المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 7 ص -3-            باب العتق في الظهار
قال  رضي الله عنه: ويجوز في كفارة الظهار عتق الرقبة العوراء عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى لأنها ناقصة بنقصان لا يرجى زواله فكانت كالعمياء وهو الأصل عنده أن كل عيب لا يرجى زواله يكون فاحشا يمنع جواز التكفير به. وكل عيب يرجى زواله يكون يسيرا لا يمنع جواز التكفير به كالحمى والشجة ونحوها.
والأصل عندنا قوله تعالى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَة} [المجادلة: الآية 3] فهو دليل على أن الواجب رقبة مطلقة والتقييد بصفة السلامة يكون زيادة والزيادة على النص نسخ.
ولكن مطلق الرقبة يقتضي قيامها من كل وجه. والقائم من وجه دون وجه لا يكون مطلقا، والعمياء مستهلكة من وجه لفوات منفعة الحس وهو البصر، فإن بقاء الآدمي بمنافعه معني ففوات منفعة الحس يكون استهلاكا من وجه وليس في العور فوات منفعة الحس.
وكذلك في قطع اليدين تفوت منفعة البطش، وبقطع إحدى اليدين لا تفوت، وكذلك أشل اليدين لا يجزى لفوات منفعة الحس. ومقطوع الرجلين أو أشلهما لا يجزئ لفوات منفعة المشي ومقطوع أحد الرجلين يجزى لأن منفعة المشي لا تفوت به، وكذلك مقطوع اليد والرجل من خلاف لأنه يتمكن من المشي بالعصا ومنفعة البطش باقية أيضا فلم تكن مستهلكة. والمجنون والمعتوه لا يجزئ لفوات العقل به وهو منفعة مقصودة والذي يجن، ويفيق يجزئ لأن منفعة العقل غير فائتة، بل هي قائمة تستتر تارة وتظهر أخرى. والخرساء لا تجزي لأن منفعة الكلام مقصودة.
والآدمي إنما باين سائر الحيوانات بالبيان ففواتها يكون استهلاكا من وجه وتجزي الرقبة الصغيرة لأنها قائمة من كل وجه ولا يقال أنها فائتة المنافع من البطش والمشي والعقل والكلام، لأنها عديمة المنافع إلى الإصابة عادة فلا يعد ذلك عيبا ولأن ما لا يخلو عنه أصل الفطرة السليمة لا يعد نقصانا فضلا عن الاستهلاك.
قال  "وتجزى الرقبة الكافرة في كفارة الظهار واليمين والأفطار عندنا". ولا تجزي عند الشافعي رضي الله عنه إلا الرقبة المؤمنة لقوله تعالى:
{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: من الآية267]  ولا خبث أشد من الكفر" وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم    برقبة سوداء وقال: "علي عتق رقبة أفتجزيني هذه، فامتحنها بالإيمان فوجدها مؤمنة فقال : صلى الله عليه وسلم   : "أعتقها فإنها مؤمنة" فامتحانه إياها بالإيمان دليل على أن الواجب لا يتأدى

 

ج / 7 ص -4-            إلا بالمؤمنة ولأن هذا تحرير في تكفير فلا يجزى فيه غير المؤمنة ككفارة القتل. وهذا لأن الرقبة مطلقة هنا مقيدة بالإيمان في القتل. والمطلق محمول على المقيد، لأن القيد مسكوت عنه في المطلق، وقياس المسكوت عنه على المنصوص صحيح، ولأن التعليق بالشرط يقتضي نفي الحكم عند عدمه في عين ما تعلق بالشرط، وكذلك في نظائره استدلالا به.
والكفارات جنس واحد، فالتقييد بشرط الإيمان في بعضها يوجب نفي الجواز عند عدم الإيمان في جميعها، كالتقييد بشرط العدالة في بعض الشهادات أوجب نفي الجواز عند عدمها في الكل، وكذلك التقييد بالتبليغ إلى الكعبة في هدي جزاء الصيد أوجب ذلك في جميع الهدايا.
"وحجتنا" في ذلك ظاهر الآية فالمنصوص اسم الرقبة وليس فيه ما ينبئ عن صفة الإيمان والكفر.
فالتقييد بصفة الإيمان يكون زيادة. والزيادة على النص نسخ، فلا يثبت بخبر الواحد ولا بالقياس.
ثم قياس المنصوص على المنصوص عندنا باطل لأنه اعتقاد النقص فيما تولى الله بيانه، وذلك لا يجوز، وكذلك شروط الكفارات لا تثبت بالقياس كأصلها ولا يجوز دعوى التخصيص هنا لأن التخصيص فيما له عموم والمطلق غير العام، وامتناع جواز العمياء، ونظائرها ليس بطريق التخصيص، بل لكونها مستهلكة من وجه كما بينا مع أن التخصيص فيما له لفظ. والصفة في الرقبة غير مذكورة ولا يقال بين صفة الكفر، والإيمان تضاد.
فإذا جوزنا المؤمنة انتفى جواز الكافرة لأن جواز المؤمنة عندنا لأنها رقبة لا بصفة الإيمان ألا ترى أنا نجوز الصغيرة والكبيرة، وبين الصفتين تضاد، وكذلك نجوز الذكر والأنثى وبين الصفتين تضاد ولكن الجواز باسم الرقبة فكان الوصف فيه غير معتبر.
فأما حمل المطلق على المقيد فالعراقيون من مشايخنا رحمهم الله يجوزون ذلك في حادثة واحدة كما في قوله صلى الله عليه وسلم   :
"في خمس من الإبل شاة" مع قوله: "في خمس من الإبل السائمة شاة" ولكن الأصح: أنه لا يجوز حمل المطلق على المقيد عندنا في حادثة ولا في حادثتين حتى جوز أبو حنيفة رحمه الله تعالى التيمم بجميع أجزاء الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم   : "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" ولم يحمل هذا المطلق على المقيد وهو قوله صلى الله عليه وسلم   : "التراب طهور المسلم" وهذا لأن للمطلق حكما وهو الإطلاق وفي حمله على المقيد إبطال حكمه.
وإليه أشار  ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله: "ابهموا ما أبهم الله". وامتناع وجوب الزكاة في غير السائمة ليس لحمل المطلق على المقيد، بل للنص الوارد بأن لا زكاة في العوامل واشتراط العدالة في الشهادات ليس لحمل المطلق على المقيد بل للنص الوارد بالتثبت في خبر الفاسق وكذلك وجوب التبليغ إلى الكعبة في جميع الهدايا للنص وهو قوله تعالى:
ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: من الآية33] ولو جاز ذلك إنما يجوز بعد ثبوت المساواة بين الحادثتين. ولا مساواة بين كفارة القتل وبين سائر الكفارات.

 

ج / 7 ص -5-            فإن القتل من أعظم الكبائر وفيه تفويت رقبة مؤمنة مخاطبة بالإيمان بخلاف أسباب سائر الكفارات، ففيها من التغليظ ما ليس في غيرها.
ولهذا لا يكون الإطعام بدلا عن الصيام في كفارة القتل بخلاف كفارة الظهار. واشتراط صفة التتابع عندنا في الصوم في كفارة اليمين ليس بطريق حمل المطلق على المقيد، بل بقراءة  ابن مسعود رضي الله عنه وهي مشهورة، وهي لازمة عليهم فإنهم لا يشترطون صفة التتابع فيها لحمل المطلق على المقيد ولا معنى لقول من يقول لذلك المطلق أصلان أحدهما مقيد بالتفرق وهو صوم المتعة. لأن ذلك غير مقيد بالتفرق، ولكن لا يجوز قبل يوم النحر لأنه مضاف إلى وقت الرجوع بحرف إذا وهو قوله تعالى
"{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: من الآية196].
فأما الحديث فقد ذكر في بعض الروايات أن الرجل قال: علي عتق رقبة مؤمنة أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم    بطريق الوحي أن عليه رقبة مؤمنة فلهذا امتحنها بالإيمان مع أن في صحة ذلك الحديث كلاما.
فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم   :
"قال: أين الله؟" فأشارت إلى السماء ولا نظن برسول الله صلى الله عليه وسلم   ، أنه يطلب من أحد أن يثبت لله تعالى جهة ولا مكانا. ولا حجة لهم في الآية لأن الكفر خبث من حيث الاعتقاد والمصروف إلى الكفارة ليس هو الاعتقاد إنما المصروف إلى الكفارة المالية. ومن حيث المالية هو عيب يسير على شرف الزوال.
قال  "ويجزئ الأصم في جميع الكفارات استحسانا" وفي القياس لا يجزئ، وهو رواية في النوادر. لأن منفعة السمع مقصودة، وبالصمم يفوت ذلك.
وجه الاستحسان أن بالصمم لا تفوت منفعة السمع أصلا، حتى أنه يسمع إذا صاح إنسان في أذنه.
وقيل الرواية التي قال: لا يجوز محمول على صمم أصلي ولا بد وأن يكون معه الخرس فإنه لم يسمع الكلام ليتكلم.
وهذا لا يجزئ ومراده من الرواية التي قال: يجزئ إذا كان الصمم عارضا فلا يكون معه الخرس، ويسمع عند المبالغة في رفع الصوت.
قال  "ويجزي الخصي، ومقطوع الأذنين، ومقطوع المذاكير عندنا. ولا يجزئ عند زفر رحمه الله تعالى" لأنها مستهلكة من وجه بفوات منفعة مقصودة من الآدمي.
ولكنا نقول: بعد قطع الأذنين الشاخصتين السمع باق، وإنما يفوت ما هو زينة، وجمال فلا تصير الرقبة به مستهلكة كفوات شعر الحاجبين، واللحية. وفي الخصي ومقطوع المذاكير إنما تفوت منفعة النسل وهو زائد على ما هو المطلوب من المماليك. فأما إذا كان مقطوع اليد والرجل من جانب واحد لا يجزئ لأن منفعة المشي فائتة، فإنه لا يتمكن من المشي بعصا، وكذلك إن كان من كل يد ثلاثة أصابع مقطوعة لم يجز لفوات منفعة البطش. وقطع

 

ج / 7 ص -6-            أكثر الأصابع في هذا، كقطع جميعها. وإن كان المقطوع من كل يد أصبعا أو أصبعين سوى الإبهام يجزئ، لأن منفعة البطش باقية وإن كان مقطوع الإبهام من كل يد فمنفعة البطش فائتة. فلهذا لا يجزئ، وكذلك لا يجوز المفلوج اليابس الشق لفوات جنس المنفعة منه.
ولا يجوز عتق أم الولد في الكفارة لأن المنصوص عليه الرقبة وذلك اسم للذات حقيقة وللذات المرقوق عرفا وقد دل على الرق قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فيقتضي قيام الرق مطلقا. وبالاستيلاد يتمكن النقصان في الرق حتى لا يعود إلى الحالة الأولى بحال ولأن قوله تعالى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: الآية 3] يقتضي إنشاء العتق من كل وجه. وإعتاق أم الولد تعجيل لما صار مستحقا لها مؤجلا فلا يكون إنشاء من كل وجه. وولد أم الولد بمنزلة أمه والمدبر كذلك. لأن بالتدبير صار مستحقا له. ولهذا لا يحتمل التدبير الفسخ ويثبت به استحقاق الولاء.
قال ولا يجزئ إعتاق المكاتب إذا كان أدى شيئا من بدل الكتابة" لأنه عتق بعوض والكفارة به لا تتأدى.
قال صلى الله عليه وسلم   :
"بشر أمتي بالسناء والتمكين ما لم يبتغوا بعمل الآخرة الدنيا".
ودليل أن المقبوض عوض أنه لو وجده زيوفا رده، واستبدل بالجياد، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في رقه بعد أدائه بعض البدل.
فكان علي رضي الله عنه يقول: "يعتق بقدر ما أدى" وابن مسعود رضي الله عنه يقول: "إذا أدى قيمة نفسه يعتق" واختلاف الصحابة رضي الله عنهم في رقه شبهة مانعة من جواز التكفير به.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يجوز لأن رقه لم ينتقص بما أدى من البدل.
ولهذا احتمل عقد الكتابة الفسخ بعد استيفاء بعض البدل، كما احتمل قبله فأما إذا اعتقه قبل أن يؤدي شيئا جاز عن الكفارة عندنا استحسانا.
وفي القياس لا يجوز، وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لأن استحقاق العتق والولاء يثبت بعقد الكتابة فوق ما يثبت بالتدبير والاستيلاد.
ولهذا يصير أحق بمكاسبه ويعتبر الثلث، والثلثان من مال الكتابة دون مالية الرقبة ويمتنع على المولى التصرفات فيه فإما أن يقول: يتمكن بهذا السبب نقصان في رقه أو يكون كالزائل عن ملك المولى من وجه حتى لو أتلفه يضمن قيمته ولو وطئ مكاتبته يغرم العقر وثبوت حكم الزوال عن ملكه من وجه يكفي للمنع من التكفير ولأنه في حق المولى كفائت المنفعة لأنه صار أحق بمنافعه ومكاسبه أو لأن العتق لما صار مستحقا بالكتابة فإذا أوقعه وقع من الوجه المستحق ولهذا يسلم له الأولاد، والإكساب. والعتق عند الكتابة لا تتأدى به الكفارة مع أن هذا من المولى إعتاق صورة فأما في المعنى هو إبراء عن بدل الكتابة.

 

ج / 7 ص -7-            ولهذا يسقط مال الكتابة ويسلم له الأولاد، والإكساب وهو كما لو أعتقه الوارث بعد موته لا يجزئ عن كفارته بالإتفاق.
وحجتنا في ذلك ظاهر الآية ففيها أمر بتحرير الرقبة والتحرير تصيير شخص مرقوق حرا وقد حصل. والرقبة اسم لذات مرقوق عرفا والمكاتب كذلك. قال صلى الله عليه وسلم   :
"المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" ولا يتمكن النقصان في رقه ولا يصير العتق مستحقا له بسبب الكتابة لأن حكم العتق في الكتابة متعلق بشرط الأداء ولو علق عتقه بشرط آخر لم يثبت به الاستحقاق، فكذلك بهذا الشرط بل أولى لأن التعليق بسائر الشروط يمنع الفسخ وبهذا الشرط لا يمنع ولو تمكن نقصان في رقه لما تصور فسخه وإعادته إلى الحالة الأولى لأن نقصان الرق بثبوت الحرية من وجه.
وكما أن ثبوت الحرية من جميع الوجوه لا يحتمل الفسخ فكذلك ثبوته من وجه، ولأن الثابت بالكتابة انفكاك الحجر عنه في حق المكاتب وبذلك لا يتمكن النقصان في رقه كالإذن في التجارة إلا أن ذلك فك بغير عوض فلا يكون لازما في حق المولى وهذا فك بعوض فيكون لازما، ولكن مع هذا المنافع والمكاسب غير الرقبة فبالتصرف فيها لازما كان أو غير لازم لا يتمكن النقصان في الرق. والملك كالإعارة مع الإجارة وبسبب اللزوم يمتنع على المولى التصرف فيه ويلزمه ضمان العقر والأرش لأن ذلك في حكم المكاسب والمنافع. والمكاسب صارت مستحقة له ولكن بهذا الاستحقاق لا تصير الرقبة في حكم المستهلك وإذا ثبت أن العتق لا يصير مستحقا بهذا السبب ظهر أن إعتاق المولى إياه يكون تحريرا مبتدأ من كل وجه فيصير به ممتثلا للأمر. والدليل عليه أنه يسقط به بدل الكتابة ولو كان هذا إعتاقا بجهة الكتابة لتقرر به البدل فإن تسليم المعوض يوجب تقرير البدل، ولا يجوز أن يكون إعتاقه إبراء لأنه يحتمل التعليق بالشرط. وإذا أعتق نصفه يعتق ذلك القدر والإبراء عن نصف البدل لا يوجب عتق شيء منه فأما سلامة الإكساب، والأولاد فلأنه عتق، وهو مكاتب لا لأنه عتق بجهة الكتابة كما لو كاتب أم ولده ثم مات المولى عتقت بجهة الاستيلاد وسلم لها الأولاد والإكساب وهذا لأن العتق في حق المكاتب واحد. والإعتاق من المولى تختلف جهاته ففيما يرجع إلى حق المكاتب جعل هذا ذلك العتق لكونه متحدا وفي حق المولى يجعل إعتاقا بجهة الكفارة لأنه قصد ذلك وهو كالمرأة إذا وهبت الصداق من الزوج ثم طلقها قبل الدخول لا يرجع عليها بشيء وتجعل هبتها في حق الزوج تحصيلا لمقصود الزوج عند الطلاق وفي حقها تجعل تمليكا بهبة مبتدأة.
قال فإن أعتق عن ظهاره نصيبه من عبد بينه وبين غيره لم يجزه عن كفارته في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن ضمن نصيب شريكه فأعتق ما بقي منه". لأن العتق عبده يتجزأ فإنما عتق نصيبه في الابتداء. ونصف الرقبة ليس برقبة، ثم يتمكن النقصان في حق النصف الآخر

 

ج / 7 ص -8-            لأنه يتعذر عليه استدامة الرق فيه وهذا النقصان في ملك الشريك غير مجز عن الكفارة وبالضمان إنما يملك ما بقي منه فإذا أعتقه كان هذا في المعنى إعتاق عبد إلا شيئا، وعند الضمان إنما يستحق عليه السعاية فيما ضمن لشريكه فإعتاقه يكون إبراء عن تلك السعاية فلا تتأدى به الكفارة فأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى العتق لا يتجزأ فإن أعتق نصيبه عتق كله إلا أن المعتق إن كان موسرا فهو ضامن لنصيب شريكه ولا سعاية على العبد فكان هذا إعتاقا بغير عوض فيجزئ عن الكفارة، وإن كان معسرا فعلى العبد السعاية في نصيب شريكه فيكون هذا عتقا بعوض فلا تتأدى به الكفارة فأما إذا كان العبد كله له فأعتق نصفه عن كفارته عندهما يعتق كله بغير سعاية ويجوز عن الكفارة وعند أبي حنيفة رحمه الله يعتق نصفه ولا يجوز عن كفارته فإن أعتق النصف الباقي بعد ذلك بنية الكفارة في القياس لا يجزيه لما بينا أن بإعتاق النصف يتمكن النقصان في النصف الآخر كما في الفصل الأول. وفي الاستحسان يجزئ لأن هذا النقصان بسبب العتق عن الكفارة فلا يمنع الجواز ومعنى هذا أن الرقبة كلها مملوكة له هنا فالنقصان في النصف الآخر إنما يحصل في ملكه فيمكن تحريره عن الكفارة إذا أكمله ويجعل كأنه في المرة الأولى أعتق النصف وزيادة ثم أعتق ما بقي بخلاف المشترك وهذا نظير الاستحسان فيمن أضجع أضحيته ليذبحها فأصابت السكين عين الشاة لا يمنع جواز التضحية بها استحسانا لأن حصول هذا العيب بسبب فعل التضحية.
قال ولا يجزيه العتق بما في البطن عن الكفارة وإن ولدته لأقل من ستة أشهر. لأن الجنين بمنزلة جزء من الأم في بعض الأحكام فلا يكون رقبة مطلقة. لأن الرقبة المطلقة ما يكون نفسا على حدة من كل وجه خصوصا في حكم العتق. والجنين بمنزلة الجزء، حتى يعتق بعتقها على وجه لا يجوز استثنائه كيدها ورجلها.
قال وإن اشترى أباه ينوي به العتق عن ظهاره أجزأه استحسانا في قول علمائنا الثلاثة رضي الله عنهم. وفي القياس لا يجزئ وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول وزفر والشافعي رحمهما الله تعالى" وجه القياس أن الواجب عليه التحرير والشراء غير التحرير لأن الشراء استجلاب للملك. والعتق إبطال له فكانت المغايرة بينهما على سبيل المضادة ولأن العتق بسبب القرابة صار مستحقا له عند دخوله في ملكه فلا تتأدى به الكفارة كما لو قال لعبد الغير: إن اشتريتك فأنت حر ثم اشتراه ينوي به الكفارة. وهذا لأن عند وجود الشرط إنما يعتق بالسبب الذي حصل الاستحقاق به وهو القرابة ولا يتصور اقتران نية الكفارة بذلك السبب.
والدليل على أن الاستحقاق بالقرابة أن أحد الشريكين في العبد إذا ادعى سببه يضمن لشريكه قيمة نصيبه، كما لو أعتقه. توضيحه أن أم هذا الولد استحقت حق العتق عند دخولها في ملكه وذلك مانع إعتاقها عن الكفارة.

 

ج / 7 ص -9-            حتى لو قال لها: إذا اشتريتك فأنت حرة عن ظهاري لا يجزئه عن الظهار فالإبن الذي استحق حقيقة العتق عند دخوله في ملكه، أو الأب أولى أن لا يجوز إعتاقه عن الكفارة.
وهذا لأن العتق مجازاة للأبوة ومجازاة الأبوة فرض فلا يتأدى به واجب آخر وصرف منفعة الكفارة إلى أبيه لا يجوز كالطعام والكسوة.
وحجتنا في ذلك ظاهر الآية ففيها أمر بالتحرير وهو تصيير شخص مرقوق حرا كالتسويد تصيير المحل أسود وقد وجد ذلك وهذا لأن شراء القريب إعتاق. قال صلى الله عليه وسلم   :
"لن يجزئ ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" أي بالشراء كما يقال أطعمه فأشبعه وسماه بالشراء مجازيا وإنما يكون مجازيا بالإعتاق.
والدليل عليه أنه لو اشترى نصف قريبه يضمن لشريكه إن كان موسرا. والضمان الذي يختلف باليسار والإعسار لا يكون إلا عن إعتاق وهذا لأنه بالشراء يصير متملكا، والملك في القريب إكمال لعلة العتق فإذا صار مضافا إلى الشراء يكون به معتقا، لأن السبب الموجب للحكم بواسطة كالموجب بغير واسطة في كون الحكم مضافا إليه.
والدليل على إثبات هذه القاعدة أن عتق القريب يثبت بالقرابة والملك جميعا. قال صلى الله عليه وسلم   :
"من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر".
وهذا لأن العتق صلة. وللملك تأثير في استحقاق الصلة شرعا حتى تجب الزكاة باعتبار الملك صلة للفقراء كما أن للقرابة تأثيرا في استحقاق الصلة، وكل واحد من الوصفين لكونه مؤثرا علة ومتى تعلق الحكم بعلة ذات وصفين، فالحكم لآخرهما وجودا. لأن تمام العلة به وآخر الوصفين هنا الملك فيكون به معتقا.
ولهذا لو ادعى أحد الشريكين نسب نصيبه يضمن لشريكه لأن آخر الوصفين وجود القرابة هنا فيصير به معتقا، وهو كالشهادة على النسب بعد الموت يوجب ضمان الميراث عند الرجوع لأن آخر الوصفين ما أثبته الشهود ولا يدخل على هذا شهادة الشاهد الثاني فإنه لا يحال بالإتلاف عليها، وإن تمت الحجة بها لأن الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء، والقضاء يكون بهما معا وبهذا تبين فساد قولهم أن العتق مستحق بالقرابة لأن الاستحقاق لا يثبت قبل كمال العلة، ولأنه لا يجبر على الشراء وهذا بخلاف المحلوف بعتقه لأن الملك هناك شرط لا أثر له في استحقاق ذلك العتق فيكون معتقا بيمينه ولم تقترن نية الكفارة بها حتى لو اقترنت جاز.
وقولهم أن العتق بسبب القرابة فرض قلنا: إنما يقع العتق بسبب القرابة ويكون مجازاة له، إذا قصد ذلك فأما إذا قصد به الكفارة كان هذا في حقه إعتاقا عن الكفارة فهو بمنزلة من فرض عليه نفقة أخيه فصرف إليه زكاة ماله جاز، ثم تسقط به النفقة حكما لحصول المقصود. وهذا الفقه الذي أشرنا إليه في مسألة الكتابة أن في حق المعتق العتق واحد فيحصل مقصوده من أي وجه نواه المعتق ولكن في حق المعتق تكثر جهاته فيكون عما نوى ليصح قصده.

