المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 8 ص -105-       كتاب الأيمان
قال:  الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رضي الله تعالى عنه اليمين في اللغة القوة ومنه قوله تعالى"
{لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}[الحاقة:45] "وقال القائل:

رأيت عرابة الأوسي يسمو                      إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمجد                           تلقاها عرابة باليمين

فما يستعمل بالعهود والتوثيق والقوة يسمى يمينا.
وقيل: اليمين الجارحة فلما كانت يستعمل بذلها في العهود سمي ما يؤكد به العقد باسمها وهي نوعان نوع يعرفه أهل اللغة, وهو ما يقصد به تعظيم المقسم به ويسمون ذلك قسما إلا أنهم لا يخصون ذلك بالله تعالى وفي الشرع هذا النوع من اليمين لا يكون إلا بالله تعالى.
فهو المستحق للتعظيم بذاته على وجه لا يجوز هتك حرمة اسمه بحال, والنوع الآخر الشرط والجزاء وهو يمين عند الفقهاء لما فيها من معنى اليمين وهو المنع أو الإيجاب ولكن أهل اللغة لا يعرفون ذلك لأنه ليس فيه معنى التعظيم ثم بدأ الكتاب ببيان النوع الأول فقال الأيمان ثلاثة, وهذا اللفظ على النحو الذي ذكره محمد رحمه الله تعالى يروي عن رجلين من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أبي مالك الغفاري وكعب بن مالك رحمهما الله ولم يرد عدد الأيمان, فإن ذلك أكثر من أن يحصى, وإنما أراد أن اليمين بالله تعالى تنقسم في أحكامها ثلاثة أقسام يمين يكفر ويمين لا يكفر ويمين يرجو أن لا يؤاخذ الله تعالى بها صاحبها, فأما الذي يكفر فهو اليمين على أمر في المستقبل لإيجاد فعل أو نفى فعل وهذا عقد مشروع أمر الله تعالى به في بيعة نصرة الحق وفي المظالم والخصومات وهي في وجوب الحفظ أربعة أنواع نوع منها يجب إتمام البر فيها وهو أن يعقد على أمر طاعة أمر به أو الامتناع عن معصية وذلك فرض عليه قبل اليمين وباليمين يزداد وكادة ونوع لا يجوز حفظها وهو أن يحلف على ترك طاعة أو فعل معصية لقوله صلى الله عليه وسلم:
"من حلف أن يطيع الله فليطعه ومن حلف أن يعصي الله فلا يعصه" ونوع يتخير فيه بين البر والحنث والحنث خير من البر فيندب فيه إلى الحنث لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر" وأدنى درجات الأمر الندب. ونوع

 

ج / 8 ص -106-       يستوي فيه البر والحنث في الإباحة فيتخير بينهما وحفظ اليمين أولى بظاهر قوله تعالى: ْ {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: من الآية89] وحفظ اليمين يكون بالبر بعد وجودها فعرفنا أن المراد حفظ البر ومن حنث في هذا اليمين فعليه الكفارة كما قال الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: من الآية89] ويتخير بين الطعام والكسوة والإعتاق للتنصيص على حرف أو ولأن البداية بالأخف والختم بالأغلظ إشارة إلى ذلك لأنها لو كانت مرتبة كانت البداية بالأغلظ. والتي لا تكفر اليمين الغموس وهي المعقودة على أمر في الماضي أو الحال كاذبة يتعمد صاحبها ذلك وهذه ليست بيمين حقيقة لأن اليمين عقد مشروع وهذه كبيرة محضة والكبيرة ضد المشروع ولكن سماه يمينا مجازا لأن ارتكاب هذه الكبيرة لاستعمال صورة اليمين كما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الحر بيعا مجازا لأن ارتكاب تلك الكبيرة لاستعمال صورة البيع.
ثم لا ينعقد هذا اليمين فيما هو حكمه في الدنيا عندنا ولكنها توجب التوبة والاستغفار.
وعند الشافعي رحمه الله تعالى تنعقد موجبة للكفارة فمن أصله محل اليمين نفس الخبر وشرط انعقادها القصد الصحيح. وعندنا محل اليمين خبر فيه رجاء الصدق لأنها تنعقد موجبة للبر ثم الكفارة خلف عنه عند فوت البر فالخبر الذي لا يتصور فيه الصدق لا يكون محلا لليمين والعقد لا ينعقد بدون محله.
وحجته قوله تعالى
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: من الآية225] فالله اثبت المؤاخذة في اليمين المكسوبة واليمين الغموس بهذه الصفة لأنها بالقلب مقصودة ثم فسر هذه المؤاخذة بالكفارة في قوله:  {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: من الآية89]. معناه بما قصدتم والعقد هو القصد ومنه سميت النية عقيدة وأوجب الكفارة موصولة باليمين بقوله فكفارته لأن الفاء للوصل وقال في آخر الآية ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم والكفارة بنفس الحلف إنما تجب بالغموس والمراد بقوله:  {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: من الآية89]  الامتناع من الحلف فإن بعد الحلف إنما يتصور حفظ البر وحفظ اليمين يذكر لمعنى الامتناع قال القائل:

قليل الألايا حافظ ليمينه                         وإن بدرت منه الألية برت

ولأن قوله خالف فعله في يمين بالله تعالى مقصود فيلزمه الكفارة كما في المعقودة على أمر في المستقبل وأقرب ما يقيسون عليه إذا حلف ليمسن السماء أو ليحولن هذا الحجر ذهبا وهذا لأن وجوب الكفارة في المعقودة على أمر في المستقبل لمعنى الحظر ولهذا سميت كفارة أي ساترة وهذا الحظر من حيث الاستشهاد بالله تعالى كاذبا وذلك بعينه موجود في الغموس ولأن الغموس إنما يخالف المعقودة على أمر في المستقبل في توهم البر والبر مانع من الكفارة وانعدام ما يمنع الكفارة يحقق معنى الكفارة فيها ولأن في أحد نوعي اليمين وهو الشرط والجزاء يسوى بين الماضي والمستقبل في موجبه فكذلك في النوع الآخر.

 

ج / 8 ص -107-       وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: من الآية77] فقد بين جزاء اليمين الغموس بالوعيد في الآخرة فلو كانت الكفارة فيها واجبة لكان الأولى بيانها ولأن الكفارة لو وجبت إنما تجب لرفع هذا الوعيد المنصوص وذلك لا يقول به أحد قال عليه الصلاة والسلام خمس من الكبائر لا كفارة فيهن وذكر منها اليمين الفاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم. وقال اليمين الغموس تدع الديار بلاقع أي خالية من أهلها.
وقال بن مسعود رضي الله تعالى عنه: "كنا نعد اليمين الغموس من الأيمان التي لا كفارة فيها". والمعنى فيه أنها غير معقودة لأن عقد اليمين للحظر أو الإيجاب وذلك لا يتحقق في الماضي والخبر الذي ليس فيه توهم الصدق والعقد لا ينعقد بدون محله كالبيع لا ينعقد على ما ليس بمال لخلوه عن موجب البيع وهو تمليك المال ولأنه قارنها ما يحلها ولو طرأ عليها يرفعها, فإذا قارنها منع انعقادها كالردة والرضاع في النكاح بخلاف مس السماء ونحوه فإنه لم يقارنها ما يحلها لأنها عقدت على فعل في المستقبل فما يحلها انعدام الفعل في المستقبل ولهذا تتوقت تلك اليمين بالتوقيت ولأن الغموس محظور محض فلا يصلح سببا لوجوب الكفارة كالزنا والردة وهذا لأن المشروعات تنقسم ثلاثة أقسام:
عبادة محضة وسببها مباح محض, وعقوبة محضة كالحدود وسببها محظور محض, وكفارات وهي تتردد بين العبادة والعقوبة فمن حيث أنها لا تجب الأجزاء تشبه العقوبة ومن حيث إنه يفتي بها فلا تتأدى إلا بنية العبادة وتتأدي بما هو محض العبادة كالصوم تشبه العبادات فينبغي أن يكون سببها مترددا بين الحظر والإباحة وذلك المعقودة على أمر في المستقبل لأنه باعتبار تعظيم حرمة اسم الله تعالى باليمين مباح وباعتبار هتك هذه الحرمة بالحنث محظور فيصلح سببا للكفارة فأما الغموس محظور محض لأن الكذب بدون الاستشهاد بالله تعالى محظور محض فمع الاستشهاد بالله تعالى أولى فلا يصلح سببا للكفارة.
ثم الكفارة تجب خلفا عن البر الواجب باليمين ولهذا يجب في المعقودة على أمر في المستقبل بعد الحنث لأن قبل الحنث ما هو الأصل قائم فإذا حنث فقد فات الأصل فتجب الكفارة ليكون خلفا ويصير باعتبارها كأنه على بره وهذا إنما يتصور في خبر فيه توهم الصدق أنه ينعقد موجبا للأصل ثم الكفارة خلف عنه وفي مس السماء هكذا لأن السماء عين ممسوسة فلتصور البر انعقدت اليمين ثم لفواته بالعجز من حيث العادة تلزمه الكفارة في الحال خلفا عن البر فأما فيما نحن فيه لا تصور للبر فلا ينعقد موجبا لما هو الأصل فلا يمكن أن يجعل موجبا للخلف ولأنه حينئذ لا يكون خلفا بل يكون واجبا ابتداء ولا يمكن جعل الكفارة واجبة باليمين ابتداء لأنها حينئذ لا تكون كبيرة بل تكون سبب التزام القربة ومعنى قوله تعالى
{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}[المائدة: من الآية89]  وحنثتم ومن أسباب الوجوب ما هو مضمر في الكتاب كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: من الآية184] ثم

 

ج / 8 ص -108-       إن الله تعالى أوجب الكفارة بعد عقد اليمين بقوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: من الآية89] والقراءة بالتشديد لا تتناول إلا المعقودة وكذلك بالتخفيف لأنه يقال عقدته فانعقد كما يقال كسرته فانكسر وإنما يتصور الانعقاد فيما يتصور فيه الحل لأنه ضده قال القائل:

ولقلب المحب حل وعقد

ولا يتصور ذلك في الماضي أو المراد بقوله {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: من الآية225] المؤاخذة بالوعيد في الآخرة لأن دار الجزاء في الحقيقة الآخرة فأما في الدنيا قد يؤاخذ المطيع ابتداء وينعم على العاصي استدراجا والمؤاخذة المطلقة محمولة على المؤاخذة في الآخرة وبفصل الشرط والجزاء يستدل على ما قلنا فإنه إذا أضيف إلى الماضي يكون تحقيقا للكذب ولا يكون يمينا وإليه يشير في الكتاب ويقول أمر الغموس أمر عظيم والبأس فيه شديد.
معناه أن ما يلحقه من المأثم فيه أعظم من أن يرتفع بالكفارة. والنوع الثالث يمين اللغو فنفي المؤاخذة بها منصوص في القرآن قال الله تعالى:
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: من الآية225].
واختلف العلماء في صورتها فعندنا صورتها أن يحلف على أمر في الماضي أو في الحال وهو يرى أنه حق ثم ظهر خلافه وهو مروي عن زرارة بن أبي أوفي وعن بن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايتين, وعن محمد رحمه الله قال: "هو قول الرجل في كلامه لا والله بلى والله" وهو قريب من قول الشافعي رضي الله تعالى عنه فإن عنده اللغو
ما يجري على اللسان من غير قصد في الماضي كان أو في المستقبل وهو إحدى الروايتين عن بن عباس قال: "اليمين اللغو يمين الغضب" وروى عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تفسير اللغو:
"قول الرجل لا والله بلى والله" وهو قول عائشة رضي الله تعالى عنها.
وتأويله عندنا فيما يكون خبرا عن الماضي فإن اللغو ما يكون خاليا عن الفائدة والخبر الماضي خال عن فائدة اليمين على ما قررنا فكان لغوا فأما الخبر في المستقبل عدم القصد لا يعدم فائدة اليمين.
وقد ورد الشرع بأن الهزل والجد في اليمين سواء, ولما أخذ المشركون حذيفة بن اليمان رضي الله عنه واستحلفوه أن لا ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:
"أوف لهم بعهودهم ونحن نستعين بالله عليهم" والمكره غير قاصد ومع ذلك أمره بالوفاء به فدل أن عدم القصد لا يمنع انعقاد اليمين ممن هو من أهله وتأويل قوله: صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" رفع الإثم.
ومن السلف من قال اللغو هو اليمين المكفرة وهذا باطل فإن الله تعالى عطف اليمين التي فيها الكفارة على اللغو والشيء لا يعطف على نفسه ومنهم من يقول يمين اللغو اليمين على المعصية وقال بعضهم لا كفارة فيها وقال بعضهم هي محبطة بالكفارة أي لا مؤاخذة فيها بعد الكفارة وهذا أيضا فاسد فإن كون الفعل معصية لا يمنع عقد اليمين عليه ولا يخرجه

 

ج / 8 ص -109-       عن كونه سببا للكفارة كالظهار فإنه منكر من القول وزور ثم كان موجبا للكفارة عند العود وهذا النوع لا يتحقق إلا في اليمين بالله تعالى فأما في الشرط والجزاء لا يتحقق اللغو هكذا ذكره بن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى لأن عدم القصد لا يمنع وقوع الطلاق والعتاق.
فإن قيل:  فما معنى تعليق محمد رحمه الله تعالى نفي المؤاخذة في هذا النوع من الرجاء بقوله نرجو إن لا يؤاخذ الله تعالى بها صاحبها وعدم المؤاخذة في اليمين اللغو منصوص عليه وما عرف بالنص فهو مقطوع به.
قلنا:  نعم ولكن صورة تلك اليمين مختلف فيها فإنما علق بالرجاء نفي المؤاخذة في اللغو بالصورة التي ذكرها وذلك غير معلوم بالنص مع أنه لم يرد بهذا اللفظ التعليق بالرجاء إنما أراد به التعظيم والتبرك بذكر اسم الله تعالى كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالمقابر قال صلى الله عليه وسلم:
"السلام عليكم ديار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" وما ذكر الاستثناء بمعنى الشك فإنه كان متيقنا بالموت وقد قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ولكن معنى ذكر الاستثناء ما ذكرنا وإذا حلف ليفعلن كذا ولم يوقت لذلك وقتا فهو على يمينه حتى يهلك ذلك الشيء الذي حلف عليه فيلزمه الكفارة حينئذ وأعلم أن اليمين ثلاثة أنواع مؤبدة لفظا ومعنى بأن يقول والله لا أفعل كذا أبدا أو يقول لا أفعل مطلقا والمطلق فيما يتأبد يقتضي التأبيد كالبيع, ومؤقتة لفظا ومعنى بأن يقول لا أفعل كذا اليوم فيتوقت اليمين بذلك الوقت لأن موجبه الحظر أو الإيجاب وذلك يحتمل التوقيت فيتوقت بتوقيته, ومؤبد لفظا مؤقت معنى كيمين الفور إذا قال تعال تغد معي فقال والله لا أتغدي يتوقت يمينه بذلك الغداء المدعو إليه وهذا النوع من اليمين سبق به أبو حنيفة رحمه الله تعالى ولم يسبق به وأخذه من حديث جابر بن عبد الله وابنه حين دعيا إلى نصرة إنسان فحلفا أن لا ينصراه ثم نصراه بعد ذلك ولم يحنثا وبناه على ما عرف من مقصود الحالف وهو الأصل في الشرع أن يبتني الكلام على ما هو معلوم من مقصود المتكلم قال الله تعالى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}[الاسراء: من الآية64], والمراد الإمكان والإقدار لاستحالة الأمر بالشرك والمعصية من الله تعالى ثم الكفارة لا تجب إلا بعد فوت البر في اليمين المطلقة وإنما يفوت البر بهلاك ذلك الشيء الذي حلف عليه أو بموت الحالف وأما في اليمين المؤقتة ففوت البر بمضي الوقت مع بقاء ذلك الشيء الذي حلف عليه ومع بقاء الحالف وأما إذا كان الحالف قد مات قبل مضي ذلك الوقت لا تجب الكفارة, وإذا هلك ذلك الشيء ففيه اختلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى, وإذا قال ورحمة الله لا أفعل كذا أو غضب الله وسخط الله وعذاب الله وثوابه ورضاه وعلمه فإنه لا يكون يمينا.
والحاصل أن نقول اليمين إما أن يكون باسم من أسماء الله تعالى أو بصفة من صفاته وذلك يبتني على حروف القسم فلا بد من معرفتها أولا فنقول حروف القسم الباء والواو

 

ج / 8 ص -110-       والتاء أما الباء فهي للإلصاق في الأصل وهي بدل عن فعل محذوف فمعنى قوله بالله أي أحلف بالله قال الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: من الآية56]  أو أقسم بالله قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [الأنعام: من الآية109]  ولهذا يصح اقترانها بالكتابة فيقول القائل به وبك.
ثم الواو تستعار للقسم بمعنى الباء لما بينهما من المشابهة صورة ومعنى أما صورة فلأن مخرج كل واحد منهما بضم الشفتين. وأما المعنى فلأن الواو للعطف وفي العطف معني الإلصاق إلا أنه لا يستقيم إظهار الفعل مع حرف الواو بأن يقول أحلف والله لأن الاستعارة لتوسعة صلات الاسم لا لمعنى الإلصاق فإذا استعمل مع إظهار الفعل يكون بمعنى الإلصاق ولهذا لا يستقيم حرف الواو مع الكناية وإنما يستقيم مع التصريح بالاسم سواء ذكر اسم الله تعالى أو اسم غير الله فيقول وأبيك وأبي ثم التاء تستعار لمعنى الواو لما بينهما من المشابهة فإنهما من حروف الزوائد تستعمل العرب إحداهما بمعنى الأخرى كقولهم تراث ووارث ولكن هذه الاستعارة لتوسعة صلة القسم بالله خاصة ولهذا لا يستقيم ذكر التاء إلا مع التصريح بالله حتى لا يقال بالرحمن وإنما يقال بالله خاصة قال الله تعالى
{تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: من الآية91] {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الانبياء: من الآية57] ثم الحلف بأسماء الله تعالى يمين في الصحيح من الجواب.
ومن أصحابنا من يقول كل اسم لا يسمى به غير الله تعالى كقوله والله والرحمن فهو يمين وما يسمى به غير الله تعالى كالحكيم والعالم فإن أراد به اليمين فهو يمين وإن لم يرد به اليمين لا يكون يمينا, وكان بشر المريسي يقول في قوله والرحمن إن أراد به اسم الله تعالى فهو يمين وإن أراد به سورة الرحمن لا يكون يمينا لأنه حلف بالقرآن وقد بينا في كتاب الطلاق أن قوله والقرآن لا يكون يمينا. ولكن الأول أصح لأن تصحيح كلام المتكلم واجب ما أمكن ومطلق الكلام محمول على ما يفيد دون ما لا يفيد وذلك في أن يجعل يمينا ويستوي إن قال والله أو بالله أو تالله وكذلك إن قال الله لأن من عادة العرب حذف بعض الحروف للإيجاز قال القائل:

قلت لها قفي فقالت قاف                   لا تحسبن أني نسيت الإلحاف

أي وقفت إلا أن عند نحويي البصرة عند حذف حرف القسم بذكر منصوبا بانتزاع حرف الخافض منه وعند نحويي الكوفة يذكر مخفوضا لتكون كسرة الهاء دليلا على محذوفه وكذلك لو قال لله لأن معناه بالله فإن الباء واللام يتقاربان قال الله تعالى:  {آمَنْتُمْ لَهُ} [طـه: من الآية71]  أي آمنتم به وقال بن عباس رضي الله تعالى عنهما: "دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج",.
وذكر القفال في تفسيره إذا قال له وعني به اليمين يكون يمينا واستدل بقول القائل:

لهنك من عبسية لوسيمة                   على هنوات كاذب من يقولها

معناه لله أنك ولو قال وايم الله فهو يمين.

 

ج / 8 ص -111-       قال محمد رحمه الله تعالى ومعناه أيمن فهو جمع اليمين وهذا مذهب نحويي الكوفة, وأما البصريون يقولون معناه والله وأيم صلته كقولهم صه, ومه وما شاكله, وكذلك لو قال: لعمرو الله فهو يمين باعتبار النص قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ} [الحجر: من الآية72] والعمرو هو البقاء والبقاء من صفات الذات فكأنه قال والله الباقي, وأما الحلف بالصفات فالعراقيون من مشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والعزة والجلال والكبرياء يمين والحلف بصفات الفعل كالرحمة والغضب لا يكون يمينا وقالوا صفات الذات ما لا يجوز أن يوصف بضده كالقدرة وصفات الفعل ما يجوز أن يوصف بضده يقال رحم فلان ولم يرحم فلان وغضب على فلان ورضي عن فلان قالوا:
وعلى هذا ينبغي في القياس في قوله وعلم الله أن يكون يمينا لأنه من صفات الذات فإنه لا يوصف بضد العلم ولكنهم تركوا هذا القياس لأن العلم يذكر بمعنى المعلوم كقول الرجل في دعائه اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك ويقال علم أبي حنيفة رحمه الله أي معلومه والمعلوم غير الله.
فإن قيل:  وقد يقال أيضا انظر إلى قدرة الله والمراد المقدور ثم قوله وقدرة الله يمين.
قلنا:  معنى قوله انظر إلى قدرة الله أي إلى أثر قدرة الله تعالى ولكن بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فإن القدرة لا تعاين ولكن هذا الطريق غير مرضي عندنا فإنهم يقصدون بهذا الفرق الإشارة إلى مذهبهم أن صفات الفعل غير الله تعالى, والمذهب عندنا أن صفات الله لا هو ولا غيره فلا يستقيم الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل في حكم اليمين ومنهم من يعلل فيقول رحمه الله تعالى الجنة قال الله تعالى:
{فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: من الآية107] وإذا كانت الرحمة بمعنى الجنة فالسخط والغضب بمعنى النار فيكون حلفا بغير الله تعالى وهذا غير مرضي أيضا لأن الرحمة والغضب عندنا من صفة الله تعالى, والأصح أن يقول الأيمان مبنية على العرف والعادة فما تعارف الناس الحلف به يكون يمينا وما لم يتعارف الحلف به لا يكون يمينا والحلف بقدرة الله تعالى وكبريائه وعظمته متعارف فيما بين الناس وبرحمته غضبه غير متعارف فلهذا لم يجعل قوله وعلم الله يمينا.
ولهذا قال محمد رحمه الله في قوله وأمانة الله إنه يمين ثم سئل عن معناه فقال لا أدري فكأنه قال وجد العرب يحلفون بأمانة الله عادة فجعله يمينا وذكر الطحاوي أن قوله وأمانة الله لا يكون يمينا لأنه عبادة من العبادات والطاعات ولكن أمر الله تعالى بها وهي غير الله تعالى.
وجه رواية الأصل أنه يتعذر الإشارة إلى شيء بعينه على الخصوص أنه أمانة الله والحلف به متعارف وعلمنا أنهم يريدون به الصفة فكأنه قال والله الأمين. فإن قال ووجه الله روى عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه يمين لأن الوجه يذكر بمعنى الذات قال الله تعالى:
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: من الآية27]  قال الحسن هو هو وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يكون

 

