المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 8 ص -68-         كتاب الولاء
قال:  الشيخ الإمام الأجل الزاهد الأستاذ شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى اعلم بأن الولاء نوعان ولاء نعمة وولاء موالاة, فولاء النعمة ولاء العتاقة وإنما اخترنا هذه العبارة اقتداء بكتاب الله:
{إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: من الآية37] أي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالعتق والآية في زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه.
وأكثر أصحابنا رضي الله عنهم يقولون سبب هذا الولاء الإعتاق ولكنه ضعيف فإن من ورث قريبه فعتق عليه كان مولى له ولا إعتاق هنا.
والأصح أن سببه العتق على ملكه لأن الحكم يضاف إلى سببه يقال ولاء العتاقة ولا يقال ولاء الإعتاق وولاء الموالاة ما ثبت بالعقد فإن الموالاة عقد يجري بين اثنين والحكم يضاف إلى سببه والمطلوب بكل واحد منهما التناصر وقد كانوا في الجاهلية يتناصرون بأسباب منها الحلف والمحالفة فالشرع قرر حكم التناصر بالولاء حتى قال صلى الله عليه وسلم:
"مولى القوم من أنفسهم وحليفهم منهم"  فالمراد بالحليف مولى الموالاة فإنهم كانوا يؤكدون ذلك بالحلف ولمعنى التناصر أثبت الشرع حكم التعاقد بالولاء وبنى على ذلك حكم الإرث وفي حكم الإرث تفاوت بين السببين أما ثبوت أصل الميراث بالسببين ففي كتاب الله تعالى إشارة إليه فقال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: من الآية33] والمراد الموالاة وفيه تحقيق مقابلة الغنم بالغرم من حيث أنه يعقل جنايته ويرث ماله إلا أن الإرث بولاء العتاقة أقوى لكونه متفقا عليه, ولهذا قلنا مولى العتاقة آخر العصبات مقدم على ذوي الأرحام وهو قول علي رضي الله تعالى عنه.
وكان بن مسعود رضي الله عنه يقول مؤخر عن ذوي الأرحام لقوله صلى الله عليه وسلم:
"للمعتق في معتقه وإن مات ولم يدع وارثا كنت أنت عصبته" فقد شرط لتوريثه عدم الوارث وذوو الأرحام من جملة الورثة وقال صلى الله عليه وسلم الولاء مشبه بالنسب وقال صلى الله عليه وسلم: " الولاء لحمة كلحمة النسب" وما أشبه الشيء لا يزاحمه ولا يقدم عليه بل يخلفه عند عدمه.
ولكنا نحتج بما روى أن بنت حمزة رضي الله عنها أعتقت عبدا فمات المعتق وترك بنتا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف المال للبنت ونصفه لبنت حمزة رضي الله عنها والباقي بعد

 

ج / 8 ص -69-         نصيب صاحب الفرض للعصبة فتبين بهذا أن المعتق عصبة ورد الباقي على صاحب الفرض عند عدم العصبة مقدم على حق ذوي الأرحام.
ثم لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي على البنت بل جعله للمعتقة عرفنا أنها عصبة مقدم على ذوي الأرحام.
وفي حديثه عليه الصلاة والسلام إشارة إلى هذا فإنه قال كنت أنت عصبته فتبين بهذا اللفظ أن مراده ولم يدع وارثا هو عصبة.
وقوله والولاء كالنسب دليلنا عند التحقيق لأن العتق يضاف إلى المعتق بالولاء من حيث أنه سبب لاحيائه فإن الحرية حياة والرق تلف حكما فكان كالأب الذي هو سبب لإيجاد الولد فتستحق العصوبة بهذه الإضافة كما تستحق العصوبة بالأبوة فأما قرابة ذوي الأرحام لا يستحق بها الإضافة على كل حال والإنسان لا يضاف إلى عمته وخالته حقيقة فكان مؤخرا عن الولاء وكان الولاء خلفا عن الأبوة في حكم الإضافة فتستحق به العصوبة بهذه الإضافة كما تستحق العصوبة بالأبوة ثم تقدم الورثة على ذوي الأرحام. فأما ولاء الموالاة سبب لاستحقاق الإرث عندنا ولكنه مؤخر عن ذوي الأرحام.
وعند الشافعي رضي الله عنه ليس بسبب الإرث أصلا, وهو بناء على أن من أوصى بجميع ماله فيمن لا وارث له عندنا يكون للموصى له جميع المال وعنده يكون له الثلث لأن من أصله أن ما زاد على الثلث حق بيت المال عند عدم الورثة العصبة فلا يملك إبطال ذلك الحق بعقده بطريق الوصية أو الموالاة وعندنا المال ملكه وحقه وإنما يمتنع تصرفه فيما زاد على الثلث لتعلق حق الورثة والصرف إلى بيت المال عند عدم الوارث لأنه لا مستحق له لا لأنه مستحق لبيت المال, فإذا انعدم الوارث كان له أن يوجبه بعقده لمن شاء بطريق الوصية أو الموالاة.
قال بن مسعود رضي الله عنه السائبة يضع ماله حيث أحب وتمام هذه المسألة في الوصايا والفرائض, إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب بما رواه عن الصحابة عمر وعلي وبن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبي مسعود الأنصاري وأسامة بن زيد رضوان الله عليهم أجمعين أنهم قالوا الولاء للكبر وهو قول إبراهيم وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى, وكان شريح رحمه الله تعالى يقول الولاء بمنزلة المال ولسنا نأخذ بهذا.
 وفائدة هذا الاختلاف أن ميراث المعتق بالولاء بعد المعتق يكون لابن المعتق دون بنته عندنا, وعند شريح رحمه الله تعالى بين الابن والبنت للذكر مثل حظ الانثيين هو يقول الولاء أثر من آثار الملك وكما أن أصل ملك الأب في هذا العبد بعد موته بين الابن والبنت للذكر مثل حظ الانثيين فكذلك الولاء الذي هو أثر من آثار الملك فكأنه بالعتق يزول بعض الملك ويبقى بعضه فهذا معنى قوله الولاء بمنزلة المال ولكنه ضعيف.

 

ج / 8 ص -70-         فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الولاء لحمة كلحمة النسب" والنسب لا يورث وإنما يورث به فكذلك الولاء وهذا لأن ثبوت الولاء للمعتق بأحداث قوة المالكية في المعتق ونفي المملوكية فكيف يكون الولاء جزءا من الملك؟
 ومعنى قول الصحابة رضي الله عنهم الولاء للكبر للقرب والكبر بمعنى العظم وبمعنى القرب فدخل كل واحد من المعنيين في قوله تعالى 
{وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} [نوح:22] وتفسيره "رجل أعتق عبدا ثم مات وترك ابنين ثم مات أحد الابنين وترك ابنا ثم مات المعتق فميراثه لابن المعتق لصلبه دون بن ابنه" لأن بن المعتق لصلبه أقرب إلى المعتق من بن ابنه ولهذا كان أحق بميراثه فكذلك بالإرث بولائه وهذا لأن الولاء عينه لم يصر ميراثا بين الابنين حتى يخلف بن الابن أباه في نصيبه ولكنه للأب على حاله, ألا ترى أن المعتق ينسب بالولاء إلى المعتق دون أولاده فكان استحقاق الإرث بالولاء لمن هو منسوب إليه حقيقة ثم يخلفه فيه أقرب عصبته كما يخلفه في ماله لو مات الأب فيكون لابنه دون بن ابنه ودون ابنته لأن هذا الاستحقاق بطريق العصوبة والبنت لا تكون عصبة بنفسها إنما تكون عصبة بالابن فعند وجوده لا تزاحمه وعند عدمه هي لا تكون عصبة وهذا لأن السبب هو النصرة كما بينا والنصرة لا تحصل بالنساء, ألا ترى أن النساء لا يدخلن في العاقلة عند حمل أرش الجناية فكذلك في الإرث بولاء الغير, وإن كان للمعتق بنت فلها النصف والباقي لابن المعتق لأن الإرث بالولاء طريقه العصوبة وحق أصحاب الفرائض مقدم فلهذا يعطي نصيب بنت المعتق أولا وكذلك نصيب زوجته إن كانت ثم حكم الباقي هنا كحكم جميع المال في المسألة الأولى فيكون لابن المعتق دون بن ابنه, فإذا مات هذا الابن بعد ذلك عن بن ثم ماتت بنت المعتق فميراثها لابني بن المعتق جميعا لأنها تابعة لأبيها في الولاء فإن الولاء كالكسب والولد منسوب إلى أبيه حقيقة له فكذلك يكون مولى لموالي أبيه فكان ميراثها بهذا الطريق لمعتق الأب يخلفه في ذلك ابنا ابنه كما في ماله لو مات الأب وكذلك هذا القول في كل عصبة للمعتق, وقد طول محمد رحمه الله ذلك في الأصل.
وحاصله يرجع إلى ما ذكرنا أن أقرب عصبة المعتق عند موت المعتق يخلفه في ميراث المعتق في ذلك الوقت وهو معنى قول الصحابة رضي الله تعالى عنهم الولاء للكبر.
قال:  "فإن كان لأحد الابنين ابنان وللآخر بن واحد فالميراث بينهم على عدد رؤوسهم" لأن الجد لو مات الآن كان ميراثه بينهم بالسوية فكذلك ميراث المعتق وكذلك الحكم في ولاء المدبر وميراثه وولاء أم الولد والمكاتب وميراثهما لأن المدبر والمكاتب والمستولد استحق ولاءهم لما باشر من السبب ولا فرق بين أن يكون نزول العتق بهذا السبب بعد موته أو قبله, وكذلك في العبد الموصى بعتقه أو بشرائه وبعتقه بعد موته لأنه يستحق الولاء بما أوصى به وفعل وصيته بعد موته كفعله في حياته, فإن كانت بنت المعتق ماتت عن بنت ثم ماتت ابنتها فليس لابني بن المعتق من ميراث هذه الأخيرة شيء لأن المعتق لو كان حيا لم يرثها لأنه

 

ج / 8 ص -71-         ليس بمولى لها إنما هو مولى لأمها, وقد بينا أن الولاء كالنسب والولد في النسب لا يتبع أمه إذا كان له نسب من جانب الأب فكذلك في الولاء.
ثم روى عن عمر وعلي وبن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبي مسعود الأنصاري وأسامة بن زيد رضوان الله عليهم أجمعين أنهم قالوا "ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن, وعن إبراهيم أنه قال ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو كاتبن أو أعتق من أعتقن, وعن شريح ليس للنساء من الولاء شيء إلا ما أعتقن أو كاتبن, وهذا الحديث مخالف لما ذكره الأعمش عن إبراهيم عن شريح رحمهم الله تعالى أن الولاء بمنزلة المال, وبهذه الآثار نأخذ.
 فقد روى مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو كاتبن أو كاتب من كاتبن أو جره ولاء معتق معتقهن"
والحديث وإن كان شاذا فقد تأكد بما اشتهر من أقاويل الكبار من الصحابة رضي الله عنهم وبالحديث المشهور الذي روينا أن بنت حمزة رضي الله عنهما أعتقت مملوكا فمات وترك بنتا فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنته النصف وبنت حمزة رضي الله عنهما النصف فبهذا تبين أن المرأة تكون عصبة لمعتقها وهذا لأن سبب النسبة للولاء إحداث قوة المالكية بالعتق وقد تحقق ذلك منها كما يتحقق من الرجل بخلاف النسب فإن سببه الفراش والفراش للرجل على المرأة فلا تكون المرأة صاحبة فراش ولأنها أصل في هذا الولاء لمباشرتها سببه وكما أن المرأة في ملك المال تساوي الرجل فكذلك فيما يترتب عليه
بخلاف النسب فإن سببه وهو الفراش يثبت بالنكاح في الأصل والمرأة لا تساوي الرجل في ملك النكاح لأنها بصفة الأنوثة مملوكة نكاحا فلا تكون مالكة نكاحا وإذا ثبت أنها أصل في هذا الولاء كان ميراث معتقها لها فكذلك ميراث معتق معتقها لأن معتق المعتق ينسب إلى معتقه بالولاء وهي مثل الرجل في الولاء الذي هو الأصل على المعتق الأول ولأن ميراث معتق المعتق يكون لمعتقه بالعصوبة ومعتقه معتقها في هذا الفصل فتخلفه في استحقاق ذلك المال كما تخلفه في استحقاق المال بالعصوبة لو مات الأب.
 وعلى هذا مكاتبها ومكاتب مكاتبها لأن الكتابة سبب في استحقاق الولاية كالعتق وعلى هذا جر ولاء معتق معتقها لأن سببه العتق على ما نبينه فتستوي هي بالرجل في استحقاق ذلك.
قال:  وإذا أعتقت المرأة عبدا ثم ماتت عن زوجها وبن وبنت ثم مات المعتق فميراثه لابن المرأة خاصة" لأنه أقرب عصبتها إذ ليس لزوجها في العصوبة حظ والبنت لا تكون عصبة بنفسها فكان أقرب عصبتها الابن فيخلفها في ميراث معتقها ويستوي إن كانت أعتقته بجعل أو بغير جعل لأن ثبوت الولاء لها بأحداث قوة المالكية في المعتق وفي هذا يستوي العتق بجعل أو بغير جعل.
قال:  "وإذا اشترت امرأتان أباهما فعتق عليهما ثم اشترت إحداهما مع الأب أخا لها من

 

ج / 8 ص -72-         الأب فعتق ثم مات الأب فميراثه بينهم جميعا للذكر مثل حظ الانثيين" لأنه مات عن بن وابنتين فإن مات الأخ بعد ذلك فلهما من ميراثه الثلثان بالنسب لأنهما أختاه لأب وللأختين الثلثان ثم للتي اشترت الأخ مع الأب بالولاء نصف الثلث الباقي لأنها معتقة نصفه بالشراء فإن شراء القريب إعتاق وهي المشترية لنصف الأخ ولهما جميعا نصف الثلث الباقي بولاء الأب لأن الأب كان هو المعتق لهذا النصف من الأخ بشرائه وهما كانتا معتقتين الأب بشرائهما إياه, وقد بينا أن المرأة في ميراث معتق معتقها كالرجل ولهذا كان نصف الثلث الباقي لهما بطريق الخلافة عن أبيهما.
قال:  "امرأة أعتقت عبدا ثم ماتت وتركت ابنها وأباها ثم مات العبد فميراثه للابن خاصة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله" وهو قول أبي يوسف رحمه الله الأول ثم رجع فقال لأبيها السدس والباقي للابن.
 وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن الأبوة تستحق بها العصوبة كالبنوة, ألا ترى أن الأب عصبة عند عدم الابن واستحقاق الميراث بالولاء ينبني على العصوبة ووجود الابن لا يكون موجبا حرمان الأب أصلا عن الميراث, ألا ترى أنه لم يصر محروما عن ميراثها بهذا, كذلك عن ميراث معتقها فالأحسن أن يجعل ميراث المعتق بينهما كميراثهما, لو ماتت الآن فيكون للأب السدس والباقي للابن وهذا لأن كل واحد منهما ذكر في نفسه ويتصل بها بغير واسطة فلا يجوز أن يكون أحدهما محجوبا بالآخر فهذا شبه الاستحسان من أبي يوسف رحمه الله تعالى.
 فأما القياس ما قاله أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن أقرب عصبة المعتق يقوم مقام المعتق بعد موته في ميراث المعتق والابن هو العصبة دون الأب واستحقاق الأب السدس منها بالفريضة دون العصوبة فهو كاستحقاق البنت نصف مالها بالفريضة مع الأب وذلك لا يكون سببا لمزاحمتها مع الأب في ميراث معتقها فكذلك هنا.
قال:  "رجل أعتق أمة ثم غرقا جميعا لا يدري أيهما مات أولا لم يرث المولى منها شيئا" لأن الوراثة خلافة فشرط استحقاق ميراث الغير بقاؤه حيا بعد موته وذلك غير معلوم هنا ولأن كل أمرين ظهرا ولا يعرف التاريخ بينهما يجعل كأنهما وقعا معا إذ ليس أحدهما بالتقديم بأولى من الآخر ولو علمنا موتهما معا لم يرث المولى منها فهذا مثله ولكن ميراثها لأقرب عصبة المولى إن لم يكن لها وارث لأن المولى لما لم يرثها جعل كالمعدوم فكأنه كان كافرا أو ميتا قبلها فيكون ميراثها لأقرب عصبته.
قال:  "وإذا أعتق الرجل الأمة ثم مات وترك ابنا ثم مات الابن وترك أخا من أمه ثم ماتت الأمة فميراثها لعصبة المعتق وليس للأخ لأم من ذلك شيء سواء كان أخ المعتق لأمه أو أخ لابنه" لأن الولاء للمعتق وأخ بن المعتق لأمه أجنبي من المعتق وأخ المعتق لأمه ليس بعصبة له إنما هو صاحب فريضة ولا يخلف المعتق في ميراث معتقه الأمن كان عصبة له.
قال:  "امرأة أعتقت عبدا ثم ماتت وتركت ابنها وأخاها ثم مات العبد ولا وارث له غيرهما فالميراث للابن" لأنه أقرب عصبتها يقدم على الأخ بالإرث عنها فكذلك في الخلافة في

 

ج / 8 ص -73-         ميراث معتقها وإن جنى جناية فعقله على عاقلة الأخ لأن جناية معتقها كجنايتها وجنايتها على قوم أبيها فكذلك جناية معتقها وابنها ليس من قوم أبيها.
 واستدل عليه بحديث إبراهيم عن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهم أنهما اختصما إلى عمر رضي الله تعالى عنه في مولى لصفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها مات فقال علي رضي الله عنه عمتي وأنا أرث مولاها وأعقل عنه وقال الزبير رحمه الله تعالى أمي وأنا أرث مولاها فقضي عمر بالميراث للزبير وبالعقل على علي رضي الله تعالى عنه, وقال الشعبي شهدت على الزبير أنه ذهب بموالي صفية وشهدت على جعدة بن هبيرة أنه ذهب بموالي أم هانئ رضي الله عنها وكان ابنا لها فخاصمه على ميراث مولاها. فبهذين الحديثين يثبت أن ميراث المعتق يكون لابن المعتقة وإن كان عقل جنايته على قوم أبيها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.

