت إلا أن ما كان من أصول الحوائج
كالنفقة يتملك بغير عوض وفيما دون ذلك يتملك
بعوض وهو محتاج هنا إلى صيانة مائه عن الضياع
فيتملكها بضمان القيمة سابقا على الاستيلاد
وقد بينا فروع هذه المسألة فيما أمليناه من
شرح الدعوى والفرق بينهما إذا كان الولد كافرا
والوالد مسلما أو على عكس ذلك.
وما استقر عليه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى
أن حكمه كحكم المغرور وبينا في كتاب النكاح
أيضا أن الأب لو كان تزوجها بإذنه أو بغير
إذنه بنكاح صحيح أو فاسد والأب حر أو عبد لم
تصر أم ولد له لأنه مستغن عن تملكها في ثبوت
نسب ولده فإن شبهة النكاح تكفي لذلك.
وفي الكتاب قال هذا والأول سواء في القياس
يعني لا يتملكها ولكن يثبت النسب باعتبار
الغرور كما استقر عليه قول أبي يوسف غير أني
أخذت في الأول بالاستحسان يعني أن تملكها عليه
بضمان القيمة بهذا السبب نوع استحسان لتحقق
صيانة مائه ولإثبات حرية الأصل للولد وحق أمية
الولد لها.
قال: "ولو ولدت أمة الرجل ولدا وأدعاه المولى
وأبوه معا فالمولى أحق به" لأن صحة دعوته
باعتبار حقيقة الملك وصحة دعوة الأب باعتبار
تأويل الملك وتأويل الملك لا يعارض حقيقة
الملك ثم دعوة الولد تمنع الأب من أن يتملك
الجارية بدعوته وبدون هذا الشرط لا يصح
استيلاده ولا يثبت النسب منه.
قال: "وإذا وطىءالرجل أمة لمكاتبه فولدت ولدا
فادعاه وصدقه المكاتب فهو ولده بالقيمة وعليه
العقر" لأن له حق التملك في كسب العبد المكاتب
وذلك بمنزلة المغرور أو أقوى منه فكما يثبت
النسب هناك ويكون الولد حرا بالقيمة وعليه
العقر فكذلك هنا إلا أنه اعتبر تصديق المكاتب
لأن المولى حجر على نفسه التصرف في كسب
المكاتب والدعوة تصرف فلا ينفذ إلا بتصديق
المكاتب بخلاف الأب فإنه ما حجر على نفسه
التصرف في مال
ج / 7 ص -154-
الولد
عند الحاجة فلا يحتاج إلى تصديق الولد ثم عند
التصديق في المكاتب لا تصير الجارية أم ولد له
لأن حق الملك ثابت له في كسبه وذلك كاف لإثبات
نسب الولد, ألا ترى أن بعجزه ينقلب حقيقة ملك
فلا حاجة به إلى التملك وليس للأب في مال
الولد ملك ولا حق ملك ولا يمكن إثبات النسب
منه إلا باعتبار تملك الجارية.
يوضحه أنه ليس للمولى حق التملك في كسب
المكاتب عند الحاجة وللأب ذلك في ملك الولد
فإذا ملك المولى الجارية يوما من الدهر صارت
أم ولد له لأنه ملكها وله منها ولد ثابت النسب
وإن كذبه المكاتب ثم ملكه يوما ثبت نسبه منه
لأن حق الملك له في المحل كان مثبتا للنسب منه
عند صحة دعوته إلا أن بمعارضة المكاتب إياه
بالتكذيب امتنع صحة دعوته وقد زالت هذه
المعارضة حين ملكه.
قال: "وإن وطىءمكاتبة مكاتبة فولدت ولدا
فادعاه وصدقته المكاتبة الأخيرة فهو ابنه"
لأنها بعقد الكتابة صارت أحق بنفسها وولدها
فتصديقها في هذه الحالة كتصديق المكاتب حين
كانت أمة له فيثبت النسب وعليه العقر لها لأنه
وطئها بعد ما صارت أحق بنفسها والغلام بمنزلة
أمه داخل في كتابتها بخلاف الأول فالغلام هناك
حر بالقيمة لأن سبب بعدها من المولى هناك واحد
وقد تعدد هنا سبب بعدها من المولى فإن الكتابة
الثانية توجب بعدها من المولى كالأولى فيمنع
تعدد أسباب البعد ثبوت الحرية للولد. توضيحه
أنه لو جعل الولد هنا حرا كان حرا بغير قيمة
لأنه لا يمكن ايجاب القيمة للأم فإنها تسعى
لتحصيل الحرية لنفسها وولدها ولا يمكن إيجاب
القيمة هنا للمكاتب لأنه لا حق له في نفسها
ولا في ولدها بعد ما كاتبها ولا يمكن إثبات
الحرية بغير قيمة لأنها ربما تعجز فتخلص
للمكاتب وحقه فيها وفي ولدها مرعي فلهذا لا
يحكم بحرية الولد هنا وفي الأول إثبات الحرية
بالقيمة ممكن فلهذا أثبتناه فإن عجزت هي أخذ
المولى الولد بالقيمة لأن الكتابة الثانية
انفسخت فكأنها لم تكن وإن كانت كذبته لم يثبت
النسب منه وإن عجزت لانعدام الدليل الموجب
لصحة الدعوى وهو التصديق ممن الحق له إلا أن
يملكه فحينئذ يثبت النسب منه لأن الحق خلص له
فكأنه جدد الدعوة الآن.
قال: وإن ادعى ولد جارية امرأته أو أحد أبويه
لم يثبت النسب منه بحال" لأن ثبوت النسب
باعتبار الشبهة في المحل وقد انعدم إلا أنه
إذا قال ظننت أنها تحل لي يدرأ عنه الحد وإن
قال علمت بالحرمة يلزمه الحد لأن الشبهة من
حيث الاشتباه وهو أنه ظن بعض ما يظن مثله فإنه
قال لما كانت المرأة حلالا لي فكذلك جاريتها
ولما كانت جارية الأب حلالا له فكذلك لي لأني
جزء منه وشبهة الاشتباه معتبرة في إسقاط
العقوبة في حق من تشتبه عليه ولكن لا يعتبر في
إثبات النسب فإذا ملكه يوما عتق ولم يثبت نسبه
منه وإن ملك أمه لم تصر أم ولد له بمنزلة ما
لو استولد جارية الغير بالزنى إلا أن يدعي
شبهة نكاح فحينئذ إذا ملكها مع الولد يثبت
النسب منه وتصير أم ولد له.
ج / 7 ص -155-
قال:
"وإذا وطىءالرجل جارية رجل فقال أحلها لي
والولد ولدي وصدقه المولى في الإحلال وكذبه في
الولد لا يثبت النسب منه" لأن الإحلال ليس
بنكاح ولا ملك يمين فلا يثبت به شبهة في حق
المحل في حق مولاها ويكون تكذيبه إياه في
الدعوة معارضا مانعا من صحة دعوته فلا يثبت
نسبه منه وإن ملكه يوما ثبت نسبه منه بسقوط
المعارضة بالدعوة وهو بناء على الاستحسان الذي
بيناه في كتاب الدعوى أن المولى إذا صدقه في
الإحلال والدعوة جميعا يثبت النسب منه
استحسانا لأن التزويج ليس بموجب للزوج إلا ملك
الحل والتمكن من الوطء شرعا والإحلال تمكين من
ذلك حسا وفي غير هذا المحل من الطعام وغيره
الإحلال يكون مثبتا حل التناول فيصير ذلك شبهة
في إثبات النسب ولكنها شبهة ضعيفة جدا فلا بد
من أن ينضم إليه التصديق من المولى بأن الولد
ولده أو خلوص الملك في الولد للمدعي فإن ذلك
أقوى من تصديق المولى فلهذا ثبت نسبه منه وإن
ملك أمه كانت أم ولد له وكذلك عند تصديق
المولى يثبت النسب منه وهو عبد لمولاه وكذلك
الجواب في جارية الزوجة والأبوين إذا ادعى أن
مولاها أحلها لي إلا أن هناك متى ثبت النسب
بالتصديق عتق لقرابته من المولى أبا كان أو
أما.
قال: "وإذا كانت الأمة وولدها في يد رجل
فادعاها رجلان كل واحد منهما يقيم البينة أنه
اشتراها منه ونقد الثمن وقبضها فولدت له هذا
الولد فإن علم الأول منهما فالجارية وولدها
له" لأنه أثبت الحق لنفسه في وقت لا ينازعه
أحد فيه وإن لم يعلم فالجارية أم ولد لهما
والولد ولدهما لتحقق المساواة بينهما في سبب
الملك وفي نسب الولد وفي حق أمية الولد للأم
وإن كانت في يدي أحدهما فهو أحق بها لأن شراءه
متأيد بالقبض وشراء الآخر متجرد عن القبض.
وعند تعارض البينتين يترجح القابض منهما إلا
أن يقيم الآخر البينة أنه الأول فحينئذ يكون
أسبق التاريخين أولى والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب المدبر
قال: "رضي الله عنه اعلم بأن التدبير عبارة عن
العتق الموقع في المملوك بعد موت المالك" عن
دبر منه مأخوذ من قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أم الولد:
"فهي معتقة عن دبر منه"
وصورة المدبر أن يتعلق عتقه بمطلق موت المولى
كما يتعلق عتق أم الولد به ولهذا قال ابن
مسعود رضي الله عنه إن المدبر يعتق من جميع
المال كأم الولد وهو قول حماد رضي الله تعالى
عنه وإحدى الروايتين عن إبراهيم رحمه الله
تعالى, ولكنا لا نأخذ بهذا وإنما نأخذ بقول
علي وسعيد ابن المسيب والحسن وشريح و ابن
سيرين رضوان الله عليهم أجمعين أنه يعتق من
الثلث لحديث ابن عمر رضي الله عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المدبر من الثلث ولأن التدبير خلافة بعد الموت فيتقدر بقدر حقه بعد الموت وحق
المولى بعد الموت في ثلث ماله فيعتبر خلافته
في هذا المقدار فيكون من ثلثه كسائر الوصايا.
وفي أم الولد إنما يعتق من
ج / 7 ص -156-
جميع
المال لسقوط قيمة ماليتها على ما قررنا أن
الإحراز بعد الاستيلاد لقصد ملك المتعة لا
لقصد المالية وبدون الإحراز لا تثبت المالية
والتقوم وهذا المعنى لا يتقرر بالتدبير فإن
التدبير ليس بقصد إلى الإحراز لملك المتعة
فيبقى الإحراز بعده للتمول وإذا بقي مالا
متقوما كان معتبرا من ثلثه, وعلى هذا قال
علماؤنا رحمهم الله تعالى أنه لا يجوز بيع
المدبر.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بيعه لحديث
عطاء أن رجلا دبر عبدا له ثم احتاج إلى ثمنه
فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل
يقال له نعيم ابن النحام بثلثمائة درهم. وعن
عائشة رضي الله تعالى عنها أنها دبرت أمة لها
فسحرتها وعلمت بذلك فقالت ما حملك على ما صنعت
فقالت حبي العتاق فباعتها من أسوأ الناس ملكة.
والمعنى فيه أن التدبير تعليق العتق بالشرط
وذلك لا يمنع جواز البيع كما لو علقه بشرط آخر
من دخول الدار أو مجيء رأس الشهر والتدبير
وصية حتى يعتبر من ثلث المال بعد الموت
والوصية لا تمنع الموصي من التصرف بالبيع
وغيره كما لو أوصى برقبته لإنسان وهذا لأن
الوصية إيجاب بعد الموت فتمنع الإضافة بثبوت
حكم الوجوب في الحال.
"وحجتنا" حديث نافع عن ابن عمر رحمه الله
تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يباع المدبر ولا يوهب وهو حر من الثلث".
وتأويل حديث عطاء ما نقل عن أبي جعفر محمد بن
علي رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال:
"إنما باع خدمة المدبر لا رقبته"
يعني به أنه أجره والإجارة تسمى بيعا بلغة أهل
المدينة أو يحتمل أنه كان مدبرا مقيدا أو كان
في وقت كان بيع الحر جائزا على ما روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم "أنه باع رجلا يقال له سرق في دينه ثم انتسخ ذلك الحكم, وعن زيد بن ثابت و ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قالا لا يباع
المدبر وما نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها
محمول على المدبر المقيد ليكون جمعا بينهما.
والمعنى فيه أنه مملوك تعلق عتقه بمطلق موت
سيده فلا يجوز بيعه كأم الولد. ودليل الوصف أن
التعلق حكم التعليق وإنما يتعلق بما به علق
السيد وهو إنما علقه بمطلق الموت وتأثيره أن
الموت كائن لا محالة وهو سبب للخلافة, ألا ترى
أن الوارث يخلف المورث في تركته بعد موته فهو
بهذا التعليق يكون مثبتا للمملوك في الحال
الخلافة في رقبته بعد موته فيكون إيجابا في
ثاني الحال باعتبار وجود سببه على وجه يصير
محجورا عن إبطاله كما أن الموت لما كان موجبا
الخلافة للوارث في تركته وسببه المرض ثبت نوع
حق لهم بهذا السبب على وجه يصير المريض محجورا
عن التبرع وهذه الخلافة في العتق الذي لا
يحتمل الإبطال بعد ثبوته فيتقوى هذا السبب من
وجهين أحدهما أن المتعلق به مما لا يحتمل
الإبطال. والثاني أن التعليق بما هو كائن لا
محالة وهو موجب للخلافة ولهذه القوة قلنا لا
يحتمل الإبطال والفسخ بالرجوع عنه بخلاف ما
يقوله الشافعي رحمه الله تعالى في بعض أقاويله
وهو ضعيف جدا بأن تعليق العتق بسائر الشروط
يحتمل الفسخ فهذا الشرط أولى ولهذه القوة يجب
حق الحرية له في الحال على وجه يمنع بيعه
ويثبت استحقاق الولاء للمولى على وجه لا
ج / 7 ص -157-
يجوز
إبطاله بخلاف التعليق بسائر الشروط فإن دخول
الدار ونحو ذلك ليس بكائن لا محالة والتدبير
المقيد وهو قوله إن مت من مرضي هذا ليس بكائن
لا محالة أيضا والتعليق بمجيء رأس الشهر فإن
ذلك ليس بسبب موجب للخلافة وكذلك الوصية
برقبته لغيره فإن ذلك تمليك يحتمل الإبطال بعد
ثبوته فلا يجب به الحق بنفسه وتقرر بهذا
التحقيق أن المدبر في معنى أم الولد إلا أن
هناك معنيين تعلق بأحدهما وجوب حق الحرية في
الحال وبالآخر سقوط المالية والتقوم ثم وجد
أحد المعنيين ها هنا دون الآخر فيتعدى بذلك
المعنى حكم ثبوت حق الحرية إلى المدبر ولا
يتعدى حكم سقوط المالية والتقوم.
لانعدام معناه هنا فلهذا كان معتبرا من الثلث,
على هذا نقول ولد المدبرة يكون مدبرا لأنه وجب
حق الحرية لها في الحال فيسري إلى الولد
كالاستيلاد وهو دليلنا على الشافعي وبعض
أصحابه يمنعون سرايته إلى الولد وهو ضعيف جدا
لأنه مخالف لقول الصحابة والتابعين.
وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه ولد المدبرة
مثل أمه وخوصم إلى عثمان رضي الله عنه في
أولاد مدبرة فقضى بأن ما ولدته قبل التدبير
عبد يباع وما ولدته بعد التدبير فهو مثلها لا
يباع.
وعن شريح وسعيد بن المسيب وقتادة وجماعة منهم
رضوان الله عليهم أجمعين أنهم قالوا ولد
المدبرة مدبر
إذا عرفنا هذا فنقول رجل قال لمملوكه أنت حر
بعد موتي أو إذا مت أو إن مت أو متى مت أو إذا
حدث بي حدث فهذا كله واحد وهو مدبر لأنه علق
عتقه بمطلق موته فإنه وإن أطلق الحدث فالمراد
به الموت عادة وكذلك لو قال أنت حر يوم أموت
لأنه قرن باليوم ما لا يمتد ولا يختص بأحد
الوقتين فيكون عبارة عن الوقت فكأنه قال أنت
حر وقت موتي فإن نوى باليوم النهار دون الليل
صحت نيته لأنه نوى حقيقة كلامه.
ثم لا يكون مدبرا لأنه علق عتقه بما ليس بكائن
لا محالة وهو موته بالنهار وربما يموت بالليل
فلهذا لا يكون مدبرا.
ولو قال إن حدث بي حدث في مرضي هذا أو سفري
هذا فأنت حر لم يكن مدبرا وله أن يبيعه لأنه
علق عتقه بما ليس بكائن لا محالة فربما يرجع
من ذلك السفر ويبرأ من ذلك المرض وفقه هذا
الكلام أتا إنما نوجب حق الحرية بالتدبير في
الحال بناء على قصده القربة بطريق الخلافة
وهذا القصد منه ينعدم إذا علقه بموت بصفة لأن
القصد إلى القربة لا يختلف بالموت من ذلك
المرض أو من غيره فلانعدام هذا القصد لم يكن
مدبرا بخلاف ما إذا علقه بمطلق الموت فإن
القصد إلى إيجاب القربة هناك متحقق حين علقه
بما هو كائن لا محالة ولكن إن مات كما قال عتق
من ثلثه لأن التعليق بالشرط صحيح مع انعدام
القصد إلى إيجاب القربة وإذا وجد الشرط عتق من
ثلثه وإن بريء من مرضه أو رجع من سفره ثم مات
لم يعتق لأن الشرط الذي علق عتقه به قد انعدم.
ج / 7 ص -158-
وإذا
قال أنت حر بعد موت فلان لم يكن مدبرا لأن موت
فلان ليس بسبب للخلافة في حق هذا المولى ووجوب
حق العتق باعتبار معنى الخلافة فإذا لم يوجد
ذلك لم يكن مدبرا وإلى هذا أشار فقال ألا ترى
أن فلانا لو مات والمولى حي عتق العبد ولا
خلافة قبل موته ولو مات المولى وذلك الرجل حي
صار العبد ميراثا للورثة فكيف يكون مدبرا
وتجري فيه سهام الورثة وكذلك إن قال أنت حر
بعد موتي موت فلان أو بعد موت فلان وموتي فهذا
لا يكون مدبرا لأنه ما تعلق عتقه بمطلق موت
المولى فحسب وإنما تعلق بموتين فإن مات المولى
قبل فلان لم يعتق لأن الشرط لم يتم وصار
ميراثا للورثة فكأن لهم أن يبيعوه
وإن مات فلان قبل المولى فحينئذ يصير مدبرا
عندنا وليس له أن يبيعه, وعلى قول زفر رحمه
الله تعالى لا يكون مدبرا لأنه ما تعلق عتقه
بموت المولى فحسب إنما نعلق بموتين كما علقه
المولى فكان موت المولى بعد موت فلان متمما
للشرط لا إنه كمال الشرط, وهذا على أصل زفر
رحمه الله تعالى مستقيم فإنه يجعل كل جزء من
الشرط معتبرا حتى اعتبر وجود الملك عند وجود
بعض الشرط على ما بينا في الطلاق.
ولكنا نقول بعد موت فلان تعلق عتقه بمطلق موت
المولى حتى أنه متى مات عتق وصورة المدبر هذا
فكان مدبرا كما لو قال له إذا كلمت فلانا فأنت
حر بعد موتي فكلمه أو قال أنت حر بعد كلامك
فلانا وبعد موتي فإذا كلم فلانا كان مدبرا
فكذلك هنا.
قال وإن قال أنت حر بعد موتي إن شئت لم يصر
مدبرا لأنه ما تعلق عتقه بمطلق موت المولى بل
به ومشيئته.
ثم قول المولى إن شئت محتمل يجوز أن يكون
مراده المشيئة في الحال ويجوز أن يكون مراده
المشيئة بعد الموت فينوي في ذلك فإن نوى
بالمشيئة الساعة فشاء العبد فهو حر بعد موته
من الثلث لأن شرط المشيئة لما وجد من العبد في
المجلس يصير عتقه متعلقا بمطلق موت المولى
بعده فيكون مدبرا, وإن كان نوى بالمشيئة بعد
الموت فإذا مات المولى فشاء العبد عند موته
فهو حر من ثلثه لوجود الشرط لا باعتبار
التدبير.
وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول الصحيح أن
لا يعتق هنا ما لم يعتقه الوارث أو الوصي لأنه
لما لم يعتق بنفس الموت صار ميراثا فلا يعتق
بعد ذلك إلا بإعتاق منهم ويكون هذا وصية يحتاج
إلى تنفيذها كما لو قال أعتقوه بعد موتي إن
شاء.
وجعل هذا نظير ما لو قال له أنت حر بعد موتي
بشهر فإنه لا يعتق إلا باعتاق من الوارث أو
الوصي بعد شهر هكذا ذكره ابن سماعة في
نوادره.
ثم في ظاهر الجواب يعتبر وجود المشيئة من
العبد في المجلس بعد موت المولى كما يتقيد
بهذا اللفظ مشيئته بالمجلس في حال حياته.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يتوقت بالمجلس
لأن هذا في معنى الوصية ولا يشترط في لزوم
الوصية القبول في المجلس بعد الموت.
ج / 7 ص -159-
ولو
قال أنت حر بعد موتي بيوم لم يكن مدبرا وله أن
يبيعه لأن عتقه ما تعلق بمطلق الموت بل يمضي
يوم بعده فإن مات لم يعتق في الوقت الذي سمى
حتى يعتقه الورثة.
وهذا يؤيد ما ذكره أبو بكر الرازي وقد بينا
المعنى فيه, ومن أصحابنا من فرق بين هذا وبين
الأول فقال لما أخر العتق عن موته بزمان ممتد
في يوم أو شهر وملك الوارث يتقرر في ذلك
الزمان عرفنا أن مراده الأمر بإعتاقه فلا يعتق
ما لم يعتقه.
وأما في مسألة المشيئة تتصل مشيئة العبد بموت
المولى قبل تقرر الملك للوارث فيعتق بإعتاق
المولى ولا تقع الحاجة إلى إعتاق الوارث إياه
وكذلك لو قال كل مملوك لي فهو حر بعد موتي
بيوم فهذا وما أوجب للمملوك بعينه سواء لما
بينا.
ولو قال كل مملوك لي فهو حر بعد موتي فما كان
في ملكه حين قال هذه المقالة فهو مدبر لأنه
تعلق عتقه بموت المولى وما دخل في ملكه بعد
ذلك لم يصر مدبرا ولكن إن مات وهو في ملكه عتق
من ثلثه مع المدبرين وهذا قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله.
وعند أبي يوسف رحمه الله لا يتناول هذا اللفظ
ما يستحدث الملك فيه وكذلك لو قال كل مملوك
أملكه فهو حر بعد موتي أو كل مملوك أملكه إذا
مت فهو حر.
فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول التعليق معتبر
بالتنجيز ولو نجز العتق بهذا اللفظ لم يتناول
العتق إلا ما هو مملوك له في الحال فكذلك إذا
علق بالموت وهذا في قوله كل مملوك لي ظاهر
لأنه سمى ما هو مضاف إليه في الحال وكذلك في
قوله كل مملوك أملكه.
فإن أهل اللغة يقولون المراد بهذا اللفظ الحال
وإذا أريد به الاستقبال يقيد بالسين أو سوف
فيقال سأملكه أو سوف أملكه.
والدليل عليه أن ما يستحدث الملك فيه لا يصير
مدبرا بالإتفاق ولو تناوله هذا اللفظ لصار
مدبرا كالموجود في ملكه وهما يقولان علق عتق
ما يملكه فيتناول ما مملوك له عند الموت والذي
استحدث الملك فيه مملوك له عند الموت كالموجود
في ملكه وهذا لأن الإضافة إلى ما بعد الموت
وصية وفي الوصية إذا لم يوجد التعيين من
الموصي عند الإيصاء يعتبر وجوده عند الموت كما
لو أوصى بثلث ماله لإنسان يتناول هذا ما يكون
ماله عند الموت فهذا مثله إلا أن التدبير
إيجاب العتق كما قررنا فلا يصح إلا بالملك أو
مضافا إلى الملك ففي حق الموجودين في ملكه وجد
الملك فيصح إيجاب حق العتق لهم وفي حق الذين
يستحدث الملك فيهم لم يوجد الإيجاب في الملك
ولا الإضافة إلى الملك إنما وجدت الإضافة إلى
الموت فلم يوجد لهم حق العتق بنفس الملك لأنه
لا يدري بقاؤهم في ملكه إلى وقت الموت
وباعتبار ذلك يتناولهم كلامه فلهذا كان له أن
يبيعهم وإذا لم يبعهم حتى مات فقد تناولهم
وصيته فيعتقون من الثلث لهذا.
قال: "وللمولى أن يؤاجر المدبرة ويستغلها
ويطأها ويزوجها ومهرها له كأم الولد" لأنهما
باقيتان على ملكه بعد ما ثبت لهما حق العتق
وإنما يمنع من التصرف المبطل لحقهما
ج / 7 ص -160-
دون
التصرف الذي لا يبطل حقهما كمن زوج أمته من
رجل له أن يبيعها لأنه غير مبطل لحق الزوج
وليس له أن يطأها ولا يزوجها من غيره فهنا
الهبة والبيع مبطل لحقهما فيمنع المولى من ذلك
وسائر التصرفات ليس بمبطل لحقهما فلا يمنع منه
وليس له أن يرهنهما لأن موجب الرهن ثبوت يد
الاستيفاء من المالية ولا مالية في أم الولد
واستيفاء الدين من مالية المدبر غير ممكن لأن
استيفاء الدين من المالية يكون بطريق البيع
وهي ليست بمحل للبيع.
قال: "وجناية المدبر على مولاه فيما بينه وبين
قيمته" لأن بالتدبير السابق منع الدفع على وجه
لم يصر مختارا للفداء وليس عليه في جنايته إلا
قيمة واحدة وإن كان بعضها بمباشرة وبعضها
يتسبب لأنه ما منع إلا رقبة واحدة وأما غرم
المستهلكات فدين في رقبته ويسعى فيه وقد بينا
نظيره في أم الولد وفي الجناية على المدبر ما
في الجناية على المماليك لأنه مملوك بعد
التدبير.
قال: "وإذا قال لعبده أنت مدبر أو قال قد
دبرتك فهو كما قال" لأن هذا اللفظ صريح فلا
فرق بين أن يذكره بصيغة الانشاء أو بصيغة
الوصف.
قال: "أرأيت لو كان أعجميا لا يفصح بالتدبير
فقال هذه المقالة أما يكون مدبرا" فهذه إشارة
إلى أن هذا اللفظ لكثرة الاستعمال في حكم
المعلوم لكل واحد.
وروى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا
قال أنت مدبر بعد موتي فهو مدبر في الحال وجعل
هذا وقوله أنت حر بعد موتي سواء لكثرة استعمال
هذا اللفظ لهذا المقصود.