ج / 8 ص -112-       يمينا, قال أبو شجاع رحمه الله تعالى في حكايته عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو من أيمان السفلة يعني الجهلة الذين يذكرونه بمعنى الجارحة.
وهذا دليل على أنه لم يجعله يمينا, وإن قال وحق الله فهو يمين في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى, وفي الرواية الأخري لا يكون يمينا لأن حق الله على عباده الطاعات كما فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله لمعاذ: 
"أتدري ما حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" والحلف بالطاعات لا يكون يمينا.
وجه قوله أن معنى وحق الله والله الحق والحق من صفات الله تعالى قال الله تعالى
{ذلك بأن الله هو الحق} [الحج: 62] ولا خلاف أنه لو قال والحق لا أفعل كذا أنه يمين كقوله والله قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: من الآية71]  ولو قال حقا لا يكون يمينا لأن التنكير في لفظه دليل على أنه لم يرد به اسم الله وإنما أراد به تحقيق الوعد معناه أفعل هذا لا محالة فلا يكون يمينا.
قال الشيخ الإمام رحمه الله تعالى وقد بينا في باب الإيلاء من كتاب الطلاق ألفاظ القسم ما اتفقوا عليه وما فيه اختلاف كقولهم هو يهودي أو نصراني أو مجوسي وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال إذا قال هو يهودي إن فعل كذا وهو نصراني إن فعل كذا فهما يمينان وإن قال هو يهودي هو نصراني إن فعل كذا فهي يمين واحدة لأن في الأول كل واحد من الكلامين تام بذكر الشرط والجزاء وفي الثاني الكلام واحد حين ذكر الشرط مرة واحدة, ولو حلف على أمر في الماضي بهذا اللفظ فإن كان عنده أنه صادق فلا شيء عليه وإن كان يعلم أنه كاذب. كان محمد بن مقاتل رحمه الله تعالى يقول يكفر لأنه علق الكفر بما هو موجود والتعليق بالموجود تنجيز فكأنه قال هو كافر.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يكفر اعتبارا للماضي بالمستقبل ففي المستقبل هذا اللفظ يمين يكفرها كاليمين بالله تعالى ففي الماضي هو بمنزلة الغموس أيضا, والأصح أنه إن كان عالما يعرف أنه يمين فإنه لا يكفر به في الماضي والمستقبل وإن كان جاهلا وعنده أنه يكفر بالحلف يصير كافرا في الماضي والمستقبل لأنه لما أقدم على ذلك الفعل وعنده أنه يكفر به فقد صار راضيا بالكفر, ومن هذا الجنس تحريم الحلال فإنه يمين يوجب الكفارة عندنا, وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون يمينا إلا في النساء والجواري لأن تحريم الحلال قلب الشريعة واليمين عقد شرعي فكيف ينعقد بلفظ هو قلب الشريعة ولأنه ليس في هذا المعنى تعظيم المقسم به ولا معنى الشرط والجزاء من حيث أنه بوجود الشرط لا يثبت عين ما علق به من الجزاء أو اليمين يتنوع بهذين النوعين.
"وحجتنا" في ذلك قوله تعالى:
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: من الآية2]  قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل على نفسه وقيل حرم مارية على نفسه فيعمل بهما أو لما ثبت بهذه الآية

 

ج / 8 ص -113-       أن التحريم المضاف إلى الجواري يكون يمينا فكذلك التحريم المضاف إلى سائر المباحات كقوله والله فكما أن هناك عند وجود الشرط لا يثبت ما علق به من التحريم فكذلك في الجواري.
ثم معنى اليمين في هذا اللفظ يتحقق بالقصد إلى المنع أو إلى الإيجاب لأن المؤمن يكون ممتنعا من تحريم الحلال, وإذا جعل ذلك بيمينه علامة فعله عرفنا أنه قصد منع نفسه عن ذلك الفعل كما في قوله والله لأنه ثبت أن الإنسان يكون ممتنعا من هتك حرمة اسم الله تعالى فكان يمينا وعلى هذا القول في قوله هو كافر إن فعل كذا كان يمينا لأن حرمة الكفر حرمة تامة مصمتة كهتك حرمة اسم الله تعالى فإذا جعل فعله علامة لذلك كان يمينا. فأما إذا قال هو يأكل الميتة أو يستحلها أو الدم أو لحم الخنزير إن فعل كذا فهذا لا يكون يمينا لأن هذه الحرمة ليست بحرمة تامة مصمتة حتى أنه ينكشف عند الضرورة وكذلك قوله هو يترك الصلاة والزكاة إن فعل كذا لأن ذلك يجوز عند تحقق الضرورة والعجز فلم يكن في معنى اليمين من كل وجه. ولو ألحق به باعتبار بعض الأوصاف لكان قياسا ولا مدخل للقياس في هذا الباب
وكذلك لو حلف بحد من حدود الله تعالى أو بشيء من شرائع الإسلام لم يكن يمينا لأنه حلف بغير الله تعالى ولأن الحلف بهذه الأشياء غير متعارف وقد بينا أن العرف معتبر في اليمين. ولو قال عليه لعنة الله أو غضب الله أو أماتة الله أو عذبه الله بالنار أو حرم عليه الجنة إن فعل كذا فشيء من هذا لا يكون يمينا إنما هو دعاء على نفسه قال الله تعالى:
{وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11]  ولأن الحلف بهذه الألفاظ غير متعارف, وسئل محمد رحمه الله تعالى عمن يقول وسلطان الله لا يفعل كذا فقال لا أدري ما هذا من حلف بهذا فقد أشار إلى عدم العرف والصحيح من الجواب في هذا الفصل أنه إذا أراد بالسلطان القدرة فهو يمين كقوله وقدرة الله, ولو جعل عليه حجة أو عمرة أو صوما أو صلاة أو صدقة أو ما أشبه ذلك مما هو طاعة إن فعل كذا ففعل لزمه ذلك الذي جعله على نفسه ولم يجب كفارة اليمين فيه في ظاهر الرواية عندنا.
وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى قال إن علق النذر بشرط يريد كونه كقوله إن شفى الله مريضي أورد غائبي لا يخرج عنه بالكفارة, وإن علق بشرط لا يريد كونه كدخول الدار ونحوه يتخير بين الكفارة وبين عين ما التزمه وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى في الجديد وقد كان يقول في القديم بتعين عليه كفارة اليمين.
وروى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى رجع إلى التخيير أيضا فإن عبد العزيز بن خالد الترمذي رضي الله تعالى عنه قال خرجت حاجا فلما دخلت الكوفة قرأت كتاب النذور والكفارات على أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلما انتهيت إلى هذه المسألة فقال قف فإن من رأيي أن أرجع فلما رجعت من الحج إذا أبو حنيفة رحمه الله تعالى قد توفى فأخبرني الوليد بن أبان رحمه الله أنه رجع عنه قبل موته بسبعة أيام وقال يتخير وبهذا كان يفتى إسماعيل الزاهد

 

ج / 8 ص -114-       رحمه الله قال رضي الله عنه وهو اختياري أيضا لكثرة البلوى في زماننا وكان من مذهب عمر وعائشة رضي الله عنهما أنه يخرج عنه بالكفارة ومن مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أنه لا يخرج عنه بالكفارة حتى كان بن عمر يقول لا أعرف في النذر إلا الوفاء.
وأما وجه قوله الأول قوله صلى الله عليه وسلم:
"من نذر نذرا وسمى فعليه الوفاء بما سمى ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين" والمعنى فيه أنه علق بالشرط ما يصح التزامه في الذمة فعند وجود الشرط يصير كالمنجز ولو نجز النذر لم يخرج عنه بالكفارة ألا ترى أن الطلاق المعلق بالشرط يجعل عند وجود الشرط كالمنجز فهذا مثله وتحقيق هذا وهو أن معنى اليمين لا يوجد هنا لأنه ليس فيه تعظيم المقسم به لأنه جعل دخول الدار علامة التزام الصوم والصلاة وفي الالتزام معنى القربة والمسلم لا يكون ممتنعا من التزام القربة.
توضيحه أن الكفارة تجب لمعني الحظر لأنها ستارة للذنب ومعني الحظر لا يوجد هنا وفي القول بالخيار له تخيير بين القليل والكثير في جنس واحد حتى إذا قال إن دخلت الدار فعلى طعام ألف مسكين فمن يقول بالخيار يخيره بين إطعام عشرة مساكين وبين إطعام ألف مسكين وكذا العتق والكسوة. وإن قال المعسر إن دخلت الدار فعلي صوم سنة يخيره بين صوم سنة وبين صوم ثلاثة أيام والتخيير بين القليل والكثير في جنس واحد غير مفيد شرعا فلا يجوز أن يكون حكما شرعيا.
ووجه قوله الآخر قوله صلى الله عليه وسلم:
"النذر يمين وكفارته كفارة اليمين" فيحمل هذا على النذر المعلق بالشرط وما رووه على النذر المرسل, أو المعلق بما يريد كونه ليكون جمعا بين الإخبار والمعنى فيه أن كلامه يشتمل على معنى النذر واليمين جميعا أما معنى النذر فظاهر وأما معنى اليمين فلأنه قصد بيمينه هذا منع نفسه عن إيجاد الشرط لأن الإنسان يمتنع من التزام هذه الطاعات بالنذر مخافة أن لا يفي بها فيلحقه الوعيد الذي ذكره الله تعالى في قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: من الآية27]  إلى قوله: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: من الآية16] فإذا جعل دخول الدار علامة التزام ما يكون ممتنعا من التزامه يكون يمينا وكذلك من حيث العرف يسمي يمينا يقال حلف بالنذر فلوجود اسم اليمين ومعناها قلنا يخرج بالكفارة ولوجود معنى النذر قلنا يخرج عنه بعين ما التزمه بخلاف النذر المرسل فاسم اليمين ومعناها غير موجود فيه وكذلك المعلق بشرط يريد كونه لأن معنى اليمين غير موجود فيه وهو القصد إلى المنع بل قصده إظهار الرغبة فيما جعله شرطا يقرر هذا أن معنى الحظر يتحقق هنا لأن الالتزام بالنذر قربة بشرط أن يفي بما وعد فأما بدون الوفاء يكون معصية قال الله تعالى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: من الآية2]  وقال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: من الآية75] ولا يدري أنه هل يفي بهذا أو لا يفي فيكون مترددا دائرا بين الحظر والإباحة بمنزلة اليمين بالله تعالى فيصلح سببا لوجوب الكفارة.

 

ج / 8 ص -115-       فإن قيل:  هذا في النذر المرسل موجود.
قلنا:  نعم ولكن لا بد من اعتبار اسم اليمين لإيجاب الكفارة لأنها تسمى كفارة اليمين واسم اليمين لا يوجد في النذر المرسل ومنهم من يقول هو يمين يتوقف موجبها على تنفيذ من جهته فيخرج عنها بالكفارة كاليمين بالله تعالى بخلاف اليمين بالطلاق والعتاق فإنه لا يتوقف موجبها على تنفيذ من جهته بل بوجود الشرط يقع الطلاق والعتاق ولو شرعت الكفارة فيها كانت لرفع ما وقع من الطلاق
والعتاق وذلك غير مشروع هنا ولو شرعت الكفارة كانت مشروعة خلفا عن البر ليصير كأنه تم على بره وذلك مشروع فإنه لو تم على بره لا يلزمه شيء والتخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد باعتبار معنيين مختلفين جائز كالعبد إذا أذن له مولاه بأداء الجمعة يتخير بين أداء الجمعة ركعتين وبين الظهر أربعا فهذا مثله, وكذلك إذا حلف بالمشي إلى بيت الله إن فعل كذا ففعل ذلك الفعل لم يلزمه شيء في القياس لأنه إنما يجب بالنذر ما يكون من جنسه واجب شرعا والمشي إلى بيت الله ليس بواجب شرعا ولأنه لا يلزمه عين ما التزمه وهو المشي فلأن لا يلزمه شيء آخر أولى وهو الحج أو العمرة.
وفي الاستحسان يلزمه حجة أو عمرة وهكذا روى عن علي رضي الله عنه ولأن في عرف الناس يذكر هذا اللفظ بمعنى التزام الحج والعمرة وفي النذور والأيمان يعتبر العرف فجعلنا هذا عبارة عن التزام حج أو عمرة مجازا لأن المقصود بالكلام استعمال الناس لإظهار ما في باطنهم فإذا صار اللفظ في شيء مستعملا مجازا يجعل كالحقيقة في ذلك الشيء ثم يتخير بين الحج والعمرة لأنهما النسكان المتعلقان بالبيت لا يتوصل إلى أدائهما إلا بالإحرام وإلا بالذهاب إلى ذلك الموضع ثم يتخير إن شاء مشي وإن شاء ركب وأراق دما لحديث عقبة بن عامر أنه قال يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال صلى الله عليه وسلم:
"إن الله غني عن تعذيب أختك مرها فلتركب ولترق دما" ولأن النسك بصفة المشي يكون أتم على ما روى أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بعد ما كف بصره كان يقول لا أتأسف على شيء كتأسفي على أن لا أحج ماشيا فإن الله تعالى قدم المشاة فقال: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] فإذا ركب فقد أدخل فيه نقصا ونقائص النسك تجبر بالدم, وإن اختار المشي فالصحيح من الجواب أنه يمشي من بيته إلى أن يفرغ من أفعال الحج وما سواه فيه من الكلام قد بيناه في المناسك وقد ذكرنا أنه ثمان فصول في ثلاث يلزم بلا خلاف في المشي إلى بيت الله تعالى أو الكعبة أو مكة. وفي ثلاث لا يلزمه شيء بالاتفاق وهو إذا نذر الذهاب إلى مكة أو السفر إلى مكة أو الركوب
وفي فصلين خلاف وهو ما إذا نذر المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يأخذ فيهما بالقياس وهما بالاستحسان, ولو حلف بالمشي إلى بيت الله وهو ينوي مسجدا من المساجد سوى المسجد الحرام لم يلزمه شيء لأن المنوى من محتملات لفظه فالمساجد كلها بيوت الله تعالى على معنى أنها تجردت عن حقوق العباد فصارت معدة لإقامة الطاعة فيها لله تعالى فإذا عملت نيته.

 

ج / 8 ص -116-       صار المنوي كالملفوظ به وسائر المساجد يتوصل إليها بغير إحرام فلا يلزمه بالتزام المشي إليها شيء ومسجد بيت المقدس ومسجد المدينة في ذلك سواء عندنا بخلاف المسجد الحرام فإنه لا يتوصل إليه إلا بالإحرام والملتزم بالإحرام يلزمه أحد النسكين المختص أداؤهما بالإحرام وهو الحج أو العمرة,وإذا قال أنا أحرم إن فعلت كذا أو أنا محرم أو أهدي أو أمشي إلى البيت وهو يريد أن يعد من نفسه عدة ولا  يوجب شيئا فليس عليه شيء لأن ظاهر كلامه وعد فإنه يخبر عن فعل يفعله في المستقبل والوعد فيه غير ملزم وإنما يندب إلى الوفاء بما هو قربة منه من غير أن يكون ذلك دينا عليه وإن أراد الإيجاب لزمه ما قال لأن المنوى من محتملات لفظه فإن الفعل الذي يفعله في المستقبل قد يكون واجبا وقد يكون غير واجب فإذا أراد الإيجاب فقد خص أحد النوعين بنيته وتعليقه بالشرط دليل على الإيجاب أيضا لأنه يدل على أنه يثبت عند وجود الشرط ما لم يكن ثابتا من قبل وهو الوجوب دون التمكن من الفعل فإنه لا يختلف بوجود الشرط وعدمه, وإن لم يكن له نية ففي القياس لا يلزمه شيء لأن ظاهر لفظه عدة ولأن الوجوب بالشك لا يثبت وفي الاستحسان يلزمه ما قال لأن العرف بين الناس أنهم يريدون بها اللفظ الإيجاب ومطلق الكلام محمول على المتعارف والتعليق بالشرط دليل الإيجاب أيضا وإنما ذكر محمد رحمه الله تعالى القياس والاستحسان في المناسك وإذا حلف أن يهدي ما لا يملكه لا يلزمه شيء لقوله عليه الصلاة والسلام "لا نذر فيما لا يملكه بن آدم" ومراده من هذا اللفظ أن يقول إن فعلت كذا فلله على أن أهدي هذه الشاة وهي مملوكة لغيره فأما إذا قال والله لأهدين هذه الشاة ينعقد يمينه لأن محل اليمين خبر فيه رجاء الصدق وذلك بكون الفعل ممكنا ومحل النذر فعل هو قربة وإهداء شاة الغير ليس بقربة إلا أن يريد اليمين فحينئذ ينعقد لأن في النذر معنى اليمين.
حتى ذكر الطحاوي أنه لو أضاف النذر إلى ما هو معصية وعني به اليمين بأن قال لله تعالى على أن أقتل فلانا كان يمينا ويلزمه الكفارة بالحنث لقوله عليه الصلاة والسلام:
"النذر يمين وكفارته كفارة اليمين" وإذا قال لله على أن أنحر ولدي أو أذبح ولدي لم يلزمه شيء في القياس وهو قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى.
وفي الاستحسان يلزمه ذبح شاة وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لكنه إن ذكر بلفظ الهدي فذلك يختص بالحرم وفي سائر الألفاظ إما أن يذبحها في الحرم أو في أيام النحر.
وجه القياس أنه نذر بإراقة دم محقون فلا يلزمه شيء كما لو قال أبي أو أمي وهذا لأن الفعل الذي سماه معصية ولا نذر في معصية الله تعالى ولأنه لو نذر ذبح ما يملك ذبحه ولكن لا يحل ذبحه كالحمار والبغل لا يلزمه شيء, ولو نذر ذبح ما يحل ذبحه ولكن لا يملك ذبحه كشاة الغير لا يلزمه شيء فإذا نذر ذبح ما لا يحل ذبحه ولا يملك ذبحه أولى أن لا يلزمه شيء.

 

ج / 8 ص -117-       وجه الاستحسان ما روى أن رجلا سأل بن عباس رضي الله عنهما عن هذه المسألة فقال أرى عليك مائة بدنة ثم قال ائت ذلك الشيخ فاسأله وأشار إلى مسروق فسأله فقال أرى عليك شاة فأخبر بذلك بن عباس رضي الله عنهما فقال وأنا أرى عليك ذلك.
وفي رواية عن بن عباس أنه أوجب فيه كفارة اليمين وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أوجب فيه بدنة أو مائة بدنة وسألت امرأة عبد الله بن عمر فقالت إني جعلت ولدي نحيرا فقال أمر الله بالوفاء بالنذر فقالت أتأمرني بقتل ولدي فقال نهى الله عن قتل الولد وإن عبد المطلب نذر إن تم له عشرة بنين أن يذبح عاشرهم فتم له ذلك بعبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرع بينه وبين عشر من
الإبل فخرجت القرعة عليه فما زال يزيد عشرا عشرا والقرعة تخرج عليه حتى بلغت الإبل مائة فخرجت القرعة عليها ثلاث مرات فنحر مائة من الإبل وأرى عليك مائة من الإبل.
والصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على صحة النذر واختلفوا فيما يخرج به فاستدللنا بإجماعهم على صحة النذر لأن من الإجماع أن يشتهر قول بعض الكبار منهم ولا يظهر خلاف ذلك ولا شك أن رجوع بن عباس إلى قول مسروق قد اشتهر ولم يظهر من أحد خلاف ذلك, والذي روى عن مروان أخطأ الفتيا لا نذر في معصية الله شاذ لا يلتفت إليه فإن قول مروان لا يعارض قول الصحابة مع أن الإجماع لا يعتبر فيما يكون مخالفا للقياس ولكن قول الواحد من فقهائهم فيما يخالف القياس حجة يترك به القياس لأنه لا وجه لحمل قوله إلا على السماع ممن ينزل عليه الوحي.
ثم أخذنا بفتوى بن عباس ومسروق في إيجاب الشاة لها لأن هذا القدر متفق عليه فإن من أوجب بدنة أو أكثر فقد أوجب الزيادة أو لأن من أوجب الشاة فإنما أوجبها استدلالا بقصة الخليل صلوات الله عليه ومن أوجب مائة من الإبل فإنما أوجبها استدلالا بفعل عبد المطلب والأخذ بفعل الخليل صلوات الله عليه أولى من الأخذ بفعل عبد المطلب وهو الاستدلال الفقهي في المسألة فإن الشاة محل لوجوب ذبحها بإيجاب ذبح مضاف إلى الولد فكأن إضافة النذر بالذبح إلى الولد بهذا الطريق كالإضافة إلى الشاة فيكون ملزمة.
وبيانه أن الخليل صلوات الله وسلامه عليه أمر بذبح الولد كما أخبر به ولده فقال الله تعالى مخبرا عنه
{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: من الآية102]  أي أمرت بذبحك بدليل أن ابنه قال في الجواب  {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: من الآية102]  ولأنهما اعتقدا الأمر بذبح الولد حيث اشتغلا به فأقر عليه وتقرير الرسل على الخطأ لا يجوز خصوصا فيما لا يحل العمل فيه بغالب الرأي من إراقة دم نبي, ثم وجب عليه بذلك الأمر ذبح الشاة لأن الله تعالى قال {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:104, 105] أي حققت وإنما حقق ذبح الشاة فلا يجوز أن يقال إنما سماه مصدقا رؤياه قبل ذبح الشاة لأن في الآية تقديما وتأخيرا معناه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ  وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:107-104]  وهذا لأن قبل ذبح الشاة إنما أتى بمقدمات

 

ج / 8 ص -118-       ذبح الولد من تله للجبين وإمراره السكين على حلقه وبه لم يحصل الامتثال لأنه ليس بذبح ولأنه لو حصل الامتثال به لم تكن الشاة فداء, ولا يجوز أن يقول وجوب الشاة بأمر آخر لأن اثبات أمر آخر بالرأي غير ممكن ولأنه حينئذ لا يكون فداء والله تعالى سمى الشاة فداء على أنه دفع مكروه الذبح عن الولد بالشاة وهذا إذا كان وجوب الشاة بذلك الأمر ولا يجوز أن يقال وجب عليه ذبح الولد بدليل أنه اشتغل بمقدماته وإنما كانت الشاة فداء عن ولد وجب ذبحه وهذا لا يوجد في النذر وهذا لأنه ما وجب عليه ذبح الولد حتى جعلت الشاة فداء إذ لو كان واجبا لما تأدى بالفداء مع وجود الأصل في يده ولأن الولد كان معصوما عن الذبح وقد ظهرت العصمة حسا على ما روى أن الشفرة كانت تنبو وتنفل ولا تقطع وبين كونه معصوما عن الذبح وبين كونه واجب الذبح منافاة فعرفنا أنه ما وجب ذبح الولد بل أضيف الإيجاب إليه على أن ينحل الوجوب بالشاة.
وفائدة هذه الإضافة الابتلاء في حق الخليل عليه السلام بالاستسلام وإظهار الطاعة فيما لا يضطلع فيه أحد من المخلوقين وللولد بالانقياد والصبر على مجاهدة بذل الروح إلى مكاشفة الحال وليكون له ثواب أن يكون قربانا لله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أنا بن الذبيحين" وما ذبحا بل أضيف إليهما ثم فديا بالقرابين ولا يقال قد وجب ذبح الولد ثم تحول وجوب ذبح الولد إلى الشاة بانتساخ المحلية فتكون الشاة واجبة بذلك الأمر كالدين يحال من ذمة إلى ذمة فيفرغ المحل الأول منه بعد الوجوب فيه فيكون واجبا في المحل الثاني بذلك السبب وهذا لأن الوجوب في المحل لا يكون إلا بعد صلاحية المحل له وبعد ذلك وإن تحول إلى محل آخر يبقى المحل الأول صالحا لمثله كالدين إذا حول من ذمة إلى ذمة ولم يبق الولد محلا صالحا لذبح هو قربان فعرفنا أنه لم يكن محلا وأن الوجوب بحكم ذلك الإيجاب حل بالشاة من حيث أنه يقدم على الولد في قبول حكم الوجوب ولهذا سمي فداء, نظيره من الحياة أن يرمي إلى إنسان فيفديه غيره بنفسه من حيث أنه يتقدم عليه لينفذ السهم فيه لا أن يتحول إليه بعد ما وصل إلى المحل ويقول لغيره فدتك نفس عن المكاره والمراد هذا ومن الشرعيات الخف مقدم على الرجل في قبول حكم الحدث لا أن يتحول إلى الخف ما حل بالرجل من الحدث. ولو سلمنا أنه وجب ذبح الولد فإنما كان ذلك لغيره وهو الفداء لا لعينه ولهذا صار محققا رؤياه بالفداء وفي مثل هذا إيجاب الأصل في حال العجز عنه يكون إيجابا للفداء كالشيخ الفاني إذا نذر الصوم يلزمه الفداء لأن وجوب الصوم عليه شرعا لغيره وهو الفداء لا لعينه فإنه عاجز عنه.
وذكر الطبري في تفسيره أن الخليل عليه السلام كان نذر الذبح لأول ولد يولد له ثم نسي ذلك فذكر في المنام فإن ثبت هذا فهو نص لأن شريعة من قبلنا تلزمنا ما لم يظهر ناسخه, خصوصا شريعة الخليل صلوات الله عليه قال الله تعالى:
{اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: من الآية123] فأما إذا نذر بذبح عبده فمحمد رحمه الله تعالى أخذ فيه بالاستحسان أيضا وقال أيضا يلزمه ذبح الشاة لأن العبد كسبه وملكه فإذا صح إضافة النذر إلى الولد لكونه كسبا له وإن لم يكن