باب جر الولاء
قال:  رضي الله عنه "روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال إذا كانت الحرة تحت مملوك فولدت عتق الولد بعتقها فإذا أعتق أبوهم جر الولاء وبه نأخذ" لأن الولد جزء من أجزائها وهي حرة بجميع أجزائها فينفصل الولد منها حرا ثم الولاء كالنسب والولد ينسب إلى أبيه بالنسب فكذلك في الولاء يكون منسوبا إلى من ينسب إليه أبوه والأب بعد العتق ينسب بالولاء إلى معتقه فكذلك ولده, واستدل على إثبات جر الولاء بحديث الزبير أيضا فإنه أبصر بخيبر فتية لعسا أعجبه ظرفهم وأمهم مولاة لرافع بن خديج وأبوهم عبد لبعض الحرقة من جهينة أو لبعض أشجع فاشترى الزبير أباهم فأعتقه ثم قال انتسبوا إلي.
وقال رافع بل هم موالي فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه فقضى بالولاء للزبير.
وفي هذا دليل أن الولد منسوب إلى موالي أمه ما لم يظهر له ولاء من جانب أبيه فإذا ظهر بالعتق جر الأب ولاء الولد إلى مواليه وهذا لأن في النسب الولد منسوب إلى أمه إذا لم يكن له نسب من أبيه  للضرورة كالولد من الزنى وولد الملاعنة بعد ما انقطع نسبه من أبيه.
ثم إذا ظهر له نسب من جانب الأب بأن أكذب الملاعن نفسه صار الولد منسوبا إليه وكذلك في الولاء وقوله فتية لعسا بيان لملاحتهم فهو حمرة تضرب إلى السواد قال الشاعر:

مياء في شفتيها حوة لعس                     وفي اللثات وفي أنيابها شنب

وقوله أعجبني ظرفهم أي ملاحتهم, وقيل كياستهم فمن كان بهذا اللون فهو كيس عادة ثم ذكر الشعبي قال إذا أعتق الجد جر الولاء وهكذا يروي الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
 وفي ظاهر الرواية الجد لا يجر الولاء بخلاف الأب وقد بينا في صدقة الفطر فإن هذه أربع مسائل جر الولاء وصدقة الفطر وصيرورته مسلما بإسلام جده ودخول الجد في الوصية للقرابة بخلاف الأب في الفصول الأربعة روايتان بينا وجه الروايتين هناك.

 

ج / 8 ص -74-         واستبعد محمد رحمه الله تعالى قول من يقول النافلة بإسلام الجد يصير مسلما فقال لو كان كذلك لكان بنو آدم مسلمين بإسلام آدم صلوات الله عليه ولا يسبي صغير أبدا وهذا باطل, وكذلك في جر الولاء بعتق الجد لو أعتق الأب فلا بد من القول بأن الأب جر ولاء الولد إلى مواليه والجد أب وبعد ما ثبت جر الولاء بالأبوة لا يتحقق نقله إلى غيره.
قال:  "وإذا أسلم رجل على يد رجل ووالاه ثم أسر أبوه فأعتق فإن الابن يكون مولى لموالي الأب" لأن ولاء الموالاة ضعيف والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي فكأنه لا ولاء على الولد لأحد وهذا بخلاف ما لو كان الابن معتق إنسان فأعتق أباه إنسان آخر فإنه لا ينجر ولاء الابن إليه لأن الولاء الثابت على الابن مثل الولاء الذي ظهر للأب وهو في هذا مقصود فبعدما صار مقصودا في حكم لا يمكن جعله تبعا في عين ذلك.
قال:  "وإذا تزوج العبد حرة فولدت له أولادا فأولادها موال لموالي الأم معتقة كانت أو موالية" فمتى أعتق أبوهم جر ولاءهم إلى مولاه أما إذا كانت موالية فلأن الولد لو كان مقصودا بولاء الموالاة كان يسقط اعتباره بظهور ولاء العتق للأب فكيف إذا كان تبعا
وأما كانت معتقة فلأن الولد هنا تبع في الولاء وإنما كان تبعا للأم لضرورة عدم الولاء للأب والثابت بالضرورة لا يبقى بعد ارتفاع الضرورة, وإذا كانت الأم معتقة إنسان والأب حر مسلم نبطي لم يعتقه أحد فالولد مولى لموالي الأم في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وكذلك إن كان الأب وإلى رجلا.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى في الفصلين لا يكون الولد مولى لموالي الأم ولكنه منسوب إلى قوم أبيه قال وكيف ينسب إلى قوم أمه وأبوه حر له عشيرة وموال بخلاف ما إذا كان الأب عبدا وتقرير هذا من وجهين أحدهما أن العبد رقيق بجميع أجزائه وماؤه جزء منه فإنما تثبت الحرية لمائة لاتصاله برحمها فلهذا كان الولد مولى لمواليها حتى يعتق الأب وهذا المعنى معدوم إذا كان الأب حرا, ألا ترى أنه لو كان حرا عربيا كان الولد منسوبا إلى قوم أبيه ولا يكون مولى لموالي أمه فكذلك إذا كان أعجميا لأن العرب والعجم في حرية الأصل سواء, والثاني أن الرق تلف حكما فإذا كان الأب عبدا كان حال هذا الولد في الحكم كحال من لا أب له فيكون منسوبا إلى مولى الأم وهذا المعنى معدوم إذا كان الأب حرا لأن الحرية حياة باعتبار صفة المالكية والعرب والعجم فيه سواء.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن ولاء العتاقة ولاء نعمة وهو قوي معتبر في الأحكام والحرية والنسب في حق العجم ضعيف, ألا ترى أن حريتهم تحتمل الإبطال بالاسترقاق بخلاف حرية العرب ولأن العجم ضيعوا أنسابهم, ألا ترى أن تفاخرهم ليس بالنسب ولكن تفاخرهم كان قبل الإسلام بعمارة الدنيا وبعد الإسلام بالدين وإليه أشار سلمان رضي الله تعالى عنه حين قيل سلمان بن من قال سلمان بن الإسلام, فإذا ثبت هذا الضعف في جانب الأب كان هذا وما لو كان الأب عبدا سواء وكذلك إن كان الأب مولى

 

ج / 8 ص -75-         الموالاة لأن ولاء الموالاة ضعيف لا يظهر في مقابلة ولاء العتاقة فوجوده كعدمه, فأما إذا كان الأب عربيا فله نسب معتبر, ألا ترى أن الكفاءة بالنسب تعتبر في حق العرب ولا تعتبر في حق العجم.
 والأصل في النسبة النسب فإذا كان في جانب الأب نسب معتبر أو ولاء قوي كان الولد منسوبا إليه وإذا عدم ذلك كان الولد مولى لموالي الأم.
واستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى بعربية تزوجها رجل من الموالي فولدت له ابنا فإن الولد ينسب إلى قوم أبيه دون قوم أمه فكذلك إذا كانت معتقة لأن كونها عربية وكونها معتقة سواء كما سوينا بينهما في جانب الأب.
ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فرقا بينهما وقالا في الفرق أن العربية لم تجر عليها نعمة عتاق, ومعنى هذا أن الأم إذا كانت معتقة فالولد ينسب إلى قومها بالولاء والنسبة بالولاء أقوى لأنه معتبر شرعا وإذا كانت عربية فلو انتسب الولد إلى قومها إنما ينسب بالنسب والانتساب بالنسبة إلى الأم ضعيف جدا وكذلك بواسطة الأم إلى أبيها حتى لا تستحق العصوبة بمثل هذا النسب فلهذا رجحنا جانب الأب لأن النسبة إليه بالنسب وإذا كان نسبه ضعيفا لا يستحق به العصوبة.
قال:  وإذا أعتق الرجل أمة وولدها أو كانت حبلى حين أعتقها أو أعتقت وولدت بعد العتق لأقل من ستة أشهر وقد أعتق الأب رجل آخر كان الولد مولى الذي أعتقه مع أمه دون من أعتق أباه أما إذا كان الولد منفصلا عنها فهو مملوك لمالك الأم" فتناوله العتق مقصودا والولد إذا صار مقصودا بولاء العتق لا يكون تبعا للأب وكذلك إن كانت حبلى به لأن الجنين بإعتاقها يعتق مقصودا فإن الجنين في حكم العتق كشخص على حدة حتى يفرد بالعتق فهو والمنفصل سواء, وكذلك لو ولدت لأقل من ستة أشهر بيوم من حين أعتقت لأنا تيقنا أنه كان موجودا في البطن حين أعتقت, وكذلك لو ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر بيوم لأن التوأم خلقا من ماء واحد فمن ضرورة التيقن بوجود أحدهما حين أعتقت التيقن بوجود الآخر فأما إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر فلم يتيقن بوجود هذا الولد حين أعتقت فكان مولى لموالي الأم تبعا وهذا لأن الحل إذا كان قائما بين الزوجين فإنما يسند العلوق إلى أقرب الأوقات إذ لا ضرورة في الإسناد إلى ماوراءه إلا إذا كانت معتدة من موت أو طلاق فحينئذ إذا جاءت به لتمام سنتين منذ يوم مات أو طلق فالولد مولى لموالي الأم لأن الحل ليس بقائم في المعتدة من طلاق بائن أو موت فيسند العلوق إلى أبعد الأوقات لضرورة الحاجة إلى إثبات النسب, وإذا حكمنا بذلك ظهر أن الولد كان موجودا في البطن حين أعتقت وكذلك إذا كانت معتدة من طلاق رجعي لأنا لا نثبت الرجعة بالشك ومن ضرورة إثبات النسب إلى سنتين من غير أن يجعل مراجعا الحكم بأن العلوق قبل الطلاق وإن جاءت به لأكثر من سنتين كان الولد مولى لموالي الأب فصار مراجعا لتيقننا أن العلوق حصل بعد الطلاق, وإن كانت أقرت

 

ج / 8 ص -76-         بانقضاء العدة فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر بعد ذلك ولتمام سنتين منذ طلق فالولد مولى لموالي الأم لأنا علمنا مجازفتها في الإقرار بانقضاء العدة حين أقرت وهي حامل فيسند العلوق إلى أبعد الأوقات ولا يصير مراجعا إلا أن تكون جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلق فحينئذ يصير مراجعا لأن إقرارها بانقضاء العدة صار لغوا حين تيقنا أنها كانت حاملا يومئذ فكان ولاء الولد لموالي الأب لأنا لم نتيقن بكونه موجودا في البطن حين أعتقت ولا يصير مقصودا بالولاء إلا بذلك.
قال:  "أمة معتقة ولدت من عبد فالولد مولى لموالي أمه فإن أعتق الولد وأمه فموالاته موالاة لموالي الأم" بمنزلة موالاة الأم لو كانت هي التي أعتقها وكذلك إن أسلم على يد الولد رجل ووالاه فهو مولى لموالي الأم أيضا يعقلون عنه ويرثونه لأن ولدها كنفسها
ولو أسلم على يدها ووالاها كان مولى لمواليها فهذا مثله فإن أعتق الأب بعد ذلك جر ولاؤها ولاء كلهم حتى يكون مولى لموالي الأب لأن ولاء الأم انجر إلى قوم الأب فكذلك ما ينبني عليه من ولاء معتقه ومولاه وهذا لأن نسبة معتقه ومولاه إلى قوم الأم كان بواسطة وقد انقطعت هذه الواسطة حين صار هو منسوبا إلى قوم الأب, ويستوي إن كان ولد المعتقة حيا أو ميتا له ولد أو ليس له ولد لأنه تبع في حكم الولاء لمعتق أمه وبقاء الأصل يغني عن اعتبار بقاء التبع لأن ثبوت الحكم في التبع بثبوته في الأصل ولا يرجع عاقلة الأم على عاقلة الأب بما غرموا من إرش جنايته لأنهم غرموا ذلك حين كان مولى لهم حقيقة فإن حكم جر الولاء في الولد ثبت مقصورا على الحال لأن سببه وهو عتق الأب مقصور غير مستند إلى وقت سابق وكذلك حكمه بخلاف الملاعن إذا أكذب نفسه وقد عقل جناية الولد قوم أمه, فإنهم يرجعون على عاقلة الأب بذلك لأن النسب يثبت من وقت العلوق فتبين بإكذابه نفسه أنه كان ثابت النسب منه من حين علق وقوم الأم كانوا مجبرين على أداء الأرش فلا يكونون متبرعين في ذلك ولو لم يعتق الأب فأراد المولى الذي أسلم على يدي أبيه أن يتحول بولائه إلى مالك أبيه وقد عقل عنه موالي الأم لم يكن له ذلك لأن عقده مع الابن تأكد بحصول المقصود به فلا يحتمل الفسخ وفي التحول إلى غيره فسخ الأول بخلاف ما إذا أعتق الأب فإنه ليس في تحول ولائه إلى موالي الأب فسخ ذلك العقد الذي جرى بينه وبين الابن بل فيه تأكيد ذلك ولأن هذا التحول يثبت حكما لضرورة اتباع التبع الأصل والأول يكون عن قصد منه وقد يثبت الشيء حكما في موضع لا يجوز إثباته قصدا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب ولاء الموالاة
قال:  "إبراهيم رضي الله عنه إذا أسلم الرجل على يد الرجل ووالاه فإنه يرثه ويعقل عنه وله أن يتحول بولائه إلى غيره ما لم يعقل عنه فإذا عقل عنه لم يكن له أن يتحول عنه إلى غيره" وبهذا نأخذ والإسلام على يديه ليس بشرط لعقد الموالاة وإنما ذكره على سبيل العادة

 

ج / 8 ص -77-         وسواء أسلم على يده أو أتاه مسلما وعاقده عقد الولاء كان مولى له, وكان الشعبي يقول لا ولاء إلا لذي نعمة يعني العتاق وبه يأخذ الشافعي رحمه الله تعالى, وإنما أخذنا فيه بقول إبراهيم رضي الله تعالى عنه لحديث أبي الأشعث حيث سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رجل أسلم على يديه ووالاه فمات وترك مالا فقال عمر رضي الله عنه ميراثه لك فإن أبيت فلبيت المال ولحديث زياد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن رجلا من أهل الأرض أتاه بواليه فأبى علي رضي الله عنه ذلك فأتى بن عباس رضي الله عنه فوالاه ولحديث مسروق رضي الله عنه أن رجلا من أهل الأرض وإلى بن عم له وأسلم على يديه فمات وترك مالا فسأل بن مسعود رضي الله عنه عن ميراثه فقال هو لمولاه, وأيد أقاويل الصحابة حديث تميم الداري رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يسلم على يدي الرجل ما السنة فيه قال هو أولى الناس بمحياه ومماته وأيد هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: من الآية33]  وقد بينا في أول الكتاب فإن أسلم على يديه ولم يواله لم يعقل عنه ولم يرثه إلا على قول الروافض فإنهم يقولون بالإسلام على يديه يكون مولى له لأنه أحياه بإخراجه إياه من ظلمة الكفر لأن الكفار كالموتى في حق المسلمين فهو كما لو أحياه بالعتق وعلى هذا يزعمون أن الناس موالي علي وأولاده رضي الله عنهم فإن السيف كان بيده وأكثر الناس أسلموا من هيبته وهذا باطل عندنا فإن الله تعالى هو الذي أحياه بالإسلام بأن هداه لذلك.
 وبيان ذلك في قوله تعالى:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: من الآية122] أي كافرا فرزقناه الهدى وقال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ }[الأحزاب: من الآية37]  يعني بالإسلام فدل أن المنعم بالإسلام هو الله تعالى فلا يجوز أن يضاف ذلك إلى الذي عرض عليه الإسلام لأنه بما صنع نائب عن الشرع مباشر ما يحق عليه لله تعالى فهو في حقه كغيره من المسلمين لا يكون مولى له ما لم يعاقده عقد الولاء ثم من أين لهم هذا التحكم أن أكثر الناس أسلموا من هيبة علي وهو كان صغيرا حين أسلم الكبار من الصحابة وأبو بكر وعمر كانا مقدمين عليه رضي الله عنهم في أمور القتال وغير القتال لا يخفى ذلك على من يتأمل في أحوالهم, ولكن الروافض قوم بهت لا يحترزون عن الكذب بل بناء مذهبهم على الكذب فإن أسلم رجل على يدي رجل ووالى رجلا آخر فهو مولى هذا الذي والاه يرثه ويعقل عنه لأنه بالإسلام على يدي الأول لم يصر مولى له ولو كان مولى بأن عاقده كان له أن يتحول عنه وقد فعل ذلك حين عاقد مع الثاني فكيف إذا لم يكن مولى للأول, فإن مات عن عمة أو خالة أو غيرهما من القرابة كان ميراثه لقرابته دون المولى لما بينا أنه لا يملك إبطال حق المستحق عن ماله بعقده كما لو أوصى بجميع ماله وله وارث وذوو الأرحام من جملة الورثة قال صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له" فلا يملك إبطال حقه بعقده.
 توضيحه أن سبب ذي الرحم وهو القرابة أقوى لأنه متفق على ثبوته شرعا, وإن اختلفوا في الإرث به وعقد الولاء مختلف في ثبوته شرعا فلا يظهر الضعيف في مقابلة القوي.