 

ج / 7 ص -10-         وليس هذا نظير أم الولد لأن استحقاق العتق لها بالاستيلاد كما قال صلى الله عليه وسلم   : "عتقها ولدها" فيكون الملك فيها شرطا للعتق لا إكمالا للعلة. ولا معنى لقولهم أن هذا صرف منفعة الكفارة إلى أبيه، لأنه لما جاز صرف هذه المنفعة إلى عبده جاز صرفها إلى أبيه بخلاف الإطعام، والكسوة فصرفه إلى عبده لا يجوز فإلى أبيه أولى وكذلك إن وهب له أبوه أو تصدق به عليه أو أوصى له به وهو ينوي عن كفارته فهو على الخلاف الذي بينا. لأن الملك بهذه الأسباب يحصل بصنعه وهو القبول فأما إذا ورث أباه ينوي به الكفارة لا يجزئه لأن الميراث يدخل في ملكه من غير صنعه وبدون الصنع لا يكون محررا، والتكفير إنما يتأدى بالتحرير، ولهذا لا يضمن لشريكه إذا ورث نصف قريبه.
وإذا قال: فلان حر يوم اشتريه، ثم اشتراه ونوى عن ظهاره لا يجزئه لأنه إنما يعتق عند الشراء بقوله حر ولم يقترن به نية الكفارة وإن كان عنى بقوله هو حر يوم اشتريه عن ظهاري أجزأه لاقتران نية الكفارة بالإعتاق. قال  "وإن قال إذا اشتريته فهو حر ثم قال إذا اشتريته فهو حر عن ظهاري فاشتراه لا يجزئ عن الظهار" لأن التعليق الأول قد صح على وجه لا يملك إبطاله ولا تغييره فإنما يحال بالعتق عند الشراء عليه لأنه ترجح بالسبق ولم تقترن به نية الكفارة.
قال ولا يجزئ أن يعتق عن ظهار واحد نصف رقبة ويصوم شهرا، أو يطعم ثلاثين مسكينا" لأن نصف الرقبة ليس برقبة وإكمال الأصل بالبدل غير ممكن فإنهما لا يجتمعان فكيف يتحقق إكمال أحدهما بالآخر؟
فإن قيل:  إن أعتق نصف رقبتين بأن كان بينه وبين شريكه عبدان قلنا:  لا يجوز أيضا لأن نصف الرقبتين ليس برقبة والشركة في كل رقبة تمنع التكفير بها بخلاف الأضحية فإن رجلين لو ذبحا شاتين بينهما عن أضحيتهما جاز لأن الشركة لا تمنع التضحية كما في البدنة.
قال  "ولو أعتق عبدا عن ظهارين فله أن يجعله عن أيهما شاء ويجامع تلك المرأة وكذلك الصوم والإطعام. وفي القياس لا يجوز" وهو قول زفر لانعدام نية التعيين ولأنه يصير معتقا عن كل ظهار نصف رقبة إذ ليس إحداهما بأولى من الأخرى، فهو كما لو أعتق رقبة عن كفارة القتل والظهار.
ووجه الاستحسان أن نية التعيين في الجنس الواحد لغو غير مفيد فلا تعتبر بخلاف الجنسين. ألا ترى أن من كان عليه قضاء أيام من رمضان فنوى صوم القضاء جاز وإن لم يعين صوم يوم الخميس أو الجمعة، لأن الجنس واحد بخلاف ما لو كان عليه صوم القضاء والنذر فإنه لا بد فيه من التعيين لاختلاف الجنس.
 قال  "ولو أعتق رجل عنه بغير أمره لم يجزه عن ظهاره" لأن المعتق عن المعتق ونيته من غيره لغو، لأنه يعقب الولاء وليس لأحد أن يلزم غيره ولاء بغير أمره فإن كان بأمره فهو على

 

ج / 7 ص -11-         وجهين إما أن يكون بجعل أو بغير جعل فإن كان بجعل بأن قال أعتق عبدك عن ظهاري على ألف درهم فأعتقه جاز عن ظهاره استحسانا عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى ووجب المال عليه، وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله تعالى يعتق عن المعتق والولاء له ولا يجزئ عن ظهار الآمر ولا مال عليه لأنه التمس منه محالا وهو أن يعتق ملك نفسه من غيره "ولا عتق فيما لا يملكه  ابن آدم" فكان إعتاق زيد ملكه عن عمرو محالا ولا يجوز إضمار التمليك هنا لأن الإضمار لتصحيح المصرح به لا لإبطاله وإذا أضمرنا التمليك صار معتقا عن الآمر ملكه لا ملك نفسه وهو خلاف ما صرح به ولكنا نقول: معنى كلامه ملكني عبدك هذا بألف درهم، ثم كن وكيلي في إعتاقه عن ظهاري لأنه التمس منه إعتاقه عن ظهاره ولا وجه لتصحيح التماسه إلا بهذا الإضمار وتصحيح كلام العاقل واجب بحسب الإمكان فإذا أمكن تصحيحه بهذا الطريق يصحح لمعنى، وهو أن الملك في المحل شرط العتق وشرط الشيء تبعه فيصير كالمذكور بذكر أصله كمن نذر صلاة تلزمه الطهارة ومن نذر اعتكافا يلزمه الصوم ويصير ذلك كالمذكور.
وعلى هذا لو قال: بعت منك هذا العبد بكذا فقال المشتري هو حر يعتق من جهته ويصير القبول والتمليك ثابتا بمقتضى كلامه ومعنى قوله: عبدك يعني العبد الذي هو ملك لك للحال لا عند مصادفة العتق إياه فمقصوده من هذا تعريف العبد لا إضافته إليه والخلاف ثابت فيما لو قال أعتق هذا العبد عني وأما إذا كان بغير جعل بأن قال أعتق عبدك عن ظهاري بغير شيء فأعتقه المأمور على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى الولاء للمأمور ولا يجزئ عن ظهار الآمر وهو القياس وعلى قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى الولاء للآمر ويجزئ عن ظهاره باعتبار إضمار التمليك كما في الأول وهذا لأن الملك سواء حصل له بعوض أو بغير عوض يجوز عن كفارته إذا أعتقه. ولا يجوز أن يقال: الملك بطريق الهبة لا يحصل إلا بالقبض لأن القبض في باب الهبة كالقبول في البيع فكما سقط اعتبار القبول هناك لكون البيع في ضمن العتق فكذلك يسقط اعتبار القبض هنا أو يجعل القبض مدرجا في كلامه حكما كما يندرج القبول في كلامه أو يجعل العبد قابضا نفسه من المولى له كما لو قال: أطعم عن ظهاري ستين مسكينا يجوز بغير بدل علي أن يقبض الفقير له ثم لنفسه. والدليل عليه أنه لو قال: أعتقه عني بألف ورطل من خمر فأعتقه جاز عن الآمر ويندرج البيع الفاسد هنا. والملك بالبيع الفاسد لا يحصل إلا بالقبض كما في الهبة. وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان: مستوهب أمر بالعتق قبل القبض فلا يجزئ عنه كما لو استوهبه العبد نصا ثم قال قبل قبضه: أعتقه وهذا لأن القبض في باب الهبة شرط لوقوع الملك على وجه لا يجوز إسقاطه بحال فلا يسقط بالاندراج في العتق لأن المسقط إنما يعمل في محله لا في غير محله بخلاف القبول في البيع فإنه يحتمل السقوط حتى لو قال بعت منك هذا الثوب بعشرة فاقطعه فقطعه صار متملكا وإن لم يقبل وهذا لأن الإيجاب مع القبول قد يحتمل السقوط في

 

ج / 7 ص -12-         البيع وهو عند التعاطي فمجرد القبول أولى أن يحتمل السقوط وبه فارق البيع الفاسد لأن الفاسد في الحكم ملحق بالجائز. والقبض هناك نظير القبول هنا في أنه يحتمل الإسقاط ولا يجوز أن يجعل القبض مدرجا في كلامه هنا.
لأن القبض فعل والقول لا يتضمن الفعل إنما يتضمن قولا مثله والقبول قول فيجوز أن يندرج في كلامه. ولا يجوز أن يجعل العبد قابضا نفسه هنا لأن الإعتاق إبطال للملك والمالية. والعبد إنما يقبض ما يسلم له دون ما لا يسلم له وبه فارق الطعام فإن المسكين يقبض عين الطعام فيمكن أن يجعل قابضا للآمر أولا ثم لنفسه ولكن العبد ينتفع بهذا الإعتاق فمن هذا الوجه يندرج فيه أدنى القبض ولكن أدنى القبض يكفي في البيع الفاسد، ولا يكفي في الهبة كالقبض مع الشيوع فيما يحتمل القسمة ومع الاتصال في الثمار على رؤوس الأشجار يكفي لوقوع الملك في البيع الفاسد دون الهبة وبهذا يتضح الفرق بين هذه الفصول قال ولو أعتق المظاهر عبده على جعل لم يجز قل الجعل أو كثر لأن التكفير بما يخلص لله تعالى وعمله في العتق بجعل لا يكون خالصا لله تعالى لأنه قصد به العوض ولهذا قال صلى الله عليه وسلم     فيما يؤثر عن ربه عز وجل يقول الله تعالى:
"أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل لي عملا وأشرك فيه غيري فهو كله لذلك الشريك وأنا منه بريء" وإن وهب له الجعل بعد ذلك لم يجزه عن الكفارة لأن هذا إبراء عن الدين ولا مدخل للإبراء عن الدين في الكفارات والله أعلم بالصواب.

باب الصيام في الظهار
قال  "وإذا لم يجد المظاهر ما يعتق عن ظهاره فعليه صيام شهرين متتابعين بالنص فإن أفطر فيهما يوما لمرض أو لغيره فعليه استقبال الصيام لفوات صفة التتابع بفطره" والواجب المقيد بوصف شرعا لا يتأدى بدونه وكذلك إن أيسر قبل أن يفرغ من الصوم انتقض صيامه وعليه العتق.
لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فإن المقصود إسقاط الكفارة عنه وذلك لا يحصل قبل تمام الشهرين وهو كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة. والطارئ من اليسار قبل حصول المقصود كالمقترن بحالة الشروع في الصوم.
ومعنى قوله: انتقض صومه في حكم جوازه عن الكفارة. فأما أصل الصوم باق فيستحب إتمامه نفلا، لأن اليسار لا يمنع ابتداء الصوم إنما يمنع التكفير.
قال  "ولو صام شهرين أحدهما شهر رمضان لم يجزه عن الظهار" لأنه لم يشرع في شهر رمضان إلا صوم واحد وهو الفرض فلا يصح التكفير به لأن وجوب الكفارة في ذمته. وما في الذمة إنما يتأدى بما للمرء لا بما عليه وقد قررنا هذا في كتاب الصوم، وبينا اختلاف أبي حنيفة رحمه الله تعالى مع صاحبيه رحمهما الله في المسافر. وإذا لم يجز صومه في شهر رمضان عن الظهار فعليه أن يستقبل بعد يوم الفطر شهرين لانقطاع التتابع في حق صوم الكفارة، وكذلك لو

 

ج / 7 ص -13-         دخل صومه يوم النحر أو أيام التشريق فعليه استقبال الصوم صام في هذه الأيام أولا، لأن الصوم في هذه الأيام منهي عنه فلا يتأدى به الواجب في ذمته. وينقطع التتابع بتخلل هذه الأيام لأنه يجد شهرين خاليين عن هذه الأيام قال  "ولا يجزى الصوم لمن له خادم" لأنه واجد لما يتأدى به الأصل فلا يتأدى الواجب بالبدل بخلاف من له مسكن فقط لأنه غير واجد لما هو الأصل وهو محتاج إلى المسكن فجعل ملكه فيه كالمعدوم لكونه مشغولا بحاجته، وقد بينا في كتاب الزكاة أن ملك المسكن يزيد في حاجته والخادم كذلك إلا أنه عين المنصوص عليه فلا معتبر بالمعنى فيه وإن كان له دراهم أو دنانير يجد بها رقبة لم يجز الصوم لقوله تعالى" {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: الآية4] "والواجد لثمن الرقبة كالواجد لعينها ألا ترى أن في حكم التيمم الواجد لثمن الماء كالواجد لعينه؟.
وهذا لأن الوجود عبارة عن التيسر دون الغني وبملك الدراهم، والدنانير بتيسر عليه تحصيل ما يعتق. ويسار التيسر ينفي الشرط المنصوص وهو عدم الوجود قال  "وإذا ظاهر من أربع نسوة له فأعتق رقبة ليس له غيرها ثم صام أربعة أشهر متتابعة ثم مرض فأطعم ستين مسكينا ولم ينو في ذلك واحدة بعينها أجزأه عنهن استحسانا" لما بينا أن نية التمييز غير معتبرة في الجنس الواحد وقد أعتق حين وجد ثم صام حين لم يجد ما يعتق وذلك كفارته، ثم أطعم حين لم يستطع الصوم وذلك كفارته لأن المعتبر عدم الإستطاعة عند التكفير بالإطعام وذلك يتحقق بمرضه. ولا يشترط استدامة العذر بعد التكفير، ثم فيما أدى وفاء بالواجب عليه فيجزيه.
قال  "وإذا بانت من المظاهر امرأته، ثم كفر عنها وهي تحت زوج أو مرتدة لاحقة بدار الحرب جازت الكفارة عنه" لأن الحرمة الثابتة بالظهار باقية بعد البينونة، والكفارة واجبة بدليل أنه لو تزوجها لم يكن له أن يقر بها حتى يكفر ولو سقطت لم يعد بالتزوج. وإذا ثبت بقاء الواجب صح إسقاطه بأدائه وإن كانت لا تحل له للحال لكونها مرتدة أو ذات زوج. وهذا لأن أداء الكفارة يرفع الحرمة الثابتة بالظهار ولا يوجب حل المحل.
قال  "وإذا ارتد الزوج والعياذ بالله، ثم أعتق عبدا له عن ظهاره ثم أسلم أجزى عنه وهذا بناء على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى" لأن الظهار يبقى بعد ردته عنده وطعن عيسى رحمه الله تعالى فقال: هذا الجواب غلط لأن الكفارة إنما تتأدى بعتق هو قربة خالصة ولهذا لا يتأدى بالعتق بجعل. والمرتد ليس من أهل القربة ولا تتأدى الكفارة إلا بنية العبادة والمرتد ليس من أهلها وما ذكره في الكتاب أصح لأن تصرفات المرتد موقوفة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنما ينفذ عتقه بعد إسلامه وكما توقف أصل عتقه توقف نيته، فيصير بعد الإسلام كالمجدد لذلك كله ولا يبعد أن يتوقف حكم النية كمن أبهم النية عند الإحرام تتوقف على أن يكون حجا أو عمرة لتعيينه في الثاني ويجعل عند التعيين كأنه جدده.

 

ج / 7 ص -14-         وهذا لأنه بعد ما أسلم يبطل حكم ردته ولهذا يعاد إليه من أملاكه ما كان قائما بعينه في يد وارثه فكذلك يبطل ما ينبني على ردته وهو فساد نيته.
قال وإن أكل في صوم الظهار ناسيا لصومه لم يضره، وكذلك إن جامع غير التي ظاهر منها" لأن حرمة هذا الفعل عليه لأجل الصوم فيختلف بالنسيان والعمد بخلاف ما لو جامع التي ظاهر منها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فإن حرمة ذلك الفعل ليس لأجل الصوم ألا ترى أنه كان محرما قبل الشروع في الصوم فيستوي فيه النسيان والعمد ثم إن صام المظاهر شهرين بالأهلة أجزأه وإن كان كل شهر تسعة وعشرين يوما وإن صام لغير الأهلة ثم أفطر لتمام تسعة وخمسين يوما فعليه الاستقبال لأن الأهلة أصل. والأيام بدل كما قال صلى الله عليه وسلم   
"صوموا لرؤيته فإن غم عليكم الهلال فأكملوا شعبان ثلاثين يوما" فعند وجود الأصل وهي الأهلة لا معتبر بالأيام وعند عدم الأصل الاعتبار بالأيام فلا يتم الشهران إلا بستين يوما فإن صام خمسة عشر يوما ثم صام شهرا بالأهلة تسعة وعشرين ثم خمسة عشر يوما أجزأه.
وهذا بناء على قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجزيه وقد بينا هذا في حكم العدة أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان ابتداء الشهر بالأيام يعتبر كله بالأيام لأنه ما لم يتم الشهر الأول لا يدخل الشهر الثاني، وعندهما الاعتبار بالأيام فيما تعذر عليه الاعتبار بالأهلة وهو الشهر الواحد فقط والله أعلم.

باب الإطعام في الظهار
قال  رضي الله عنه "ويجزيه أن يدعو ستين مسكينا فيغديهم ويعشيهم وهو قول علمائنا أن الإطعام في الكفارات يتأدى بالتمكين من الطعام" وعند الشافعي لا يتأدى إلا بالتمليك من الفقير، وكان أحمد بن سهل رضي الله تعالى عنه يقول: "لا يتأدى بالتمليك وإنما يتأدى بالتمكين فقط" لظاهر قوله تعالى"
{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: من الآية 4] والإطعام فعل متعد ولازمه طعم يطعم وذلك الأكل دون الملك، ففي التمليك لا يوجد الإطعام وإنما يوجد ذلك في التمكين لأنه لا يتم ذلك إلا بأن يطعم المسكين. والكلام محمول على حقيقته والشافعي رحمه الله يقول: الإطعام يذكر للتمليك عرفا يقول الرجل لغيره أطعمتك هذا الطعام أي ملكتك والمقصود سد خلة المسكين واغناؤه وذلك يحصل بالتمليك دون التمكين فإذا لم يتم المقصود بالتمكين لا يتأدى الواجب كما في الزكاة وصدقة الفطر. وقاس بالكسوة فإنه لو أعار المساكين ثيابا فلبسوا بنية الكفارة لا يجوز فكذلك الإطعام. والجامع أنه أحد أنواع التكفير.
وحجتنا في ذلك أن المنصوص عليه الإطعام وحقيقة ذلك في التمكين والمقصود به سد الخلة وفي التمليك تمام ذلك فيتأدى الواجب بكل واحد منهما أما بالتمليك فلأن الأكل الذي هو المنصوص جزء مما هو المقصود بالتمليك لأنه إذا ملك فإما أن يأكل أو يصرف إلى حاجة أخرى فيقام هذا التمليك مقام ما هو المنصوص عليه لهذا المعنى ويتأدى بالتمكين لمراعاة عين النص والدليل عليه أنه يشبهه بطعام الأهل فقال:
{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}

 

ج / 7 ص -15-         [المجادلة: من الآية 4] وذلك يتأدى بالتمليك تارة وبالتمكين أخرى فكذا هذا لأن حكم المشبه حكم المشبه به، وليس هذا كالكسوة لأن الكسوة بكسر الكاف عين الثوب فأما الفعل بفتح الكاف كسوة، وهو الإلباس فثبت بالنص أن التكفير بعين الثوب لا بمنافعه. والإعارة والإلباس تصرف في المنفعة فلا يتأدى به الواجب فأما في التمكين من الطعام المسكين طاعم للعين وبالتمكين يحصل الإطعام حقيقة وهذا بخلاف الزكاة فالواجب هناك فعل الإيتاء بالنص وفي صدقة الفطر الواجب فعل الأداء وذلك لا يحصل بالتمكين بدون التمليك، وبمعرفة حدود كلام صاحب الشرع يحسن فقه الرجل، ثم المعتبر في التمكين أكلتان مشبعتان إما الغداء والعشاء وإما غداءان أو عشاءان لكل مسكين. فإن المعتبر حاجة اليوم وذلك بالغداء والعشاء عادة ويستوي في خبز البر أن يكون مأدوما أو غير مأدوم وفي الكتاب أطلق الخبز ومراده خبز البر وقد فسره في الزيادات.
وهذا لأن المسكين يستوفي منه حاجته وإن لم يكن مأدوما بخلاف خبز الشعير فإنه لا يستوفي منه تمام حاجته إلا إذا كان مأدوما وكذلك لو غداهم وعشاهم بسويق وتمر قالوا وهذا في ديارهم فإنهم يكتفون بذلك عادة، ويستوفون منه حاجتهم.
فأما في ديارنا لا بد من الخبز وهذا كله بمنزلة طعام الأهل ويعتبر فيه الأكلتان المشبعتان مما يكون معتادا في كل موضع.
فقد قالت الصحابة رضوان الله عليهم: أعلى ما يطعم الرجل أهله الخبز واللحم، وأوسط ما يطعم الرجل أهله الخبز واللبن، وأدنى ما يطعم الرجل أهله الخبز والملح.
قال  "وإن اختار التمليك أعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير لا يجزئه دون ذلك عندنا".
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: "لكل مسكين مد من بر لحديث الأعرابي في كفارة الفطر فإن النبي صلى الله عليه وسلم    أعطاه خمسة عشر صاعا وقال:
"فرقها على ستين مسكينا".
ولكنا نستدل بحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر البياضي رضي الله عنهما فقد ذكر في الحديثين إطعام ستين مسكينا لكل مسكين نصف صاع من بر. وحديث علي وعائشة رضي الله عنهما قالا:
"لكل مسكين مدان من بر" وعن عمر و ابن عباس رضي الله عنهما "لكل مسكين نصف صاع من حنطة" ولأن المعتبر حاجة اليوم لكل مسكين فيكون نظير صدقة الفطر. ولا يتأدى ذلك بالمد بل بما قلنا فكذلك هذا.
وذكر في بعض الروايات في حديث الأعرابي
"فرقها ومثلها ومعها"  ثم هذا الاستدلال من الشافعي رحمه الله تعالى لا يستقيم لأن الصاع لا يتقدر بأربعة أمناء عنده وإن أعطى قيمة الطعام كل مسكين أجزأه لحصول المقصود وهو سد الخلة وهو عندنا وقد بيناه في الزكاة.