 

ج / 8 ص -119-       ملكا له فلأن يصح إضافته إلى كسبه وهو ملكه أولى, وأبو حنيفة رحمه الله تعالى أخذ بالقياس فقال لا يلزمه شيء لأن جعل الشاة فداء عن الولد لكرامة الولد والعبد في استحقاق الكرامة ليس بنظير الولد ولا مدخل للقياس في هذا الباب. وإن نذر ذبح بن ابنه ففيه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في إحدى الروايتين لا يلزمه شيء وهو الأظهر لأن بن الابن ليس نظير الابن من كل وجه ولا مدخل للقياس في هذا الباب, وفي الرواية الأخرى قال يلزمه لأنه مضاف إليه بالبنوة كالابن وهو في معنى الكرامة كالابن في حقه. وإن أضاف النذر إلى أبيه أو أمه لا يلزمه شيء في الصحيح من الجواب لأنه لا ولاية له عليهما وهما كالأجانب في حقه في حكم النذر بالذبح.
وفي الهارونيات يشير إلى أنه يلزمه ذبح الشاة وكأنه اعتبر أحد الطرفين بالطرف الآخر ثم قد بينا الفرق في المناسك بين النذر بالهدي والبدنة والجزور, وإذا حلف بالنذر فإن نوى شيئا من حج أو عمرة فعليه ما نوى لأن المنوي من محتملات لفظه فيكون كالملفوظ به وإن لم يكن له نية فعليه كفارة يمين لقوله صلى الله عليه وسلم
"النذر يمين وكفارته كفارة يمين" ولأنه التزام بحق الله والحلف في مثله يوجب الكفارة ساترة للذنب, وإن حلف على معصية بالنذر فعليه كفارة يمين. وقال الشعبي رحمه الله تعالى لا شيء عليه لأن المعاصي لا تلتزم بالنذر والكفارة خلف عن البر الواجب باليمين أو الوفاء الواجب بالنذر وذلك لا يوجد في المعصية, وحكى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى دخل على الشعبي رضي الله عنه وسأله عن هذه المسألة فقال لا شيء عليه لأن المنذور معصية فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى أليس أن الظهار معصية وقد أمر الله بالكفارة فيه فتحير الشعبي وقال أنت من الأرائيين.
وفي الكتاب استدل بهذا وبقوله صلى الله عليه وسلم:
"فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" وإذا حلف بالنذر وهو ينوي صياما ولم ينو عددا فعليه صيام ثلاثة أيام إذا حنث لأن ما أوجبه على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه وأدنى ما أوجب الله من الصيام ثلاثة أيام, وكذلك إذا نوى صدقة ولم ينو عددا فعليه إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الحنطة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجب الله تعالى عليه من إطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين وقد بينا هذه الفصول في المناسك, ولا ينبغي أن يحلف فيقول وأبيك وأبي فإنه بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ونهى عن الحلف بجد من جدوده ومن الحلف بالطواغيت وفي الباب حديثان:
"أحدهما" حديث عمر رضي الله عنه قال تبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأسفار وأنا أحلف بأبي فقال:
"لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت فمن كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر" فما حلفت بعد ذلك لا ذاكرا ولا آثرا.
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من حلف بغير الله فقد أشرك" ومن قال لغيره تعالى أفاخرك فليقل لا إله إلا الله, وإذا حلف على يمين أو نذر وقال إن شاء الله موصولا فليس عليه شيء عندنا.

 

ج / 8 ص -120-       وقال مالك يلزمه حكم اليمين والنذر لأن الأمور كلها بمشيئة الله تعالى ولا يتغير بذكره حكم الكلام
ولكنا نستدل بقوله تعالى
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف: من الآية69]  ولم يصبر ولم يعاتبه على ذلك والوعد من الأنبياء عليهم السلام كالعهد من غيرهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من استثنى فله ثنياه" وعن بن مسعود وبن عمر وبن عباس رضي الله عنهم موقوفا عليهم ومرفوعا "من حلف على يمين وقال إن شاء الله فقد استثني ولا حنث عليه ولا كفارة" إلا أن بن عباس كان يجوز الاستثناء وإن كان مفصولا لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: من الآية24]  يعني إذا نسيت الاستثناء موصولا فاستثن مفصولا, ولسنا نأخذ بهذا فإن الله تعالى بين حكم الزوج الثاني بعد التطليقات الثلاث ولو كان الاستثناء المفصول صحيحا لكان المطلق يستثنى إذا ندم ولا حاجة إلى المحلل وفي تصحيح الاستثناء مفصولا إخراج العقود كلها من البيوع والأنكحة من أن تكون ملزمة.
قال:  "وإلى هذا أشار أبو حنيفة رحمه الله تعالى حين عاتبه الخليفة فقال أبلغ من قدرك أن تخالف جدي قال ففيم يا أمير المؤمنين قال في الاستثناء المفصول قال إنما خالفته مراعاة لعهودك فإذا جاز الاستثناء المفصول فبارك الله في عهودك إذن فإنهم يبايعونك ويحلفون ثم يخرجون فيستثنون فلا يبقى عليهم لزوم طاعتك فندم الخليفة وقال استر هذا علي" وتأويل قوله تعالى:
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: من الآية24]  أي إذا لم تذكر إن شاء الله في أول كلامك فاذكره في آخر كلامك موصولا بكلامك
ثم الاستثناء مبطل للكلام ومخرج له من أن يكون عزيمة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى هو بمعنى الشرط وقد بينا هذا فيما أمليناه من أيمان الجامع, وإذا حلف على يمين فحنث فيها فعليه أي الكفارات شاء إن شاء أعتق رقبة وإن شاء أطعم عشرة مساكين وإن شاء كسا عشرة مساكين لقول إبراهيم النخعي كل شيء في القرآن بأو فهو بالخيار, وإن لم يجد شيئا من ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام متتابعة. عندنا وهو بالخيار عند الشافعي رحمه الله تعالى إن شاء تابع وإن شاء فرق لأن الصوم مطلق في قوله تعالى:
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: من الآية196] ولكنا نشترط صفة التتابع بقراءة بن مسعود رضي الله عنه ثلاثة أيام متتابعة وقد بينا هذا في كتاب الصوم فيحتاج إلى الفرق بين هذا وبين صدقة الفطر فقد ورد هناك حديثان أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام "أدوا عن كل حر وعبد". والثاني قوله: "أدوا من كل حر وعبد من المسلمين" ثم لم يحمل المطلق على المقيد حتى أوجبنا صدقة الفطر عن العبد الكافر وهذا لأن المطلق والمقيد هناك في السبب ولا منافاة بين السببين فالتقييد في أحد الحديثين لا يمنع بقاء حكم الإطلاق في الحديث الآخر بناء على أصلنا أن التعليق بالشرط لا يقتضي نفي الحكم عند عدم الشرط وهنا المطلق والمقيد في الحكم وهو الصوم الواجب في الكفارة وبين التتابع والتفريق منافاة في حكم واحد ومن ضرورة ثبوت صفة التتابع بقراءة بن مسعود رضي الله عنه أن لا يبقي مطلقا.
قال:  "ويجوز في كفارة اليمين من الرقاب ما يجزئ في كفارة الظهار والحكم في هذه

 

ج / 8 ص -121-       الرقبة مثل الحكم في تلك الرقبة سواء" على ما ذكرنا في باب الظهار رجل أعتق نصف عبده عن يمينه وأطعم خمسة مساكين فذلك لا يجزئ عنه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فأما عندهما العتق لا يتجزي ويتأدى الواجب بالعتق عندهما وعند أبي حنيفة العتق يتجزي والواجب هو إعتاق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ولم يوجد ذلك لأن نصف الرقبة ليس برقبة ولو جوزنا هذا كان نوعا رابعا فيما يتأدى به الكفارة وإثبات مثله بالرأي لا يجوز وهذا بخلاف ما لو أطعم كل مسكين مدا من بر ونصف صاع من شعير لأن التقدير في الطعام غير منصوص عليه في القرآن وإثبات ذلك لمعنى حصول كفاية المسكين به في يومه وفي ذلك لا يفترق الحال بين الأداء من نوع واحد ومن نوعين وهنا الرقبة في التحرير وعشرة مساكين في الإطعام منصوص عليه ولو جوزنا النصف من كل واحد منهما كان إخلالا بالمنصوص عليه وذلك لا يجوز, وإن حنث وهو معسر وأخر الصوم حتى أيسر لم يجزه الصوم هكذا نقل عن بن عباس وإبراهيم النخعي رضي الله عنهما إذا صام المكفر يومين ثم وجد في اليوم الثالث ما يطعم أو يكسو لم يجزه الصوم وعليه الكفارة بالإطعام أو الكسوة لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فيسقط به حكم البدل كالمعتدة بالأشهر إذا حاضت والمتيمم إذا أبصر الماء قبل أداء الصلاة وهذا لأن الله تعالى شرط عدم الوجود بقوله {فمن لم يجد} وهذا الشرط ليس لتصحيح الصوم فإن أصل الصوم صحيح من الواجد للمال ولكنه شرط ليكون الصوم كفارة يسقط به الواجب عند الأداء والفراغ منه فإذا انعدم هذا الشرط لم يكن الصوم كفارة له, وللشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة ثلاثة أقاويل في قول مثل قولنا. وقول آخر أن المعتبر حالة الوجوب في اليسار والعسرة وما وجب عند ذلك صار دينا في ذمته لا يتغير بتغير حاله بعد ذلك كالزكاة وصدقة الفطر واعتبره بالحدود أن المعتبر عند الوجوب بالتنصف بالرق وهذا ضعيف لأن الواجب باليمين الكفارة لا ما يكفر به كالواجب بالحدث الطهارة دون ما يتطهر به من الماء والتراب بل ذلك يختلف باختلاف حاله في القدرة والعجز عند الأداء ووجوب الحد باعتبار هتك حرمة المنعم بالجناية والنعمة تختلف بالرق والحرية وذلك عند ارتكاب الجناية لا بعده مع أن الحدود تندرى ء بالشبهات فإذا وجب بصفة النقصان لا يتكامل بالحرية الطارئة من بعد وله قول آخر أنه لا يجوز الصوم ما لم يكن معسرا من وقت الوجوب إلى وقت الأداء لأن التكفير بالصوم عن ضرورة محضة وذلك لا يتحقق إذا كان موسرا في إحدى الحالتين ولأنه إذا كان موسرا عند الحنث فقد وجب عليه التكفير بالمال فهو بالتأخير إلى أن يعسر مفرط فلا يستحق التخفيف باعتبار تفريطه
ولكنا نقول كما أن هذه كفارة ضرورة فالتيمم طهارة ضرورة ثم كان المعتبر فيه وقت الأداء لا وقت الوجوب وهذا لأن الضرورة باعتبار حاجته إلى إسقاط الواجب عن ذمته وذلك للأداء. وإن اشترى عبدا شراء فاسدا فقبضه وأعتقه عن يمينه أجزأه لأنه ملك العبد بالقبض وإعتاقه في ملك نفسه نافذ ونية التكفير به صحيح لكونه متصرفا فيما يملك. وإن وجبت عليه كفارات أيمان متفرقة فأعتق رقابا

 

ج / 8 ص -122-       بعددهن ولا ينوي لكل يمين رقبة بعينها أو نوى في كل رقبة عنهن أجزته استحسانا لأن نية التعيين في الجنس الواحد لغو وقد بيناه في باب الظهار, وكذلك لو أعتق عن إحداهن وأطعم عن الأخرى وكسا عن الثالثة كان كل نوع من هذه الأنواع يتأدى به الكفارة مطلقا فيكون الحكم في كلها سواء وقد بينا في الظهار أن إعتاق الجنين لا يجزئ عن الكفارة وإن كان موجودا لكونه في حكم الاجزاء فكذلك في اليمين, وكفارة المملوك بالصوم ما لم يعتق لأنه أعسر من الحر المعسر لأنه لا يملك وإن ملك ولا يجزئ أن يعتق عنه مولاه أو يطعم ويكسو إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول للمولى أن يملكه حتى يتسرى بإذن مولاه وقد بينا هذا في كتاب الطلاق والنكاح وهذا بخلاف الحر إذا أمر إنسانا أن يطعم عنه لأن الحر من أهل أن يملك فيجوز أن يجعل هو متملكا بأن يكون المسكين قابضا له أولا ثم لنفسه والعبد ليس من أهل الملك لأن الرق المنافي فيه موجود وبين صفة المالكية مالا والمملوكية مالا مغايرة على سبيل المنافاة والمكاتب والمدبر وأم الولد في هذا بمنزلة القن والمستسعى في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى كذلك لأنه بمنزلة المكاتب وإن صام المعسر يومين ثم وجد في اليوم الثالث ما يعتق فعليه التكفير بالمال لانعدام شرط جواز البدل قبل حصول المقصود به والأولى أن يتم صوم يومه وإن أفطر فلا قضاء إلا على قول زفر رحمه الله تعالى وهذا والصوم المظنون سواء, "ذمي حلف على يمين ثم أسلم ثم حنث في يمينه لم يكن عليه كفارة عندنا".
 وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه الكفارة لأنه من أهل اليمين فإن المقصود من اليمين الحظر أو الإيجاب والذمي من أهله قال الله تعالى
{ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} فقد جعل للكافرين يمينا.
والدليل عليه أنه يستحلف في المظالم والخصومات بالله وأنه من أهل الطلاق والعتاق ومن أهل اليمين بالطلاق والعتاق فيكون من أهل اليمين بالله تعالى, وإذا انعقدت يمينه يلزمه الكفارة عند الحنث إن حنث قبل الإسلام كفر بالمال لأنه ليس من أهل التكفير بالصوم ونظيره العبد يلزمه الكفارة بالتكفير بالصوم لأنه ليس بأهل للتكفير بالمال وإن حنث بعد الإسلام كفر بالصوم إذا لم يجد المال.
والدليل على أن الكافر أهل للكفارة أن في الكفارة معنى العقوبة ومعنى العبادة فيجب على الكافر بطريق العقوبة وعلى المسلم بطريق الطهرة كالحدود فإنها كفارات كما قال صلى الله عليه وسلم:
"الحدود كفارات لأهلها"  ثم تقام على المسلم التائب تطهرا وعلى الكافر عقوبة.
"وحجتنا" في ذلك حديث قيس بن عاصم المنقري حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني حلفت في الجاهلية أو قال نذرت فقال صلى الله عليه وسلم:
"هدم الإسلام ما كان في الشرك" ولأن وجوب الكفارة باعتبار هتك حرمة اسم الله تعالى بالحنث وما فيه من الشرك أعظم من ذلك فقد هتك حرمة اسم الله تعالى بإصراره على الشرك بأبلغ الجهات, وعقد اليمين لما فيه من الحظر والإيجاب تعظيما لحرمة اسم الله تعالى والكافر ليس بأهل له قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ

 

ج / 8 ص -123-       الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: من الآية12] والاستحلاف في المظالم والخصومات لأنه من أهل مقصودها وهو النكول أو الإقرار وانعقاد يمينه بالطلاق والعتاق لأنه من أهلها مجيزا فأما هذه اليمين موجبها البر لتعظيم اسم الله والكافر ليس من أهله وبعد الحنث موجبها الكفارة والكافر ليس بأهل لها لأن الكفارة كاسمها ستارة للذنب قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: من الآية114]  ومعنى العقوبة في الكفارة صورة فأما من حيث المعنى والحكم المقصود منها العبادة ألا ترى أنه يأتي بها من غير أن تقام عليه كرها وأنها تتأدى بالصوم الذي هو محض العبادة ولا تتأدى إلا بنية العبادة والمقصود بها التطهر كما بينا بخلاف الحدود فإنها تقام خزيا وعذابا ونكالا ومعنى التكفير بها إذا جاء تائبا مستسلما مؤثرا عقوبة الدنيا على عقوبة الآخرة كما فعله ماعز رضي الله عنه فلهذا يستقيم إقامتها على الكافر بطريق الخزي والنكال, "رجل أعتق رقبة عن كفارة يمينه ينوي ذلك بقلبه ولم يتكلم بلسانه وقد تكلم بالعتق أجزأه" لأن النية عمل القلب ويتأدى به سائر العبادات فكذلك الكفارات لأن اشتراط النية فيها لمعنى العبادة وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم"
قال:  "ولا يجوز التكفير بعد اليمين قبل الحنث عندنا" وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بالمال دون الصوم وإن كان يمينه على معصية فله في جواز التكفير قبل الحنث وجهان.
احتج بقوله تعالى:
{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: من الآية89]  وحرف الفاء للتعقيب مع الوصل فيقتضي جواز أداء الكفارة موصولا بعقد اليمين وقال صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر يمينه وليأت الذي هو خير" وفي رواية "فليكفر ثم ليأت بالذي هو خير" وهذا تنصيص على الأمر بالتكفير قبل الحنث وأقل أحواله أن يفيد الجواز ولأن السبب للكفارة اليمين فإنها تضاف إلى اليمين والواجبات تضاف إلى أسبابها حقيقة.
ومن قال على يمين تلزمه الكفارة باعتبار أن التزام السبب يكون كناية عن الواجب به والدليل عليه اليمين بالطلاق فالسبب هناك اليمين دون الشرط حتى يكون الضمان على شهود اليمين دون شهود الشرط فكذلك اليمين بالله تعالى, وإذا ثبت هذا فنقول أداء الحق المالي بعد وجود سبب الوجوب قبل الوجوب جائز كأداء الزكاة بعد كمال النصاب قبل الحول وأما البدني لا يجوز إلا بعد تقرر الوجوب لأن التكفير بالصوم للضرورة ولا ضرورة قبل تقرر الوجوب ولأن هذه كفارة مالية توقف وجوبها على معنى فيجوز أداؤها قبله ككفارة القتل في الآدمي والصيد إذا جرح مسلما ثم كفر بالمال قبل زهوق الروح أو جرح المحرم صيدا ثم كفر قبل موته يجوز بالمال بالاتفاق.
"وحجتنا" في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" وما رواه الشافعي رحمه الله تعالى محمول على التقديم والتأخير بدليل ما روينا وهذا لمعنيين, أحدهما أن الأمر يفيد الوجوب حقيقة ولا وجوب قبل

 

ج / 8 ص -124-       الحنث بالاتفاق, والثاني أن قوله فليكفر أمر بمطلق التكفير ولا يجوز مطلق التكفير إلا بعد الحنث أما قبل الحنث يجوز عنده بالمال دون الصوم وليس من باب التخصيص لأن ما يكفر به ليس في لفظه, والتخصيص في الملفوظ الذي له عموم دون ما يثبت بطريق الاقتضاء والمعنى فيه أن مجرد اليمين ليس بسبب لوجوب الكفارة لأن أدنى حد السبب أن يكون مؤديا إلى الشيء طريقا له واليمين مانعة من الحنث محرمة له فكيف تكون موجبة لما يجب بعد الحنث ألا ترى أن الصوم والإحرام لما كان مانعا مما يجب به الكفارة وهو ارتكاب المحظور لم يكن بنفسه سببا لوجوب الكفارة بخلاف الجرح فإنه طريق يفضي إلى زهوق الروح وبخلاف كمال النصاب فإنه تحقق الغني المؤدي إلى النماء الذي به يكون المال سببا لوجوب الزكاة ولأن الكفارة لا تجب إلا بعد ارتفاع اليمين فإن بالحنث اليمين يرتفع وما يكون سببا للشيء فالوجوب يترتب على تقرره لا على ارتفاعه.
والدليل عليه أن اليمين ليست بسبب التكفير بالصوم حتى لا يجوز أداؤه قبل الحنث وبعد وجود السبب الأداء جائز ماليا كان أو بدنيا. ألا ترى أن صوم المسافر في رمضان يجوز لوجود السبب وإن كان الأداء متأخرا إلى أن يدرك عدة من أيام أخر وإضافة الكفارة إلى اليمين لأنها تجب بحنث بعد اليمين كما تضاف الكفارة إلى الصوم والإحرام بهذا الطريق, ولئن سلمنا أن اليمين سبب فالكفارة إنما تجب خلفا عن البر الواجب ليصير عند أدائها كأنه تم على بره ولا معتبر بالخلف في حال بقاء الواجب وقبل الحنث ما هو الأصل باق وهو البر فلا تكون الكفارة خلفا كما لا يكون التيمم طهارة مع القدرة على الماء يقرره أن الكفارة توبة كما قال الله تعالى في كفارة القتل:
{تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: من الآية92]  والتوبة قبل الذنب لا تكون وهو في عقد اليمين معظم حرمة اسم الله تعالى فأما الذنب في هتك حرمة اسم الله تعالى فالتكفير قبل الحنث بمنزلة الطهارة قبل الحدث بخلاف كفارة القتل فإنه جزاء جنايته وجنايته في الجرح إذ لا صنع له في زهوق الروح وبخلاف الزكاة لأنه شكر النعمة والنعمة المال دون مضي الحول فكان حولان الحول تأجيلا فيه والتأجيل لا ينفي الوجوب فكيف ينفي تقرر السبب؟
قال:  "وإذا أعتق عبدا عند الموت عن كفارة يمينه وليس له مال غيره عتق من ثلثه ويسعى في ثلثي قيمته" لأن ما يباشره المريض من العتق كالمضاف إلى ما بعد الموت ولو أوصى به بعد الموت كان معتبرا من ثلثه على ما بيناه في الزكاة وسائر الحقوق الواجبة لله تعالى وإذا لم يكن له مال سواه فقد لزمه السعاية في ثلثي قيمته وكان هذا عتقا بعوض فلا يجزيه عن الكفارة وكذلك إن أعتقه في صحته على مال قليل أو كثير لأن العتق بمال لا يتمحض قربة والكفارة لا تتأدى إلا بما هو قربة فإن أبرأه من المال بعد ذلك لم يجز عن كفارته لأن أصل العتق وقع غير مجزى ء عن الكفارة والإبراء عن المال بعد ذلك إسقاط للدين ولا مدخل له في الكفارات فلهذا لا يجزيه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