 

ج / 8 ص -78-         فإن قيل:  ينبغي أن يكون للمولى الثلث لأنه خالص حقه يملك وضعه فيمن شاء.
قلنا:  نعم ولكنه بعقد الولاء ما وضع شيئا من ماله فيه إنما جعله وارثا منه وفي سبب الوراثة ذو القرابة يترجح فلا يظهر استحقاق المولى معه بهذا السبب في شيء من المال بخلاف الوصية بالثلث فإنه خلافة في المال مقصودا.
 توضيحه أن التملك بالوصية غير التملك بالإرث, ألا ترى أن الموصى له لا يرد بالعيب ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصى بخلاف الوارث فلا يمكن جعل الثلث له لا بطريق الوصية لأنه ما أوجب له ذلك ولا بطريق الإرث لترجح استحقاق القريب عليه وإذا والى رجل رجلا ثم ولد له بن من امرأة قد والت رجلا فولاء الولد لموالي الأب لأن الأب هو الأصل في النسب والولاء فإذا كان للولد في جانب الأب ولاء هو مساو للولاء الذي في جانب الأم يترجح جانبه كما في ولاء العتق.
قال:  "وكذلك إن كانت والت وهي حبلى به وهذا بخلاف ولاء العتاقة فإنها إذا أعتقت وهي حبلى به كان ولاء الولد لموالي أمه" لأن الولد هناك يكون مقصودا بالسبب وهو العتق فإن الجنين محل للعتق مقصودا وهنا الجنين لم يصر مقصودا بالولاء لأنه ما دام في البطن فهو ليس بمحل لعقد الموالاة مقصودا لأن تمام هذا العقد بالإيجاب والقبول وليس لأحد عليه ولاية القبول, وإذا كان تبعا فاتباعه الأب أولى كما بينا وكذلك لو كان لهما أولاد صغار حين والى الأب إنسانا, وقد والت الأم قبل ذلك آخر فالأولاد موال لموالي الأب لأنه ليس للأم ولاية عقد الولاء على الأولاد في قولهما.
 وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لها ذلك عند عدم الأب أما مع وجود الأب فلا ولئن كان لها ذلك مع وجود الأب فهي ما عقدت عليهم إنما عقدت على نفسها خاصة ولئن جعل عقدها على نفسها عقدا على الأولاد فعقد الأب كذلك على نفسه عقد على الأولاد, وولاء الموالاة يقبل التحول فيجعل الأب محولا لولائهم إلى من والاه وذلك صحيح منه ولهذا كان الأولاد موال لموالي الأب فإن جنى الأب جناية فعقل الذي والاه عنه فليس لولده أن يتحول عنه إلى غيره بعد الكبر لأن ولاء الأب تأكد بعقد الجناية ويتأكد التبع يتأكد الأصل وكما ليس للأب أن يتحول عنه إلى غيره بعد ما عقل جنايته فكذلك ليس لولده ذلك إذا كبر. وكذلك إذا كان هذا الولد جني أو جني بعض أخوته فعقل عنه مولاه فليس له أن يتحول عنه لأن الأب مع أولاده كالشخص الواحد في حكم الولاء فبعقل جناية أحدهم بتأكد العقد في حقهم جميعا بخلاف ما قبل عقل الجناية عن أحد منهم لأن هناك ولاؤهم لم يتأكد فإن تأكد العقد بحصول المقصود به وإنما لم يجعل هذا العقد متأكدا قبل حصول المقصود به لأنه ليس فيه معنى المعاوضة بل أحدهما متبرع على صاحبه بالقيام على نصرته وعقل جنايته والآخر متبرع على صاحبه في جعله إياه خليفته في ماله بعد وفاته وعقد التبرع لا يلزم بنفسه ما لم يتصل به القبض ولو كان هذا معاوضة باعتبار المعنى لم يخرج من أن يكون متبرعا صورة فيكون كالهبة بشرط

 

ج / 8 ص -79-         العوض لا يتم بنفسه ما لم يتصل به القبض فإن كان له بن كبير حين والى الأب فأسلم الابن على يدي رجل آخر ووالاه فولاؤه له لأنه مقصود باكتساب سبب الولاء هنا بمنزلة اكتساب أبيه فهو كما لو أعتق الأب إنسان والابن إنسان آخر فيكون كل واحد منهما مولى لمن أعتقه, وإن أسلم الابن ولم يوال أحدا فولاؤه موقوف نعني به أنه لا يكون مولى لموالي الأب بخلاف المولود في ولائه والصغير عند عقد الأب لأن عقد الولاء ترتب على الإسلام عادة, والابن الكبير لا يتبع أباه في الإسلام بخلاف الصغير والمولود بعد الإسلام فكذلك في حكم الولاء الذي ترتب عليه وهذا لأن الصغير ليس بأصل في اكتساب سبب الولاء, ألا ترى أنه لا يصح هذا العقد منه بدون إذن وليه فيجعل فيه تبعا لأبيه أما الكبير أصل في اكتساب سبب هذا الولاء حتى يصح منه عقد الولاء بدون إذن أبيه وبين كونه أصلا في حكم وتبعا فيه منافاة ولهذا لا يصير مولى للذي والاه أبوه, وإذا أسلمت الذمية ووالت رجلا ولها ولد صغير من رجل ذمي لم يكن ولاء ولدها لمولاها, في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.
وفي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يكون ولاء ولدها لمولاها فمنهمن جعل هذه المسألة قياس ولاية التزويج أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يثبت ذلك للأم على ولدها الصغير حتى يصح عقدها ولا يتعلق به صفة اللزوم حتى يثبت للولد خيار البلوغ فكذلك يصح هذا العقد منها في حق الولد لأنه لا يتعلق به صفة اللزوم بنفسه وعندهما ليس للأم ولاية التزويج مع اختلاف في الرواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى هناك وكذلك ولاء الموالاة, والأظهر أن هذه مسألة على حدة.
ووجه قولهما أن حكم الولاء يثبت بعقد فيستدعي الإيجاب والقبول ويتردد بين المنفعة والمضرة والولد بعد الانفصال لا يكون تبعا للأم في مثل هذا العقد ولا يكون لها عليه ولاية المباشرة لهذا العقد كعقد الكتابة.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ولاء الموالاة إما أن يعتبر بالإسلام من حيث أنه يترتب عليه عادة أو بولاء العتاقة فإن اعتبر بالإسلام فالولد الصغير يتبع أمه في الإسلام فكذا في هذا الولاء وإن اعتبر بولاء العتاقة فالولد يتبع أمه فيه إذا لم يكن له ولاء من جانب أبيه وهذا لأنه يتمحض منفعة في حق هذا الولد لأنه ما دام حيا فمولاه يقوم بنصرته ويعقل جنايته وإذا بلغ قبل أن يعقل جنايته كان له أن يتحول عنه إن شاء فعرفنا أنه منفعة محضة في حقه فيصح من الأم كقبول الهبة والصدقة بخلاف عقد الكتابة فإن فيه إلزام الدين في ذمته ولا يتمحض منفعة في حقه, وإذا أسلم حربي أو ذمي على يدي رجل ووالاه ثم أسلم ابنه على يدي آخر ووالاه كان كل واحد منهما مولى الذي والاه ولا يجر بعضهم ولاء بعض وليس هذا كالعتاق, وأشار إلى الفرق ولا فرق في الحقيقة لأن كل واحد منهما مقصود في سبب الولاء وهو العقد ولو كان مقصودا في سبب ولاء العتق أيضا لم يجر أحدهما ولاء الآخر وإنما مراده من الفرق أن الولد الكبير لما أسلم على يدي الثاني لا يصير مولى لموالي أبيه لأن هناك سبب

 

ج / 8 ص -80-         الولاء العقد لا الإسلام وهو أصل في العقد يتمكن من مباشرته بنفسه فلهذا لا يجعل فيه تبعا لأبيه حربي أسلم ووالى مسلما في دار الحرب أو في دار الإسلام فهو مولاه لأن سببه هو العقد الذي جرى بين المسلمين والعقد بين المسلمين صحيح سواء كان في دار الحرب أو كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام كعقد النكاح وهذا لأن المقصود التناصر والمسلم يقوم بنصرته حيث يكون أو يعتبر ولاء الموالاة بولاء العتق, ولو أن مسلما في دار الإسلام أعتق عبدا مسلما له في دار الحرب كان مولى له فكذلك في الموالاة, فإن سبي ابنه فأعتق لم يجر ولاء الأب لأن الوالد لا يتبع ولده في الولاء فإن الولاء كالنسب والوالد لا ينسب إلى ولده لأنه فرعه.
والأصل لا ينسب إلى الفرع فلهذا لا يجر الابن ولاء الأب, وإن سبي أبوه فأعتق جر ولاءه لما بينا أن ولاء الموالاة لا يظهر في مقابلة ولاء العتق فكان الابن بعد عتق الأب بمنزلة من لا ولاء له فيجر الأب ولاءه بخلاف ما إذا أسلم الأب ووالى رجلا لأن ولاء الابن هنا مساو لولاء الأب فيظهر في مقابلته فيكون كل واحد منهما مولى لمولاه, ولو كان بن ابنه لم يسب ولكنه أسلم على يدي رجل ووالاه ثم سبي الجد فأعتق لم يجر ولاء نافلته لما بينا أن الجد لا يجر الولاء إلا أن يجر ولاء ابنه فإن تحقق ذلك فحينئذ يجر ولاء ابنه وإنما يتصور جره ولاء ابنه فيما إذا سبي أبوه فاشتراه هذا الجد حتى عتق عليه فيصير ابنه مولى لمواليه وينجر إليه ولاء النافلة بهذه الواسطة, فأما إذا أعتق الابن غيره فالجد لا يجر ولاءه لكونه مقصودا بالعتق ولا يجر ولاء ولده أيضا.
قال: "وموالاة الصبي باطلة يعني إذا أسلم على يدي صبي ووالاه" لأن بالعقد يلتزم نصرته في الحال والصبي ليس من أهل النصرة ولهذا لا يدخل في العاقلة وهو ليس من أهل الالتزام بخلاف ما إذا أسلم على يدي امرأة ووالاها لأن المرأة من أهل الالتزام بالعقد ومن أهل اكتساب سبب الولاء بالعتق فكذلك بالعقد. وإن والى رجل عبدا لم نجزه إلا أن يكون بإذن المولى فحينئذ يكون مولى له لأنه عقد التزام النصرة والعبد لا يملكه بنفسه بدون
إذن مولاه فإن كان بإذنه فحينئذ يكون عقده كعقد مولاه فيكون الولاء للمولى كما إذا أعتق عبدا من كسبه بإذن مولاه وهذا لأن المقصود به النصرة والميراث بعد الموت ونصرة العبد لمولاه وهو ليس بأهل للملك بالإرث ولهذا يجعل المولى خلفا عنه فيما هو من حكم هذا العقد, وإن والى صبيا بإذن أبيه أو وصيه يجوز لأن عبارة الصبي إذا كان يعقل معتبرة في العقود والتزامه بالعقد بإذن وليه صحيح, فيما لا يكون محض مضرة كالبيع والشراء ونحوه لأن الولي يملك عليه هذا العقد فإنه لو قبل الولاء لولده على إنسان كان صحيحا فكذلك يملكه الولد بإذن أبيه ثم يكون مولى للصبي لأنه أهل للولاء بنفسه إذا صح سببه, ألا ترى أنه إذا ورث قريبه يعتق عليه ويكون مولى له فكذا حكم ولاء الموالاة بخلاف العبد, ولو أسلم على يدي مكاتب ووالاه كان جائزا لأن المكاتب من أهل الالتزام بالعقد ومن أهل مباشرة سبب الولاء ألا ترى أنه يكاتب

 

ج / 8 ص -81-         عبده فيكون صحيحا منه وإذا أدى مكاتبته فعتق قبل أدائه كان مولى لمولاه فكذا هنا يكون مولى لمولاه لأنه مع الرق ليس بأهل لموجب الولاء وهو الإرث فيخلفه مولاه فيه ولو والى ذمي مسلما أو ذميا جاز وهو مولاه وإن أسلم الأسفل لأن الذمي من أهل الالتزام بالعقد ومن أهل اكتساب سبب الولاء كالمسلم, وإذا صح العقد فإسلام الأسفل لا يزيده إلا وكادة ويبقى مولى له بعد إسلامه حتى يتحول إلى غيره, ولو أسلم رجل من نصارى العرب على يدي رجل من غير قبيلته ووالاه لم يكن مولاه ولكن ينسب إلى عشيرته وأصله هم يعقلون عنه ويرثونه وكذلك المرأة لما بينا أن النسب في حق العرب معتبر وإنه يضاهي ولاء العتق ومن كان عليه ولاء العتق لم يصح منه عقد الموالاة مع أحد فكذلك من كان له نسب من العرب لا يصح منه عقد الموالاة مع أحد وهذا بخلاف ولاء العتق فإن من ثبت عليه الرق من نصارى العرب إذا أعتق كان مولى لمعتقه لأن ولاء العتق قوي كالنسب في حق العرب أو أقوى منه فيظهر مع وجوده ويتقرر حكمه بتقرر سببه فأما ولاء الموالاة ضعيف لا يتقرر سببه مع وجود النسب في حق العربي والحكم ينبني على السبب. "ذمي أسلم ولم يوال أحدا ثم أسلم آخر على يديه ووالاه فهو مولاه" لأنه من أهل الالتزام بالعقد ومن أهل المقصود بالولاء وإن لم يكن لأحد عليه ولاء, وإن أسلم ذمي على يد حربي فإنه لا يكون مولاه وإن أسلم الحربي بعد ذلك وهذا ظاهر لأنه لو أسلم على يدي مسلم لم يكن مولى له, ولكن فائدة هذه المسألة بيان أن الحربي الذي يعرض الإسلام على غيره, ويلقنه لا يصير مسلما بذلك ألا ترى أنه قال وإن أسلم الحربي بعد ذلك لم يكن مولاه وهذا لأن من يلقن غيره شيئا لا يكون مباشرا لذلك الشيء بنفسه كالذي يلقن غيره طلاق امرأته وعتق عبده.
قال:  "رجل والى رجلا فله أن يتحول عنه ما لم يعقل عنه ولكن إنما ينتقض العقد بحضرته " لأن العقد تم بهما ومثل هذا العقد لا يفسخه أحدهما إلا بمحضر من صاحبه كعقد الشركة والمضاربة والوكالة وهذا لأن تمكن كل أحد منهما من الفسخ باعتبار أن العقد غير لازم بنفسه لا باعتبار أنه غير منعقد بنفسه ففي فسخ أحدهما إلزام الآخر حكم الفسخ في عقد كان منعقدا في حقه فلا يكون إلا بمحضر منه لما عليه من الضرر لو ثبت حكم الفسخ في حقه قبل علمه وهو نظير الخطاب بالشرعيات فإنه لا يظهر حكم الخطاب في حق المخاطب ما لم يعلم به لدفع الضرر عنه, وكذلك لو أن الأعلى تبرأ من ولاء الأسفل صح ذلك إذا كان بمحضر منه لأن العقد غير لازم من الجانبين ولكل واحد منهما أن ينفرد بفسخه بغير رضاء صاحبه بعد أن يكون بمحضر منه وإن والى الأسفل رجلا آخر كان ذلك نقضا للعقد مع الأول وإن لم يكن بمحضر منه لأن انتقاض العقد في حق الأول هنا يثبت حكما لصحة العقد مع الثاني وفي العقد مع الثاني لا يشترط حضرة الأول فكذلك فيما يثبت حكما له بخلاف الفسخ مقصودا وهو نظير عزل الوكيل حال غيبته لا يصح مقصودا ويصح حكما لعتق العبد الذي وكله ببيعه.