 

ج / 7 ص -16-         قال وإن أعطى من صنف من ذلك أقل مما سميناه وهو يساوي كمال الواجب من جنس آخر لم يجزه إلا عن مقداره" معناه إذا أعطى كل مسكين مدا من بر يساوي صاعا من شعير أو نصف صاع من تمر يساوي نصف صاع من حنطة.
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يجزئه.لأن المقصود يحصل بالمؤدي وهو كإعطاء القيمة ألا ترى أنه لو كسا عشرة مساكين ثوبا واحدا في كفارة جاز عن الطعام إذا كانت قيمة نصيب كل واحد منهم مثل قيمة الطعام ولكنا نقول المؤدي عين المنصوص ولا معتبر بالمعنى في المنصوص، بل يعتبر عين النص بخلاف الكسوة فالمنصوص عليه ما يحصل به الاكتساء وبعشر الثوب لا يحصل ذلك لكل مسكين فلم يكن المؤدي منصوصا عليه فيعتبر المعنى فيه. توضيحه أن في إقامة صنف مقام صنف إبطال التقدير المنصوص عليه في كل صنف وكل تعليل يتضمن إبطال النص فهو باطل وليس في الكسوة تقدير منصوص عليه فإقامته مقام الطعام لا يؤدي إلى إبطال التقدير المنصوص عليه ولأن المقصود بالكسوة غير المقصود بالطعام فللمغايرة يجوز إقامة أحدهما مقام الآخر والمقصود بأصناف الطعام واحد فاعتبار عين المؤدي فيه أولى فإذا كان المؤدي لكل مسكين مدا من بر له عليه أن يعيد على كل واحد منهم بمد آخر ليصل إلى كل واحد منهم ما قدر نصا.
قال وإن لم يجدهم استقبل الطعام. ولا يجزئه أن يطعم ستين مسكينا آخرين مدا مدا".
لأن الواجب عليه إيصال نصف صاع إلى كل مسكين ليحصل به سد الخلة وزوال الحاجة في يومه وذلك لا يحصل بصرف نصف الوظيفة إلى كل مسكين.
قال ولو أعطى كل مسكين مدا من بر ومدين من شعير أو تمر أجزأه" لأن كل واحد منهما أصل والمقصود يحصل بأداء نصف الواجب من كل صنف وهو زوال حاجته في يومه ولو أطعم الطعام كله مسكينا واحدا لم يجزه في دفعة واحدة لأن الواجب تفريق الفعل بالنص فإذا جمع لا يجزيه إلا عن واحد كالحاج إذا رمى الحصيات السبع دفعة واحدة.
ولو أعطاه في ستين يوما أجزأه عندنا. ولا يجزئه عند الشافعي رحمه الله تعالى لأن الواجب عليه بالنص إطعام ستين مسكينا والمسكين الواحد بتكرر الأيام لا يصير ستين مسكينا فلا يتأدى الواجب بالصرف إليه.
وشبه هذا بالشهادة فإن الشاهد الواحد وإن كرر شهادته في مجلسين لا يصير في معنى شاهدين ولكنا نقول فيما هو المقصود المسكين الواحد بتجدد الأيام في معنى المساكين لأن المقصود سد الخلة وذلك يتجدد له بتجدد الأيام فكان هو في اليوم الثاني في المعنى مسكينا آخر لتجدد سبب الاستحقاق له ولأن الإطعام يقتضي طعاما لا محالة.
فمعنى الآية فإطعام طعام ستين مسكينا وقد أدى ذلك وبه فارق الشهادة لأن المقصود

 

ج / 7 ص -17-         طمأنينة القلب هناك وبتكرار الواحد شهادته لا يحصل هذا المقصود. ولم يذكر ما لو فرق الفعل في يوم واحد ولا إشكال في طعام الإباحة أنه لا يجوز إلا بتجدد الأيام لأن الواحد لا يستوفي في يوم واحد طعام ستين مسكينا.
فأما في التمليك فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى: يجوز لأن التمليك أقيم مقام حقيقة الإطعام والحاجة بطريق التمليك ليس لها نهاية فإذا فرق الدفعات جاز ذلك في يوم واحد كما في الآيام واستدلوا على هذا بما ذكر في كتاب الأيمان أنه لو كسا مسكينا واحدا في عشرة أيام كسوة عشرة مساكين أجزأه لتفرق الفعل وإن انعدم تجدد الحاجة في كل يوم.
والدليل عليه أنه بعد ما أخذ وظيفته في ذلك اليوم لو صرف إليه رجل آخر طعام مسكين عن كفارته يجوز ذلك فكذلك إذا صرف إليه ذلك الرجل طعام مسكين آخر.
وبعضهم قالوا: لا يجوز لأن المعتبر سد الخلة ولهذا لا يجوز صرفه إلى الغني لأنه طاعم بملكه وإطعام الطاعم لا يتحقق كما أن التمليك من المالك لا يتحقق وبعد ما استوفي وظيفته في هذا اليوم لا يحصل سد خلته بصرف وظيفة أخرى في هذا اليوم إليه بخلاف كفارة أخرى لأن المستوفي في حكم تلك الكفارة كالمعدوم، ولا يمكن أن يجعل مثله في حق هذه الكفارة وبخلاف الثوب لأن تجدد الحاجة إليه يختلف باختلاف أحوال الناس فيه فلا يمكن تعليق الحكم بعينه لتعذر الوقوف عليه فيقام تجدد الأيام فيه مقام تجدد الحاجة تيسيرا.
قال ولو أطعم ستين مسكينا كل مسكين صاعا من حنطة من ظهارين في امرأة واحدة أو امراتين لم يجز إلا من أحدهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ويجزئه في قول محمد رحمه الله تعالى لأن في المؤدى وفاء بوظيفة الكفارتين والمصروف إليه محل الكفارتين فيجزئه كما لو أعطى عن كفارة نصف صاع على حدة لكل مسكين.
والدليل عليه لو كانت الكفارتان من جنسين إحداهما كفارة الظهار والأخرى كفارة الفطر أجزأ عنهما بالنية بالإجماع فكذلك إذا كانتا من جنس واحد وهما يقولان: زاد في الوظيفة ونقص عن المحل فلا يجزئه إلا بقدر المحل كما لو أعطى ثلاثين مسكينا في كفارة واحدة كل مسكين صاعا.
وبيان ذلك أن الواجب عليه في كل كفارة طعام ستين مسكينا فمحل إطعام الظهارين مائة وعشرون مسكينا وقد نقص عن المحل وزاد في الواجب لأن الواجب لكل مسكين نصف صاع وقد أدى صاعا.
وحقيقة المعنى فيه أن في الجنس الواحد كما لا تعتبر نيته في التمييز لا تعتبر نيته في العدد. فنيته عن ظهارين وعن ظهار واحد سواء بخلاف ما إذا كانتا من جنسين لأن نية

 

ج / 7 ص -18-         التعيين معتبرة عند اختلاف الجنس فكذلك تعتبر نيته عن الكفارتين ليكون عن كل واحدة منهما نصف المؤدى.
قال ولا يجزئه أن يعطي من هذه الكفارة من لا يجزئه أن يعطيه من زكاة المال" وقد بينا ذلك في كتاب الزكاة إلا فقراء أهل الذمة فإنه يعطيهم من هذه الكفارة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفقراء الإسلام أحب إلينا ولا يجزيه أن يعطي فقراء أهل الحرب وإن كانوا مستأمنين في دارنا وقد بينا هذا الفصل بتمامه في صدقة الفطر.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن ما أوجبه على نفسه بنذره يجوز صرفه إلى فقراء أهل الذمة فأما ما أوجبه لله تعالى عليه لا يصرفه إلا إلى فقراء المسلمين كالزكاة وهذه الرواية مخالفة للرواية المشهورة عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
قال فإن أعتق عبدا حربيا في دار الحرب لم يجزه عن الظهار لأنه معتق بلسانه مسترق بيده وهو محل للاسترقاق فلا ينفذ عتقه فإن أعتقه في دار الإسلام أجزأه، لأن عتقه ينفذ في دار الإسلام وهو ذمي تبع لمولاه ألا ترى أنه لا يمكن من الرجوع إلى دار الحرب فهو كإعتاق الذمي وقد بيناه ولم يذكر إعتاق العبد المرتد عن ظهاره.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن المرتدة تجزي بخلاف المرتد لأن المرتد مشرف على الهلاك فإنه يقتل بخلاف المرتدة.
وذكر الكرخي في المختصر: أنه لو أعتق عبدا حلال الدم عن الظهار أجزأه لأن العتق يتحقق فيه وما عليه حق مستحق فلا يمنع جواز التكفير به كما لو كان مديونا أو مرهونا.
قال ولو أعتق المديون جاز عن الكفارة وإن كان عليه السعاية في الدين" وكذلك لو أعتق المرهون جاز عن الكفارة وإن كان الراهن معسرا وسعى العبد في الدين لأن تلك السعاية ليست في بدل رقبته حتى يرجع به على الراهن إذا أيسر فلا يكون هذا عتقا بجعل بخلاف المريض مرض الموت إذا أعتق عبدا عن ظهاره ولا مال له سواه لأنه يسعى في ثلثي قيمته للورثة وتلك السعاية بدل رقبته فيكون ذلك في معنى عتق بجعل.
قال ولو تصدق عنه رجل بغير أمره لم يجزه" لأن أحدا لا يملك أن يدخل الشيء في ملك غيره بغير رضاه وبدون ملكه لا تتأدى كفارته ولو تصدق عنه بأمره أجزأه. وقد بينا الفرق بينه وبين العتق وقررنا طريق الحق أنه يجعل المسكين نائبا في القبض له أولا ثم لنفسه. وإن صام عنه بأمره أو بغير أمره لا يجزئه لحديث  ابن عمر رضي الله تعالى عنه "لا يصوم أحد عن أحد" وقد بينا هذا في كتاب الصوم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الإيلاء
قال  رضي الله تعالى عنه الإيلاء في اللغة هو اليمين قال القائل:

قليل الألايا حافظ ليمينه                             وإن بدرت منه الألية برت

وفي الشريعة عبارة عن يمين يمنع جماع المنكوحة هكذا نقل عن إبراهيم رحمه الله تعالى.

 

ج / 7 ص -19-         وقد كان الإيلاء طلاقا في الجاهلية فجعله الشرع طلاقا مؤجلا بقوله تعالى" {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: من الآية226] وإذا حلف الرجل لا يجامع امرأته أبدا أو لم يقل أبدا فهو مول لأن مطلق اللفظ فيما يتأبد يقتضي التأبيد وبعد ما صار موليا، إن جامعها قبل تمام أربعة أشهر فعليه كفارة اليمين لوجود شرط الحنث وقد سقط الإيلاء لأن ثبوت حكم الإيلاء بقصده الإضرار والتعنت بمنع حقها بالجماع وقد زال ذلك حين أوفاها حقها وهو الفيء المذكور في قوله تعالى"  {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: من الآية226] "لأن الفيء عبارة عن الرجوع.
 يقال فاء الظل إذا رجع وقد رجع عما قصد من الأضرار حين جامعها ولهذا قال بعض الناس: ليس عليه كفارة لأن الله تعالى وعده بالرحمة والمغفرة بقوله تعالى:
{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: من الآية226] ولكنا نقول: حكم الكفارة عند الحنث ثابت بقوله تعالى" {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: من الآية89] " الآية وإن مضت المدة قبل أن يفيء إليها طلقت تطليقة بائنة عندنا وكان معنى الإيلاء إن مضت أربعة أشهر ولم أجامعك فيها فأنت طالق تطليقة بائنة هكذا نقل عن علي و ابن مسعود و ابن عباس و ابن عمر وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين قالوا عزيمة الطلاق مضي المدة. وعند الشافعي لا يقع الطلاق بمضي المدة ولكنه يوقف بعد المدة حتى يفيء إليها أو يفارقها فإن أبى أن يفعل فرق القاضي بينهما وكان تفريقه تطليقة بائنة والكلام في فصلين:
 "أحدهما" أن عنده الفيء بعد مضي المدة لأن الله تعالى قال"
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} [البقرة: من الآية226] فبين أن هذه المدة للزوج لا عليه وإنما تكون المدة له إذا كان الأمر موسعا عليه والتضييق بعده فأما إذا كان مطالبا بالجماع في المدة فلا تكون المدة له ثم قال الله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: من الآية226] وحرف الفاء للتعقيب عرفنا أن الفيء الذي يؤمر به الزوج بعد مضي المدة وعندنا الفيء في المدة بقراءة  ابن مسعود رضي الله عنه فإن فاءوا فيهن وقراءته لا تتخلف عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم  والتقسيم في قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: من الآية227] دليل على أن الفيء في المدة وعزيمة الطلاق بعده كما في قوله تعالى" {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: من الآية231] والإمساك بالمعروف بالمجامعة في المدة والتسريح بالإحسان بتركها حتى تبين بمضي المدة وهذا التربص مشروع للزوج لأن الإيلاء كان طلاقا معجلا فجعل الشرع للزوج فيه مدة أربعة أشهر حتى مكنه من التدارك في المدة وجعل الطلاق مؤخرا إلى ما بعد المدة.
"والفصل الثاني" أن الفرقة عنده لا تقع إلا بتفريق القاضي بينهما أو بإيقاع الزوج الطلاق لأن الله تعالى قال"
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:227]  وهو إشارة إلى أن عزيمة الطلاق بما هو مسموع وذلك بإيقاع الطلاق أو تفريق القاضي.
والمعنى فيه أن التفريق بينهما لدفع الضرر عنها عند فوت الإمساك بالمعروف فلا يقع إلا

 

ج / 7 ص -20-         بتفريق القاضي كفرقة العنين فإن بعد مضى المدة هناك لا تقع الفرقة إلا بتفريق القاضي بل أولى لأن الزوج هناك معذور، وهنا هو ظالم متعنت والقاضي منصوب لإزالة الظلم فيأمره أن يوفيها حقها أو يفارقها فإن أبى ناب عنه في إيقاع الطلاق وهو نظير التفريق بسبب العجز عن النفقة على قوله.
"وحجتنا" في ذلك قوله تعالى:
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة:227] فذكر عزيمة الطلاق بعد ذكر المدة فهو إشارة إلى أن ترك الفيء في المدة عزيمة الطلاق عند مضي المدة.
وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم    قال:
"عزيمة الطلاق مضى أربعة أشهر" وقد أضاف إلى الزوج فدل أن الطلاق يتم به من غير حاجة إلى قضاء القاضي.
ومعنى قوله تعالى:
{فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية227] سميع لإيلائه عليم بقصده الإضرار ولأن هذه المدة مدة تربص بعد ما أظهر الزوج من نفسه أنه غير مريد لها فتبين بمضيها كمدة العدة بعد الطلاق الرجعي ولا فرق، لأن هناك الزوج بالطلاق يظهر كراهية صحبتها فيصير في المعنى كأنه علق البينونة بمضي المدة قبل أن يراجعها، وهنا هو بيمينه يظهر كراهيتها فيصير كأنه علق البينونة بمضي الوقت قبل أن يفيء إليها.
ولهذا جعلنا الواقعة تطليقة بائنة لأن المقصود دفع ضرر التعليق عنها. وذلك لا يحصل بالتطليقة الرجعية، ولكن العدة هنا تجب هنا بعد وقوع الطلاق بمضي المدة لأن وقوع الطلاق بعده وهناك الطلاق كان واقعا فجعلنا الإقراء محسوبة من العدة وكذلك لو حلف لا يقربها أبدا لأن القربان متى ذكر مضافا إلى النساء فالمراد به الجماع.
وإن قال الزوج لم أعن الجماع لم يصدق في القضاء لأنه قصد تغيير اللفظ عن الظاهر المتعارف فلا يصدق في القضاء هنا، ولا في الفصل الأول ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأن حقيقة معنى الجماع هو الاجتماع ففيما نوى به مما سوى الجماع هو محتمل فيدين فيما بينه وبين الله تعالى. وإن حلف لا يدخل عليها وقال: لم أعن الجماع فهو مصدق في القضاء لأن الدخول عليها لفظ مشترك يستعمل في الجماع والزيارة وغير ذلك فالمنوي غير مخالف للظاهر وحرف الصلة يدل عليه وهو على فإنه إذا كان المراد الجماع يقال دخل بها وكذلك لو حلف ليغيظنها أو ليسوءنها أو لا يجمع رأسه ورأسها شيء أو لا يمسها. وفي نسخ أبي سليمان أو لا يلامسها فهذه الألفاظ تطلق في الجماع وغير الجماع، فإن نوى بها الجماع كان موليا وإن نوى غير الجماع لم يكن موليا لأن المولى من لا يتمكن من الجماع في المدة إلا بشيء يلزمه حتى يتحقق إضراره بمنع حقها في الجماع، وإن حلف لا يمس جلده جلدها وعنى به حقيقة المس فالحنث هنا يحصل بدون الجماع فلا يكون إيلاء ويمكنه أن يجامعها من غير أن يلزمه شيء بأن يلف آلته في حريرة ثم يدسه فيها وقال في رواية أبي حفص رحمه الله تعالى: إذا حلف لا يأتيها وعنى الجماع فهو مول وإن قال لم أعن الجماع صدق في القضاء مع يمينه لأن الإتيان قد يراد به الجماع ويراد به الزيارة أو الضرب فكان

 

ج / 7 ص -21-         اللفظ محتملا والمحتمل لا يوجب شيئا بدون النية وكذلك لو حلف لا يغشاها فهو مدين في القضاء لأن الغشيان يراد به الجماع قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [لأعراف: من الآية189] ويراد به غير الجماع قال الله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ} [لقمان: من الآية32]  وكذلك لو حلف لا يقرب فراشها. فلفظ القرب إضافة إلى فراشها لا إليها ولذلك يحتمل الجماع، وغيره فإن عنى الجماع فهو مول، وإلا فليس بمول لأنه يتمكن من أن يجامعها من غير حنث إما على الأرض، أو بأن تدخل هي فراشه من غير أن يقرب هو فراشها.
وإن حلف لا يباضعها فهو مول ولا يصدق في القضاء لأن ظاهر اللفظ للجماع، فإن المباضعة إدخال البضع في البضع فلا يصدق في صرف اللفظ عن ظاهره، وكذلك لو حلف لا يغتسل منها من جنابة لأن الاغتسال منها إنما يكون بالجماع في الفرج خاصة. فأما بالجماع فيما دون الفرج يكون اغتسالا من الإنزال لا منها وإذا كان ظاهر لفظه للجماع في الفرج لم يصدق في صرف اللفظ عن ظاهره وكان موليا بمنعه حقها بيمينه فإن حقها في الجماع في الفرج لا فيما دونه.
قال وإذا حلف لا يقربها أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا عندنا.
وقال  ابن أبي ليلى هو مول إن تركها أربعة أشهر بانت بالتطليقة وهكذا كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول في الابتداء فلما بلغه فتوى  ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا إيلاء فيما دون أربعة أشهر رجع عن قوله.
و ابن أبي ليلى استدل بظاهر الآية قال الله تعالى:
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226] والإيلاء هو اليمين فتقييد اليمين بمدة أربعة أشهر يكون زيادة.
ولكنا نقول المولى من لا يملك قربان امرأته في المدة إلا بشيء يلزمه وإذا عقد يمينه على شهر فهو يتمكن من قربانها بعد مضي الشهر من غير أن يلزمه شيء فلم يكن موليا كما في ترك مجامعتها مدة بغير يمين.
قال وكل ما حلف به على أربعة أشهر أو أكثر أن لا يقربها مما يكون به حالفا فهو مول عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا عقد يمينه على أربعة أشهر لم يكن موليا بناء على الأصل الذي بينا أن تضييق الأمر عنده بعد مضي المدة فإذا كانت المدة أربعة أشهر ينتهي اليمين بمضيها فلا يمكن تضييق الأمر عليه بعد ذلك لأنه يتمكن من قربانها من غير أن يلزمه شيء وإذا كانت المدة أكثر من أربعة أشهر فتضييق الأمر عليه بعد مضي المدة ممكن.
وعندنا مجرد مضي المدة عزيمة الطلاق فإذا كانت المدة أربعة أشهر يتم معنى الإيلاء به وتقع الفرقة بمضيه.
ثم اليمين نوعان أحدهما ما يقصد به تعظيم المقسم به والثاني الشرط والجزاء والأول يعرفه أهل اللغة فأما الشرط والجزاء يمين عند الفقهاء ولا يعرفه أهل اللغة وبكل

 

ج / 7 ص -22-         واحد من النوعين يثبت حكم الإيلاء فإذا قال أحلف أو أحلف بالله لا أقربك فهو مول عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى في قوله أحلف بالله كذلك فأما في قوله أحلف عنده لا يكون يمينا ولكنه وعد أن يحلف بهذا اللفظ.
ولكنا نستدل بقوله تعالى:
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة: من الآية96] "وقال الله تعالى" {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: من الآية62] فدل أن كل واحد منهما يمين سواء ذكر قوله بالله أو أطلق لأن الحلف في الظاهر يكون بالله وكذلك لو قال أشهد أو أشهد بالله فعند زفر رحمه الله تعالى قوله أشهد لا يكون يمينا بل يكون هذا اللفظ للشهادة فإذا قال بالله كان يمينا.
ولكنا نقول كل واحد من اللفظين يمين سواء ذكر قوله بالله أو أطلق قال الله تعالى:
{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}[المنافقون: من الآية1]  إلى قوله" {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} [المجادلة: من الآية16] فقد سمي شهادتهم يمينا وقال الله تعالى" {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: من الآية6] واللعان يمين قال صلى الله عليه وسلم   : "لولا الأيمان التي سبقت لكان لي ولها شأن" ولأن قول الشاهد بين يدي القاضي أشهد في معنى اليمين ولهذا عظم الوزر في شهادة الزور لأنه بمعنى اليمين الغموس وكذلك قوله أقسم أو أقسم بالله فعند زفر رحمه الله تعالى قوله أقسم لا يكون يمينا كقوله أحلف.
ولكنا نستدل بقوله تعالى:
{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: من الآية17و 18] والاستثناء في اليمين وقال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النور: من الآية 53] وكذلك لو قال أعزم أو أعزم بالله فإن العزم آكد ما يكون من العهد وذلك يكون باليمين وكذلك لو قال علي نذر أو نذر لله قال صلى الله عليه وسلم   : "النذر يمين وكفارته كفارة اليمين" وكذلك لو قال: عهد الله علي.
فالعهد يمين قال الله تعالى:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: من الآية91] معناه إذا حلفتم بدليل قوله تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: من الآية91] وكذلك قوله: على ذمة الله، لأن الذمة عبارة عن العهد قال الله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً}[التوبة: من الآية10] وقال صلى الله عليه وسلم   : "إذا أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله فلا تعطوهم".
وأهل الذمة هم أهل العهد، وكذلك لو قال هو يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء من الإسلام إن قربتك فهو مول.
وعند الشافعي رضي الله عنه لا يكون موليا بهذه الألفاظ لأنه لا يلزمه عين ما التزم عند القربان فلا يلزمه غيره كما لو قال: هو مستحل الميتة إن قربتك.
ومذهبنا مروى عن  ابن عباس رضي الله عنه وهو بناء على مسألة تحريم الحلال فإن تحريم الحلال عندنا يمين فتحليل الحرام كذلك وتحريم الكفر بانة مصمتة فاستحلالها يمين لما علقه بالقربان بخلاف استحلال الميتة فإن حرمتها ليست بباتة ولكنها تنكشف عند الضرورة.