 

ج / 8 ص -125-       باب الإطعام في كفارة اليمين
قال:  رضي الله تعالى عنه "بلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمولى له أرقا وفي رواية برقا إني أحلف على قوم أن لا أعطيهم ثم يبدو لي فأعطيهم فإذا أنا فعلت ذلك فأطعم عني عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة أو صاعا من تمر" وفي هذا دليل أنه لا بأس للإنسان أن يحلف مختارا بخلاف ما يقوله المتشفعة أن ذلك مكروه بظاهر قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: من الآية224] ولكنا نقول قد حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة من غير ضرورة كانت له في ذلك وتأويل تلك الآية أنه يجازف في الحلف من غير مراعاة البر والحنث وفيه دليل على أن الحالف إذا رأى الحنث خيرا يجوز له أن يحنث نفسه وقد روينا فيه حديث عبد الرحمن بن سمرة.
وفي حديث أبي مالك الأشعري رحمه الله تعالى قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين نستحمله فحلف أن لا يحملنا ثم رجع قوم من عنده بخمس ذود وقالوا حملنا عليها فقلت لعله نسي يمينه فأتيته فأخبرته بذلك فقال:
"إني أحلف ثم أرى غيره خيرا منه فأتحلل يميني" وفيه دليل أن أوان التكفير ما بعد الحنث كما هو مذهبنا وأن ما روى "فليكفر يمينه وليأت الذي هو خير" محمول على التقديم والتأخير وكذلك قوله ثم يأت بالذي هو خير لأن ثم قد تكون بمعنى الواو قال الله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}[البلد: من الآية17]  أي وكان ثم الله شهيد أي والله شهيد وفيه دليل أن التوكيل بالتكفير جائز بخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا توكيل في العبادة أصلا لظاهر قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[لنجم:39] ولكنا نقول المقصود فيما هو مالى الابتداء بإخراج جزء من المال عن ملكه وذلك يتحقق بالنائب.
وفيه دليل أن الوظيفة لكل مسكين نصف صاع من حنطة أو صاع من تمر أو صاع من شعير وهكذا روى عن عائشة وبن عباس رضي الله عنهم وذكر بعده عن علي رضي الله عنه نصف صاع من حنطة وقد بينا هذه المسألة في كتاب الظهار وكفارة اليمين مثله وقد بينا أن دقيق الحنطة وسويقها بمنزلة الحنطة لأن ما هو المقصود يحصل للفقير بهما مع سقوط مؤنة الطحن عنه. وقد بينا أن طعام الإباحة تتأدى به الكفارة عندنا والمعتبر فيه أكلتان مشبعتان سواء كان خبز البر مع الطعام أو بغير أدام وإن أعطى قيمة الطعام يجوز فكذلك في كفارة اليمين وكذلك إن غداهم وأعطاهم قيمة العشاء اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأن المقصود واحد وقد أتى من كل وظيفة بنصفه وإن غداهم وعشاهم وفيهم صبي فطم أو فوق ذلك شيئا لم يجز لأنه لا يستوفي كمال الوظيفة كما يستوفيه البالغ, وعليه طعام مسكين واحد مكانه
فإن أعطى عشرة مساكين كل مسكين مدا من حنطة فعليه أن يعيد عليهم مدا مدا وإن لم يقدر عليهم استقبل الطعام لأن الواجب لا يتأدى إلا بإيصال وظيفة كاملة إلى كل مسكين وذلك نصف صاع من حنطة.
وذكر هشام عن محمد رحمهما الله أنه لو أوصى بأن يطعم عنه عشرة مساكين في كفارة

 

ج / 8 ص -126-       يمينه فغدى الوصي عشرة مساكين ثم ماتوا قبل أن يعشيهم فعليه الاستقبال لأن الوظيفة في طعام الإباحة الغداء والعشاء فلا يتأدي الواجب إلا باتصال وظيفة كاملة إلى كل مسكين ولا يكون الوصي ضامنا لما أطعم لأنه فيما صنع كان ممتثلا لأمره وكان بقاؤهم إلى أن يعشيهم ليس في وسعه. ولو كان أوصى بأن يطعم عنه عشرة مساكين غداء وعشاء ولم يذكر الكفارة فغدي الوصى عشرة فماتوا فإنه يعشي عشرة أخرى ويكفي ذلك لأن الموصى به أكلتان فقط دون إسقاط الكفارة بهما وقد وجد بخلاف الأول. ثم قد بينا في باب الظهار أن المسكين الواحد في الأيام المتفرقة كالمساكين عندنا وعند تفريق الدفعات في يوم واحد فيه اختلاف بين المشايخ فكذلك في اليمين, وبينا هناك أن إطعام فقراء أهل الذمة في الكفارة يجوز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى
وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الفرق بين المنذور والكفارة فقال إذا نذر إطعام عشرة مساكين فله أن يطعم فقراء أهل الذمة إنما ليس له أن يطعم في الكفارة فقراء أهل الذمة اعتبارا لما أوجب الله عليه من الكفارة بالزكاة وقد بينا أنه يجوز صرف الكفارة إلى من يجوز صرف الزكاة إليه
ولو أطعم خمسة مساكين وكسا خمسة مساكين أجزأه ذلك من الطعام إن كان الطعام أرخص من الكسوة وإن كانت الكسوة أرخص من الطعام لم يجزئ ما لا يجزئ كل واحد منهما عن نفسه لأن المنصوص عليه ثلاثة أنواع فلو جوزنا إطعام خمسة مساكين وكسوة خمسة مساكين كان نوعا رابعا فيكون زيادة على المنصوص وهذا بخلاف ما إذا أدى إلى كل مسكين مدا من حنطة ونصف صاع من شعير لأن المقصود واحد وهو سد الجوعة فلا يصير نوعا رابعا فأما المقصود من الكسوة غير المقصود من الطعام ألا يرى أن الإباحة تجزي في أحدهما دون الآخر ولو جوزنا النصف من كل واحد منهما كان نوعا رابعا.
ثم مراده من هذه المسألة إذا أطعم خمسة مساكين بطريق الإباحة والتمكين دون التمليك فإن التمليك فوق التمكين. وإذا كان الطعام أرخص من الكسوة أمكن إكمال التمكين بالتمليك فتجوز الكسوة مكان الطعام وإن كانت الكسوة أرخص لا يمكن إقامة الطعام مقام الكسوة لأن التمكين دون التمليك وفي الكسوة التمليك معتبر فلا يمكن إقامة الكسوة مقام الطعام لأنه ليس فيهما وفاء بقيمة الطعام فأما إذا ملك الطعام خمسة مساكين وكسا خمسة مساكين فإنه يجوز على اعتبار أنه إن كان الطعام أرخص تقام الكسوة مقام الطعام وإن كانت الكسوة أرخص يقام الطعام مقام الكسوة لوجود التمليك فيها إليه أشار في باب الكسوة بعد هذا, ولو أطعم خمسة مساكين ثم افتقر كان عليه أن يستقبل الصيام لأن إكمال الأصل بالبدل غير ممكن فإنهما لا يجتمعان وليس له أن يسترد من المساكين الخمسة ما أعطاهم لأنها صدقة قد تمت بالوصول إلى يد المساكين ومن كانت له دار يسكنها أو ثوب يلبسه ولا يجد شيئا سوى ذلك أجزأه الصوم في الكفارة لأن المسكن والثياب من أصول حوائجه وما لا بد منه فلا يصير به واجدا لما يكفر به بخلاف ما لو كان له عبد يخدمه فإن ذلك ليس من أصول الحوائج ألا

 

ج / 8 ص -127-       ترى أن كثيرا من الناس يتعيش من غير خادم له ولأن الرقبة منصوص عليها فمع وجود المنصوص عليه في ملكه لا يجزيه الصوم.
وفي الكتاب علل فقال لأن الصدقة تحل له وهذا يؤيد مذهب أبي يوسف رحمه الله الذي ذكره في الأمالي أنه إذا كان الفاضل من حاجته دون ما يساوي مائتين يجوز له التكفير بالصوم لأن الصدقة تحل له فلا يكون موسرا ولا غنيا, فأما ظاهر المذهب أنه إن كان يملك فضلا عن حاجته مقدار ما يكفر به لا يجوز له التكفير بالصوم لأن المنصوص عليه الوجود دون الغنى واليسار قال الله تعالى:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [البقرة: من الآية196]  وهذا واجد, وقد بينا في كتاب الأعتاق أن المعتبر في وجوب الضمان ملكه مقدار ما يؤدي به الضمان وإن كان اليسار منصوصا عليه هناك فهنا أولى وبينا في الظهار أنه لو أعطى كل مسكين صاعا عن ظهارين لا يجزيه إلا عن أحدهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى بخلاف ما إذا اختلف جنس الكفارة فكذلك في كفارة اليمين. وإن أعطى عشرة مساكين ثوبا عن كفارة يمين لم يجزه عن الكسوة لأن الواجب عليه لكل مسكين كسوته وهو ما يصير به مكتسيا وبعشر الثوب لا يكون مكتسيا ويجزي من الطعام إذا كان الثوب يساويه, وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يجزيه إلا بالنية لأنه يجعل الكسوة بدلا عن الطعام وهو إنما نواه بدلا عن نفسه فلا يمكن جعله بدلا عن غيره إلا بنية.
وجه ظاهر الرواية أنه ناو للتكفير به وذلك يكفيه كما لو أدى الدراهم بنية الكفارة يجزيه, وإن لم ينو أن يكون بدلا عن الطعام إلا أن أبا يوسف يقول الدراهم ليست بأصل فأداؤها بنية الكفارة يكون قصدا إلى البدل فأما الكسوة أصل فأداؤها بنية الكفارة لا يكون قصدا إلى جعلها بدلا عن الطعام, ولكنا نقول عشر الثوب ليس بأصل في الكسوة لكل مسكين فهو وأداء الدراهم سواء مسلم حلف على يمين ثم ارتد ثم أسلم فحنث فيها لم يلزمه شيء لأنه بالردة التحق بالكافر الأصلى ولهذا حبط عمله قال الله تعالى: 
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: من الآية5]  وكما أن الكفر الأصلي ينافي الأهلية لليمين الموجبة للكفارة فكذلك الردة تنافي بقاء اليمين الموجبة للكفارة, وإذا جعل الرجل لله على نفسه إطعام مسكين فهو على ما نوى من عدد المساكين وكيل الطعام لأن المنوى من محتملات لفظه وهو شيء بينه وبين ربه. وإن لم يكن له نية فعليه طعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة إعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجب الله عليه من إطعام المساكين وأدنى ذلك عشرة مساكين في كفارة اليمين إلا أنه إن قال في نذره إطعام المساكين فليس له أن يصرف الكل إلى مسكين واحد جملة. وإن قال طعام المساكين فله ذلك لأن بهذا اللفظ يلتزم مقدارا من الطعام وباللفظ الأول يلتزم الفعل لأن الإطعام فعل فلا يتأدى إلا بأفعال عشرة ويعطى من الكفارة من له الدار والخادم لأنهما يزيدان في حاجته فالدار تسترم والخادم يستنفق وقد بينا أنه يجوز صرف الزكاة إلى مثله فكذلك الكفارة وإن أوصى بأن يكفر عنه يمينه بعد موته فهو من ثلثه لأنه لا يجب

 

ج / 8 ص -128-       أداؤه بعد الموت إلا بوصية ومحل الوصية الثلث ثم ذكر الاختلاف في مقدار الصاع وقد بيناه في صدقة الفطر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

باب الكسوة
قال:  رضي الله تعالى "والكسوة ثوب لكل مسكين إزار أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء" هكذا نقل عن الزهري في قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: من الآية89]  أنه الإزار فصاعدا من ثوب تام لكل مسكين وعن بن عباس رضي الله عنه قال لكل مسكين ثوب ويعطى في الكسوة القباء والذي روى عن أبي موسى الأشعري أنه كان يعطي في كفارة اليمين لكل مسكين ثوبين فإنما يقصد التبرع بأحدهما فأما الواحد يتأدى به الواجب هكذا نقل عن مجاهد رحمه الله تعالى قال أدناه ثوب لكل مسكين وأعلاه ما شئت وهذا لأن الكسوة ما يكون المرء به مكتسيا وبالثوب الواحد يكون مكتسيا حتى يجوز له أن يصلي في ثوب واحد وإذا كان في ثوب واحد فالناس يسمونه مكتسيا لا عاريا والمراد بالإزار الكبير الذي هو كالرداء فأما الصغير الذي لا يتم به ستر العورة لا يجزئ, ولو كسا كل مسكين سراويل.
ذكر في النوادر عن محمد رحمه الله تعالى أنه يجزئه لأنه يكون به مكتسيا شرعا حتى تجوز صلاته فيه
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يجزئه من الكسوة لأن لابس السراويل وحده يسمى عريانا لا مكتسيا إلا أن تبلغ قيمته قيمة الطعام فحينئذ يجزئه من الطعام إذا نواه. ولو أعطى كل مسكين نصف ثوب لم يجزه من الكسوة لأن الاكتساء به لا يحصل ولكنه يجزئ من الطعام إذا كان نصف ثوب يساوي نصف صاع من حنطة, ولو كسا كل مسكين قلنسوة أو أعطاه نعلين أو خفين لا يجزيه من الكسوة لأن الاكتساء به لا يحصل, وإن أعطى كل واحد منهم عمامة فإن كان ذلك يبلغ قميصا أو رداء أجزأه وإلا لم يجزه من الكسوة لأن العمامة كسوة الرأس كالقلنسوة ولكن يجزيه من الطعام إذا كانت قيمته تساوي قيمة الطعام, ولو أعطى عشرة مساكين ثوبا بينهم وهو ثوب كثير القيمة يصيب كل مسكين أكثر من قيمة ثوب لم يجزه من الكسوة لأنه لا يكتسي به كل واحد منهم ولكن يجزيه من الطعام.
قال ألا ترى أنه لو أعطى كل مسكين ربع صاع حنطة وذلك يساوي صاعا من تمر لم يجز عنه من الطعام ولو كان هذا المد من الحنطة يساوي ثوبا كان يجزئ من الكسوة دون الطعام وهذا تفسير لما أبهمه قبل هذا من أنه لا يجوز إقامة الطعام مقام الكسوة وتبين بهذا أن المراد هناك التمكين دون التمليك
ولو أعطى مسكينا واحدا عشرة أثواب في مرة واحدة لم يجزه كما في الطعام وإن أعطاه في كل يوم ثوبا حتى استكمل عشرة أثواب في عشرة أيام أجزأه كما في الطعام.
فإن قيل:  الحاجة إلى الطعام تتجدد بتجدد الأيام والحاجة إلى الكسوة لا تتجدد بتجدد الأيام وإنما تتجدد في كل ستة أشهر أو نحو ذلك.
قلنا:  نعم الحاجة إلى الملبوس كذلك ولكنا أقمنا التمليك مقامه في باب الكسوة

 

ج / 8 ص -129-       والتمليك يتحقق في كل يوم وإذا قام الشيء مقام غيره يسقط اعتبار حقيقة نفسه وهذا لأن الحاجة إلى الملك لا نهاية لها إلا أنا لا نجوز أداء الكل دفعة واحدة للتنصيص على تفريق الأفعال وذلك بتفرق الأيام في حق الواحد وقد يحصل أيضا بتفرق الدفعات في يوم واحد إلا أنه ليس لذلك حد معلوم فقدرنا بالأيام وجعلنا تجدد الأيام في حق الواحد كتجدد الحاجة تيسيرا, وإن أعطى عشرة مساكين عبدا أو دابة قيمته تبلغ عشرة أثواب أجزأه من الكسوة باعتبار القيمة كما لو أدى الدراهم وإن لم تبلغ قيمته عشرة أثواب وبلغت قيمة الطعام أجزأه من الطعام لأن مقصوده معلوم وهو سقوط الواجب به عنه فيحصل مقصوده بالطريق الممكن, ولو أقام رجل البينة عليه أنه ملكه وأخذه فعليه استقبال التكفير لأن المؤدي استحق من يد المسكين فكأنه لم يصل إليه, ولو كسا عن رجل بأمره عشرة مساكين أجزأ عنه وإن لم يعط عنه ثمنا لأن فعل الغير ينتقل إليه بأمره كفعله بنفسه والمسكين يصير قابضا له أولا ثم لنفسه وقد بينا في الطعام مثله في الظهار ولو كساهم بغير أمره ورضي به لم يجز عنه لأن الصدقة قد تمت من جهة المؤدي فلا يتصور وقوعها عن غيره بعد ذلك, وإن رضي به ولو أعطى عن كفارة أيمانه في أكفان الموتى أو في بناء مسجد أو في قضاء دين ميت أو في عتق رقبة لم يجز عنه لأن الواجب إنما يتأدى بالتمليك إلى الفقير والتمليك لا يحصل بهذا وقد بينا مثله في الزكاة أنه لا يجزئه.
فإن قيل:  في باب الكفارة التمليك غير محتاج إليه عندكم حتى يتأدى بالتمكين من الطعام بخلاف الزكاة.
قلنا:  لا يعتبر التمليك عند وجود ما هو المنصوص عليه وهو فعل الإطعام وهذا لا يوجد في هذه المواضع فلا بد من اعتبار التمليك وذلك لا يحصل بتكفين الميت وبناء المسجد. وإن أعطي منها بن سبيل منقطعا به أجزأه لأنه محل لصرف الزكاة إليه وقد بينا أن مصرف الكفارة من هو مصرف الزكاة
ولو كانت عليه يمينان فكسا عشرة مساكين كل مسكين ثوبين عنهما أجزأه عن يمين واحدة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى كما في الطعام, وإذا كسا مسكينا عن كفارة يمينه ثم مات المسكين فورثه هذا منه أو اشتراه في حياته أو وهبه له لم يفسد ذلك عليه لأن الواجب قد تأدى بوصول الثوب إلى يد المسكين ولم يبطل ذلك بما اعترض له من الأسباب وقد بينا في الزكاة نظيره.
والأصل فيه ما روي أن بريرة كان يتصدق عليها وتهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  ويقول:
"هي لها صدقة ولنا هدية" فهذا دليل على أن اختلاف أسباب الملك ينزل منزلة اختلاف الأعيان وفي حديث أبي طلحة أنه تصدق على ابنته بحديقة له ثم ماتت فورثها منها فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم  عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام "إن الله قبل منك صدقتك ورد عليك حديقتك" والله أعلم بالصواب

باب الصيام
قال:  "وإذا حنث الرجل وهو معسر فعليه ثلاثة أيام متتابعة فإن أصبح في يوم مفطرا ثم عزم على الصوم عن كفارة يمينه لم يجزه" لأنه دين في ذمته وما كان دينا في الذمة لا يتأدى إلا

 

ج / 8 ص -130-       بنية من الليل. وهذا لأنه إنما يتأدى بالنية من النهار صوم يوم توقف الإمساك في أول النهار عليه باعتبار أن النية تستند إليه وهذا فيما يكون عينا في الوقت دون ما يكون دينا في الذمة وإذا أفطرت المرأة في هذا الصوم لمرض أو حيض فعليها أن تستقبل لأنها تجد ثلاثة أيام خالية عن الحيض والمرض فلا تعذر فيها بالإفطار بعذر الحيض بخلاف الشهرين المتتابعين وقد بينا هذا في الصوم ولا يجزئ الصوم عن هذا في أيام التشريق لأنه واجب في ذمته بصفة الكمال والصوم في هذه الأيام ناقص لأنه منهى عنه فلا يتأدى به ما وجب في ذمته بصفة الكمال فإن كان لهذا المعسر مال غائب عنه أو دين وهو لا يجد ما يطعم أو يكسو
ولا ما يعتق أجزأه أن يصوم لأن المانع قدرته على المال وذلك لا يحصل بالملك دون اليد فما يكون دينا على مفلس أو غائبا عنه فهو غير قادر على التكفير به إلا أن يكون في ماله الغائب عبد فحينئذ لا يجزيه التكفير بالصوم لأنه متمكن من التكفير بالعتق فإن نفوذ العتق باعتبار الملك دون اليد. وكذلك إن كان العبد أبق وهو يعلم حياته فإنه لا يجزيه التكفير بالصوم لقدرته على التكفير بالعتق, ولو كان له مال وعليه دين مثله أجزأه الصوم بعد ما يقضي دينه عن ذلك المال وهذا غير مشكل لأنه بعد قضاء الدين بالمال غير واجد لمال يكفر به وإنما الشبهة فيما إذا كفر بالصوم قبل أن يقضي دينه بالمال فمن مشايخنا من يقول بأنه لا يجوز. ويستدل بالتقييد الذي ذكره بقوله بعد ما يقضي دينه وهذا لأن المعتبر هنا الوجود دون الغني وما لم يقض الدين بالمال فهو واجد, والأصح أنه يجزيه التكفير بالصوم لما أشار إليه في الكتاب من قوله ألا ترى أن الصدقة تحل لهذا وفي هذا التعليل لا فرق بينما قبل قضاء الدين وبعده وهذا لأن المال الذي في يده مستحق بدينه فيجعل كالمعدوم في حق التكفير بالصوم كالمسافر إذا كان معه ماء وهو يخاف العطش يجوز له التيمم لأن الماء مستحق لعطشه فيجعل كالمعدوم في حق التيمم وإن صام العبد عن كفارة يمينه فعتق قبل أن يفرغ منه وأصاب مالا لم يجزه الصوم لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل وقد بينا مثله في الحر المعسر إذا أيسر فكذلك في غيره لأن السبب الموجب للكفارة بالمال متحقق في حقه ولكن لانعدام الملك كان يكفر بالصوم وقد زال ذلك بالعتق فكان هو والحر سواء, ولو صام رجل ستة أيام عن يمينين أجزأه وإن لم ينو ثلاثة أيام لكل واحدة لأن الواجب عليه نية الكفارة دون نية التمييز فإن التمييز في الجنس الواحد غير مفيد وإنما يستحق شرعا ما يكون مفيدا والصوم في نفسه أنواع فلا يتعين نوع من الكفارات إلا بالنية فأما كفارات الأيمان نوع واحد فلا يعتبر نية التمييز فيما بينها كقضاء رمضان فإن عليه أن ينوى القضاء وليس عليه نية تعيين يوم الخميس والجمعة.
ثم فرق أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى بين هذا وبين الأطعام والكسوة من حيث إن هناك لو أعطى كل مسكين صاعا أو ثوبين عن يمينين لم يجز إلا عن واحدة لأن الأداء يكون دفعة واحدة وهنا صوم ستة أيام عن يمينين لا يتصور دفعة واحدة بل ما لم يفرغ عن صوم ثلاثة أيام لا يتصور صوم ثلاثة أخرى فلهذا جاز كل ثلاثة عن كفارة ووزان هذا من

 