 

ج / 8 ص -82-         فإن قيل:  فلماذا يجعل صحة العقد مع الثاني موجبا فسخ العقد الأول ولو والاهما جملة صح.
قلنا:  لأن الولاء كالنسب ما دام ثابتا من إنسان لا يتصور ثبوته من غيره فكذلك الولاء فعرفنا أن من ضرورة صحة العقد مع الثاني بطلان العقد الأول ثم ولاء الموالاة بعد صحته معتبر بولاء العتق حتى إذا أعتق الأسفل عبدا ووالاه رجل فولاء معتقه وولاؤه للأعلى الذي هو مولاه ولو مات الأعلى ثم مات الأسفل فإنما يرثه الذكور من أولاد الأعلى دون الإناث على نحو ما بيناه في ولاء العتق والله أعلم بالصواب.

باب بيع الولاء
قال:  "ذكر عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهما قال:
"الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" وبهذا نأخذ دون ما روى عن سليمان بن يسار أنه كان مولى لميمونة بنت الحارث فوهبت ولاءه لابن العباس وهذا لأن الهبة عقد تمليك فيستدعي شيئا مملوكا يضاف إليه عقد الهبة ليصح التمليك فيه وليس للمعتق على معتقه شيء مملوك وعلى هذا لو تصدق بولاء العتاقة أو أوصى به لإنسان فهو باطل وكذلك لو باع ولاء العتاقة فهو باطل لما قلنا ولأن البيع يستدعي مالا متقوما والولاء ليس بمال متقوم, وقد بينا في أول الكتاب أن الولاء نفسه لا يورث إنما يورث به كالنسب والإرث قد يثبت فيما لا يحتمل البيع والهبة كالقصاص فإذا كان لا يورث فلان لا يتحقق فيه البيع والهبة والصدقة كان أولى وولاء الموالاة قياس ولاء العتق لا يجوز بيعه من أحد ولا هبته لما قلنا بل أولى لأن ولاء الموالاة يعتمد التراضي والأسفل غير راض بأن يكون ولاؤه لغير من عاقده وولاء العتق لا يعتمد التراضي فإذا لم يصح التحويل هناك فهنا أولى وإن كان الذي أسلم ووالى هو الذي باع ولاءه من آخر أو وهبه كان ذلك نقضا للولاء الأول وموالاة مع هذا الثاني إن لم يكن عقل عنه الأول لأن قصده بتصرفه أن يكون ولاؤه للثاني فيجب تحصيل مقصوده بطريق الإمكان ألا ترى أنه لو عقد مع الثاني بغير محضر من الأول كان ذلك نقضا منه للولاء الأول بخلاف الأعلى فإنه لا يملك نقض ولائه بغير محضر منه بحال ولكن بيع الأسفل من الثاني باطل حتى يرد عليه ما قبض من الثاني من الثمن لأن البيع لا ينعقد إلا على مال متقوم والولاء ليس بمال فلا ينعقد به البيع مضافا إليه كالميتة والدم وإذا لم ينعقد البيع لا يملك البدل بالقبض فلا ينفذ عتقه فيه والله أعلم بالصواب.

باب عتق الرجل عبده عن غيره
قال:  ذكر في الأصل حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة أتتها تسألها في مكاتبتها فقالت لها اشتريك فأعتقك وأوفي عنك أهلك فذكرت ذلك لهم فقالوا إلا أن نشترط الولاء لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اشتريها وأعتقيها فإنما

 

ج / 8 ص -83-         الولاء لمن أعتق"  فاشترتها فأعتقتها وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ما بال أقوام يقولون اعتق يا فلان والولاء لي إنما الولاء لمن أعتق" ثم قال هذا وهم من هشام بن عروة ولا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بباطل ولا بغرور وهو شاذ من الحديث لا يكاد يصح إنما القدر الذي صح ما ذكره إبراهيم رحمه الله تعالى لما ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "الولاء لمن أعتق" وهو بيان للحكم الذي بعث لأجله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما ما زاد عليه هشام فهو وهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأمر بالعقد الفاسد والشراء بهذا الشرط فاسد.
واستدل بحديث الزهري أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه اشترى من امرأته الثقفية جارية وشرط لها أنها لها بالثمن إذا استغنى عنها فسأل عمر رضي الله عنه عن ذلك فقال أكره أن أطأها ولا حد فيها شرط فكان عمر رضي الله عنه أوثق وأعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره وفي البيع مع الشرط اختلاف بين العلماء نذكره في كتاب البيوع.
وفائدة هذا الحديث أن بيع المكاتبة برضاها يجوز وأن الولاء يثبت لمن حصل العتق على ملكه لا لمن شرطه لنفسه بدون ملك المحل فإنه قال
"الولاء لمن أعتق" ولأجله روى الحديث في هذا الكتاب, وإذا أعتق الرجل عن حي أو ميت قريب أو أجنبي بإذنه أو بغير إذنه فالعتق جائز عن المعتق والولاء له دون المعتق عنه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى, أما إذا كان بغير إذنه فهو قول الكل لأنه ليس لأحد ولاية إدخال الشيء في ملك غيره بغير رضاه سواء كان قريبا أو أجنبيا حيا أو ميتا فإنما ينفذ العتق على ملك المعتق فيكون الولاء له, وهذا بخلاف ما إذا تصدق الوارث عن مورثه فإن ذلك يجزيه لأن نفوذ الصدقة لا يستدعي ملك من تكون الصدقة عنه لا محالة ولأنه بالتصدق عنه يكتسب له الثواب ولا يلزمه شيئا وبالعتق عنه يلزمه الولاء وليس للوارث أن يلزم مورثه الولاء بعد موته بغير رضاه, فأما إذا كان بإذنه فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى كذلك لأن التمليك من المعتق عنه بغير عوض لا يحصل إلا بالقبض ولم يوجد, وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يكون الولاء للمعتق عنه وقد بينا في باب الظهار من كتاب الطلاق
وكذلك إذا قال الرجل أعتق عبدك على ألف درهم أضمنها لك ففعل, لم يكن العتق عن الآمر بخلاف ما لو قال أعتق عبدك عني على ألف لأن هناك التمليك يندرج فيه وذلك يستقيم إذا كان في لفظه ما يدل عليه وهو قوله أعتقه عني فأما هنا فليس في لفظه ما يدل على التماس التمليك منه فلا يندرج فيه التمليك وبدونه يكون العتق عن المعتق دون الآمر وليس على الآمر من المال شيء لأنه ضمن ما ليس بواجب على أحد ولأنه التزم له مالا بانتفاعه بملك نفسه وتحصيله الولاء لنفسه وهذا باطل قد بيناه في كتاب العتاق وإن كان أدى المال رجع عنه لأنه أدى بطريق الرشوة ولو أن امرأة تزوجت رجلا على أن يعتق أباها ففعل فالولاء للزوج ولها مهر مثلها بخلاف ما إذا تزوجها على أن يعتق أباها عنها فإن التمليك منها يندرج هناك فيتقرر فيها رقبة الأب صداقا لها وهنا لا

 

ج / 8 ص -84-         يندرج التمليك حين لم يكن في اللفظ عليه دليل فيبقي النكاح بغير تسمية المهر فلها مهر مثلها.
قال:  "وكذلك الخلع يعني أن تختلع من زوجها على أن تعتق أباه فالعتق عنها والأب مولى لها" لأنه عتق على ملكها ولم يبين أن الزوج هل يرجع عليها بشيء.
 فمن أصحابنا من يقول يرجع عليها بما ساق إليها لأنه شرط عليها منفعة الولاء لنفسه ولم ينل والأصح أنه لا يرجع عليها بشيء,  لأن الولاء ليس بمال متقوم ولو خلعها على خمر لم يرجع عليها فهذا مثله, ولو قال أعتق عبدك عني على ألف درهم ففعل فهو حر على الآمر والمال لازم له والولاء له وفي هذا خلاف زفر رحمه الله تعالى وقد بيناه في باب الظهار وكذلك إن كان الآمر بذلك امرأة العبد فسد النكاح لأنها قد ملكت الرقبة.
وذكر حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها حلفت أن لا تكلم عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه فشفع عليها حتى كلمته فأعتق عنها بن الزبير رضي الله تعالى عنه خمسين رقبة في كفارة يمينها وبهذا استدل أبو يوسف رحمه الله تعالى فإن البدل ليس بمذكور في الحديث, ولكنا نقول كما لم يذكر البدل في الحديث فلم يذكر أنها امرأته بذلك وبالاتفاق بدون الأمر لا يكون العتق عن المعتق عنه فإنما يحمل هذا على أنها كفرت يمينها وبن الزبير رحمه الله تعالى إنما أعتق شكرا لله تعالى حيث كلمته.
 وذكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أعتقت عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهم عبيدا من تلاده بعد موته وإنما يحمل هذا على أن عبد الرحمن رحمه الله تعالى كان أوصى بعتقهم وجعل إليها ذلك والله أعلم بالصواب.

باب الشهادة في الولاء
قال:  رضي الله عنه "رجل مات وترك مالا ولا وارث له فادعي رجل أنه وارثه بالولاء فشهد له شاهدان أن الميت مولاه ووارثه لا وارث له غيره لم تجز الشهادة حتى يفسرا الولاء لأن اسم المولى مشترك قد يكون بمعنى الناصر قال الله تعالى 
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]  وقد يكون بمعنى بن العم قال الله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} [مريم: من الآية5] وقد يكون بالعتق وقد يكون بالموالاة فما لم يفسروا لم يتمكن القاضي من القضاء بشيء وكذا لو شهدا أن الميت مولى هذا مولى عتاقه لأن اسم مولى العتاقة يتناول الأعلى ويتناول الأسفل فلا يدري القاضي بأي الأمرين يقضي وأيهما كان أعتق صاحبه.
فإن قيل:  هذا الاحتمال يزول بقولهما ووارثه فإن الأسفل لا يرث من الأعلى وإنما يرث الأعلى من الأسفل.
قلنا:  بهذا لا يزول الاحتمال فمن الناس من يرى توريث الأسفل من الأعلى وهو باطل عندنا ولعل الشاهدين اعتقدا ذلك وقصدا به التلبيس على القاضي يعلمهما أنهما لو فسرا لم يقض القاضي له بالميراث ثم قد يكون مولى عتاقه له بإعتاق منه وبإعتاق من أبيه أو بعض

 

ج / 8 ص -85-         أقاربه وبين الناس كلام في الإرث بمثل هذا الولاء يختص به العصبة أم يكون بين جميع الورثة فلهذا لا يقضى بشهادتهما ما لم يفسرا, فإن شهدا أن هذا الحي أعتق هذا الميت وهو يملكه وهو وارثه لا يعلمون له وارثا سواه جازت الشهادة لأنهم فسروا ما شهدوا به على وجه لم يبق فيه تهمة التلبيس ويستوى في هذا الشهادة على الشهادة وشهادة الرجال مع النساء لأنهم يشهدون بسبب استحقاق المال فهو بمنزلة شهادتهم على النسب وإن لم يشهدوا أنه وارثه لم يرث منه شيئا لأن استحقاق الإرث بولاء العتاقة مقيد بشرط وهو أن لا يكون للميت عصبة نسبا ولا يثبت ذلك الشرط إلا بشهادتهم وقولهم لا نعلم له وارثا
غيره ليس بشهادة إنما الشهادة على ما يعلمون وكما أنهم لا يعلمون فالقاضي لا يعلم فعرفنا أن هذا ليس هو المشهود به فلا بد من أن يشهدوا أنه وارثه وكذلك إن شهدوا على عتق كان من أبيه وفسروا على وجه يثبت وراثته منه, فإن قالا لم ندرك أباه هذا المعتق ولكنا قد علمنا هذا لم نجز شهادتهما على هذا أما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فلأنهما لا يجوز أن الشهادة على الولاء بالتسامع.
وأما أبو يوسف رحمه الله تعالى يجوز ذلك ولكن إذا أطلقا الشهادة عند القاضي فأما إذا بينا أنهما لم يدركا وأنما يشهدان بالتسامع فالقاضي لا يقبل ذلك وبيان هذا في كتاب الشهادات, ولو أقام المدعي شاهدين أنه أعتق أم هذا الميت وأنها ولدته بعد ذلك بمدة من عبد فلان وأن أباه مات عبدا أو ماتت أمه ثم مات وهو وارثه فقد فسروا الأمر على وجهه فإن القاضي يقضي له بالميراث.
قال:  "فإن أقام رجل البينة أنه كان أعتق أباه قبل أن يموت وهو يملكه وإنه وارثه فإنه يقضي له بالميراث" لأنه أثبت سبب جر الولاء إليه وهو عتق الأب فتبين أن القاضي أخطأ في قضائه بالميراث لموالي الأم وكذلك هذا في ولاء الموالاة إذا أثبت الثاني خطأ القاضي في القضاء به للأول فإنه يبطل ما قضي به ويكون الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم أو بالمعاينة, ولو ادعي رجلان ولاء ميت بالعتق وأقام كل واحد منهما البينة جعلت ميراثه بينهما لاستوائهما في سبب الاستحقاق ولأنه لا يبعد إرث رجلين بالولاء من واحد كما لو أعتقا عبدا بينهما والبينات حجج فيجب العمل بها بحسب الإمكان
فإن وقتت كل واحدة من البينتين وقتا وكان أحدهما سابقا فهو أولى لأنه أثبت الولاء لنفسه في وقت لا ينازعه الغير فيه فهو كالنسب إذا أقام رجلان البينة عليه وأحدهما أسبق تاريخا ولأنه بعد ما ثبت العتق من الأول في الوقت الذي أرخ شهوده لا يتصور ملك الثاني فيه حتى يعتقه فتبين بشهادة الذين أرخوا تاريخا سابقا بطلان شهادة الفريق الثاني
وإن كان ذلك في ولاء الموالاة فصاحب العقد الآخر أولى لأنه بعد عقد الموالاة مع الأول يتحقق منه العقد مع الثاني ويكون ذلك بقضاء للولاء الأول فشهود الآخر أثبتوا بشهادتهم ما يفسخ الولاء الأول فالقضاء بشهادتهم أولى إلا أن يشهد شهود صاحب الوقت الأول أنه كان عقل عنه فحينئذ قد تأكد ولاؤه ولا ينتقض بالعقد مع الآخر بل يبطل الثاني ويبقي الأول بحاله فلهذا كان الأول أولى, وإن أقام رجل البينة أنه أعتقه وهو يملكه

 

ج / 8 ص -86-         وقضى له القاضي بولائه وميراثه ثم أقام آخر البينة على مثل ذلك لم يقبل القاضي ذلك كما في النسب إذا ترجح أحد المدعيين بتقدم القضاء من القاضي ببينته لم تقبل البينة من الآخر بعد ذلك وهذا لأن القاضي يعلم كذب أحد الفريقين وقد تأكدت شهادة الفريق الأول بانضمام القضاء إليها فإنما يحال بالكذب على شهادة الفريق الثاني إلا أن يشهدوا أنه كان اشتراه من الأول قبل أن يعتقه ثم أعتقه وهو يملكه فحينئذ يقضي القاضي له بالميراث ويبطل قضاؤه للأول لأنهم أثبتوا سبب كونه مخطئا في القضاء الأول وهو أن الأول لم يكن مالكا حين أعتقه لأن الثاني كان اشتراه منه قبل ذلك.
قال:  "رجل مات وادعي رجل أن أباه أعتقه وهو يملكه وأنه لا وارث لأبيه ولا لهذا الميت غيره وجاء بابني أخيه فشهدا على ذلك" قال " م تجز شهادتهما" لأنهما يشهدان لجدهما على ما بينا أن الولاء للمعتق وإلارث به كان للمعتق بطريق العصوبة على أن يخلفه في ذلك أقرب عصبته وشهادة النافلة للجد لا تقبل وكذلك شهادة ابني المعتق بذلك لا تجوز لأنهما يشهدان لأبيهما, وإذا ادعي رجل ولاء رجل وأقام البينة أنه أعتقه وهو يملكه وأقام الآخر البينة أن هذا حر الأصل أسلم على يديه ووالاه والغلام يدعي أنه حر الأصل يقضي به للذي والاه دون الذي أعتقه لأن حرية الأصل تثبت له بالبينة وحرية الأصل لا ناقض لها فبعد ثبوتها تندفع بينة العتق ضرورة لأن العتق ينبني علي الملك وقد انتفى الملك بثبوت حرية الأصل ولهذا قضى بولائه للذي والاه, وكذلك لو كان ميتا عن تركة لأن إحدى البينتين تقوم على رقه والأخرى على حريته فالمثبت للحرية أولى ولأن صاحب الموالاة أثبت ببينته أنه عاقده عقد الولاء وذلك إقرار منه بأنه حر ولا ولاء عليه فثبوت هذا الإقرار بالبينة كثبوته بالمعاينة أن لو كان حيا أو ادعي ذلك فإن كان حيا فأقر أنه مولى عتاقه لهذا أجزت بينة العتاقة وكان هذا نقضا من الغلام للموالاة لو كان والي هذا الآخر لأن العبد مكذب للذين شهدوا بحريته في الأصل ومدعي الموالاة خرج من أن يكون خصما في إثبات ذلك لأن العبد بإقراره بولاء العتاقة على نفسه يصير ناقضا لولاء الموالاة لما بينهما من المنافاة وهو متمكن من نقض ولائه ما لم يعقل عنه, فإذا لم يبق خصم يدعي حرية الأصل له صح إقراره بالملك وولاء العتاقة.
ومن أصحابنا من يقول هذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن من أصله أن البينة على حرية العبد لا تقبل من غير الدعوى وعندهما تقبل فيثبت له حرية الأصل بحجة حكمية وذلك لا يحتمل النقض بإقراره فينبغي أن لا يثبت عليه ولاء العتاقة عندهما.
والأصح أن هذا قولهم جميعا لأن بينة العتاقة تعارض بينة حرية الأصل فيما لأجله تقبل البينة عندهما وهو إثبات حقوق الشرع عليه ثم تترجح بخصم يدعيها أو لما انتفي ولاء الموالاة فهذا حر لا ولاء عليه وقد أقر بأنه مولى هذا الذي يدعي ولاء العتق عليه فيكون إقراره صحيحا لأنه يقر بما هو من خالص حقه كما لو أقر بالنسب لإنسان ولا نسب له رجل