 

ج / 7 ص -23-         وسنقرر هذا الفصل في كتاب الأيمان إن شاء الله تعالى وكذلك قوله وعظمة الله أو وعزة الله أو وقدرة الله فهذا وقوله والله سواء لأن معنى كلامه والله العظيم، والله العزيز والله القادر. وسنقرر حكم اليمين بصفات الله تعالى وكذلك إن حلف على ذلك بعتق أو طلاق فهو مول، لأنه لا يتمكن من قربانها في المدة لا بشيء يلزمه ولأن الشرط والجزاء يمين قال صلى الله عليه سلم:  "من حلف بطلاق أو عتاق" فقد سماه حالفا وكذلك إن حلف على ذلك بحج أو هدى أو عمرة، أو صوم جعل لله عليه إن قربها لأنه يتحقق بهذا منع القربان حين علق بالقربان ما يكون ممتنعا من التزامه عادة وتلحقه مشقة في أدائه.
وإذا قال: والقرآن لا أقربك لا يكون موليا لأن الناس لم يتعارفوا الحلف بالقرآن. والمعتبر في الأيمان العرف فكل لفظ لم يكن الحلف به متعارفا لا يكون يمينا. وهذا اللفظ إنما يذكر في الكتاب خاصة. وقد طعن عليه بعض الناس فقالوا القرآن كلام الله تعالى والكلام صفة المتكلم فلماذا لم يجعل الحلف بهذه الصفة يمينا.
ولكنا نقول كلام الله تعالى صفته ولكن الحلف به غير متعارف فكان هذا بمنزلة قوله وعلم الله على ما نبينه في الأيمان وعلى هذا الخلاف ما لو قال هو بريء من القرآن إن قربتك فهو مول لأن البراءة من القرآن كفر فهو بمنزلة قوله هو بريء من الإسلام إن قربتك.
وإن قال والكعبة أو الصلاة أو الزكاة لا أقربك أو حلف على ذلك بشيء من طاعة الله أو بشيء من الحدود لا يكون موليا لأنه حلف بغير الله وهو منهي عنه ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه سلم لما سمع عمر رضي الله تعالى عنه يقول وأبي قال رسول الله صلى الله عليه سلم:
"لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت فمن كان حالفا فليحلف بالله أو فليذر" فدل أن الحلف بغير الله لا يكون يمينا شرعا وإن قال بالله لا أقربك فهو مول.
وحروف اليمين ثلاثة الباء والواو والتاء فأعمها الباء حتى تدخل في اسم الله وفي غير اسم الله تعالى وفي المضمر والمظهر والواو أخص منها فإنها تدخل في المظهر دون المضمر ولكنها تدخل في اسم الله وفي غير اسم الله تعالى والتاء أخص منها فإنها لا تدخل إلا في اسم الله تعالى مظهرا قال الله تعالى:
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الانبياء: من الآية 57] وكذلك لو قال وأيم الله أو لعمرو الله لأن الناس تعارفوا الحلف بهذه الألفاظ وقيل معنى قوله وأيم الله أي وأيمن الله فيكون جمع اليمين ولعمرو الله أي والله الباقي وفي قوله لعمرك دليل على أن هذا اللفظ يمين وإن قال الله لا أقربك فهو مول أيضا والكسرة في الهاء دليل على محذوف وهو القسم ولا يصدق في الحكم أنه لم يرد به الإيلاء لأنه خلاف الظاهر وإن قال قولا لا يقربها ولم يحلف لا يلزمه شيء.
هكذا نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها ولأن الله تعالى قال:
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}

 

ج / 7 ص -24-         [البقرة: من الآية226] والإيلاء يمين فبدون يمينه كان كلامه وعدا والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم فهو يتمكن من قربانها من غير أن يلزمه شيء وإن حلف لا يقربها في مكان كذا أو في مصر كذا أو قال في أرض العراق لم يكن موليا عندنا.
وقال  ابن أبي ليلى هو مول لأنه قصد الإضرار والتعنت بيمينه فلزمه حكم الإيلاء ولكنا نقول اليمين إذا وقتت بمكان توقتت به فهو يتمكن من قربانها في غير ذلك المكان في المدة من غير أن يلزمه شيء فلا يتحقق به منع حقها في الجماعز.
قال ولو حلف لا يقربها وهي حائض لم يكن موليا لأنه حلف على أقل من أربعة أشهر فإن الحيض لا يمتد إلى أربعة أشهر ولأنه لا حظ لها في الجماع في حالة الحيض فلا يكون مانعا حقها بهذه اليمين.
فإن قيل فعلى هذا لو حلف على أربعة أشهر ينبغي أن لا تعتبر مدة الحيض فيبقى يمينه على أقل من أربعة أشهر.
قلنا هذا إن لو كانت هذه المدة ثابتة بالمعنى وثبوتها بالنص فلا يجوز الزيادة عليها بالرأي وإن حلف لا يقربها حتى يقدم فلان أو حتى يفعل هو شيئا يقدر على فعله قبل مضى أربعة أشهر فليس بمول لأنه يقدر على أن يجامعها بعد وجود ما جعله غاية قبل مضى أربعة أشهر وإن تأخر ذلك أربعة أشهر لم يضره لأنه بأصل اليمين لم يكن موليا فلا يصير موليا بترك المجامعة بعد ذلك كما لو ترك المجامعة بغير يمين وإن حلف لا يقربها حتى يفعل شيئا يعلم أنه لا يقدر عليه فهو مول معناه حتى يمس السماء أو يحول هذا الحجر ذهبا لأنه إذا لم يكن في مقدوره ذلك الفعل كان مقصوده من جعله غاية تحقيق معنى التأبيد.
وعلى هذا لو قال: والله لا أقربك حتى تخرج الدابة أو الدجال أو حتى تطلع الشمس من مغربها فهو مول استحسانا. وفي القياس ليس بمول لأنه ما جعله غاية يتوهم وجوده قبل مضى أربعة أشهر. ولكنا نقول مقصود الزوج بهذا المبالغة في النفي لا التوقيت فيتحقق به معنى الإيلاء.
قال وإذا حلف لا يقربها سنة إلا يوما لم يكن موليا عندنا" وقال زفر رحمه الله تعالى هو مول لأن اليوم المستثني من آخر السنة كما في الإجارة والآجال وهو لا يملك قربانها في المدة إلا بكفارة تلزمه.
والدليل عليه أنه لو قال: سنة بنقصان يوم كان موليا فكذلك إذا قال إلا يوما. ولكنا نقول استثني يوما منكرا فما من يوم بعد يمينه إلا ويمكنه أن يجعله اليوم المستثنى فيقربها من غير ان يلزمه شيء والذي قال: إن اليوم من آخر السنه غير صحيح لأن المستثنى منكر فلو جعلناه من آخر السنة لم يكن منكرا وتغيير كلامه من غير حاجة لا يجوز. وفي الآجال

 

ج / 7 ص -25-         والإجارة دعت الحاجة إلى ذلك لأنا لو جعلنا اليوم منكرا فيهما لم يصح العقد للجهالة ولا يحصل المقصود وهو تأخر المطالبة والتمكن من استيفاء المنفعة وهنا لا حاجة لأن الجهالة لا تمنع انعقاد اليمين.
فلهذا جعلنا اليوم المستثنى منكرا كما نكره بخلاف قوله بنقصان يوم لأن النقصان لا يكون إلا من آخر المدة وذلك تنصيص على أن يكون المستثنى آخر يوم من السنة فإذا ثبت أنه ليس بمول عندنا، قلنا: إذا قربها في يوم فهذا اليوم هو اليوم المستثني فلا يكون موليا حتى يمضي ذلك اليوم ثم ينظر بعد مضيه فإن كان الباقي من السنة أربعة أشهر أو أكثر فهو مول وإن كان الباقي دون أربعة أشهر فليس بمول لأن الاستثناء قد ارتفع وصارت اليمين مطلقة في بقية المدة، وكذلك لو قال والله لا أقربك سنة إلا مرة لم يكن موليا لأنه متمكن من قربانها بسبب الاستثناء من غير أن يلزمه شيء فإذا قربها مرة ارتفع الاستثناء وصارت اليمين مطلقة. فإن بقي بعد فراغه من الجماع من السنة أربعة أشهر أو أكثر فهو مول وإن كان الباقي دون ذلك لم يكن موليا فإن وصل قوله إن شاء الله بيمينه لم يكن موليا لأن الإستثناء يخرج الكلام من أن يكون عزيمة وهو مروى عن  ابن عمر و ابن عباس رضي الله عنهم وإن اشترط مشيئتها ومشيئة فلان فهو على المجلس وقد بينا نظيره في الظهار.
قال  "وإذا قال لامرأته أنا منك مول وعني الإيجاب فهو مول كما في قوله أنا منك مظاهر" لأنه أضاف لفظه إلى محله فإن الرجل يكون موليا من امرأته وإن قال عنيت الخبر بالكذب لم يدين في القضاء لأن ظاهر كلامه إيجاب وهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى لأن صيغة الإيجاب والأخبار في الإيلاء واحد والمخبر عنه إذا كان كذبا فبالإخبار لا يصير صدقا.
قال  وإذا حلف على أربع نسوة لا يقربهن فهو مول منهن إن تركهن أربعة أشهر  ابن بالإيلاء عندنا.
وقال زفر رحمه الله تعالى لا يكون موليا حتى يقرب ثلاثا منهن فحينئذ يكون موليا من الرابعة لأنه يملك قربان كل واحدة منهن من غير أن يلزمه شيء فلم يكن موليا حتى يقرب ثلاثا منهن فحينئذ لا يملك قربان الرابعة إلا بكفارة تلزمه لأنه يتم شرط الحنث بقربانها فيكون موليا منها ويكون معنى كلامه إن قربت ثلاثا منكن فوالله لا أقرب الرابعة.
"وجه قولنا" أنه مضار متعنت في حق كل واحد منهن بمنع حقها من الجماع فيكون موليا من كل واحدة منهن كما لو عقد يمينه على كل واحدة منهن على الأنفراد إلا أنه لا يلزمه الكفارة بقربان بعضهن لأن الكفارة موجب الحنث فلا تجب ما لم يتم شرط الحنث ولكن عند تمام الشرط لا يكون وجوب الكفارة بقربان الآخرة فقط بل بقربانهن جميعا.
فأما وقوع الطلاق باعتبار البر، وذلك يتحقق في كل واحدة منهن فهذا  ابن بمضي المدة

 

ج / 7 ص -26-         بخلاف ما لو قال: إن قربت ثلاثا منكن فوالله لا أقرب الرابعة لأن هناك ما عقد اليمين في الحال بل علقه بشرط فلا ينعقد يمينه قبل وجود الشرط فإن جامع بعضهن في الأربعة الأشهر سقط عمن جامع منهن لأنه قد فاء إليها في المدة ولا كفارة عليه لعدم تمام شرط الحنث فإذا تمت أربعة أشهر بانت التي لم يجامعها لأن الفيء في حقها لم يوجد فبقي حكم الإيلاء في حقها فتبين بمضي المدة ولو لم يجامع شيئا منهن ولكن طلق إحداهن ثلاثا كان موليا على حاله لأن شرط حنثه منتظر إن جامعهن حنث إذ ليس في يمينه تقييد الجماع بما قبل الطلاق وإن لم يطلق ولكن ماتت إحداهن بطل الإيلاء عنهن لأن شرط حنثه قد فات لأنه لا يحنث بجماع من بقي بعد هذا ولا بجماع الميتة واليمين لا يبقى بعد فوات شرط الحنث فلهذا لا يبطل الإيلاء عنهن.
قال وإن حلف لا يقرب واحدة منهن فهو مول منهن فإن مضت الأربعة الأشهر  ابن جميعا.
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد رضي الله تعالى عنه يكون موليا من واحدة منهن حتى إذا مضت المدة طلقت واحدة منهن بغير عينها لأنه منع نفسه عن قربان واحدة منهن ألا ترى أنه لو قرب واحدة منهن يلزمه الكفارة وحكم الطلاق ينبني على المنع من القربان فعند مضي المدة يقع الطلاق على إحداهن بغير عينها كما لو قال والله لا أقرب إحداكن.
ووجه ظاهر الرواية أنه ذكر الواحدة منكرا في موضع النفي، لأن القربان منفي والنكرة في موضع النفي تعم بخلاف النكرة في موضع الإثبات. فإن الرجل إذا قال رأيت اليوم رجلا يقتضى رؤية رجل واحد ولو قال: ما رأيت اليوم رجلا يقتضى نفي رؤية جميع الرجال.
وهذا لأن معنى التنكير في محل الفيء لا يتحقق إلا بالتعميم ففيما ينبني على نفي القربان وهو وقوع الطلاق عند مضي المدة يتناولهن كلامه جميعا، وفيما ينبني على وجود القربان وهي الكفارة يتناول كلامه إحداهن.
فلهذا إذا قرب واحدة منهن لزمته الكفارة، وسقط الإيلاء عنهن لأن اليمين لم يبق بعد تمام الشرط وهذا بخلاف قوله إحداكن فإن معنى التعميم هناك لا يتحقق ألا ترى أنه لو قرن بكلامه حرف كل بان قال كل إحداكن لا يتناولهن جميعا وهنا لو قرن بكلامه حرف كل فقال كل واحدة منكن تناولهن جميعا، فكذلك بسبب التنكير وإن كان نوى واحدة بعينها دون غيرها فهو مول منها خاصة فيما بينه وبين الله تعالى لأن ما نواه محتمل ألا ترى أنه لو طلق واحدة منهن ونوى واحدة بعينها صحت نيته فكذلك في الإيلاء ولكن لا يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر.
قال وإذا آلى من واحدة لم يسمها ولم ينوها فهو بالخيار يوقع الطلاق على أيتهن شاء فتبين به وحدها ولو أراد التعيين قبل مضى المدة لم يملك" لأن فيه تغيير حكم اليمين فإنه قبل

 

ج / 7 ص -27-         التعيين يحنث بقربان واحدة أيتهن قرب وبعد التعيين لا يحنث بقربان البواقي وكما لا يملك إبطال حكم اليمين لا يملك تغييره فأما بعد وقوع الطلاق بمضى المدة ملك تعيين الطلاق لأنه ليس في هذا تغيير حكم اليمين ولكنه تعيين الطلاق المبهم وذلك إلى الزوج ثم إذا عين الطلاق في إحداهن لا يتعين يمينه فيها إلا في رواية عن أبي يوسف وقد بينا هذا فيما أمليناه في شرح الجامع.
قال وإذا آلى الرجل من امرأته وبينه وبينها مسيرة أربعة أشهر أو أكثر أجزأه إن فاء بقلبه ولسانه والحاصل أن العاجز عن الجماع في المدة يكون فيئه باللسان عندنا وذلك مروي عن علي و ابن مسعود رضي الله عنهما وعند الشافعي رحمه الله تعالى ألفيء باللسان ليس بشيء لأن المتعلق بالفيء حكمان وجوب الكفارة وامتناع حكم الفرقة ثم الفيء باللسان لا يعتبر في حق أحد الحكمين وهو الكفارة فكذلك في الحكم الآخر. ولكنا نقول الكفارة تجب بالحنث والحنث لا يتحقق في الفيء باللسان فأما وقوع الطلاق عند مضي المدة باعتبار معنى الإضرار والتعنت، وذلك ينعدم في الفيء باللسان عند العجز عن الفيء بالجماع فكان الفيء بالجماع أصلا وباللسان بدلا عنه لأن الفيء عبارة عن الرجوع وإذا كان قادرا على الجماع فإنما قصد الإضرار والتعنت بمنع حقها في الجماع ففيئه بالرجوع عن ذلك بأن يجامعها وإذا كان عاجزا عن الجماع لم يكن قصده الإضرار بمنع حقها في الجماع لأنه لا حق لها في الجماع في هذه الحالة وإنما قصد الإضرار بإيحاشها بلسانه ففيئه بالرجوع عن ذلك بأن يرضيها بلسانه لأن التوبة بحسب الجناية ثم العجز عن الجماع تارة يكون ببعد المسافة وتارة بالمرض فإذا كان بينه وبينها أربعة أشهر أو أكثر فهو عاجز عن جماعها في المدة فيكون فيئه بقلبه ولسانه وإن كان بينهما أقل من أربعة أشهر فهو قادر على الجماع فلا يكون فيئه إلا بالجماع لأن حكم البدل إنما يعتبر عند العجز عن الأصل، وكذلك إن كان مريضا حين آلى ففيئه الرضا بالقلب واللسان إن تمت أربعة أشهر وهو مريض لأنه عاجز عن الجماع لمرضه وكذلك إن اتصل مرضه بالإيلاء فإن كان صحيحا حين آلى وبقي صحيحا بعد إيلائه مقدار ما يستطيع فيه أن يجامعها ثم مرض بعد ذلك لم يكن فيئه إلا بالجماع.
وقال زفر: فيئه باللسان لتحقق عجزه عن الجماع والمعتبر عنده آخر المدة كما لو كان واجدا للماء في أول الوقت فلم يتوضأ حتى عدم الماء جاز له التيمم.
ولكنا نقول لما تمكن من جماعها فقد تحقق منه الإضرار، والتعنت بمنع حقها في الجماع فلا يكون رجوعه إلا بإيفاء حقها في الجماع فأما إذا كان مريضا حين آلى ثم صح قبل تمام أربعة أشهر لم يكن فيئه إلا بالجماع ويستوي إن كان فاء إليها في مرضه أو لم يفىءلأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فإن تمام المقصود بمضي المدة وسقط اعتبار حكم البدل بهذه القدرة كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة وكذلك إن كانت المرأة مريضة أو صغيرة لا تجامع ففيئه الرضا باللسان. وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله

 

ج / 7 ص -28-         تعالى أن الزوج إذا كان مريضا حين آلى ثم مرضت المرأة ثم صح الزوج قبل مضى أربعة أشهر ففيئه الرضا باللسان عند زفر رحمه الله تعالى لأن تأثير مرضها في المنع من الجماع كتأثير مرضه.
وعلى قول أبي يوسف لا يكون فيئه إلا بالجماع لأن العجز الذي كان لأجله فيئه الرضا باللسان قد زال قبل تمام المدة فكان ذلك كالمعدوم أصلا ولو كانا محرمين بالحج أو أحدهما فآلى وقت أداء الحج أربعة أشهر أو أكثر لم يكن فيئه إلا بالجماع في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه متمكن من ذلك وإن كان حراما.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى فيئه الرضا باللسان لأنه ممنوع من جماعها في المدة شرعا فهو كما لو كان ممنوعا منها حسا ببعد المسافة ألا ترى أنه لو خلى بأمرأته وأحدهما محرم بالحج لم تصح الخلوة كما لو كان بينهما ثالث ومتى وطئها بعد الفيء باللسان فعليه كفارة اليمين لأن الفيء باللسان يمنع وقوع الطلاق ولا يرتفع اليمين فيتحقق شرط الحنث متى جامعها.
قال  "وإيلاء النائم والصبي والمجنون والمعتوه الذي يهذي باطل بمنزلة طلاق هؤلاء" وهذا لأن اليمين من هؤلاء لا ينعقد فإن قولهم غير معتبر في اللزوم.
قال  "وإذا آلى الرجل من امرأته أنه لا يقربها أبدا ثم طلقها ثلاثا بطل الإيلاء عندنا خلافا لزفر" لأن الإيلاء طلاق مؤجل فإنما ينعقد على التطليقات المملوكة ولم يبق شيء منها بعد وقوع الثلاث عليها، وكذلك لو بانت بالإيلاء ثلاث مرات ثم تزوجها بعد زوج لم يكن موليا إلا على قول زفر وإن قربها كفر يمينه لأن الإيلاء وإن لم يبق في حكم الطلاق لنفاذ ملك الطلاق فقد بقيت اليمين فإذا قربها ثم شرط الحنث وليس من ضرورة بقاء اليمين حكم الإيلاء، كما لو قال لأجنبية: والله لا أقربك ثم تزوجها لم يكن موليا وإن قربها كفر يمينه وإن كان طلقها تطليقة بائنة فإن تمت الأربعة الأشهر وهي في العدة وقعت عليها تطليقة بالإيلاء وإن لم تكن في العدة لم يقع عليها شيء لأن المولى في المعنى كالمعلق تطليقة بائنة بمضى الأربعة الأشهر قبل أن يفيء إليها وقد صح ذلك في الملك فلا يبطل بالبينونة ولكن الطلاق لا يقع عليها إلا في العدة فإذا تمت العدة وهي محل لوقوع الطلاق عليها طلقت وإن لم تكن محلا بأن كانت منقضية العدة لم تطلق. فإن تزوجها بعد انقضاء عدتها فهو مول منها وتستأنف شهور الإيلاء من حين تزوجها ولا يحتسب بما مضى منها قبل ذلك لأن ابتداء مدة الإيلاء لا تنعقد بعد انقضاء العدة إذ ليس له على المحل ملك ولا يد فإنما يكون ابتداء المدة من حين تزوجها ولو كان تزوجها في العدة يحتسب بما مضى منها لأنها ما بقيت في العدة فهي محل لوقوع الطلاق عليها فيبقى حكم المدة أرأيت لو تزوجت بزوج آخر أكان يبقى حكم مدة الإيلاء وكذلك بعد ما حلت للأزواج بانقضاء مدة العدة.
قال  "ولو طلق امرأته تطليقة بائنة ثم آلى منها لم يكن موليا وإن انعقدت يمينه" لأن معنى

 