ج / 8 ص -131-       الطعام والكسوة, ما لو فرق فعل الدفع وإن كان عنده طعام إحدى الكفارتين فصام لإحداهما ثم أطعم للأخرى لم يجزه الصوم لأنه كفر بالصوم في حال وجود ما يكفر به من المال وعليه أن يعيد الصوم بعد التكفير بالإطعام لأنه لما كفر بالإطعام عن يمين فقد صار غير واجد في حق اليمين الأخرى وهو نظير محدثين في سفر وجدا من الماء مقدرا ما يكفى لوضوء أحدهما فتيمم أحدهما أولا ثم توضأ الآخر به فعلى من تيمم إعادة التيمم بعد ما توضأ به الآخر لهذا المعنى, ولا يجوز صوم أحد عن أحد حي أو ميت في كفارة أو غيرها لحديث بن عمر رضي الله عنهما موقوفا عليه ومرفوعا لا يصوم أحد عن أحد ولأن معنى العبادة في الصوم في الابتداء بما هو شاق على بدنه وهو الكف عن اقتضاء الشهوات وهذا لا يحصل في حق زيد بأداء عمرو والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب من الأيمان
قال:  رضي الله عنه "وإذا حلف الرجل على أمر لا يفعله أبدا ثم حلف في ذلك المجلس أو في مجلس آخر لا يفعله أبدا ثم فعله كانت عليه كفارة يمينين" لأن اليمين عقد يباشره بمبتدأ وخبر وهو شرط وجزاء والثاني في ذلك مثل الأول فهما عقدان فبوجود الشرط مرة واحدة يحنث فيهما وهذا إذا نوى يمينا أخرى أو نوى التغليظ لأن معنى التغليظ بهذا يتحقق أو لم يكن له نية لأن المعتبر صيغة الكلام عند ذلك ثم الكفارات لا تندرى ء بالشبهات خصوصا في كفارة اليمين فلا تتداخل وأما إذا نوى بالكلام الثاني اليمين الأول فعليه كفارة واحدة لأنه قصد التكرار والكلام الواحد قد يكرر فكان المنوى من محتملات لفظه وهو أمر بينه وبين ربه.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال هذا إذا كانت يمينه بحجة أو عمرة أو صوم أو صدقة, فأما إذا كانت يمينه بالله تعالى فلا تصح نيته وعليه كفارتان قال أبو يوسف رحمه الله تعالى هذا أحسن ما سمعنا منه.
ووجهه أن قوله فعليه حجة مذكور بصيغة الخبر فيحتمل أن يكون الثاني هو الأول فأما قوله والله هذا إيجاب تعظيم المقسم به نفسه من غير أن يكون بصيغة الخبر فكان الثاني إيجابا كالأول فلا يحتمل معنى التكرار لأن ذلك في الإخبار دون الإيقاع والإيجاب, وإذا كانت إحدى اليمينين بحجة والأخرى بالله فعليه كفارة وحجة لأن معنى تكرار الأول غير محتمل هنا فانعقدت يمينان, وقد حنث فيهما بإيجاد الفعل مرة فيلزمه موجب كل واحد منهما فإن حلف ليفعلن كذا إلى وقت كذا وذلك الشيء معصية يحق عليه أن لا يفعله لأنه منهي عن الإقدام على المعصية ولا يرتفع النهي بيمينه ولكن اليمين منعقدة
فإذا ذهب الوقت قبل أن يفعله فقد تحقق الحنث فيها بفوت شرط البر فيلزمه الكفارة, فإن لم يؤقت فيه وقتا وذلك الفعل مما يقدر على أن يأتي به كشرب الخمر والزنا ونحوه لم يحنث إلى أن يموت لأن الحنث بفوت شرط البر وشرط البر بوجود ذلك الشيء منه في عمره فإذا مات قبل أن يفعله فقد تحقق الحنث

 

ج / 8 ص -132-       بفوت شرط البر حين أشرف على الموت ووجبت عليه الكفارة فينبغي له أن يوصى بها لتقضى بعد موته كما ينبغي أن يوصي بسائر ما عليه من حقوق الله تعالى كالزكاة ونحوها, وإذا حلف بأيمان متصلة معطوفة بعضها على بعض واستثنى في آخرها كان ذلك استثناء من جميعها لأن الكلمات المعطوفة بعضها على بعض ككلام واحد فيؤثر الاستثناء في إبطالها كلها اعتبارا للأيمان بالإيقاعات. وقيل هذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن الاستثناء عندهما لإبطال الكلام وحاجة اليمين الأولى كحاجة اليمين الثانية, فأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى الاستثناء بمنزلة الشرط فإنما ينصرف إلى وقت كذا وذلك الشيء معصية يحق عليه أن لا أستطيع فهذا على ثلاثة أوجه فإن كان يعني ما سبق به من القضاء فهو موسع عليه ولا يلزمه الكفارة لأن المنوي من محتملات لفظه.
فالمذهب عند أهل السنة أن كل شيء بقضاء وقدر وأن الاستطاعة مع الفعل فإذا لم يفعل علمنا أن الاستطاعة التي قد استثنى بها لم توجد ولكن هذا في اليمين بالله فإن موجبه الكفارة وذلك بينه وبين ربه
فإن كانت اليمين بالطلاق أو العتاق فهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى ولكن لا يدين في الحكم لأن العادة الظاهرة أن الناس يريدون بهذه الاستطاعة ارتفاع الموانع فإن الرجل يقول أنا مستطيع لكذا ولا أستطيع أن أفعل كذا على معنى أنه يمنعني مانع من ذلك قال الله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: من الآية97] وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة فإذا كان الظاهر هذا والقاضي مأمور باتباع الظاهر لا يدينه في الحكم فإن كان يعني شيئا يعرض من البلايا لم يسقط عنه يمينه ما لم يعرض ذلك الشيء, وكذلك إن لم يكن له نية في الاستطاعة فهو على أمر يعرض له فلا يكون على القضاء والقدر ما لم ينوه لما بينا أن الكلام المطلق محمول على ما هو الظاهر والمتعارف. ولو قال والله لا أكلم فلانا ووالله لا أكلم فلانا رجلا آخر إن شاء الله تعالى يعني بالاستثناء اليمينين جميعا كان الاستثناء عليهما لكون إحدى اليمينين معطوفة على الأخرى وفي بعض النسخ لم يذكر حرف العطف ولكن قال والله لا أكلم فلانا وهذا صحيح أيضا لأن موجب هذه اليمين الكفارة وذلك أمر بينه وبين ربه, فإذا لم يسكت بين اليمينين كان المنوي من محتملات لفظه أو يجعل الواو في الكلام الثاني للعطف دون القسم فكأنه قال والله والله. وكذلك لو قال علي حجة إن كلمت فلانا وعلي عمرة إن كلمت فلانا إن شاء الله فكلمه لم يحنث لأن الكلام الثاني معطوف على الأول
فأما إذا قال عبدي حر إن كلمت فلانا عبدي الآخر حر إن كلمت فلانا إن شاء الله ثم كلمه فإن عبده الأول حر في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله لأنه لم يذكر بين الكلامين حرف العطف فانعدم الاتصال بينهما حكما ووجد الاتصال صورة حين لم يسكت

 

ج / 8 ص -133-       بينهما. فإن نوى صرف الاستثناء إليهما كان مدينا فيما بينه وبين الله تعالى للاحتمال ولا يدين في الحكم لأنه خلاف الظاهر فإن الكلام الثاني غير معطوف على الأول فيصير فاصلا بين الاستثناء والكلام الأول, وإن قال لامرأته إن حلفت بطلاقك فعبدي حر فهذه يمين بالعتق لأن اليمين تعرف بالجزاء والجزاء عتق العبد لأن الجزاء ما يتعقب حرف الجزاء وهو الفاء والشرط أن يحلف بطلاق امرأته
فإذا قال بعد ذلك لعبده إن حلفت بعتقك فامرأته طالق فإن عبده يعتق لأن بالكلام الثاني حلف بطلاق امرأته يذكر الشرط والجزاء طلاقها فوجد به الشرط في اليمين الأول فلهذا يعتق عبده ولا تطلق امرأته لأن الحلف بعتق العبد كان سابقا على الحلف بطلاقها وما يكون سابقا على اليمين لا يكون شرطا لأن الحالف إنما يقصد منع نفسه عن إيجاد الشرط وذلك لا يتحقق فيما كان سابقا على يمينه. ولو قال لامرأته ثلاث مرات إن حلفت بطلاقك فأنت طالق طلقت اثنتين إن كان دخل بها لأنه باليمين الثانية يحنث في اليمين الأولى فتطلق واحدة ثم باليمين الثالثة يحنث في اليمين الثانية فتطلق أخرى لأنها في عدته وإن لم يكن دخل بها لا تطلق إلا واحدة لأنها بانت بالأولى لا إلى عدة ولأن شرط الحنث في اليمين الثانية لا يوجد باليمين الثالثة لأن الشرط هو الحلف بطلاقها وذلك لا يتحقق في غير الملك بدون الإضافة إلى الملك فلهذا لا تطلق إلا واحدة. ولو قال عبده حر إن حلف بطلاق امرأته ثم قال لامرأته أنت طالق إن شئت لا يعتق عبده وليس هذا بيمين وإن وجد الشرط والجزاء صورة بل هو مخير بمنزلة قوله أمرك بيدك أو اختارى فقد خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه رضي الله تعالى عنهن مع نهيه عن اليمين بالطلاق.
والدليل عليه أنه يشترط وجود المشيئة منها في المجلس ولو كان يمينا لم يتوقت بالمجلس كقوله أنت طالق إن كلمت, وكذلك إذا قال إذا حضت حيضة لم يعتق عبده لأن هذا تفسير لطلاق السنة بمنزلة قوله أنت طالق للسنة, وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يعتق لأن هذا ليس بإيقاع لطلاق السنة بدليل أنه لو جامعها في الحيض ثم طهرت وقع الطلاق عليها ولو كان هذا كقوله للسنة لم يقع, قلنا هو سني من وجه فلا يحنث بالحيض وتطليق لوجود الشرط حقيقة. وأما إذا قال لها إذا حضت فأنت طالق أو إذا جاء غد فأنت طالق عتق عبده عندنا, وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتق قال لأن الحالف يكون مانعا نفسه من إيجاد الشرط وإنما يكون الكلام يمينا بذكر شرط يتصور المنع عنه فأما بذكر شرط لا يتصور المنع عنه لا يصير حالفا بطلاقها فلا يعتق عبده كما لو قال أنت طالق غدا. ولكنا نقول الكلام يعرف بصيغته وقد وجد صيغة اليمين بذكر الشرط والجزاء ولم يغلب عليه غيره فكان يمينا بخلاف قوله أنت طالق غدا لأنه ما ذكر الشرط والجزاء إنما أضاف الطلاق إلى وقت وبخلاف قوله أنت طالق إن شئت أو إذا حضت حيضة لأنه غلب عليه معنى آخر كما بينا وبأن لم يكن في وسعه منع هذا الشرط لا يخرج من أن يكون يمينا كما لو جعل الشرط فعل إنسان آخر لا يقدر على منعه من ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

 

ج / 8 ص -134-       باب المساكنة
قال:  رضي الله عنه "وإذا حلف الرجل لا يساكن فلانا ولا نية له فساكنه في دار كل واحد منهما في مقصورة على حدة لم يحنث" لأن المساكنة على ميزان المفاعلة فشرط حنثه وجود السكنى مع فلان والسكنى المكث في مكان على سبيل الاستقرار والدوام فتكون المساكنة بوجود هذا الفعل منهما على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك إذا سكنا بيتا واحدا أو سكنا في دار وكل واحد منهما في بيت منها لأن جميع الدار مسكن واحد, فأما إذا كان في الدار مقاصير وحجر فكل مقصورة مسكن على حدة فلا يكون هو مساكنا فلانا فلا يحنث في يمينه بمنزلة ما لو سكنا في محلة كل واحد منهما على حدة.
والدليل على الفرق أن الدار التي تشتمل على المقاصير كل مقصورة منها حرز على حدة حتى لو أخرج السارق المتاع من مقصورة فأخذ في صحن الدار يقطع ولو سرق من يسكن إحدى المقصورتين من المقصورة الأخرى يقطع والدار التي تشتمل على بيوت حرز واحد حتى لو أخرج السارق المتاع من بيت وأخذ في صحن الدار لا يقطع ومن كان مأذونا في الدخول في أحد البيوت من الدار إذا سرق من البيت الآخر لا يقطع. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال هذا إذا كانت الدار كبيرة نحو دار الوليد بالكوفة ونظيره دار نوح ببخارى لأن ذلك بمنزلة المحلة فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فإنه يحنث سواء كانت دارا تشتمل على مقاصير أو على بيوت لأن في عرف الناس هذا مسكن واحد ويعد الحالف مساكنا لصاحبه وإن كان كل واحد منهما في مقصورة. وإن كان نوى حين حلف أن لا يساكنه في بيت واحد أو في حجرة أو في منزل واحد بأن يكونا فيه جميعا لم يحنث حتى يساكنه فيما نوي لأن المنوي من محتملات لفظه.
فإن قيل:  المسكن ليس في لفظه فيكف تعمل نيته في تخصيص المسكن ونية التخصيص فيما لا لفظ له باطل؟
قلنا:  نحن لا نعتبر تخصيص المسكن حتى لو نوى شيئا بعينه لا تعمل نيته ولكن الفعل يقتضي المصدر لا محالة فبذكر الفعل يصير المصدر كالمذكور لغة وهو إنما نوى أكمل ما يكون من السكنى لأن أكمل ذلك أن يجمعهما بيت واحد وما دون هذا عند المقابلة بهذا يكون قاصرا فيكون هذا منه نية نوع من السكنى وذلك صحيح, نظيره ما قال في الجامع إن خرجت ونوى السفر تعمل نيته لأنه نوى نوعا من الخروج والخروج الذي هو مصدر كالمذكور بذكر الفعل فتصح نيته في نوع منه بخلاف ما إذا نوى الخروج إلى بغداد لأن المكان ليس في لفظه فلا تعمل نيته في ذلك وإن كان نوى أن لا يساكنه في مدينة أو قرية وسمى ذلك فإن ساكنه في شيء من ذلك حنث ولا تكون المساكنة في ذلك إلا أن يسكنا بيتا واحدا أو دارا واحدة من دار البلدة أو القرية على ما بينا أن المساكنة فعل على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك لا يكون إلا في مسكن واحد

 

ج / 8 ص -135-       وفائدة تخصيصه البلدة أو القرية إخراج سائر المواضع عن يمينه, وعن أبي يوسف رحمه الله أنه في هذا الفصل يحنث إذا جمعهما المكان الذي سمي في السكنى. وإن كان كل واحد منهما في دار على حدة لأجل العرف فإنه يقال فلان يساكن فلانا قرية كذا وبلدة كذا وإن كان كل واحد منهما في دار على حدة. فأما في ظاهر الرواية لا يحنث في ذلك إلا أن ينويه فحينئذ تعمل نيته لما فيه من التشديد عليه وإن حلف لا يساكنه في بيت فدخل عليه فيه زائرا أو ضيفا وأقام فيه يوما أو يومين لم يحنث لأن هذا ليس بمساكنة إنما المساكنة بالاستقرار والدوام وذلك بمتاعه وثقله ألا ترى أن الإنسان يدخل في المسجد كل يوم مرارا ولا يسمى ساكنا فيه ويدخل على الأمير ويكون في داره يوما ولا يسمي مساكنا له في داره فكذلك هذا الذي دخل على فلان زائرا أو ضيفا لا يكون ساكنا معه فيه فلا يحنث إلا أن ينويه فحينئذ في نيته تشديد عليه فيكون عاملا, ألا ترى أن الرجل قد يمر بالقرية فيبيت فيها ويقول ما سكنتها قط فيكون صادقا في ذلك, ولو كان ساكنا في دار فحلف أن لا يسكنها ولا نية له ثم أقام فيها يوما أو أكثر لزمه الحنث لأن السكنى فعل مستدام حتى يضرب له المدة ويقال سكن يوما أو شهرا والاستدامة على ما يستدام كالإنشاء قال الله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام: من الآية68]  أي لا تمكث قاعدا فيجعل استدامة السكني بعد يمينه كإنشائه وكذلك اللبس والركوب لأنه يستدام كالسكنى, فأما إذا أخذ في النقلة من ساعته أو في نزع الثوب أو في النزول عن الدابة لم يحنث عندنا استحسانا.
وفي القياس يحنث وهو قول زفر رحمه الله تعالى لوجود جزء من الفعل المحلوف عليه بعد يمينه إلى أن يفرغ عنه.
ووجه الاستحسان أن هذا القدر لا يستطاع الامتناع عنه فيصير مستثنى لما عرف من مقصود الحالف وهو البر دون الحنث ولا يتأني البر إلا بهذا ولأن السكنى هو الاستقرار والدوام في المكان والخروج ضده فالموجود منه بعد اليمين ما هو ضد السكنى حين أخذ في النقلة في الحال ولو خرج منها بنفسه ولم يشتغل بنقل الأمتعة يحنث عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يحنث لأنه عقد يمينه على سكناه وحقيقة ذلك بنفسه فينعدم بخروجه عقيب اليمين وحكى عنه في تعليل هذه المسألة قال خرجت من مكة وخلفت فيها دفيترات أفأكون ساكنا بمكة.
"وحجتنا" في ذلك أنه ساكن فيها بثقله وعياله فما لم ينقلهم فهو ساكن فيها لما بينا أن السكنى فعل على سبيل الاستقرار والدوام وذلك لا يتأتى إلا بالثقل والمتاع والعرف شاهد لذلك فإنك تسأل السوقي أين تسكن فيقول في محلة كذا وهو في تجارته يكون في السوق ثم يشير إلى موضع ثقله وعياله ومتاعه فعرفنا أن السكنى بذلك بخلاف الدفيترات فإن السكنى لا تتأتى بها مع أن من مشايخنا من يقول إذا كان يمينه على أن لا يسكن بلدة كذا فخرج منها بنفسه لم يحنث وإن خلف ثقله بها وقد روى بعض ذلك عن محمد رحمه الله

 

ج / 8 ص -136-       بخلاف السكنى في الدار فإن من يكون في المصر في السوق يسمى ساكنا في الدار التي فيها ثقله ومتاعه وعياله فأما المقيم بأوزجند لا يسمى ساكنا ببخاري وإن كان بها عياله وثقله.
قال رضي الله عنه وهذه المسألة تنبني على أصل في مسائل الأيمان بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى أن عنده العبرة بحقيقة اللفظ والعادة بخلافها لا تعتبر لأن المجاز لا يعارض الحقيقة, وعندنا العادة الظاهرة اصطلاح طارى ء على حقيقة اللغة والحالف يريد ذلك ظاهرا فيحمل كلامه عليه ألا ترى أن المديون يقول لصاحب الدين والله لإجرينك على الشوك فيحمل على شدة المطل دون حقيقة اللفظ. وكان مالك يقول ألفاظ اليمين محمولة على ألفاظ القرآن, وهذا بعيد أيضا فإن من حلف لا يستضيء بالسراج فاستضاء بالشمس لا يحنث والله تعالى سمى الشمس سراجا, ومن حلف لا يجلس على البساط فجلس على الأرض لم يحنث والله تعالى سمى الأرض بساطا. ولو حلف لا يمس وتدا فمس جبلا لا يحنث وقد سمى الله تعالى الجبال أوتادا فعرفنا أن الصحيح ما قلنا. فإن نقل بعض الأمتعة فالمروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يحنث إذا ترك بعض أمتعته فيها لأنه كان ساكنا فيها بجميع الأمتعة فيبقى ذلك ببقاء بعض الأمتعة فيها وهو أصل لأبي حنيفة حتى جعل بقاء صفة السكون في العصير مانعا من أن يكون خمرا وبقاء مسلم واحد منا في بلدة ارتد أهلها مانعا من أن تصير دار حرب إلا أن مشايخنا رحمهم الله قالوا هذا إذا كان الباقي يتأتى بها السكنى إما ببقاء مكنسة أو وتد أو قطعة حصير فيها لا يبقى ساكنا فيها فلا يحنث. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قريب من هذا قال أن بقي فيها ما يتأتى لمثله السكنى به يحنث وإلا فلا, وعن محمد رحمه الله تعالى قال إن نقل إلى المسكن الثاني ما يتأتى له السكني به لم يحنث لأن بهذا صار ساكنا في المسكن الثاني فلا يبقى ساكنا في المسكن الأول. ولو كان في طلب مسكن آخر فبقي في ذلك يوما أو أكثر لم يحنث في الصحيح من الجواب لأنه لا يمكنه طرح الأمتعة في السكة فيصير ذلك القدر مستثنى لما عرف من مقصوده إذا لم يفرط في الطلب وكذلك إن بقى في نقل الأمتعة أياما لكثرة أمتعته ولبعد المسافة ولم يستأجر لذلك جمالا بل جعل ينقل بنفسه شيئا فشيئا لم يحنث وإن بقي في ذلك شهرا إذا لم يفرط لأن نقل الأمتعة ضد الاستقرار في ذلك المكان فاشتغاله به يمنعه من أن يكون ساكنا فيه فلا يحنث لهذا, ولو حلف لا يساكن فلانا في دار قد سماها بعينها واقتسما وضربا بينهما حائطا وفتح كل واحد منهما بابا لنفسه ثم سكن الحالف طائفة والآخر طائفة لزمه الحنث لأنه قد ساكنه فيها بعينها والمعني فيه أن شرط حنثه حين عقد اليمين أن يجمعهما فعل السكني في الموضع الذي عينه وقد وجد ذلك بعد القسمة وضرب الحائط كما قبله وهذا بخلاف ما لو كانت يمينه على أن لا يساكنه في منزل ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها لأن هناك بالقسمة وضرب الحائط صار كل جانب منزلا على حدة ولأن في غير العين يعتبر الوصف وفي العين يعتبر العين دون الوصف كما لو حلف أن لا يكلم شابا فكلم شيخا كان شابا وقت يمينه لم يحنث بخلاف ما لو حلف أن لا يكلم هذا الشاب

 

ج / 8 ص -137-       فكلمه بعد ما شاخ يحنث وهذا لأنه في الدار المعينة أظهر بيمينه التبرم منها لا من فلان وفي غير المعين إنما أظهر التبرم من مساكنة فلان ولا يكون مساكنا له إذا لم يجمعهما منزل واحد. ولو حلف أن لا يساكنه وهو ينوى في بيت واحد فساكنه في منزل كل واحد منهما في بيت لم يحنث لأنه نوى أكمل ما يكون من المساكنة فتصح نيته ويصير المنوى كالملفوظ به. وإن حلف أن لا يسكن دارا بعينها فهدمت وبنيت بناء آخر فسكنها يحنث لأنها تلك الدار بعينها ومعني هذا أن البناء وصف ورفع البناء الأول وإحداث بناء آخر يغير الوصف وفي العين لا معتبر بالوصف واسم الدار يبقي بعد هدم البناء حتى لو سكنها كذلك صار حانثا وهذا لأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط فلا يزول ذلك برفع البناء أما ترى أن العرب تطلق اسم الدار على الخرابات التي لم يبق منها إلا الآثار قال القائل:

عفت الديار محلها فمقامها

وقال آخر

يا دار مية بالعلياء فالسند

وهذا بخلاف ما لو حلف لا يسكن بيتا عينه فهدم حتى ترك صحراء ثم بني بيت آخر في ذلك الموضع فسكنه لم يحنث لأن اسم البيت يزول بهدم البناء ألا ترى أنه لو سكنه حين كان صحراء لم يحنث وهذا لأن البيت اسم لما يكون صالحا للبيتوتة فيه والصحراء غير صالح لذلك واليمين المعقودة باسم لا يبقى بعد زوال الاسم ثم إنما حدث اسم البيت لذلك الموضع بالبناء الذي أحدث فكان هذا اسما غير ما عقد به اليمين, ووزانه من الدار أن لو جعلها بستانا أو حماما ثم بنى دارا فسكنها لم يحنث لأن الاسم زال جعلها بستانا أو حماما ثم حدث اسم الدار بصفة حادثة فلم يكن ذلك الاسم الذي انعقد به اليمين
وإذا حلف لا يسكن دار فلان هذه فباعها فسكن الحالف ولم يكن له نية لم يحنث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى. وقال محمد وزفر رحمهما الله تعالى يحنث وكذلك العبد والثوب وكل ما يضاف إلى إنسان بالملك.
وجه قول محمد وزفر رحمهما الله تعالى أنه جمع في كلامه بين الإشارة والإضافة فيتعلق الحكم بالإشارة لأنها أبلغ في التعريف من الإضافة فإنها تقطع الشركة والإضافة لا تقطع الشركة فكان هذا بمنزلة قوله لا أسكن هذه الدار
والدليل عليه ما لو قال والله لا أكلم زوجة فلان هذه صديق فلان هذا فكلم بعد ما عاداه وفارقها يحنث لما قلنا وكذلك لو قال لا أكلم صاحب هذا الطيلسان فكلم بعد ما باع الطيلسان يحنث. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول عقد يمينه على ملك يضاف إلى مالك فلا يبقى بعد زوال الملك كما لو كان أطلق دار فلان وتحقيقه من وجهين:
"أحدهما" أن الدار لا يقصد هجرانها لعينها بل لأذى حصل من مالكها واليمين تتقيد

 

ج / 8 ص -138-       بمقصود الحالف فصار بمعرفة مقصوده كأنه قال ما دامت لفلان بخلاف الزوجة والصديق فإنه يقصد هجرانهما لعينهما وكذلك قوله صاحب الطيلسان لأنه يقصد هجرانه لعينه لا لطيلسانه فكان ذكر هذه الأشياء للتعريف لا لتقييد اليمين.
فإن قيل:  في العبد هو آدمي فيقصد هجرانه لعينه ومع ذلك قلتم إذا حلف لا يكلم عبد فلان هذا فكلمه بعد ما باعه لا يحنث.
قلنا:  ذكر بن سماعة في نوادره أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يحنث بهذا في العبد ووجه ظاهر الرواية أن العبد مملوك ساقط المنزلة عند الأحرار فالظاهر أنه إذا كان الأذى منه لا يقصد هجرانه باليمين فلا يجعل له هذه المنزلة ولكن إنما يحلف إذا كان الأذى من مالكه ولأن إضافة المملوك إلى المالك حقيقة كالاسم, ثم لو جمع في يمينه بين ذكر الاسم والعين وزال الاسم لم يبق اليمين كما لو حلف لا يدخل هذه الدار بعينها فجعلت بستانا فدخل لم يحنث لزوال الاسم فكذلك إذا جمع بين الإضافة والتعيين فزالت الإضافة لا يبقى اليمين بخلاف الزوجة والصديق فالإضافة هناك ليست بحقيقية ولكنه تعريف كالنسبة وكما أنه يتعلق اليمين بالعين دون النسبة فكذلك هنا يتعلق بالعين دون الإضافة فإن نوى أن لا يسكنها وإن زالت الإضافة فله ما نوى لأنه شدد الأمر على نفسه بنيته وكذلك عند محمد رحمه الله تعالى لو نوي أن لا يسكنها ما دامت لفلان فله ما نوى لأن المنوى من محتملات لفظه. وإذا حلف أن لا يسكن دار فلان أو دارا لفلان ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها فسكن دارا له قد باعها بعد يمينه لم يحنث لأنه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان ولم يوجد بخلاف قوله زوجة فلان أو صديق فلان لأن هناك إنما يقصد هجرانهما لعينهما فيتعين ما كان موجودا وقت يمينه بناء على مقصوده كما لو عينه. وذكر بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى التسوية بينهما.
ووجهه أنه عقد اليمين بالإضافة وحقيقة ذلك فيما كان موجودا وقت يمينه ولكن على هذه الرواية لا بد من أن يقال إذا جمع بين الإضافة والتعيين يبقي اليمين بعد زوال الإضافة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى كما هو قول محمد رحمه الله تعالى. وأما إذا سكن دارا كانت مملوكة لفلان من وقت اليمين إلى وقت السكنى فهو حانث بالإتفاق. وإن سكن دارا اشتراها فلان بعد يمينه حنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يحنث في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وكذلك العبد والدابة والثوب
ولو حلف لا يأكل طعام فلان أو لا يشرب شراب فلان فتناول شيئا مما استحدثه فلان لنفسه فهو حانث بالاتفاق. وقد أشار بن سماعة إلى التسوية بين الكل عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لما بينا أنه عقد اليمين على الإضافة فما لم يوجد حقيقة وقت اليمين لا يتناوله اليمين. فأما وجه قوله في الفرق على ظاهر الرواية أن الطعام والشراب يستحدث الملك فيهما في كل وقت فعرفنا أن مقصود الحالف وجود الإضافة إلى فلان وقت التناول فأما الدار والعبد والدابة فلا يستحدث الملك فيها في

 

ج / 8 ص -139-       كل وقت فعرفنا أن مقصوده ما كان موجودا في الحال دون ما يستحدث فيه فكان هذا بمنزلة الزوجة والصديق.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أنه عقد يمينه على ملك مضاف إلى المالك فإذا وجدت الإضافة إلى وقت الفعل كان حانثا كما في الطعام والشراب وتحقيقه أن شرط حنثه وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان بالملك وإنما حمله على اليمين أذى دخله من فلان وفي هذا لا فرق بين الموجود في ملكه وقت اليمين وما استحدث الملك فيه بخلاف الزوجة والصديق.  وقد روى محمد عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى في قوله دارا لفلان أنه لا يحنث إذا سكن دار اشتراها فلان بعد يمينه بخلاف قوله دار فلان لأن اللام دليل على الملك فصار تقدير كلامه كأنه قال لا أسكن دارا هي مملوكة لفلان فيتعين الموجود في ملكه دون ما يستحدثه ولا يوجد ذلك في قوله دار فلان. وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله على عكس هذا قال إذا قال دار فلان لا يتناول ما يستحدث الملك فيه بخلاف قوله دارا لفلان لأن في قوله دار فلان تمام الكلام بذكر الإضافة. ألا ترى أنه لو لم يذكر فلانا كان كلاما مختلا فلا بد من قيام الملك لفلان وقت اليمين ليتناوله اليمين وفي قوله دارا لفلان الكلام تام بدون ذكر فلان فإنه لو قال لا أسكن دارا كان مستقيما فذكر فلان لتقييد اليمين بما يكون مضافا إلى فلان وقت السكنى. وإن حلف لا يسكن دارا لفلان فسكن دارا بينه وبين آخر لم يحنث قل نصيب الآخر أو كثر لأنه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار يملكها فلان والمملوك لفلان بعض هذه الدار وبعض الدار لا يسمى دارا
وإن حلف لا يسكن دارا اشتراها فلان فسكن دارا اشتراها لغيره حنث لأن المشترى لغيره كالمشتري لنفسه فيما ينبنى على الشراء ألا ترى أن حقوق العقد تتعلق به وأنه يستغني عن إضافة العقد إلى غيره وإنما رتب الحالف يمينه على الشراء دون الملك فإن قال أردت ما اشتراه لنفسه دين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء إذا كان يمينه بالطلاق لأنه نوي التخصيص في اللفظ العام وإن حلف لا يسكن بيتا ولا نية له فسكن بيتا من شعر أو فسطاطا أو خيمة لم يحنث إذا كان من أهل الأمصار وحنث إذا كان من أهل البادية لأن البيت اسم لموضع يبات فيه واليمين يتقيد بما عرف من مقصود الحالف فأهل الأمصار إنما يسكنون البيوت المبنية عادة وأهل البادية يسكنون البيوت المتخذة من الشعر فإذا كان الحالف بدويا فقد علمنا أن هذا مقصوده بيمينه فيحنث بخلاف ما إذا كان من أهل الأمصار واسم البيت للمبني حقيقة فلا يختلف فيه حكم أهل الأمصار وأهل البادية لأن أهل البادية يسمون البيت للمبني حقيقة.
والأصل في هذا أن سائلا سأل بن مسعود رضي الله عنه فقال إن صاحبا لنا أوجب بدنة أفتجزي البقر فقال ممن صاحبكم فقال من بيني رياح قال ومتى أقتنت بنو رياح البقر إنما وهم صاحبكم الإبل فدل أن عند إطلاق الكلام يعتبر عرف المتكلم فيما يتقيد به كلامه, وإذا حلف لا يسكن بيتا لفلان فسكن صفة له حنث لأن الصفة بيت إلا أن يكون نوي البيوت

 

ج / 8 ص -140-       دون الصفاف فيدين فيما بينه وبين الله ولا يدين في القضاء لأنه نوى تخصيص اللفظ العام من أصحابنا من يقول هذا الجواب بناء على عرف أهل الكوفة لأن الصفة عندهم اسم لبيت يسكنونه يسمي صفا ومثله في ديارنا يسمى كاشانه فأما الصفة في عرف ديارنا غير البيت فلا يطلق عليه اسم البيت بل ينفي عنه فيقال هذا صفة وليس ببيت فلا يحنث.قال والأصح عندي أن مراده حقيقة ما نسميه الصفة.
ووجهه أن البيت اسم لمبنى مسقف مدخله من جانب واحد وهو مبنى للبيتوته فيه وهذا موجود في الصفة إلا أن مدخله أوسع من مدخل البيوت المعروفة فكان اسم البيت متناولا له فيحنث بسكناه إلا أن يكون نوى البيوت دون الصفاف فحينئذ يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه خص العام بنيته ولو حلف لا يسكن دار فلان هذه فسكن منزلا منها حنث لأن السكنى في الدار هكذا تكون فإن الإنسان يقول أنا ساكن في دار فلان وإنما يسكن في بعضها فإنه لا يسكن تحت السور وعلى الغرف والحجر إلا أن يكون نوى أن يسكنها كلها فلا يحنث حينئذ حتى يسكنها كلها لأنه نوى حقيقة كلامه ومطلق الكلام وإن كان محمولا على المتعارف فنية الحقيقة تصح فيه كما لو قال يوم يقدم فلان فأمرأته طالق حمل على الوقت للعرف. فإن نوى حقيقة بياض النهار عملت نيته في ذلك فهذا مثله حتى لو كان حلف بعتق أو طلاق يدين في القضاء لأن هذه حقيقة غير مهجورة ولو حلف لا يسكن دارا لفلان وهو ينوى بأجر أو عارية وسكنها على غير ما عنى ولم يجر قبل ذلك كلام فإنه يحنث وما نوى لا يغني عنه شيئا لأنه نوى التخصيص فيما ليس من لفظه فإن في لفظه فعل السكني وهو نوى التخصيص في السبب الذي يتمكن به من السكني إلا أن يكون قبل هذا كلام يدل عليه بأن استعاره فأبى فحلف وهو ينوى العارية ثم سكن بأجر فحينئذ لا يحنث لأن مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال ويصير ذلك كالمنصوص عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

باب الدخول
قال:  رضي الله عنه "وإذا حلف لا يدخل بيتا لفلان ولم يسم بيتا بعينه ولم يكن له نية فدخل بيتا هو فيه ساكن بأجر أو عارية فهو حانث عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يحنث" لأن الإضافة إلى فلان بالملك حقيقة وبالسكنى مجاز فلا تجتمع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد والحقيقة مرادة بالاتفاق فيتنحى المجاز واللام في قوله لفلان دليل الملك أيضا.
"وحجتنا" في ذلك أنه عقد يمينه على الإضافة إلى فلان وما يسكنه فلان عارية أو إجارة مضاف إليه بمنزلة ما يسكنه بالملك ألا ترى إنك تقول بيت فلان ومنزل فلان وإن كان نازلا فيه بأجر أو عارية فكذلك مع حرف اللام فإن النبي عليه الصلاة والسلام حين قال لرافع بن خديج
لمن هذا الحائط فقال لي استأجرته لم ينكر عليه إضافته إلى نفسه بحرف اللام ولا يقول أنه إذا دخل بيتا هو ملك فلان أنه يحنث بحقيقة الإضافة بالملك لوجود الإضافة بالسكنى.
وحاصل هذا الكلام أنه يحنث باعتبار عموم المجاز وفي ذلك الملك, والمستعار

 

ج / 8 ص -141-       سواء, كمن حلف لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها حافيا أو متنعلا أو راكبا يحنث باعتبار عموم المجاز وهو الدخول دون حقيقة وضع القدم.
فإن قيل:  كيف يكون للمجاز عموم والمصير إليه بطريق الضرورة.
قلنا:  العموم للحقيقة ليس باعتبار أنه حقيقة بل بدليل ذلك الدليل بعينه موجود في المجاز وهذا لأن المجاز كالمستعار ويحصل بلبس الثوب المستعار دفع الحر والبرد كما يحصل بلبس الثوب المملوك ولا يقال بأن المجاز يصار إليه للضرورة بل هو أحد قسمي الكلام ألا ترى أن في كتاب الله تعالى مجازا وحقيقة والله تعالى يتعالى أن تلحقه الضرورة فعرفنا أن العموم يعتبر في المجاز كما في الحقيقة.
وعلى هذا روي عن محمد رحمه الله تعالى أنه إذا حلف لا يدخل بيتا لفلان فدخل بيتا أجره فلان من غيره لم يحنث لأنه مضاف إلى المستأجر بالسكنى دون الآجر. ولو حلف لا يسكن حانوتا لفلان فسكن حانوتا أجره فإن كان فلان ممن يسكن حانوتا لا يحنث بهذا أيضا وإن كان لا يسكن حانوتا فحينئذ يحنث لما عرف من مقصود الحالف فإن من حلف لا يسكن حانوت الأمير يعلم كل أحد أن مراده حانوت يملكه الأمير وإذا حلف لا يدخل على فلان ولم يسم شيئا ولم يكن له نية فدخل عليه في بيته أو في بيت غيره أو في صفة حنث لأنه وجد الدخول على فلان فإن الدخول عليه في موضع يبيت هو فيه أو يجلس لدخول الزائرين عليه وذلك يكون في بيته تارة وفي بيت غيره أخرى والصفة في هذه كالبيت فيحنث لهذا وإن دخل عليه في مسجد لم يحنث لأنه معد للعبادة فيه لا للبيتوتة والجلوس لدخول الزائرين عليه وكذلك إن دخل عليه في ظلة أو سقيفة أو دهليز باب دار لم يحنث لأن العرف الظاهر أن جلوسه لدخول الزائرين عليه لا يكون في مثل هذه المواضع عادة وإنما يكون نادرا عند الضرورة فأما الجلوس عادة يكون في الصفة أو البيت فهو وإن أتاه في هذه المواضع لا يكون داخلا عليه ولا يحنث وكذلك لو دخل عليه في فسطاط أو خيمة أو بيت شعر لم يحنث إلا أن يكون الحالف من أهل البادية.
والحاصل أنه جعل قوله لا أدخل على فلان وقوله لا أدخل عليه بيتا سواء لاعتبار العرف كما بينا وإذا حلف لا يدخل عليه بيتا فدخل عليه في المسجد أو الكعبة لم يحنث لأنه مصلى والبيت اسم للموضع المعد للبيتوتة فيه.
فإن قيل:  أليس أن الله تعالى سمي الكعبة بيتا بقوله:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: من الآية96] وسمي المساجد بيوتا في قوله {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ} [النور: من الآية36].
قلنا:  قد بينا أن الأيمان لا تنبني على لفظ القرآن وقد سمي بيت العنكبوت بيتا فقال:
{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: من الآية41]  ثم هذا لا يدل على أن مطلق اسم البيت في اليمين يتناوله.
قال:  "وكل شيء من المساكن يقع عليه اسم بيت حنث فيه إن دخل ومراده ما يطلق عليه

 

ج / 8 ص -142-       الاسم عادة في الاستعمال وإن دخل بيتا هو فيه ولم ينو الدخول عليه لم يحنث" لأن شرط حنثه الدخول عليه وذلك بأن يقصد زيارته أو الاستخفاف به بأن يقصد ضربه وهذا لم يوجد إذا لم ينو الدخول عليه أو لم يعلم أنه فيه ألا ترى أن السقاء يدخل دار الأمير في كل يوم ولا يقال دخل على الأمير وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه يحنث وإن لم يعلم كونه فيه ولم ينو الدخول عليه بأن دخل على قوم هو فيهم والحالف لا يعلم بمكانه لأن حقيقة الدخول عليه قد وجد ولا يسقط حكمه باعتبار جهله
وإذا حلف لا يدخل على فلان ولم يسم بيتا ولم ينوه فدخل دارا هو فيها لم يحنث ألا ترى أنه لو كان في بيت منها لا يراه الداخل فإنه لا يكون داخلا عليه أرأيت أنه لو كانت الدار عظيمة فيها منازل فدخل منزلا منها وفلان في منزل آخر كان يحنث إنما يقع اليمين في هذا إذا دخل عليه بيتا أو صفة لأنه حينئذ يكون داخلا عليه حقيقة إلا أن يكون حلف أن لا يدخل عليه دارا فحينئذ يحنث إذا دخل داره لأن اعتبار العرف عند عدم التصريح بخلافه وكذلك إن نوى دارا لأنه يشدد الأمر على نفسه بهذه النية
ولو حلف لا يدخل بيتا وهو فيه داخل فمكث فيه أياما لم يحنث لأن الدخول هو الانفصال من الخارج إلى الداخل ولم يوجد ذلك بعد يمينه إنما وجد المكث فيه وذلك غير الدخول وهذا بخلاف السكنى لأنه فعل مستدام يضرب له مدة فتكون للاستدامة فيه حكم الإنشاء فأما الدخول ليس بمستدام ألا ترى أنه لا يضرب له المدة فإنه لا يقال دخل يوما أو شهرا إنما يقال دخل ومكث فيه يوما.
ولو قال: والله لأدخلنه غدا فأقام فيه حتى مضى الغد حنث لأن شرط بره وجود فعل الدخول في غد ولم يوجد إنما وجد المكث فيه فإذا نوى بالدخول الإقامة فيه لم يحنث لأن المنوى من محتملات لفظه فإن الدخول لمقصود الإقامة وكأنه جعل ذكر الدخول كناية عما هو المقصود فلهذا لم يحنث, وإن قال والله لا أدخلها إلا عابر سبيل فدخلها ليقعد فيها أو يعود مريضا أو يطعم حنث لأنه عقد يمينه على الدخول واستثنى دخولا بصفة وهو أن يكون عابر سبيل أي مجتازا ومار طريق قال الله تعالى:
{وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: من الآية43]  وقد وجد الدخول لا على الوجه المستثني فيحنث وإن دخلها مجتازا ثم بدا له أن يقعد فيها لم يحنث لأن دخوله على الوجه المستثنى فلم يحنث به وبقى ما وراء ذلك مكث في الدار وذلك غير الدخول فلا يحنث به أيضا وإن نوى بكلامه أن لا يدخلها يريد النزول فيها صحت نيته لأنه عابر سبيل يكون مجتازا في موضع ولا يكون نازلا فيه فجعل هذا مستثني دليل على أن مراده منع نفسه مما هو ضده وهو الدخول للنزول فإذا صحت نيته صار المنوى كالملفوظ وإذا دخلها يريد أن يطعم أو يقعد لحاجة ولا يريد المقام فيها لم يحنث لأن شرط حنثه دخول بصفة وهو أن يكون للسكني والقرار ولم يوجد. وإذا حلف لا يدخل دار فلان فجعلها بستانا أو مسجدا ودخلها لم يحنث قال لأنها قد تغيرت عن حالها ولم يرد تغير الوصف لأن ذلك لا يرفع اليمين إذا لم يكن وصفا داعيا إلى اليمين وإنما أراد تغير الاسم لأنه عقد اليمين باسم الدار والبستان

 

ج / 8 ص -143-       والمسجد والحمام غير الدار فإذا لم يبق ذلك الاسم لا يبقي اليمين وكذلك لو كانت دارا صغيرة فجعلها بيتا واحدا وأشرع بابه إلى الطريق أو إلى دار فدخله لم يحنث لأنها قد تغيرت وصارت بيتا وهذه إشارة إلى ما قلنا أن اسم البيت غير اسم الدار فمن ضرورة حدوث اسم البيت لهذه البقعة زوال اسم الدار
وإن حلف لا يدخل بيتا بعينه فهدم سقفه وبقيت حيطانه فدخله يحنث لأنه بيت وإن انهدم سقفه قال الله تعالى:
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: من الآية52]  أي ساقطة سقفها ولأن البيت اسم لما هو صالح للبيتوتة فيه وما بقيت الحيطان فهو صالح لذلك وإن لم يكن مسقفا بخلاف ما لو انهدمت الحيطان لأنه صار صحراء غير صالح للبيتوتة فلا يتناوله اسم البيت. وإن حلف لا يدخل دار فلان فاحتمله إنسان فأدخله وهو كاره لم يحنث لأنه مدخل لا داخل ألا ترى أن الميت قد يدخل الدار وفعل الدخول منه لا يتحقق وإن أدخله بأمره حنث لأن فعل الغير بأمره كفعله بنفسه فأما إذا لم يأمره ولكنه غير ممتنع راض بقلبه حتى أدخله.
فقد قال بعض مشايخنا يحنث لأنه لما كان متمكنا من الامتناع فلم يفعل صار كالآمر به وإدخاله مكرها إنما يكون مستثنى لأنه لا يستطيع الامتناع عنه. والأصح أنه لا يحنث لأنه عقد يمينه على فعل نفسه وقد انعدم فعله حقيقة وحكما لأن فعل الغير بغير أمره واستعماله إياه لا يصير مضافا إليه حكما إلا بأمره ولم يوجد إما بترك المنع والرضا بالقلب فلا. وإن دخلها على دابة حنث لأن سير الدابة يضاف إلى راكبها
ألا ترى أن الراكب ضامن لما تطأ دابته وأنه يتمكن من إيقافه متى شاء فكان هذا والدخول ماشيا سواء
وإن حلف لا يضع قدمه فيها فدخلها راكبا أو ماشيا عليه حذاء أو لم يكن حنث لأن وضع القدم عبارة عن الدخول عرفا فإذا نوى حين حلف أن لا يضع قدمه ماشيا فدخلها راكبا لم يحنث لأنه نوى حقيقة كلامه وهذه حقيقة مستعملة غير مهجورة وإن حلف لا يدخلها فقام على حائط من حيطانها حنث لأنه قد دخلها فإن القائم على حائط من حيطانها ليس بخارج منها فعرفنا أنه داخل فيها ألا ترى أن السارق لو أخذ في ذلك الموضع ومعه المال لم يقطع كما لو أخذ في صحن الدار.
توضيحه أن الدار اسم لما أدير عليه الحائط فيكون الحائط داخلا فيه ألا ترى أنه يدخل في بيع الدار من غير ذكر وإن حلف لا يدخل في الدار فقام على السطح يحنث لأن السطح من الدار ألا ترى أن من نام على سطح الدار يستجيز من نفسه أن يقول بت الليلة في داري. ولو قام في طاق باب الدار والباب بينه وبين الدار لم يحنث لأن الباب لإحراز الدار وما فيها فكل موضع إذا رد الباب بقي خارجا فليس ذلك من الدار فلا يحنث لأنه لم يدخلها وإن كان بحيث لو رد الباب بقي داخلا فهذا قد دخلها فيحنث
ولو كان داخلا فيها فحلف أن لا يخرج فقام في مقام يكون الباب بينه وبين الدار إذا أغلقت حنث لأن الخروج انفصال من الداخل إلى الخارج وقد وجد ذلك حين وصل إلى هذا الموضع وإن أخرج إحدى رجليه لم يحنث وكذلك إن حلف أن لا يدخلها فأدخل إحدى رجليه لم يحنث لأن قيامه بالرجلين فلا يكون

 