قال: "وتدبير الصبي والمجنون باطل أطلقا أو
أضافا إلى ما بعد البلوغ والإفاقة" لأن حقيقة
الإعتاق منهما باطلة فإيجاب حق الحرية بالقول
كذلك.
وللشافعي رضي الله عنه قول أن تدبير الصبي
صحيح لأن التدبير عنده وصية وهو يجوز وصية
الصبي بما هو قربة لأن نفوذه يكون بعد وقوع
الاستغناء له فيه وفي حديث شريح رضي الله عنه
"أنه جوز وصية
غلام يفع" وهذا ضعيف لأن الوصية تبرع وقول الصبي في التبرعات هدر.
وقد تناقض مذهب الشافعي رضي الله عنه في هذا
فإنه لا يصحح إسلامه وقبوله الهبة والصدقة مع
أن ذلك محض منفعة له فأما السكران والمكره
فتدبيرهما جائز عندنا كإعتاقهما وأما المكاتب
فاعتاقه وتدبيره باطل لأن نفوذهما يستدعي
حقيقة الملك في المحل وليس للمكاتب حقيقة
الملك في كسبه.
قال: "وإذا قال العبد أو المكاتب إذا عتقت فكل
مملوك أملكه بعد ما أعتق فهو حر ثم عتق فملك
مملوكا فهو حر" لأنه مخاطب له قول ملزم في حق
نفسه وقد صرح بإضافة العتق إلى ما بعد حقيقة
الملك له فتصح إضافته ويكون عند وجود الملك
كالمنجز له.
قال: "ولو قال كل مملوك أملكه فيما أستقبل أو
إلى خمسين سنة فهو حر فعتق ثم ملك مملوكا لم
يعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ج / 7 ص -161-
وقال
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يعتق" لأن
له في المستقبل نوعي ملك ملك لا يقبل العتق
وهو حال قيام الكتابة وملك يقبل العتق وهو ما
بعد عتقه فينصرف مطلق لفظه إليهما ويصير
كالمنجز عند وجود حقيقة الملك كما في المسألة
الأولى وقاسا هذا بالحر إذا قال كل مملوك
اشتريه فهو حر فإنه يتناول ما يشتريه لنفسه لا
ما يشتريه لغيره حتى يعتق ما يشتريه لنفسه.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول ملكه في حال قيام
الكتابة ملك مجاز وبعد العتق حقيقة ولا يراد
باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز جميعا لأن
المجاز مستعار والحقيقة غير مستعارة وكما لا
يتصور أن يكون الثوب الواحد على إنسان ملكا
وعارية في حالة واحدة فكذلك لا يتصور الجمع
بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد والمجاز هنا
مراد بالإتفاق حتى لو قال إذا ملكت مملوكا
فيما استقبل فملك في حال قيام الكتابة ينحل
يمينه به, فإذا صار المجاز في مراد تنحى
الحقيقة وهذا المجاز مستعمل ورد الشرع به في
قوله من باع عبدا وله مال وهذا بخلاف الشراء
فإن الشراء للغير ليس بمجاز بل هو حقيقة
كالشراء لنفسه فيما يرجع إلى أحكام العقد ولأن
الإعتاق يستدعي أهلية المعتق والمحلية في
المعتق ثم لو انعدمت المحلية لم يصح الإيجاب
إلا مضافا إلى الملك أو سببه فكذلك إذا انعدمت
الأهلية في الحال لا يصح الإيجاب إلا مضافا
إلى حالة الأهلية صريحا وهو ما بعد العتق فإذا
لم يوجد ذلك في الفصل الثاني لم يكن كلامه
إيجابا للعتق.
قال: "وإذا قال لأمة الغير إذا ملكتك فأنت
مدبرة فولدت له ولدا ثم اشتراها فالأم مدبرة
دون الولد وكذلك العتق المنجز" لأن العتق
والتدبير إنما يصل إليهما بعد الملك وقد انفصل
الولد قبل ذلك ولا سراية إلى المنفصل.
قال: "ولو قال لرجل دبر عبدي فأعتقه فهو باطل"
لأنه خالف ما أمره به فكان مبتدئا لا ممتثلا.
قال: "ولو قال لصبي أو مجنون دبر عبدي إن شئت
فدبره جاز" وهذا على المجلس لتصريحه بالمشيئة
وقد تقدم نظيره في العتق والطلاق.
قال: "وإن جعل أمر عبده في التدبير إلى رجلين
فدبره أحدهما لا يجوز" لأنه ملكهما هذا التصرف
فلا ينفرد به أحدهما بخلاف ما لو قال دبرا
عبدي هذا فدبره أحدهما جاز لأنه جعلهما معبرين
عنه وعبارة الواحد وعبارة المثنى سواء, ألا
ترى أن له أن ينهاهما قبل أن يدبراه في هذا
الفصل وليس له ذلك في الفصل الأول.
قال: "وإذا اختلف المولى والمدبرة في ولدها
فقال المولى ولدتيه قبل التدبير وقالت هي
ولدته بعد التدبير فالقول قول المولى" لأنها
تدعي حق العتق لولدها ولو ادعت ذلك لنفسها كان
القول قول المولى إذا أنكر فكذلك إذا ادعت
لولدها فالقول قول المولى مع يمينه والبينة
بينة المدبرة لما فيها من زيادة إثبات حق
العتق لها.
ج / 7 ص -162-
قال:
"وعتق المدبر محسوب من ثلث المال بعد الدين
حتى إذا كان عليه دين يحيط بماله فعلى المدبر
السعاية في قيمته" لأنه وجب عليه رد رقبته
والعتق لا يمكن رده فكان الرد بإيجاب السعاية
وإن لم يكن عليه دين فهو حر من ثلث ماله يوم
يموت المولى ويستوي إن كان دبره في صحته أو في
مرضه لأن زوال المالية بالعتق بعد الموت
بالتدبير السابق فلهذا اعتبر من ثلث ماله يوم
يموت.
قال: "ولو دبر عبده ثم جن ثم مات فهو حر من
ثلثه" لأن التدبير قد صح في حال قيام عقله فلا
يبطل بجنونه وكذلك لو قال يوم أدخل الدار
فعبدي هذا مدبر ثم جن فدخل الدار فهو مدبر
بالكلام السابق لأن ذلك قد صح منه في حال
إفاقته. وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما
الله تعالى إذا قال لعبده إذا مت أو قتلت فأنت
حر على قول زفر رحمه الله تعالى يكون مدبرا
لأن عتقه تعلق بمطلق موت المولى حتى يعتق إذا
مات على أي وجه مات.
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يكون
مدبرا لأنه علق بأحد الشيئين الموت أو القتل
فإن كان موتا فالموت ليس بقتل وتعليقه بأحد
شيئين يمنع أن يكون عزيمة في أحدهما خاصة فلا
يصير مدبرا حتى يجوز بيعه.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه
إذا قال لعبده إذا مت وغسلت فأنت حر لا يكون
مدبرا لأنه علقه بالموت وبشيء آخر بعده ثم إذا
مات ففي القياس لا يعتق وإن غسل لأنه لما لم
يعتق بنفس الموت انتقل إلى الوارث فهو كقوله
إن مت ودخلت الدار فأنت حر وفي الاستحسان يعتق
لأنه يغسل عقيب موته قبل أن يتقرر ملك الوارث
فيه فهو نظير تعليقه بموت بصفة فإذا وجد ذلك
يعتق من ثلثه بخلاف دخول الدار فذلك لا يتصل
بالموت فيتقرر ملك الوارث فيه والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب تدبير العبد بين اثنين
قال: "رضي الله عنه عبد بين اثنين دبره أحدهما
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتدبر
نصيبه خاصة" لأن التدبير يحتمل التجزي عنده ثم
إن كان المدبر موسرا فللآخر خمس خيارات إن شاء
دبر نصيبه لقيام ملكه في نصيبه وإذا فعل صار
مدبرا بينهما وإن شاء أعتق نصيبه لقيام ملكه
في نصيبه أيضا وإن شاء استسعى لأن نصيبه صار
كالمحتبس عند المدبر حيث تعذر عليه التصرف في
نصيبه بالبيع وغيره وإن شاء ضمن صاحبه لأنه
أفسد عليه نصيبه وهو موسر كما لو أعتقه وإن
شاء تركه على حاله لأن الملك للمدبر باق في
نصيبه فيتمكن الشريك من استدامة الملك في
نصيبه أيضا بخلاف ما بعد عتق أحد الشريكين وإن
كان المدبر معسرا فليس للساكت حق التضمين وله
الخيار بين الأشياء الأربعة كما قلنا فإن أعتق
الساكت نصيبه وهو موسر فللمدبر الخيار إن شاء
ضمنه نصف قيمته مدبرا. إن شاء
ج / 7 ص -163-
استسعى
الغلام في ذلك وإن شاء أعتق لأنه بعد التدبير
كان متمكنا من استدامة الملك في نصيبه وقد
أفسد عليه صاحبه ذلك بإعتاق نصيبه فله أن
يضمنه إن كان موسرا ويرجع هو بما ضمن على
الغلام وأي ذلك اختار فالولاء بينهما لأنه
بالتدبير لسابق استحق ولاء نصيبه على وجه لا
يحتمل الإبطال فهو وإن ضمن شريكه بعد ذلك لم
يتحول الملك في نصيبه إلى الشريك لأن المدبر
لا يحتمل النقل من ملك إلى ملك ورجوع الضامن
على الغلام باعتبار أنه يقوم مقام من ضمنه لا
باعتبار أنه يصير مالكا ولهذا كان الولاء
بينهما وإن لم يعتقه الثاني ولكن ضمن المدبر
قيمة نصيبه صار الغلام كله للمدبر لأن نصيب
الشريك غير مدبر فيملكه بالضمان ويكون حاله
كحال من دبر نصف عبده فهو مملوك له نصفه مدبر
ونصفه غير مدبر وإن لم يضمنه ولكن استسعاه
فأدى إليه السعاية عتق نصيبه حكما بأداء
السعاية فيكون المدبر بالخيار إن شاء أعتق
نصيبه وإن شاء استسعى في قيمة نصيبه وليس له
أن يضمن شريكه بخلاف ما لو أعتقه لأن
الاستسعاء كان بسبب التدبير الموجود منه فهذا
عتق حصل بسبب رضى المدبر به فلهذا لا يضمنه
بهذا السبب وإذا أعتقه ابتداء فلم يكن ذلك
العتق بسبب التدبير الموجود في المدبر فله أن
يضمنه إن شاء وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى إذا دبره أحدهما كان مدبرا كله ويضمن
نصف قيمته لشريكه موسرا كان أو معسرا لأن
التدبير عندهما لا يتجزي فيصير المدبر متملكا
نصيب شريكه.
وروى المعلي عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن
المدبر إذا كان معسرا فالمدبر يسعى في نصف
قيمته سعاية ملك لا سعاية ضمان وفي هذا أشار
إلى الفرق بين التدبير والاستيلاد كما روينا
في نظير هذا
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن السعاية على
أم الولد سعاية ضمان لأنه لا يلزمها السعاية
في ديون مولاها, وأما السعاية على المدبر
سعاية ملك على معنى أن كسبه مملوك للمولى
فيكون مصروفا إلى دينه
ألا ترى أن عليه السعاية في دين مولاه بعد
الموت وليس ذلك على أم الولد.
قال ابن أبي ليلى إذا دبر أحدهما كان للآخر
بيع حصته منه لأنه لما ملك الآخر استدامة
الملك في نصيبه غير مدبر عرفنا أن التدبير لم
يؤثر في نصيبه فكان له أن يبيعه ولكنا نقول
بالتدبير يجب حق العتق في بعضه في الحال وذلك
مانع من بيعه كحقيقة العتق.
وقال ابن أبي ليلى أيضا إذا دبر أحدهما ثم
أعتق الآخر فالتدبير باطل والعتق جائز وهو
بناء على أصله أن العتق لا يتجزأ فيبطل به
تدبير المدبر فيضمن المعتق للمدبر إن كان
موسرا ولكنا نقول المدبر استحق ولاء نصيبه على
وجه لا يحتمل الإبطال فلا يبطل ذلك بإعتاق
الآخر.
قال: "أمة بين رجلين قالا جميعا لها أنت حرة
بعد موتنا لم تصر مدبرة" لأن عتق نصيب كل واحد
منهما ما تعلق بمطلق موته, بل تعلق بموتهما
فكان هذا بمنزلة ما لو قال كل واحد
ج / 7 ص -164-
منهما
أنت حر بعد موتي وموت فلان فلا يكون مدبرا
ولكن إذا مات أحدهما صار نصيب الآخر مدبرا
لأنه يتعلق عتق نصيبه بمطلق موته الآن ونصيب
الذي مات صار ميراثا لورثته لأن شرط عتقه لم
يتم بموته.
ثم الورثة بالخيار إن كان الشريك موسرا بين
الأشياء الخمسة على قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى بمنزلة ما لو أنشأ تدبير نصيبه في
الحال.
فإن قيل: كيف يكون ضامنا وإنما تدبر نصيبه
بسبب كان ساعده عليه الميت وورثته في ذلك
خلفاؤه؟
قلنا: نعم الورثة خلفاؤه فيما كان ثابتا في
حقه والتدبير لم يكن ثابتا في نصيب واحد منهما
قبل الموت وإنما يثبت في نصيب الحي بعد ما
انتقل الملك في نصيب الميت إلى ورثته فلهذا
كان لهم أن يضمنوه.
قال: "مدبرة بين رجلين مات أحدهما عتق نصيبه
منها وسعت للآخر في قيمة نصيبه ولا ضمان له في
تركة الميت" لأن العتق حصل بسبب التدبير الذي
رضيا به إلا أن نصيبه بعد التدبير بقي مالا
متقوما وقد احتبس عندها فتسعى له.
قال: "فإن مات الآخر قبل أن تسعى له عتق نصيبه
أيضا إن خرج من ثلثه وسقط عنه السعاية عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى" لأن نصيبه كان ثابتا
على ملكه ما لم تؤد السعاية فتعتق بموته من
ثلثه وعندهما لا يسقط عنها السعاية لأن عندهما
العتق لا يتجزىءفقد عتق كلها بموت الأول
والسعاية دين عليها فلا يسقط ذلك بموت المولى.
قال: "مدبرة بين رجلين ولدت ولدا فادعى أحدهما
الولد ففي القياس لا يثبت نسبه منه" لأن نصيب
الشريك من الولد مدبر وبالتدبير يجب حق العتق
فلا يملك الآخر إبطاله بالدعوة ولأنه تعذر
إثبات الاستيلاد في نصيب الشريك لأن نصيبه
مدبر لا يحتمل النقل من ملك إلى ملك, ولكنه
استحسن فقال يثبت نسبه منه لأن قيام ملكه في
النصف كاف لصحة دعوته والولد محتاج إلى النسب
ويكون عليه نصف العقر ونصف قيمته مدبرا بخلاف
الأمة القنة فإن هناك المستولد يصير متملكا
نصيب شريكه منها من وقت العلوق فيعلق الولد حر
الأصل فلهذا لا يضمن قيمة الولد وهنا لا يصير
متملكا نصيب شريكه منها لأنها مدبرة فيصير
الولد مقصودا بالإتلاف فيضمن قيمة نصيب شريكه
منه مدبرا وكذلك لو ادعاه وهي حبلى فولدت كان
القول فيه كذلك لأن الجنين في البطن محل للعتق
واستحقاق النسب بالدعوة فهو كالمنفصل فإن
ولدته بعد ذلك ميتا فلا ضمان عليه فيه لأنه لم
تعرف حياته وإتلاف صاحب الدعوة نصيب شريكه فلا
يكون ضامنا وإن ضرب
إنسان بطنها فألقت جنينا ميتا بعد الدعوة لأقل
من ستة أشهر فعلى الجاني نصف عشر قيمته في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن كان غلاما وعشر
قيمتها إن كانت جارية لأبي الولد لأن النسب
يثبت منه بالدعوة فلم يعتق نصيب الشريك منه
وأرش الجنين المملوك هذا المقدار وعلى أب
الولد نصف عشر قيمتها إن كانت جارية لشريكه
وإن كان غلاما فربع عشر قيمته لأن حصة نصيبه
من الأرش
ج / 7 ص -165-
هذا
وباعتبار سلامة الأرش لأب الولد يجب عليه
الضمان إذ لا دليل على حياته إلا ذلك فيتقدر
الضمان بقدره لهذا وعليه نصف العقر لإقراره
بوطئها والمدبرة على حالها في خدمتها لهما فإن
ولدت ولدا آخر فادعاه أب الولد أيضا فهو ابنه
لما قلنا وعليه نصف قيمته مدبرا لاتلافه نصيب
الشريك فيه مقصودا بالدعوة وعليه نصف العقر
أيضا من قبل الوطء الثاني لأن نصيب الشريك
منها باق على ملكه فوطؤه في ذلك القدر حصل في
غير ملكه وولاء الولد بينهما لأن الولد انفصل
مدبرا بينهما فاستحق كل واحد منهما ولاء نصيبه
حتى أنه إن جنى جناية كانت على عاقلتهما
باعتبار الولاء الثابت لهما إذ لا منافاة بين
النسب والولاء ولو ولدت آخر بعد ذلك فادعاه
الشريك الآخر كان ابنه لقيام الملك له في نصفه
وحاجته إلى النسب فإن نسب الولد الثاني لا
يثبت من المدعي الأول قبل الدعوة لأنها ما
صارت فراشا له ووطؤها حرام عليه لأجل الشركة
فلهذا يثبت نسبه من الآخر وكان ضامنا لنصف
العقر ونصف قيمته مدبرا.
وجوابه في ضمان نصف العقر قولهم جميعا فأما في
ضمان نصف القيمة فهو قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى لأن نصيب المدعي الأول من
الولد بمنزلة نصيبه من الأم أم الولد ولا قيمة
لرق أم الولد عند أبي حنيفة رحمه الله فلهذا
لا يضمن الشريك بالدعوة له شيئا من قيمة الولد
عنده ثم الجارية صارت أم ولد بينهما لأن كل
واحد منهما استولدها فصح استيلادها في نصيبه
منها فإذا مات أحدهما عتقت ولا سعاية عليها
للحي في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وفي قولهما تسعى له في نصف قيمتها وقد تقدم
بيان هذا.
قال: "مدبرة بين اثنين ولدت ولدا فادعاه
أحدهما ثم مات الآخر عتق نصيبه منها من ثلثه
بالتدبير وعتق نصيب أب الولد من غير سعاية في
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى" لأن نصيبه صار
أم ولد ولا سعاية على أم الولد عنده وإن مات
أب الولد عتق نصيبه من جميع المال بالاستيلاد
وسعت للآخر في نصف قيمتها مدبرة لأن نصيب
الآخر مدبر وليس بأم الولد والمدبر يلزمه
السعاية, وبهذه المسألة يتبين أن الاستيلاد
يحتمل التجزي عند أبي حنيفة رحمه الله.
قال: "مدبرة بين رجلين جاءت بولد فشهد كل واحد
منهما على صاحبه أنه ادعاه وأنكراه فالغلام
حر" لأنهما تصادقا على أنه حر والحق لهما لا
يعدوهما ولا سعاية عليه لأن كل واحد منهما
يتبرأ من سعايته ويزعم أنه حر الأصل والجارية
بينهما تخدمهما على حالها لأنها كانت مدبرة
بينهما وبقيت كذلك بعد إقرارهما فإن مات
أحدهما عتق نصيبه من ثلث ماله بالتدبير وسعت
في نصيب الآخر لأن الاستيلاد لم يثبت بشهادة
الذي مات في نصيب الحي فإنه كان منكرا لذلك
وهذا بخلاف ما إذا كانت أمه غير مدبرة فإن بعد
موت أحدهما لا تسعى للآخر لأن الآخر يتبرأ من
سعايتها ويزعم أنها أم ولد للشريك الميت قد
عتقت بموته وحقه في الضمان قبله فلهذا لا
يستعيها هناك.
ج / 7 ص -166-
قال:
"جارية بين رجلين شهد أحدهما على صاحبه أنه
دبرها وأنكر الآخر ذلك فقد دخلها بشهادته شيء
حتى لا تباع ولا توهب ولا تمهر" لأن شهادة
الشاهد في حقه يجعل كأنه حق ولو كان التدبير
من أحدهما معلوما لم يمكن بيعها بعد ذلك فكذلك
إذا شهد به أحدهما وهو وشهادته عليه بالعتق
سواء في هذا الحكم فإن مات الشاهد فهي بين
ورثته وبين المشهود عليه كما كانت لأن نصيب
الشاهد ليس بمدبر على قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى باتفاقهما فيخلفه ورثته فيه بعد موته
فإن مات المشهود عليه عتقت وسعت في جميع
قيمتها لأن الشاهد مقر بعتق نصيب المشهود عليه
عند موته فيفسد رقها بزعمه.
ثم ورثة المشهود عليه يقولون الشاهد كاذب وقد
تعذر استدامة الملك فيها عليه.
قلنا: له أن يستسعيها في قيمة نصيبها والشاهد
يقول عتق نصيب شريكي بموته ولي حق استسعائها
في نصيبي فلهذا سعت في جميع قيمتها بينهما وإن
شهد كل واحد منهما على صاحبه بالتدبير فهي
بينهما كالمدبرة لاعتبار زعم كل واحد منهما في
حقه وأيهما مات سعت في جميع قيمتها لورثته
وللحي لما بينا أن كل واحد منهما يدعي السعاية
ويزعم أن نصيب شريكه عتق بموته أو بإقرار
شريكه.
قال: "وإذا عتق أحد الشريكين العبد ثم دبره
الآخر فتدبيره صحيح في قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى" لأن نصيبه باق على ملكه وتدبيره
يكون إبراء للمعتق عن الضمان واختيارا للسعاية
فيسعى له الغلام في نصف قيمته مدبرا لأن قدر
نقصان التدبير حصل بمباشرته واكتسابه سبب
استحقاق الولاء فلهذا يسعى له في نصف قيمته
مدبرا.
قال: "عبد بين ثلاثة نفر دبر أحدهم نصيبه ثم
أعتق الآخر نصف نصيبه وهو غني فقد أبرأ المدبر
عن الضمان" لأنه و أعتق جميع نصيبه كان مبريا
له عن الضمان فكذلك إذا أعتق البعض إذ ليس له
حق التضمين في بعض نصيبه دون البعض.
ثم يسعى له العبد فيما بقي من نصيبه لأن نصيبه
بمنزلة عبد كامل ومن أعتق بعض عبده فله أن
يستسعيه فيما بقي عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى قال فيضمنه المدبر إن شاء ثلث قيمته
مدبرا وإن شاء استسعى الغلام فيه لأنه تعذر
عليه استدامة الملك في نصيبه بإعتاق المعتق
بعض نصيبه فهو كما لو تعذر عليه استدامة الملك
فيه بإعتاق المعتق جميع نصيبه.
وأما الثالث فله أن يضمن المدبر إن كان موسرا
وليس له أن يضمن الثاني لأن المدبر بالتدبير
السابق قد اكتسب سبب الضمان للثالث على نفسه
وصار نصيبه بحيث لا يحتمل الانتقال إلا إليه
بالضمان والسبب الموجود منه لا يحتمل الإبطال
لأنه يثبت به استحقاق العتق والولاء فلا يبطل
ذلك الحكم بإعتاق الثاني فلهذا لا يكون له أن
يضمن الثاني ولكن يضمن المدبر ويرجع به المدبر
على العبد فيستسعيه في ذلك كما يستسعيه في
نصيب نفسه لأنه تملك على الثالث نصيبه
بالضمان.
قال: "ولو لم يعتق الثاني حتى ضمن الثالث
المدبر نصيبه ثم أعتقه الثاني وهو موسر
ج / 7 ص -167-
كان
للمدبر أن يضمنه ثلثي قيمته ثلث مدبر وثلث غير
مدبر" لأنه بالضمان يملك نصيب الثالث غير مدبر
ثم صنع المعتق في الإعتاق وجد بعد ذلك فله أن
يضمنه باعتبار هذا الصنع قيمة جميع نصيبه كل
ثلث بصفته بخلاف ما سبق فإن صنع المعتق هناك
وجد قبل أن يتملك المدبر نصيب شريكه بالضمان
فلهذا لا يكون له أن يضمنه قيمة نصيب الثالث
باعتبار ذلك الصنع ثم يرجع المعتق على العبد
بما ضمنه للمدبر وذلك ثلثا قيمته وثلث الولاء
للمعتق بقدر نصيبه الذي أعتق وثلثا الولاء
للمدبر أما مقدار نصيبه وهو الثلث فلا إشكال
فيه لأنه استحق ولاءه بالتدبير وأما نصيب
الثالث فلأنه كان لا يحتمل الانتقال إلا إليه
وبعد النقل إليه لم ينتقل إلى المعتق وإن
ضمنه, ألا ترى أنه لم يكن للثالث حق تضمين
المعتق ولو كان يجوز نقل هذا النصيب إليه بحال
لكان له أن يضمنه وإذا ظهر أنه غير محتمل
للانتقال إليه فإنما عتق على ملك المدبر فلهذا
كان له ولاء الثلثين, ألا ترى أنه لو كان بين
اثنين فدبر أحدهما ثلث نصيبه وأعتق الآخر
نصيبه كله وهو موسر كان للمدبر أن يضمن المعتق
قيمته نصيبه وهونصف قيمة العبد ثلثه مدبر
وثلثاه غير مدبر ويرجع به المعتق على العبد
والولاء بينهما نصفان لأن حصة المدبر قد دخلها
عتق حين دبر بعضه فلا ينتقل شيء من نصيبه إلى
المعتق بالضمان فكذلك ما سبق.
وإذا قال إن ملكت شيئا من هذا العبد فهو حر
بعد موتي ثم ملكه مع آخر صار نصيبه منه مدبرا
لأن المتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز
ولم يكن لشريكه أن يضمنه في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى والتدبير في هذا وتنجيز العتق
سواء وهذا فرع ما تقدم من اختلافهم في رجلين
اشتريا عبدا وهو قريب أحدهما.
كان أبو بكر الرازي يقول هذا غلط فإن الملك
هنا شرط العتق لا علته ومباشرة أحد الشريكين
للشرط لا يسقط حقه في الضمان كما في مسألة ضرب
السوط فمعاونته على تحصيل الشرط أو رضاه به
كيف يكون مسقطا ولكنا نقول ما ذكره في الكتاب
صحيح وهذا شرط في معنى السبب لأنه مصحح
للتعليق فإن التعليق في غير الملك لا يصح إلا
مضافا إلى الملك, ألا ترى أنه لو علق عتق هذا
المملوك أو تدبيره بشرط آخر كان باطلا وإذا
كان مصححا لما هو السبب كان في معنى المتمم
للسبب فمعاونته إياه عليه يكون مسقطا حقه في
الضمان بخلاف ضرب السوط.
فإن قيل: كان ينبغي أن يقال إذا قال لعبد
الغير إذا ملكتك فأنت حر ثم اشتراه بنية
الكفارة أن يجوز عن الكفارة كما لو اشترى
قريبه وبالإتفاق لا يجوز.