ج / 7 ص -29-         الإيلاء بمنع حقها في الجماع ولا حق لها في الجماع بعد ما بانت ولأن المقصود بالإيلاء إزالة ظلم التعليق عنها وذلك لا يتحقق بعد البينونة وإذا لم يكن كلامه في الأصل إيلاء لا يصير إيلاء وإن تزوجها كما في الأجنبية بخلاف ما سبق لأن أصل كلامه هناك كان إيلاء صحيحا فلا يبطل بالبينونة وانقضاء العدة وإن بطلت المدة لخروجها من أن تكون محلا لطلاقه.
فإذا تزوجها لم يكن موليا منها ولم يذكر في الكتاب فصلا آخر وهو أنه إذا آلى من امرأته فبانت بمضى أربعة أشهر هل تنعقد مدة أخرى قبل أن يتزوجها أم لا؟
وكان أبو سهل رحمه الله يقول تنعقد حتى إذا تمت أربعة أشهر قبل انقضاء عدتها وقعت تطليقة أخرى وكذلك الثالثة.
قال لأن معنى الإيلاء كلما مضت أربعة أشهر ولم أقربك فيهن فأنت طالق تطليقة بائنة ولو صرح بهذا كان الحكم ما بينا.
وفقهه أن انعقاد المدة من حكم بقاء اليمين هنا وابتداء اليمين لا ينعقد إيلاء بعد البينونة ولكنها تبقى بعد البينونة ألا ترى أنه لو تمت أربعة أشهر وهو مجنون ثم زوجها وليه منه انعقدت مدة الإيلاء وإن كان ابتداء اليمين من المجنون لا يصح.
وكان الكرخي رضي الله عنه يقول لا تنعقد المدة الثانية ما لم يتزوجها وهذا هو الأصح لأن في انعقاد المدة ابتداء لا بد من اعتبار معنى الإضرار وذلك لا يتقرر بعد البينونة ما لم يتزوجها لأنه لا حق لها في الجماع فلهذا لم تنعقد المدة ما لم يتزوجها.
قال  "ولو آلى من أمته أو أم ولده لا يكون موليا" لقوله تعالى:
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: من الآية226] وهذه ليست من نسائه ولأن الإيلاء طلاق مؤجل والمملوكة ليست بمحل للطلاق ولأن حكم الإيلاء منع القربان المستحق، والأمة لا تستحق ذلك على المولى وكذلك لو آلى من أجنبية فهو باطل لهذه المعاني بخلاف ما لو قال إن تزوجتك فوالله لا أقربك فتزوجها كان موليا لأنه علق الإيلاء بالتزوج والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز وإن حلف لا يقرب امرأته إلا في أرض كذا وبينه وبين تلك الأرض أربعة أشهر فهو مول لأنه لا يملك قربانها في المدة إلا بحنث يلزمه فإن المستثني مكان لا يصل إليه في المدة فلهذا كان موليا.
قال  "ولو آلى من امرأته وهو في سجن أو حبس لم يكن له فيء إلا الجماع" لأنه إن كان لا يقدر أن يخرج إليها فهي تقدر على أن تدخل إليه ليجامعها فإن السجن موضع للمجامعة ومع القدرة على الأصل لا عبرة للبدل.
قال  وإن أصاب المولى من امرأته ما دون الجماع في الفرج لم يكن ذلك فيئا لأن حقها في الجماع في الفرج فلا يتأدى بما دونه والفيء ما فيه إيفاء حقها وإن ادعى أنه قد جامعها، فإن ادعى في الأربعة الأشهر فالقول قوله. وإن ادعى ذلك بعد مضى المدة لم يقبل قوله بناء على الأصل المعروف أنه متى أقر بما يملك انشاءه لا يكون متهما. فلو أقام شاهدين على

 

ج / 7 ص -30-         مقالته في الأربعة الأشهر أنه قد جامعها فهي امرأته، لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وهي من أعجب المسائل أن لا يقبل إقراره بعد مضى المدة ثم يتمكن من اثباته بالبينة وكذلك إن صدقته المرأة فالحق لهما لا يعد وهما غير أنه لا يسعها أن تقيم معه إذا كانت تعلم كذبه لأن القاضي لو علم بذلك فرق بينهما فإذا علمت هي عليها أن تمنع نفسها منه بأن تهرب أو تفتدي بمالها إلا أن يتزوجها نكاحا جديدا.
قال ولو آلى منها بعد ما طلقها تطليقة رجعية فهو مول" لأن جماعها له حلال فإن انقضت العدة سقط حكم الإيلاء لخروجها من أن تكون محلا لطلاقه فإذا تزوجها يستقبل مدة الإيلاء من حين تزوجها وقد بيناه.
قال وإذا آلى الرجل ثلاث مرات في مجلس واحد فإن كان مراده تكرار يمين واحدة فعليه كفارة واحدة إذا قربها ولا يقع بمضي المدة إلا تطليقة واحدة إن لم يقربها" لأن الكلام لواحد قد يكرر ولا يراد حكمه بالتكرار وإن كان مراده التغليظ والتجديد فإن قربها فعليه ثلاث كفارات لأن معنى التغليظ تجدد عقد اليمين فكان حالفا بثلاثة أيمان، وبالقربان مرة يتم شرط الحنث في الأيمان كلها وإن لم يقربها حتى مضت المدة ففي القياس تطلق ثلاثا يتبع بعضها بعضا وهو قول محمد وزفر رحمهما الله تعالى حتى إذا لم يدخل بها لا يقع إلا واحدة وفي الاستحسان وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى تبين بتطليقة واحدة سواء دخل بها أو لم يدخل بها.
وجه القياس أن ابتداء مدة الإيلاء من الوقت المتصل بعقد اليمين وفي الإيلاء المعتبر أول المدة فقد انعقدت باعتبار كل يمين مدة فيقع عند تمام كل مدة تطليقة حتى تبين بثلاث تطليقات كما لو كانت الأيمان في مجالس مختلفة، وهذا لأنه يتأخر انعقاد المدة بعد اليمين إلى حال افتراقهما بدليل أنه لو حلف بيمين واحدة ثم بقيا في المجلس يوما أو أكثر فتمت المدة من حين حلف بانت بتطليقة فعرفنا أن المجلس والمجالس في هذا الحكم سواء كما في حكم الحنث وهو الكفارة.
ووجه الاستحسان أن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة ويجعلها كالموجود جملة بدليل القبول مع الإيجاب إذا وجدا في المجلس يجعل كأنهما وجدا معا، وكذلك المرأة لو قالت لزوجها طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة وواحدة و واحدة في مجلس واحد جعل كأنه أوقع الثلاث جملة حتى يستحق جميع الألف فإذا ثبت هذا قلنا حالة المجلس كحالة واحدة ولا ينعقد في حالة واحدة إلا مدة واحدة في حكم الطلاق وإن تعددت الأيمان كما لو قال إذا جاء غد فوالله لا أقربك ثم قال ذلك ثانيا وثالثا ثم جاء الغد تنعقد ثلاثة أيمان في حكم الكفارة ومدة واحدة في حكم الطلاق وبهذا تبين أن أحد الحكمين غير معتبر بالآخر.
وعلى عكس هذا لو قال كلما دخلت الدار فوالله لا أقربك فدخل الدار ثلاث مرات في

 

ج / 7 ص -31-         ثلاثة أيام تنعقد ثلاث إيلاءات في حكم الطلاق ولو قربها لم يلزمه إلا كفارة واحدة وهذا بخلاف ما إذا كانت الأيمان في مجالس متفرقة لأنه لم يوجد هناك ما يجمع الأحوال فاعتبرنا كل حالة على حدة فانعقدت مدة جديدة لتجدد اليمين في كل حالة.
قال ولو قال لها: إن قربتك فعلى يمين أو على كفارة يمين فهو مول" لأن معنى قوله فعلى يمين كفارة يمين فإن موجب اليمين الكفارة عند الحنث فقد صارت بحيث لا يملك قربانها في المدة إلا بكفارة تلزمه.
قال وإيلاء الحرة أربعة أشهر تحت حر كانت أو تحت عبد" لقوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: من الآية226]  والذين يتناول الأحرار والعبيد. وإيلاء الأمة شهران عندنا وعلى قول الشافعي أربعة أشهر لظاهر الآية وهو بناء على أصله أن المدة فسحة للزوج لا عليه فلا يتغير ذلك برقها ولا بحريتها ولكنا نقول مدة الإيلاء مذكورة في القرآن بلفظ التربص وهو مختص بالنكاح فيتنصف بالرق كمدة العدة وفي العدة معنى الفسحة للزوج خصوصا من عدة في طلاق رجعي ثم تنصف برقها.
قال  والمريض الذي يهذي في الإيلاء كالنائم" لأنه بمنزلة المغمى عليه في هذه الحالة.
قال  وإيلاء الأخرس جائز" لما بينا أن الكنية والإشارة منه إذا كانت تعرف بمنزلة عبارة الناطق.
قال  وإن قال: إن قربتك فأنت علي كظهر أمي فهو مول" لأنه لا يملك قربانها في المدة إلا بظهار يلزمه، وكذلك إن قال إن قربتك فأنت علي حرام وهو ينوى الطلاق بذلك فهو مول لأنه لا يملك قربانها في المدة إلا بطلاق يلزمه، وإن كان ينوى اليمين فهو مول أيضا في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يكون موليا في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ما لم يقر بها لأن قوله: أنت علي حرام، عند إرادة اليمين بمنزلة قوله والله لا أقربك حتى لو أرسله كان به موليا في الحال فإذا علقه بالقربان لا يصير به موليا إلا بعد القربان كما لو قال إن قربتك فوالله لا أقربك وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول صار ممنوعا عن قربانها في المدة حين علق بالقربان حرمتها عليه فيكون موليا في الحال، كما لو قال إن قربتك فأنت علي كظهر أمي لأن الظهار موجبه التحريم إلى وقت الكفارة ولو قال لها أنت علي كالميتة أو كالدم يعني التحريم فهو مول لأنه شبهها بمحرمة العين فهو بمنزلة قوله أنت علي حرام.
قال  "ولو قال أنت علي كامرأة فلان وقد كان فلان آلى من امرأته ينوي الإيلاء كان موليا" لأنه شبهها بامرأة فلان وقد يكون التشبيه في وصف خاص فإذا نوى التحريم أو الإيلاء فقد نوى ما يحتمله كلامه فيكون موليا وإن لم ينو ذلك فليس بشيء.
قال وإن آلى من امرأته ثم قال لامرأة له أخرى قد أشركتك في إيلاء هذه كان باطلا" لأن الإشراك يغير حكم يمينه.

 

ج / 7 ص -32-         فإن قبل الإشراك كان يحنث بقربان الأولى وبعد الإشراك لا يحنث بقربان الأولى ما لم يقربهما كما لو قال والله لا أقربكما وهو لا يملك تغيير حكم اليمين مع بقائه ولو صح منه هذا الإشراك لكان يشرك أجنبية مع امرأته ثم يقرب امرأته بعد ذلك فلا يلزمه شيء وبهذا فارق الظهار لأن اشراك الثانية لا يغير حكم الظهار في الأولى وكذلك لو قال: في الإيلاء للمرأة الثانية أنت علي مثل هذه ينوي الإيلاء فيها فبهذا لا يتغير حكم الإيلاء في حق الأولى ويصح منه عقد الإيلاء في حق الثانية بهذا اللفظ.
قال وإذا آلى من امرأته وهي أمة ثم أعتقت قبل انقضاء شهرين لم تطلق حتى تستكمل أربعة أشهر من حين آلى" لأن مدة الإيلاء نظير مدة العدة من طلاق رجعي من حيث أن ملك النكاح لا يرتفع مع بقائها والمعتقة بعد الطلاق هناك قبل انقضاء العدة بمنزلة الحرة عند الطلاق وكذلك هنا وهذا لأن ملك النكاح تم عليها لما تم حلها بالعتق ولا يزول الملك التام إلا بمدة تامة.
قال  "ولو طلقها زوجها في الشهرين تطليقة بائنة ثم أعتقت فيهما كانت عدتها للطلاق عدة الأمة" لأنها إنما أعتقت بعد البينونة ومدة إيلائها مدة الحرة لأنها أعتقت قبل تمام مدة الإيلاء فكان في حكم الإيلاء هذا، وما لو كانت حرة حين آلى منها سواء وقد طعن بعضهم في الجواب فقالوا لم يتم ملكه عليها بهذا العتق لأنها عتقت بعد البينونة فينبغي أن تكون مدة إيلائها شهرين كما في حكم العدة.
ولكنا نقول الطلاق الواقع ليس من حكم الإيلاء في شيء فالبائن والرجعي فيه سواء ولو كان رجعيا صارت مدة إيلائها بالعتق أربعة أشهر بالنص، فكذلك إذا كانت بائنة بخلاف العدة لأنها تعقب الطلاق فيعتبر فيها صفة الطلاق ولأن في زيادة مدة العدة بالعتق إضرارا بها لأنها تمنع من الأزواج في العدة وليس في زيادة مدة الإيلاء بالعتق إضرار بها فلهذا كان المعتبر حصول العتق مع بقاء المدة.
قال وإن حلف لا يقرب امرأته وامرأة أجنبية معها حرة أو أمة لم يكن موليا من امرأته لأنه يملك قربانها من غير أن يلزمه شيء وهو ليس بمول في حق الأجنبية فلا يعتبر قربان الأجنبية في حكم الإيلاء من امرأته. وإن اعتبر حال امرأته وحدها وهو يملك قربانها من غير أن يلزمه شيء لم يكن موليا منها بخلاف ما لو قال لامرأتين له لا أقربكما لأنهما مستويتان في حكم الإيلاء هناك فيجعلان كشخص واحد لا يملك قربانهما إلا بكفارة تلزمه فكان موليا منهما بقول فإن جامع الأجنبية صار موليا من امرأته من الساعة التي جامع فيها تلك لأنه صار بحال لا يملك قربانها إلا بكفارة تلزمه فيتحقق معنى الإضرار والتعنت في حقها الآن فيكون موليا منها وهو بمنزلة ما لو قال والله لا أقربك إذا أتيت مكان كذا لا يكون موليا ما لم يأت ذلك المكان أو هو بمنزلة ما لو قال لامرأته والله لا أقربك إذا جامعت هذه الأجنبية فإذا جامعها كان موليا من امرأته.

 

ج / 7 ص -33-         قال وإن آلى من امرأته ثم ارتدت ولحقت بدار الحرب ثم سبيت فأسلمت ثم تزوجها فهو مول منها إن مضى شهران من يوم تزوجها بانت بالإيلاء لأن اليمين لا يبطل بلحاقها فإن شرط الحنث منتظر بعد. وأصل كلامه كان إيلاء صحيحا فإذا تزوجها مع بقاء تلك اليمين كان موليا منها حين تزوجها وإنما انعقدت المدة الثانية وهي أمة ومدة إيلاء الأمة شهران.
قال  "وإن آلى من امرأته وهي أمة ثم اشتراها سقط الإيلاء" لأنها صارت بحيث لا يقع طلاقه عليها، وموجب المدة المنعقدة وقوع الطلاق عند مضيها فإذا خرجت من أن تكون محلا لذلك سقط حكم تلك المدة كما لو أبانها وانقضت عدتها فإن باعها أو أعتقها ثم تزوجها فهو مول منها لأنها صارت بحال لا يقع طلاقه عليها، واليمين باقية فتنعقد المدة من حين تزوجها، وكذلك الحرة إذا اشترت زوجها فهذا والأول سواء لأن عصمة النكاح تنقطع بالملك من الجانبين على وجه لا يقع طلاقه عليها فإنها إنما تكون محلا لطلاقه باعتبار ملك اليد له عليها، وملك اليمين كما ينافي أصل ملك النكاح ينافي ملك اليد الثابت بالنكاح ولهذا لا تستوجب عليه النفقة والسكنى في عدتها.
قال وإذا حلف العبد بالعتق أو الصدقة أن لا يقرب امرأته لا يكون موليا لأنه يملك قربانها من غير أن يلزمه شيء فإنه لا عتق فيما لا يملكه  ابن آدم ومراده من الصدقة أن يلتزم الصدقة بمال بعينه وهو لا يملك ذلك المال فيكون التزامه التصدق به لغوا.
قال وإن حلف بحج أو صوم أو طلاق أو ما أشبه ذلك كان موليا" لأن التزام هذه الأشياء صحيح منه كما يصح من الحر. فإذا علقها بالقربان فهو لا يملك قربانها في المدة إلا بشيء يلزمه وعلى هذا لو علق بالقربان التزام الصدقة في ذمته.
قال  وإذا حلف الذمي أن لا يقرب امرأته فهو على ثلاثة أوجه في وجه يكون موليا بالاتفاق وهو ما إذا حلف بطلاق أو عتاق لأن العتق والطلاق يصح منه، كما يصح من المسلم وفي وجه لا يكون موليا بالإتفاق وهو ما إذا حلف بحج أو صوم أو صدقة لأن التزام هذه الأشياء منه لا يصح لأنها قربة وطاعة، وما فيه من الشرك يخرجه من أن يكون أهلا لذلك وقع في بعض الكتب عن الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن الإيلاء منه بالحج صحيح في حكم الطلاق وإن لم يصح في حكم التزام الحج لأن أحد الحكمين ينفصل عن الآخر عنده كما في اليمين بالله تعالى ولا يعتمد على هذه الرواية، فأما إيلاؤه في اليمين بالله تعالى ينعقد في حكم الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى لو تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء ولو قربها لم تلزمه الكفارة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هذا بمنزلة القسم الثاني لأنه يملك قربانها في المدة من غير أن يلزمه شيء فلا يتحقق معنى الإيلاء وهو قصد الإضرار بمنع حقها في الجماع، وهذا لأن حرمة اليمين بالله تعالى لوجوب تعظيم المقسم به ومع الشرك لا يتحقق منه هذا التعظيم، كما لا يتحقق منه هذا الالتزام التزام الحج والصوم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: إنه من أهل اليمين بالله تعالى فإن فيها ذكر

 

ج / 7 ص -34-         اسم الله تعالى على سبيل التعظيم وذلك صحيح معتبر من الذمي حتى تحل ذبيحة الكتابي إذا ذكر اسم الله تعالى وكذلك يستحلف في المظالم والخصومات بالله تعالى وقد جعل الله تعالى للكفار أيمانا بقوله تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: من الآية13] "وقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة: من الآية12] وإذا ثبت أنه من أهل اليمين صار هو بحيث لا يملك قربانها إلا بحنث يلزمه فيكون موليا ثم يترتب على هذا الحنث وجوب الكفارة وهو ليس من أهلها ولكن حكم الطلاق ينفصل عن حكم الكفارة في الإيلاء كما لو قال لأربع نسوة له لا أقربكن يكون موليا من كل واحدة منهن وإن كان لو قرب ثلاثا منهن لا يلزمه شيء ولأن لهذة اليمين حكمين أحدهما الطلاق وهو من أهله، والآخر الكفارة وهو ليس من أهلها وكل واحد من الحكمين مقصود بهذه اليمين فامتناع ثبوت أحد الحكمين لانعدام الأهلية لا يمنع ثبوت الحكم الثاني مع وجود الأهلية.
قال وإذا حلف الرجل بعتق عبده لا يقرب امرأته فهو مول" إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى فإنه يقول يملك قربانها في المدة من غير أن يلزمه شيء بأن يبيع عبده.
وفي ظاهر الرواية هو لا يملك قربانها إلا بعتق يلزمه فيكون موليا ولا يعتبر تمكنه من البيع لأن البيع لا يتم به وحده وربما لا يجد مشتريا يشتريه منه، فإن باع العبد سقط عنه الإيلاء لأنه صار بحال يملك قربانها من غير أن يلزمه شيء فإن اشتراه لزمه الإيلاء من وقت الشراء لأن المدة الأولى قد بطلت فيستأنف المدة من وقت الشراء لأنه صار بحال لا يملك قربانها إلا بعتق يلزمه ولو كان جامعها بعد ما باعه ثم اشتراه لم يكن موليا لأن اليمين قد سقطت بوجود شرط الحنث بعد بيع العبد فهو يملك قربانها بعد ذلك من غير أن يلزمه شيء وإذا مات العبد قبل أن يبيعه سقط الإيلاء لأنه يتمكن من قربانها بعد موت العبد من غير أن يلزمه شيء، وكذلك لو حلف على إيلاء هذه بطلاق أخرى ثم ماتت تلك أو طلقها ثلاثا لم يكن موليا من هذه أيضا إلا على قول زفر لأن يمينه على تطليقات ذلك الملك ولم يبق شيء منها بعد إيقاع الثلاث وكذلك لو طلق هذه التي آلى منها ثلاثا سقط الإيلاء لأن إيلاءه في حكم الطلاق باعتبار التطليقات المملوكة ولم يبق منها شيء بعد إيقاع الثلاث ولو لم يطلقها ولكنه جامعها طلقت الأخرى لوجود شرط الوقوع عليها وارتفعت اليمين فإن تزوجها بعد ذلك لم يعد الإيلاء، وإن لم يجامعها ولكنه طلق الأخرى وانقضت عدتها سقط الإيلاء عن هذه لأنه صار بحيث يتمكن من قربانها من غير أن يلزمه شيء وهذا وبيعه العبد سواء على ما بينا.
قال  "وإذا حلف لا يقرب امرأته حتى يموت هو أو تموت هي فهو مول" لأنه لا يملك قربانها في المدة إلا بحنث يلزمه وبعد موت أحدهما لا يبقي النكاح فهذا بمنزلة قوله لا أقربك ما دمت في نكاحي ويتم بهذا منع حقها في القربان بخلاف ما لو قال لا أقربك حتى يموت فلان لأن موت فلان لا يمنع بقاء النكاح بينهما وهو موهوم في المدة فيتوهم أن يقربها

 

ج / 7 ص -35-         في المدة من غير أن يلزمه شيء بعد موت فلان فلهذا لا يكون موليا وقد بينا القياس والاستحسان في قوله حتى يخرج الدجال أو حتى تطلع الشمس من مغربها.
وإن قال حتى القيامة فهو مول قياسا واستحسانا وهذا وقوله أبدا سواء لأنه لا تصور لبقاء النكاح بينهما بعد وجود ما جعله غاية بخلاف خروج الدجال على طريقة القياس.
قال  "ولو حلف لا يقربها حتى تفطم صبيا لها وبينه وبين الفطام أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا" لأنه يتحقق منه أن يقربها بعد الفطام في المدة من غير أن يلزمه شيء.
ولما كان ما جعله غاية ليمينه يوجد قبل تمام أربعة أشهر كانت هذه اليمين بمنزلة اليمين على القربان في أقل من الأربعة الأشهر لأن بعد وجود الغاية لا يبقى اليمين وإن كان بينه وبين الفطام أربعة أشهر أو أكثر وهو ينوي ذلك الفطام لا ينوي دونه فهو مول لأن يمينه انعقدت موجبة للمنع من القربان في المدة ولو مات الصبي قبل أن يمضي أربعة أشهر سقط الإيلاء لفوات ما جعله غاية ليمينه لأن اليمين لا يبقى بعد فوات الغاية إلا في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وهي مسألة كتاب الأيمان وكذلك لو حلف لا يقربها حتى يأذن له فلان فمات فلان في الأربعة الأشهر بطلت اليمين لفوات الغاية ولو بقي فلان أربعة أشهر ولم يكن قربها لم يكن موليا أيضا لأنه كان يتمكن من قربانها إذا أذن له فلان من غير أن يلزمه شيء.
وفي الكتاب قال ينبغي في القياس أن لا يكون موليا ولم يذكر شيئا سوى هذا فليس مراده أن هذا استحسان بخلاف القياس وإنما مراده قياس ما تقدم من الفصول.
قال  "ولو قال إن قربتك فكل مملوك أملكه فيما استقبل فهو حر فهو مول في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى" وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يكون موليا لأنه لا يلزمه بالقربان شيء وهو يتمكن من أن لا يتملك مملوكا بعده وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا لا يتمكن من قربانها إلا بيمين بالعتق يلزمه فيكون موليا، كما لو قال إن قربتك فهذا المدبر حر إن دخل الدار يكون موليا منها وهذا لأن الإنسان يكون ممتنعا من اليمين بالعتق كما يكون ممتنعا من موجب اليمين فيصير بهذا اللفظ مانعا حقها يوضحه أن الملك في المستقبل قد يحصل له من غير صنعه كالميراث ولا يتمكن من رده. ولو قال إن قربتك فعلى حجة بعد ما أقربك بسنة أو قبل أن أقربك بيوم فهو مول لأنه لا يتمكن من قربانها إلا بحجة تلزمه في الوجهين جميعا.
قال وإذا قال إن قربتك فعلى صوم هذا الشهر لم يكن موليا" لأن يمينه لا يتناول جميع المدة فإن بمضي المدة، يسقط اليمين ويصير بحيث يملك قربانها من غير أن يلزمه شيء لأن التزام الصوم مضافا إلى الزمان الماضي لا يصح، فيصير عند القربان كأنه قال على صوم أمس وذلك لغو. ولو قال إن قربتك فعلى طعام مسكين أو صوم يوم أو صدقة أو حج أو هدى فهو مول بالاتفاق وإن قال فعلي صلاة ركعتين فهو مول في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وهو قول محمد.