ج / 8 ص -144-       بإحداهما خارجا ولا داخلا ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وعد أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أن يعلمه سورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل مثلها قبل أن يخرج من المسجد فعلمه بعد ما أخرج إحدى رجليه ولم يكن مخالفا لوعده. من أصحابنا من يقول هذا إذا كان الداخل والخارج مستويان فإن كان الداخل أسفل من الخارج فبإدخال إحدى الرجلين يصير داخلا لأن عامة بدنه تمايل إلى الداخل وإن كان الخارج أسفل من الداخل فبإخراج إحدى الرجلين يصير خارجا لهذا المعنى, والأول أصح لأنه لم يوجد شرط الحنث حقيقة فلا يحنث واعتبار إحدى الرجلين يوجب أن يكون حانثا والرجل الأخرى تمنع من ذلك فلا يحنث بالشك. وإن دخل من حائط لها حتى قام على سطح من سطوحها فقد دخلها لما بينا أن السطح مما أدير عليه الحائط فالداخل إليه يكون داخلا فيها. ولو دخل بيتا من تلك الدار قد أشرع إلى السكة حنث لأنه مما أدير عليه الحائط وهذا إذا كان لذلك البيت باب في الدار وباب في السكة. وإن دخل في علوها على الطريق الأعظم أو دخل كنيفا منها شارعا إلى الطريق حنث وهذا إذا كانت مفتحه في الدار لأنه من حجر الدار ومرافقه فالداخل إليه لا يكون خارجا من الدار وإذا لم يكن خارجا كان داخلا في الدار والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الخروج
قال:  رضي الله عنه "وإذا حلف على امرأته بالطلاق أن لا تخرج حتى يأذن لها فأذن لها مرة سقطت اليمين" لأن حتى للغاية قال الله تعالى:{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: من الآية5] واليمين يتوقت بالتوقيت ومن حكم الغاية أن يكون ما بعدها بخلاف ما قبلها فإذا انتهت اليمين بالإذن مرة لم يحنث بعد ذلك وإن خرجت بغير إذنه إلا أن ينوى الإذن في كل مرة فحينئذ يكون مشددا الأمر على نفسه بلفظ يحتمله. ولو قال إلا باذني فلا بد من الإذن لكل مرة حتى إذا خرجت مرة بغير إذنه حنث لأنه استثنى خروجا بصفة وهو أن يكون بإذنه فإن الباء للإلصاق فكل خروج لا يكون بتلك الصفة كان شرط الحنث ومعنى كلامه إلا مستاذنة قال الله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: من الآية64] أي مأمورين بذلك ونظيره إن خرجت إلا بقناع أو إلا بملاءة فإذا خرجت مرة بغير قناع أو بغير ملاءة حنث. فأما إذا قال إلا أن آذن لها فهذا بمنزلته حتى إذا وجد الإذن مرة لا يبقى اليمين فيه لأن إلا أن بمعنى حتى فيما يتوقت قال الله تعالى:  {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: من الآية66]  أي أن يحاط بكم ألا ترى أنه لا يستقيم إظهار المصدر هنا بخلاف قوله:  إلا بإذني  فإنه يستقيم أن يقول إلا خروجا بإذني فعرفنا أنه صفة للمستثنى وهنا.
لو قال إلا خروجا أن آذن لك كان كلاما مختلا فعرفنا أنه بمعنى التوقيت وفيه طعن الفراء وقد بيناه وإن حلف عليها أن لا تخرج من بيته فخرجت إلى الدار حنث لأنه جعل شرط الحنث الخروج من البيت نصا والبيت غير الدار فبالوصول إلى صحن الدار صارت خارجة من البيت بخلاف ما لو حلف أن لا تخرج لأن مقصوده هنا الخروج إلى السكة والوصول إلى موضع يراها الناس فيه ولا يوجد ذلك بخروجها إلى صحن الدار. وإن حلف لا

 

ج / 8 ص -145-       يدخل فلان بيته فدخل داره لم يحنث لما بينا أنه سمي البيت نصا والدار غير البيت فالداخل في الدار لا يكون داخلا في البيت ألا ترى أن الإنسان قد يأذن لغيره في دخول داره ولا يأذن في دخول بيته
ولو حلف على امرأته أن لا تخرج من باب هذه الدار فخرجت من غير الباب لم يحنث لأنه حلف بتسمية الباب. فإن قيل:  مقصوده منعها من الخروج لكيلا لا يراها الأجانب وذلك لا يختلف بالباب وغير الباب.
قلنا:  اعتبار مقصوده يكون مع مراعاة لفظه ولا يجوز إلغاء اللفظ لاعتبار المقصود ثم قد يمنعها من الخروج إلى الباب لكيلا يراها الجار المحاذي وربما يتهمها بإنسان إذا خرجت من الباب رآها وإذا خرجت من غير الباب لم يرها وربما يكون على الباب كلب عقور فكان تقييد الباب مفيدا فيجب اعتباره وكذلك لو حلف على باب بعينه فخرجت من باب آخر لم يحنث مراعاة للفظه. ألا ترى أن يعقوب عليه السلام قال لأولاده عليهم السلام
{لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} وكان ذلك منه أمرا بما هو مفيد وإن حلف أن لا تخرج إلا بإذنه فأذن لها من حيث لا تسمع لم يكن إذنا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى هو إذن لأن الإذن فعل الآذن يتم به كالرضا ولو حلف أن لا تخرج إلا برضاه فرضى بذلك ولم تسمع فخرجت لم يحنث فهذا مثله, وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الإذن إما أن يكون مشتقا من الوقوع في الإذن وذلك لا يحصل إلا بالسماع أو يكون مشتقا من الأذان وهو الإعلام قال الله تعالى:  {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: من الآية3]  وذلك لا يحصل إلا بالسماع بخلاف الرضا فإنه بالقلب يكون.
توضيحه أن مقصوده من هذا أن لا تتجاسر بالخروج قبل أن تستأذنه وهذا المقصود لا يحصل إذا لم تسمع بإذنه فكان وجوده كعدمه ولو حلف عليها لا تخرج من المنزل إلا في كذا فخرجت لذلك مرة ثم خرجت في غيره حنث لوجود الخروج لا على الوجه المستثني فإن كان عنى لا تخرج هذه المرة إلا في كذا فخرجت فيه ثم خرجت في غيره لم يحنث لأنه خص اللفظ العام بنيته وإن خرجت لذلك ثم بدا لها فانطلقت في حاجة أخرى ولم تنطلق في ذلك الشيء لم يحنث لأن خروجها بالصفة المستثني ثم بعد ذلك وجد منها الذهاب في حاجة أخرى لا الخروج وشرط حنثه الخروج وإن حلف عليها أن لا تخرج مع فلان من المنزل فخرجت مع غيره أو خرجت وحدها ثم لحقها فلان لم يحنث لأن الخروج الانفصال من الداخل إلى الخارج ولم تكن مع فلان وذلك شرط حنثه فلهذا لا يحنث وإن لحقها فلان بعد ذلك وكذلك لو حلف لا يدخل فلان عليها بيتا فدخل فلان أولا ثم دخلت هي فاجتمعا فيه لم يحنث لأنها دخلت على فلان وشرط حنثه دخول فلان عليها وإن حلف عليها أن لا تخرج من الدار فدخلت بيتا أو كنيفا في علوها شارعا إلى الطريق الأعظم لم يكن خروجها إلى هذا الموضع خروجا من الدار على ما بينا أن الواصل إلى هذا الموضع يكون داخلا في الدار فلا تصير هي خارجة من الدار بالوصول إليه والله أعلم بالصواب.

 

ج / 8 ص -146-       باب الأكل
قال:  "وإذا حلف لا يأكل طعاما أو لا يشرب شرابا فذاق شرابا من ذلك ولم يدخله حلقه لم يحنث" لأنه عقد يمينه على فعل الأكل والشرب والذوق ليس بأكل ولا شرب فإن الأكل إيصال الشيء إلى جوفه بفيه مهشوما أو غير مهشوم ممضوغا أو غير ممضوغ مما يتأتى فيه الهشم والمضغ والشرب أيضا إيصال الشيء إلى جوفه بفيه مما لا يتأتى فيه الهشم والمضغ في حال اتصاله والذوق معرفة طعم الشيء بفيه من غير إدخال عينه في حلقه ألا ترى أن الصائم إذا ذاق شيئا لم يفطره والأكل والشرب مفطر له ومتى عقد يمينه على فعل فأتى بما هو دونه لم يحنث وإن أتى بما هو فوقه حنث لأنه أتى بالمحلوف عليه وزيادة وإن كان قال لا أذوق حنث لوجود الذوق حقيقة وإن لم يدخله حلقه إلا إذا تمضمض بماء فحينئذ لا يحنث لأن قصده التطهير لا معرفة طعم الماء فلم يكن ذلك ذوقا وإن عنى بالذوق الأكل في المأكول والشرب في المشروب لم يحنث ما لم يدخله في حلقه لأن المنوى من محتملات لفظه وفيه عرف ظاهر فإن الرجل يقول ما ذقت اليوم شيئا أي ما أكلت.
 وجاء في الحديث "
أنهم كانوا لا يتفرقون إلا عن ذوق" فإن نوى ذلك عملت نيته وإن لم تكن له نية فيمينه على حقيقة ذلك لأن ذلك متعارف أيضا إلا أنه روى هشام عن محمد رحمه الله تعالى أنه إذا تقدم ما يدل على أن مراده الأكل لا يحنث ما لم يأكل بأن قال تغد معي فحلف أن لا يذوق طعامه فيمينه على الأكل لأن ما تقدم دليل عليه وذلك فوق نيته.
وإن قال لا أذوق طعاما ولا شرابا فذاق أحدهما حنث لأنه كرر حرف النفي فتبين أن مراده نفي كل واحد منهما على الانفراد كما قال تعالى:
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} [الواقعة:25]  وكذلك لو قال لا آكل كذا ولا كذا أو لا أكلم فلانا ولا فلانا وكذلك إن أدخل حرف أو بينهما لأن في موضع النفي حرف أو بمعنى ولا قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان: من الآية24]  يعنى ولا كفورا فصار كل واحد منهما كأنه عقد عليه اليمين بانفراده بخلاف ما إذا ذكر حرف الواو بينهما ولم يعد حرف النفي لأن الواو للعطف فيصير في المعنى جامعا بينهما ولا يتم الحنث إلا بوجودهما
وإن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا طريا أو مالحا لم يحنث إلا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يحمل الأيمان على ألفاظ القرآن وقد قال الله تعالى:
{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} [النحل: من الآية14] 
وقد بينا بعد هذا.والدليل عليه أن من حلف لا يركب دابة فركب كافرا لا يحنث وقد قال
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [لأنفال: من الآية55] ثم معنى اللحمية ناقص في السمك لأن اللحم ما يتولد من الدم وليس في السمك دم ومطلق الاسم يتناول الكامل وكذلك من حيث العرف لا يستعمل السمك استعمال اللحم في اتخاذ الباحات منه وبائع السمك لا يسمى لحاما والعرف في اليمين معتبر إلا أن يكون نوى السمك فحينئذ تعمل نيته لأنه لحم من وجه وفيه تشديد عليه وهو نظير قوله كل امرأة له طالق لا تدخل المختلعة فيه إلا بالنية وكل مملوك له لا يدخل فيه المكاتب.

 

ج / 8 ص -147-       قال ألا ترى أنه إن أكل رئة أو كبدا لم يحنث وفي رواية أبي حفص رضي الله تعالى عنه أو طحالا وإن أكل لحم غنم أو طير مشوي أو مطبوخ أو قديد حنث لأن المأكول لحم مطلق ألا ترى أن معنى الغذاء تام فيه ويستوى في ذلك الحرام والحلال حتى لو أكل لحم خنزير أو إنسان حنث لأنه لا نقصان في معنى اللحمية فيه فإن كمال معنى اللحمية بتولده من الدم وما يحل وما يحرم من الحيوانات والطيور فيها دم.
قال:  "وكذلك لو أكل شيئا من الرءوس فإنما على الرأس لحم لا يقصد بأكله سوى أكل اللحم بخلاف ما لو حلف لا يشتري لحما فاشترى رأسا لم يحنث" لأن فعل الشراء لا يتم به بدون البائع وبائع الرأس يسمى رآسا لا لحاما فكذلك هو لا يسمى مشتريا للحم بشراء الرأس فأما الأكل يتم به وحده فيعتبر فيه حقيقة المأكول وكذلك إن أكل شيئا من البطون كالكرش والكبد والطحال. قيل هذا بناء على عادة أهل الكوفة فإنهم يبيعون ذلك مع اللحم فأما في البلاد التي لا يباع مع اللحم عادة لا يحنث بكل حال
وقيل بل يحنث بكل حال لأنه يستعمل استعمال اللحم لا تخاذ المرقة واللحم ما يتولد من الدم والكبد والطحال عينه دم فمعنى اللحمية فيها أظهر وكذلك إن أكل شحم الظهر فإنه لحم إلا أنه سمين ألا ترى أنه يباع مع اللحم وأنه يسمى سمين اللحم ولا يحنث في شحم البطن والألية لأنه ينفي عنه اسم اللحم ويقال أنه شحم وليس بلحم ولا يستعمل استعمال اللحم في اتخاذ الباحات والألية. كذلك فإنه ليس بلحم ولا شحم بل له اسم خاص وفيه مقصود لا يحصل بغيره إلا أن ينوى ذلك فحينئذ تعمل نيته لأنه من محتملات لفظه وفيه تشديد عليه. ولو حلف لا يأكل اداما ولا نية له فالإدام الخل والزيت واللبن والزبد وأشباه ذلك مما يصطبغ الخبز به ويختلط به. فأما الجبن والسمك والبيض واللحم فإنه ليس بأدام في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو الظاهر من قول أبي يوسف رحمه الله تعالى, وعلى قول محمد رحمه الله تعالى وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي. وروى هشام عنه أن الجوز اليابس إدام كالجبن.
وجه قول محمد رحمه الله تعالى أن الإدام ما يؤكل مع الخبز غالبا فإنه مشتق من المؤادمة وهو الموافقة قال
صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة :
"لو نظرت إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" أي يوفق فما يؤكل مع الخبز غالبا فهو موافق له فيكون إداما وقال صلى الله عليه وسلم: "سيد أدام أهل الجنة اللحم" وأخذ لقمة بيمينه وتمرة بشماله وقال "هذه إدام هذه" فعرفنا أن ما يوافق الخبز في الأكل فهو إدام إلا أنا خصصنا ما يؤكل غالبا وحده كالبطيخ والتمر والعنب لأن الإدام تبع فما يؤكل وحده غالبا لا يكون تبعا فأما الجبن والبيض واللحم لا يؤكل وحده غالبا فكان إداما. ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى قال الإدام تبع ولكن حقيقة التبعية فيما يختلط بالخبز ولا يحتاج إلى أن يحمل معه كالخل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعم الإدام الخل"  فما يصطبغ به فهو بهذه الصفة, فأما اللحم والجبن والبيض يحمل مع الخبز فلا يكون إداما وإن كان قد يؤكل معه كالعنب.

 

ج / 8 ص -148-       توضيحه أن الإدام ما لا يتأتى أكله وحده كالملح فإنه إدام والخل واللبن لا يتأتي فيه الأكل وحده لأن ذلك يكون شربا لا أكلا فعرفنا أنه إدام فأما اللحم والجبن والبيض يتأتى الأكل فيها وحدها فلم تكن إداما إلا أن ينوى ذلك فتعمل نيته لما فيه من التشديد عليه. ولو حلف لا يأكل طعاما ينوى طعاما بعينه أو حلف لا يأكل لحما ينوى لحما بعينه فأكل غير ذلك لم يحنث إلا أنه إذا كانت يمينه بالطلاق يدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام لأنه ذكر الطعام منكرا في موضع النفي والنكرة في موضع النفي تعم. وإن قال لا آكل وعني طعاما دون طعام لم يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى عندنا. وعند الشافعي رحمه الله تعالى هذا والأول سواء لأن الأكل يقتضى مأكولا فكأنه صرح بذكر الطعام وهو بناء على أصله أن الثابت بمقتضى اللفظ كالملفوظ
فأما عندنا لا عموم للمقتضى ونية التخصيص إنما تصح فيما له عموم دون ما لا عموم له فالأصل عندنا أنه متى ذكر الفعل ونوى التخصيص في المفعول أو الحال أو الصفة كانت نيته لغوا لأنه تخصيص ما لا لفظ له, أما نية التخصيص في المفعول كما بينا ونية التخصيص في الحال بأن يقول لا أكلم هذا الرجل وهو قائم بين يديه ونوى حال قيامه فنيته لغو بخلاف ما لو قال هذا الرجل القائم وهو ينوى حال قيامه فإن نيته تعمل فيما بينه وبين الله تعالى وتخصيص الصفة أن يقول لا أتزوج امرأة وهو ينوى كوفية أو بصرية فإن نيته لغو. ولو نوى عربية أو حبشية عملت نيته فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى التخصيص في الجنس وذلك في لفظه ولو حلف لا يأكل شواء ولا نية له فهو على اللحم خاصة ما لم ينو غيره لأن الناس يطلقون هذه اللفظة على اللحم عادة دون الفجل والجزر المشوى ألا ترى أن الشوا اسم لمن يبيع اللحم المشوي فمطلق لفظه ينصرف إليه للعرف إلا أن ينوى كل ما يشوى من بيض أو غيره فتعمل نيته لما فيه من التشديد عليه. "ولو حلف لا يأكل رأسا" قال:  "فهذا على رؤوس البقر والغنم" وهذا لأنا نعلم أنه لم يرد رأس كل شيء وإن رأس الجراد والعصفور لا يدخل في هذا وهو رأس حقيقة فإذا علمنا أنه لم يرد الحقيقة وجب اعتبار العرف وهو الرأس الذي يشوى في التنانير ويباع مشويا فكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم لأنه رأى عادة أهل الكوفة فإنهم يفعلون ذلك في هذه الرؤوس الثلاثة ثم تركوا هذه العادة فرجع وقال يحنث في رأس البقر والغنم خاصة.
ثم إن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى شاهدا عادة أهل بغداد وسائر البلدان أنهم لا يفعلون ذلك إلا في رأس الغنم خاصة فقالا لا يحنث إلا في رؤوس الغنم فعلم أن الاختلاف اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حكم وبيان والعرف الظاهر أصل في مسائل الأيمان, وإن حلف لا يأكل بيضا فهو على بيض الطير من الدجاج والأوز وغيرهما ولا يدخل بيض السمك ونحوه فيه إلا أن ينويه لأنا نعلم أنه لا يراد بهذا بيض كل شيء فإن بيض الدود لا يدخل فيه فإنما يحمل على ما يطلق عليه اسم البيض

 

ج / 8 ص -149-       ويؤكل عادة وهو كل بيض له قشر كبيض الدجاجة ونحوها وإن حلف لا يأكل طبيخا فهو على اللحم خاصة ما لم ينو غيره استحسانا.
وفي القياس يحنث في اللحم وغيره مما هو مطبوخ ولكن الأخذ بالقياس يفحش فإن المسهل من الدواء مطبوخ ونحن نعلم أنه لم يرد ذلك فحملناه على أخص الخصوص وهو اللحم لأنه هو الذي يطبخ في العادات الظاهرة فإن الطبيخ في العادة ما يتخذ من الألوان والباحات وهو الذي يسمى متخذ ذلك طباخا فأما من يطبخ الآجر لا يسمى طباخا, قالوا وإنما يحنث إذا أكل اللحم المطبوخ فأما المقلية اليابسة فلا وما طبخ بالماء إذا أكل المرقة مع الخبز يحنث وإن لم يأكل عين اللحم لأن أجزاء اللحم فيه ولأن تلك المرقة تسمي طبيخا. وإذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل عنبا أو رطبا أو رمانا لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويحنث في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن الفاكهة ما يؤكل على سبيل التفكه وهو التنعم وهذه الأشياء أكمل ما يكون من ذلك ومطلق الاسم يتناول الكامل وكذلك الفاكهة ما يقدم بين يدي الضيفان للتفكه به لا للشبع والرمان والرطب من أنفس ذلك كالتين. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذه الأشياء غير الفاكهة قال الله تعالى:
{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وقال الله تعالى: {وَقَضْبًا وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس: من الآية28-31] فتارة عطف الفاكهة على هذه الأشياء وتارة عطف هذه الأشياء على الفاكهة والشيء لا يعطف على نفسه مع أنه مذكور في موضع المنة ولا يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد في موضع المنة بلفظين ثم الاسم مشتق من التفكه وهو التنعم قال الله تعالى:  {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: من الآية31]  أي متنعمين وذلك معنى زائد على ما به القوام والبقاء والعنب والرطب يتعلق بهما القوام وقد يجتزى بهما في بعض المواضع والرمان كذلك في الأدوية فلا يتناولها مطلق اسم الفاكهة, ألا ترى أن يابس هذه الأشياء ليس من الفواكه فإن الزبيب والتمر قوت وحب الرمان من التوابل دون الفواكه وما يكون رطبه من الفواكه فيابسه من الفواكه أيضا كالتين والمشمش والخوخ وما لا يكون يابسه من الفواكه فرطبة لا يكون من الفواكه كالبطيخ فإنه يقدم مع الفواكه بين يدي الضيفان ولا يتناوله اسم الفاكهة وأما القثاء والفول والجزر ليس من الفواكه إنما هي من البقول والتوابل بعضها يوضع على المائدة مع البقل وبعضها يجعل في القدر مع التوابل. قال:  "ويدخل في الفاكهة اليابسة اللوز والجوز وأشباه ذلك" وقد بينا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يجعل الجوز اليابس من الإدام دون الفاكهة لأنه لا يتفكه به عادة إنما يأكل مع الخبز كالجبن أو يجعل مع التوابل في القدر ولكن في ظاهر الرواية يقول رطب الجوز من الفواكه فكذلك يابسه للأصل الذي بينا
وإن حلف لا يأكل طعاما فأكل خبزا أو فاكهة أو غير ذلك حنث ومراده أو غير ذلك مما يسمى طعاما عادة دون ماله طعم حقيقة فإن كل أحد يعلم أنه لا يريد السقمونيا بهذا اللفظ وله طعم عرفنا أن مراده ما يسمى في العادة طعاما ويؤكل على سبيل التطعم. ولو حلف ليأكلن هذا الطعام اليوم فأكله غيره في اليوم لم

 