 

ج / 8 ص -87-         مات عن بنين وبنات فادعي رجل أن أباه أعتقه وهو يملكه وشهد ابنا الميت على ذلك وادعي آخر أن أباه أعتقه فأقرت بذلك بنت الميت فالإقرار باطل والشهادة جائزة " لأن الابنين يشهدان علي أبيهما بالولاء ولا تهمة في شهادة الولد على والده ثم الإقرار لا يعارض البينة لأن الإقرار لا يعدو المقر والشهادة حجة في حق الناس كافة فلا بد من أن يقضي القاضي بأن الميت معتق أب المدعي ومن ضرورة هذا القضاء تكذيب الابنة فيما أقرت به فسقط اعتبار إقرارها وهو بمنزلة ما لو مات عن ألف درهم وابنين وابنة وادعي رجل دينا ألف درهم على الميت وشهد له ابنا الميت وادعي آخر دينا ألف درهم وأقرت ابنة الميت بذلك فإنه لا يلتفت إلى إقرارها ويجعل المال كله للذي أثبت دينه بالبينة ولو شهد للآخر بن له وابنتان ولم يوقتوا وقتا كان الولاء بينهما نصفين للمساواة بين الحجتين فإن شهادة النساء مع الرجال في الولاء مثل شهادة الرجال ولا ترجيح من حيث التاريخ في إحدى البينتين فلهذا كان الولاء بينهما نصفين, ولو جاء رجل من الموالى فادعي على عربي أنه مولاه وأن أباه أعتق أباه وجاء بأخويه لأبيه يشهدان بذلك والعربي ينكره لم تقبل شهادتهما لأن في الحقيقة هذا منهم دعوى فإن المدعي مع أخويه في هذا الولاء سواء لأنهما يشهدان لأبيهما مالا فإن الولاء كالنسب تتحقق الدعوى فيه من الجانبين. فإذا كان العربي منكرا كان المدعي هو الابن الذي يدعي الولاء بطريق الخلافة عن أبيه فيجعل كان الأب حي يدعيه وشهادة الابنين لأبيهما فيما يدعيه لا تكون مقبولة, وإن ادعي العربي ذلك وأنكره المولى جازت الشهادة لأن انكار الابن كانكار أبيه لو كان حيا فإنهما يشهدان على أبيهما بالولاء للعربي ولا تهمة في هذه الشهادة, وإن ادعي رجل ولاء رجل فجاء بشاهدين فشهد أحدهما أن أباه أعتقه في مرضه ولا وارث له غيره وشهد الآخر أن أباه أعتقه عن دبر موته وهو يملكه فالشهادة باطلة لاختلافهما في المشهود به لفظا ومعنى فإن التدبير غير العتق المنجز في المرض, ومثل هذا لو شهد أحدهما أن أباه قد علق عتقه بدخول الدار وقد دخل والآخر أنه قد علق عتقه بكلام فلان وقد فعل أو شهد أحدهما أن أباه كاتبه واستوفى البدل والآخر أنه أعتقه بمال فإن الكتابة غير العتق بمال, ألا ترى أنه يملك الكتابة من لا يملك العتق فكان هذا اختلافا في المشهود به لفظا ومعنى بخلاف ما لو اختلفا في الزمان والمكان حيث تقبل شهادتهما لأن العتق قول ولا يختلف باختلاف الزمان والمكان إذ القول يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول, ولو مات رجل فأخذ رجل ماله وادعي أنه وارثه لم يؤخذ منه لأنه لا منازع له في ذلك وخبر المخبر محمول على الصدق في حقه إذا لم يكن هناك من يعارضه ولأن المال في يده في الحال وهو يزعم أنه ملكه فالقول قوله في ذلك فإن خاصمه فيه إنسان سألته البينة لأنه يدعي استحقاق اليد عليه في هذا المال ولا يثبت الاستحقاق إلا ببينة فما لم تقم البينة على سبب استحقاقه لا يؤخذ المال من يد ذي اليد, فإن ادعي رجل أنه أعتق الميت وهو يملكه وأنه لا وارث له غيره وأقام الذي في يديه المال البينة على مثل ذلك قضيت بالولاء والميراث بينهما نصفين لأن المقصود بهذه البينة اثبات السبب

 

ج / 8 ص -88-         وهو الولاء وإنما قامت بينة كل واحد منهما على الميت وقد استوت البينتان في ذلك فيقضي بينهما بالولاء ثم استحقاق المال يترتب على ذلك.
فإن قيل:  لا كذلك بل المقصود إثبات استحقاق المال وأحدهما فيها صاحب اليد والآخر خارج فإما أن يجعل هذا كبينة ذي اليد والخارج على الملك المطلق فيقضي للخارج أو يجعل كما لو ادعيا تلقي الملك من واحد وأقاما البينة فتكون بينة ذي اليد أولى.
قلنا:  لا كذلك بل الولاء حق مقصود يستقيم اثباته بالبينة وإن لم يكن هناك مال وإنما ينظر إلى إقامتهما البينة على الولاء أولا وهما في ذلك سواء ثم استحقاق الميراث ينبني على ذلك وليس هذا نظير ما لو ادعيا تلقي الملك من واحد بالشراء لأن السبب هناك غير مقصود حتى لا يمكن اثباته بدون الحكم وهو الملك ولأن السبب هناك يتأكد بالقبض فذو اليد يثبت شراء متأكدا بالقبض فلهذا كانت بينته أولى وهنا الولاء متأكد بنفسه ولا تأثير لليد على المال في تأكيد السبب فلهذا قضي بينهما, فإن أقام مسلم شاهدين مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه وأنه مات وهو مسلم لا وارث له غيره وأقام ذو اليد الذمي شاهدين مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه وأنه مات كافرا لا وارث له غيره فللمسلم نصف الميراث ونصف الميراث لأقرب الناس إلى الذمي من المسلمين فإن لم يكن له منهم قرابة جعلته لبيت المال لما بينا أن المقصود إثبات الولاء وقد استوت الحجتان في ذلك فإن شهود الذمي مسلمون وهو حجة على المسلم كشهود المسلم فيثبت الولاء بينهما نصفين ثم إحدى البينتين توجب كفره عند الموت والأخري توجب إسلامه عند الموت والذي يثبت إسلامه أولى, وإذا ثبت أنه مات مسلما فالمسلم يرثه المسلم دون الكافر ولكن الإرث بحسب السبب وللمسلم نصف ولاية فلا يرث به إلا نصف الميراث ونصف الولاء للذمي وهو ليس بأهل أن يرثه فيجعل كالميت ويكون هذا النصف لأقرب عصبة له من المسلمين فإذا لم يوجد ذلك فهو لبيت المال بمنزلة ما لو مات الذمي ولا وارث له فالولاء في هذا مخالف للنسب فإن النسب لا يتجزى بحال فيتكامل السبب في حق كل واحد منهما, فإذا لم يكن أحدهما ممن يرثه فللآخر جميع المال لتكامل السبب في حقه فأما الولاء يحتمل التجزي حتى لو أعتق رجلان عبدا كان لكل واحد منهما نصف ولائه فلهذا لا يرث المسلم إلا نصف الميراث فإن كان شهود الذمي نصارى لم تجز شهادتهم على المسلم لأن إسلام الميت يثبت بشهادة الشهود المسلمين والحجة في الولاء تقوم عليه وشهادة النصاري ليست بحجة عليه ولأن المسلم أثبت دعواه بما هو حجة على خصمه والذمي أثبت دعواه بما ليس بحجة على خصمه فلا تتحقق المعارضة بينهما ولكن يقضي بولائه للمسلم وبجميع الميراث له فإن وقت كل واحدة من البينتين وقتا في العتق وهو حي والشهود كلهم مسلمون فصاحب الوقت الأول أحق لأن صاحب الوقت الأول أثبت عتقه من حين أرخ شهوده فلا تصور للعتق من الآخر بعد ذلك ومتى كانت إحدى البينتين طاعنة في الأخرى دافعة لها فالعمل بها أولى, "ذمي في يديه عبد أعتقه فأقام مسلم شاهدين مسلمين أنه عبده وأقام الذمي شاهدين

 

ج / 8 ص -89-         مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه أمضيت العتق والولاء للذمي" لأن في بينه إثبات العتق وفي بينة المسلم إثبات الملك وكل واحد منهما حجة على الخصم فيترجح بينة العتق كما لو كان كل واحد من المدعيين مسلما وإذا كان شهود الذمي كفارا قضيت به للمسلم لأن بينته في إثبات الملك حجة على خصمه وبينة الذمي في إثبات العتق ليس بحجة على خصمه فكأنها لم تقم في حقه, وإن كان المسلم أقام شاهدين مسلمين أنه عبده دبره أو كانت جارية وأقام البينة أنه استولدها وأقام الذمي شاهدين مسلمين على الملك والعتق فبينة الذمي أولى لأن المسلم يثبت ببينته حق العتق والذمي حقيقة العتق وحق العتق لا يعارض حقيقة العتق ولو قبلنا بينة المسلم وطأها بالملك بعد ما قامت البينة على حريتها وذلك قبيح ولهذا كانت بينة الذمي أولى, ولو كانت أمة في يدي ذمي قد ولدت له ولدا فادعي رجل أنها أمته غصبها هذا منه وأقام البينة على ذلك وأقام ذو اليد البينة أنها أمته ولدت هذا منه في ملكه قضيت بها وبولدها للمدعي لأن بينته طاعنة في بينة ذي اليد دافعة لها فإنهم إنما شهدوا بالملك لذي اليد باعتبار يده إذ لا طريق لمعرفة الملك حقيقة سوى اليد وقد أثبتت بينة المدعي أن يده كانت يد غصب من جهته لا يد ملك فلهذا كانت بينة المدعي أولى وإذا قضى بالملك للمدعي قضي له بالولد أيضا لأنه جزء منها وولادتها في يدي الآخر بعد ما ثبت أنه ليس بمالك لها لا يوجب أمية الولد لها, وكذلك لو ادعي المدعي أنها أمته أجرها من ذي اليد أو أعارها منه أو وهبها منه وسلمها إليه لأن بهذه الأسباب يثبت أن وصولها إلى يده كان من جهته وأن يده فيها ليست يد ملك فهذا وفصل الغصب سواء, ولو كان المدعي أقام البينة أنها أمته ولدت في ملكه قضيت بها لذي اليد لأنه ليس في بينة المدعي هنا ما يدفع بينة ذي اليد لأن ولادتها في ملكه لا ينفي ملك ذي اليد بعد ذلك فيبقي الترجيح لذي اليد من حيث أنه يثبت الحرية للولد وحق أمية
الولد لها, وكذلك لو ادعي ذو اليد أنها أمته أعتقها وأقام المدعي البينة أنها أمته ولدت في ملكه فبينة المعتق أولى لأن فيها إثبات حريتها ولا يجوز أن توطأ بالملك بعد ما قامت البينة على حريتها, ولو شهد شهود كل واحد منهما مع ذلك بالغصب على الآخر كان شهود العتق أيضا أولى لأن البينتين تعارضتا في أن كل واحدة منهما دافعة للأخرى طاعنة فيها وللمعارضة لا تندفع واحدة منهما بالأخرى ثم في بينة ذي اليد زيادة إثبات الحرية لها واستحقاق الولاء عليها وهذا لأن الولاء أقوى من الملك لأنه لا يحتمل النقض بعد ثبوته وإذا كان في إحدى البينتين إثبات حق قوي ليس ذلك في الأخرى تترجح هذه البينة والله أعلم بالصواب.

باب ولاء المكاتب والصبي
قال:  رضي الله تعالى عنه "وإذا كاتب المسلم عبدا كافرا ثم إن المكاتب كاتب أمة مسلمة ثم أدى الأول فعتق فولاؤه لمولاه وإن كان كافرا" لأن الولاء كالنسب ونسب الكافر قد يكون ثابتا من المسلم فكذلك يثبت الولاء للمسلم على الكافر إذا تقرر سببه ولأن الولاء أثر من آثار الملك وأصل الملك يثبت للمسلم على الكافر فكذلك أثره ولكنه لا يرثه لكونه مخالفا

 

ج / 8 ص -90-         له في الملة وشرط الإرث الموافقة في الملة ولا يعقل عنه جنايته لأن عقل الجناية باعتبار النصرة والمسلم لا ينصر الكافر فإذا أدت الأمة فعتقت فولاؤها للمكاتب الكافر لأنها عتقت من جهته على ملكه وهو من أهل أن يثبت الولاء له لكونه حرا وكما يثبت الملك للكافر على المسلم فكذلك الولاء أو يعتبر بالنسب ونسب المسلم قد يكون ثابتا من الكافر, فإن ماتت فميراثها للمولى المسلم, وإن جنت فعقل جنايتها على عاقلة المولى المسلم لأن مولاها وهو المكاتب الكافر ليس من أهل أن يرثها ولا أن يعقل جنايتها فيجعل كالميت وعند الموت معتقه يقوم مقامة في ولاء معتقه في حكم الإرث وعقل الجناية فهذا مثله.
فإن قيل:  فأي فائدة في إثبات الولاء للمسلم على الكافر وللكافر على المسلم إذا كان لا يرثه ولا يعقل جنايته بعد ذلك.
قلنا:  أما فائدته النسبة إليها بالولاء كالنسب مع أن الكافر قد يسلم فيرثه وبعقل جنايته بعد ذلك وبعد الإسلام قد ظهرت من الوجه الذي قلنا أن المولى المسلم معتقه فيرثه ويعقل جنايتها عاقلته رجل باع مكاتبا فبيعه باطل لأنه استحق نفسه بالكتابة وفي بيعه إبطال هذا
الحق الثابت له وقد صار بمنزلة الحر يدا فلا يقدر المولى على تسليمه بحكم البيع ومالية رقبته صار كالتاوي لأن حق المولى في بدل الكتابة دون مالية الرقبة. فإن أعتقه المشتري بعد القبض فقبضه باطل وهو مكاتب على حاله لأنه مع بقاء الكتابة ليس بمحل للبيع كالحر والبيع لا ينفذ بدون المحل والملك لا يثبت بالقبض إذا لم يكن العقد منعقدا فلهذا كان عتق المشتري باطلا.
وإن قال المكاتب قد عجزت وكسر المكاتبة فباعه المولى فبيعه جائز لأن المكاتب يملك فسخ الكتابة بأن يعجز نفسه فإنما صادفه البيع من المولى وهو قن وكذلك لو باع المكاتب برضاه يجوز في ظاهر الرواية لما روينا من حديث بريرة ولأنهما قصدا تصحيح البيع ولا وجه لذلك إلا بتقديم فسخ الكتابة فيتقدم فسخ الكتابة ليصح البيع وقد بينا ما في هذا الفصل من اختلاف الروايات فيما أمليناه من شرح الجامع, "رجل كاتب عبده على ألف وهي حالة فكاتب العبد أمة على ألفين ثم وكل العبد مولاه بقبض الألفين منها على أن ألفا منها قضاء له من مكاتبته ففعل فإن ولاء الأمة للمولى" لأن المولى وكيل عبده في قبض الألفين منها فتعتق هي بالأداء إليه ثم المولى يقبض إحدى الألفين لنفسه بعد ما يقبضه للمكاتب فتبين بهذا أن عتقها يسبق عتق المكاتب, ولو أدت إلى المكاتب فعتقت قبل عتق المكاتب كان ولاؤها للمولى لأن المكاتب ليس من أهل أن يثبت له الولاء فيخلفه مولاه في ذلك فهذا مثله ولأنا نعلم أن المكاتب لم يعتق قبلها وما لم يعتق قبلها لا يكون هو أهلا لولائها وليس للعبد المأذون له أن يعتق, وإن أذن له مولاه فيه إذا كان عليه دين لأن كسبه حق غرمائه وكما لا يكون للمولى أن يعتق كسبه إذا كان عليه دين فكذلك لا يكون له أن يأذن للعبد فيه أو ينيبه مناب نفسه وإن فعل والدين على العبد يحيط بكسبه ورقبته ففي نفوذه اختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله تعالى بناء على أن المولى هل يملك كسب العبد المديون وهي مسألة