قلنا: هذا الشرط مصحح لليمين ولكنه غير موجب
للعتق بل الموجب للعتق هو اليمين ولا بد من أن
تقترن نية الكفارة بالسبب الموجب للعتق فأما
الرضا بما يصحح ليمين كالرضا باليمين في إسقاط
حقه في التضمين وأشار في الكتاب إلى علة أخرى
فقال لأنهما لم يملكاه جميعا معناه أن وجوب
الضمان يعتمد الصنع وصنعه اتصل بالمملوك قبل
ملك الشريك, لأن
ج / 7 ص -168-
صنعه
الشراء والملك حكم الشراء والحكم يعقب السبب
فلا يكون له أن يضمنه بصنع سبق ملكه كمن قطع
يد عبد إنسان ثم باعه مولاه فسرى إلى النفس
عند المشتري ليس للمشتري أن يضمن القاطع شيئا
لهذا المعنى وهذا الطريق يستقيم هنا وفي مسألة
شراء القريب أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب وإليه المرجع والمآب.
"
باب تدبير ما في البطن
قال: رضي الله عنه "أمة بين رجلين دبر أحدهما
ما في بطنها جاز كما لو أعتق ما في بطنها فإن
ولدت لأقل من ستة أشهر بعد هذا القول فهو مدبر
والشريك فيه بالخيار بين التدبير والتضمين
والاستسعاء" لأنا تيقنا أنه كان موجودا في
البطن وقت التدبير فهو كالمنفصل وإن ولدته
لأكثر من ستة أشهر لم يعمل فيه التدبير لأنا
لم نتيقن بوجوده حين دبر لعلها حبلت به بعد
ذلك ومع الشك لا يثبت التدبير.
ولو قال أحدهما ما في بطنك حر بعد موتي وقال
الآخر أنت حرة بعد موتي فولدت لأقل من ستة
أشهر بعد النطق الأول فالولد مدبر بينهما لأنا
علمنا أنه كان موجودا حين دبره الأول فتدبر
نصيبه بتدبيره ونصيب الشريك بتدبيره حصته من
الأم فلهذا كان الولد مدبرا بينهما وحصة الذي
دبر الأم مدبر مع الأم وشريكه فيها بالخيار
وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر فالولد مدبر للذي
دبر الأم لأنا لم نتيقن بوجوده عند تدبير
الأول فإنما يثبت فيه حكم التدبير بطريق
التبعية للأم من جهة الذي دبر الأم وثبوت حكم
التبعية باعتبار أنه كالجزء من وجه وفي هذا لا
ينفصل بعضه عن بعض فلهذا كان الولد كله مدبرا
للذي دبر الأم بخلاف الأول فإن نصيب الشريك من
الولد هناك صار مقصودا ينفرد التدبير من جهته
فيه ثم نصف الأم مدبر للذي دبرها والآخر
بالخيار إن شاء ضمن شريكه نصف قيمة الأم إن
كان موسرا والولد للمدبر بغير ضمان لأن الضمان
إنما لزمه من حين دبر وعلوق الولد بعد ذلك فلا
يثبت فيه حق الشريك
ألا ترى أنها لو ازدادت في بدنها لم يكن
للشريك الآخر تضمين نصف القيمة إلا وقت
التدبير فكذلك إذا كانت الزيادة منفصلة لأنها
صارت في حكم المستسعاة حتى ثبت له حق أن
يستسعيها في نصف قيمتها بذلك التدبير
والمستسعاة كالمكاتبة تكون أحق بولدها فلهذا
لم يجب على المدبر شيء من ضمان قيمة الولد وإن
شاء الشريك استسعاها في نصف قيمتها ولا يسعى
الابن في شيء لما بينا أن المستسعاة كالمكاتبة
فلا يثبت لمولاها فيما يحدث لها من الولاء بعد
ذلك حق يمكنه من استسعائه الولد فإن دبر
أحدهما ما في بطنها ثم أعتق الآخر نصيبه البتة
ثم ولدت بعد ذلك بشهر فالمدبر بالخيار إن شاء
أعتق حصته من الولد وإن شاء استسعى وإن شاء
ضمن المعتق إن كان موسرا ويرجع الذي ضمن به
على الولد لأنا تيقنا أنه كان موجودا في البطن
عند تصرفهما فيكون حكم هذا وحكم ما لو كان
تصرفهما في الولد بعد الانفصال سواء, قال: "ذا
دبر الرجل ما في بطن جاريته لم يكن له أن
يبيعها ولا يهبها ولا يمهرها
ج / 7 ص -169-
وقد
ذكر في كتاب الهبة إذا أعتق ما في بطن أمته ثم
وهبها جازت الهبة بخلاف ما لو باعها وقيل في
المسألة روايتان.
وجه هذه الرواية أن ما في البطن صار بحيث لا
يحتمل التمليك فتمليكها دون ما في بطنها
بالهبة لا يتحقق فلهذا لا يجوز هبتها.
ووجه تلك الرواية أن ما في البطن يصير مستثنى
ويجعل كأنه استثناه نصا والهبة لا تبطل في
الجارية باستثناء ما في البطن نصا بخلاف البيع
والأصح هو الفرق بين التدبير والعتق فنقول بعد
ما أعتق ما في بطنها لو وهب الأم جاز كما ذكر
هناك وبعد ما دبر ما في البطن لو وهب الأم لا
يجوز كما ذكر هنا والفرق أن بالتدبير لا يزول
ملكه عما في البطن فإذا وهب الأم بعد التدبير
فالموهوب متصل بما ليس بموهوب من ملك الواهب
فيكون في معنى هبة المشاع فيما يحتمل القسمة
وأما بعد العتق ما في البطن غير مملوك
فالموهوب غير متصل بما ليس بموهوب من ملك
الواهب فهو كما لو وهب دارا فيها ابن الواهب
وسلمها إلى الموهوب له تتم الهبة فإن ولدته
لأقل من ستة أشهر فالولد مدبر وإن ولدته لأكثر
من ستة أشهر كان رقيقا لأنا لم نتيقن بوجوده
في البطن وقت التدبير وإن ولدت ولدين أحدهما
لأقل من ستة أشهر بيوم والآخر لأكثر من ستة
أشهر بيوم فهما مدبران لأنا تيقنا بوجود الأول
منهما وقت التدبير وهما توأم خلقا من ماء واحد
فمن ضرورة وجود أحدهما من ذلك الوقت وجود
الآخر.
" قال " " ولو دبر ما في بطن أمته ثم كاتبها
جازت الكتابة " لأن الكتابة تعقد للعتق وثبوت
حق العتق في الولد لا يمنع عقد العتق في الأم
وإن وضعت بعد هذا القول لأقل من ستة أشهر كان
التدبير في الولد صحيحا ولكن يثبت أيضا في
الولد حكم الكتابة تبعا للأم فإذا أدت عتقا
جميعا وإن مات المولى قبل أن تؤدي عتق الولد
بالتدبير من الثلث, وعلى الأم السعاية في
المكاتبة على حالها وإن لم يمت المولى حتى
ماتت الأم فعلى الولد أن يسعى فيما على أمه
لأنه ولد مولود في الكتابة فإن مات المولى
فالولد بالخيار لأنه تلقاه جهتا حرية أحدهما
بالتدبير والآخر بأداء كتابة الأم فيختار أنفع
الوجهين له وإن كان يخرج من ثلث مال الميت عتق
ولا شيء عليه لأن مقصوده قد حصل.
قال: "ولو قال لأمته ولدك الذي في بطنك ولد
مدبرة أو ولد حرة وهو لا يريد بهذا عتقا لم
تعتق" لأن هذا تشبيه وليس بتحقيق فكأنه قال
لها أنت مثل الحرة أو المدبرة وقد بينا هذا
فيما سبق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
وإليه المرجع والمآب.
باب مكاتبة المدبر
قال: "رضي الله عنه وإذا كاتب الرجل مدبره ثم
مات وهو يخرج من ثلثه عتق بالتدبير وسقطت عنه
المكاتبة" لوقوع الاستغناء له عن أداء المال
وهو بمنزلة ما لو أعتق المولى مكاتبه
ج / 7 ص -170-
وإن لم
يكن له مال غيره فإنما يعتق ثلثه بالتدبير ثم
لا يسقط عنه شيء من بدل الكتابة في قول أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى.
وقال محمد رحمه الله يسقط عنه ثلث الكتابة
لأنه عتق ثلثه بالتدبير ولو عتق كله سقط عنه
جميع بدل الكتابة فكذلك إذا عتق ثلثه يسقط عنه
ثلث بدل الكتابة اعتبارا للجزء بالكل قياسا
على ما إذا كاتبه أولا ثم دبره ثم مات ولا مال
له سواه فإنه يسقط عنه ثلث بدل الكتابة لما
عتق عليه ثلثه بالتدبير فكذلك إذا سبق التدبير
الكتابة ولا معنى لقول من يقول إن المستحق
بالتدبير لا يرد عليه عقد الكتابة لأنه لو أدى
جميع بدل الكتابة في حياته يعتق كله ولو كان
المستحق بالتدبير لم يرد عليه الكتابة لما عتق
بالأداء ولأن استحقاق المدبر ثلثه بالتدبير
كاستحقاق أم الولد جميعها بالاستيلاد ثم لو
كاتب أم ولده صحت الكتابة ووجب المال فعرفنا
أن هذا الاستحقاق لا يمنع ورود عقد الكتابة
عليه ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى
طريقان:
أحدهما أن بدل الكتابة بمقابلة ماوراء المستحق
بالتدبير لأن موجب الكتابة ثبوت ما لم يكن
ثابتا في المكاتب والبدل بمقابلة ذلك لا
بمقابلة ما هو ثابت وقد بينا أن التدبير يوجب
استحقاق شيء له فلا يتصور استحقاق ذلك
بالكتابة ليكون البدل بمقابلته بل بمقابلة
ماوراء ذلك بمنزلة ما لو طلق امرأته اثنتين ثم
طلقها ثلاثا بألف كان الألف كلها بإزاء
التطليقة الثالثة, ألا ترى أنه لو استحق جميع
نفسه بالتدبير بأن خرج من الثلث بطلت الكتابة
وكذلك في أم الولد إذا مات المولى حتى تقرر
استحقاقها في جميع نفسها بطلت الكتابة فأما
قبل الموت الكتابة صحيحة لأن الاستحقاق غير
متقرر لجواز أن يموتا قبل المولى وإذا ثبت أن
بدل الكتابة بمقابلة ما وراء المستحق بالتدبير
وشيء من ذلك لم يسلم للعبد بموت المولى فلا
يسقط شيء عنه من بدل الكتابة وهذا بخلاف ما لو
كاتبه أولا ثم دبره لأن بدل الكتابة هناك
بمقابلة جميع الرقبة فإنه لم يكن مستحقا لشيء
من رقبته عند الكتابة فإذا عتق بعض الرقبة بعد
ذلك بالتدبير سقط حصته من بدل الكتابة.
والطريق الآخر أن التدبير الآخر وصية بالرقبة
له والوصية بالعين لا تنفذ من مال آخر بحال
كما لو أوصى بعبده لإنسان ثم باعه أو قتل لا
تنفذ الوصية من قيمته ولا من ثمنه فلو أسقطنا
شيئا من بدل الكتابة كان فيه تنفيذ وصيته من
غير ما أوصى له به وذلك لا يجوز بخلاف ما لو
كاتبه أولا ثم دبره لأن عند التدبير هناك حقه
أحد الشيئين أما بدل الكتابة إن أدى أو مالية
الرقبة إن عجز فيكون موصيا له بما هو حقه
فلهذا ينفذ من بدل الكتابة إذا عرفنا هذا
فتخريج المسألة على قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى فيما إذا دبره أولا ثم كاتبه أنه يتخير
بعد موت المولى إن شاء سعى في جميع بدل
الكتابة وإن شاء سعى في ثلثي قيمته بالتدبير
أو بالكتابة لأن عنده العتق يتجزي وقد تلقاه
جهتا حرية إما السعاية في ثلثي قيمته بالتدبير
أو في بدل الكتابة بجهة العقد فيختار أي
الوجهين شاء.
ج / 7 ص -171-
وعند
أبي يوسف رحمه الله تعالى يسعى في الأقل منهما
بغير خيار لأن العتق عنده لا يتجزأ فقد عتق
كله والمال عليه فلا يلزمه إلا أقل المالين
وعند محمد رحمه الله تعالى يسعى في الأقل من
ثلثي قيمته ومن ثلثي بدل الكتابة لأن ثلث بدل
الكتابة قد سقط ولا يتجدد لأن العتق عنده لا
يتجزأ ولو كان كاتبه أولا ثم دبره ثم مات
المولى فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتخير
بين أن يسعى في ثلثي قيمته أو ثلثي بدل
الكتابة لما بينا أنه تلقاه جهتا حرية وربما
يكون التخيير مفيدا لمنفعة له في أحدهما دون
الآخر وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
يسعى في أقل المالين بلا خيار لأن العتق
عندهما لا يتجزأ.
قال: "وإذا كاتب مدبرته فولدت ولدا ثم ماتت
يسعى الولد فيما عليها" لأنه مولود في كتابتها
فيبقى عقد الكتابة ببقائه لأنه جزء منها فإن
كانا ولدين فأدى أحدهما المال كله من سعايته
لم يرجع على صاحبه بشيء لأنه ما أدى عن صاحبه
شيئا وإنما أدى عن الأم فإن بدل الكتابة عليها
ولأن كسب كل واحد منهما للأم, ألا ترى أنها في
حياتها كانت أحق بكسب كل واحد منهما لتستعين
به في أداء الكتابة فكان أداء أحدهما من كسبه
بمنزلة الأداء من مال الأم وكذلك إن كاتب
مدبرين له جميعا وكل واحد منهما كفيل عن الآخر
ثم مات وترك أحدهما ولدا ولد له في مكاتبته من
أمته فعليه أن يسعى في جميع الكتابة لأنه قائم
مقام أبيه وإنما يسعى لتحصيل العتق لأبيه
ولنفسه ولا يحصل العتق لأبيه إلا بأداء جميع
بدل الكتابة فلهذا كان عليه السعاية في جميع
بدل الكتابة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
وإليه المرجع والمآب.
باب الشهادة على التدبير
قال: رضي الله عنه "وإذا شهد شاهد أنه دبر
عبده وشهد آخر أنه أعتق فالشهادة باطلة"
لأنهما اختلفا في المشهود به لفظا ولا يتمكن
القاضي من القضاء بشيء إذ ليس على واحد من
الأمرين شهادة شاهدين وكذلك إن شهدا بالتدبير
واختلفا في شرطه قال أحدهما أعتقه بعد موته
وموت فلان وقال الآخر بعد موته خاصة لأن
اختلافهما في الشرط اختلاف في المشهود به على
وجه يتعذر على القاضي القضاء بشيء وكذلك لو
شهد أحدهما أنه دبر أحد عبديه والآخر أنه دبر
هذا بعينه وإن شهدا أنه دبر أحد عبديه بغير
عينه فالشهادة باطلة في قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى كما بيناه في العتق البات فإن مات
المولى قبل أن يترافعوا إلى القاضي ثم شهدا
بعد موته استحب أن أجيز شهادتهما لأن العتق
يتنجز فيهما بالموت ولأن في الوصية معنى حق
الموصي,
وذكر بعد هذا الموضع في نظير هذه المسألة أن
الشهود قالوا كان ذلك في المرض وفي حكم قبول
الشهادة سواء قالوا ذلك أو لم يقولوا فالشهادة
مقبولة وإنما ذكر هذا القيد لمقصود آخر وإن
كانا شهدا بذلك في حياته فأبطلها القاضي لم
يقبلها بعد ذلك لأنه اتصل الحكم برد هذه
الشهادة وكل شهادة حكم القاضي بردها لا يقبلها
بعد ذلك.
ج / 7 ص -172-
قال:
"وإن شهدا أنه قال هذا حر بعد موتي لا بل هذا
عتقا جميعا من ثلثه" لأن كلمة لا بل لاستدراك
الغلط بالرجوع عن الأول وإقامة الثاني مقامه
ولا يصح رجوعه عن تدبير الأول ويصح تدبيره في
الثاني فكانا شاهدين لكل واحد منهما بالتدبير
بعينه وكذلك إن شهدا أنه قال هذا حر البتة لا
بل هذا مدبر لأنهما شهدا للأول بعينه بالحرية
وللثاني بعينه بالتدبير ولو شهدا أنه قال هذا
حر أو هذا مدبر لم تجز شهادتهما في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لأنهما ما شهدا للمعين
بشيء فإن حرف أو بين الكلامين يخرج كلامه من
أن يكون عزيمة في واحد منهما والشهادة لغير
المعين بالعتق أو التدبير غير مقبولة عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى ولو شهدا أنه قال هذا
مدبر أو هذا جازت الشهادة للأول وحده عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لأن هذا اللفظ لو
سمعناه من المولى ثبت به التدبير للأول ويخير
المولى في الباقين فكانا شاهدين للأول بعينه
وهو مدع لذلك فيجوز شهادتهما له ولا يجوز لأحد
الآخرين بغير عينه وهما كلامان ينفصل أحدهما
عن الآخر فبطلان أحدهما لا يبطل العمل بالآخر
ولو شهدا أنه قال أحد هذين العبدين مدبر لا بل
هذا لأحدهما بعينه صار الذي عينه مدبرا لأنهما
شهدا له بعينه بالتدبير ويحلف للآخر بالله ما
عناه بأول كلامه فإذا حلف كان عبدا له على
حاله ولو اختلف المولى والمدبرة في ولدها أنها
ولدته قبل التدبير أو بعده قد بينا أن القول
في ذلك قول المولى مع يمينه ويحلف على العلم
لأنه استحلاف على فعلها وهو ما ادعت من
ولادتها بعد التدبير وإذا شهدا أنه دبر أحد
عبديه ثم شهدا أنه أعتق أحدهما في صحته ولا
مال له غيرهما فشهادتهما باطلة في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى في العتق والتدبير
جميعا في القياس لأنهما لم يعينا المشهود له.
ولكني أستحسن أن أجيزها في التدبير لأنها وصية
فيعتق من كل واحد منهما ثلثه ويسعى في ثلثي
قيمته وفي هذا بيان أن طريق الاستحسان لأبي
حنيفة رحمه الله تعالى ما بينا أن في الوصية
حق الموصي دون تنجيز العتق فيهما بالموت فإن
العتق في الصحة والتدبير في ذلك سواء وإن شهدا
أنه دبر هذا بعينه وأعتق أحدهما البتة في صحته
كانت شهادتهما في العتق البات باطلة في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنهما شهدا به
لغير المدعي المعين إذ المدبر والقن في
المحلية للعتق البات سواء حتى لو أقر الورثة
بذلك ولا مال للميت غيرهما عتق من كل واحد
منهما نصفه من جميع المال لأن الحرية في الصحة
تثبت لأحدهما فيشيع العتق فيهما بموت المولى
قبل البيان فيعتق من كل واحد منهما نصفه ويعتق
من المدبر ثلث ما بقي منه وهو ثلث رقبته فكان
السالم له خمسة أسداس رقبته ويسعى في سدس
قيمته والآخر يسعى في نصف قيمته وإن أقروا أن
العتق البات كان في المرض يعتبر من الثلث
وإنما سلم للآخر نصف رقبته فيضرب هو في الثلث
بنصف رقبته والمدبر بجميع رقبته فيصير الثلث
بينهما أثلاثا والمال على تسعة إلا أن المال
رقبتهما ولو جعلنا كل رقبة أربعة ونصفا لانكسر
بالإنصاف فيضعف ونجعله من ثمانية عشر كل رقبة
على تسعة وقد كان للمدبر سهمان.
ج / 7 ص -173-
فبالتضعيف صار أربعة فلهذا سلم له أربعة اتساعه ويسعى في خمسة
اتساعه وللقن نصف ذلك سهمان ويسعى في سبعة
اتساعه فيستقيم الثلث والثلثان إن كانت
قيمتهما سواء
فإن قيل: لماذا لم يجعل العتق في المرض للقن
كله ليكون كلامه محمولا على الصحة فإن المدبر
موصى له بجميع رقبته والعتق في المرض وصية فما
يصرف إليه من ذلك يكون لغوا؟
قلنا: إنما لم يجعل هكذا لأن المدبر محل للعتق
في المرض والصحة جميعا وبقاء المحلية فيه يمنع
تعين الآخر للعتق البات فلا بد من اعتبار
الأحوال فيه فيعتق في حال دون حال فيعتق نصفه
فلهذا ضرب في الثلث بنصف رقبته والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع
والمآب.
باب المكاتب إذا دبره مولاه
قال: "رضي الله تعالى
عنه رجل دبر مكاتبا له فهو بالخيار إن شاء نقض
الكتابة وكان مدبرا له وإن شاء مضى على
المكاتبة" لأنه تلقاه جهتا حرية أحدهما عاجل
ببدل والآخر آجل بغير بدل فله أن يميل إلى أي
الجانبين شاء وعقد الكتابة غير لازم في حق
العبد لتمكنه من أن يعجز نفسه فلهذا كان له
الخيار وإن مات المولى ولا مال له غيره يسعى
في الأقل من ثلثي قيمته ومن ثلثي المكاتبة,
وقد بينا أن قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد
رحمهم الله تعالى تخييره في ذلك ولو لم يعلم
المكاتب بالتدبير حتى أدى المكاتبة كلها فقد
عتق بالأداء والمال سالم للمولى ولا خيار له
بعد ذلك لأن التدبير قد بطل بعتقه ولو أدى
البعض ثم علم كان له الخيار لبقاء الرق فيه
وإذا اختار التدبير فما أخذه المولى حلال له
لأنه كسب عبده.
قال: "ولو كاتب عبدين مكاتبة واحدة على ألف
درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه ثم دبر
أحدهما ثم مات المولى وله مال كثير عتق المدبر
من ثلثه وسقطت حصته من المكاتبة " لوقوع
الاستغناء له عن أدائها كما لو أعتقه المولى
في حياته وأخذ الورثة بحصة الآخر أيهما شاؤوا
لأن المكاتب الثاني أصيل في حصته والمدبر كان
كفيلا مطالبا فلا تسقط عنه تلك المطالبة بعتقه
فإن أداها المدبر رجع بها عليه كما لو أداها
قبل عتقه بل أولى لأن هناك هو منتفع بالأداء
لأنه يعتق بذلك والآن لا منفعة له في الأداء
بل إنما أداها بحكم الكفالة المحضة وإن لم يكن
له مال غيرهما عتق المدبر بالتدبير من الثلث
وسعى فيما يجب عليه فإن كانت قيمة كل واحد
منهما ثلاثمائة ومكاتبتهما ألف بطل حصة المدبر
من المكاتبة واعتبر قيمته ثلاثمائة لأنه أقل
والمتيقن من حق المولى هو الأقل فعرفنا أن
المال ثلاثمائة قيمة المدبر وخمسمائة حصة
الآخر من المكاتبة وذلك ثمانمائة ثلثه وذلك
مائتان وستة وستون وثلثا درهم يسلم للمدبر من
قيمته ويسعى فيما بقى وهو أربعمائة وثلاثة
وثلاثون وثلث ثم يؤخذ المدبر بما بقي على
المكاتب لأنه كفيل به ولا يؤخذ المكاتب بما
على المدبر لأنه قد خرج من المكاتبة ولزمته
السعاية من قبل التدبير والمكاتب لم يكن كفيلا
عنه بذلك. فإن كانت
ج / 7 ص -174-
قيمة
كل واحد منهما ألف درهم ومكاتبتهما على ألف
درهم فاختار المدبر أن يسعى في الكتابة فله
ذلك لأن ذلك ربما ينفعه عسى يكون بدل الكتابة
منجما مؤجلا وإذا اختار ذلك يسقط ثلث المكاتبة
لأنه عتق ثلثا رقبته بالتدبير والوصية كانت له
بما هو حق المولى فلهذا يسقط ثلث المكاتبة
ويبقى للورثة ثلثا المكاتبة عليهما يأخذون
بذلك أيهما شاؤوا فإن أدى المدبر رجع على
الآخر بثلاثة أرباع ذلك مقدار حصته وهو
خمسمائة وإن أدى المكاتب رجع على المدبر بربع
ذلك وهو مقدار ما بقي من حصته وإذا كان
المكاتب بين اثنين فدبره أحدهما فاختار
المكاتب أن يسعى فهو على حاله وسعايته لأن
التدبير لا ينافي الكتابة ابتداء وبقاء
والمدبر غير مفسد على شريكه شيئا ما بقيت
الكتابة فإن عجز فالذي لم يدبر بالخيار لأن
عمل تدبيره في الإفساد قد ظهر بعد العجز فكان
حكم هذا كحكم عبد بين اثنين دبره أحدهما وقد
بيناه رجل قال لأمتين إذا ملكتكما فأنتما
حرتان بعد موتي فاشترى إحداهما فولدت عنده ثم
اشترى الآخرى فقد صارتا مدبرتين لأن الشرط
ملكهما فإنما تم عند شراء الثانية وولد الأولى
رقيق يباع لأنه انفصل عنها قبل ثبوت حكم
التدبير فيها فإن المتعلق بالشرط لا يصل إلى
المحل إلا بعد وجود كمال الشرط.
قال: "وإذا أسلم مدبر ذمي قضى عليه بالسعاية
في قيمته وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجبر
على بيعه" لأن المدبر عنده محل للبيع وعندنا
هو كأم الولد وقد بينا هذا الحكم في أم الولد
فإن أدى السعاية عتق وإن مات المولى قبل أن
يؤدي وهو يخرج من ثلثه عتق بالتدبير وسقطت عنه
السعاية لحصول المقصود بدونه وكذلك إن صالحه
المولى على قيمته من غير محاكمة فهذا واستسعاء
القاضي سواء لأن السبب الموجب للاستسعاء قائم
بعد عجزه إلا أنه إن كان في مال الصلح فضل على
قيمته يبطل القاضي ذلك الفضل عنه إذا عجز
ويجبره على أن يسعى في قيمته.
قال: "وإذا دبر الحربي عبده في دار الحرب فهو
باطل كما لو أعتقه في دار الحرب" لأن ثبوت حق
العتق بالتدبير من أحكام الإسلام وأحكام
الإسلام لا تجري عليهم في دار الحرب فإن خرجا
بأمان فأسلم العبد أجبر على بيعه لأن تدبيره
في دار الحرب كان لغوا وإن دبره بعد ما خرجا
بأمان فتدبيره جائز لأن حكم الإسلام يجري
عليهما في دارنا فيما يرجع إلى المعاملات فإن
أسلم هذا المدبر قضى عليه بالسعاية في قيمته
لأن ملك المستأمن محترم بالأمان وبيعه بسبب
التدبير متعذر فإن لحق المولى بدار الحرب وهو
يسعى ثم قتل المولى أو ظهر على الدار أو أسر
عتق العبد وبطلت عنه السعاية أما إذا قتل
المولى فلوجود شرط العتق بالتدبير وإن أسر
فلان ملكه عنه قد بطل لأن الرقيق ليس من أهل
ملك المال والمدبر ليس يحتمل النقل من ملك إلى
ملك والمملوك تى زال عن ملك المولى لا إلى أحد
كان حرا وإن ظهر على الدار لم يبق لملكه حرمة
والسعاية كانت لحرمة ملكه فإذا لم يبق ذلك عتق
وبطلت عنه السعاية.