ج / 8 ص -150-       يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. وقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه يحنث إذا غابت الشمس.
 والأصل فيه أن اليمين إذا كانت مؤقتة بوقت فانعقادها موجبا للبر في آخر ذلك اليوم إلا عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وجود ما حلف عليه ليس بشرط لانعقاد اليمين حتى إذا قال لأشربن الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء فيه تنعقد اليمين فكذلك هنا انعدام الطعام في آخر اليوم عنده لا يمنع انعقاد اليمين فإذا انعقدت وتحقق فوت شرط البر حنث فيها وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى انعدام ما حلف عليه يمنع انعقاد اليمين كما في مسألة الشرب فلا ينعقد اليمين هنا لما انعدم الطعام في آخر الوقت وهذا لأن شرط حنثه ترك أكل الطعام في آخر جزء من أجزاء اليوم ولا يتصور ذلك إذا لم يبق الطعام وقد بينا أن بدون توهم البر لا ينعقد اليمين وإن لم يكن وقت فيه وقتا حنث لأن اليمين انعقدت في الحال لتوهم البر فيها لكون الطعام قائما في الحال ثم فات شرط البر بأكل الغير إياه فيحنث.
قال:  "وكذلك إن مات الحالف قبل أن يأكله والطعام قائم بعينه" لأن شرط البر قد فات بموته وكذلك إن مضت المدة وهو حي والطعام قائم لأن شرط البر فعل الأكل في الوقت وقد تحقق فوته بمضي الوقت فحنث في يمينه. وعلى هذا لو حلف ليقضين حق فلان غدا فقضاه اليوم لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. ويحنث عند أبي يوسف رحمه الله تعالى كما جاء الغد لأن عنده كما جاء الغد انعقدت اليمين فإن عدم المحلوف عليه لا يمنع انعقاد اليمين عنده وإن حلف لا يأكل من طعام اشتراه فلان فأكل من طعام اشتراه فلان مع آخر حنث لأن ما اشتراه فلان من ذلك طعام وقد أكله فإن كل جزء من الطعام يسمى طعاما بخلاف ما لو حلف لا يسكن دارا اشتراها فلان فسكن دارا اشتراها فلان وآخر معه لأن نصف الدار لا يسمى دارا إلا أن يكون نوي في الطعام أن يشترى هو وحده فتعمل نيته لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام فإن شراء الطعام قد يكون وحده وقد يكون مع غيره وكذلك لو حلف لا يأكل من طعام يملكه فلان بخلاف ما لو حلف لا يلبس ثوبا لفلان أو ثوبا اشتراه فلان لأن اسم الثوب للكل وبعض الثوب ليس بثوب. ألا ترى أنه لو قال هذا الثوب لفلان وهو بينه وبين آخر كان كذبا ولو قال هذا الطعام لفلان وهو يعنى نصفه كان صدقا ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق شيئا فأكل خبزه حنث لأن عين الدقيق لا يؤكل عادة فتنصرف يمينه إلى ما يتخذ منه كما لو حلف لا يأكل من هذه النخلة.
واختلف مشايخنا فيما لو أكل عين الدقيق فمنهم من يقول يحنث لأنه أكل الدقيق حقيقة والعرف وإن اعتبر فالحقيقة لا تسقط به وهذا لأن عين الدقيق مأكول. والأصح أنه لا يحنث لأن هذه حقيقة مهجورة ولما انصرفت اليمين إلى ما يتخذ منه للعرف يسقط اعتبار الحقيقة كمن قال للأجنبية إن نكحتك فعبدي حر فزني بها لم يحنث لأنه لما انصرف إلى العقد لم يتناول حقيقة الوطء وإن كان عني أكل الدقيق بعينه لم يحنث بأكل الخبز لأنه نوى حقيقة

 

ج / 8 ص -151-       كلامه. ولو حلف لا يأكل من هذه الحنطة شيئا فإن نوى يأكلها حبا كما هو فأكل من خبزها أو سويقها لم يحنث لأن المنوى حقيقة كلامه فهو كالملفوظ. وإن لم يكن له نية فأكل من خبزها لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. ويحنث في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.
 قال في الكتاب يمينه على ما يصنع منها, وهذا إشارة إلى أن عندهما لو أكل من عينها لم يحنث ولكن ذكر في الجامع الصغير وإن أكل من خبزها يحنث عندهما أيضا فهذا يدل على أنه يحنث بتناول عين الحنطة عندهما وهو الصحيح.
وجه قولهما أن أكل الحنطة في العادة هكذا يكون فإنك تقول أكلنا أجود حنطة في الأرض تريد الخبز ويقال أهل بلدة كذا يأكلون الحنطة وأهل بلدة كذا يأكلون الشعير والمراد الخبز. إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يقول عين الحنطة مأكول عادة فإنها تقلى فتؤكل وتغلى فتؤكل ويتخذ منها الهريسة. ومن انعقدت يمينه على أكل عين مأكولة ينصرف يمينه إلى أكل عينه دون ما يتخذ منه كالعنب والرطب وهذا لأن لكلامه حقيقة مستعملة ومجازا متعارفا ولا يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز لأن المجاز مستعار والثوب الواحد في حالة واحدة لا يتصور أن يكون ملكا وعارية فإذا كانت الحقيقة مرادة هنا يتنحى المجاز وهما لا ينكر أن هذا الأصل ولكنهما يقولان إذا أكل الحنطة إنما يحنث باعتبار عموم المجاز لا باعتبار الحقيقة وقد بينا نظائره في وضع القدم وغيره.
قال:  "وإذا أكل من سويقها لم يحنث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وكذلك قول محمد أيضا" لأن الموجود في الحنطة لبها وهو ما يصير بالطحن دقيقا ومن أصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أن السويق جنس آخر غير الدقيق ولهذا جوزا بيع السويق بالدقيق متفاضلا فما تناول ليس من جنس ما كان موجودا في الحنطة التي عينها فلا يحنث. وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يمينه تناولت الحقيقة فلا يحنث بأكل السويق وإن حلف لا يأكل من هذا الطلع شيئا فأكل منه بعد ما صار بسرا لم يحنث لأن الطلع عينه ماكول ومتى عقد يمينه على أكل ما تؤكل عينه لا ينصرف يمينه إلى ما يكون منه ثم البسر ليس من جنس الطلع ألا ترى أن بيع البسر بالطلع يجوز كيف ما كان وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا البسر فأكل منه بعد ما صار رطبا لأن البسر عينه مأكول ولأن الرطب وإن كان من جنس البسر إلا أن الإنسان قد يمتنع من تناول البسر ولا يمتنع من تناول الرطب والأصل أنه متى عقد يمينه على عين بوصف يدعو ذلك الوصف إلى اليمين يتقيد اليمين ببقاء ذلك الوصف وينزل منزلة الاسم ولهذا لو حلف لا يأكل من هذا الرطب فأكله بعد ما صار تمرا لم يحنث لأن صفة الرطوبة داعية إلى اليمين فقد يمتنع الإنسان من تناول الرطب دون التمر وهذا بخلاف ما لو حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ يحنث لأن صفة الشباب ليست بداعية إلى اليمين وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا الحمل فأكله بعد ما كبر يحنث لأن الصفة المذكورة

 

ج / 8 ص -152-       ليست بداعية إلى اليمين ولو حلف لا يأكل من هذا السويق فشربه لم يحنث لأن الشرب غير الأكل فإن الله تعالى قال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: من الآية60]  والشيء لا يعطف على نفسه وقد بينا حد كل واحد من الفعلين. وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا اللبن فشربه أو حلف لا يشربه فأكله لم يحنث وأكل اللبن بأن يثرد فيه الخبز وشربه أن يشربه كما هو. ولو تناول شيئا مما يصنع منه كالجبن والأقط لم يحنث لأن عينه مأكول وقد عقد اليمين عليه. ألا ترى أنه لو حلف لا يذوق من هذا الخمر فذاقه بعد ما صار خلا لم يحنث. ولو حلف ليأكلن هذا السويق فأكله كله إلا حبة منه لم يحنث لأنه يسمى في العادة أكل ولأنه لا يتصور أكل كله على وجه لا يبقى حبة في الإناء وبين لهواته وأسنانه فتحمل يمينه على ما يتأتى فيه البر إذا كان ذلك متعارفا بين الناس. وعلى هذا لو حلف ليأكلن هذه الرمانة فأكلها كلها إلا حبة واحدة كان قد بر في يمينه لأن أكل الرمانة هكذا يكون فإنه لا يمكنه أن يأكلها على وجه لا يسقط منه حبة إلا أن ينوي ذلك فحينئذ قد شدد على نفسه بنية حقيقة كلامه. ولو مص ماءها ورمى بالحب لم يحنث سواء حلف على أكلها أو شربها لأن هذا ليس بأكل ولا شرب ولكنه مص.
وإن قال لامرأتيه أيتكما أكلت هذه الرمانة فهي طالق فأكلتا جميعا لم تطلقا لأن كلمة أي تتناول كل واحد من المخاطبين على الانفراد وشرط الطلاق أكل الواحدة جميع الرمانة ولم يوجد ذلك فلهذا لم تطلق واحدة منهما. وإن حلف لا يأكلن سمنا فأكل سويقا فدلت بسمن وأوسع حتى يستبين فيه طعمه ويرى مكانه حنث وكذلك كل شيء فيه سمن يوجد طعمه ويستبين فيه وإن كان لا يوجد طعمه ولا يرى مكانه لم يحنث لأنه عقد يمينه على أكل عين السمن فلا بد من قيام عينه عند الأكل ليحنث وقيام عين المأكول بذاته أو طعمه فإذا كان يرى مكانه ويستبين فيه طعمه فقد علمنا وجود شرط حنثه
زاد هشام في نوادره أن يكون بحال يمكن عصر السمن فأما إذا كان لا يرى مكانه ولا يستبين طعمه فيه فقد صار مستهلكا فيه. ولم يذكر في الكتاب ما إذا عقد اليمين على مائع فاختلط بمائع آخر من جنسه أو من غير جنسه. وذكر في النوادر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى إذا حلف لا يشرب لبنا فصب الماء في اللبن وشربه فإن كان اللون فيما شرب لون اللبن ويوجد طعمه وهو الغالب فيحنث به وإن كان اللون لون الماء فيه علمنا أن اللبن مغلوب مستهلك فلا يحنث به ألا ترى أنه يقال للأول لبن مغشوش وللثاني ماء خالطه لبن وهكذا ذكر في نسخ الأصل. وعن محمد رحمه الله تعالى أنه يعتبر الغلبة من حيث القلة والكثرة لأن القليل لا يظهر في مقابلة الكثير وإن كانا سواء لم يحنث في القياس للشك والتردد.
وفي الاستحسان هو حانث لأن ما حلف عليه لم يصر مغلوبا بما سواه. وإن حلف لا يشرب لبن هذه البقرة فخلطه بلبن بقرة أخرى فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى هذا والأول سواء لأن المغلوب في حكم المستهلك سواء كان الغالب من جنسه أو من خلاف جنسه. وعند محمد رحمه الله تعالى يحنث هنا على كل حال لأن الشيء يكثر بجنسه ولا يصير

 

ج / 8 ص -153-       مستهلكا به. ولو حلف لا يأكل هذه التمرة فاختلطت بتمر فأكل ذلك التمر كله حنث لأنه قد أكل تلك التمرة حقيقة فإنه يأكل تمرة تمرة وجهله بما حلف عليه لا يمنع حنثه وإن حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها شعير حبة حبة حنث لأنه قد أكل المحلوف عليه بيقين وهذا بخلاف ما سبق من السمن إذا كان لا يرى مكانه في السويق لأن هناك يأكل الكل جملة فما يأكله من السمن مستهلك إذا كان لا يرى مكانه وهنا إنما يأكل حبة حبة فإذا أكل حبة الشعير وحدها فقد وجد شرط الحنث حتى إذا كانت يمينه على الشراء لم يحنث لأنه يشتري الكل جملة ومشتري الحنطة لا يسمى مشتريا للشعير وإن كان فيها حبات الشعير لأن بائعها لا يسمى بائع الشعير. وإن حلف لا يأكل شحما فإن أكل شحم البطن فهو حانث وإن أكل لحما يخالطه شحم البطن فهو حانث. وإن أكل لحما يخالطه شحم يعني شحم الظهر لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وهو حانث في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
وذكر الطحاوي قول محمد مع قول أبي حنيفة.
وجه قول أبي يوسف رضوان الله عليهم أجمعين أن شحم الظهر شحم بذاته ويصلح لما يصلح له الشحم فكان كشحم البطن قال الله تعالى:
{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: من الآية146]  والمستثنى من جنس المستثنى منه هو الحقيقة. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا لحم عند الناس ألا ترى أنه لو حلف لا يأكل لحما يحنث بهذا وكذلك في العادة يقال في العربية سمين اللحم وبالفارسية فربهن.
 والدليل عليه أن يمينه لو كان على الشراء لم يحنث بهذا, إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يفرق بما ذكرنا أن الشراء لا يتم به وحده بخلاف الأكل ثم سمين اللحم يستعمل استعمال اللحوم في اتخاذ القلايا, والباحات كاستعمال الشحوم. وقد بينا أن الأيمان لا تنبني على ألفاظ القرآن وفي الآية استثناء الحوايا أيضا وما اختلط بعظم وأحد لا يقول أن مخ العظم يكون شحما. وإذا حلف لا يأكل بسرا فأكل بسرا مذنبا حنث, وكذلك لو حلف لا يأكل رطبا فأكل رطبا فيه بعض البسر فهو حانث لأنه أكل المحلوف عليه حقيقة وعرفا. ولو حلف لا يأكل رطبا فأكل بسرا مذنبا حنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يحنث في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى. وكذلك لو حلف لا يأكل بسرا فأكل رطبا وفيه شيء من البسر فهو على الخلاف أبو يوسف رحمه الله يقول المذنب لا يسمى رطبا وإنما يسمى بسرا حتى يحنث بأكله لو كانت يمينه على البسر فكيف يكون رطبا وبسرا في حالة واحدة. وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الجانب الذي أرطب منه رطب, ألا ترى أنه لو ميز ذلك وأكله وحده حنث في يمينه فكذلك إذا أكله مع غيره ولهذا يحنث لو كانت يمينه على أكل البسر لأن أحد الجانبين منه بسر وهذا ينبني على الأصل الذي بينا فإن الرطب والبسر جنس واحد, ومن اصل أبى يوسف رحمه الله تعالى أن المغلوب مستهلك بالغالب وإن كان الجنس واحدا. فأما عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى في الجنس الواحد لا يكون

 

ج / 8 ص -154-       الأقل مستهلكا بالأكثر فيعتبر كل واحد منهما على حدة وإن حلف لا يأكل من هذا العنب شيئا فأكل منه بعد ما صار زبيبا لم يحنث لأن الوصف المذكور داع إلى اليمين فقد يمتنع المرء من تناول العنب دون الزبيب وقد بينا نظيره في الرطب مع التمر ولأن الزبيب غير العنب. ألا ترى أن من غصب عنبا فجعله زبيبا انقطع حق صاحبه عنه ويمينه على عين مأكول فلا يتناول ما يتخذ منه ولو حلف لا يأكل جوزا فأكل منه رطبا أو يابسا حنث وكذلك اللوز والفستق والتين وأشباه ذلك لأن الاسم الذي عقد به اليمين حقيقة في الرطب واليابس منه فإنه بعد اليبس لا يتجدد للعين اسم آخر بخلاف الزبيب. وإن حلف لا يأكل شيئا من الحلو فأي شيء من الحلو أكله من خبيص أو عسل أو سكر أو ناطف حنث والحلو اسم لكل شيء حلو لا يكون من جنسه غير حلو وذلك موجود في هذه الأشياء وإن أكل عنبا أو بطيخا لم يحنث وإن كان حلوا لأن من جنسه حامض غير حلو خصوصا باوزجند. وإن حلف لا يأكل خبيصا فأكل منه يابسا أو رطبا حنث لأن الرطب واليابس خبيص حقيقة وعرفا. وإن حلف طائعا أو مكرها أن لا يأكل شيئا سماه فأكره حتى أكله حنث وهذا لأن الإكراه لا يعدم القصد ولا يمنع عقد اليمين عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد بيناه في الطلاق وبعد انعقاد اليمين شرط حنثه الأكل وذلك فعل محسوس ولا ينعدم بالإكراه. ألا ترى أنه لا يمنع حصول الشبع والرى به وكذلك إن أكله وهو مغمي عليه أو مجنون لأن شرط حنثه الأكل والجنون والإغماء لا يعدم فعل الأكل ووجوب الكفارة باليمين لا بالحنث وهو كان صحيحا عند اليمين فيحنث عند وجود الشرط وإن أوجر أو صب في حلقه مكرها وقد حلف لا يشربه لا يحنث لأنه عقد يمينه على فعل نفسه وهو ليس بفاعل بل هو مفعول به فلا يحنث ولكن لو شرب منه بعد هذا حنث لأن ما سبق غير معتبر في إيجاد شرط الحنث ولكن لا يرتفع اليمين به لأن ارتفاعها بوجود شرط الحنث وإن حلف لا يأكل طعاما سماه فمضغه حتى دخل جوفه من مائه ثم ألقاه لم يحنث لأنه ما وصل إلى جوفه عين الطعام ولا ما يتأتى فيه المضغ والهشم وقد بينا أن الأكل لا يتم إلا بهذا. وإن حلف لا يأكل تمرا فأكل قسبا لم يحنث لأن القسب يابس البسر ولو أكله رطبا لم يحنث فكذلك إذا أكله يابسا وكذلك إن أكل بسرا مطبوخا. وإن حلف لا يأكل حبا فأي حب أكل من سمسم أو غيره حنث لأن كل شيء يقع عليه اسم الحب مما يأكله الناس فهو داخل في يمينه باعتبار العادة إلا أن ينوى شيئا بعينه فيكون على ما نوى بينه وبين الله تعالى. وكل شيء يؤكل ويشرب كالسويق والعسل واللبن فإن عقد اليمين على أكله لم يحنث بشربه وإن عقد على شربه لم يحنث بأكله لأنهما فعلان مختلفان. وإن كان المحل واحدا وشرط حنثه الفعل دون المحل وإن حلف لا يأكل خبزا فأكل خبز حنطة أو شعير حنث لأنه خبز حقيقة وعرفا وإن أكل من خبز غيرهما لم يحنث إلا أن ينويه لأنه لا يسمي خبزا مطلقا ولا يؤكل ذلك عادة في عامة الأمصار, وإن أكل خبز قطايف لم يحنث إلا أن يكون نواه لأنه لا يسمي خبزا مطلقا وإنما يسمى قطايف, وإن نواه فالمنوي من محتملات لفظه

 

ج / 8 ص -155-       لأنه نوى خبزا مقيدا. وإن أكل خبز الأرز فإن كان من أهل بلد ذلك طعامهم كأهل طبرستان فهو حانث فأما في ديارنا لا يحنث لأن أكل خبز الأرز غير معتاد في ديارنا ولا يسمى خبزا مطلقا,
وإن حلف لا يأكل تمرا فأكل حيسا حنث لأن هذا هو التمر بعينه لم يغلب عليه غيره فإن الحيس تمر ينقع في اللبن حتى ينتفخ فيؤكل دخل رجل على رجل فدعاه إلى الغداء فحلف أن لا يتغدى ثم رجع إلى أهله فتغدى لم يحنث لأن يمينه إنما وقعت جوابا لكلامه ومعنى هذا أن مطلق الكلام يتقيد بما سبق فعلا أو قولا حتى لو قامت امرأته لتخرج فقال لها إن خرجت فأنت طالق كانت يمينه على تلك الخرجة فكذلك إذا دعاه إلى الغداء فقال إن تغديت معناه الغداء الذي دعوتني إليه. ولو صرح بذلك لم يحنث إذا رجع إلى أهله وتغدى ولا إذا تغدى عنده في يوم آخر فكذلك هنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

 باب اليمين في الشراب
قال:  رضي الله عنه "رجل حلف لا يشرب شرابا فأي شراب شربه من ماء أو غيره حنث في يمينه" لأن الشراب ما يتأتى فيه فعل الشرب وقد بينا حده والماء في ذلك كغيره فإنه شراب طهور قال الله تعالى" {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الانسان: من الآية21]  فيدخل في ذلك كل شراب تشتهيه الأنفس وإن عين شرابا بعينه دين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء لأنه نوي التخصيص في اللفظ العام وإن حلف لا يشرب نبيذا فأي نبيذ شربه حنث والنبيذ الزبيب أو التمر ينقع في الماء فتستخرج حلاوتها ثم يجعل شرابا مأخوذا من النبذ وهو الطرح قال الله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}[آل عمران: من الآية187]. فإن شرب سكرا أو فضيخا أو عصيرا لم يحنث لأنه ليس بنبيذ ولا يطلق عليه اسم النبيذ عادة ولكن هذا إذا كانت يمينه بالعربية أما بالفارسية اسم النبيذ يطلق على كل مسكر والأيمان تنبني على العرف في كل موضع ولو حلف لا يشرب ماء فشرب نبيذا لم يحنث لأنه غير الماء فإنه قد تغير بما غلب عليه من حلاوة الزبيب والتمر وإن طبخ فلا إشكال فيه أنه غير الماء, وإن حلف لا يشرب مع فلان شرابا فشربا في مجلس واحد من شراب واحد حنث وإن كان الإناء الذي يشربان منه مختلفا فإن شرب الحالف من شراب والآخر من شراب غيره وقد ضمهما مجلس واحد حنث لأن مراده الامتناع من منادمته وقد وجد ذلك إذا جمعهما مجلس واحد سواء كان الشراب واحدا أو مختلفا والإناء الذي يشربان فيه واحدا أو مختلفا لأن الشرب مع الغير هكذا يكون, ألا ترى أن الأمير مع ندمائه يشرب ثم إناؤه الذي يشرب منه غير إنائهم وربما يشرب الصرف ويمزج لهم إلا أن يكون نوى شرابا واحدا حين حلف فحينئذ قد نوى أكمل ما يكون من الشرب مع فلان ونيته لذلك صحيح. ولو حلف لا يأكل الطعام فأكل منه شيئا يسيرا حنث وكذلك لو حلف لا يشرب الماء لأن الاسم حقيقة للقليل والكثير والفعل يتحقق في القليل والكثير فإذا عنى الماء كله والطعام كله لم يحنث بهذا لأن الماء والطعام اسم جنس فإذا عني الكل فإنما نوى حقيقة كلامه فتعمل نيته فلا يحنث بهذا لأنه لا يستطيع أن يشرب الماء كله ولا أن يأكل

 

ج / 8 ص -156-       الطعام كله. ولو حلف لا يذوق شرابا وهو يعني لا يشرب النبيذ خاصة فأكله أكلا لم يحنث لأنه ذكر الشراب والشراب يشرب فنية الشرب فيما ذكر من الذوق صحيح وقد بينا أنه متى عقد يمينه على فعل الشرب لم يحنث بالأكل, وإن حلف لا يذوق لبنا ولا نية له فأكله أو شربه حنث لأنه قد ذاقه وزاد عليه, ولو حلف لا يشرب من دجلة فغرف منها بقدح وشربه لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلا أن يضع فاه على دجلة بعينها فيشرب وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يحنث لأن الشرب من دجلة هكذا يكون في العادة فإنه يقال أهل بلدة كذا يشربون من دجلة وإنما يراد بطريق الاغتراف في الأواني, ولكن أبو حنيفة يقول حقيقة الشرب من دجلة يكون بالكرع وهذه حقيقة مستعملة جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم نزل عندهم هل عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا وقد بينا أن الحقيقة إذا كانت مستعملة فاللفظ يحمل عليه دون المجاز والحقيقة مرادة فإنه لو كرع يحنث وهو حقيقة الشرب من دجلة لأن من للتبعيض فالحقيقة أن يضع فاه على بعض دجلة والحقيقة استعمال اللفظ في موضعه والمجاز استعماله في غير موضعه ولا يتصور أن يكون اللفظ الواحد مستعملا في موضعه معدولا به عن موضعه فهذا وما تقدم من مسألة الحنطة سواء وأن عندهما في الفصلين إنما يحنث لعموم المجاز.
قال:  "ألا ترى أنه لو حلف لا يشرب من هذا الجب فغرف منه بقدح فشرب فإنه يحنث" وهذا عندهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان ملآنا فيمينه على الكرع خاصة وإن لم يكن ملآنا فحينئذ الجواب كما قالا لأن الكرع لا يتأتى هنا كما لو حلف لا يشرب من هذا البئر وإن تكلف للكرع من البئر ففيه اختلاف المشايخ كما بيناه في مسألة الدقيق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.