 

ج / 7 ص -36-         وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول أبي حنيفة لا يكون موليا وجه قول محمد أنه علق بالقربان التزام ما هو قربة فيكون موليا كما في الحج.
قال محمد في الأمالي ولا معنى لقول من يقول لا يتوصل إلى الحج إلا بمال ويتوصل إلى الصلاة بدون المال لأنه لو قال إن قربتك فلله علي صلاة ركعتين في بيت المقدس لم يكن موليا عندهما وهو لا يتوصل إلى ما التزم إلا بالمال.
ووجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى: أن بهذا اللفظ لا يتحقق منع القربان المستحق لأن الإنسان لا يكون ممتنعا من التزام صلاة ركعتين إذ لا يلحقه في أدائها مشقة ولا خسران في ماله بخلاف سائر القرب. توضيحه أنه إن علق بالقربان إطعام مسكين فهو موجب اليمين وكذلك الصدقة والصوم وكذلك الهدى والحج، فإنه لا يتوصل إلى أدائهما إلا بمال والتكفير بالمال موجب اليمين عند الحنث فهو كما لو علق اليمين بالقربان فأما الصلاة ليست بموجب اليمين وكذلك لو قال في بيت المقدس لأن المكان لا يتعين لأداء المنذور من الصلاة.
وإن قال: إن قربتك فعبدي فلان حر عن ظهاري وقد ظاهر أو لم يظاهر فهو مول لأنه لا يملك قربانها إلا بعتق يتنجز في العبد وتنجز العتق ليس بموجب للظهار. بخلاف ما لو قال إن قربتك فلله علي أن أعتق فلانا عن ظهاري وهو مظاهر فليس بمول لأنه علق بالقربان وجوب العتق عليه عن الظهار وهو واجب عليه قبل القربان فلا يكون ملتزما بالقربان شيئا والله أعلم.

باب اللعان
إعلم بأن موجب قذف الزوج زوجته كان هو الحد في الابتداء كما في الأجنبية ثبت بقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: من الآية4].
والدليل عليه ما روي أن  ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا جلوسا في المسجد ليلة الجمعة إذ دخل رجل أنصاري فقال يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن قتل قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ ثم قال اللهم افتح فنزلت آية اللعان وقال صلى الله عليه وسلم    لهلال بن أمية رضي الله عنه حين قذف امرأته بشريك بن سمحاء:
"ايت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فحد على ظهرك" وقالت الصحابة رضوان الله عليهم الآن يجلد هلال بن أمية رضي الله عنه فتبطل شهادته في المسلمين فثبت أن موجب القذف كان هو الحد ثم انتسخ ذلك باللعان في حق الزوجين واستقر الأمر على أن موجب قذف الزوج الزوجة اللعان بشرائط نذكرها.
 وعلى قول الشافعي موجبه الحد ولكنه يتمكن من اسقاط ذلك عن نفسه باللعان حتى لو امتنع الزوج من اللعان يقام عليه حد القذف وعندنا يحبس حتى يلاعن.

 

ج / 7 ص -37-         واستدل بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: من الآية4] ثم في آية اللعان بيان المخرج للزوج بأن تقام كلمات اللعان مقام أربعة من الشهداء لأن في كلمات اللعان لفظة الشهادة وهي شهادات مؤكدة بالأيمان مزكاة باللعن مؤكدة بالظاهر وهو أن الزوج لا يلوث الفراش على نفسه كاذبا.
ولهذا قلت بلعانه يجب حد الزنى عليها ثم تتمكن هي من إسقاط الحد عن نفسها بلعانها على أن يكون لعانها معارضا لحجة الزوج لأنها شهادات مؤكدة بالأيمان مزكاة بالتزام الغضب مؤيدة بالظاهر وهو أن المسلمة تمتنع من ارتكاب الحرام.
وفي كتاب الله تعالى اشارة إلى هذا فإنه قال: {
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: من الآية8] أي يسقط الحد الواجب بلعان الزوج.
"وحجتنا" في ذلك قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: من الآية6] فهذا يقتضي أن يكون المذكور في الآية جميع موجب قذف الزوجة وذلك ينفي أن يكون الحد موجب هذا القذف مع اللعان ولو وجب الحد عليه لم يسقط إلا بحجة وكلمات اللعان قذف أيضا، فكيف يصح أن يكون القذف مسقطا لموجب القذف فعرفنا أنه هو الموجب لما فيه من التزام اللعن وإذا امتنع منه يحبس حتى يلاعن لأن من امتنع من إيفاء حق مستحق عليه لا تجرى النيابة في إيفائه يحبس حتى يأتي به ولا يجب عليها حد بلعانه لأن شهادة المرء لنفسه لا تكون حجة في استحقاق ما يثبت مع الشبهات على الغير ابتداء فكيف تكون حجة في استحقاق ما يندرىءبالشبهات وهذا لأن الشهادات وإن تكررت من واحد ليس بخصم لا تتم الحجة بها فمن الخصم أولى. والعجب من الشافعي رحمه الله تعالى أنه يقول لو شهد الزوج مع ثلاثة نفر على زوجته بالزنى لا يجب الحد عليها فكيف يجب الحد بشهادته وحده ولكن اللعان مستحق عليها كما هو على الزوج فإذا امتنعت حبست. والمراد من قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: من الآية8] الحبس لا الحد. إذا عرفنا هذا فنقول من شرائط اللعان عندنا كون الزوجين من أهل الشهادة على الإطلاق.
وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه هذا ليس بشرط ولكن كل من كان من أهل الطلاق عنده فهو من أهل اللعان وهذا منه تناقض لأنه يجعل كلمات اللعان شهادات في وجوب الحد بها ثم لا يشترط الأهلية للشهادة، ولكن يقول: اللعان من كلام الزوج موجب للفرقة فيكون بمنزلة الطلاق. "وحجتنا" في ذلك ما بدأ به الباب فقال بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم    أنه قال:
"لا لعان بين أهل الكفر وأهل الإسلام ولا بين العبد وامرأته" وأهل الحديث يروون هذا بلفظ آخر. وقد ذكره صاحب المشافهات في تفسيره "أربعة لا لعان بينهم وبين نسائهم المسلم إذا كان تحته كافرة والكافر إذا كان تحته مسلمة والحر إذا كان تحته أمة والعبد إذا كان تحته حرة" فذلك تنصيص على اشتراط أهلية الشهادة فيهما وفي الآية إشارة إلى هذا فإنه قال" {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}

 

ج / 7 ص -38-         والمراد بالشهداء من يكون أهلا للشهادة مطلقا والمستثني من جنس المستثني منه وقال الله تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: من الآية6] وهذا شأن شهادة شرعية ولا يتحقق ذلك ممن ليس بأهل للشهادة.
ثم المسلم إذا كان تحته كافرة فهي ليست بمحصنة وكما أن قذف الأجنبية إذا لم تكن محصنة لا يوجب الحد فكذلك قذف الزوج زوجته إذا لم تكن محصنة لا يوجب اللعان، وكذلك الحر إذا كان تحته أمة،
فأما الكافر إذا كان تحته مسلمة بأن أسلمت امرأته فقذفها قبل أن يعرض عليه الإسلام فهو ليس من أهل الشهادة عليها وكذلك العبد إذا كان تحته حرة فلا يكون قذفه إياها موجبا للعان ولكنه يكون موجبا حد القذف لأن القذف بالزنى لا ينفك عن موجب، فإذا خرج من أن يكون موجبا للعان لمعنى في القاذف كان موجبا للحد، وكذلك المحدود في القذف إذا قذف امراته، لأن الدلالة قامت لنا على أن إقامة حد القذف عليه مبطل للحد لشهادته ومخرج له من أن يكون أهلا لأداء الشهادة، وكذلك إن كانت المرأة محدودة في قذف، فلا لعان بينهما لانعدام أهلية أداء الشهادة  في جانبها إلا أنه إذا كانت هي المحدودة في القذف فلا حد على الزوج، ولا لعان لأن قذفه باعتبار حاله موجب للعان، فلا يكون موجبا للحد. إذ لا يجمع بين موجبين،  ولكن امتنع جريان اللعان لمعنى من جهتها، فهو كما لو صدقت الزوخ بخلاف ما إذا كان الزوج هو المحدود لأن قذفه باعتبار حاله لم يكن موجبا للعان، فكان موجبا للحد إذ هي محصنة، ولو كانا محدودين في قذف فعليه الحد أيضا لأن قذفه باعتبار حاله غير موجب للعان،  فيكون موجبا للحد. ولا يجوز أن يقال امتناع جريان اللعان هنا لكونهما محدودة لأن أصل القذف يكون من الرجل، وإنما يظهر حكم المانع في جانبها بعد قيام الأهلية في جانب الرجل. فأما بدون الألية في جانب لا معتبر بحالها، وكذلك العبد يقذف الحرة المحدودة تحته، لأنها محصنة. وإن قذف العبد امرأته وهي مملوكة أو مكاتبة فلا حد عليه، ولا لعان لأنها ليست محصنة، وكذلك الحر يقذف امرأته وهي أمة، أو مدبرة أو أم ولد، أو مكاتبة، أو مستسعاة في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنها بمنزلة المكاتبة فلا تكون محصنة مع قيام الرق، ولكنه يعذر لذلك أوساطا لن قذف المملوك يوجب التعزيز لمعنى هتك الستر، ,إشاعة الفاحشة. والعبد إذا قذف امرأته الحرة المسلمة فعليه الحد لأن قذفه باعتبار حاله غير موجب للعان فيلزم الحد لكونها محصنة.
 قال إذا قذف الأعمى امرأته وهي عمياء والفاسق قذف امرأته فعليهما اللعان" لأن الفاسق من أهل الشهادة ولكن لا تقبل شهادته لعدم ظهور رجحان جانب الصدق.
 ولهذا أمر الله تعالى بالتثبت في خبره والتثبت غير الرد بخلاف المحدود في القذف فإنه محكوم ببطلان شهادته كما قالت الصحابة رضوان الله عليهم فتبطل شهادته في المسلمين.
 والدليل عليه أن الفاسق إذا شهد في حادثة فرد القاضي شهادته ثم أعادها بعد التوبة لم تقبل، ولو لم يكن المردود شهادة لكانت مقبولة بعد التوبة. وكذلك الأعمى من أهل الشهادة

 

ج / 7 ص -39-         إلا أنه لا تقبل شهادته لنقصان في ذاته، وهو أنه لا يميز بين المشهود له والمشهود عليه إلا بالصوت، والنغمة ولأن شهادته جائزة في قول بعض الفقهاء يعني: إذا تحمل وهو بصير ثم أدى بعد العمي تقبل شهادته عند أبي يوسف رحمه الله تعالى فإذا كان من أهل الشهادة كان من أهل اللعان أيضا قال  "وإذا قذف امرأته وقد زنت فلا حد عليه ولا لعان" لأنها ليست بمحصنة وهو صادق فيما رماها به من الزنى وكذلك إن وطئت وطئا حراما يريد به الوطء بشبهة.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال يلاعنها وهو قول  ابن أبي ليلى لأن هذا الوطء مثبت للنسب موجب للعدة والمهر فلا يسقط به الإحصان كوطء المنكوحة في حالة الحيض ولكنا نقول وطء غير مملوك فيكون في معنى الزنى فيسقط به الإحصان ولكن لا يجب به الحد للشبهة والشبهة تصلح لإسقاط الحد لا لإيجابه فلو أوجبنا على قاذفها الحد واللعان كان فيه إيجاب الحد بالشبهة وبهذا فارق حكم النسب والعدة لأنه يثبت مع الشبهة.
قال  "وإذا قذفها وهي صغيرة أو هو صغير فلا حد ولا لعان" أما الصبي فقوله هدر فيما يتعلق به اللزوم والصغيرة ليست بمحصنة وكذلك إن كان أحدهما مجنونا أو معتوها وكذلك إن كان أحدهما أخرس. أما إذا كان الزوج هو الأخرس فقذفه لا يوجب الحد ولا اللعان عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى، يوجب لأن إشارة الأخرس كعبارة الناطق. ولكنا نقول لا بد من التصريح بلفظ الزنى ليكون قذفا موجبا للحد أو اللعان ولا يتأتي هذا التصريح في إشارة الأخرس فإن إشارته دون عبارة الناطق بالكتابة ولأنه لا بد من لفظ الشهادة في اللعان حتى أن الناطق لو قال أحلف مكان قوله أشهد لا يكون صحيحا.
وبعض أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى يرتكبون هذا ولكنه مخالف للنص فإذا ثبت أنه لا بد من لفظ الشهادة وذلك لا يتحقق بإشارة الأخرس وكذلك إن كانت هي خرساء لأن قذف الخرساء لا يوجب الحد على الأجنبي لجواز أن تصدقه لو كانت تنطق ولا تقدر على إظهار هذا التصديق بإشارتها وإقامة الحد مع الشبهة لا يجوز.
قال  "وإذا قذف الحر المسلم امرأته الحرة المسلمة بالزنى فإن كفت عن مرافعته فهي امرأته" لأن حقيقة زناها لا ينافي بقاء النكاح بينهما فالنسب إلى الزنى أولى. واللعان هنا كالحد في قذف الأجانب وذلك لا يستوفي إلا بطلب المقذوف فهذا مثله. وإن دفعته بدأ الإمام بالرجل فأمره أن يلاعن كما قال الله تعالى في كتابه يقوم فيشهد:
{أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: من الآية6] فيما رماها به من الزنى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] فيما رماها به من الزنى ثم تقوم المرأة فتشهد: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين} [النور: من الآية6] فيما رماها به من الزنى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9] فيما رماها به من الزنى. أما قيامهما ليس بشرط، فسره الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال لا يضره اللعان قائما أو قاعدا لأن اللعان شهادة، أو يمين فالقائم، والقاعد فيه سواء.

 

ج / 7 ص -40-         وذكر في النوادر عن الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا بد أن يقول إني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنى وهي تقول أنت من الكاذبين فيما رميتني به من الزنى لأنه إذا ذكر بلفظة الغائبة يتمكن فيه شبهة واحتمال فلا بد من لفظ الخطاب.
وفي ظاهر الرواية لم يعتبر هذا لأن كل واحد منهما يشير إلى صاحبه والإشارة أبلغ أسباب التعريف فإذا فرغا من اللعان فرق الإمام بينهما لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم     لما لاعن بين العجلاني وامرأته فقال العجلاني كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم     بأن يفارقها فكانت سنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما. ثم الفرقة لا تقع عندنا إلا بتفريق القاضي. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه تقع بنفس لعان الزوج.
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يقع الفرقة بلعانهما. فالشافعي رحمه الله تعالى يقول: سبب هذه الفرقة قول من الزوج مختص بالنكاح الصحيح فيتم به كالطلاق.
وزفر رحمه الله تعالى يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم
"المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" فنفي الاجتماع بعد التلاعن تنصيص على وقوع الفرقة بينهما.
ولكنا نستدل بالحديث الذي روينا فإن العجلاني رضي الله تعالى عنه أوقع الثلاث عليها بعد التلاعن ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم    ولو وقعت الفرقة بينهما لأنكر عليه. فإن قيل قد أنكر عليه بقوله اذهب فلا سبيل لك عليها.
قلنا:  ذاك منصرف إلى طلبه رد المهر فإنه روى أنه قال:
"أن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها وإن كنت كاذبا فابعد اذهب فلا سبيل لك عليها" ولأن الراوي قال: فذلك السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما فدل أنه لا تقع الفرقة إلا بالتفريق وكان التفريق هنا بمنزلة فسخ البيع بسبب التحالف عند الاختلاف في الثمن ثم هناك لا ينفسخ البيع ما لم يفسخ القاضي فكذلك هنا، وهذا لأن مجرد اللعان غير موضوع للفرقة، ولا هو مناف للنكاح إلا أن الفرقة بينهما لقطع المنازعة والخصومة وفوات المقصود بالنكاح مع إصرارهما على كلامهما فلا يتم إلا بقضاء القاضي فأما قوله صلى الله عليه وسلم : "المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" حقيقة هذا اللفظ حال تشاغلهما باللعان كالمتقاتلين والمتضاربين.
فزفر رحمه الله تعالى يوافقنا أن في حال تشاغلهما باللعان لا تقع الفرقة بينهما. ثم ذكر عن إبراهيم رضي الله تعالى عنه قال اللعان تطليقة بائنة وإذا أكذب الملاعن عن نفسه جلد الحد وكان خاطبا من الخطاب وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فقالا: الفرقة باللعان تكون فرقة بالطلاق وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تكون فرقة بغير طلاق بناء على أن عند أبي يوسف يثبت باللعان الحرمة المؤبدة بينهما وهو قول الشافعي رضي الله عنه وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا تتأبد الحرمة بسبب اللعان.

 

ج / 7 ص -41-         حجتهما في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم  : " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" وهكذا نقل عن عمر وعلي و ابن مسعود رضي الله عنهم.
والمعنى فيه أن سبب هذه الفرقة يشترك فيه الزوجان. والطلاق يختص به الزوج فما يشترك الزوجان فيه لا يكون طلاقا ومثل هذا السبب متى كان موجبا للحرمة كانت مؤبدة كالحرمة بالرضاع توضيحه أن ثبوت الحرمة هنا باللعان نظير حرمة قبول الشهادة بعد الحد في قذف الأجنبي وذلك يتأبد فكذلك هنا. وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن الثابت بالنص اللعان بين الزوجين فلو أثبتنا به الحرمة المؤبدة كان زيادة على النص, وذلك لا يجوز خصوصا فيما كان طريقه طريق العقوبات ثم هذه فرقة تختص بمجلس الحكم ولا يتقرر سببه إلا في نكاح صحيح فيكون فرقة بطلاق كالفرقة بسبب الجب والعنة وهذا لأن باللعان يفوت الإمساك بالمعروف فيتعين التسريح بالإحسان فإذا امتنع منه ناب القاضي منابه فيكون فعل القاضي كفعل الزوج وإذا ثبت أنه طلاق والحرمة بسبب الطلاق لا تتأبد فأما الحديث فقد بينا أن حقيقة المتلاعنين حال تشاغلهما باللعان ومن حيث المجاز إنما يسميان متلاعنين ما بقي اللعان بينهما حكما.
وعندنا لايجتمعان ما بقي اللعان بينهما حكما وإنما تجوز المناكحة بينهما إذا لم يبق اللعان بينهما حكما لأنه إذا أكذب نفسه يقام عليه الحد لإقراره على نفسه بالتزام الحد ومن ضرورة إقامة الحد عليه بطلان اللعان ولا يبقى أهلا للعان بعد إقامة الحد وكذلك إن أقرت المرأة بالزنى فقد خرجت من أن تكون أهلا للعان وكذلك إن قذفت رجلا فأقيم عليها الحد فعرفنا أن حل المناكحة بينهما بعد ما بطل حكم للعان فلا يكون في هذا إثبات الاجتماع بين المتلاعنين.
قال  "وإذا أنكر الزوج القذف فأقامت المرأة به البينة عليه وجب اللعان بينهما" وعلى قول  ابن أبي ليلى يلاعن ويحد أما اللعان فلأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم ثم قال  ابن أبي ليلى إنكاره بمنزلة إكذابه نفسه فيقام عليه الحد ولكنا نقول إنكاره نفي القذف وإكذابه نفسه تقرير القذف فكيف يستقيم إقامة إنكاره مقام إكذابه نفسه فلهذا لا يحد.
قال  "وإذا نفى الرجل حبل امرأته فقال هو من زنا فلا لعان بينهما ولا حد قبل الوضع في قول علمائنا" وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلاعنها لحديث هلال بن أمية رضي الله عنه فإنه قذف امرأته بنفي الحمل وقد لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم    بينهما، ولأن الحبل يعرف وجوده بالظاهر ويتعلق به أحكام شرعا نحو الرد بالعيب والميراث والوصية به وله فكذلك يثبت حكم اللعان بنفيه.
"وحجتنا" ما قال في الكتاب أن نفي الحبل ليس بشيء لأنه لا يدري لعله ريح واللعان في قذف الزوج زوجته بمنزلة الحد في قذف الأجنبية فلا يجوز إقامته مع الشبهة بخلاف حكم الرد بالعيب فإنه يثبت مع الشبهات والإرث والوصية تتوقف على انفصال الولد ولا تتقرر في

 