ج / 7 ص -175-
قال:
"ولو كان خرج بأم ولد له ثم أسلمت قضى عليها
بالسعاية" لأن الاستيلاد في دار الحرب صحيح
تبعا للنسب فإن قضى عليها بالسعاية ثم أسلم
المولى فإن أدت السعاية عتقت وإن عجزت ردت أم
ولد له لأن المانع من استدامة ملكه فيها قد
ارتفع بإسلامه فلو أسلمت وباعها من نفسها بمال
قليل أو كثير جاز وكانت حرة بالقبول والمال
دين عليها وإن مات المولى قبل أن يسلم أو بعد
ما أسلم فالمال دين عليها على حاله لأنها عتقت
بالقبول فموت المولى وحياته بعد ذلك سواء.
قال: "وإذا دبر المرتد عبده فهو موقوف في قول
أبي حنيفة رحمه الله كسائر تصرفاته" فإن مات
أو قتل أو لحق بدار الحرب فتدبيره باطل والعبد
رقيق للورثة وإن أسلم ورجع إلى دارنا ووجد
العبد في يد الورثة فأخذ فهو مدبر على حاله
لأنه يعود إلى قديم ملكه بالأخذ فينفذ ذلك
التدبير منه بمنزلة ما لو أسلم قبل اللحاق
بالدار لأن التدبير في حقه كان صحيحا لأنه
بالردة لم يخرج من أن يكون مخاطبا وأصل ملكه
باق بعد الردة وإنما كان التوقف لحق الورثة
وقد سقط حقهم حين عاد مسلما وكذلك إن كان
القاضي قضى به للورثة وباعوه فبيعهم جائز لأن
التدبير كان صحيحا في حقه فإنه كان مالكا له
يومئذ فمتى حصل الملك له بأي وجه حصل كان
مدبرا وإن استولد في ردته فهي أم ولد له وإن
أسلم أو قتل أو لحق بدار الحرب لأن ثبوت أمية
الولد لها باعتبار نسب الولد ولا حجر على
المرتد عن ذلك لأنه لا حق للورثة فيه ولأن
ملكه في كسبه أظهر من ملك الأب في مال ولده
فإذا كان يصح الاستيلاد من الأب فمن المرتد
لأن يصح أولى وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى التدبير منه صحيح كالاستيلاد فإذا
لحق بدار الحرب أعتقه القاضي من ثلثه كما يعتق
المدبر الذي دبره في حال إسلامه بناء على
مذهبهما في نفوذ تصرفات المرتد وتمام بيانه في
السير.
قال: "وإذا دبر المسلم عبده ثم ارتد العبد
ولحق بدار الحرب أو اشتراه أهل الحرب فأصابه
المسلمون فأسلم رد إلى مولاه مدبرا على حاله"
لأنه ثبت فيه حق الحرية بالتدبير فلا يبطل
بردته ولحاقه كما لا تبطل حقيقة العتق والمدبر
ليس بمحل للتملك بالاستيلاد فلم يملكه أهل
الحرب ولا المسلمون للولاء المستحق عليه
لمولاه ولهذا رد إلى مولاه مدبرا على حاله
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه
المرجع والمآب.
باب الأمة الحامل إذا بيعت
قال: "رضي الله عنه رجل باع أمة وسلمها أو لم
يسلمها حتى ولدت ولدا فادعياه جميعا فنقول إذا
كان البائع سبق بالدعوة فإن جاءت به لأقل من
ستة أشهر من وقت البيع ثبت النسب منه
استحسانا" وفي القياس لا يثبت وهو قول زفر
رحمه الله تعالى لأنه مناقض في كلامه ساع في
نقض ما قد تم به ولكنا نقول تيقنا أن العلوق
كان في ملكه وبحصول العلوق في ملكه ثبت له حق
استلحاق النسب فلا يبطل ذلك ببيعه لأن حق
استلحاق النسب لا يحتمل الإبطال كالنسب ولأن
البيع دونه في احتمال النقض والإبطال والضعيف
لا يبطل القوي.وإن جاءت
ج / 7 ص -176-
به
لأكثر من ستة أشهر لم يصدق البائع لأنا لم
نتيقن بحصول العلوق في ملكه وإن كان المشتري
سبق بالدعوة ثبت النسب منه سواء جاءت به لأقل
من ستة أشهر أو لأكثر من ستة أشهر لأن دعوته
حصلت في ملكه ثم لا تصح دعوة البائع بعد ذلك
لاستغناء الولد عنه لثبوت نسبه من المشتري
ولأن ثبوت النسب أقوى من حق الاستلحاق والضعيف
لا يبقى بطريان القوي, وإذا ادعياه معا فإن
كانت ولدت لأقل من ستة أشهر فهو ابن البائع
عندنا.
وعند إبراهيم النخعي هو ابن المشتري لأن له
حقيقة الملك وقت الدعوة فيترجح بذلك.
ولكنا نقول دعوة البائع أسبق معنى لأنه يستند
إلى حالة العلوق فإن أصل العلوق كان في ملكه
فكانت الجارية أم ولد له والبيع باطل فإن جاءت
به لستة أشهر فدعوة المشتري أولى لأنا لم
نتيقن بحصول العلوق في ملكه وقد بينا هذه
الفصول فيما أمليناه من شرح الدعوى وإن ولدت
ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر والآخر لستة
أشهر فالدعوة دعوة البائع لأنهما توأم وقد
تيقنا بحصول الأول منهما في ملكه فيتبع الشك
اليقين ويجعل كأنها ولدتهما لأقل من ستة أشهر
وإن كان المشتري أعتق الأم قبل الدعوة لم ترد
رقيقة لأن العتق نفذ فيها لقيام ملك المشتري
فيها وقت الإعتاق فخرجت من أن تكون محلا لنقض
البيع فيها ولأنا لو نقضنا البيع والعتق كانت
أم ولد للبائع فيطأها بالملك بعد ما حكمنا
بحريتها وذلك لا يجوز إلا أن الولد محتاج إلى
النسب بعد عتقها وحق الاستلحاق الذي كان
للبائع في الولد باق فلهذا يثبت النسب منه
وينقض البيع فيه بحصته من الثمن لأن الولد صار
مقصودا بالاسترداد فيكون له حصة من الثمن يرده
البائع على لمشتري وليس من ضرورة ثبوت نسب
الولد ثبوت أمية الولد في الأم كما في ولد
المغرور وإن كان أعتق المشتري الولد قبل
الدعوة فدعوة البائع باطل لأن الولاء قد ثبت
للمشتري وهو أقوى من حق الاستلحاق الذي كان
للبائع فلا يبقى الضعيف بعد طريان القوي ولا
تصير الأم أم ولد للبائع لأن حقها تبع لحق
الولد في النسب ولم يصدق البائع فيما هو الأصل
فكذلك في التبع وكذلك إن لم يعتقه ولكنه مات
ثم ادعاه البائع لأنه بالموت قد استغنى عن
النسب وخرج من أن يكون محلا لثبوت نسبه ابتداء
وإذا كان للولد ولد حي لم تجز دعوة البائع
أيضا بخلاف ولد الملاعنة فإن هناك النسب كان
ثابتا استتر باللعان فيبقى بعد موته ببقاء ولد
يخلفه حتى يظهر بدعوته وهنا النسب لم يكن
ثابتا أصلا ولا يمكن إثباته بعد موته ابتداء
فلهذا لا يعتبر بقاء ولد الولد في تصحيح دعوته
وقد قررنا هذا الفرق في الدعوى.
قال: "وإذا باع أمته فولدت بعد البيع لأكثر من
ستة أشهر فادعاه البائع وصدقه المشتري ثبت
النسب منه وفسخ البيع" لأن المانع من صحة
دعوته حق المشتري ولأنهما تصادقا على أن
العلوق كان قبل البيع والحق لا يعدوهما فإذا
تصادقا على شيء ثبت ما تصادقا عليه وإن لم تلد
حتى باعها المشتري وتناسخها رجال ثم ولدت لأقل
من ستة أشهر من وقت البيع الأول فادعوه جميعا
فهو ابن البائع الأول لأن أصل العلوق كان في
ملكه فتكون دعوته في المعنى
ج / 7 ص -177-
أسبق
وتفسخ البيوع كلها لأن البيوع في احتمال الفسخ
كبيع واحد فلا يبطل بذلك حق الاستلحاق الذي
كان للبائع الأول وكذلك لو باع ولدا ولد عنده
ثم ادعاه لأن أصل العلوق والولادة كان في ملكه
فحق استلحاق النسب له في هذا الفصل أظهر
والتناقض لا يمنعه من الدعوى لخفاء أمر العلوق
فقد يشتبه عليه في الابتداء فيظن أن الولد ليس
منه ثم يعلم أنه منه فيتدارك ذلك بالدعوة.
قال: "وإذا كان في يدي رجل صبي لا ينطق ولد
عنده أو لم يولد عنده فزعم أنه عبده وأعتقه ثم
زعم أنه ابنه لم يصدق في القياس للتناقض وصدق
في الاستحسان" لخفاء أمر العلوق على ما بينا
ولأنه يقر له بالنسب في حال حاجته إلى النسب
وهو في يده بعد العتق ولو كان لقيطا في يده
فادعى نسبه ثبت نسبه منه فهنا أولى ولو كان
عبدا كبيرا فأعتقه ثم ادعاه ومثله يولد لمثله
ثم صدقه الغلام ثبت نسبه منه وإن كذبه لم يثبت
لأنه في يد نفسه وهو معبر عن نفسه فتتوقف صحة
دعوة نسبه على تصديقه بخلاف ما قبل العتق فإنه
في يد مولاه باعتبار ملكه ولا قول له في نفسه
فكان صدقا في دعوة نسبه من غير تصديقه.
قال: "وإنما استحسن في الصغير كما استحسن في
المدبرة بين اثنين جاءت بولد فادعاه أحدهما أن
نسبه يثبت منه وهو ضامن لنصف قيمته مدبرا ونصف
عقر أمه" فكأنه أشار إلى أن بالعتق يثبت
الولاء له والولاء لا يحتمل النقض فيبطل حق
استلحاق النسب في القياس كما في ولد المدبرة
بينهما لما ثبت نصف الولاء لشريكه لم يصدق في
الدعوة في القياس ولكنه استحسن فقال لا منافاة
بين ثبوت النسب منه وبين الولاء للشريك. وفي
إثبات النسب منفعة للصغير فلهذا ثبت النسب منه
في الفصلين جميعا ثم قال هنا وولاء الولد بينه
وبين شريكه وبنحوه أجاب في كتاب الدعوى وقال
في كتاب الولاء نصف ولاء الولد للشريك والنصف
الآخر بمنزلة الأب ومعنى هذا أيضا أن الولاء
في النصف الآخر للأب ولكن لا يظهر في حقه بعد
ثبوت النسب إلا عند جناية الولد وقد بينا هذا
فيما سبق وأما الأم فنصيب الأب منها أم ولد
ونصيب الشريك منها مدبر لأنه غير محتمل
للانتقال إليه بعد التدبير وإنما يصير الكل أم
ولد له إذا لم يملك نصيب شريكه بالضمان فأما
إذا تعذر تملكه عليه اقتصر الاستيلاد على
نصيبه ولو كان عبدا كبيرا بينهما ثم دبراه ثم
ادعاه أحدهما ثبت النسب منه لأن بالتدبير لم
يزل ملكهما ولم يظهر للعبد يد في نفسه ولا
حاجة إلى تصديقه ولكن يثبت النسب من أحدهما
بالدعوة استحسانا كما قبل التدبير والولاء
بينهما كأنهما بالتدبير استحقا ولاءه ولا
منافاة بين الولاء والنسب.
قال: "وإذا ولدت ولدين في بطن واحد فباع
المولى أحدهما مع الأم فادعاه المشتري ثبت
نسبهما منه" لأنهما توأم والذي في يد البائع
عبد له لأن دعوة المشتري دعوة التحرير فإن أصل
العلوق لم يكن في ملكه فهو بمنزلة الإعتاق
والتوأم ينفصل أحدهما عن الآخر في الإعتاق فإن
لم يدع المشتري ولكنه أعتقه مع الأم ثم ادعى
البائع الذي عنده ثبت نسبهما جميعا منه لما
ج / 7 ص -178-
قلنا
وثبت حرية الأصل للولد الذي عند البائع لأن
أصل العلوق كان في ملكه والتوأم لا ينفصل
أحدهما عن الآخر في حرية الأصل فمن ضرورة
ثبوته لأحدهما ثبوته للآخر ومن ضرورة الحكم
بحرية الأصل للولد الذي عند المشتري الحكم
ببطلان عتقه لأن حر الأصل لا يعتق ولكن ليس من
ضرورة ذلك بطلان عتق الأم إذ الاستيلاد ليس من
ضرورة نسب الولد فلهذا رد البائع حصة الابن
على المشتري من الثمن ولا يرد حصة الأم, ولأنا
لو نقضنا عتقه في الولد إنما ننقضه لإثبات ما
هو أقوى منه وهو حرية
الأصل ولو نقضنا عتقه في الأم ننقضه لما هو
أضعف وهو حق أمية الولد ويؤدي إلى أن توطأ
بملك اليمين بعد الحكم بحريتها وذلك لا يجوز.
قال: وإذا باع أمة حاملا فخاف المشتري أن يدعي
البائع ولدها فأراد أن يتحرز منه فإنه يشهد
عليه أن هذا الحبل من عبد كان له قد زوجها منه
فإذا أقر البائع بهذا لم يستطع أن يدعيه أبدا
في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يستطيع
أن يدعيه إن أنكر العبد الولد لأن إقراره بنسب
الولد للعبد يبطل بتكذيب العبد وإذا بطل
الإقرار صار كالمعدوم من الأصل وشبها هذا
بالولاء فإن الولاء بمنزلة النسب ثم لو ادعى
المشتري للعبد أن البائع أعتقه فكذبه البائع
كان له أن يدعي ولاءه لنفسه بعد ذلك لبطلان
إقراره بتكذيب البائع.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إقراره تضمن
حكمين انتفاء النسب عنه وثبوته من العبد
فبانكار العبد يبطل إقراره بالحكم الذي يتصل
به وهو ثبوت نسبه منه ولا يبطل في الحكم الآخر
وهو انتفاؤه من المقر لأن أحد الحكمين ينفصل
عن الآخر, ألا ترى أن ولد الملاعنة يقطع نسبه
عن الملاعن ولا يكون لأحد فيه حق دعوة النسب
لأن في إثبات النسب منه بالفراش حكم بنفيه عن
غيره فبعد ذلك وإن أبطلنا باللعان حكم إثبات
النسب من الملاعن يبقى معتبرا في الحكم الآخر
وليس النسب كالولاء لأنه أثر من آثار الملك
فيتصور فيه الانتقال من شخص إلى شخص بخلاف
النسب وتمام بيان هذا الفرق في البيوع".
قال: "أمة بين رجلين باعها أحدهما من صاحبه
فولدت لأقل من ستة أشهر فادعياه معا فهو
ولدهما ويبطل البيع" لأن العلوق أصله كان في
ملكهما فاستويا في استلحاق النسب وإذا جاز
إبطال البيع في جميعها بدعوة الولد ففي نصفها
أولى وإن ادعاه البائع وأعتقه المشتري معا
كانت الدعوة أحق لأنه يستند إلى حالة العلوق
فقيام ملكه في نصفها وقت العلوق كقيام ملكه في
جميعها في ثبوت حرية الأصل وإذا كانت الدعوة
أسبق وثبت بها حرية الأصل للولد كان إعتاق
المشتري فيه باطلا والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.
باب المكاتب
قال: رضي الله عنه اختلف الصحابة رضوان الله
عليهم أجمعين في وقت عتق المكاتب, فكان ابن
عباس رضي الله عنه يقول كما أخذ الصحيفة من
مولاه يعتق يعني بنفس العقد لأن الصحيفة عند
ذلك تكتب وكأنه جعل الكتابة واردا على الرقبة
كالعتق بجعل يعتق بالقبول وهو
ج / 7 ص -179-
غريم
للمولى فيما عليه من بدل الكتابة. وكان ابن
مسعود رضي الله عنه يقول إذا أدى قيمة نفسه
عتق وهو غريم للمولى في الفضل فكأنه اعتبر
وصول قدر مالية الرقبة إلى المولى ليندفع به
الضرر عنه
وكان علي رضي الله عنه يقول يعتق بقدر ما أدى
فكأنه يعتبر البعض بالكل وهو بناء على قوله
يعتق الرجل من عبده ما شاء.
وكان زيد ابن ثابت رضي الله عنه يقول هو عبد
ما بقي عليه درهم وبه أخذ جمهور الفقهاء
وقالوا لا يعتق ما لم يؤد جميع البدل, والدليل
عليه الحديث الذي بدأ به الكتاب ورواه عن عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "من كاتب عبده على مائة
أوقية فأداها إلا عشر أواقي فهو رقيق والأوقية
أربعون درهما" وفي هذا دليل على أنه لم يعتق شيء منه إلا بأداء جميع البدل وهذا
لأن موجب العقد مالكية اليد في حق المكاسب
والمنافع للمكاتب فإنه كان مملوكا يدا ورقبة
فهو بعقد الكتابة يثبت له مالكية اليد لأن
مالكية اليد من كرامات بني آدم وهو مع الرق
أهل لبعض كرامات. ألا ترى أنه أهل لمالكية
النكاح ومالكية اليد تنفصل عن مالكية الرقبة,
ألا ترى أن الراهن يثبت للمرتهن ملك اليد وأن
الغاصب يضمن بتفويت اليد فكذلك بالكتابة يثبت
له مالكية اليد فأما العتق متعلق بشرط الأداء
والشرط يقابل المشروط جملة ولا يقابله جزءا
فجزءا لأن ثبوت الحكم عند وجود الشرط نظير
ثبوت الحكم بالعلة فلهذا لا يعتق شيء منه ما
لم يؤد جميع البدل.
وفي هذا الحديث دليل أيضا على أنه لا يستحق
على المولى حط شيء من بدل الكتابة عنه وإن كان
يستحب له ذلك على ما رواه عن علي رضي الله عنه
في قوله:
{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: من الآية33] قال ربع المكاتبة.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه حط عن مكاتب
له أول نجم حل عليه وقرأ هذه الآية ولكن الأمر
قد يكون بمعنى الندب فبالحديث المرفوع تبين أن
المراد الندب دون الحتم وهو مذهبنا.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يستحق عليه
حط ربع البدل وهو قول عثمان رضي الله عنه
لظاهر الآية فإن مطلق الأمر للوجوب لأن هذا
عقد إرفاق يجري بين المولى وعبده ولا يقصد
المولى به التجارة وإنما يقصد إيصاله به إلى
العتق فيكون إرفاقا ويستحق بكل عقد ما كان
العقد مشروعا لأجله فإذا كان هذا العقد مشروعا
للإرفاق ينبغي أن يستحق ما هو محض الإرفاق وهو
حط بعض البدل.
"وحجتنا" فيه أن العقد يوجب البدل فلا يجوز أن
يكون موجبا لإسقاط البدل إذ الشيء لا يتضمن
ضده والقياس لنا فإنه عقد معاوضة فلا يستحق به
حط شيء من البدل كسائر المعاوضات إذ يعتبر أحد
العوضين بالآخر, فالمراد بالآية الندب دون
الحتم فإنه معطوف على الأمر المذكور في قوله:
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: من الآية33]
فذلك ندب وليس بحتم إذ لا يجب عليه أن يكاتب
عبده وإن علم أن فيه خيرا فكذلك قوله:
{وَآتُوهُمْ} [النور: من الآية33] لأن
ج / 7 ص -180-
حكم
المعطوف حكم المعطوف عليه, وذكر الكلبي أن
المراد به دفع الصدقة إلى المكاتبين فيكون هذا
خطابا للناس بصرف الصدقة إلى المكاتبين
ليستعينوا بذلك على أداء المكاتبة كما قال في
بيان مصارف الصدقات
{وَفِي الرِّقَابِ}
[البقرة: من الآية177] والمراد المكاتبون
والدليل عليه أنه قال:
{مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: من الآية33] والمال المضاف إلى الله تعالى مطلقا هو
الصدقة, ثم ذكر عن ابن عمر رضي الله عنه أن
مكاتبا له عجز فكسر مكاتبته فرده في الرق, ففي
هذا دليل على أن الكتابة تحتمل الفسخ وفيه
دليل على أن المكاتب إذا كسر نجما فللمولى أن
يفسخ الكتابة ويرده في الرق وهو قول أبي حنيفة
ومحمد لأنه قد تغير عليه شرط عقده وذلك يثبت
للعاقد حق الفسخ في العقود المحتملة للفسخ,
وقال أبو يوسف رحمه الله لا يرد في الرق ما لم
يكسر نجمين وهو قول علي رضي الله عنه قال إذا
اجتمع على المكاتب نجمان فدخلا رد في الرق
وكان هذا استحسان من أبي يوسف رحمه الله تعالى
لأن العقد مبني على الإرفاق وفي رده في الرق
عند كسره نجما واحدا تضييق عليه فلمعنى التوسع
والإرفاق شرط أن يتوالى عليه نجمان, وقد روى
عن أبي يوسف رحمه الله قال هذا إذا كانت
النجوم مستوية فإن كانت متفاوتة فكسر نجما
واحدا يرد في الرق لأنه لما عجز عن أداء الأقل
فالظاهر أنه عن أداء عن الأكثر أعجز.
وفي حديث علي و ابن عمر رضي الله عنهم دليل
على أن للمولى أن يفسخ الكتابة عند عجز
المكاتب من غير أن يحتاج فيه إلى المرافعة إلى
القاضي فيكون حجة على ابن أبي ليلى لأنه يقول
لا يرد في الرق إلا بقضاء القاضي فإن العجز لا
يتحقق بدون القضاء فإن المال غاد ورائح وجعل
هذا العجز نظير عجز العنين عن الوصول إلى
امرأته ثم الفرقة هناك لا تكون إلا بقضاء
القاضي.
ولكنا نقول العقد تم بتراضيهما والمولى ما رضي
بلزوم هذا العقد إلا بشرط فإذا فات عليه ذلك
الشرط يتمكن من فسخه لانعدام رضاه به بخلاف
النكاح فإنه لا يعتمد تمام الرضا وبخلاف الرد
بالعيب قبل القبض لأن المشتري ينفرد بالرد
بالعيب قبل القبض لفوات شرطه وهو أصل لنا,
فأما بعد القبض فقد قامت الدلالة لنا على تمام
الصفقة بالقبض وبعد تمام الصفقة لا ينفرد
بالفسخ لحاجته إلى نقض القبض التام ونقل
الضمان إلى البائع, ثم اختلف الصحابة رضوان
الله عليهم في المكاتب إذا مات وترك وفاء
بمكاتبته قال علي و ابن مسعود رضي الله عنهما
يؤدي كتابته ويحكم بحريته حتى يكون ما بقي
ميراثا لورثته وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله
تعالى.
وقال زيد ابن ثابت رضي الله عنه تنفسخ
الكتابة بموته والمال كله للمولى وبه أخذ
الشافعي رحمه الله تعالى واحتج فيه وقال
المعقود عليه فات بموته قبل سلامته وذلك موجب
انفساخ العقد كهلاك البيع قبل القبض وهذا لأن
المعقود عليه هو الرقبة فإن العقد يضاف إليه
والدليل عليه أن عند فساد العقد يرجع إلى قيمة
الرقبة والرجوع عند فساد العقد
ج / 7 ص -181-
إلى
قيمة المعقود عليه ولأنه لو بقي لبقي ليعتق
بوصول بدل الكتابة إلى المولى والميت ليس بمحل
للعتق ابتداء لما في العتق من أحداث قوة
المالكية وذلك لا يتصور في الميت ولا يجوز أن
يستند العتق إلى حال حياته لأن المتعلق بالشرط
لا يسبق الشرط وفي إسناده إلى حال حياته إثبات
العتق قبل وجود الشرط وهو الأداء وهذا بخلاف
ما إذا مات المولى لأن المولى ليس بمعقود عليه
بل هو عاقد والعقد يبطل بهلاك المعقود عليه لا
بموت العاقد ولأنه لو بقي العقد بعد موت
المولى يعتق بالأداء إلى الورثة وصار المولى
معتقا له ويجوز أن يكون الميت معتقا ولا يجوز
أن يكون معتقا, ألا ترى أنه لو قال لعبده أنت
حر بعد موتي كان صحيحا ولو قال بعد موتك كان
لغوا وكذلك لو أوصى بأن يعتق عبده بعد موته
كان صحيحا فإذا أعتق كان المولى هو المعتق حتى
يكون الولاء له والفقه في الكل أنه يبقى ملكه
بعد موته حكما لحاجته كما في القدر المشغول
بالدين فإذا بقي ملكه صار معتقا ولكن لا يجوز
أن يبقى مملوكا بعد موته حكما لأن إبقاء
المالكية لمعنى الكرامة وليس في إبقاء
المملوكية بعد الموت معنى الكرامة له وإذا لم
تبق المملوكية لا يتصور أن يكون معتقا بعد
موته. "وحجتنا" فيه أنه عقد معاوضة لا ينفسخ
بموت أحد المتعاقدين فلا ينفسخ بموت الآخر
كعقد البيع وهذا لأن قضية مطلق المعاوضة
التسوية بين المتعاقدين والخصم لا ينازع في
هذا ولكنه يدعي أن في موت المكاتب فوات
المعقود عليه وليس كذلك فإن المعقود عليه ما
يسلم للعاقد بمطلق العقد والرقبة لا تسلم له
بمطلق العقد إنما السالم له مالكية اليد وهو
المعقود عليه وقد سلم بنفس العقد وإضافة العقد
إلى الرقبة لا يدل على أن المعقود عليه هو
الرقبة كما تضاف الإجارة إلى الدار والمعقود
عليه المنفعة والرجوع عند الفساد بقيمة الرقبة
ليس لأن المعقود عليه هو الرقبة ولكن لأن ما
هو المعقود عليه لا يتقوم بنفسه وهو مالكية
اليد فيصار إلى قيمة أقرب الأشياء إليه كما في
الخلع يصار إلى رد المقبوض عند فساد التسمية
لأن ما هو المعقود عليه غير متقوم.
ثم إذا جاز أن يجعل المولى بعد الموت كالحي
حكما حتى يصير معتقا فكذلك يجوز أن يبقى
المكاتب حيا حكما يؤدي كتابته فيصير حرا وهذا
لأن المملوكية أليق بحال الميت من المالكية
لأن المملوكية عبارة عن الضعف والمالكية ضرب
قوة والضعف بحال الميت أليق من القوة.