 

ج / 8 ص -91-         المأذون وإن لم يكن عليه دين جاز ذلك منه بإذن المولى لأن المولى يملك مباشرته بنفسه فإن كسبه خالص ماله فيملك أن ينيب العبد مناب نفسه وكذلك الكتابة. فإن كاتب عبدا بإذن المولى ثم أعتقه مولاه ثم أدى المكاتب المكاتبة عتق وولاؤه للمولى دون العبد المعتق لأن العبد كان نائبا عن المولى في عقد الكتابة كالوكيل, ألا ترى أن المولى هو الذي يقبض بدل الكتابة منه فإنما عتق عند الأداء على ملك المولى ولهذا كان الولاء له وهذا بخلاف مكاتب المكاتب إذا أدى بعد ما أعتق الأول لأن الثاني مكاتب من جهة الأول باعتبار حق الملك الذي له في كسبه وقد انقلب ذلك بالعتق حقيقة ملك وكان حق قبض البدل له فإنما عتق على ملك الأول فكان له ولاؤه وليس للعبد في كسبه ملك ولا حق وبعد عتقه يكون كسبه الذي اكتسبه في حالة الرق لمولاه, وللصبي أن يكاتب عبده بإذن أبيه أو وصيه وليس له أن يعتقه على مال لأن وليه يملك مباشرة الكتابة في عبده دون العتق بمال فكذلك يصح إذنه في الكتابة دون العتق بمال, وإذا أدى المكاتب إليه البدل فولاؤه للصبي لأنه عتق على ملكه وإذا ثبت أن الصبي من أهل ولاء العتق فكذلك ولاء الموالاة للصبي أن يقبل ولاء من يواليه بإذن وصيه أو أبيه ولهما أن يقبلا عليه هذا الولاء لما بينا أن عقد الولاء يتردد بين المنفعة والمضرة ومعنى المنفعة فيه أظهر ومثل هذا العقد يملكه الوصي على الصبي ويصح من الصبي بإذن الولي لأنه يتأيد رأيه بانضمام رأى الولي إليه كما في التجارات, وإن أسلم صبي على يدي رجل ووالاه لم يجز عقد الموالاة لأن حق الاستبداد باعتبار ما ظهر له من العقل والتمييز يثبت فيما يتمحض منفعة له دون ما يتردد بين المنفعة والمضرة والإسلام يتمحض منفعة له فيصح منه وأما عقد الولاء متردد بين المنفعة والمضرة فلا يصح منه مباشرته ما لم ينضم رأي وليه إلى رأيه وكذلك إن فعله بإذن وليه الكافر لأنه لما حكم بإسلامه فلا ولاية للأب الكافر عليه بل هو كاجنبي آخر منه في مباشرة هذا العقد عليه فكذلك في الإذن له فيه, وإن أسلم رجل على يدي رجل على أن يكون ولاؤه لما في بطن امرأته أو على أن يكون لأول ولد تلده لم يجز له ذلك لأنه لا ولاية لأحد على ما في البطن في ايجاب العقد ولا في قبوله وبدونه لا يثبت عقد الولاء فلهذا كان الحكم في الموجود في البطن هذا ففي المعدوم أصلا أولى رجل أعطى رجلا ألف درهم على أن يعتق عبده عن بن المعطي وهو صغير ففعل فالعتق عن المولى الذي أعتق ولا يكون عن الصبي" لأن الصبي ليس له ولاية العتق في ملكه ولا لوليه ذلك عليه ولا يمكن إضمار التمليك من الصبي في هذا الالتماس لأن الاضمار لتصحيح ما صرح
به إن أعتقه فيكون العتق عنه ويرد الألف إن كان قبض فإذا لم يكن في الإضمار تصحيح ما صرح به فلا معنى للاشتغال به ولا يمكن إضمار التمليك من المعطي للمال في كلامه أيضا لأنه ما التمس إعتاقه عن نفسه والتمليك في ضمن هذا الالتماس, فظهر أن العبد باق على ملك مولاه إلى أن أعتقه فيكون العتق عنه ويرد الألف إن كان قبض, وكذلك إن كان الآمر بذلك مكاتبا أو عبدا تاجرا بأن قال لحر أعتق عبدك عني على ألف درهم لأنه ليس في إضمار التمليك هنا تصحيح ما صرح

 

ج / 8 ص -92-         به فإن المكاتب والعبد ليس لهما أهلية العتق في كسبهما, وإن كان العبد للصبي فقال رجل لإبيه أو وصيه أعتقه عني على ألف درهم ففعله الأب جاز لأنه يصير مملكا العبد من الملتمس بالألف ثم نائبا عنه في العتق وللولي حق هذا التصرف في مال الصبي كالبيع وكذلك لو قال هذا حر لمكاتب أو عبد مأذون له عبد فقال أعتقه عني على ألف درهم لأنه يصير مملكا العبد منه بألف وذلك صحيح من المكاتب والمأذون في كسبهما ثم ينوب عن الملتمس في العتق وذلك صحيح منهما أيضا, وإن قال ذلك مكاتب لمكاتب لم يجز ولم يعتق لأن إضمار التمليك إنما يجوز لتصحيح ما صرح به والمكاتب الملتمس ليس بأهل للعتق فلما ثبت التمليك منه بهذا الالتماس بقي المأمور معتقا ملك نفسه وهو مكاتب فيكون الاعتاق باطلا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الولاء الموقوف
قال:  رضي الله تعالى عنه "رجل اشترى من رجل عبدا ثم شهد أن البائع كان أعتقه قبل أن يبيعه فهو حر وولاؤه موقوف إذا جحد ذلك البائع" لأن المشتري مالك له في الظاهر وقد أقر بحريته بعتق نفذ فيه ممن يملكه ولو أنشأ فيه عتقا نفذ منه فكذلك إذا أقر بحريته بسبب صحيح ثم كل واحد منهما ينفي الولاء عن نفسه فالبائع يقول المشتري كاذب وإنما عتق عليه بإقراره والمشتري يقول عتق على البائع وولاؤه له وليس لواحد منهما ولاية الزام صاحبه الولاء فبقي موقوفا فإن صدقه البائع بعد ذلك لزمه الولاء ورد الثمن لأنه أقر ببطلان البيع وإنه كان حرا من جهته حين باعه وكذلك إن صدقه ورثته بعد موته أما في حق رد الثمن فلأنه أوجب من التركة والتركة حقهم وأما في حق الولاء ففي القياس لا يعتبر تصديق الورثة لأنهم يلزمون الميت ولاء قد أنكره وليس لهم عليه ولاية إلزام الولاء ألا ترى أنهم لو أعتقوا عنه عبدا لم يلزمه ولاؤه فكذلك هذا, ولكنه استحسن فقال ورثته يخلفونه بعد موته ويقومون مقامه في حقوقه فيكون تصديقهم كتصديقه في حياته ألا ترى أن في النسب يجعل اقرار جميع الورثة إذا كانوا عددا كإقرار المورث فكذلك في الولاء
وإن كان أقر بالتدبير فأنكره البائع فهو موقوف لا يخدم واحدا منهما لأن كل واحد منهما تبرأ عن خدمته ولكنه يكتسب فينفق على نفسه, فإذا مات البائع عتق لأن المشتري مقر أنه مدبر البائع قد عتق بموته والبائع كان مقرى أنه ملك المشتري وأن إقراره فيه نافذ فيحكم بعتقه وولاؤه موقوف فإن صدقه الورثة لزم الولاء البائع استحسانا لما قلنا
"أمة بين رجلين شهد كل واحد منهما أنها ولدت من صاحبه وصاحبه ينكر فإنها تبقى موقوفة لا تخدم واحدا منهما", لأن كل واحد منهما يتبرأ عنها ويزعم أنها أم ولد صاحبه وأن حقه في ضمان نصف القيمة على صاحبه فتبقى موقوفة حتى يموت أحدهما فإذا مات أحدهما عتقت لأن الحي منهما مقر بأنها كانت أم ولد للميت وقد عتقت بموته والميت منهما كان مقرى بأنها أم ولد الحي وأن إقراره فيها نافذ فيعتق باتفاقهما وولاؤها موقوف لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه, "أمة لرجل معروفة أنها له ولدت من آخر فقال رب الأمة

 

ج / 8 ص -93-         بعتكها بألف وقال الآخر بل زوجتنيها فالولد حر" لأن في زعم والده أنه ملك لمولى الأمة فإنه استولدها بالنكاح ومولى الأمة يزعم أنه حر لأنه باعها من أب الولد وإنما استولد ملك نفسه فيثبت حرية الولد لاتفاقهما على ذلك عند إقرار مولى الأمة به وولاؤه موقوف لأن مولى الأمة ينفي ولاءه عن نفسه ويقول هو حر الأصل علق في ملك أبيه والجارية موقوفة بمنزلة أم الولد لا يطأها واحد منهما ولا يستخدمها ولا يستغلها لأن أب الولد يتبرأ عنها لانكاره الشراء ويزعم أنها أمة لمولاها ومولاها يقول هي أم ولد لأب الولد لأني قد بعتها منه فتبقى موقوفة بمنزلة أم الولد لأن مولاها أقر بذلك وأب الولد مقر بأن إقرار مولاها فيها نافذ فإذا مات أب الولد عتقت لأن مولاها مقر بأنها عتقت بعد موت أب الولد لكونها أم ولد وأب الولد كان مقرى بأن إقرار مولاها فيها نافذ فلهذا عتقت وولاؤها موقوف لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه ويأخذ البائع العقر من أب الولد قصاصا من الثمن لتصادقهما على وجوب هذا القدر من المال له عليه فإن أب الولد يزعم أنه دخل بها بالنكاح فعليه صداقها لمولاها ومولاها يزعم أنه باعها منه فعليه الثمن وبعد ما تصادقا على وجوب المال في ذمته لا يعتبر اختلافهما في السبب ولكن يؤمر من عليه بأن يؤدي ذلك من الوجه الذي يدعيه ويقبضه الآخر من الوجه الذي يدعي أنه واجب له
"رجل أقر أن أباه أعتق عبده في صحته أو في مرضه ولا وارث له سواه فولاؤه موقوف في القياس ولا يصدق على الأب" لأنه أقر بما لا يملك انشاءه فإنه لا يملك أن يلزم ولاءه أباه بإنشاء العتق فلا يصدق في الإقرار به لكونه متهما في حق أبيه ولأن الولاء كالنسب وبإقرار الوارث إذا كان واحدا لا يثبت النسب عن أبيه فكذلك لا يثبت الولاء له ولكنه استحسن وألزم ولاءه الأب إذا كان عصبتهما واحدا وقومهما من حي واحد لأن الولاء أثر الملك وإقراره في أصل الملك بعد موت الأب كإقرار الأب له في حياته فكذلك في أثره ثم الإرث بحكم ذلك الولاء إنما يثبت للابن المقر كما لو أعتقه بنفسه وعقد الجناية يكون على قومه, فإذا كانا من حي واحد فهو غير متهم في حق قومه لأنه لو أنشأ عتقه بنفسه يلزمهم عقل جنايته فكذلك إذا أقر به على أبيه وإن كان الأب أعتقه قوم والابن أعتقه آخرون فالولاء موقوف لأنه متهم في حق موالي الأب فإنه لا يملك أن يلزمهم عقل جنايته بإنشاء العتق فيكون متهما في الإقرار به وهذا الفصل نظير النسب لأنه لا يملك إثبات حكمه في حق الأب وقومه بطريق الإنشاء فلا يصدق في الإقرار به أيضا, وإن كان معه بن آخر فكذبه كان له أن يستسعي العبد في حصته لأن نصف العبد مملوك وهو يزعم أن صاحبه قد أفسده عليه بإقراره كاذبا ولم يصر بذلك ضامنا كما لو شهد على شريكه بالعتق بل احتبس نصيبه عند العبد فله أن يستسعيه في نصف قيمته.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولاء هذا النصف للذي استسعاه لأنه يدعيه ويزعم أنه عتق على ملكه بأداء السعاية وولاء النصف الآخر للميت لأن الولد المقر يزعم أن ولاء الكل للميت وإقراره صحيح فيما هو من حقه كما لو لم يكن معه غيره ولهذا جعلنا ولاء حصته

 

ج / 8 ص -94-         للميت إذا كان قومهما واحدا. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولاء النصف الذي هو نصيب المقر للميت لهذا المعنى أيضا وولاء النصف الذي استسعاه موقوف لأن عندهما العتق لا يتجزى فالذي استسعاه يتبرأ من الولاء ويقول إنما عتق هذا النصف بإقرار شريكي لأن إقراره كالعتق فالولاء في الكل له والمقر يزعم أنه ليس له بل هو للميت فيتعارض قولهما في نصيب الذي استسعاه فيبقي موقوفا حتى يرجع أحدهما إلى تصديق صاحبه وكذلك إن كان في الورثة رجال ونساء فأقرت امرأة منهم بذلك.
فإن قيل:  على قولهما لما أقر المستسعي بولاء نصيبه لصاحبه وصاحبه مقر به للميت فينبغي أن يثبت ولاء العبد كله من الميت.
قلنا:  نعم ولكن من ضرورة إثبات كل الولاء من الميت الحكم بأنه عتق من جهة الميت وذلك يسقط حق المستسعي في السعاية فلإبقاء حقه في السعاية جعلنا ولاء هذا النصف موقوفا.
"عبد بين رجلين قال أحدهما إن لم يكن دخل أمس المسجد فهو حر وقال الآخر إن كان دخل فهو حر" قد بينا هذه المسألة في كتاب العتاق في الإسقاط نصف السعاية عن المملوك أعادها لبيان حكم الولاء وهو أنهما إذا كانا معسرين يسعى العبد في نصف قيمته بينهما والولاء بينهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن نصيب كل واحد عتق على ملكه باعتبار ما أدى إليه من السعاية وما سقط بإسقاطه لا باعتبار الأحوال فيكون لكل واحد منهما ولاء نصيبه, وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الولاء موقوف لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه ويزعم أن صاحبه حانث وأن الكل عتق من جهته لأن العتق عنده لا يتجزى فلهذا كان الولاء موقوفا.
وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يسعى في قيمته كاملة لهما والولاء موقوف لأن العتق عند محمد رحمه الله تعالى لا يتجزى فكل واحد منهما يزعم أن صاحبه حانث وأن الولاء كله له فلهذا يتوقف الولاء وكل ولاء موقوف فميراثه يوقف في بيت المال لأنه لصاحب الولاء وهو غير معلوم والمال الذي لا يعرف مستحقه يوقف في بيت المال حتى يظهر مستحقه وجنايته على نفسه لا يعقل عنه بيت المال لأن بيت المال لا يرث ماله إنما يوقف المال فيه ليظهر مستحقه فلا يعقل جنايته أيضا وهذا لأن بيت المال إنما يعقل جناية من يكون ولاؤه للمسلمين ومن عليه ولاء عتاقة لا يكون ولاؤه للمسلمين ونحن نتيقن أن على هذا الرجل ولاء عتاقة فلهذا لا يجعل عقل جنايته على بيت المال والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب آخر من الولاء
قال:  رضي الله عنه "واللقيط حر يرثه بيت المال ويعقل عنه" هكذا نقل عن عمر وعلي رضي الله عنهما وهذا لأن الحرية والإسلام تثبت له باعتبار الدار فيكون ولاؤه لأهل دار الإسلام يرثونه ويعقلونه جنايته ومال بيت المال مال المسلمين بخلاف مال من عليه ولاء

 