ج / 7 ص -42-         الحال. فأما الحديث من أصحابنا من قال أنه قذفها بالزنى نصا فإنه قال وجدت شريك بن سمحاء على بطنها يزني بها ثم نفى الحبل بعد ذلك.
وعندنا إذا قذفها بالزنى نصا يلاعنها على أن النبي صلى الله عليه وسلم    عرف من طريق الوحي أنها حبلى حتى قال:
"إن جاءت به أحيمر على نعت كذا فهو لهلال بن أمية رضي الله عنه وإن جاءت به أسود جعدا حماليا فهو لشريك" فجاءت به على النعت المكروه فقال صلى الله عليه وسلم   : "لولا الأيمان التي سبقت لكان لي ولها شأن" ومثل هذا لا يعرف إلا بطريق الوحي ولا يتحقق مثله في زماننا.
ثم عند أبي حنيفة إذا جاءت بالولد يثبت نسبه من الزوج ولا يجرى اللعان بينهما بذلك النفي وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ نفي فكذلك وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر لاعن ولزم الولد أمه لأنا تيقنا أن الحبل كان موجودا حين نفاه عن نفسه فكان هذا ونفيه بعد الولادة سواء والدليل عليه حكم الوصية والميراث فإنه يثبت إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر لتيقننا أنه كان موجودا وقت السبب.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أصل هذا القذف لم يكن موجبا للعان فلا يصير موجبا بعد ذلك لأنه حينئذ يكون هذا في معنى قذف مضاف والقذف لا يحتمل الإضافة ولا التعليق بالشرط. وبه فارق الوصية والميراث لأنه يمكن إثباته على سبيل التوقف والإضافة إلى ما بعد الانفصال يقرره أنه لو لاعنها قبل الوضع كما قال الشافعي يحكم على الحبل بقطع نسبه من الزوج إذ النسب من حق الولد وإلزام الحكم على الحمل لا يجوز فإذا تعذر نفي النسب عند النفي لا يصير محتملا للنفي بعد ذلك، ولو لاعنها بعد الوضع لنفي النسب عنه وذلك لايجوز وإذا تعذر نفي النسب يتعذر اللعان كما لو ولدت ولدا ميتا. وإذا لاعنها بغير ولد فلها النفقة والسكني في العدة، لأن وقوع الفرقة بسبب من جهة الزوج ولهذا كان طلاقا فإذا جاءت بولد ما بينها وبين سنتين لزمه الولد لأنها جاءت به لمدة يتوهم أن العلوق في حال قيام النكاح وإن لم يكن عليها عدة لزمه الولد ما بينه وبين ستة أشهر كما لو وقعت الفرقة بينهما بسبب آخر ولو نفي هذا الولد لم يجر اللعان بينهما عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يجري اللعان بينهما لأن الأصل عنده أن اللعان يجري لنفي الولد مقصودا. ولهذا قال في النكاح الفاسد إذا دخل بها الزوج ثم جاءت بولد فنفاه يجري اللعان بينهما لنفي الولد مقصودا وهذا لأنه محتاج إلى أن ينفي عن نفسه نسبا ليس منه واللعان مشروع لحاجته فأما عندنا حكم اللعان ثبت بالنص في الزوجات قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: من الآية6] ولا زوجية في النكاح الفاسد ولا بعد البينونة ولأنه لو جرى اللعان بينهما إنما يجري لنفي الولد وقد حكم الشرع بثبوت نسب الولد منه حين أوجب المهر والعدة بالنكاح الفاسد وبعد الحكم بثبوت النسب لا يتصور نفيه توضيحه أن نفي النسب تبع لقطع الزوجية والتفريق بينهما وقيام التبع بالمتبوع فإذا تعذر الحكم عليه بقطع الزوجية يمتنع جريان اللعان بينهما

 

ج / 7 ص -43-         قال  "وإذا لاعنها بولد ثم جاءت بولد بعد ذلك لستة أشهر أو أكثر ما بينها وبين السنتين لزمه هذا الولد" لأن العلوق به موهوم أنه كان في حال قيام النكاح.
قال  "وإذا ولدت المرأة ولدين في بطن واحد فأقر بالأول ونفى الثاني لزمه الولدان ويلاعنها فإن نفى الأول وأقر بالثاني لزماه ويحد" لأن إقراره بنسب أحدهما إقرار بنسبهما فإنهما توأم لا ينفصل أحدهما عن الآخر في حكم النسب لعلمنا أنهما خلقا من ماء واحد فإذا أقر بالأول كان هذا كإقراره بهما ثم في نفي الثاني هو قاذف لها بالزنى فيلاعنها وإن نفى الأول فقد صار قاذفا لها بالزنى وحين أقر بالثاني فقد أكذب نفسه فيلزمه الحد ونسب الولدين ثابت منه لأن إقراره بأحدهما كإقراره بهما وإن نفاهما ثم مات أحدهما قبل اللعان فإنه يلاعن على الحي منهما وهما ولداه لأن الذي مات قد لزمه نسبه ألا ترى أنه يرثه لو كان له مال وأنه لو قتل كان له الميراث من ديته والحكم بثبوت نسب أحدهما منه حكم بثبوت نسبهما فلا يحتمل النفي بعد ذلك ولأنه لو قطع نسب هذا الحي منه قطع نسب الميت أيضا، والنسب كما لا يمكن إثباته بعد الموت بالدعوة لا يمكن قطعه بالنفي لأن فيه إلزام الحكم على الميت من غير خصم عنه فإن الأخ لا ينتصب خصما عن أخيه ولكن لا يمتنع جريان اللعان بينهما لأنه قذفها بالزنى وليس من ضرورة اللعان قطع النسب والنسب إنما لزمه حكما فلا يكون ذلك بمنزلة إكذابه نفسه في منع جريان اللعان بينهما وكذلك لو كانت ولدت أحدهما ميتا فنفاهما لأن المولود ميتا ثابت النسب منه حتى لو ضرب إنسان بطنها فلزمته الغرة كان للوالد منه الميراث وإذا لزمه نسب أحدهما لزمه نسبهما.
قال وإن ولدت ولدا فنفاه ولاعن به ثم ولدت من الغد ولدا آخر لزمه الولدان جميعا واللعان ماض" لأن نسب الذي كان في البطن لم يثبت فيه حكم الحاكم لما فيه من إلزام الحكم على الحمل وذلك ممتنع ولا يجوز أن يتوقف على الانفصال فإذا انفصل كان ثابت النسب منه وهما توأم إذ ليس بينهما مدة حبل تام ومن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر ولأن اعتبار جانب الذي كان منفصلا وقت اللعان يوجبه نفي النسب واعتبار جانب الآخر يثبت النسب وإنما يحتاط لإثبات النسب لا لنفيه فإن قال هما ابناي كان صادقا ولا حد عليه لأن نسبهما منه يثبت شرعا فهو بهذا اللفظ يخبر عما يلزمه شرعا فلا يكون اكذابا منه نفسه.
توضيحه أن كلامه محتمل يجوز أن يكون مراده الإكذاب بدعوى النسب ويجوز أن يكون مراده الإخبار بما لزمه شرعا والحد لا يجب مع الاحتمال وإن قال ليسا بإبني كانا ابنيه لأن نسبهما لزمه حكما فلا يملك نفيه ولا حد عليه لأنه بهذا اللفظ كرر القذف الذي لاعنها به فلا يلزمه بالتكرار حد.
ولو قال: كذبت في اللعان وفيما قذفتها به كان عليه الحد لأنه صرح بإكذابه نفسه وذلك يوجب الحد عليه.
قال ولو نفي ولد زوجة محدودة أو كتابية أو مملوكة والزوج حر أو عبد كان نفيه

 

ج / 7 ص -44-         باطلا ويلزم الولد إياه" لأن النسب قد ثبت منه بالفراش فلا ينقطع إلا باللعان وقد تعذر إثبات بينهما لإنعدام أهلية الشهادة فيهما أو في أحدهما فيبقي النسب ثابتا منه ولا حد على الزوج ولا لعان وقد أجمل هذا الجواب لأنه في السؤال ذكر الزوج العبد والمرأة المحدودة وقد بينا فيما سبق أن العبد إذا قذف امرأته المحدودة فعليه الحد فيحمل هذا الجواب على ما إذا كان الزوج حرا مسلما حتى يمتنع جريان اللعان من قبلها فحينئذ لا يجب الحد ولا اللعان.
قال وإذا التعن الرجل ثلاث مرات والتعنت المرأة ثلاث مرات ثم فرق القاضي بينهما فقد أخطأ السنة والفرقة جائزة عندنا.
وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى حكمه بخلاف السنة باطل فلا تقع الفرقة بينهما لأنه حكم بخلاف النص فإن اللعان بالكتاب والسنة خمس مرات والحكم بخلاف النص باطل كما لو حكم بشهادة ثلاثة نفر في حد الزنى أو بشهادة رجل وامرأة بالمال.
وحجتنا في ذلك أن هذا حكم في موضع الاجتهاد فيجوز وينفذ كالحكم بشهادة المحدود في القذف ونحوها وبيانه من وجهين:
أحدهما أن ما شرع مكررا من واحد فقد يقام الأكثر منه مقام الكل.
والثاني أن تكرار اللعان للتغليظ ومعنى التغليظ يحصل بأكثر كلمات اللعان لأنه جمع متفق عليه وأدنى الجمع كأعلاه في بعض المواضع فإذا اجتهد القاضي وأدى اجتهاده إلى هذا الحكم نفذ حكمه ألا ترى أنه لو فرق بينهما بعد لعان الزوج قبل لعان المرأة ينفذ حكمه لكونه مجتهدا فيه فبعد ما أتى كل واحد منهما بأكثر كلمات اللعان أولى ولا نسلم أن قضاءه مخالف للنص لأن أصل الفرقة ومحلها غير مذكور في النص وهذا الاجتهاد في محل الفرقة فإن من أبطل هذا القضاء يقول لا تقع الفرقة وأن أتمت المرأة اللعان بعد ذلك ولا ينفذ حكمه وإن أتم الزوج اللعان وإنما تقع الفرقة عنده بلعان الزوج ولو فرق بينهما بعد ما التعن كل واحد منهما مرتين لم ينفذ حكمه لأن بقاء أكثر اللعان كبقاء جميعه فهذا حكم في غير موضع الاجتهاد فإن أقل الشيء لا يقوم مقام كماله.
قال  "ولو فرغا من اللعان فلم يفرق بينهما حتى مات أحدهما توارثا لأن الفرقة عندنا لا تقع إلا بقضاء القاضي فإنما انتهى النكاح بينهما بالموت.
قال ولو أخطأ القاضي فأمر المرأة فبدأت باللعان ثم التعن الرجل كان عليه أن يأمر المرأة بإعادة اللعان" لأنها التعنت قبل أوانه فإن اللعان مشروع في جانبها لمعارضة لعان الزوج لأنها لا يثبت بلعانها شيء على الزوج وما حصل قبل أوانه لا يعتد به فيأمرها باستقبال اللعان فإن لم يأمرها بذلك وفرق بينهما وقعت الفرقة كما لو التعن الزوج ولم تلتعن المرأة حتى فرق بينهما لأنه حكم في موضع الاجتهاد لأن فيما طريقه على طريق المعارضة لا فرق بين أن يسبق هذا أو ذاك وفي باب التحالف له أن يبدأ بيمين أيهما شاء ولأنهما متلاعنان سواء بدأت هي أو هو وحكمه في موضع الاجتهاد نافذ.

 

ج / 7 ص -45-         قال وإذا قذف أجنبية ثم تزوجها فقذفها فرافعته فيهما جلد الحدود دريء اللعان" لأن موجب قذفه قبل التزوج الحد وموجب قذفه بعد التزوج اللعان ولكن متى اجتمع الحدان عند الإمام وفي البداية بأحدهما إسقاط الآخر بديء بما فيه إسقاط الآخر احتيالا للدرء ولو بدأ باللعان هنا لم يسقط الحد ولو بدأ بالحد يسقط اللعان لأن المحدود في القذف لا يلاعن امرأته فلهذا يبدأ بالحد ولو أخذته بالآخر وتركت الأول لاعنها لأن حد القذف لا يقام إلا بطلب المقذوف فإذا لم يطلب صار القذف الأول كالمعدوم في حق الثاني وقد وجد منها الخصومة في الثاني فيلاعنها فإن أخذته بعد ذلك بالأول ضرب الحد لأن بترك الطلب زمانا لا يسقط حقها في المطالبة بحد القذف بعد تقرر الموجب لحد القذف وإن بدأت بالأول حد لها فإن أخذته بعد ذلك بالآخر لم يلزمه حد ولا لعان لأن القذف الثاني كان موجبا للعان وقد تعذر إقامته حين صار محدودا في قذف ولو كان موجبا للحد لا يقام إلا حد واحد وقد أقيم ذلك بعد القذفين.
قال  "وإذا قذف امرأته مرات فعليه لعان واحد" لأن اللعان في كونه موجب قذف الزوجات كالحد في حق الأجنبيات والحد لا يتكرر بتكرر القذف لشخص واحد.
قال  "وإذا قذف أربع نسوة في كلمة واحدة أو في كلمات متفرقة فعليه أن يلاعن كل واحدة منهن على حدة بخلاف ما لو قذف أجنبيات فإنه يقام عليه حد واحد لهن" لأن المقصود يحصل بإقامة حد واحد وهو دفع عار الزنى عنهن وهنا لا يحصل المقصود بلعان واحد لأنه يتعذر الجمع بينهن في كلمات اللعان فقد يكون صادقا في بعضهن دون البعض والمقصود التفريق بينه وبينهن ولا يحصل ذلك باللعان مع بعضهن فلهذا يلاعن كل واحدة منهن على حدة حتى لو كان محدودا في قذف كان عليه حد واحد لهن لأن موجب قذفه لهن الحد هنا والمقصود يحصل بحد واحد كما في الأجنبيات.
قال  "ولو قذف رجلا فضرب بعض الحد ثم قذف امرأة نفسه لم يكن عليه لعان وعليه تمام الحد لذلك الرجل" لأن قذفه إياها موجب للعان فإن بإقامة بعض الحد عليه لا تبطل شهادته ولكن لا بد من إكمال الحد لذلك الرجل أولا لأن في البداية به إسقاط اللعان فإنه يصير محدودا في قذف فيبدأ بإكمال الحد الأول لهذا ولو كان قذفه إياها في هذه الحالة موجبا للحد لم يجب إلا كمال الحد الأول كما لو قذف أجنبيا آخر.
قال  "وإذا قذف امرأته ثم بانت منه بطلاق أو غيره فلا حد عليه ولا لعان" لأن المقصود باللعان التفريق بينهما ولا يتأتي ذلك بعد البينونة فلا معنى للعان بعد فوات المقصود به ولا حد عليه لأن قذفه كان موجبا للعان والقذف الواحد لا يوجب الحدين ولو أكذب نفسه لم يضرب الحد أيضا لهذا المعنى بخلاف ما لو أكذب نفسه بعد ما لاعنها لأن وجوب اللعان هناك بأصل القذف والحد بكلمات اللعان فقد نسبها فيها إلى الزنى وانتزع معنى الشهادة بإكذابه نفسه فيكون هذا نظير الشهود بالزنى فأما هنا لم توجد كلمات اللعان فلهذا لا يحد وإن أكذب نفسه.

 

ج / 7 ص -46-         قال ولو قال أنت طالق ثلاثا يا زانية كان عليه الحد" لأنها بانت بالتطليقات الثلاث فإنما قذفها بالزنى بعد البينونة فعليه الحد ولو قال يا زانية أنت طالق ثلاثا لم يلزمه حد ولا لعان لأنه قذفها وهي منكوحة ثم أبانها بالتطليقات وقد بينا أنه بعد ما قذفها إذا أبانها لم يلزمه حد ولا لعان وهذا لأنه وإن ذكر كلامه على سبيل النداء فقد نسبها به إلى الزنى لأن النداء للتعريف وتعريفها بهذا الوصف نسبتها إليه بأبلغ الجهات.
قال  "وإذا علق القذف بشرط لم يجب حد ولا لعان" لأن القذف مما لا يحلف به فلا يتعلق بالشرط ولأن التعلق بالشرط يمنع تحقق نسبتها إلى الزنى في الحال ولأن من لا تكون زانية قبل دخول الدار لا تكون زانية بدخول الدار وكذلك لو قال إذا تزوجتك فأنت زانية أو أنت زانية إن شاء فلان فهو باطل لما قلنا.
قال  ولو قال لامرأته قد زنيت قبل أن أتزوجك أو رأيتك تزنين قبل أن أتزوجك فهو قاذف اليوم وعليه اللعان لأن القذف نسبتها إلى الزنى وقد تحقق ذلك في الحال بخلاف ما لو قال قذفتك بالزنى قبل أن أتزوجك فإنه يجب عليه الحد لأنه ظهر بإقراره قذف قبل التزوج فهو كما لو ثبت ذلك بالبينة بخلاف ما لو قال لها زنيت وأنت صغيرة فإنه لا حد عليه ولا لعان فإن فعل الصغيرة لا يكون زنا شرعا فقد نسبها إلى ما لا يتحقق شرعا فيكون هذا بمنزلة ما لو نسبها إلى ما لا يتحقق أصلا بأن قال زنيت قبل أن تخلقي.
فأما ما قبل التزوج يتحقق منها فعل الزنى شرعا ولأن الصغيرة لا يلحقها العار ولا الإثم شرعا والقذف بالزنى يتعير به المقذوف وقد يكون فيه آثما شرعا وإن قال لها فرجك زان أو جسدك زان أو بدنك زان فهو قذف لأنه ذكر ما يعبر به عن جميع البدن بخلاف الرجل واليد وبأي لغة رماها بالزنى فهو قاذف لأن ما يلحقها من العار والشنار بالنسبة إلى الزنى لا يختلف بين العربية والفارسية وإذا قال وجدت رجلا معها يجامعها لم يكن قاذفا لأن الجماع قد يكون حلالا وشبهة وبدون التصريح بالزنى لا يكون القذف موجبا كما في حق الأجانب ما لم يصرح بالزنى لا يكون موجبا للحد.
قال  "رجل قال لامرأته يا زانية فقالت بل أنت فإنها تحد له ويدرأ اللعان" لأن معنى كلامها لا بل أنت الزاني وقذفها إياه موجب للحد وفي البداية به إسقاط اللعان لأنها تصير محدودة في قذف وقد بينا أنه متى كان في البداية بأحد الحدين إسقاط الآخر يبدأ به.
وذكر في الأصل أنه لو قال لامرأته يا زانية فعليه اللعان لأنه قاذف لها وإن أسقط الهاء من كلامه لأن الإسقاط للترخيم عادة العرب بخلاف ما لو قال لرجل يا زانية لم يكن عليه حد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهي مسألة الحدود وقذف الأصم امرأته يوجب اللعان لأن التصريح بالنسبة إلى الزنى يتحقق من الأصم بخلاف الأخرس ولو قذف رجل امرأة رجل فقال الزوج صدقت لم يكن عليه حد ولا لعان لأنه ليس بتصريح بالنسبة لها إلى الزنى فمن الجائز أن

 

ج / 7 ص -47-         مراده صدقت هي امرأته وهذا اللفظ لا يكون قذفا في حق الأجانب فكذلك في حق الزوجة.
قال  "وإن قال يا زانية فقالت زنيت بك في القياس يلاعنها" لأن كلامها ليس بإقرار بالزنى منها فإن فعل المرأة بزوجها لا يكون زنا ولكن في الاستحسان ليس بينهما حد ولا لعان لأنها بأول كلامها صارت مصدقة له حين قالت زنيت ولأن كلامها محتمل لعلها أرادت زنيت بك قبل النكاح ولعلها أرادت بعد النكاح فلاحتمال الوجه الأول يسقط اللعان ولاحتمال الوجه الثاني لا تكون هي قاذفة له فلا يلزمها الحد وإن قال يا زانية فقالت أنت أزنى مني فعليه اللعان لأن كلامها ليس بقذف له فإن معناه أنت أقدر على الزنى مني.
ولهذا لو قذف الأجنبي بهذا اللفظ لا يلزمه الحد وكذلك لو قال الزوج أنت أزنى من فلانة أو أنت أزني الناس فلا حد ولا لعان لأن معنى كلامه أنت أقدر على الزنى أو أكثر شبقا فلا يتحقق نسبتها إلى الزنى بهذا اللفظ وإذا قذفها أو نفى نسب ولدها فصدقته لم يكن بينهما حد ولا لعان لأنها بتصديق الزوج فيما نسبها إليه من الزنى تخرج من أن تكون محصنة والولد ولده لأن النسب يثبت منه بالفراش فلا ينتفي إلا باللعان وقد تعذر اللعان بينهما فإن قذف امرأة رجل فقال الرجل صدقت هي كما قلت كان قاذفا لها لأنه صرح بآخر كلامه أن مراده من التصديق أول الكلام.
ومعناه هي زانية كما قلت بخلاف ما لو قال مطلقا صدقت ولو قال لامرأته يا زانية بنت الزانية فقد صار قاذفا لها ولأمها وقذفه أمها موجب للحد وقذفه إياها موجب للعان فإذ رفعته هي وأمها بديء بالحد لما في البداية به من إسقاط اللعان وكذلك إن كانت الأم ميتة فللبنت أن تخاصم في إقامة الحد لأن العار يلحقها بزنا أمها فإذا خاصمت في ذلك حد لها ودرىءاللعان
وإن قال زنيت مستكرهة أو زنى بك صبي لم يكن قاذفا لها لأن المستكرهة لا تكون زانية شرعا فإن الفعل ينعدم منها وهو التمكين في الإكراه ولهذا لا يلزمها الحد وكذلك فعل الصبي لا يكون زنا شرعا وهي بالتمكين من غير الزنى لا تكون زانية فلا يكون قاذفا لها ولو قذفها ثم وطئت وطئا حراما سقط اللعان لأنها خرجت من أن تكون محصنة والعارض في الحدود قبل الإقامة كالمقترن بأصل السبب.
قال وإذا ولدت المرأة ولدا ثم نفى الولد بعد سنة لاعنها ولم ينتف الولد إنما استحسن إذا نفاه حين يولد أو بعد ذلك بيوم أو يومين أو نحو ذلك أن ينتفي باللعان فهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه ولم يكن وقت فيه وقتا.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الوقت فيه أيام النفاس أربعون يوما.
وجه قولهما إن مدة النفاس كحالة الولادة بدليل أنها لا تصوم فيه ولا تصلي. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إذا لم يكن الولد منه لا يحل له أن يسكت عن نفيه بعد الولادة فيكون سكوته عن النفي دليل القبول وكذلك يهنى بالولد عند الولادة فقبوله بالتهنئة إقرار منه أن الولد منه وكذلك يشتري ما يحتاج إليه لإصلاح الولد عادة وبعد وجود دليل القبول ليس له

 

ج / 7 ص -48-         أن ينفيه وكان القياس أن لا يصح نفيه إلا على فور الولادة وبه أخذ الشافعي ولكنه استحسن أبو حنيفة رحمه الله فقال له أن ينفيه بعد ذلك بيوم أو يومين لأنه يحتاج إلى أن يروى النظر لئلا يكون مجازفا في النفي قال صلى الله عليه وسلم   : "من نفى نسب ولده وهو ينظر إليه فهو ملعون" ولا يمكنه أن يروى النظر إلا بمدة فجعلنا له من المدة يوما أو يومين وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة سبعة أيام في هذه المدة يستعد للعقيقة وإنما تكون العقيقة بعد سبعة أيام ولكن هذا ضعيف فإن نصب المقدار بالرأي لا يكون.
قال ولو كان الزوج غائبا حين ولدته فحضر بعد مدة يجعل في حقه في حكم النفي كأنها ولدته الآن" إلا أنه روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إن حضر قبل الفصال فله أن ينفيه إلى أربعين ليلة ولو حضر بعد الفصال فليس له أن ينفيه لأنه يقضى بنفقته عليه في ماله الذي خلفه ولو كان له أن ينفيه بعد الفصال لكان له أن ينفيه بعد ما صار شيخا وهذا قبيح هذا كله إن لم يقبل التهنئة فأما إذا هنئ فسكت فليس له أن ينفيه بعد ذلك لأن سكوته عند التهنئة بمنزلة قبوله التهنئة وذلك بمنزلة الإقرار بنسبه ألا أنه روي عن محمد رحمه الله تعالى أنه إذا هنئ بولد الأمة فسكت لم يكن قبولا بخلاف ولد المنكوحة لأن ولد الأمة غير ثابت النسب منه فالحاجة إلى الدعوة والسكوت ليس بدعوة فأما نسب ولد المنكوحة ثابت منه فسكوته يكون مسقطا حقه في النفي.
قال  "وإذا لاعن بولد ولزم أمه ثم مات الولد عن مال فادعاه الأب لم يصدق على النسب والميراث" لأن الولد بالموت قد استغنى عن النسب فكان هذا منه دعوى الميراث وهو مناقض في دعواه لكن يضرب الحد لأنه أكذب نفسه وأقر أنه كان قاذفا لها في كلمات اللعان فإن كان الولد ابنا له فمات وترك ولدا ذكرا أو أنثى ثبت نسبه من المدعي وورث الأب منه لأن الولد الباقي محتاج إلى النسب فبقاؤه كبقاء الولد الأول فأما إذا كان ولد الملاعنة بنتا فماتت عن ولد ثم أكذب الملاعن نفسه فكذا الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى"1" وعندهما لا يثبت النسب هنا لأن نسب الولد القائم من جانب أبيه لا من جانب أمه قال القائل:
وإنما أمهات الناس أوعية  
مستودعات وللأنساب آباء
 ألا ترى أن أولاد الخلفاء من الإماء يصلحون للخلافة وهذا وما لو ماتت لاعن ولد سواء ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الولد يتعير بانتفاء نسب أمه كما يتعير بانتفاء نسب أبيه فكان هذا الولد محتاجا إلى إثبات نسب أمه ليصير كريم الطرفين فيكون بقاؤه كبقائها كما لو كان ولد الملاعنة ذكرا وإذا ثبت النسب فالميراث ينبني عليه حكما.