والدليل على جواز إبقاء المملوكية بعد موته
لحاجته إن كفن العبد بعد موته على مولاه ولا
سبب لاستحقاقه عليه سوى المملوكية والأصح أن
نقول نحن إنما تبقى المالكية بعد موت المكاتب
لما بينا أن بعقد الكتابة يثبت له مالكية اليد
في مكاسبه وبه يتمكن من أداء الكتابة فتبقى
تلك المالكية بعد موته لأن حاجته إلى تحصيل
الحرية لنفسه فوق حاجة مولاه إلى الولاء فإذا
جاز بقاء المالكية بعد موت المولى لحاجته إلى
الولاء يبقى بعد موت العبد صفة المملوكية
لحاجته إلى الحرية ثم بقاء صفة المملوكية يكون
تبعا لا مقصودا ومن أصحابنا
ج / 7 ص -182-
من
يقول لا نجعله حرا بعد الموت ولكنا نسند حريته
إلى حال حياته لأن بدل الكتابة كان في ذمته
والدين بالموت يتحول من الذمة إلى التركة لأن
الذمة لا تبقى محلا صالحا للدين بعد الموت
ولهذا حل الأجل بالموت فإذا تحول بدل الكتابة
إلى التركة فرغت الذمة منه وفراغ ذمة المكاتب
موجب حريته إلا أنه لا يجوز الحكم بحريته ما
لم يصل المال إلى المولى فإذا وصل المال إليه
حكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته.
فإن قيل: لو قذفه قاذف بعد أداء بدل الكتابة
فإنه لا يحد قاذفه عندكم ولو حكم بحريته في
حال حياته لحد قاذفه.
قلنا: هذا شيء نثبته حكما للاستحقاق الثابت
بالكتابة ولتحقق الضرورة فيه والثابت بالضرورة
لا يعدو موضعها فلا يظهر به حريته مطلقا في
حالة الحياة ولا يصير محصنا باعتبار حرية ثبتت
بطريق الضرورة
والحد لا يجب بقذف غير المحصن مع أن الحدود
تندرىءبالشبهات والحرية تثبت مع الشبهة وكذلك
الميراث فإنه يثبت مع الشبهات ومن ضرورة الحكم
بموته حرا أن يكون ما بقى من كسبه ميراثا
لورثته.
قال: "وإذا اشترط الرجل على مكاتبه أن لا يخرج
من الكوفة إلا بإذنه كان هذا الشرط باطلا"
لأنه خلاف موجب العقد فإن مالكية اليد تثبت له
حق الاستبداد بالخروج إلى حيث شاء والمقصود
بالعقد تمكنه من ابتغاء المال وذلك بالضرب في
الأرض قال الله تعالى
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ}[المزمل:
من الآية20] فكل شرط يمنعه من ذلك فهو خلاف
موجب العقد والمقصود به فكان باطلا.
وعند سفيان الثوري رضي الله عنه يصح هذا الشرط
لأنه مفيد كالمودع إذا قال للمودع أحفظها في
بيتك دون بيت غيرك صح كذا هذا وإن لم يصح هذا
الشرط عندنا لا يبطل العقد بهذا الشرط لأن هذا
الشرط وراء ما يتم به العقد والشرط الفاسد في
الكتابة لا يفسد العقد إذا لم يكن متمكنا في
صلبه وإنما يفسد إذا تمكن في صلبه لمعنى وهو
أن الكتابة تشبه البيع من وجه وهو أنها تحتمل
الفسخ في الابتداء وتشبه النكاح من وجه وهو
أنها لا تحتمل الفسخ بعد تمام المقصود بالأداء
فيوفر حظها عليهما فلشبهها بالبيع تبطل بالشرط
الفاسد إذا تمكن في صلبها ولشبهها بالنكاح لا
تبطل بالشرط الفاسد إذا لم يتمكن في صلبها
ولأن هذا العقد مع احتماله الفسخ مبني على
التوسع فلتحقق معنى التوسع قلنا الشرط إذا لم
يتمكن في صلبه يكون لغوا بخلاف البيع فإنه
مبني على الضيق ولمعنى التوسع قلنا يثبت
الحيوان دينا في الذمة في هذا العقد وكل ما
يصلح مسمى في النكاح يصلح مسمى في الكتابة وقد
قررنا هذا في النكاح.
قال: "وإن أخذ كفيلا بالمكاتبة عن المكاتب لم
يجز عندنا وقال ابن أبي ليلى يجوز" لأنه دين
مطلوب في نفسه وهو كالدين الثابت في ذمة حر من
صداق أو غيره.
ولكنا نقول المكاتب عبد له وليس للعبد ذمة
قوية في وجوب الدين عليها للمولى,
ج / 7 ص -183-
ولأنه
يملك أن يعجز نفسه فتبرأ ذمته بذلك ولا يمكن
إثباته بهذه الصفة في ذمة الكفيل ولا يجوز أن
يثبت في ذمة الكفيل أقوى مما هو ثابت في ذمة
الأصيل.
قال: "وإن كاتب عبدين له وجعل نجومهما واحدة
وكل واحد منهما كفيلا عن صاحبه فهذا في القياس
لا يجوز" لأنه كفالة ببدل الكتابة من كل واحد
منهما ولأنه كفالة من المكاتب والمكاتب ليس
بأهل للكفالة ولكنا نجوز هذا العقد استحسانا
لكونه متعارفا فيما بين الناس محتاجا إليه في
تحصيل هذا الإرفاق وقد يكون اعتماد المولى على
أحدهما دون الآخر ولأنه بهذا العقد يجعلهما
كشخص واحد ولهذا إذا قبل أحدهما دون الآخر لم
يجز فكأنه شرط جميع المال على كل واحد وعلق به
عتق صاحبه ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى
لا يعتق واحد منهما إلا بأداء جميع المال.
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى إذا أدى أحدهما
حصته من المال يعتق لأن العقد لما صح ثبت
موجبه وهو انقسام البدل عليهما باعتبار
قيمتهما فإذا أدى أحدهما حصته من المال فقد
برئت ذمته عما عليه وإنما يبقى مطلوبا بما على
صاحبه بطريق الكفالة وهذا لا يمنع ثبوت الحرية
فيه,.
ولكنا نقول شرط المولى ومقصوده معتبر وقد شرط
أن لا يعتق واحد منهما ما لم يصل إليه جميع
المال فلمراعاة شرطه قلنا له أن يطالب أيهما
شاء بجميع المال ولا يعتق واحد منهما ما لم
يصل إليه جميع المال.
ثم ذكر في الكتاب الذي يكتبه المولى لهما وليس
لهما أن يتزوجا إلا بإذن فلان مولاهما وإنما
يكتب هذا للتوثق فإن من العلماء من يقول
للمكاتب أن يتزوج بغير إذن مولاه لتحقيق ثبوت
مالكية اليد له.
وعندنا لا يملك لأنه عبد ما بقي عليه شيء من
البدل فللتحرز عن قول هذا القائل يشترط ذلك في
الكتاب.
قال: "وإذا كاتب عبده على ألف درهم وعلى وصيف
فهو جائز" لأن جهالة الصفة بعد إعلام الجنس لا
يمنع صحة التسمية في عقد الكتابة كما لا يمنع
ذلك في النكاح.
قال: "وإن كاتبه على ألف درهم واشترط خدمته
مدة معلومة فهو جائز" لأن المسمى من الخدمة
يصير معلوما ببيان المدة حتى يصح استحقاقه
بعقد الإجارة فكذلك يصح تسميته في الكتابة
وهذا لأن المكاتب يكون أحق بكسبه ومنافعه فكما
يجوز أن يشترط عليه مالا معلوما يوفيه من كسبه
فكذلك يجوز أن يشترط عليه خدمة معلومة يوفيها
من منافعه وإن اشترط عليه خدمة مجهولة بغير
ذكر الوقت أو شرط على المكاتبة أن تخدمه أبدا
أو يجامعها أبدا فالكتابة فاسدة لأن ما شرط مع
الألف مجهول جهالة متفاحشة والمجهول إذا ضم
إلى المعلوم يصير الكل مجهولا وهذا المفسد
يتمكن فيما هو من صلب العقد وهو البدل فيفسد
به العقد ولأنه في معنى استثناء موجب العقد
لأن موجب العقد إثبات مالكية اليد له حتى يصير
ج / 7 ص -184-
أحق
بمنافعه ومكاسبه واشترط الخدمة عليه أبدا يمنع
من ذلك وكذلك اشتراط الوطء عليها بنفسه
واستثناء موجب العقد يكون مفسدا للعقد يقول
فإن أدى الألف عتق.
"قال بشر المريسي هذا غلط لأن العتق لا ينزل
إلا بعد أداء جميع المشروط عليه وقد شرط
المولى عليه مع الألف شيئا آخر فكيف يعتق
بأداء الألف" ولكنا نقول ما ذكر في الكتاب
صحيح واشتراط الخدمة والوطء عليها ليس بطريق
البدل لما أوجبه له بل باعتبار إبقاء ملك نفسه
في الخدمة والوطء كما كان من قبل فلا يكون
استثناء لموجب العقد فأما البدل المشروط عليه
هو الألف فإذا أداه يعتق ويستوي في ظاهر
الرواية إن كان قال له إذا أديتها إلي فأنت حر
أو لم يقل, وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما
الله تعالى أنه لا يعتق إلا أن يكون قال له إن
أديتها إلي فأنت حر لأن العتق عند فساد العقد
باعتبار الشرط فما لم ينص على الشرط لا يعتق.
ووجه ظاهر الرواية أن العقد منعقد مع الفساد
لأن تأثير الفساد في تغيير وصف العقد فلا يعدم
أصله وإذا بقي العقد كان العتق عند الأداء
بحكم العقد فلا يعتبر فيه التصريح بالتعليق
بالشرط كما في البيع الفاسد يثبت الملك عند
القبض بحكم العقد ثم كان أبو حنيفة رحمه الله
تعالى يقول أولا عليه أن يؤدي الفضل على الألف
إلى مكاتبة مثله لأنه شرط مع الألف لنفسه
منفعة فإذا لم ينل ذلك كان عليه مكاتبة مثله
كما لو تزوج على ألف وكرامتها ودخل بها كان
لها تمام مهر مثلها ثم رجع فقال عليه فضل قيمة
نفسه وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى لما بينا أن الرقبة هنا أقرب الأشياء
إلى المعقود عليه في الاعتبار عند فساد العقد
فيلزمه تمام قيمة نفسه كما في البيع إذا تعذر
على المشتري الرد بسبب الفساد يلزمه قيمة
المبيع ولهذا "قال زفر رحمه الله تعالى إذا
كانت قيمته دون الألف له أن يسترد من المولى
ما زاد على قيمته من الألف كما في البيع"
ولكنا نقول ليس له أن يسترد شيئا من الألف لأن
المولى ما رضي بعتقه بحكم العقد إلا بعد سلامة
جميع الألف له واعتبار القيمة لدفع الضرر عن
المولى فإذا كان يؤول إلى الإضرار به سقط
اعتباره.
قال: "وشراء المكاتب من مولاه وبيعه جائز وما
استهلك كل واحد منهما لصاحبه فهو دين عليه"
لأنه صار بمنزلة الحر يدا فيما يرجع إلى
المكاسب فاختص بملك التصرف في مكاسبه فكان حال
المولى في كسبه كحال أجنبي آخر.
ثم قد بينا أن الولد المولود في الكتابة يسعى
على النجوم بعد الموت عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى بخلاف المشتري وعندهما كل من تكاتب عليه
يقوم مقامه بعد الموت في السعاية على النجوم
ثم كل من دخل في كتابته إذا أعتقه مولاه ينفذ
عتقه فيه عندنا كما في رقبة المكاتب لأن من
تكاتب عليه كان تبعا له في العقد ولهذا لا
يكون عليه شيء من البدل والأصل مملوك له فكذا
ما يتبعه.
"وزفر يقول لا ينفذ عتقه فيهم لأن المكاتب أحق
بكسبهم ليستعين به على أداء المكاتبة
ج / 7 ص -185-
وفي
تنفيذ عتق المولى فيهم إبطال حقه عن كسبهم
وليس للمولى على المكاتب هذه الولاية" ولكنا
نقول ينفذ عتقه لمصادفته ملكه ثم يبطل حق
المكاتب من كسبه حكما لثبوت حريته لا أن يكون
بتصرف المولى وقصده.
قال: "وإذا اشترى المكاتب امرأته فهما على
النكاح" لأن حقيقة الملك في رقبتها لا يثبت
للمكاتب لقيام الرق المنافي فيه إنما يثبت له
حكم اليد وبملك اليد لا يبطل النكاح وله أن
يبيعها ما لم تلد منه لأن النكاح ليس بسبب
لاستحقاق الصلة فلا يمتنع عليه البيع بسببه
فإن ولدت منه فقد امتنع بيعها تبعا لثبوت حق
الولد وكذلك المكاتبة تشتري زوجها فله أن
يطأها بالنكاح لأنها لم تملك رقبته حقيقة.
قال: "ولا تجوز شهادته ولا هبته ولا صدقته له
ولا عتقه" لبقاء الرق فيه وهو مناف لولاية
الشهادة والتمليك حقيقة وباعتباره يصح
التبرعات وكذلك لو باع عبدا له من نفسه أو
أعتقه على مال فهو والعتق بغير جعل سواء في
أنه لا ينفذ إلا من المالك حقيقة وليس للمكاتب
ملك على الحقيقة.
قال: "وإن كاتب عبدا له ففي القياس لا يجوز
أيضا وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله" لأن
مآل هذا العقد عتق والمكاتب ليس من أهله ولأنه
منفك الحجر عنه في التجارات ليكتسب المال بها
فيؤدي الكتابة والكتابة ليست من عقود التجارة
ولأنه يثبت بهذا العقد استحقاق الولاء عند
تمامه بالأداء والمكاتب ليس من أهله ولكنا
نقول الكتابة من عقود اكتساب المال وقد ثبت له
مالكية اليد فيما يرجع إلى اكتساب المال, ألا
ترى أنه يزوج أمته وإن لم يكن ذلك تجارة فكذلك
يكاتب وربما تكون الكتابة أنفع له من البيع
لأن البيع يزيل ملكه بنفسه والكتابة لا تزيل
ملكه عن المملوك إلا بعد وصول المال إليه فكان
هذا أنفع له ولأنه يسوي غيره بنفسه في حق نفسه
فإنه يوجب لمملوكه مثل ما هو ثابت له وذلك
صحيح منه كما يصح من الحر إعتاق مملوكه بخلاف
العتق بمال فإن هناك يوجب لغيره فوق ماله وهو
حقيقة العتق بنفس القبول فلهذا لا يصح منه.
قال: "ولا يجوز كفالة المكاتب" لأنه تبرع وليس
من عقود اكتساب المال في شيء وليس له أن يشارك
مفاوضة لأن المفاوضة تتضمن الكفالة العامة ولا
يجوز نكاحه ولا وصيته لأن الوصية تبرع بعد
الموت فيعتبر تبرعه في حياته والاستبداد
بالنكاح في حق نفسه يعتمد الولاية والرق ينفي
الولاية ولأن التزوج ليس من عقود اكتساب المال
في حقه.
قال: "وإذا سرق المكاتب أو سرق منه يجب القطع"
لأنه مخاطب تتم منه جناية السرقة وحقه في كسبه
كملك الحر في ماله فيقطع السارق منه وكذلك هو
في حق الشفعة فيما يستحقه أو يستحق عليه
كالحر.
قال: "وليس له أن يبيع ما اشتراه من مولاه
مرابحة إلا أن يبين وكذلك مولاه فيما اشترى
منه" لأن كل واحد منهما يسامح صاحبه في
المعاملة لعلمه أن ذلك لا يبعد منه ولأن
للمولى
ج / 7 ص -186-
حق
الملك في كسب المكاتب فما يغرمه للمكاتب
بالشراء لا يتم خروجه ولا يبيعه مرابحة إلا
على أقل الشيئين لأن ذلك القدر يتيقن بخروجه
عن ملكه وبعد البيان تنتفي التهمة والغرور ولو
اشترى من مكاتبه درهما بدرهمين لم يجز لأن هذا
صريح الربا والمكاتب في كسبه بمنزلة الحر يدا
كما قررنا, فصريح الربا يجري بينه وبين المولى
باعتبار هذا المعنى احتياطا.
قال: "وإذا أخذ بالمكاتبة رهنا فيه وفاء بها
فهلك الرهن عتق العبد" لأن عقد الرهن يثبت يد
الاستيفاء على أن يتم ذلك الاستيفاء بهلاك
الرهن ودين الكتابة في حكم الاستيفاء كسائر
الديون وإذا صار مستوفى بهلاك الرهن عتق
المكاتب كما لو استوفاه حقيقة.
قال: "ولو كاتبه على وصيف فأتاه المكاتب
بأربعين دينارا ثمن الوصيف أجبر المولى على
قبولها" لما بينا في كتاب النكاح أن الحيوان
في العقود المبنية على التوسع يثبت دينا في
الذمة على أن يكون الحق مترددا بينه وبين قيمة
الوصيف وأن قيمة الوصيف عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى أربعون دينارا.
قال: "وإذا كاتب على خمر أو خنزير أو ما أشبه
ذلك مما لا يحل فالكتابة فاسدة" لأن المسمى
ليس بمال متقوم في حق المسلمين فلا يصير
مستحقا للمولى بالتسمية فإن أداه قبل أن
يترافعا إلى القاضي وقد قال له أنت حر إذا
أديته أو لم يقل فإنه يعتق, وقد بينا هذا فيما
سبق أن مع فساد العقد العقد منعقد فيعتق
بالأداء وعليه قيمة نفسه لأن العقد فاسد
فيلزمه رد رقبته لأجل الفساد وقد تعذر رده
بنفوذ العتق فيه فيلزمه قيمته كالمشتري شراء
فاسدا إذا أعتق المبيع بعد القبض وذكر في
اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن عند
زفر رحمه الله تعالى لا يعتق إلا بأداء قيمة
نفسه لأن البدل في الكتابة الفاسدة هو القيمة
وإنما يعتق بأداء البدل وعند أبي يوسف رحمه
الله تعالى أيهما أدى المشروط أو قيمة نفسه
فإنه يعتق لأن البدل صورة هو المشروط والعتق
معلق بأدائه ومن حيث المعنى البدل القيمة
فأيهما أدى يعتق وبدل الكتابة في جواز
الاستبدال به بمنزلة المهر والثمن.
قال: "وإن جاء المكاتب بالمال قبل محل الأجل
فأبى المولى أن يقبله أجبر على أخذه" لأن
الأجل حق المكاتب فإذا أسقطه يسقط وإن صالحه
المولى على أن يعجل بعض المكاتبة قبل محلها
ليحط ما بقي فهذا جائز بينهما وإن كان لا يجوز
مثله بين الحرين لأن الصحابة رضوان الله عليهم
مختلفون في جواز هذا التصرف بين الحرين على ما
نبينه في كتاب الصلح فعرفنا أنه ليس بصريح
الربا فلا يجري بين المكاتب ومولاه لأنه عبده
بخلاف بيع الدرهم بالدرهمين على ما بينا وإذا
كاتبه على ألف درهم وعلى عبد مثله يعمل عمله
وهو خياط أو شبه ذلك فهو جائز لأن المسمى
معلوم الجنس وإن كان مجهول الوصف ألا ترى أنه
لو كاتبه على عبد خياط أجزت ذلك استحسانا.
ومراده القياس والاستحسان عند ترك بيان الوصف
في بدل الكتابة بعد إعلام الجنس
ج / 7 ص -187-
فإن في القياس الكتابة كالبيع حتى لا تصح إلا بتسمية البدل وفي
الاستحسان هي كالنكاح من حيث أنه مبني على
التوسع بالبدل فإن المقصود به الإرفاق دون
المال.
وعلى هذا يثبت فيه الآجال المجهولة المستدركة
كالحصاد والدياس والعطاء كما يثبت في الصداق
ويحل عليه المال في ذلك الوقت حتى إذا تأخر
العطاء حل عليه إذا دخل أجل العطاء في مثل
الوقت الذي كان يخرج فيه لأن المقصود بيان
الوصف لا حقيقة فعل العطاء وإن كاتب عبده على
قيمته فهو فاسد لأن المسمى مجهول الجنس والوصف
ولأن هذا تفسير الكتابة الفاسدة ولو كاتبه على
عبد فلان هذا أو دابة فلان هذه لا يجوز لأن
القدرة على تسليم المسمى معتبر لصحة الكتابة
فإنه لا يصح منه التزام التسليم فيما لا يقدر
على تسليمه وهذا بخلاف النكاح فإن تسمية ملك
الغير صحيح هناك لأن الشرط كون المسمى مالا
متقوما والقدرة على تسليمه ليس بشرط لصحة
التسمية كما أنه ليس بشرط فيما يقابله ثم في
الكتابة على الإعيان روايتان على ما نذكره في
كتاب المكاتب.
قال: "وإن كاتبه على وصيف أبيض فصالحه من ذلك
على وصيفين أبيضين أو حبشيين يدا بيد فهو
جائز" لأن الحيوان ليس بمال الربا فمبادلة
الواحد منه بالمثنى يدا بيد صحيح ولا يجوز
نسيئة لأن الحيوان لا يثبت في الذمة بدلا عما
هو مال.
والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم : "لا بأس ببيع النجيبة بالإبل والفرس بالافراس بعد أن يكون يدا بيد ولا
خير فيه نسيئة"
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب
وإليه المرجع والمآب.
باب موت المكاتب
قال: "رضي الله عنه وإذا مات المكاتب عن مال
وعليه دين وجناية وله أولاد أحرار من امرأة
حرة وأولاد ولدوا في المكاتبة من أمته وأولاد
اشتراهم بدىءبالدين ثم بالجناية ثم بالكتابة"
لأن الحقوق متى اجتمعت في المعين وتفاوتت في
القوة يبدأ بالأقوى فالأقوى كما يبدأ في
التركة بالجهاز ثم بالدين ثم بالوصية.
وأصله قوله تعالى
{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}
[هود: من الآية3] والدين أقوى من الجناية لأنه
كان مالا متقررا في ذمته في حياته والجناية لا
تتعلق بذمته إلا بقضاء القاضي أو بفوت الدفع
بموته والمال خلف عن ذمته في ثبوت الحق فيه
فما كان أسبق تعلقا بذمته وكان متقررا في نفسه
فهو أقوى.
ثم الجناية أقوى من الكتابة لأن الكتابة ليست
بدين متقرر فإنه يتمكن من إسقاطها عن نفسه بأن
يعجز نفسه والضعيف لا يزاحم القوي فلهذا قدمت
الجناية ثم بعدها الكتابة وإذا أديت الكتابة
حكم بحريته في حال حياته وحرية كل من كان تبعا
له في الكتابة فلهذا كان الباقي ميراثا لجميع
أولاده وكذلك إن كان له ابن مكاتب لأنه إذا
ضم إليه في عقد الكتابة فهما كشخص واحد لا
يعتق أحدهما بحكم الكتابة قبل صاحبه فتسند
حرية هذا الابن إلى الوقت الذي استند حرية
أبيه وإن كان مكاتبا على حدة لم يرث منه شيئا
إذا أدى مكاتبته بعد موت أبيه وإن كان قبل
أداء مكاتبة أبيه لأن إسناد الحرية في حق الأب
لأجل الضرورة ولا
ج / 7 ص -188-
يوجد
ذلك في حق الابن إذا كان مكاتبا على حدة بل
تقتصر حريته على وقت الأداء فيكون هو رقيقا
عند موت أبيه فلا يرث منه شيئا وإن كان عليه
مهر لامرأة حرة تزوجها بغير إذن مولاه كان
دينها بعد قضاء بدل الكتابة لأن مهرها متأخر
إلى ما بعد العتق فإن سببه لم يظهر في حق
المولى لأنه ممنوع من النكاح بغير إذن المولى
والمرأة راضية بتأخير حقها حين زوجته نفسها
بغير إذن المولى فما لم يسقط حق المولى عن
كسبه لا يظهر المهر فلهذا كان بعد دين الكتابة
بخلاف الجناية فهي ظاهرة في حق المولى ولم
يوجد من المجني عليه الرضا بتأخير حقه, وإن لم
يترك شيئا يسعى ولده الذين ولدوا في المكاتبة
فيها حتى يؤدوها لأنه مات عمن يؤدي بدل
الكتابة فيجعل كموته عما يؤدي به بدل الكتابة
وهو المال فإذا أدوا عتق كل من كان تبعا له في
المكاتبة, وقد بينا أن النجوم عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى لا يبقى إلا باعتبار الأولاد
الذين ولدوا في المكاتبة, وعندهما يبقى ببقاء
كل من كان داخلا في كتابته حتى إذا لم يكن له
إلا الأولاد الذين اشتراهم فإنهم يباعون عند
أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا لم يؤدوا المال
حالا ويكون ثمنهم تركة له تؤدي منه كتابته وإن
كان معهم ولد مولود في الكتابة لم يبع هؤلاء
لبقاء النجوم باعتباره يسعون به, فإن حل على
الولد المولود في الكتابة أول نجم ولم يكن له
مال حاضر ولا غائب ينتظر ردوا جميعا في الرق
لأنه قائم مقام أبيه ولو كسر أبوه نجما رد في
الرق, فكذلك هو إن كانوا جماعة بعضهم غائب
وعجز الشاهد لم يرد في الرق حتى يحضر الغائب
لأن الذي عجز جعل كالمعدوم فيبقي النجوم ببقاء
الغائب ولا يظهر عجزه عن الأداء ما لم يحضر
ولأن كل ولد مولود في الكتابة قائم مقام أبيه,
ألا ترى أنهم يعتقون بأداء أحدهم سواء أدى
الغائب أو الشاهد فما لم يتحقق عجزهم لا تنفسخ
الكتابة وإذا مات المكاتب وله ديون على الناس
وترك ولدا حرا فهو مولى لموالي الأم ما لم
يخرج الدين فيؤدي الكتابة.