ج / 8 ص -95-         موقوف لأن ذلك منسوب إلى المعتق وهذا غير منسوب إلى أحد حتى لو والى اللقيط إنسانا قبل أن يعقل عنه بيت المال جنايته فولاؤه له لأنه صار منسوبا إليه بالولاء حين عاقده وولاؤه لبيت المال لم يتأكد بعقل الجناية حتى لو تأكد بعقل الجناية لم يملك أن يوالي أحدا.
فإن قيل:  الولاء عليه للمسلمين ثبت شرعا فلا يملك إبطاله بعقده كولاء العتق.
قلنا:  نعم ولكن ثبوته لمعنى ذلك المعنى يزول بالعقد وهو أنه غير منسوب إلى أحد بخلاف مولي العتاقة فإن ثبوت الولاء عليه لمعنى لا يزول ذلك بالعقد وحكم موالى اللقيط كحكم اللقيط, لأنهم ينسبون إليه بولاء العتق أو الموالاة وولاؤه للمسلمين فكذلك ولاء مواليه كما في معتق المعتق وكذلك الكافر أسلم ولا يوالي أحدا لأنه غير منسوب إلى أحد بالولاء وهو من أهل دار الإسلام فهو كاللقيط, فإن كان بينه وبين رجل من العرب عبد فأعتقاه فجنى جناية كان نصف الجناية على عاقلة العربي لأن نصف ولائه له ونصفها على بيت المال لأن نصف ولائه لمن هو مولى المسلمين وكذلك إذا ادعيا ولدا وأقاما البينة فهو ولدهما ونصف جنايته على قبيلة العربي ونصفه على بيت المال باعتبار ثبوت نسبه من اللقيط والعربي جميعا.
قال:  "ذمي أعتق مسلما أو كافرا فأسلم الكافر كان ميراثه لبيت المال" لأنه مولى الكافر ولكن الكافر لا يرث المسلم وعقله على نفسه لأنه منسوب بالولاء إلى إنسان ولا يمكن إيجاب عقل جنايته على بيت المال ولا وجه لإيجابه على الكافر لأن الكافر لا ينصر المسلم فكان عقل جنايته على نفسه ألا ترى أنه لو مات مولاه ولا عشيرة له من الكفار كان ماله مصروفا إلى بيت المال؟
قال:  "ولو جنى جناية كان عقل جنايته على نفسه فكذلك حال المعتق وهذا إذا لم يكن للذمي عشيرة من المسلمين فإن كان له ذلك فميراثه له" لأنه أقرب عصبة من المعتق
وإن والي هذا المعتق رجلا لم يجز لأن عليه ولاء عتاقة لكافر فلا يتمكن من إبطاله بعقد الموالاة, وإن أسلم مولاه المعتق ووالي رجلا صار هذا المعتق مولاه لأنه كان منسوبا إليه بالولاء وقد صار مولى لمن عاقده نصراني أعتق عبدا له مسلما كان ولاؤه لقبيلة مولاه الذي أعتقه إن كان من بني تغلب فهو تغلبي منسوب إليهم يعقلون عنه ويرث المسلمون منهم أقربهم إلى مولاه عصوبة لأن الولاء يثبت للمعتق وإن كان نصرانيا إلا أنه لا يرث لكونه مخالفا له في الدين فيقوم أقرب عصبته مقامه في استحقاق ميراثه وعقل جنايته على قبيلة مولاه كعقل جناية مولاه لأنه منسوب إليهم بالولاء وكل معتق جرى عليه الرق بعد العتق انتقض به الولاء الأول وكان حكم الولاء للعتق الذي يحدث من بعد عندنا.
وعند الشافعي رضي الله عنه لا ينتقض الأول بالاسترقاق فربما يقول لا يسترق من عليه ولاء لمسلم لأن الولاء كالنسب ولا يبطل النسب بالاسترقاق أو لمراعاة حق المسلم في الولاء لا يجوز استرقاقه كالحرية المتأكدة بالإسلام لا يجوز إبطالها بالرق.
"ولكنا" نقول سبب الولاء الأول قد انعدم بالاسترقاق وهو العتق وقوة المالكية التي

 

ج / 8 ص -96-         حدثت فيه ولا بقاء للحكم بعد بطلان السبب ولا يجوز أن يمتنع الاسترقاق لأن سببه قد تقرر فلا يمتنع إلا لمانع, وهي العصمة ولا عصمة باعتبار الولاء كما لا عصمة له باعتبار نسب المسلم حتى يجوز استرقاق الحربي وإن كان له والد مسلم وإذا صار رقيقا للثاني فأعتقه فقد اكتسب سبب الولاء عليه لنفسه فلهذا كان مولى له حربي أعتق عبدا في دار الحرب ثم خرجا مسلمين كان له أن يوالي من شاء لما بينا أن عتقه في دار الحرب باطل لأنه إن لم يخل سبيله فلا ولاية له عليه وإن خلى سبيله كان عتقه نافذا ولكن لا يثبت الولاء له لأن ذلك من حكم الإسلام فلا يجرى على أهل الحرب ولئن ثبت الولاء فهو أثر من آثار الملك ولا حرمة لملكه فكذلك لا حرمة لأثر ملكه ولكن بإحراز العبد نفسه في دار الإسلام يبطل ذلك كله فله أن يوالي من شاء "حربي دخل دارنا بأمان فاشترى عبدا فأعتقه أو أعتق عبدا جاء به من دار الحرب معه ثم رجع إلى دار الحرب فأسر وجرى عليه الرق فمعتقه مولاه لا يتحول عنه أبدا" لأن سبب ثبوت الولاء له العتق وإحداث القوة في المملوك وذلك باق بعد ما صار رقيقا وضعف حاله بسبب الرق لا يكون فوق ضعف حاله بالموت والولاء الثابت للمعتق لا يبطل بالموت فكذلك برقه.
فإن قيل:  الرق الذي حدث فيه ينافي ابتداء الولاء بالعتق وإن تقرر سببه منه كما بينا في المكاتب فكذلك ينافي بقاءه.
قلنا:  لا كذلك ولكن الرق مناف حقيقة الملك وعليه يترتب العتق الذي يعقبه الولاء ولا حاجة إلى ذلك في إبقاء الولاء وهو نظير الموت في أنه ينافي الملك وابتداء الولاء للميت ولا ينافي بقاءه.
فإن مات معتقه كان ميراثه في بيت المال لأن مولاه رقيق لا يرثه وليس له عشيرة من المسلمين فيوضع ماله في بيت المال نصيب كل مال ضائع وعقل جنايته على نفسه لأنه منسوب بالولاء إلى إنسان, فإن عتق هذا الحربي صار مولى لمعتقه وكذلك معتقه يكون مولى له بواسطة أم ولد لحربي خرجت إلينا مسلمة فهي حرة توالي من شاءت لما بينا أنها أحرزت نفسها بدار الإسلام, ولو كانت قنة فأحرزت نفسها بالدار كانت تعتق لملكها نفسها ولا ولاء عليها لأحد فكذلك إذا كانت أم ولد ولهذا كان لها أن توالي من شاءت.
والأصل فيه ما روى أن ستة من عبيد أهل الطائف خرجوا مسلمين حين كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم محاصرا لهم ثم خرج مواليهم يطلبون ولاءهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"أولئك عتقاء الله" "مسلم دخل دار الحرب بأمان أو أسلم حربي هناك ثم أعتق عبدا اشتراه في دار الحرب ثم أسلم عبده لم يكن مولاه في القياس وله أن يوالي من شاء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى, لأن ثبوت الولاء عليه من حكم الإسلام وحكم الإسلام لا يجري على الحربي في دار الحرب فإذا لم يثبت على هذا المعتق الحربي ولاء حين أسلم فله أن يوالي من شاء.
وقال أبو يوسف أجعله مولاه استحسانا لما ورد في الخبر من عتق النبي عليه الصلاة

 

ج / 8 ص -97-         والسلام زيد بن حارثة وعتق أبي بكر رضي الله عنه سبعة ممن كان يعذب في الله تعالى بمكة منهم صهيب وبلال وكان ولاؤهم له.
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال وقبل أن تصير مكة دار الحرب وإنما صارت دار حرب بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر بالقتال فجرى حكم الإسلام في دار الإسلام على أن أولئك المعتقين كانوا مسلمين وكانوا يعذبون بمكة, والمسلم إذا أعتق عبدا مسلما في دار الحرب فولاؤه له, "حربي اشترى في دار الإسلام عبدا فأعتقه ثم رجع الحربي إلى دار الحرب فأسر واسترق فاشتراه معتقه وأعتقه فولاء الأول للآخر وولاء الآخر للأول" لأنه تقرر من كل واحد منهما اكتساب سبب الولاء في صاحبه ولا منافاة بين الولاءين لأنه إذا كان يجوز نسبة كل واحد من الأخوين بالأخوة إلى صاحبه فكذلك نسبة كل واحد من المعتقين إلى صاحبه بالولاء حربي مستأمن اشترى عبدا مسلما فأدخله دار الحرب فهو حر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقد بيناه في كتاب العتاق ولا يكون ولاؤه للذي أدخله في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه إنما عتق بعد وصوله إلى دار الحرب وزوال العصمة عن ملك الحربي وثبوت الولاء باعتبار عصمة الملك فإذا لم يبق لملكه عصمة لا يثبت له ولاؤه.
وعند أبي يوسف ومحمد إن أعتقه الذي أدخله فولاؤه له لأن المسلم من أهل دار الإسلام
وإن كان في دار الحرب فهو ملتزم لحكم الإسلام فيثبت الولاء له بالعتق, ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنما عتق لملكه نفسه لأنه لما دخل دار الحرب حل له قتل مولاه وأخذ ماله وهو قاهر لمولاه في حق نفسه فيعتق بملكه نفسه ولهذا لا يكون عليه ولاء, وإذا أسلم عبد الحربي في دار الحرب لم يعتق بنفس الإسلام لأنه لم يكن محرزا نفسه بدار الإسلام قبل هذا وملكه نفسه بالإحراز بخلاف الأول على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنه كان محرزا نفسه بدار الإسلام ولم يبطل ذلك بإدخال الحربي إياه دار الحرب, فإن باعه الحربي من مسلم أو حربي مثله فهو حر في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن ملك الحربي زال عنه بالبيع وملك الحربي متى زال عن العبد المسلم في دار الحرب يزول إلى العتق كما لو خرج مراغما.
وعندهما لا يعتق لأن المشتري يخلف البائع في ملكه وهي مسألة السير فإن غنمه المسلمون عتق بالإتفاق لأن يده في نفسه أقرب من أيدي المسلمين إليه فيصير محرزا نفسه بمنعة الجيش, "حربي خرج مستأمنا في تجارة لمولاه فأسلم لم يعتق ولكن الإمام يبيعه ويمسك ثمنه على مولاه" لأن مالية الحربي فيه صار معصوما بالأمان فلا يعتق ولكن بعد الإسلام لا يجوز إبقاء المسلم في ملك الكافر ألا ترى أن مولاه لو كان معه يجبره الإمام على بيعه ولم يتركه ليرجع به إلى دار الحرب فإذا لم يكن المولى معه ناب الإمام عنه في البيع ويمسك ثمنه على مولاه حتى يجيء فيأخذه, وكذلك لو كان أسلم في دار الحرب ثم خرج إلينا في تجارة لمولاه لأنه ما قصد بالخروج إحراز نفسه على مولاه فهو كما لو خرج مع مولاه

 

ج / 8 ص -98-         في تجارة بخلاف ما إذا خرج مراغما لأنه قصد إحراز نفسه عن مولاه فكان حرا يوالي من شاء ما لم يعقل عنه بيت المال فإن عقل عنه بيت المال لم يكن له أن يوالي أحدا لأن ولاءه للمسلمين قد تأكد بعقد جنايته, "رجل ارتد ولحق بدار الحرب فمات مولي له قد كان أعتقه قبل ردته فورثه الرجال من ورثته دون النساء ثم خرج ثانيا أخذ ما وجد من مال نفسه في يد ورثته ولم يأخذ ما وجد من مال مولاه في أيديهم" لأنه كان مرتدا حين مات مولاه والمرتد لا يرث وأنما يعاد إليه بعد الإسلام المال الذي كان له قبل الردة فأما ما لم يكن مملوكا قط لا يعاد إليه لأنه لو أسلم كان هذا ملكا مبتدأ له وبسبب اسلامه لا يستحق تملك المال على أحد ابتداء وكذلك إن كان في دار الإسلام حين مات مولاه لأنه مرتد فلا يرث المسلم ولكن يجعل هو كالميت في إرث مولاه فيكون ميراثه لأقرب عصبة منه من المسلمين, "امرأة من بني أسد أعتقت عبدا لها في ردتها أو قبل ردتها ثم لحقت بدار الحرب فسبيت فاشتراها رجل من همدان فأعتقها فإنه يعقل عن العبد بنو أسد في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وترثه المرأة إن لم يكن له وارث" لأن قبل ردتها كان عقل جناية هذا المعتق على بني أسد باعتبار نسبة المعتقة إليهم وذلك باق بعد السبي فإن النسب لا ينقطع بالسبي وبعد ما عتقت هي منسوبة إليهم بالنسب أيضا فكان عقل جنايته عليهم
ألا ترى أنه بعد السبي قبل العتق كان الحكم هكذا فلا يزداد بالعتق إلا وكادة.
 ثم رجع يعقوب عن هذا, وقال يعقل عنه همدان وهو قول محمد رحمه الله تعالى لأن المعتقة لما سبيت فأعتقت صارت منسوبة بالولاء إلى قبيلة معتقها فكذلك معتقها يكون منسوبا إليهم بواسطتها وهذا لأن ولاء العتق في الحكم أقوى من النسب ألا ترى أن عقل جنايتها يكون على قوم معتقها, ولو أعتقت بعد هذا عبدا كان مولى لقوم معتقها فكذلك ما سبق وقبل الردة إنما كان المعتبر النسبة لانعدام ولاء العتق عليها, فإذا ظهر ولاء العتق كان الحكم له كما ينسب الولد بالولاء إلى قوم أمه ما لم يظهر له ولاء في جانب أبيه فإذا ظهر كان الحكم له وكذلك لو كانت معتقة للأولين لما بينا أن الولاء الثابت عليها للأولين قد بطل حين سبيت وأعتقت فكذلك ما يبتنى عليه من ولاء معتقها "رجل ذمي أعتق عبدا فأسلم العبد ثم نقض الذمي العهد ولحق بدار الحرب فليس للعبد أن يوالي أحدا" لأن الولاء ثابت عليه لمعتقه وإن صار حربيا باعتبار أن صيرورته حربيا كموته وإن جنى جناية لم يعقل عنه بيت المال وكانت عليه في ماله لأنه منسوب بالولاء للإنسان وإنما يعقل بيت المال عمن لا عشيرة له من المسلمين ولا ورثة, وإذا أسلمت امرأة من أهل الذمة ثم أعتقت عبدا ثم ارتدت ولحقت بدار الحرب ثم سبي أبوها من دار الحرب كافرا فأعتقه رجل لم يجر ولاء مولاها لأنها حرة حربية فلا تصير مولى لموالي أبيها لما بينا أن حكم الإسلام لا يجري على الحربية في دار الحرب وإنما ينجر ولاء معتقها إلى موالي الأب بواسطتها فإذا لم تثبت هذه الواسطة في حقهم لا ينجر إليهم الولاء, فإن كان مولاها الذي أعتقته مسلما فجنى جناية فعقله على بيت المال لأنها حين

 

ج / 8 ص -99-         أعتقت العبد كان ولاؤها لبيت المال ألا ترى أنها لو جنت كان عقل جنايتها على بيت المال فيثبت ذلك الحكم في حق مولاها ثم يبقى بعد ردتها كما يبقى بعد موتها لو ماتت لأن من هو من أهل دار الحرب فهو في حق المسلمين كالميت, "امرأة من العجم أسلمت ثم أعتقت عبدا ثم سبي أبوها فاشتراه رجل فأعتقه فإن ولاء المرأة وولاء مولاها إلى موالي الأب وينجر بواسطتها ولاء معتقها إلى موالي الأب أيضا" وهذا لأن ثبوت الولاء عليها للمسلمين لا يمنعها من أن توالي إنسانا فلا يمنع جر ولائها إلى قوم الأب بعد ما عتق الأب
"حربي أو مرتد أسلم في دار الحرب ثم أعتق عبدا مسلما ثم رجع عن الإسلام فأسر فأسلم العبد وأبي المولى أن يسلم فقتل فولاء العبد للمولى لا يتحول عنه" لأن قتله بعد الردة كموته والولاء الثابت لا يبطل بموته فإن كان له عشيرة كان عقله عليهم وإن لم يكن له عشيرة فميراثه لبيت المال وعقله على نفسه لما بينا أنه منسوب بالولاء إلى إنسان بعينه فلا يعقل عنه بيت المال فإذا تعذر إيجاب عقل جنايته على غيره جعل على نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الإقرار بالولاء
قال:  رضي الله عنه "رجل أقر أنه مولى فلان مولى عتاقة من فوق أو من تحت وصدقه الآخر فهو مولى له ويعقل عنه قومه" لأن الولاء كالنسب والإقرار بالنسب صحيح من الأب والابن جميعا فكذلك الإقرار بالولاء وهذا لأن الأسفل يقر على نفسه بأنه منسوب إلى الأعلى بالولاء والأعلى يقر على نفسه بأنه منسوب إليه وأن عليه نصرته وإقرار كل واحد منهما على نفسه نافذ, وإن كان له أولاد كبار وأنكروا ذلك وقالوا أبونا مولى عتاقة لفلان آخر فالأب يصدق على نفسه والأولاد مصدقون على أنفسهم لأنه لا ولاية للأب عليهم بعد البلوغ في عقد الولاء فكذلك في الإقرار به وهم يملكون مباشرة عقد الولاء على أنفسهم بعد البلوغ فيملكون الإقرار به, وإذا ثبت هذا في ولاء الموالاة فكذلك في ولاء العتاقة لأنهما في النسبة والنصرة سواء وإن كان الأولاد صغارا كان الأب مصدقا عليهم لأنه يملك مباشرة عقد الولاء عليهم بولاية الأبوة فينفذ إقراره عليهم أيضا ولأن الصغار من الأولاد يتبعونه في الإسلام ولا يعتبر اعتقادهم بخلافه, فإن كانت لهم أم فقالت أنا مولاة فلان وصدقها مولاها بذلك فالولد مولى موالي الأب لأن كل واحد من الأبوين أصل في حق نفسه, ولو كان ولاء كل واحد منهما معروفا كان الولد مولى لموالي الأب
ولو قالت الأم للأب أنت عبد فلان وقال كنت عبد فلان فأعتقني وصدقه فلان فالقول قول الأب لأن بتصادقهما ظهر في جانب الأب ولاء فلا يلتفت إلى قولهما في حق الولد بعد ذلك, وكذلك لو قالت هم ولدي من غيرك لأن الولد للفراش وفراش الزوج عليها ظاهر فلا تصدق فيما تدعي من فراش آخر عليها غير معلوم, ولو قالت ولدته بعد عتقي بخمسة أشهر فهو مولى لموالي وقال الزوج ولدتيه بعد عتقك بستة أشهر فالقول قول الزوج لأن الولاء كالنسب, وفي مثل هذا لو اختلفا في النسب بأن قالت المرأة ولدته بعد النكاح لأقل من ستة أشهر وقال الزوج بل لستة أشهر كان القول قول