 

ج / 7 ص -49-         قال ولو ولدت امرأة الرجل فقال الزوج لم تلده فلا حد عليه ولا لعان لأنه أنكر ولادتها وذلك لا يتضمن نسبتها إلى الزنى ولو شهدت امرأة على الولادة ثبت نسبه منها لقيام الفراش بينهما فإذا نفاه بعد ذلك لاعنها وإن قال ليس هذا مني ولا منك لم يكن بهذا قاذفا لها لأنه ينكر ولادتها هذا الولد بهذا اللفظ.
قال وإذا قذف امرأته ثم ارتدت ثم أسلمت ثم تزوجها لم يكن لها أن تأخذه بذلك القذف" لأنها بالردة خرجت من أن تكون محصنة ولأنها بانت منه بالردة ولو بانت بسبب آخر لم يكن عليه حد ولا لعان فإذا بانت بالردة أولى.
قال وإذا لاعن الرجل امرأته بغير ولد ثم قذفها هو أو غيره فعليه الحد" لأنها بقيت محصنة بعد اللعان والتفريق فإن اللعان بينهما باعتبار كونها محصنة فلا تخرج به من أن تكون محصنة.
قال  "وإن لاعنها بولد ثم قذفها هو أو غيره فلا حد عليه ولا لعان" لأنها في صورة الزانيات فإن في حجرها ولدا لا يعرف له والد فلا تكون محصنة فإن ادعى الزوج الولد فجلد الحد وألزم الولد ثم قذفها قاذف فعليه الحد لأنها خرجت من أن تكون في صورة الزانيات حين ثبت نسب ولدها من الزوج ولا حد على من كان قذفها قبل ذلك لأن حال وجود السبب في الحدود معتبر لا محالة وقد كانت عند القذف في صورة الزانيات.
قال  "ولو ادعى الولد ثم مات قبل أن يحد ثبت نسب الولد منه بالدعوة وضرب من قذف المرأة بعده الحد وكذلك لو أقامت البينة على الزوج أنه ادعاه وهو ينكر ثبت نسبه منه وضرب الحد" لأن الثابت بالبينة على الزوج أنه ادعاه كالثابت بالإقرار ومن قذفها بعد ذلك ضرب الحد لأنها خرجت من أن تكون في صورة الزانيات.
قال  "وإذا قذف الرجل امرأته فرافعته فأقامت شاهدين أنه أكذب نفسه حد" لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم أو بالمعاينة.
قال  "وإذا رجع الملاعنان إلى حال لا يتلاعنان فيه أبدا فإن كان بعد التفريق حل له أن يتزوجها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وإن كان قبل التفريق لم يفرق بينهما وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يجتمعان أبدا" وقد بينا هذه المسألة وحاصل مذهب أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن التفريق بينهما والحرمة للتحرز عن تكرار اللعان وقد زال ذلك المعنى حين صار إلى حال لا يتلاعنان فيه أبدا.
قال  "وإذا أسلمت امرأة الذمي فقذفها ثم أسلم فعليه الحد" لأنها كانت محصنة حين قذفها فكان اللعان ممتنعا باعتبار حال الزوج فإنه كافر فلزمه الحد ثم لا يسقط ذلك بعد إسلامه وكذلك العبد يعتق بعد ما قذف امرأته.
قال  "ولو قذف الحر امرأته الذمية أو الأمة ثم أسلمت أو أعتقت لم يكن عليه حد ولا لعان" لأن امتناع جريان اللعان بمعنى من جهتها عند القذف فلا يجرى اللعان، وإن ارتفع المعنى

 

ج / 7 ص -50-         بعد ذلك وإذا أعتقت المرأة الأمة ثم قذفها الزوج فعليه اللعان لبقاء النكاح بينهما عندنا بعد ما عتقت فإن اختارت نفسها بطل اللعان لوقوع الفرقة بينهما باختيارها نفسها ولا مهر عليه إن لم يكن دخل بها لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول وإن لم تكن اختارت حتى يلاعنها ويفرق بينهما فعليه نصف المهر لأن الفرقة محال بها على جانب الزوج هنا.
ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى اللعان تطليقة بائنة، وكذلك لو كان دخل بها ثم فرق بينهما باللعان فلها النفقة والسكنى في العدة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

 باب الشهادة في اللعان
قال  رضي الله عنه "وإذا شهد الزوج وثلاثة نفر على المرأة بالزنى جازت شهادتهم وأمضى عليها الحد عندنا".
وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا تقبل شهادة الزوج على زوجته بالزنى لأنه خصم في ذلك فإنه يصير قاذفا لها مستوجبا للعان ولا شهادة للخصم ولأنه شاهد طعن لأن الزوج يغيظه زناها فيحمله ذلك على أن يشهد عليها لا بطريق الحسبة ولأنه يدعي عليها الجناية في أمانته فالفراش أمانة الزوج عندها ولا شهادة للمدعي.
ولكنا نقول لو شهد عليها بحق آخر قبلت الشهادة لظهور العدالة وانتفاء التهمة فكذلك بالزنى بل أولى لأن انتفاء التهمة هنا أظهر والظاهر أن الزوج يستر الزنى على امرأته لأن ذلك يشينه ومعنى الغيظ الذي قال يبطل بالأب إذا شهد على ابنته بالزنى تقبل وإن كان يغيظه زناها ولا معنى لقوله أنه خصم لأن إخراجه الكلام مخرج الشهادة في الابتداء يمنع كونه خصما مستوجبا للعان كالأجنبي فإن قذف الأجنبي موجب للحد ثم إذا أخرج الكلام مخرج الشهادة في الابتداء لم يكن مستوجبا للحد، وكان محتسبا في الشهادة بخلاف ما لو قذفها أولا لأنه صار مستوجبا للعان فإنما يقصد بالشهادة بعد ذلك إسقاط اللعان عن نفسه والحد الواجب بزناها يخلص حقا لله تعالى وإنما يكون الزوج مدعيا إذا قصد بشهادته إثبات حق لنفسه وليس في هذه الشهادة إثبات حق له. ولو ردت شهادتهم بأن لم يعدلوا لم يجب اللعان على الزوج كما لا يجب الحد على الأجانب لتكامل عدد الشهود.
وذكر  ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى قال لو قذفها الزوج ثم جاء بأربعة يشهدون عليها بالزنى فلم يعدلوا لاعنها الزوج لأنه قد استوجب اللعان بقذفه فلا يسقط عنه إلا بثبوت الزنى عليها والأصح أنه لايلاعنها لأن القاذف لو كان أجنبيا فأقام أربعة من الشهداء بهذه الصفة لم يحد وكذلك لا يلاعنها الزوج ولو شهد مع الزوج ثلاثة من العميان بالزنى عليها يحد العميان ويلاعنها الزوج لأنه يتيقن بكذب العميان في الشهادة بالزنى فإن تحمل هذه الشهادة لا يكون إلا عن معاينة وليس للعميان تلك الآلة فلا تعتبر شهادتهم ويلزمهم الحد بالقذف ويلاعنها الزوج بقذفه أيضا بخلاف الفساق فإن لهم في الزنى شهادة لأنا لا نتيقن بكذبهم فيه.

 

ج / 7 ص -51-         قال  "وإذا شهد للمرأة ابناها على زوجها أنه قذفها لم تجز شهادتهما" لأنهما يشهدان لأمهما وكذلك لو شهد أب المرأة و ابن لها وكذلك لو شهد لها رجل وامرأتان بالقذف لم يجز لأن هذا حد فلا تجوز شهادة النساء في الحدود هكذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم    وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم وكذلك لا تجوز الشهادة على الشهادة في هذا لأن في كلا النوعين ضرب شبهة والحد لا يثبت مع الشبهة ولكن في هذا التعليل كلام فإن عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى اللعان شهادة فيه معنى اليمين، وعند محمد رحمه الله تعالى يمين فيه معنى الحد.
وفائدة هذا الاختلاف فيما إذا عزل القاضي أو مات بعد اللعان قبل التفريق عندهما القاضي الثاني يستقبل اللعان لأنها شهادة لم يتصل بها الحكم وعند محمد رحمه الله تعالى لا يستقبله لأنها يمين في معنى الحد واليمين والحد إذا أمضاهما القاضي لا يستقبلهما قاض آخر. واستدل محمد رحمه الله تعالى بقوله صلى الله عليه وسلم   :
"لولا الأيمان التي سبقت لكان لي ولها شأن" ولأن في كلمات اللعان قوله بالله وهذا يمين ويستوي في اللعان الرجال والنساء ولا مساواة بينهما في الشهادة.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى استدلا بقوله تعالى:
{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: من الآية6] ولأنه يختص بمجلس القضاء ولفظ الشهادة فيكون شهادة فيها معنى اليمين لقوله بالله ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم    يمينا وفي بعض الروايات: "لولا الشهادات التي سبقت" وفي الشهادة على الولادة يستوي فيه الرجال والنساء حتى تقبل شهادة امرأة واحدة لأجل الحاجة فهنا كذلك ثم على قول محمد رحمه الله تعالى هذا التعليل واضح لأن في اللعان معنى الحد فأما على قولهما معنى هذا التعليل أن قذف زوجته قد يكون موجبا للحد إذا تعذر اللعان بسبب من جهته فلهذا لا يثبت بالحجة التي فيها شبهة.
قال  "وإن شهد أحدهما أنه قذفها بالزنى وشهد الآخر أنه قال لولدها هذا من الزنى لم يجز" لأنهما اختلفا في المشهود به لفظا ومعنى فإن نسبة الولد إلى أنه مخلوق بالزنى غير قذفها بالزنى والموافقة بين الشاهدين لفظا في هذا الموضع معتبرة ولهذا لو شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية والآخر أنه قذفها بالفارسية لا تقبل ولو شهد أحدهما أنه قال لها زنى بك فلان وشهد الآخر أنه قال لها زنى بك فلان لرجل آخر فعليه اللعان لأن فعلها بالزنى هو التمكين من فعل الزنى وذلك لا يختلف باختلاف الفاعل إذا كان فعل كل واحد من الفاعلين زنا فقد اتفق الشاهدان على أنه قذفها بالزنى لفظا ومعنى وإنما اختلفا فيما لا حاجة بهما إلى ذكره ولو كان قذفها برجل واحد وجاء ذلك الرجل يطلب حده جلد الحد ودرىءاللعان لأنه اجتمع عند الإمام حدان فإن قذفه في حق الرجل موجب للحد وفي حقها موجب للعان ومتى اجتمع حدان وفي البداية بأحدهما إسقاط الآخر يبدأ بذلك.
قال  "وإذا شهد الشاهدان على الزوج بالقذف حبسه حتى يسأل عن الشاهدين ولم يكفله" لأنه لا كفالة في الحدود وهذا في معنى الحد فإن قالا: نشهد أنه قذف امرأته وأمنا في كلمة

 

ج / 7 ص -52-         واحدة لم تجز الشهادة لأنها بطلت في حق أمهما فإنهما يشهدان لها ومتى بطلت الشهادة في بعض الكلمة الواحدة بطل في كلها وإن شهد ابناه من غيرها على قذفه إياها وأمهما عنده لم تجز شهادتهم لما فيها من نفع أمهما فإنها لو قبلت فرق بينهما باللعان فيخلص الفراش لأمهما وهو كما لو شهدا عليه بطلاق ضرة أمهما قال إلا أن الأب إذا كان عبدا أو محدودا في قذف فتجوز شهادتهما عليه ولا يضرب الحد لأنهما يشهدان على أبيهما بالحد وليس فيه منفعة لأمهما.
قال  "ولو شهد عليه شاهدان بقذف امرأته فعدلا ثم غابا أو ماتا قبل أن يقضي القاضي بشهادتهما فإنه يحكم باللعان" فإن الموت والغيبة لا تقدح في عدالتهما بخلاف ما لو عميا أو ارتدا أو فسقا وهكذا الجواب في كل حد ما خلا الرجم فإنه لا يقام بعد موت الشهود أو فسقهم لأن الشرط فيه أن يبدأ الشهود وذلك يفوت.
قال  "ويقبل توكيل المرأة في إثبات القذف عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما يقبل توكيل المقذوف إذا كان أجنبيا في إثبات القذف فإذا جاء موضع الإقامة فلا بد من أن يحضر" لأن اللعان لا تجري فيه النيابة فإن المقصود لا يحصل بالثابت.
قال  "وإذا أقام الزوج القاذف شاهدين على إقرار المرأة بالزنى يسقط اللعان عن الزوج" لأن الثابت بإقرارها وبالبينة كالثابت بالمعاينة ولا يلزمها حد الزنى كما لو أقرت مرة واحدة فإن الأقارير الأربعة في مجالس متفرقة لا بد منها لإقامة حد الزنى، وتمتنع الإقامة بإنكارها بعد الأقارير الأربعة ولو شهد عليها رجل وامرأتان بذلك درأت اللعان أيضا استحسانا وفي القياس يلاعنها لأنه لا شهادة للنساء في باب الزنى فلا يكون لهن شهادة أيضا في إثبات الإقرار بالزنى ولكنه استحسن فقال المقصود هنا درء الحد لا إثباته ودرء الحد يثبت مع الشبهات فتقبل فيه شهادة الرجال مع النساء ولو عفت المرأة عن القذف كان لها أن تخاصم بعد ذلك وتطالب باللعان كما في الحدود في قذف الأجانب عندنا.
قال  "وإن شهد للزوج ابناه منها أنها أقرت بالزنى لم تجز شهادتهما" لأنهما يشهدان لأبيهما بإسقاط اللعان عنه وإن شهد شاهدان على رجل أنه قذفها وقذف امرأته بعد ذلك أو قبله في كلام متفرق جازت شهادتهما للمرأة لأنهما في حق أنفسهما مدعيان وفي حق المرأة شاهدان فإذا كان الكلام متفرقا فبطلان شهادتهما في أحد الكلامين لا يبطل شهادتهما في الكلام الآخر بخلاف ما إذا كان الكل في كلام واحد.
قال  "وإذا صدقت المرأة زوجها عند الإمام فقالت صدق ولم تقل زنيت فأعادت ذلك أربع مرات في مجالس متفرقة لم يلزمها حد الزنى" لأن قولها صدق كلام محتمل وما لم تفصح بالإقرار بالزنى لا يلزمها الحد ولكن يبطل اللعان ولا يحد من قذفها بعد هذا لأن الظاهر أنها صدقته في نسبتها إلى الزنى والظاهر يكفي لإسقاط إحصانها.
قال  "وإذا شهد شاهدان بالقذف فقال الزوج يومئذ كانت أمة أو كافرة فالقول قوله في

 

ج / 7 ص -53-         ذلك" لأنه ينكر وجوب اللعان عليه وهي تدعي ولا يمين عليه لأن اللعان بمنزلة الحد ولا يمين في الحدود فإنه لو استحلف إنما يستحلف ليتوصل إلى اللعان بنكوله وذلك لا يجوز وإن كانت معروفة الأصل في الإسلام والحرية فعرف ذلك القاضي لم يلتفت إلى قول الزوج لأنه يعلم أنه كاذب فيما يدعي وإن أقاما البينة المرأة على حريتها وإسلامها والزوج على كفرها، ورقها وقت القذف فالبينة بينة المرأة لأنها هي المدعية لأنها تثبت اللعان بينتها والزوج ينفي ذلك فكانت بينتها أولى إلا أن يثبت شهود الزوج ردتها بعد الإسلام الذي شهد به شهودها فحينئذ بينته أولى لأن معنى الإثبات في بينته أظهر.
قال  "وإن ادعى الزوج أنها زانية أو قد وطئت وطئا حراما فعليه اللعان" لأن إحصانها معلوم للقاضي باعتبار الأصل والزوج يدعي ما يسقط إحصانها فلا يقبل قوله إلا ببينة كما لو علم القاضي حريتها وإسلامها فإن ادعى الزوج بينة على أنها كما قال أجل إلى قيام القاضي فإن أحضر بينته وإلا لاعن لأن سبب وجوب اللعان قد ظهر ولكن يمكن الزوج من إقامة البينة على الدفع بقدر ما لا بد له منه وذلك إلى قيام القاضي ولا يؤجله أكثر من ذلك لما فيه من الإضرار بها.
قال  "وإن قال الزوج قذفتها وهي صغيرة وإدعت أنه قذفها بعد ما أدركت فالقول قوله وإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة" لأنها هي المدعية ولأنه لا تنافي بين البينتين فيجعل كأنه قذفها مرتين.
قال  "وإذا ادعت على الزوج القذف ولم يكن لها بينة فلا يمين على الزوج" لأنه حد ولا يمين في الحدود، وكذلك إن ادعى الزوج أنها صدقته وأراد يمينها لم يكن عليها يمين لأن تصديقها إقرار منها بالزنى ولا يمين في الإقرار بالزنى.
قال  "فإن ادعت قذفا متقادما وأقامت عليه شهودا جاز" لأن موجب القذف لا يبطل بالتقادم كالحد في قذف الأجانب فإن أقام الزوج البينة أنه طلقها بعد ذلك طلاقا رجعيا فلا لعان بينهما ولا حد لأن ما يثبته الزوج بالبينة كالمعاين والفرقة بعد القذف مسقطة للعان فيتمكن الزوج من إثباته بالبينة كما لو أقام البينة على فرقة بردتها بعد القذف أو بسبب آخر وإذا أقامت المرأة البينة على إقرار الزوج بالولد وهو ينكر وقد نفاه لزمه الولد ولا يستطيع أن ينفيه بعد إقراره هكذا نقل عن عمر وعلي والشعبي رضي الله عنهم قالوا إذا أقر الرجل بولده فليس له أن ينفيه وما لم يقر به فله أن ينفيه وإذا نفاه قبل الإقرار لاعنها لأنه بعد ما أثبت ولادتها يكون هو بنفي الولد قاذفا لها بالزنى.
فإن قيل لا كذلك فقد يكون ولدها من وطء بشبهة قلنا الولد من وطء بشبهة يكون ثابت النسب من إنسان والذي لا يكون ثابت النسب من أحد لا يكون من زنا ولا نسب لهذا الولد منه فإذا نفاه فقد زعم أنه لا نسب لولدها هذا فيكون قاذفا لها بالزنى ثم كيفية اللعان بنفي الولد على ما روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن يقول الزوج أشهد إني لمن

 

ج / 7 ص -54-         الصادقين فيما رميتها به من نفي ولدها وهي تقول أشهد إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من نفي ولدي. وروى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى قال يقول الزوج أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى ونفي ولدها. وتقول المرأة أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى ونفي ولدي وليس هذا باختلاف في الحقيقة وإنما اختلف الجواب لاختلاف الأحوال فجواب محمد رحمه الله تعالى فيما إذا قذفها بالزنى ونفي ولدها وجواب أبي يوسف رحمه الله تعالى فيما إذا نفى ولدها فقط. قال  "وإذا فرق القاضي بينهما بعد اللعان يلزم الولد أمه" وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه لا بد أن يقول القاضي فرقت بينكما وقطعت نسب هذا الولد منه حتى لو لم يقل ذلك لا ينتفي النسب عنه وهذا صحيح لأنه ليس من ضرورة التفريق باللعان نفي النسب كما بعد موت الولد يفرق القاضي بينهما باللعان ولا ينتفي نسبه عنه فلا بد من أن يصرح القاضي بنفي النسب لهذا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
قال  رضي الله تعالى عنه هذا آخر شرح كتاب الطلاق بالمؤثرة من المعاني الدقاق أملاه المحصور عن الانطلاق المبتلي بوحشة الفراق مصليا على صاحب البراق وآله وصحبه أهل الخير والسباق صلاة تتضاعف وتدوم إلى يوم التلاق كتبه العبد البري من النفاق.