أما بقاء الكتابة فلماله المنتظر لأن الدين
مال باعتبار ماله ولكن لا يحكم بعتقه ما لم
يؤد الكتابة وما لم يحكم بعتقه لا يظهر لولده
ولاء في جانب أبيه فيكون مولى لموالي الأم
فإذا أديت ظهر له ولاء في جانب أبيه فينجر
ولاؤه إلى موالي الأب لأن الولاء كالنسب ولا
يرجع موالي الأم بما عقلوا من جنايته في حياة
المكاتب على موالي الأب, لأنه إنما يحكم بعتق
الأب في آخر جزء من أجزاء حياته ولا يستند
عتقه إلى أول عقد الكتابة فكان موالي الأم عند
جنايته مواليه على الحقيقة, فلهذا لا يرجعون
بما عقلوا على موالي الأب ويرجعون بما عقلوا
من جنايته بعد موت الأب قبل أداء كتابته, لما
بينا أن عتق الأب يستند إلى حال حياته, فتبين
أن ولاءه كان لموالي الأب من ذلك الوقت وموالي
الأم كانوا مجبرين على الأداء فيرجعون بما
أدوا كالملاعن إذا كذب نفسه بعد ما جنى الولد
وعقل جنايته قوم أمه رجعوا به على قوم الأب
لأنه تبين ثبوت نسبه من ذلك الوقت, وإذا مات
الولد بعد موت المكاتب قبل خروج الدين فاختصم
موالي الأب وموالي الأم في ميراثه قضي به
لموالي الأم لأنه لم يظهر ولاء في جانب
ج / 7 ص -189-
جانب
الأب بعد وإذا قضى بذلك بطلت المكاتبة لأن
ولاءه لموالي الأم وقد تقرر عند موته بحكم
الحاكم ومن ضرورة بطلان الكتابة إذ لو لم تبطل
لكان يؤدي كتابته وتبين به أن ولاءه لقوم الأب
فيبطل به حكم الحاكم وذلك ممتنع ولأنه لما لم
يكن بد من إبطال أحدهما بالآخر فإبطال الكتابة
التي اختلفت الصحابة رضوان الله عليهم في
بقائها أولى من إبطال حكم الحاكم ولأن السبب
المبطل للكتابة هو عجزه عن الأداء بعد حل
المال عليه ظاهر والمنفى وهو قدرته بخروج
الدين موهوم والظاهر إذا تأيد بحكم الحاكم لا
يعتبر الموهوم في مقابلته فإن خرج الدين بعد
ذلك كان للمولى لأنه كسب عبده وإن كان للمكاتب
ولد ولدوا في الكتابة فقد بقي النجوم ببقائهم
فمتى ما خرج دين المكاتب أديت المكاتبة وجر
ولاء الولد وولد الولد لأنه حكم بحريته مستندا
إلى حال حياته وكان ما بقي ميراثا وإذا مات
المكاتب عن ولد حر فجاء رجل بوديعة فقال هذه
للمكاتب فإنه يؤدي منه المكاتبة وتبين بهذه
المسألة أن بموته عاجزا لا تنفسخ الكتابة ما
لم يقض القاضي بفسخه لجواز أن يظهر له مال أو
يتبرع إنسان بأداء بدل الكتابة عنه وهكذا
فسره ابن سماعة رضي الله تعالى عنه في نوادره
ثم إقرار الرجل بالوديعة للمكاتب صحيح في حقه
فيؤدي منه الكتابة ولكن لا يصدق على جر الولاء
لأن إقراره ليس بحجة في حق موالي الأم ولأنه
متهم بالقصد إلى إبطال حقهم في جر ولاء الولد.
قال: "أرأيت لو قال المولى نفسه هذه وديعة
عندي للمكاتب أو أقر له بدين مثل الكتابة أو
قال قد كنت استوفيت الكتابة قبل موته أكان
يصدق في جر ولاء الولد إليه فكذلك غيره" وبهذا
تبين أنه إن تبرع إنسان عنه بقضاء الدين بعد
موته لا يحكم بحريته بخلاف ما ذكره ابن سماعة
في نوادره وهذا لأن ذمته بالموت تخرج من أن
تكون محلا صالحا لبدل الكتابة فلا بد من خلف
يبقى باعتباره والخلف ماله دون أموال الناس
عادة فإذا ظهر له مال فقد علمنا بوجود الخلف,
وإذا تبرع إنسان بالأداء فلا يتبين به وجود
الخلف وقت موته فلهذا لا يحكم بعتقه في حق
موالي الأم ويجعل المقر بالوديعة كالمتبرع
بالأداء في حقهم وإذا ترك المكاتب أم ولد ليس
معها ولد بيعت في المكاتبة وإن كان معها ولد
سعت فيها على الأجل الذي كان للمكاتب صغيرا
كان ولدها أو كبيرا, وإن كان ترك مالا لم يؤخر
إلى أجله وصار حالا في قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى حال أم
الولد بغير الولد كحالها مع الولد في جميع ذلك
حتى يسعى فيها على الأجل وهذا بناء على أن
عندهما يمتنع على المكاتب بيع أم ولده إذا
ملكها سواء كان معها ولد أو لم يكن لأن ثبوت
حقها باعتبار نسب الولد ونسب الولد ثابت منه
سواء ملك الولد معها أو لم يملك, ألا ترى أن
الحر إذا ملك جارية قد ولدت منه تصير أم ولد
له سواء ملك الولد معها أو لم يملك فكذلك
المكاتب ولما كان في حال حياته لا يختلف حالها
بين أن يكون معها ولد أو لا يكون فكذلك بعد
موته.
وأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا ملكها
في حال حياته مع الولد يمتنع بيعها. وإذا
ج / 7 ص -190-
ملكها
بدون الولد لا يمتنع عليه بيعها لأن حقها نابع
لحق الولد وثبوت التبع بثبوت الأصل فإذا لم
يثبت الأصل لا يثبت التبع وهذا لأن حقيقة أمية
الولد لا يثبت لها في حال الكتابة, ألا ترى
أنه لو عجز المكاتب كانت هي أمة قنة للمولى
بخلاف الحر فإن حقيقة أمية الولد يثبت لها
وبدخولها في ملك المكاتب لا تصير داخلة في
كتابته تبعا بدليل أنها لا تعتق بعتقه, فعرفنا
أن امتناع البيع إنما يثبت فيها تبعا لثبوته
في الولد فإذا لم يثبت في الولد بأن لم يملك
الولد معها لا يثبت فيها وإذا ثبت هذا في
حياته فكذلك بعد الموت, والولد المولود في
الكتابة هو الأصل في بقاء الأجل بوجوده فإذا
كان معها الولد يثبت الأجل في حقها تبعا ويسعى
على النجوم وإذا لم يكن معها الولد لا يثبت
الأجل في حقها فتباع في المكاتبة.
ثم الولد خلف عن المال لأن المال كسب المكاتب
حقيقة فأما كسب الولد فهو قائم مقام كسب
المكاتب في أداء البدل منه فلهذا كان المعتبر
هو المال إذا خلف مالا وباعتبار المال لا يبقى
الأجل فيصير حالا وجد الولد أو لم يوجد وهذا
لأنه لا منفعة للميت ولا لولده في إبقاء الأجل
إذا ترك وفاء وينتفعون ببقاء الأجل إذا لم
يترك وفاء ليكتسب ولده فيؤدي وإذا ترك المكاتب
ولدين ولدا له في المكاتبة وعليه دين ومكاتبة
سعيا في جميع ذلك لقيامهما مقام الأب وأيهما
أداه لم يرجع على صاحبه بشيء لأن كسبه لأبيه
ما لم يحكم بعتقه فيجعل أداؤه من كسبه كأدائه
من مال أبيه وأيهما أعتقه المولى عتق كما لو
أعتقه في حياة أبيه وعلى الآخر أن يسعى في
جميع المكاتبة التي بقيت على الأب لأن الولد
الذي عتق قد استغنى عن أداء بدل الكتابة فيجعل
كالمعدوم والآخر محتاج إلى بدل الكتابة فكان
المكاتب لم يخلف إلا إياه فيسعى في جميع
المكاتبة وللغرماء أن يأخذوا أيهما شاؤوا
بجميع الدين لأنهما جميعا مال الميت وقد تعلق
حق الغرماء بكل واحد منهما, ألا ترى أنهما لو
عجزا جميعا بدىءبقضاء الدين منهما وإعتاق
المولى أحدهما معتبر في إسقاط حقه عنه غير
معتبر في إسقاط حق الغرماء عن كسبه فلهذا كان
لهم أن يأخذوا أيهما شاؤوا بجميع الدين ولا
يرجع الذي يؤدي منهما على صاحبه لأن أداءه من
مال الميت حكما فكأنه أدى من مال الميت حقيقة
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه
المرجع والمآب.
باب جناية رقيق المكاتب وولده
قال: "رضي الله عنه وإذا
قتل عبد المكاتب رجلا خطأ قيل للمكاتب أدفعه
أو أفده بالدية" لأنه أحق بكسبه مستبد بالتصرف
فيه كالحر, ألا ترى أنه ملك بيعه فكذلك يخاطب
بدفعه بالجناية بخلاف نفسه وولده الذين لا
يستطيع بيعهم فإنهم داخلون في كتابته فلا
يمكنه دفعهم بالجناية كما لا يمكنه بيعهم ولأن
من دخل في كتابته فهو ملك لمولاه كنفسه وإذا
قتل عبده رجلا عمدا فله أن يصالح عنه لأنه
مستبد بالتصرف فيه فله أن يصالح عن جنايته على
مال يؤديه لتسلم له نفسه كما للحر ذلك في ملكه
ثم يؤخذ به وإن عجز لأنه مال التزمه بتصرف
مملوك به بسبب عقد الكتابة فيؤخذ له بعد العجز
بمنزلة ما يلتزمه بالشراء وإن جنت أمته جناية
خطأ
ج / 7 ص -191-
فباعها
أو وطئها فولدت منه وهو يعلم بالجناية فهذا
منه اختيار وعليه الأرش لأنه منع الدفع بالبيع
والاستيلاد ومن خوطب بالدفع أو الفداء إذا
امتنع من الدفع بعد العلم كان مختارا للفداء
بعد العلم كالحر وإن قتله عبد له عمدا فالعبد
في قتل مولاه عمدا كأجنبي آخر في وجوب القصاص
عليه كالحر إذا قتله عبده فالمكاتب مثله.
ثم المكاتب إذا قتل عمدا فهو على ثلاثة أوجه
إن لم يترك وفاء فالقصاص واجب للمولى لأنه
عبده حين مات عاجزا فله أن يستوفي القصاص من
قاتله وإن ترك وفاء وله وارث سوى المولى فلا
قصاص على القاتل لاشتباه من يستوفيه فإن على
قول علي وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما
يموت حرا فيكون استيفاء القصاص لوارثه, وعلى
قول زيد رضي الله عنه يموت عبدا فيكون حق
استيفاء القصاص للمولى
واختلاف الصحابة رضي الله عنهم يمكن شبهة
معتبرة ومع انعدام المستوفى لا يجب القصاص لأن
الوجوب في القصاص غير مقصود بنفسه بل المقصود
الاستيفاء لأن الزجر يحصل به وكذلك لو اجتمعا
لم يكن لهما استيفاء القصاص لأن بأصل الفعل لم
يجب القصاص, لاشتباء المستوفي فلا يجب بعد ذلك
بتراضيهما وإن قتل ولا وارث له سوى المولى
فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله
تعالى يجب القصاص لمولاه وعند محمد رحمه الله
تعالى لا يجب, لأن سبب ثبوت حق الاستيفاء له
مشتبه فإن الكتابة إن انفسخت كما قال زيد رضي
الله عنه فإنما يستوفيه بالملك وإن بقيت كما
قاله علي وعبد الله رضي الله عنهما فإنما
يستوفيه بالإرث بالولاء واشتباه السبب معتبر
فيما يندرىءبالشبهات كاشتباه المستوفى
ألا ترى أن أمة إنسان إذا كانت في يد غيره
فقال ذو اليد زوجتنيها بكذا وقال المولى بل
بعتها منك بكذا لم يحل له أن يطأها لاختلافهما
في سبب ثبوت حل الوطء له وإن اتفقا على أن
الوطء له حلال ولكن من قبل أن حل الوطء لا
يثبت مع الشبهات فاشتباه السبب يكون مانعا من
ثبوته وهما يقولان تيقنا بثبوت حق استيفاء
القصاص للمولى فيجب القصاص ويتمكن من استيفائه
كما لو قتل عاجزا وهذا لأن الأسباب غير مطلوبة
لأعيانها بل لأحكامها, ألا ترى أن من قال
لغيره لي عليك ألف درهم غصبا وقال الآخر بل
قرضا وجب المال ولا ينظر لاختلافهما في السبب
لما اتفقا على وجوب المال فكذا هنا لا يعتبر
الاشتباه في السبب بعد ما تعين المولى مستوفيا
بأي السببين كان بخلاف ما إذا ترك وارثا لأن
المولى هناك لم يتعين مستوفيا مع اشتباه
المستوفى لتعذر الاستيفاء وبخلاف مسألة الوطء
لأنا لم نتيقن هناك بثبوت الحل له لجواز أن
يكون كل واحد منهما كاذبا فيما يدعي من السبب
ولأن السبب هناك حكمي ولا يثبت واحد من
السببين بقول أحد الخصمين مع تكذيب صاحبه
وبدون ثبوت سبب الحل لايثبت الحل وهنا السبب
الموجب للقود وهو العمد المحض متيقن به وثبوت
حق استيفاء المولى متيقن به أيضا إما باعتبار
الملك أو الولاء فلهذا يمكن من الاستيفاء وإذا
استهلك عبد المكاتب مالا فهو دين في عنقه يباع
فيه لظهور سببه في حق المكاتب وإن جنى عبده ثم
عتق المكاتب فهو على خياره
ج / 7 ص -192-
لأنه
إنما كان مخيرا بين الدفع والفداء باعتبار
ملكه وقد تقرر ملكه بالعتق وإن عجز فالخيار
إلى المولى لأن الملك بعجزه تقرر للمولى
فيتخير بين الدفع والفداء كما يخير الوارث بعد
موت المورث في جناية عبد الحر.
وإن كان العبد وامرأته مكاتبين مكاتبة واحدة
فولدت ولدا فقتله المولى وقيمته أكثر من
الكتابة فقيمته على مولاه في ثلاث سنين لأن
ولدهما مملوك للمولى فلا يجب عليه القصاص
بقتله ولكنه داخل في الكتابة فعلى المولى
قيمته بقتله كما يلزمه الدية لو قتل المكاتب
فالمال بنفس القتل يجب مؤجلا في ثلاث سنين وإن
كانت الكتابة قد حلت قاصهم بها لأن القيمة
واجبة للأم فإن الولد داخل في كتابتها حتى
يكون كسبه لها, فكذلك بدل نفسه, وقد بينا أن
الولد جزء من أجزاء الأم يتبعها في الرق
والحرية فكذلك في الكتابة وقد كان للمولى أن
يطالب الأم بجميع الكتابة ومتى التقى الدينان
تقاصا إذا استويا لأنه لا فائدة في الاستيفاء.
ثم على المولى أداء فضل القيمة إلى الأم لأن
المقاصة إنما وقعت بقدر بدل الكتابة ورجعت
الأم على الأب بما أدت عنه من ذلك لأنها صارت
قاضية بدل الكتابة بالمقاصة فكأنها أدت بنفسها
فترجع على الأب بحصته, وإن كانت المكاتبة لم
تحل أدى المولى القيمة إلى الأم لأن المقاصة
لا تقع بين الحال والمؤجل فيستوفي منه ما حل
وهو القيمة لتستعين به في مكاتبتها إذا حلت,
وإن كان الابن مكاتبا معها فقتله المولى ثم
حلت القيمة أقتص منها بقدر الكتابة إن كانت
المكاتبة حلت أو لم تحل لأن الولد المقتول هنا
مقصود بالكتابة وقد كان مطالبا بجميع البدل
عند حله والأجل لا يبقى في حقه بعد موته إذا
ترك وفاء فإذا حلت القيمة قد تحقق الوفاء فصار
قصاصا ببدل الكتابة حلت أو لم تحل ويؤدي
المولى إلى الورثة فضل القيمة والأب والأم
حصتهما من المكاتبة لأن الابن لو أدى جميع
البدل في حياته رجع عليها بحصتها منها فكذلك
إذا صار مؤديا ببدل نفسه بعد موته ثم يقسم ذلك
كله بين ورثة الابن على فرائض الله تعالى ويرث
أبواه معهم لأن عتقه استند إلى حال حياته
وكذلك عتقهما لاتحاد العقد في حقهم, فإن
قيل: فلماذا لا يجب على المولى الدية.
قلنا: لما بينا أن استناد الحرية إلى حال
الحياة لأجل الضرورة وليس من ضرورته وجوب
الدية فكم من قتيل حر لا تجب ديته ولأن
الاستناد فيما هو من حكم عقد الكتابة ووجوب
الدية ليس من حكم عقد الكتابة في شيء ولأن
المولى إنما يضمن جنايته ولا يستند العتق إلى
وقت جنايته إنما يستند إلى آخر جزء من أجزاء
حياته بعد الجناية ولو أعتق المولى أم ولد
لمكاتبه لم يجز عتقه بخلاف ما إذا أعتق ولدها
لأن الولد داخل في كتابته حتى يعتق بعتقه
فيكون مملوكا للمولى فأما أم الولد غير داخلة
في كتابته حتى لا تعتق بعتقه فلا تكون مملوكة
للمولى.
توضيحه أن في إعتاق الولد تحصيل مقصود المكاتب
فأما في إعتاق أم الولد تفويت مقصود المكاتب
لأن المكاتب لو عتق كانت أم ولد له يطأها
ويستمتع بها وفي العتق تفويت
ج / 7 ص -193-
هذا
المقصود عليه فلا يملكه المولى ولو ملك
المكاتب أب مولاه أو ابنه لم يعتق لأن المولى
لو أعتق رقيق المكاتب لا ينفذ عتقه فعرفنا أنه
لا يملكهم فلا يعتقون عليه ولا يمتنع بيعهم
أيضا بخلاف ما إذا ملك أب نفسه أو ابن نفسه
وكان ينبغي أن يمتنع بيعهم لأن للمولى في كسب
المكاتب حق الملك كما للمكاتب ولكن قال البيع
من التصرف وفي حكم التصرف المولى من كسب
المكاتب أجنبي والمكاتب بمنزلة الحر. توضيحه
أن عتق أب المكاتب وابنه من مقصود المكاتب
وكسبه محل لما هو من مقاصده فكان في إدخالهم
في كتابته ليعتقوا بعتقه معنى تحصيل مقصوده
وعتق أب المولى و ابن المولى ليس بمقصود
للمكاتب فلم يكن في إدخالهم في كتابته تحصيل
مقصوده فلهذا لا يتكاتبون عليه وإذا جنى
المكاتب جناية خطأ فإنه يسعى في الأقل من
قيمته ومن أرش الجناية لأن دفعه متعذر بسبب
الكتابة وهو أحق بكسبه وموجب الجناية عند تعذر
الدفع على من يكون الكسب له فالواجب هو الأقل
من القيمة ومن أرش الجناية
ألا ترى أن في جناية المدبر وأم الولد يجب على
المولى الأقل من قيمتها ومن أرش الجناية لأنه
أحق بكسبهما فإن جنى جناية أخرى بعد ما حكم
عليه بالأقل في الجناية الأولى يلزمه بالجناية
الثانية أيضا الأقل من قيمته ومن أرش الجناية
لأن موجب الجناية الأولى صار دينا في ذمته
فتتعلق الجناية الثانية برقبته ويلزمه الأقل
كالجناية الأولى, وإن كانت الجناية الثانية
قبل أن يحكم عليه بموجب الجناية الأولى فليس
عليه إلا قيمة واحدة عندنا.
وقال زفر رحمه الله تعالى عليه لولي كل جناية
قيمة على حدة لأن من أصله أن جنايته لا تتعلق
برقبته بل موجبة القيمة ابتداء لأن الدفع
متعذر فكان القضاء وغير القضاء فيه سواء يجب
عليه قيمة باعتبار كل جناية لكونه أحق بكسبه
عند كل جناية, وعندنا تتعلق جناية المكاتب
برقبته لأن الدفع موهوم فإنه إن عجز انفسخت
الكتابة ودفع بالجناية فإنما يتحول إلى القيمة
بقضاء القاضي فإذا اجتمعت الجنايات في رقبته
قبل قضاء القاضي لم يلزمه إلا قيمة واحدة لأنه
لو أمكن دفعه لم يكن حقهم إلا في رقبة واحدة
بخلاف ما إذا قضى القاضي بالأولى لأنه تحول
إلى القيمة دينا في ذمته بقضاء القاضي ثم
تعلقت الجناية الثانية برقبته حتى يدفع بها
إذا عجز فلهذا يقضي له بقيمة أخرى, ولو قتل
رجلا عمدا هو أو ابن له في ملكه ثم صالح في
ذمته على مال جاز الصلح لأن من دخل في كتابته
تبع له وله أن يصالح عن جناية نفسه فكذلك عن
جناية من دخل في كتابته لأنه أحق بكسبه, فإن
عجز فرد في الرق فإن كان أعطى المال لم يكن له
حق الاسترداد وإن لم يكن أدى المال لم يؤخذ
بالمال حتى يعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله,
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يؤخذ
بالمال في الحال فيباع فيه.
وأصل المسألة في المكاتب إذا أقر بجناية الخطأ
فقضى عليه بالقيمة ثم عجز لم يؤخذ به إلا بعد
العتق في قول أبي حنيفة لأن وجوب هذا المال
بقوله وإقراره فيما ليس من
ج / 7 ص -194-
التجارة يكون ملزما إياه بعد العتق لا بعد
العجز قبل العتق لأن بعد العجز الحق في ماليته
لمولاه وإقراره ليس بصحيح في حق المولى كما لو
أقر بالجناية بعد العجز فكذلك في الصلح لأن دم
العمد ليس بمال فهو بهذا الصلح يلتزم مالا لا
بإزاء مال فهو وما يقربه سواء.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى كل
واحد من المالين ثابت في ذمته وهو مطالب بهما
في حال قيام الكتابة فيبقى في ذمته بعد العجز
فيباع فيه كسائر الديون وتمام بيان هذه
المسائل في الديات وإذا حفر المكاتب بئرا في
الطريق فوقع فيها إنسان فعليه أن يسعى في
قيمته يوم حفر لأنه جان بطريق التسبب بالحفر
في الطريق فيجعل كجنايته مباشرة وإذا وقع فيها
آخر بعد ما قضى للأول شركه في تلك القيمة لأن
الموجود من المكاتب جناية واحدة وهو الحفر فلا
يلزمه به أكثر من قيمة واحدة ولكن الثاني
يشارك الأول في تلك القيمة بخلاف جنايته
بالمباشرة فإن الثانية غير الأولى ,ولو سقط
حائط له مائل قد شهد فيه على إنسان فقتله
فعليه أن يسعى في قيمته لأنه متمكن من هدم
الحائط المائل فإذا تركه بعد ما أشهد عليه جعل
كالدافع له على من سقط الحائط عليه فلزمه
قيمته, وإن وجد في داره قتيل أخذ بقيمته يوم
وجد القتيل فيها لأن التدبير في داره إليه
فيكون كالحر في ذلك, ولو وجد القتيل في دار
الحر جعل كالقاتل له في وجوب البدل فكذلك
المكاتب إلا أن تكون قيمة المكاتب أكثر من
الدية فينقص حينئذ عشرة دراهم من الدية لأن
وجوب القيمة عليه إذا كانت الجناية منه معتبر
بوجوب القيمة إذا كانت الجناية عليه والجناية
على المكاتب لا توجب من قيمته إلا عن ألف إلا
عشرة دراهم لأنه عبد ما بقي عليه درهم فكذلك
القيمة الواجبة بالجناية منه فإن جنى جناية ثم
عجز فإن كان قد قضى عليه بالسعاية فهو دين
عليه يباع بها لأن سببه ظاهر في حق المولى وقد
صار دينا في ذمته بالقضاء, وإن لم يقض بها
عليه خير المولى بين الدفع والفداء إلا على
قول زفر رحمه الله فإنه يقول الواجب قيمته
يباع فيه بناء على أصله الذي قلنا أن موجب
جنايته القيمة ابتداء.
وقد ذكر في كتاب الجنايات أن أبا يوسف رحمه
الله كان يقول بهذا مرة ثم رجع عنه فقال يخير
المولى كما هو مذهبهما لأن موجب جنايته في
رقبته لتوهم إمكان الدفع بعد العجز وإنما
يتحول إلى الذمة بقضاء القاضي, فإذا عجز قبل
القضاء بقيت الجناية في رقبته فكأنه جنى
ابتداء بعد العجز فيخاطب المولى بالدفع أو
الفداء وإن جنى عليه فالواجب أرش المماليك
لأنه عبد وذلك للمكاتب بمنزلة كسبه لأنه صار
أحق بنفسه وإن قتل رجلا عمدا فعليه القود
لقوله صلى الله عليه وسلم :
"العمد قود"
والرقيق في حكم القود والحر سواء وإن قتل ابن
المكاتب أو عبده فلا قود على القاتل أما الابن
فلأنه من وجه مملوك للمولى حتى لو أعتقه ينفذ
عتقه ومن وجه هو مملوك للمكاتب حتى يكون أحق
بكسبه فاشتبه من يجب القصاص له وذلك مانع من
وجوب القصاص وأما عبده فلأن للمولى فيه حق
الملك, ألا ترى أن بعجزه يتم فيه ملك المولى
ومن وجه هو ملك المكاتب حتى يتم ملكه فيه إذا
أعتق فيشتبه من له القصاص ولأن
ج / 7 ص -195-
المكاتب إنما صار أحق بكسبه ليؤدي بدل الكتابة
والقصاص ليس من ذلك في شيء والمولى ممنوع من
كسبه فلا يمكن إيجاب القصاص له أيضا ومع
الاشتباه لم يجب القصاص وإن اجتمعا على ذلك لم
يقتص أيضا لأنه لم يجب بأصل الفعل فلا يجب
باتفاقهما بعد ذلك ولكن على القاتل القيمة لما
تعذر إيجاب القصاص وهو المكاتب بمنزلة سائر
اكسابه وإن عفوا فعفوهما باطل أما المولى
فلأنه لم يجب له شيء وأما المكاتب فلأن العفو
تبرع منه فلا يصح كالإبراء عن الديون وإن قتل
المولى مكاتبه خطأ أو عمدا وقد ترك وفاء فعليه
قيمته تقضي به كتابته وكذلك لو قتل ابنه لأن
المكاتب كان أحق بكسبه وبنفسه فلما جعل المولى
كالأجنبي فيما يجب بإتلاف كسبه فكذلك فيما يجب
باتلاف نفسه وإن أقر المكاتب بجناية خطأ أو
عمدا لا قصاص فيه فإقراره جائز ما دام مكاتبا
لأن موجب جنايته في كسبه وإقراره في كسبه
صحيح, وإن عجز ورد في الرق بطلت عنه قضى به
عليه أو لم يقض.
وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وذكر في
كتاب الجنايات أن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله
تعالى قالا يؤخذ بما قضى عليه منها خاصة وما
أداه قبل العجز لم يسترده عندهم جميعا وقد
بينا هذا ولا يلزم المكاتب مهر من نكاح بغير
إذن مولاه حتى يعتق ويلزمه ذلك في الشراء عند
الاستحقاق يعني إذا اشترى جارية فوطئها ثم
استحقت يغرم عقرها في الحال لأن سقوط الحد
هناك كان بسبب الشراء وهو عقد تجارة فما يجب
باعتباره من الضمان يكون ضمان التجارة فيؤاخذ
به في الحال وفي النكاح سقوط الحد عنه ووجوب
المهر كان بسبب النكاح وهو ليس بتجارة فما يجب
بسببه لا يكون من جنس ضمان التجارة فلا يؤاخذ
به حتى يعتق.
توضيح الفرق أنه صار منفك الحجر عنه في الشراء
ففي الضمان الواجب بسببه يلتحق بالحر ولم يصر
منفك الحجر عنه من نكاح نفسه ففيما يجب بسببه
هو كالعبد المحجور ولا يتزوج المكاتب بغير إذن
مولاه لأن انفكاك الحجر عنه في عقود الاكتساب
وليس في التزوج اكتساب المال بل فيه التزام
المهر والنفقة ولأن حكم المالكية إنما يثبت له
يدا ليتمكن من أداء بدل الكتابة فكل عقد لا
يوصله إلى ذلك لا يثبت له حكم المالكية في ذلك
بل يكون هو كالعبد لا يتزوج إلا بإذن مولاه
وكذلك لا يزوج عبده لأنه تعييب للعبد وليس
باكتساب للمال وكذلك لا يزوج ابنه لأن الرق
الباقي فيه مخرج له من أهلية الولاية بالقرابة
وسبب الملك في ابنه أبعد عنه من عبده لما بينا
أن من دخل في كتابته فهو مملوك لمولاه ولهذا
لا يزوج ابنته أيضا لأنها لما دخلت في كتابته
صارت مملوكة لمولاه بمنزلة نفسه ولا يزوجها
بدون إذن مولاها وله أن يزوج أمته لأن تزويج
الأمة اكتساب في حقه فإنه يكتسب به المهر
ويسقط عن نفسه نفقتها وهو منفك الحجر عنه في
عقود الاكتساب.
فإن قيل: هذا موجود في حق ابنته قلنا نعم
ولكن ابنته مملوكة للمولى وأمته ليست بمملوكة
للمولى حتى ينفذ عتق المولى في ابنته دون أمته
ولو عجز وقد حاضت ابنته حيضة لا
ج / 7 ص -196-
يجب
على المولى فيها استبراء جديد ويلزمه ذلك في
أمته ومكاتبته كأنه تزوجها برضاها بدون إذن
المولى لأن بكتابتها ثبت لها الحق في نفسها
دون إذن المولى وإنما يعتبر رضاها في تزويجها
ولا يعتبر رضا المولى ولا تتزوج المكاتبة بغير
إذن مولاها وكان ينبغي أن يملك ذلك لأنه
اكتساب للمهر في حقها ولكن رقبتها باقية على
ملك المولى, فيمنع ذلك ثبوت ولاية الاستبداد
لها بالتزوج لأن فيه تعييب رقبتها فإن النكاح
عيب فيها وربما تعجز فيبقى هذا العيب في ملك
المولى.
توضيحه أن النكاح غير مشروع في الأصل لاكتساب
المال بل للتحصين والنفقة وانفكاك الحجر بسبب
الكتابة في عقود اكتساب المال فإذا كان
مقصودها من تزويج نفسها شيئا آخر سوى المال لم
يكن هذا العقد مما يتناوله الفك الثابت
بالكتابة فإن تزوجت بغير إذن مولاها فلم يفرق
بينهما حتى عتقت جاز النكاح ولا خيار لها لأن
المانع حق المولى وقد سقط بالعتق ونفوذ العقد
كان بعد العتق وفي مثله لا يثبت الخيار لها
وإذا وقع المكاتب على بكر فافتضها كان عليه
الحد لوجود الزنى المحض منه وهو مخاطب فإن دخل
في ذلك وجه شبهة ولم تطاوعه المرأة كان عليه
المهر لأن هذا الفعل لا ينفك عن عقوبة أو
غرامة إذا حصل في غير الملك وقد سقطت العقوبة
فوجب المهر إلا أنها إذا طاوعته فقد رضيت
بتأخير حقها فيتأخر إلى ما بعد العتق وإذا لم
تطاوعه فلم ترض بتأخير حقها فيلزمه ذلك في
الحال كما لو جنى عليها كان مؤاخذا بالأرض في
الحال.
فإن قال تزوجتها فصدقته فإنما عليه المهر إذا
عتق لوجود الرضا منها بتأخير حقها وإن قال
اشتريتها أو وهبت لي أخذ بالمهر في المكاتبة
لما بينا أن في الشراء الواجب من جنس ضمان
التجارة وكذلك في الهبة لأنه إنما سقط الحد
عنه بسبب موجب للمال فهو نظير الشراء وهذا لأن
بعد الملك لا حق لأحد سواه فلا يعتبر فعل
الغير في الرضا بالتأخير بخلاف التزويج فإنه
لا يسقط به حقها من نفسها فيعتبر رضاها
وتمكينها من تأخير حقها ولا يجوز هبة المكاتب
ولا صدقته.
وقال ابن أبي ليلى يتوقف عتقه وهبته وصدقته
على سقوط حق المولى بعتق المكاتب فإذا عتق نفذ
ذلك كله لأنه أحق بكسبه في الحال ولكن فيه حق
المولى على أن يصير مملوكا إذا عجز فيمتنع
نفوذ هذه التصرفات منه في الحال لمراعاة حق
المولى فإذا سقط حق المولى بالعتق فقد زال
المانع فينفذ تصرفه كالوارث إذا أعتق عبدا من
التركة المستغرقة بالدين ثم سقط الدين.
ولكنا نقول هو ليس بأهل للتبرعات لكونه عبدا
ولأن صحة التبرعات باعتبار حقيقة الملك وهو
ليس من أهله ولا يتوقف التصرف إذا صدر من غير
أهل فهو كالصبي إذا أعتق أو وهب ثم بلغ لم
ينفذ ذلك منه ولأن بالعتق يتم ملكه في الكسب
مقصورا على الحال فلا ينفذ التبرع السابق عليه
منه
ألا ترى أن المولى لو كان هو الذي أعتق عبده
أو وهب كسبه,
ج / 7 ص -197-
ثم عجز
المكاتب حتى ملك المولى لم ينفذ ذلك التصرف
منه فهذا مثله ولا يجوز وصية المكاتب وإن ترك
وفاء لأنه تبرع بعد الموت فيكون كتبرعه في
حياته.
فإن قيل: أليس أنه إذا أديت كتابته يحكم
بموته حرا ولو عتق في حال حياته وجب تنفيذ
وصيته بمال مرسل بعد موته من ثلثه فكذلك إذا
أديت كتابته.
قلنا: قد بينا أن استناد حريته في حكم الكتابة
للضرورة, وصيته ليست من ذلك في شيء ولأن حريته
إنما تستند إلى آخر جزء من أجزاء حياته وتلك
الحالة للطافتها لا تتسع للوصية ولا يجوز
إقراضه ولا كفالته لأنه تبرع إلا أن كفالته
ككفالة العبد المحجور عليه تظهر في حقه بعد
العتق واستقراضه جائز لأنه تبرع عليه وهو من
أهله بمنزلة قبول الهبة والصدقة ويجوز بيعه
وشراؤه بالمحاباة لأنه من التجارة وقد يفعله
التاجر لإظهار المسامحة حتى يميل الناس إليه
أو يحابي في تصرف ليتوصل به إلى تصرف آخر هو
أنفع له وكذلك إن حط شيئا بعد البيع بعيب ادعى
عليه أو زاد في ثمنه شيئا اشتراه فهذا من صنع
التجارة والمكاتب فيما هو من التجارة بمنزلة
الحر, وإن أعار دابة أو أهدى هدية أو دعا إلى
طعام فلا بأس بذلك وهذا استحسان.
فأما في القياس هذا كله تبرع والمكاتب ليس من
أهل التبرع ولكنه استحسن فقال هذا من صنع
التجارة فإنه لا يجد بدا من إيجاد الدعوة
للمجاهرين أو الإهداء إليهم أو إعارة مسكن أو
غير ذلك منهم إذا أتوه من بلدة أخرى وإذا لم
يفعل ذلك تفرقوا عنه فلكونه من توابع التجارة
قلنا يملكه استحسانا وليس له أن يكسو الثوب
لأن ذلك تمليك لعين الثوب بطريق التبرع
والتاجر لا يحتاج إلى ذلك عادة وكذلك لا يعطي
درهما فصاعدا لأنه تبرع بتمليك العين بخلاف
المنفعة فالتجار يتوسعون في المنافع ما لا
يتوسعون في الإعيان.
ففي هذا إشارة إلى أن له أن يعطي دون الدرهم
لأنه قد يحتاج إلى ذلك عادة فإن مجاهره إذا
شرب الماء من سقاء على باب حانوته لا يجد بدا
من إعطاء فلس لأجله وما دون الدرهم قليل يتوسع
فيه الناس فلهذا يملكه استحسانا والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب مكاتبة المكاتب
قال: "رضي الله عنه وقد بينا أن للمكاتب أن
يكاتب استحسانا فإن أدى الثاني قبل الأول كان
ولاؤه لمولى الأول" لأن الأول صار معتقا
فيخلفه مولاه لأن الاعتاق يعقب الولاء وهو ليس
بأهل للولاء لأنه رقيق بعد فيخلفه فيه أقرب
الناس إليه وهو مولاه كالعبد المأذون إذا
اشترى شيئا يملكه مولاه بهذا الطريق وهو أن
الشراء موجب للملك فإذا لم يكن المشتري من أهل
الملك خلفه في الملك أقرب الناس إليه وهو
المولى فإن عتق الأول بعد ذلك لم يرجع إليه
كما لا يرجع الملك في كسب العبد إليه بعد ما
يعتقه مولاه وإن سبق الأول بالأداء ثم أدى
الثاني فولاؤه للأول لأن الولاء يعقب العتق
وإنما عتق الثاني بعد ما تم الملك للأول في
رقبته وهو
ج / 7 ص -198-
من أهل
الولاء لحريته, فإن قتل المولى مكاتب مكاتبه
وقيمته ألف ومكاتبه خمسمائة وقد بقي على الأول
من مكاتبته مائة فعلى المولى قيمته ألف درهم
في ثلاث سنين يقتص من ذلك المائة التي بقيت من
مكاتبة الأول إذا كانت قد حلت وحل ما على
المولى من القيمة فيعتق المكاتب الأول وقد صار
مستوفيا من الثاني لأنه من مكاتبته ثم يعطيه
المولى أربعمائة تمام مكاتبة الثاني
والخمسمائة الباقية ميراث للمولى فإن لم يكن
للثاني وارث فهو لأقرب الناس من المولى من
العصبة لأن عتقه يستند إلى حال حياته
والأول في ذلك الوقت كان مكاتبا فيكون ولاء
الثاني للمولى إلا أن المولى قاتل ولا ميراث
للقاتل فكان ذلك لا قرب عصبة له, وإن كانت
مكاتبته ألفا ولم يحل على المكاتب الأول شيء
من نجومه فإن المولى يؤدي جميع القيمة إلى
المكاتب الأول في ثلاث سنين لأن الثاني مات عن
وفاء فإن في قيمته وفاء بمكاتبته فيستوفي
الأول مكاتبته من قيمته ويحكم بحريته, ولو لم
يقتله المولى ولكن قتله المكاتب الأول وقيمة
القاتل أكثر فعليه قيمة المقتول يستوفي من ذلك
كتابته وإن فضل من قيمته شيء أداه إلى المولى
لأن ولاءه للمولى حين عتق قبل الأول فيكون ما
فضل ميراثا مكاتب كاتب عبدا ثم مات الأول عن
ابن حر ولم يترك إلا ما على الآخر ثم مات
الآخر عن ابن ولد له في المكاتبة فعليه أن
يسعى فيما على ابنه فيؤدي ذلك إلى المولى من
مكاتبة الأول لأن عقد كتابة الأول باق ببقاء
دينه على المكاتب الثاني فيؤدي منه مكاتبته
وما فضل عنها فهو ميراث لابن الأول عن أبيه
لأنه حكم بحريته قبل موته وولاء الابن الآخر
لابن الأول لأن عتق كل واحد من المكاتبين
يستند إلى آخر جزء من أجزاء حياته فإنما حكم
بحرية الثاني بعد الحكم بحرية الأول فيكون
ولاؤه وولاء ولده للمكاتب الأول يخلفه فيه
ابنه مكاتب اشترى امرأته ولم تكن ولدت منه ثم
كاتبها فذلك جائز وما ولدت بعد الكتابة فهو
معها في الكتابة لأنه جزء منها وقد صارت هي
أحق بنفسها وولدها بعقد الكتابة, فإن مات
المكاتب عن وفاء عتقت هي وأولادها لأن كتابة
الأول لما أديت فقد حكم بعتقه وصارت المكاتبة
أم ولد له فتعتق بالاستيلاد هي وأولادها وأخذ
أولادها ما بقي من ميراثه بعد أداء كتابته
لأنهم عتقوا في حال حياته حين تم ملكه فيهم
وهم أولاده فإن لم يترك وفاء فالمرأة وولدها
بالخيار إن شاؤوا سعوا فيما بقي على الأول
ليعتقوا بعتق الأول وإن شاؤوا سعوا فيما بقي
على الأم لأنهم يستفيدون العتق بأداء ذلك كما
لو أدوا إلى المكاتب في حياته ويسعون في الأقل
من ذلك لأن العبد إنما يتخير بين شيئين لرفق
له في أحدهما والرفق في اختيار الأقل دون
الأكثر
وليس للمكاتب أن يكاتب ولده ولا والديه لأنهم
دخلوا في كتابته تبعا والمكاتب لا يكاتب
ولأنهم بمنزلة مملوكين للمولى حتى لا يبيعهم
وكما لا يكاتب نفسه فكذلك لا يكاتبهم ولا يجوز
له أن يكاتب من لا يجوز له بيعه إلا أم ولده
لأن أم الولد وإن امتنع بيعها تبعا لولدها فلم
تدخل في مكاتبته حتى لا تعتق بعتقه قبل موته
ولأنها لم تصر مملوكة للمولى حتى لا ينفذ عتقه
فيها والمكاتبة أحق بكسبها فإذا كاتبها يحصل
له ما هو المقصود بعقد الكتابة لأنها تصير أحق
بمكاسبها وإذا كاتب المكاتب
ج / 7 ص -199-
امرأته
ولم تلد منه ثم ولدت بعد الكتابة ثم ماتت
المرأة ولم تترك وفاء فالابن بالخيار إن شاء
سعى فيما بقي على أمه ليعتق بأدائه وإن شاء
عجز نفسه فيكون بمنزلة أبيه لأنه تلقاه جهتا
حرية أحدهما ببدل يؤديه والآخر بغير بدل عليه
وهو التبعية لأبيه فيميل إلى أيهما شاء وإذا
كاتب المكاتب عبدا له ولد عنده في مكاتبته ثم
ادعاه يثبت النسب منه لأن أصل العلوق كان في
حكم ملكه ثم الابن بالخيار بين المضي على
الكتابة وبين العجز لما بينا.
"فإن قيل لما كان لا يكاتبه ابتداء بعد ثبوت
نسبه منه فينبغي أن لا تبقى مكاتبته أيضا
قلنا: مثله لا يمتنع, ألا ترى أنه لا يتزوج
المكاتب أمته ثم يشتري امرأته فيبقى النكاح
وهذا لأنه يصدق في دعوى النسب لما فيه من
المنفعة للولد ولا يصدق في إبطال ما ثبت له من
الحق في كسبه بعقد الكتابة ولهذا يخير الولد,
وإذا كاتب المكاتب عبدا له على نفسه وماله أو
على نفسه وابنه فهو جائز لأن المكاتب مالك
لعقد الكتابة في مكاسبه بمنزلة الحر والكتابة
من الحر صحيحة بهذه الصفة فكذلك من المكاتب
وإذا مات المولى عن ابن وابنة وله مكاتب
فاعتقه أحدهما فعتقه باطل لأن المكاتب لا يورث
كما لا يملك بسائر أسباب الملك مع قيام
الكتابة ولأن المولى استحق ولاءه بعقد الكتابة
ففي جعل رقبته ميراثا إبطال هذا الاستحقاق على
المولى فالمعتق منهما أضاف العتق إلى ما لا
يملكه فلا ينفذ منه ولا يسقط به حصته من البدل
أيضا لأنه أضاف التصرف إلى ما لا يملكه فلا
يظهر حكمه فيما يملكه كأحد الشريكين في العبد
إذا أعتق نصيب شريكه يكون لغوا منه ولا يفسد
الرق في نصيبه, وإذا أعتق المكاتب جميع الورثة
في القياس لا ينفذ أيضا ولا يسقط حقهم في بدل
الكتابة لإضافتهم التصرف إلى ما ليس بملك لهم
وفي الاستحسان يعتق ويجعل هذا بمنزلة الإقرار
منهم باستيفاء بدل الكتابة.
ومعنى هذا أن المكاتب إنما يعتق بعد موت
المولى بإيفاء جميع بدل الكتابة فقولهم هو حر
يكون إقرارا منهم بما تحصل به الحرية له وهو
إيفاء بدل الكتابة بخلاف ما إذا قال ذلك بعضهم
لأنه لا يعتق شيء منه بإيفاء نصيب أحدهم من
بدل الكتابة فلا يتضمن كلامه الإقرار باستيفاء
نصيبه توضيحه إن عتق جميع المكاتب مسقط لبدل
الكتابة عنه فيمكن أعمال كلامهم بطريق المجاز
وهو أن يكون إسقاطا منهم لبدل الكتابة ومتى
تعذر العمل بحقيقة الكلام يعمل بمجازه إذا
أمكن بخلاف ما إذا أعتق أحدهم لأن عتق البعض
ليس بمسقط عنه شيئا من بدل الكتابة على ما
بينا.
إذا أعتق نصفه بالتدبير بموت المولى لا يسقط
عنه شيء من بدل الكتابة بخلاف ما إذا أعتقه
كله فقد تعذر العمل بحقيقة كلامه ومجازه في
ملكه فلهذا كان لغوا.
ثم ولاؤه للابن دون الابنة لما بينا أن
المولى استحق ولاءه وإنما عتق على ملكه فيخلفه
ابنه في ولائه لأنه عصبته وإن وهب له أحدهما
نصيبه من المال فذلك جائز لأن المال صار
ميراثا لهما فإنما أضاف الواهب تصرفه إلى ملكه
ولا يعتق شيء منه لأنه سقط عنه بعض البدل
ج / 7 ص -200-
ولا
موجب لذلك في العتق كما لو أوفى بعض البدل,
فإن عجز فرد في الرق فنصيب الواهب من الرقبة
ملك له لأن الكتابة انفسخت بالعجز وصارت
الرقبة ميراثا لهما وليس لهبة بدل الكتابة
تأثير في انتقال ملكه عن الرقبة ولأنه تبين أن
ميراثهم كان هو الرقبة دون المال فكان هبته
لنصيبه من المال لغوا وهذا بخلاف ما إذا كاتب
رجلان عبدا لهما ثم وهب أحدهما نصيبه من البدل
فإن هناك يعتق نصيبه لأنه مالك لنصيبه حتى
يملك إعتاقه فيجعل هبته لنصيبه من البدل
كإعتاقه وهنا أحد الوارثين لا يملك إعتاقه
فلهذا لا يعتق شيء منه بهبة نصيبه من المال
منه, وإن وهب منه جميع الورثة المال عتق
استحسانا كما لو أعتقه جميع الورثة وهذا أظهر
لأن ذمته برئت عن جميع المال حين وهبوه له
وبراءة ذمة المكاتب توجب حريته وإذا أدى
المكاتب مكاتبته إلى الورثة دون الوصي وعلى
الميت دين يحيط بذلك أو لا يحيط لم يعتق لأنه
لا حق للورثة في قبض بدل الكتابة منه ما دام
على الميت دين فأداؤه إليهم في هذه الحالة
كأدائه إليهم قبل موت المولى وإن أداها إلى
الوصي عتق كان عليه دين أو لم يكن وصل ذلك إلى
الغريم والوارث أو لم يصل لأن الوصي قائم مقام
الموصي والأداء إليه كأداء إلى الموصي وكذلك
إن كانت الورثة حين قبضوا منه دفعوه إلى الوصي
فهو كدفع المكاتب بنفسه إلى الوصي وإذا أداها
إلى بعض الورثة ولا دين على الميت لم يعتق إلا
أن يوصل الوارث إلى الآخرين انصباءهم إن كانوا
كبارا أو إلى الوصي نصيب الصغير فحينئذ يعتق
لأن حق القبض لكل واحد منهم في نصيبه ولا
ولاية للقابض على الآخرين فلا يعتق بقبضه ما
لم يوصل إليهم أنصباءهم ولهم الخيار إن شاؤوا
اتبعوا المكاتب بحصصهم, وإن شاؤوا اتبعوا
الوارث القابض بمنزلة سائر الديون إذا قضاها
الغريم بعض الورثة ولا يعتق المكاتب حتى يقع
في يد كل إنسان نصيبه لأنه لا يستفيد البراءة
إلا بذلك, ولو أدى المكاتبة إلى الورثة وهم
صغار فذلك باطل لأنه لا يستفيد البراءة بقبضهم
فإن قبض الصبي دينه من غريمه باطل فما لم يصل
إلى وصية لا يعتق, وإن كان على الميت دين يحيط
بالمكاتبة فأعطاها المكاتب إلى الغرماء فذلك
جائز إذا أخذ كل ذي حق حقه منها لأنه أوصل
الحق إلى مستحقه, ألا ترى أنه لو لم يكن عليه
دين فأعطاها الورثة وهم كبار فاقتسموها بينهم
بالحصص كان ذلك جائزا فكذلك الغرماء وإذا أوصى
بما على مكاتبه لرجل وهو يخرج من الثلث فأداها
إلى الموصى له جاز لأنه تعين مستحقا لما عليه
بإيجاب الموصى له وكذلك إذا أداها إلى الوصي
لأنه قائم مقام الموصي فيما هو من حقه وتنفيذ
الوصية من حقه فكان للوصي أن يقبض لينفذ
الوصية فيه فلهذا عتق المكاتب بالدفع إليه وصل
إلى الموصى له أو لم يصل وإن أداها إلى الوارث
لم يعتق حتى يصل إلى الموصى له لأنه لا حق
للوارث في هذا المال وكذلك لو كان أوصى بثلث
ماله لم يعتق المكاتب الأداء إلى الوارث حتى
يصل الثلث إلى الموصى له والله أعلم بالصواب.
باب المكاتبة من المريض والمرتد
قال: "وإذا كاتب الرجل عبده في مرضه على
مكاتبة مثله ولا مال له غيره ثم مات
ج / 7 ص -201-
المولى فإنه يقال للمكاتب عجل الثلثين من المكاتبة والثلث عليك
إلى الأجل فإن لم يعجل رد رقيقا"
لأن التأجيل تبرع منه والتبرع في
مرضه بالتأخير كتبرعه بالإسقاط
فلا يصح إلا في ثلثه بخلاف ما إذا
كاتبه في صحته لأن تأجيله هناك
صحيح مطلقا لكونه مالكا للتبرع
بالإسقاط في صحته ولا يبطل الأجل
بموت المولى لأنه حق المكاتب, وإن
كان كاتبه على أكثر من قيمته
أضعافا فكذلك الجواب في قول أبي
يوسف وهو قول أبي حنيفة.
وفي قول محمد رضوان الله عليهم
أجمعين تأجيله فيما زاد على مقدار
قيمته صحيح وكذلك في قدر ثلث
قيمته وإنما يلزمه أن يعجل قدر
ثلثي قيمته لأن ما زاد على قدر
قيمته فقد كان للمريض أن لا
يتملكه أصلا ولا يثبت حق ورثته
فيه بأن يكاتبه على قيمته فإذا
تملكه مؤجلا صح تأجيله مطلقا
كالمريضة إذا زوجت نفسها بمهر
مؤجل صح تأجيلها في ذلك لأن لها
أن لا تتملك ذلك أصلا بأن لا تزوج
نفسها أصلا.
وهما يقولان جميع البدل مسمى في
الكتابة بمقابلة ما هو حق للمولى
في رقبته فلا يصح التأخير إلا في
ثلثه كما لو كاتبه على قيمته وهذا
لأن حق المولى في مالية الرقبة
وقد تعلق به حق الورثة في ذلك
فكان جميع البدل بمقابلة ما تعلق
به حق الورثة فلهذا لا يصح
التأجيل إلا في ثلثه بخلاف المهر
فإنه بدل عما لا حق للوارث فيه
وإنما يثبت حق الوارث فيه ابتداء
فإذا كان مؤجلا لم يثبت حقهم إلا
بتلك الصفة ولو كاتبه في مرضه على
مكاتبة مثله ثم أقر باستيفائها لم
يصدق إلا من الثلث لأن ما باشره
في المرض من المكاتبة والإقرار
بالاستيفاء بمنزلة الإعتاق ولأنه
يتمكن تهمة المواضعة من حيث أنه
لما علم أنه لو أعتقه كان من ثلثه
واضعه على هذا ليحصل مقصوده بهذا
الطريق فلا يصدق في حق الورثة
ولكن إن كان عليه دين يحيط بماله
لا يصدق في شيء إلا أن العبد يعتق
ويؤخذ بالكتابة كما لو أعتقه وإن
لم يكن عليه دين وهو يخرج من ثلث
ماله فهو حر ولا شيء عليه وإن لم
يكن له مال سواه فعليه السعاية في
الثلثين في المكاتبة للورثة إلا
أن تكون قيمته أقل فحينئذ يسعى في
ثلثي قيمته لأن تهمة المواضعة
إنما تمكنت في مقدار القيمة ولا
تتمكن في الزيادة على ذلك فيصح
إقراره باستيفائه ويجعل هذا
وإعتاقه في مرضه ابتداء سواء
وكذلك لو أقر أنه كان كاتبه في
صحته واستوفى لأن إقراره لا يصح
في المرض إلا بما يملك إنشاءه
وتتمكن فيه تهمة المواضعة كما
بينا وإن كاتبه في صحته ثم أقر في
مرضه بالاستيفاء صدق في ذلك لأن
تهمة المواضعة هنا منتفية حين
باشر العقد في صحته لتمكنه من
إعتاقه يومئذ ثم المكاتب يستحق
براءة ذمته عند إقراره بالاستيفاء
فلا يبطل ذلك الاستحقاق بمرضه
بخلاف ما إذا كاتبه في مرضه, ألا
ترى أنه لو باعه في صحته من إنسان
ثم أقر في مرضه باستيفاء الثمن
كان مصدقا في حق غرماء الصحة
بخلاف ما لو كان باعه في مرضه ولو
أن مكاتبا أقر عند موته أنه كاتب
عبده فلانا واستوفى مكاتبته لم
يجز قوله لأن هذا بمنزلة الإعتاق
والمكاتب لا يملك ذلك أصلا ولأن
هذا من الحر صحيح من ثلثه وليس
للمكاتب ثلث فلهذا كان على الآخر
أن يسعى في جميع
ج / 7 ص -202-
المكاتبة, وكذلك لو كاتبه في مرضه بأقل من قيمته لم يجز لأن
محاباته وصية والوصية من المكاتب
باطلة ولو كاتبه على مكاتبة مثله
أمر الآخر أن يعجل مكاتبته كلها
وإلا رد في الرق لأن تأجيله تبرع
منه والمكاتب المريض ليس من أهله
فإن برأ من مرضه صح ذلك منه لأن
المرض إذا تعقبه برء فهو كحالة
الصحة ولو أوصى رجل فقال كاتبوا
عبدي على كذا إلى أجل كذا إن حدث
بي الموت وذلك كتابة مثله أجزت
ذلك إن كان يخرج من الثلث كما لو
باشره بنفسه لأنه أوصى بما هو من
حاجته وقصد به استحقاق ولاية فهو
كما لو أوصى بعتقه وإن لم يكن له
مال غيره عرضت عليه أن يعجل
الثلثين ويؤخر الثلث إن قبل
الكتابة كما لو باشره في حياته
فإن أبى لم يكاتب لأن عقد الكتابة
لم يتم بدون رضاه وكذلك إن حط عنه
منها شيئا يكون أكثر من الثلث ولو
كان مكاتب أوصى بهذا في عبده لم
يجز لأنه وصية ولا يجوز للمكاتب
أن يوصي بشيء وإن ترك وفاء ولو
كاتب رجل عبده في مرضه ولا مال له
غيره فأجاز الورثة في حياته فلهم
أن يمتنعوا من الإجازة بعد موته
كما في سائر الوصايا وهذا لأنهم
أجازوا قبل تقرر حقهم لأن حقهم
إنما يثبت في الحقيقة بعد موت
المولى ولأن إجازتهم في الحياة
للاستحياء منه فلا يكون ذلك دليل
الرضا منهم وإنما دليل الرضا
الإجازة بعد الموت.
قال: "وإن كاتب المرتد عبده
فكتابته موقوفة إن أسلم جاز وإن
قتل على ردته أو مات أو لحق بدار
الحرب بطلت في قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى" وعند أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى كتابته جائزة
إلا أن عند أبي يوسف رحمه الله
تعالى تجوز جوازها من الإصحاء
وعند محمد رحمه الله تعالى من
المريض حتى تعتبر من ثلثه وهو
بمنزلة اختلافهم في سائر تصرفات
المرتد, وإذا قسم القاضي مال
المرتد بين ورثته ثم كاتب الوارث
عبدا من تركته ثم تاب المرتد ورجع
فوجد المكاتب فهو مكاتب له يؤدي
إليه ويعتق وولاؤه له كأنه هو
الذي كاتبه "وعلى قول زفر رحمه
الله تعالى لا سبيل له عليه لأن
الوارث بتصرفه استحق ولاءه فكأنه
أعتقه ولأن المكاتب غير محتمل
للنقل من ملك إلى ملك فلا يعود
إليه من ملك الوارث كالمدبر وأم
الولد".
ولكنا نقول استحقاق العتق لا يثبت
بنفس الكتابة ولهذا كان محتملا
للفسخ والمرتد إذا تاب لا يتملك
ماله على الوارث ولكنه يعود إلى
قديم ملكه كما كان وعقد الكتابة
لا يمنع من ذلك
ألا ترى أن المكاتب إذا كاتب عبدا
له ثم عجز الأول كان الثاني
مكاتبا للمولى ويجعل كان الأول
كان نائبا عن المولى في مكاتبته
فكذلك هنا يجعل الوارث كالنائب
عنه في مكاتبته وكتابة المرتدة
وعتقها وبيعها جائز كما يكون في
الإسلام لأن نفسها تتوقف بالردة
حتى لا تقتل فكذلك ملكها بخلاف
المرتد عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وإن كاتبت على خمر أو خنزير
فإني أبطل ذلك ولا أجيز عليها إلا
ما يجوز منها قبل الردة لأنها
مجبرة على الإسلام فكان حكم
الإسلام باقيا في حقها وإذا ارتد
العبد والمولى مسلم فكاتبه جاز
لأن المانع من نفوذ تصرف المرتد
توقف ملكه على حق ورثته وذلك لا
يوجد في العبد ولأنه محض منفعة في
حقه
ج / 7 ص -203-
بمنزلة قبول الهبة فإن قتل وترك مالا أخذت الكتابة من ماله
والباقي ميراث لورثته لأنه حكم
بحريته مستندا إلى حال حياته,
والمرتد الحر يرثه الورثة
المسلمون, وكذلك لو ترك ولدا ولد
له في المكاتبة يسعى فيما عليه
لأن موته عمن يؤدي بدل الكتابة
كموته عما يؤدي به بدل الكتابة
وإذا ارتد المكاتب ولحق بدار
الحرب واكتسب مالا فأخذ أسيرا
فأبى أن يسلم فإنه يقتل ويستوفي
مولاه من كسبه مكاتبته والباقي
ميراث استحسانا وكان القياس أن
يكون كله لمولاه إن كان عبدا, وإن
كان حرا فهو فيء لأنه كسب ردته.
وأبو حنيفة رحمه الله لا يقول
بتوريث كسب الردة عن المرتد إذا
كان حرا ولكن يجعل ذلك فيئا
للمسلمين فكذلك في المكاتب, ولكنه
استحسن هنا فقال في كسب المكاتب
حق لمولاه على معنى أنه متى عجز
كان كسبه لمولاه والمولي مسلم
فقيام حقه يمنع من أن يكون كسبه
فيئا فلهذا يجعل هذا وما اكتسبه
في حالة الإسلام سواء يؤدي منه
بدل كتابته ويكون الباقي ميراثا
لورثته وإذا لحق المكاتب بدار
الحرب مرتدا وخلف في دار الإسلام
ابنا له ولد في كتابته فلا سبيل
على ابنه حتى ينظر ما يصنع
المكاتب فإن مات أو قتل عن وفاء
أديت كتابته والباقي ميراث لابنه
وإن لم يترك وفاء سعى الابن فيما
على أبيه
وكذلك لو لم يترك في دار الإسلام
ولدا ولكنه خلف مالا لم أقسم ماله
حتى أنظر ما يصنع.
"وعلى قول زفر رحمه الله تعالى
يؤدي مكاتبته من ماله ويجعل
الباقي ميراثا لورثته لأن لحوقه
بدار الحرب كموته
ألا ترى أن في حق الحر يجعل هذا
كالموت في قسمة ماله بين ورثته
فكذلك في حق المكاتب".
ولكنا نقول لحوقه بدار الحرب ليس
بموت بعينه ولكن باعتبار أنه يصير
حربيا وأهل الحرب في حق المسلمين
كالموتى يجعل ميتا حكما وهذا لا
يوجد في حق المكاتب لأن ملك
المولى في رقبته باق وقيام ملك
المسلم في رقبة العبد يمنعه من أن
يصير حربيا فإذا لم يصر حربيا كان
هو بمنزلة المتردد في دار الإسلام
والحكم فيه إذا كان مترددا في دار
الإسلام ما بينا فكذلك بعد لحاقه
ولو لم يلتحق بدار الحرب ولكن أهل
الحرب أسروه فباعوه من رجل فأعتقه
فذلك باطل لأنهم بالأسر ما ملكوه
فإن المكاتب لا يحتمل النقل من
ملك إلى ملك وإنما يملك
بالاستيلاء ما يحتمل النقل من ملك
إلى ملك وإذا لم يملكوه بالأسر لا
يملكه المشتري منهم فكان إعتاقه
إياه باطلا, وإن كان المشتري
اشتراه بأمره رجع عليه بالثمن
لأنه مكاتب على حاله فيصح أمره
المشتري بشرائه في كسبه كما يصح
أمر الحر الأسير بذلك فيرجع عليه
بما أدى لأنه أدى مال نفسه في
تخليصه بأمره وإن كان أصابه
المسلمون في غنيمة أخذه مولاه
بغير شيء قبل القسمة وبعدها وهو
مكاتب على حاله لأن الكفار لم
يملكوه بالأسر فلا يملكه المسلمون
أيضا وكذلك الجواب في أم الولد
والمدبر, وإن كاتب الحربي
المستأمن عبدا في دار الإسلام فهو
جائز كما لو أعتقه بمال أو بغير
مال فإن مات عن مال أديت كتابته
والباقي ميراث للحربي إن جاء
بالعبد من دار الحرب لأنه مولاه
وهو حربي مثله, ألا ترى أنه كان
ج / 7 ص -204-
متمكنا من الرجوع إلى دار الحرب والحربي يرث الحربي وإن كان
اشتراه في دار الإسلام وهو مسلم
أو كافر كان الباقي لبيت المال
لأن الحربي لا يرث المسلم ولا
المعاهد والعبد الكافر الذي
اشتراه في دار الإسلام بمنزلة
المعاهد حتى لو عتق كان معاهدا لا
يترك ليرجع إلى دار الحرب ولا
يرثه الحربي بخلاف العبد الحربي
فإنه لو عتق فهو حربي على حاله
فيرثه الحربي فإن لحق الحربي بدار
الحرب فالمكاتب مكاتب على حاله
لأن حكم الأمان باق فيما خلفه في
دار الإسلام فإن بعث بما عليه
إليه عتق لبراءة ذمته وإن ظهر
المسلمون على الدار فقتل الحربي
أو أسر عتق المكاتب لبراءة ذمته
عن بدل الكتابة فإنه لم يبق
للمولى ولا لورثته حق مرعي بعد ما
قتل أو أسر ولم يخلفه السابي في
ملك بدل الكتابة لأن الدين في
الذمة لا يتصور ورود القهر عليه
والملك للسابي بطريق القهر ولأن
يد المكاتب فيما في ذمته أسبق
فيملك ما في ذمته وتسقط عنه
المكاتبة فلهذا عتق وكذلك إن أسر
من غير أن يظهروا على الدار لأن
نفسه بالأسر قد تبدل وخرج من أن
يكون أهلا لملك المال ولم يخلفه
وارثه في ذلك لبقائه حيا في حق
ورثته, فأما إذا قتل ولم يظهر
المسلمون على الدار فالكتابة دين
عليه يؤديه إلى ورثة مولاه لأنهم
يخلفونه فيما كان لمولاه حين لم
يقع الظهور عليهم وكما وجب عليه
مراعاة الأمان فيما خلفه في دار
الإسلام لحقه فكذلك يجب مراعاته
لحق ورثته حربي كاتب عبده في دار
الحرب ثم أسلما جميعا أو صارا ذمة
أجزت ذلك لأن الكتابة تعتمد
التراضي كالبيع والشراء فكما يبقى
بيعهم وشراؤهم بعد إسلامهم فكذلك
الكتابة فإن خرجا مستأمنين والعبد
في يديه على حاله فخاصمه في
المكاتبة أبطلتها كما أبطل العتق
والتدبير في دار الحرب منهم إذا
خرجوا بأمان, ألا ترى أن رجلا
منهم لو قهر رجلا فأسراه ثم خرج
إلينا وهو في يديه كان له أن
يبيعه فكذلك المكاتب لأنه في حكم
القاهر لمولاه فيما في ذمته فلهذا
بطلت المكاتبة وإن كان المولى
قاهرا حين أخرجه إلى دار الإسلام
فهو عبده كما لو كان أعتقه ثم
قهره هو أو غيره وأخرجه إلى دار
الإسلام كان عبدا له, ولو كاتبه
ثم خرج العبد مسلما عتق وبطلت عنه
الكتابة لأنه قهر لمولاه حين أحرز
نفسه بدار الإسلام مسلما أو ذميا
ولو فعل ذلك وهو عبد ملك نفسه حتى
يعتق فكذلك إذا فعله وهو مكاتب
يملك ما في ذمته فيسقط عنه ويكون
حرا مسلم تاجر في دار الحرب كاتب
عبده أو أعتقه أو دبره كان جائزا
استحسانا وفي القياس لا يجوز شيء
من ذلك منه لأنه فعله حيث لا يجري
حكم المسلمين وتنفيذ هذه التصرفات
من أحكام المسلمين.
ووجه الاستحسان أنه مسلم ملتزم
لأحكام الإسلام وإن كان في دار
الحرب وكذلك العبد مسلم ليس بمحل
الاسترقاق بعد حق العتق أو حقيقته
فوجود هذا التصرف منهما في دار
الحرب كوجوده في دار الإسلام
وكذلك لو كان العبد كافرا قد
اشتراه في دار الإسلام لأن الذمي
في أنه ليس بمحل الاسترقاق
كالمسلم فإن كان العبد كافرا قد
اشتراه في دار الحرب وكاتبه فأدى
وعتق ثم أسلم أجزته على المسلم
استحسانا
ج / 7 ص -205-
وفي القياس هو عبد له لأنه معتق له بالكتابة واستيفاء البدل فكأنه
أعتقه قصدا وقد بينا أن إعتاق
المسلم العبد الحربي في دار الحرب
لا يجوز لأن غرضه الاسترقاق فلا
ينفذ العتق فيه من المسلم كما لا
ينفذ من الحربي وللاستحسان فيه
وجهان:
أحدهما أن المسلم ضمن له ترك
التعرض له بعد ما يؤدي بدل
الكتابة إليه فعليه الوفاء بما
ضمن لأن التحرز عن الغدر واجب على
المسلم في دار الحرب, ألا ترى أنه
لا يحل له أن يأخذ شيئا من
أموالهم سرا فللوفاء بما ضمن
جعلناه حرا.
والثاني أن المسلم إنما يتملك
بالقهر إذا أحرزه بدار الإسلام
وذلك لا يوجد منه هنا لأن دار
الحرب ليس بدار له فلا يتملكه قبل
الإسلام وبعد الإسلام يستحيل أن
يتملك الحر المسلم بالقهر وعلى
هذا الطريق الاستحسان في الكتابة
والعتق جميعا والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب وإليه المرجع
والمآب.
باب
المكاتبة تلد من مولاها
قال: "رضي الله تعالى عنه وإذا
ولدت المكاتبة من مولاها خيرت فإن
شاءت أبطلت الكتابة وكانت أم ولد
له وإن شاءت مضت وأخذت العقر"
لأنه تلقاها جهتا حرية أحدهما
عاجل ببدل والآخر آجل بغير بدل
فتختار أيهما شاءت ونسب ولدها
ثابت من المولى بالدعوة وهو حر
لأن المولى مالك للإعتاق في
ولدها, وإن اختارت المضي على
الكتابة أخذت العقر من مولاها
لإقراره بوطئها.
ثم إن مات المولى عتقت
بالاستيلاد وسقط عنها بدل الكتابة
وإن ماتت هي وتركت ما لا يؤدي
مكاتبتها منه وما بقي ميراث
لابنها وإن لم تترك مالا فلا
سعاية على هذا الولد لأنه حر
وإنما السعاية على ولد هو تبع لها
في الكتابة حتى إذا كانت ولدت
ولدا آخر فنفاه المولى أو لم يدعه
فإن نسبه لا يثبت منه لأنها
مكاتبة لا يحل للمولى وطؤها فلا
يثبت النسب منه إلا بالدعوة, وإذا
ماتت سعى هذا الولد فيما بقي
عليها فإن مات المولى بعد ذلك عتق
الولد وبطلت عنه السعاية لأنه
بمنزلة أم الولد كأمه فيعتق بموت
المولى فإن ادعى المولى حبل
مكاتبته فضرب إنسان بطنها بعد ذلك
بيوم فألقت جنينا ميتا فإن في
الولد غرة لأبيه لأنه عتق بدعوته
كما لو ادعاه بعد الانفصال وبدل
الجنين الحر الغرة وكان ميراثا
لأبيه لأن الأم مكاتبة بعد فلا
ترث شيئا ولكنها تأخذ العقر من
المولى إذا اختارت المضي على
المكاتبة وإذا ولدت المكاتبة من
المولى ومضت على الكتابة ثم ولدت
ولدا آخر لم يلزم المولى إلا أن
يدعي لأنها محرمة عليه باعتبار
بقاء الكتابة فلا يلزمه نسب ولدها
إلا بالدعوة فإن كان الولد بنتا
فولدت هذه الابنة بنتا ثم أعتق
المولى الابنة السفلى عتقت هي
وحدها لأنها داخلة في كتابة الجدة
ومملوكة للمولى فتعتق بإعتاقه
إياها, وإن أعتق الابنة الأولى
عتقت هي والابنة السفلى في قول
أبي حنيفة.
ج / 7 ص -206-
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رضوان الله عليهم أجمعين لا تعتق السفلى
ولكنها تكون مع الجدة على حالها
لأن السفلى تبع للجدة في الكتابة
بمنزلة ولد آخر لها ولو كان لها
ولدان فأعتق المولى أحدهما لم
يعتق الآخر, والدليل على هذا أن
الجدة لو ماتت كان على العليا
والسفلى السعاية فيما عليها من
بدل الكتابة, وإذا أدت السعاية
إحداهما لم ترجع على الأخرى بشيء
وإن الجدة في حال حياتها أحق
بكسبها لتستعين به على مكاتبتها
وهذا لأن العليا تبع ولا تبع
للتبع فعرفنا أنهما في الحكم
بمنزلة الولدين من الجدة.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول
مع هذا السفلي جزء من العليا كما
أن العليا جزء من الجدة ثم لو
أعتق المولى الجدة عتقت العليا
فكذلك إذا أعتق العليا عتقت
السفلى والسفلى تبع للجدة كما
قالا ولكن بواسطة العليا ولا
تتحقق هذه الواسطة إلا بعد جعل
السفلى تبعا للعليا ولو أعتق
العليا قبل انفصال السفلى منها
عتقت السفلى بلا شك فكذلك بعد
الانفصال لأن معنى التبعية
بالانفصال لا ينقطع لبقاء عقد
الكتابة وإذا ولدت المكاتبة من
مولاها ثم أقر المولى أنها أمة
لفلان لم يصدق وإن صدقته في ذلك
لأن حق أمية الولد قد ثبت لها
واستحق المولى ولاءها فلا يصدقان
على إبطاله.
فإن قال المدعي بعتك بألف درهم
ولم تنقد الثمن وقال المولى
زوجتني والأمة معروفة للمدعي فعلى
المولى المهر يستوفيه المدعي
قصاصا من الثمن لأنهما يتصادقان
على وجوبه عليه وإن اختلفا في
سببه وليس عليه قيمة في الأم ولا
في الولد لأن تعذر استردادها كان
بإقرار المدعي ببيعها منه ألا ترى
أنه لو أنكر ذلك تمكن من
استردادها لكونها معروفة أنها له
وإن لم تكن معروفة أنها للمدعى
ضمن له القيمة لأن تعذر استردادها
لم يكن بإقراره بالبيع ولكن كان
بالاستيلاد الموجود من المستولد,
ألا ترى أنه وإن أنكر البيع لم
يتمكن من استردادها وقد أقر
المستولد أنها ملك المقر له
احتبست عنده فيضمن قيمتها له بعد
أن يحلف بالله ما اشتريتها منه
بما يدعي من الثمن لأنه لو أقر
بالشراء لزمه الثمن فإذا أنكر
يحلف على ذلك والله أعلم.
باب
الأيمان في العتق
قال:
"وإذا قال الرجل لعبده إن بعتك
فأنت حر فباعه لم يعتق" لأن أوان
نزول العتق المتعلق بالشرط بعد
وجود الشرط وبعد البيع هو ليس
بمملوك له فلا يعتق إلا أن يكون
البيع فاسدا فيعتق لأن بعد وجود
الشرط هو باق على ملكه فإن البيع
الفاسد لا يزيل الملك بنفسه إلا
أن يكون سلمه إلى المشتري قبل
البيع فحينئذ يزول ملكه بنفس
البيع فلا يعتق ولو قال إذا دخلت
الدار فأنت حر فباعه فدخل الدار
لم يعتق إلا على "قول ابن أبي
ليلى رحمه الله فإنه يقول يعتق
ويبطل البيع وكذلك مذهبه في الفصل
الأول لأن التعليق قد صح في الملك
فينزل العتق من جهته عند وجود
الشرط ولا يعتبر قيام ملكه في
المحل عند ذلك كما لا يعتبر قيام
الأهلية في المولى حتى لو جن ثم
دخل الدار عتق".
ج / 7 ص -207-
ولكنا نقول المتعلق بالشرط إنما يصل إلى المحل عند وجود الشرط فلا
بد من قيام ملكه في ذلك الوقت
ليعتق من جهته والأهلية إنما
يحتاج إليها لصحة التكلم وتكلمه
عند التعليق لا عند وجود الشرط
فيستقيم أن يجعل عند وجود الشرط
كالمنجز للعتق بذلك الكلام الذي
صح منه فإن اشتراه بعد هذا فدخل
الدار لم يعتق أيضا لأن يمينه
انحلت بوجود الشرط في غير الملك
إذ ليس من ضرورة انحلال اليمين
نزول الجزاء وإن لم يدخل الدار
بعد البيع حتى اشتراه فدخل عتق
عندنا لبقاء اليمين إلى وقت وجود
الشرط في ملكه.
ولا يعتق عند الشافعي رحمه الله
لبطلان اليمين بزوال الملك فإن
اليمين كما لا ينعقد عنده إلا في
الملك لا يبقى بعد زوال الملك,
فإن قال إذا دخلت هاتين الدارين
فأنت حر فباعه فدخل إحداهما ثم
اشتراه فدخل الأخرى عتق لوجود
الملك عند تمام الشرط.
وعند زفر رحمه الله لا يعتق لأنه
يعتبر قيام الملك عند وجود نفس
الشرط كما يعتبره عند تمام الشرط
وقد بينا هذا في الطلاق فإن دخل
إحداهما قبل البيع ثم باعه فدخل
الأخرى لم يعتق لأن الشرط قد تم
في غير ملكه وأوان نزول الجزاء ما
بعد تمام الشرط.
ولو قال له إذا دخلت هذه الدار
فأنت حر إذا كلمت فلانا فباعه ثم
دخل الدار ثم اشتراه فكلم فلانا
لم يعتق لأنه جعل شرط العتق
الكلام وعلق ذلك اليمين بدخول
الدار, والمتعلق بالشرط عند وجود
الشرط كالمنجز فيصير عند دخول
الدار كأنه قال له أنت حر إذا
كلمت فلانا ولو قال ذلك لم يصح
لأنه ليس في ملكه عند دخول الدار
فلهذا لا يعتق وإن كلم فلانا في
ملكه بخلاف الأول فإن هناك عقد
اليمين في الحال وجعل دخول
الدارين شرطا للعتق وقد وجد الملك
عند التعليق وعند تمام الشرط
فلهذا يعتق ولو قال إذا دخلت
الدار فأنت حر بعد موتي فباعه
فدخل الدار ثم اشتراه لم يعتق إن
مات لأنه علق التدبير بدخول الدار
فيصير كالمنجز له عند الدخول
والتدبير لا يصح إلا في الملك أو
مضافا إلى الملك فإذا لم يكن في
ملكه عند دخول الدار لم يصر مدبرا
فلا يعتق بموته ولو قال إن دخلت
دار فلان فأنت حر فشهد فلان وآخر
أنه قد دخل الدار فهو حر لأن
الدخول فعل العبد وصاحب الدار في
شهادته على فعل العبد كغيره فيثبت
الشرط بشهادتهما ولو قال إن كلمت
فلانا فأنت حر فشهد فلان وآخر أنه
قد كلمه لم يعتق لأن كلام فلان
قوله باللسان والإنسان لا يصلح أن
يكون شاهدا على فعل نفسه فلم يبق
على الشرط إلا شاهد واحد وبالشاهد
الواحد لا يثبت الشرط فإن شهد
ابنا فلان أنه قد كلم أباهما فإن
جحد الأب ذلك جازت شهادتهما
لأنهما يشهدان على أبيهما بالكلام
وعلى المولى بوجود الشرط وإن كان
أبوهما يدعي ذلك فشهادتهما باطلة.
في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى
جائزة في قول محمد رحمه الله
تعالى لأنه لا منفعة في المشهود
به لأبيهما ومحمد رحمه الله تعالى
يعتبر المنفعة للتهمة وأبو يوسف
رحمه الله تعالى يعتبر الدعوة
والإنكار لأنهما يشهدان لأبيهما
ويظهران صدقه فيما يدعي وقد تقدم
بيان
ج / 7 ص -208-
هذه المسألة في كتاب النكاح, وإذا حلف الرجل بعتق عبد بينه وبين
آخر لا يدخل دارا ثم اشترى نصيب
الآخر فدخل الدار عتق النصف الأول
خاصة لأن تعليقه في ذلك النصف
صحيح لوجود الملك وقت التعليق
فيصير كالمنجز للعتق في ذلك النصف
عند وجود الشرط.
ومن أصل أبي حنيفة أن من أعتق
نصف عبده يسعى العبد في النصف
الآخر وعندهما يعتق كله فهذا
مثله.
قال: "ولو كان باع النصف الأول ثم
اشترى نصف شريكه ثم دخل الدار لم
يعتق" لأن الشرط وجد بعد زوال
ملكه فيما صح فيه التعليق وهو
النصف الأول ولم يكن التعليق
صحيحا في النصف الذي استحدث الملك
فيه بعد التعليق فلهذا لا يعتق
ولو جمع بين عبده وبين ما لا يقع
عليه العتق من ميت أو اسطوانة أو
حمار فقال أحدكما حر أو قال هذا
حر أو هذا عتق عبده في قول أبي
حنيفة رضي الله عنه وفي قول أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا
يعتق إلا أن يعنيه لأن ما عين
عبده في كلامه بل ردد الكلام بينه
وبين غيره فلا يتعين عبده إلا
بنية كما لو جمع بين عبده وعبد
غيره فقال أحدكما حر ولأنه لما ضم
إليه ما لا يتحقق فيه العتق صار
تقدير الكلام كأنه قال لعبده أنت
حر أولا, ولو قال ذلك لم يعتق
بدون النية.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول
وصف أحدهما بالحرية والعبد محل
لهذا الوصف دون الاسطوانة والحمار
فيتعين لذلك ويلغو ضم الاسطوانة
إليه كما لو أوصى بثلث ماله لحي
وميت كانت الوصية كلها للحي ولأن
كلامه ايجاب للعتق فيتعين له
المحل الذي يصلح لإيجاب العتق فيه
وهو الحي دون الميت والاسطوانة
وهذا لأن كلام العاقل محمول على
الصحة ما أمكن بخلاف عبد الغير
فإنه محل بأن يوصف بالعتق ومحل
الإيجاب العتق أيضا ولكن يصير
موقوفا على إجازة المالك فلهذا لا
يتعين عبده هناك.
وروى ابن سماعة عن محمد رحمه
الله تعالى أنه إذا جمع بين عبده
واسطوانة وقال أحدهما حر عتق عبده
لأن كلامه إيجاب للحرية ولو قال
هذا حر أو هذا لم يعتق عبده لأن
هذا اللفظ ليس بإيجاب للحرية
بمنزلة ما لو قال هذا حر اولا ثم
ذكر في بعض النسخ من الأصل بابا
من كتاب الولاء وشرح ذلك يأتي
بتمامه في كتاب الولاء
انتهى شرح كتاب العتاق من مسائل
الخلاف والوفاق أملاه المستقيل
للمحن بالإعتاق المحصور في طرف من
الآفاق حامدا للمهيمن الرزاق
ومرتجيا إلى لقائه العزيز
بالأشواق ومصليا على حبيب الخلاق
وعلى آله وأصحابه خير الصحب
والرفاق. |
|