 

ج / 8 ص -100-       الزوج لظهور فراشه عليها في الحال فكذلك في الولاء لظهور ولاء الأب في الحال وهو موجب جر ولاء الولد ما لم يعلم أنه كان مقصودا بالعتق, "امرأة في يدها ولد لا يعرف أبوه أقرت أنها معتقة هذا الرجل وصدقها ذلك الرجل لم تصدق على الابن في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهي مصدقة في قول أبي حنيفة" لأن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هي تملك مباشرة عقد الولاء على ولدها ويتبعها الولد في الإسلام فتصدق في الإقرار عليه بالولاء أيضا وكذلك إن قالت كان زوجي رجلا من أهل الأرض أسلم أو كان عبدا صدقت على الولد في قول أبي حنيفة ولا تصدق في قولهما لأن عندهما لا تملك مباشرة عقد الولاء عليه, وإن كان زوجها رجلا من العرب وهي لا تعرف فأقرت أنها مولى عتاقة لرجل صدقت على نفسها ولا تصدق على الولد في قول أبي حنيفة لأن الولد بماله من النسب مستغن عن الولاء واعتبار قولها عليه لمنفعة الولد فإذا لم توجد المنفعة هنا لا يعتبر قولها عليه بخلاف ما سبق والإقرار بولاء العتاقة والولاء سواء في الصحة والمرض كالإقرار بالنسب وهذا لأن تصرفه في المرض إنما يتعلق بالمحل الذي يتعلق به حق الغرماء والورثة وذلك غير موجود في الولاء.
وإذا قال فلان مولى لي قد أعتقته وقال فلان بل أنا أعتقتك لم يصدق واحد منهما على صاحبه في قول أبي حنيفة اعتبارا للولاء بالسبب.
ولو قال أنا مولى لفلان وفلان اعتقاني فأقر أحدهما بذلك وأنكر الآخر وحلف ما أعتقته فهو بمنزلة عبد بين اثنين يعتقه أحدهما, وإن قال أنا مولى فلان أعتقني ثم قال لا بل أعتقني فلان فهو مولى للأول لأنه رجع عن الإقرار بالولاء للأول وهو لا يملك ذلك وبعد ما ثبت عليه الولاء للأول لا يصح إقراره بالولاء للثاني, ولو قال أعتقني فلان أو فلان وادعي كل واحد منهما فهذا الإقرار باطل لجهالة المقر له فإن الإقرار للمجهول غير ملزم إياه شيئا فيقر بعد ذلك لأيهما شاء أو لغيرهما أنه مولاه فيجوز ذلك كما لو لم يوجد الإقرار الأول
"رجل أقر أنه مولى لامرأة أعتقته فقالت لم أعتقك ولكنك أسلمت على يدي وواليتني فهو مولاها" لأنهما تصادقا على ثبوت أصل الولاء واختلفا في سببه والأسباب غير مطلوبة لأعيانها بل لأحكامها وليس له أن يتحول عنها في قول أبي حنيفة رحمه الله وله ذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه إنما يثبت عليه بإقراره مقدار ما وجد فيه التصديق وذلك لا يمنعه من التحول.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول المقر يعامل في إقراره كأن ما أقر به حق وفي زعمه أن عليه ولاء عتاقة لها وذلك يمنعه من التحول.
وأصل المسألة في النسب إذا أقر لإنسان فكذبه ثم ادعاه لم يصح في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو صحيح في قولهما وقد بيناه في العتاق, وإن أقر أنه أسلم على يدها ووالاها وقالت بل أعتقتك فهو مولاها وله أن يتحول عنها ما لم يعقل عنه قومها لأن الثابت

 

 

ج / 8 ص -101-       عند التصديق مقدار ما أقر به المقر وهو إنما أقر بولاء الموالاة وذلك لا يمنعه من التحول ما لم يتأكد بعقل الجناية, وإن أقر أن فلانا أعتقه وقال فلان ما أعتقتك ولا أعرفك فأقر أنه مولى لآخر لا يجوز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويجوز في قولهما اعتبارا للولاء بالنسب وفي النسب في نظيره خلاف ظاهر منهم فكذلك في الولاء, وإذا مات رجل وادعي رجلان كل واحد منهما أنه أعتقه وصدق بعض أولاده من الذكور والإناث أحدهما وصدق الباقون الآخر فكل مولي للذي صدقه لأن الأولاد البالغين كل واحد منهم أصل في مباشرة الولاء على نفسه ذكرا كان أو أنثى فكذلك إقرار كل واحد منهما بالولاء للذي صدقه صحيح في حق نفسه والله سبحانه أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب عتق ما في البطن
قال:  رضي الله عنه "رجل قال لأمته ما في بطنك حر ثم قال إن حبلت فسالم حر فولدت بعد هذا القول لأقل من سنتين فالقول فيه قول المولى" لجواز أن يكون هذا الولد موجودا في البطن وقت الإيجاب فإنما يعتق هذا أو كان من حبل حادث فإنما يعتق سالم وقد بينا أن العلوق إنما يستند إلى أقرب الأوقات إذا لم يكن فيه إثبات عتق بالشك فأما إذا كان فيه إثبات عتق بالشك فإنما يعتبر اليقين لأن بالشك لا يزول وهنا تيقنا بحرية أحدهما فالبيان فيه إلي المولى كما لو قال لعبدين له أحدكما حر, فإن أقر أنها كانت حاملا يومئذ فهذا منه إقرار بعتق الولد وإن أقر أنه حبل مستقبل عتق سالم لإقراره به وإن جاءت به لأكثر من سنتين عتق سالم لأنا تيقنا أنه من علوق حادث, "رجل أوصى بما في بطن أمته لرجل فأعتقه الموصى له بعد موته فإن عتقه جائز وهو مولاه" لأن الوصية أخت الميراث فكما أن الجنين يملك بالإرث فكذلك بالوصية وعتق الموصي له في ملكه نافذ فإن ضرب إنسان بطنها فألقته ميتا ففيه ما في جنين الحرة وهو ميراث لمولاه الذي أعتقه لأن بدل نفس الجنين موروث عنه وأبواه مملوكان فكان ميراثا لمولاه, ولو أوصى بما في بطن أمته لفلان فأعتقه الموصى له به وأعتق الوارث الأمة وأعتق مولى الزوج زوج الأمة فولاء الولد للموصي لأنه مقصود بالعتق من جهته, فإن ضرب إنسان بطنها فألقته ميتا ففيه ما في جنين الحرة ميراثا لأبويه لأنهما حران عند وجوب بدل نفس الجنين فإن كانا أعتقا بعد الضربة, قبل أن يسقط أو بعد الإسقاط فالغرة للذي أعتق الولد لأنه يحكم بموت الجنين عند الضربة ولهذا وجب البدل به وعند ذلك كانا مملوكين فلا يرثانه وإن عتقا بعد ذلك بل الميراث للمعتق وإنما يستقيم هذا الجواب وهو أن ولاء الجنين للمعتق إذا كان عتق ما في البطن أولا أو كانا سواء, فأما إذا أعتق الوارث الأم أولا فإن الجنين يعتق بعتق الأم ويكون الوارث ضامنا للموصى له قيمة الجنين يوم تلد ولا يتصور الإعتاق من جهته في الجنين بعد ذلك ولا يثبت له ولاؤه, وإذا أعتق الرجل ما في بطن أمته فولدت لستة أشهر فقالت للمولى قد أقررت أني حامل بقولك ما في بطنك حر وقال المولى هذا حبل حادث فالقول قول المولى لأنكاره العتق وما تقدم لا يكون إقرارا منه بوجود الولد في البطن

 

ج / 8 ص -102-       يومئذ بل معناه ما في بطنك حر إن كان في بطنك ولد ولو أعتق أمته وهي معتدة فجاءت بولد لتمام سنتين من وقت وجوب العدة عليها فهو مولى لموالي الأم لأنا حكمنا بأن العلوق كان سابقا على إعتاقه إياها حين أثبتنا نسب الولد من الزوج, فإن ولدت ولدين أحدهما لتمام سنتين والآخر بعد ذلك بيوم فكذلك أيضا هكذا ذكره في الأصل وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى, فأما عند محمد رحمه الله تعالى يكون الولد لموالي الأب هنا وكأنها ولدتهما لأكثر من سنتين قال اتبع الشك اليقين وهما يتبعان الثاني الأول وقد بينا هذا فيما أمليناه من شرح الزيادات, ولا يمين في الولاء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن ادعى الأعلى أو الأسفل.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فيه اليمين وقد بينا هذا مع نظائره في كتاب النكاح والدعوى ولا خلاف أن المولى إذا جحد العتق فإنه يستحلف لأن العتق مما يعمل فيه البدل فيجري فيه الاستحلاف وعند نكوله يقضى بالعتق ثم الولاء ينبني عليه وهو نظير المرأة تستحلف في انقضاء العدة ثم إذا نكلت ينبني عليه صحة رجعة الزوج, وكذلك لو ادعى رجل عربي على ورثة ميت قد ترك ابنة ومالا أنه مولاه الذي أعتقه وله نصف ميراثه فلا يمين على الابنة في الولاء ولكن تحلف أنها ما تعلم له في ميراث أبيها حقا ولا إرثا لأن هذا استحلاف في المال والمال مما يعمل فيه البدل وهو كمن ادعى ميراثا بنسب لا يستحلف المنكر على النسب عنده ويستحلف على الميراث, وإن ادعى عربي على نبطي أنه والاه وجحده النبطي فلا يمين عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وولاء الموالاة في هذا كولاء العتاقة. فإن أقر به بعد انكاره فهو مولاه ولا يكون جحوده نقضا للولاء
وكذلك لو كان العربي هو الجاحد لأن النقض تصرف في العقد بالرفع بعد الثبوت وإنكار أصل الشيء لا يكون تصرفا فيه بالرفع كإنكار الزوج لأصل النكاح, وإن ادعى نبطي على عربي أنه مولاه الذي أعتقه والعربي غائب ثم ادعى النبطي ذلك على آخر وأراد استحلافه فإنه لا حلف لوجهين:
"أحدهما" أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لا يرى الاستحلاف في الولاء.
"والثاني" أنه قد ادعي ذلك على غيره ولو أقر الثاني له بذلك لم يكن مولاه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فكيف يستحلف على ذلك, وعندهما إن قدم الغائب فادعي الولاء فهو أحق به وإن أنكر فهو مولى للثاني, "رجل من الموالي قتل رجلا خطأ فادعى ورثته على رجل من قبيلة أنه أعتقه وأرادوا استحلافه فليس لهم ذلك" لأنه لا يمين في الولاء ولأنه ليس بخصم لهم وإن أقر الرجل به لم يصدق على العاقلة لأنه متهم في حق العاقلة وإنما يريد أن يلزمهم مالا بإقراره وهو لا يملك أن يلزمهم ذلك بإنشاء التصرف في هذه الحالة فكذلك بالإقرار وتكون الدية على القاتل في ماله لأن أصل وجوب الدية عليه في ماله, وإن كان المقتول من الموالى فادعى رجل أنه أعتقه قبل القتل وأنه لا وارث له غيره وأراد استحلاف القاتل على الولاء وهو مقر بالقتل لم يستحلف عليه ولكن يحلف ما يعلم لهذا في دية فلان المسمى عليك

 

ج / 8 ص -103-       حقا لأنه لو أقر بما ادعاه المدعى أمر بتسليم الدية إليه فإذا أنكر يستحلف على ذلك لرجاء نكوله فأما أصل الولاء فلا يمين فيه على من يدعيه فكيف على غيره, "وولد الملاعنة من قوم أمه وعقل جنايته عليهم" لأنه لا نسب له ولا ولاء من جانب الأب فيكون منسوبا إلى قوم الأم بالنسب إن كانت من العرب وبالولاء إن كانت من الموالي فإن أعتق بن الملاعنة عبدا فعقل جنايته على عاقلة الأم أيضا لأن المعتق منسوب بالولاء إلى من ينسب إليه المعتق بواسطة وقد بينا أن المعتق منسوب إلى قوم أمه عليهم عقل جنايته فكذلك معتقه. وإن مات العبد بعد موت الابن وأمه ولا وارث له غيره ورثه أقرب الناس من الأم من العصبات لأن الولد لما كان منسوبا إليها كانت هي في حقه كالأب ولو كان له أب كان ميراث معتقه لأقرب عصبة الأب بعد موته فكذلك هنا, ولو كان لها بن ثم مات المولي ولا وارث له غير بن الأم وهو أخ المعتق لأمه فإنه يرث المولى كأنه أخ المعتق لأبيه وأمه ولأن هذا الابن أقرب عصبة الأم في نسبة المعتق إليها كالأب فكذلك ابنها في استحقاق ميراث المعتق كابن الأب, ولو كان للمعتق أخ وأخت كان ميراث المولى للأخ دون الأخت لهذين المعنيين ولو لم يكن له وارث غير أمه لم يكن لها من الميراث شيء لما بينا أنه لا يرث من النساء بالولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن وكان الميراث لأقرب الناس منها من العصبات لأنها لما لم ترث شيئا كانت كالميتة, فإن ادعاه الأب وهو حي ثبت نسبه منه لأن النسب قد استتر باللعان بعد ما كان ثابتا منه بالفراش وبقي موقوفا على حقه, فإذا ادعاه في حال قيام حاجته ثبت نسبه منه ورجع ولاء مواليه العتاقة والموالاة إليه ويرجع عاقلة الأم بما عقلوا عنهم علي عاقلة الأب وما كانوا متبرعين في هذا الأداء بل كانوا مجبرين عليه في الحكم فيرجعون عليهم, وقد بينا الفرق بين هذا وبين ما إذا جر الأب ولاء الولد بعد ما عقل عنه موالي الأم وإنما يرجعون على عاقلة الأب لما بينا أن النسب إنما يثبت من وقت العلوق فتبين أن عاقلة الأم أدوا ما كان مستحقا على عاقلة الأب وإن كان الابن ميتا لم تجز دعوة الأب إلا أن يكون بقي له ولد لأنه بالموت استغني عن النسب فدعوى الأب لا تكون إقرارا بالنسب بل تكون دعوى للميراث وهو في ذلك متناقض, فإن خلف الولد ابنا فحاجة بن الابن كحاجة الابن في تصحيح دعوى الأب ولو كان ولد الملاعنة بنتا فماتت وتركت ولدا ثم ادعاه الأب جازت دعوته في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن موتها عن ولد كموت بن الملاعنة عن ولد وهذا لأن ولدها محتاج إلى إثبات نسب أمه ليصير كريم الطرفين, وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لم تجز دعوته لأن نسبة هذا الولد إلى أبيه دون أمه فإن الولد من قوم أبيه, ألا ترى أن إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنه كان من قريش وأن أولاد الخلفاء من الإماء يصلحون للخلافة فلا معتبر بوجود هذا الولد لما لم يكن منسوبا إليها فلهذا لا تصح دعوة الأب وإن كان ولد الملاعنة أعتق عبدا ثم مات لاعن ولد فادعى الأب نسبه لم يصدق باعتبار بقاء مولاه لأن الولاء أثر الملك ولو بقى له أصل الملك على العبد لم يصدق هو في الدعوة باعتباره فبقاء الولاء أولى وهذا لأنه إنما يعتبر بقاء من يصير

 

ج / 8 ص -104-       منسوبا إليه بالنسب إذا صحت دعوته والمولى لا يصير منسوبا إليه بالنسب, إذا لاعن بولدي توأم ثم أعتق أحدهما عبدا ومات فادعى الأب الحي منهما ثبت نسبهما لأنهما خلقا من ماء واحد فبقاء أحدهما محتاجا إلى النسبة كبقائهما, وإذا ثبت نسبهما جر الأب ولاء معتق الميت منهما إلى نفسه كما لو كان ثابت النسب منه حين أعتقه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد انتهى شرح كتاب الولاء بطريق الإملاء من الممتحن بأنواع البلاء يسأل من الله تعالى تبديل البلاء والجلاء بالعز والعلاء فإن ذلك عليه يسير وهو على ما يشاء قدير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين.