المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 9 ص -3-
بسم الله الرحمن الرحيم
باب الكسوة
قال رضي الله عنه: وإذا حلف
لا يشتري ثوبا ولا نية له فاشترى كساء خز أو
طيلسانا أو فروا أو قباء أو غير ذلك مما يلبس
الناس حنث لأن اسم الثوب حقيقة لهذا وينطلق
عليه عرفا وإن اشترى مسحا أو بساطا لم يحنث
لأن اسم الثوب لا يطلق عليه عادة وإنما يطلق
على ملبوس بنى آدم وفي الأيمان للعادة عبرة
ولو اشترى قلنسوة لم يحنث لأنه ليس بثوب
فالثوب ما يستر العورة وتجوز الصلاة فيه وكذلك
لو اشترى خرقة لا تكون أي لا تبلغ نصف ثوب لأن
هذا لا يستر العورة ولا يتأدى به الكسوة في
الكفارة وإن اشترى أكثر من نصف الثوب حنث لأن
اسم الثوب ينطلق على أكثر الثوب ولأنه يستر
عورته وكذلك إن اشترى ثوبا صغيرا حنث ومراده
ما يكون إزارا أو سراويل يستر العورة وتجوز
الصلاة فيه وكذلك لو حلف لا يلبس ثوبا فلو سمي
ثوبا بعينه ولبس منه طائفة يكون أكثر من نصفه
حنث لأنه يسمى لابسا له ألا ترى أن الإنسان قد
يلبس الرداء وبعض جوانبه على الأرض وإن حلف لا
يلبس ثوبا بعينه فاتخذ منه جبة وحشاها ولبسها
حنث لأنه جعل شرط حنثه لبس العين وعقد اليمين
باسم الثوب والثوب باق بعد ما اتخذ منه الجبة
فإن لابس الجبة يسمى لابسا للثوب بخلاف ما لو
حلف على قميص لا يلبسه أبدا فجعل منه قباء
فلبسه لم يحنث لأنه عقد اليمين باسم القميص
ولا يبقى هذا الاسم بعد ما جعله قباء ألا ترى
أن لابس القباء لا يسمى لابسا للقميص وإن حلف
لا يلبس من غزل فلانة شيئا فلبس ثوبا من غزلها
حنث لأن لبس الغزل هكذا يكون في العادة وفي
القياس لا يحنث لأن الثوب غير الغزل ألا ترى
أن من غصب غزلا فنسجه كان الثوب له ولكنه ترك
هذا القياس للعرف فإن أحدا لا يلف الغزل على
نفسه هكذا ولو فعله لا يسمى لابسا ثوبا وإنما
يسمى لابسا للغزل وإن نوى الغزل بعينه قبل أن
ينسج لم يحنث إذا لبسه يعنى ثوبا لأنه نوى
حقيقة كلامه وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزل
فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل أخرى لم يحنث
لأن الذي من غزلها بعض الثوب ويستوي إن نسج
غزلهما مختلطا أو غزل كل واحدة منهما في جانب
على حدة وكذلك لو حلف لا يلبس ثوبا من نسج
فلان أو من شراء فلان وهذا إذا كان فلان ذلك
يباشر الشراء والنسج بيده فإن كان ممن لا يفعل
ذلك وإنما ينسج له غلمانه وأجراؤه فهو حانث
إذا لبس ثوبا نسجوه له لأن مقصود الحالف معتبر
في اليمين وإن حلف لا يلبس خزا فلبس ثوبا من
هذا الذي يسميه الناس الخز حنث وإن لم يكن
خالصا لأن مطلق الاسم منصرف إلى ما هو
المتعارف باعتبار أن العرف اصطلاح حادث طرأ
على أصل اللغة
ج / 9 ص -4-
وهو مقصود المتكلم عند الإطلاق وإن حلف لا
يلبس حريرا أو ابريسما فلبس ثوب خز سداه حرير
وابريسم لم يحنث لأن الثوب لا ينسب إلى سداه
وإنما ينسب إلى لحمته فإن اللحمة هي التي تظهر
دون السدا ألا ترى أن لبس الحرير حرام على
الذكور ثم لابأس بلبس العتابي والمصمت
وإن كان سداه حريرا لأن لحمته غزل ولو لبس
ثوبا لحمته ابر يسم أو حرير حنث عندنا بمنزلة
ما لو كان حريرا كله ألا ترى أنه لا يحل
للرجال لبسه والشافعي يعتبر اللون والبريق
فيقول إن كان الغالب عليه بريق الإبريسم ولينه
حنث وإلا فلا وأشار إلى الفرق بين هذا وبين
الخز ولا معنى للفرق سوى العرف فإن الناس
يسمونه ثوب الخز وإن لم تكن لحمته خزا ولا
يسمونه ثوب الحرير إلا أن يكون حريرا كله أو
يكون لحمته حريرا.
قال إلا أن يعني سدا الثوب أو
لحمته أو علمه فحينئذ يحنث إذا لبسه بتلك
الصفة لأنه شدد الأمر على نفسه بنيته وإن حلف
لا يلبس قطنا فلبس ثوب قطن حنث لأن القطن هكذا
يلبس وإن لبس قباء لبس بقطن ولكنه محشو بقطن
لم يحنث لأن القباء ينسب إلى الظهارة لا إلى
الحشو ولا يسمى في الناس لابسا للحشو وإنما
يسمى لابسا للقباء المحشو فلا يحنث لكون حشوه
قطنا إلا أن يعنيه وإن حلف لا يلبس كتانا فلبس
ثوبا من قطن وكتان حنث لأنه قد لبس الكتان
بخلاف ما لو كان حلف لا يلبس ثوب كتان لأنه
إذا سمى الثوب فشرط حنثه أن يكون جميعه كتانا
ولم يوجد وإذا سمي الكتان فشرط حنثه وهو لبس
الكتان قد وجد لأنه يقال هذا ثوب قطن وكتان
فإن القطن والكتان يستويان في إضافة الثوب
إليهما فلا يصير منسوبا إلى أحدهما دون الآخر
بخلاف الخز فإنه يغلب على الإبر يسم في نسبة
الثوب إليه وبخلاف الإبر يسم مع الغزل فإن
الإبر يسم يغلب على الغزل في نسبة الثوب إليه
حتى يسمى ملحما وإن كان سداه قطنا وإن حلف لا
يلبس هذا القطن فجعله ثوبا فلبسه حنث لأن
القطن هكذا يلبس.
والحاصل أنه بنى هذه المسائل على معاني كلام
الناس فلا يشكل على من يتأمل في كلام الناس
وإن حلف لا يلبس ثوبا قد سماه بعينه فاتزر به
أو ارتدى أو اشتمل به حنث والقميص وغيره فيه
سواء بخلاف ما لو قال لا ألبس قميصا فاتزر
بقميص أو ارتدى به فإنه لا يحنث في القياس في
الفصلين سواء ولكنه استحسن الفرق بينهما بناء
على الحرف الذي بينا أن الوصف في غير المعين
معتبر وفي المعين لا يعتبر إنما يصير معلوما
بوصفه ثم لبس القميص بصفة مخصوصة متعارف
والثابت بالعرف كالثابت بالنص وإذا لم يعين
القميص انصرفت يمينه إلى اللبس بالصفة
المعروفة فإذا اتزر به أو ارتدى به لم يحنث
ألا ترى أنه لو قال ما لبست اليوم قميصا كان
صدقا وأما في المعين لا يعتبر الوصف فعلى أي
وجه لبسه كان حانثا ألا ترى أنه لو قال ما
لبست هذا القميص وقد اتزر به كان كاذبا وإن
لبس قميصا ليس له كمان حنث في يمينه لأنه يسمى
قميصا وإن لم يكن له كم لأن القميص كالدرع وقد
يشتري الرجل لدرعه كمين فعرفنا أن القميص
والدرع ينسب إلى البدن فلا ينعدم الاسم بعدم
الكمين كالرجل يسمى رجلا وإن لم يكن له يدان
وإن حلف لا يلبس ثوبا فوضعه على عاتقه يريد به
الحمل لا يحنث لأنه
ج / 9 ص -5-
حامل حافظ لا مستعمل لابس ألا ترى أن الأمين
إذا فعل ذلك بالأمانة لم يضمن وإن نوى نوعا من
الثياب دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم
يدين في الحكم لأنه نوى التخصيص في اللفظ
العام
وإن حلف لا يلبس من ثوب فلان شيئا وهو ينوى ما
عنده فاشتري فلان ثيابا فلبس منها لم يحنث لأن
المنوى من محتملات لفظه فإنه عقد يمينه على
فعل في ملك مضاف إلى فلان ونوى حقيقة الإضافة
في الحال فتصح نيته ويجعل ما نوى كالملفوظ به
ولو حلف لا يكسو فلانا شيئا ولا نية له فكساه
قلنسوة أو خفين أو نعلين أو جوربين حنث لأن
الكسوة عبارة عن التمليك وما ملكه شيء فيتم
شرط حنثه بخلاف ما لو حلف لا يكسوه ثوبا فإن
الثوب ما يكون ساترا لبدنه وذلك لا يوجد في
الخف والقلنسوة ولهذا لا تتأدى بهما الكسوة في
الكفارة ولو حلف لا يكسوه ثوبا فأعطاه دراهم
فاشترى بها ثوبا لم يحنث لأنه ما كساه الثوب
وإنما وهب له الدراهم وأشار عليه بمشورة
والموهوب له بالخيار إن شاء اشترى بها ثوبا
وإن شاء غيره فلو أرسل إليه بثوب كسوة حنث
لأنه قد كساه فإن فعل رسوله كفعله فإن نوى أن
يعطيه من يده إلى يده لم يحنث لأنه نوى حقيقة
كلامه وإن حلف لا يلبس سلاحا فتقلد سيفا أو
تنكب قوسا أو ترسا لم يحنث لأنه لا يسمى في
الناس لابسا وإنما يسمى متقلدا للسيف أو حاملا
للسلاح أو معلقا له على نفسه ولو لبس درع حديد
حنث لأنه يسمى به لابسا للسلاح ولو حلف لا
يلبس درعا فلبس درع حديد أو درع امرأة حنث لأن
اسم الدرع تناولهما حقيقة وعادة فإن عني
أحدهما فقد نوى التخصيص في اللفظ العام وذلك
صحيح فلا يحنث إلا بلبس ما عني وإن حلف لا
يلبس شيئا فلبس درع حديد أو درع امرأة أو خفين
أو قلنسوة حنث في كل ذلك لأنه عقد يمينه على
فعل اللبس في محل هو شيء واسم الشيء يتناول
هذا كله وفعل اللبس يوجد في كلها فلهذا حنث
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب القضاء في اليمين
قال وإذا حلف ليعطين فلانا
ماله رأس الشهر أو عند الهلال ولا نية له فله
الليلة التي يهل فيها الهلال ويومها كلها لأن
الشهر جزء من الزمان يشتمل على الليل والنهار
ورأس كل شهر أوله فأول الليلة وأول اليوم من
الشهر يكون رأس الشهر ألا تري أن في العرف
يقال اليوم رأس الشهر وإنما أهل البارحة وعند
عبارة عن القرب وذكره في المعنى وذكر الرأس
سواء وإن حلف ليعطينه حقه صلاة الظهر فله وقت
الظهر كله لأن الصلاة تذكر بمعنى الوقت قال
عليه الصلاة والسلام "إن للصلاة أولا وآخرا"
والمراد الوقت ولأن الإعطاء إنما يكون في
الزمان لا في الصلاة فعرفنا أن مراده الوقت
وإن قال عند طلوع الشمس أو حين تطلع الشمس فهو
إلى أن تبيض لأن صاحب الشرع نهى عن الصلاة عند
طلوع الشمس ثم النهي يمتد إلى أن تبيض وإن
قال ضحوة فوقت الضحوة من حين تبيض الشمس إلى
أن تزول وإن قال مساء فالمساء مساءان أحدهما
بعد الزوال والآخر بعد غروب الشمس فأيهما نوى
صحت نيته وإن قال سحرا فوقت السحر مما بعد
ذهاب ثلثي الليل إلى طلوع الفجر الثاني فإن لم
ج / 9 ص -6-
يعطه حتى مضى الوقت الذي سماه حنث لفوات شرط
البر وإن قال يوم كذا فله ذلك اليوم كله فإذا
غابت الشمس قبل أن يعطيه حنث لأن اليوم من
طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ألا ترى أن
صوم اليوم يتأدى بوجود الإمساك في هذا القدر
وإن أعطاه قبل مجيء الوقت المسمى أو وهبه له
أو أبرأه منه ثم جاء الوقت وليس عليه شيء لم
يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى لما بينا أن اليمين المؤقتة إنما تنعقد
موجبا في آخر الوقت المسمى وعند ذلك لا حق له
عليه وفي مثله لا ينعقد اليمين عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف رحمه
الله تعالى ولو مات أحدهما قبل مضى الوقت لم
يحنث لأن شرط حنثه ترك فعل الأداء في آخر ذلك
الوقت إليه ولا يتحقق ذلك إذا مات أحدهما قبله
وكذلك لو قضى إلى وكيل الطالب بر لأن دفعه إلى
وكيل الطالب كدفعه إلى الطالب وإن حلف لا
يعطيه حتى يأذن له فلان فمات فلان قبل أن يأذن
له فأعطاه لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى ويحنث في قول أبي يوسف رحمه
الله لأنه عقد يمينه على فعل الإعطاء وجعل
لذلك غاية وهو إذن فلان فبموت فلان تفوت
الغاية وذلك يوجب صيرورة اليمين مطلقة
لإطلاقها وإذن فلان كان مانعا من الحنث
فبفواته يتحقق اتحاد شرط الحنث ولا ينعدم وهما
يقولان المعقود عليه حرمة الدفع إلى غاية وهو
إذن فلان وقد فات إذنه بموته فيفوت المعقود
عليه والعقد لا يبقي بعد فوات المعقود عليه
توضيحه أنها لو بقيت بقيت حرمة الدفع مطلقا لا
مؤقتا وهذا المطلق لم يكن ثابتا بيمينه فلا
يثبت من بعد ولأنه جعل شرط حنثه ترك الاستئذان
من فلان قبل الإعطاء وذلك لا يتحقق بعد موت
فلان فمن هذا الوجه يفوت شرط الحنث بموت فلان
وإن حلف ليقضين فلانا ماله وفلان قد مات وهو
لا يعلم به لم يكن عليه حنث في يمينه وإن كان
يعلم بموته حين حلف حنث وكذلك لو حلف ليضربنه
أو ليكلمنه أو ليقتلنه وهذا قول أبي حنيفة
ومحمد وقال أبو يوسف رضوان الله عليهم أجمعين
يحنث علم أو لم يعلم لأنه أضاف اليمين إلى
محلها فانعقدت ثم شرط البر فات منه وفوات شرط
البر يوجب الحنث كما لو كان عالما بموته أو
كان حيا فمات قبل أن يقتله وبيان الوصف أن محل
اليمين خبر في المستقبل سواء كان الحالف قادرا
عليه أو عاجزا عنه ألا ترى أنه لو قال والله
لأمسن السماء أو لأحولن هذا الحجر ذهبا انعقدت
يمينه لأنه عقدها على خبر في المستقبل وإن كان
هو عاجزا عن إيجاده فهذا مثله وأبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله قالا محل اليمين المعقودة
خبر فيه رجاء الصدق لأنها تعقد للحظر أو
للإيجاب أو لإظهار معنى الصدق وذلك لا يتحقق
فيما ليس فيه رجاء الصدق فلا تنعقد أصلا
كاليمين الغموس ثم إذا كان لا يعلم بموته
فمقصوده إزهاق روح موجودة فيه وقت اليمين ولا
تصور لهذا إذا كان ميتا وإذا كان يعلم بموته
فمقصوده أزهاق روح يحدثه الله تعالى فيه إذا
أحياه وذلك متوهم فانعقدت يمينه ثم حنث لوقوع
اليأس عما هو شرط البر ظاهرا وعلى هذا والله
لأشربن هذا الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء
في الكوز لا تنعقد يمينه في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه
ج / 9 ص -7-
عقد يمينه على خبر ليس فيه رجاء الصدق إلا أنه
لا فرق هنا بين أن يعلم أن الكوز لا ماء فيه
أو لا يعلم لأنه عقد اليمين على شرب الماء
الموجود في الكوز والله تعالى وإن أحدث في
الكوز ماء فليس هو الماء الذي كان موجودا في
الكوز وقت اليمين بخلاف مسألة القتل إذا كان
يعلم بموت فلان لأنه عقد يمينه على فعل القتل
في فلان فإذا أحياه الله تعالى فهو فلان فكان
ما عقد عليه اليمين متوهما ووزان هذا في مسألة
الكوز أن لو قال لأقتلن هذا الميت فإن يمينه
لا ينعقد لأنه لا تصور لما حلف عليه فإنه إذا
أحياه الله تعالى حتى يتحقق فيه فعل القتل لا
يكون ميتا وفي مسألة القتل رواية أبي يوسف عن
أبي حنيفة رحمهما الله تعالى على ضد ما ذكره
في الأصل أنه إذا كان لا يعلم بموته ينعقد
يمينه باعتبار ما يتوهمه بجعله كالموجود حقيقة
في حقه وإن كان يعلم بموته لا تنعقد يمينه
ولكن الأول أصح فأما إذا حلف ليمسن السماء فهو
آثم في هذه اليمين لأن المقصود باليمين تعظيم
المقسم به وإنما يحصل بيمينه هتك حرمة الإسم
باستعمال اليمين في هذا المحل ولكن عليه
الكفارة عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى
فإنه يعتبر لعقد اليمين أن يكون ما يحلف عليه
في وسعه إيجاده وذلك غير موجود هنا
ولكنا نقول انعقاد اليمين باعتبار توهم الصدق
في الخبر وذلك موجود فإن السماء عين ممسوس
والملائكة يصعدون السماء ولو أقدره الله تعالى
على صعود السماء يصعد وكذلك الحجر محل قابل
للتحول لوجوده فانعقدت يمينه ثم حنث في الحال
لعجزه عن إيجاد شرط البر ظاهرا وذلك كاف للحنث
ألا ترى أن في الفعل الذي يقدر عليه يحنث إذا
مات قبل أن يفعله لوجود العجز عن إيجاد شرط
البر ظاهرا ولا فائدة في انتظار الموت هنا لأن
ذلك العجز ثابت في الحال ولا يقال إعادة
الزمان الماضي في قدرة الله تعالى أيضا وقد
فعله لسليمان صلوات الله عليه فكان ينبغي أن
ينعقد اليمين الغموس بالطريق الذي قلتم وهذا
لأن هناك أخبر عن فعل قد وجد منه وذلك لا كون
له والله تعالى وإن أعاد الزمان الماضي لا
يصير الفعل موجودا من الحالف حتى يفعله وفي
مسألة مس السماء لو وقت يمينه لم يحنث ما لم
يمض ذلك الوقت لما بينا أن انعقاد اليمين
المؤقتة في آخر الوقت المسمي وعن أبي يوسف
رحمه الله تعالى أنه يحنث في الحال لأنه إنما
يتوقت انعقاد اليمين إذا كان ما حلف عليه في
وسعه إيجاده عند ذلك فأما إذا لم يكن في وسعه
إيجاده كان توقيته لغوا فيحنث في الحال وهكذا
على مذهبه في مسألة شرب الماء الذي في الكوز
إذا وقت يمينه فإن كان في الكوز ماء لم يحنث
إلا في آخر الوقت وإن لم يكن في الكوز ماء حنث
في الحال ولو حلف بطلاق امرأته ليأتين البصرة
فمات قبل ذلك طلقت عند الموت لأن بموته فات
شرط البر وهو إتيان البصرة ولا نقول أنه يحنث
بعد موته ولكنه كما أشرف على الموت وتحقق عجزه
عن إتيان البصرة حنث حتى إن كان لم يدخل بها
فلا ميراث لها ولا عدة عليها وإن كان قد دخل
بها فلها الميراث وعليها العدة وتعتد إلى أبعد
الأجلين بمنزلة امرأة الفأر فإن ماتت هي وهو
حي لم تطلق لأنه قادر على إتيان البصرة بعد
موتها فلم يتحقق شرط الحنث بموتها ولو حلف
بطلاق امرأته إن لم تأت البصرة هي فماتت
ج / 9 ص -8-
فلا ميراث للزوج لأنها لما أشرفت على الموت
فقد تحقق عجزها عن إتيان البصرة فتطلق ثلاثا
قبل موتها ولو مات الزوج كان لها الميراث
لأنها تقدر على إتيان البصرة بعد موته ولو حلف
بعتق كل مملوك له لا يكلم فلانا فإنما يتناول
هذا اللفظ الموجود في ملكه حين حلف فإن بقى في
ملكه إلى وقت الكلام عتق وإلا فلا فإن لم يكن
في ملكه حين حلف مملوك لم ينعقد يمينه.
ولو قال: إذا كلمت فلانا فكل
مملوك لي يوم أكلمه حر فهو كما قال إذا ملك
مملوكا ثم كلمه عتق وإن قال كل مملوك أشتريه
حر يوم أكلم فلانا فاشترى رقيقا ثم كلم فلانا
ثم اشترى آخرين عتق الذين اشتراهم قبل الكلام
ولم يعتق الذين اشتراهم بعد الكلام لأن قوله
كل مملوك أشتريه شرط وقوله فهو حر يوم أكلم
فلانا جزاء لما بينا أن الجزاء ما يتعقب حرف
الجزاء فإنما جعل الجزاء عتقا معلقا بالكلام
وهذا يتحقق في الذين اشتراهم قبل الكلام ولو
تناول كلامه الذين اشتراهم بعد الكلام لعتقوا
بنفس الشراء فلم يكن هذا هو الجزاء الذي علقه
بالشراء وإن حلف بعتق عبده إن لم يكلم فلانا
فمات الحالف عتق العبد من ثلثه لأن شرط حنثه
فوت الكلام في حياته وذلك يتحقق عند موته فكان
هذا بمنزلة العتق في المرض فيعتبر من ثلثه وإن
مات المحلوف عليه وبقي الحالف عتق العبد لفوات
شرط البر وهو الكلام مع فلان فإن الميت لا
يكلم فإن المقصود من الكلام الإفهام وذلك لا
يحصل بعد الموت وإن حلف لا يطلق امرأته فأمر
رجلا فطلقها أو جعل أمرها بيدها فطلقت نفسها
حنث لأن الموقع للطلاق هو الزوج ولكن بعبارة
الوكيل أو بعبارتها وحقوق العقد في الطلاق لا
تتعلق بالعاقد بل هو معبر عن الآمر فكأنه
طلقها بنفسه إلا أن يكون نوى أن يتكلم به
بلسانه فحينئذ يدين فيما بينه وبين الله تعالى
ولا يدين في القضاء لأنه نوى التخصيص ولأن
الظاهر أن مقصوده أن لا يفارقها ويحتمل أن
يكون مقصوده أن لا يتكلم بطلاقها ولكن القاضي
مأمور باتباع الظاهر والله تعالى مطلع على ما
في ضميره ولهذا لو خلعها وقال أنت بائن حنث
لأن ما منع نفسه منه وقصده بيمينه قد أتى به
ولو آلى منها فمضت المدة بانت وحنث في يمينه
في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن الإيلاء
طلاق مؤجل فعند مضى المدة يقع الطلاق ويكون
مضافا إلى الزوج وعند زفر رحمه الله تعالى لا
يحنث لأن الطلاق إنما وقع حكما باعتبار دفع
الضرر عنها فلا يكون شرط الحنث به موجودا وعلى
هذا لو كان الزوج عنينا ففرق القاضي بينهما
بعد مضى المدة لم يحنث في قول زفر رحمه الله
تعالى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى هنا
روايتان في إحداهما سوى بين هذا وبين الإيلاء
لأن القاضي نائب عن الزوج في الطلاق شرعا بعد
مضي المدة وفي الأخرى فرق بينهما فقال هنا لم
يوجد من الزوج معني يصير به مباشرا للطلاق
وذلك شرط حنثه والعتق قياس الطلاق لأن الحقوق
فيه تتعلق بمن وقع له دون من باشره فأما إذا
حلف لا يبيع ولا يشترى فأمر غيره ففعل ذلك لم
يحنث لأن حقوق العقد في البيع والشراء تتعلق
بالعاقد والعاقد لغيره بمنزلة العاقد لنفسه
فيما يرجع إلى حقوق
ج / 9 ص -9-
العقد فلا يصير الحالف بفعل الوكيل عاقدا إلا
أن يكون نوى أن لا يأمر غيره فحينئذ قد شدد
الأمر على نفسه بنيته وكذلك إن كان الحالف ممن
لا يباشر البيع والشراء بنفسه لأن اليمين
تتقيد بما عرف من مقصود الحالف وإن حلف لا
يتزوج امرأة فأمر غيره فزوجه حنث لأن حقوق
العقد في النكاح تتعلق بالآمر دون العاقد ولأن
الوكيل لا يضيف العقد إلى نفسه وإنما يضيف إلى
الموكل فكان بمنزلة الرسول وكذلك إن زوجه بغير
أمره فأجازه بالقول حنث لأن الإجازة في
الانتهاء كالإذن في الابتداء وعن محمد رحمه
الله تعالى أنه لا يحنث لأن في أصل العقد
العاقد ليسب معبر عنه إذا لم يكن مأمورا به من
جهته والإجازة ليست بعقد ألا ترى أن ما هو شرط
النكاح وهو الشهود لا يشترط عند الإجازة فلهذا
لا يحنث وفي الإجازة بالفعل اختلاف المشايخ.
قال رضي الله عنه: والأصح
عندي أنه لا يحنث لأن عقد النكاح يختص بالقول
حتى لا ينعقد بالفعل بحال ولا يمكن أن يجعل
المجيز بالفعل عاقدا حقيقة ولا حكما إنما يكون
راضيا وشرط حنثه العقد دون الرضا وإن قال كل
امرأة أتزوجها فهي طالق إن كلمت فلانا فتزوج
امرأة قبل الكلام وأخرى بعده تطلق التي تزوج
قبل الكلام خاصة لما بينا أن التزوج شرط
والطلاق جزاء معلق بالكلام وذلك يتحقق في التي
تزوجها قبل الكلام دون التي يتزوجها بعد
الكلام لأنها لو طلقت طلقت بنفس التزوج وذلك
لم يكن جزاء شرطه وفيه اختلاف زفر رحمه الله
تعالى وقد بيناه في الجامع وبينا هناك الفرق
بين ما إذا وقت يمينه فقال إلى ثلثين سنة وبين
ما إذا لم يوقت وبينما إذا قدم الشرط أو أخر
وقال إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها فهي
طالق فإنما تطلق بهذا اللفظ التي تزوجها بعد
الكلام وقت يمينه أو لم يوقت وإذا حلف لا يبيع
لرجل شيئا قد سماه بعينه فباعه لآخر طلبه إليه
لم يحنث وكذلك الشراء لأن معنى قوله لا أبيع
لفلان أي لأجل فلان وما باع لأجله حين أمره به
غيره وإنما باعه لأجل من أمر به بخلاف ما لو
قال لا أبيع ثوبا لفلان لأن معنى هذا الكلام
لا أبيع ثوبا هو مملوك لفلان وقد وجد ذلك وإن
أمره به غيره وإيضاح هذا الفرق في الجامع وإن
حلف لا يهب لفلان هبة فوهب ولم يقبل فلان أو
قبل ولم يقبض فهو حانث عندنا وقال زفر رحمه
الله تعالى لا يحنث لأن الهبة عقد تمليك
كالبيع وفي البيع لا يحنث ما لم يقبل المشتري
لأن الملك لا يحصل قبل قبوله فكذلك في الهبة
ولهذا قال زفر رحمه الله تعالى في البيع لو
باعه بيعا فاسدا لم يحنث حتى يقبضه المشتري
ولكنا نقول الهبة تبرع وذلك يتم في جانب
المتبرع بفعله لأنه إيجاب لا يقابله استيجاب
وذلك يتم بالموجب في حقه كالإقرار بخلاف البيع
فإنه معاوضة وإيجاب يقابله استيجاب والدليل
عليه العرف فإن الرجل يقول وهبت لفلان فرد على
هبتي وأهديت إليه فرد على هديتي وكذلك كل عقد
هو تبرع كالصدقة والقرض حتى لو حلف لا يقرض
فلانا شيئا فأقرضه ولم يقبل حنث إلا في رواية
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال في القرض لا
يحنث كما في البيع فإن القرض عقد ضمان فإنه
يوجب ضمان المثل على المستقرض وذلك لا
ج / 9 ص -10-
يحصل
إلا بقبضة وعلى هذه الرواية يفرق أبو يوسف
رحمه الله تعالى بين هذا وبين ما إذا حلف لا
يستقرض فإنه يحنث إذا طلب القرض من آخر وإن لم
يقرضه لأن السين في قوله استقرضت لمعنى السؤال
فإنما شرط حنثه طلب القرض وقد وجد بخلاف ما لو
حلف لا يقرض أو حلف لا يهب فأمر غيره حتى فعل
حنث وكذلك لو حلف لا يكسوه أو لا يحمله على
دابة لأن هذا من العقود التي لا تتعلق الحقوق
فيها بالعاقد ألا ترى أنه يقال كسا الأمير
فلانا وإنما أمر غيره به وإن حلف ليضر بن عبده
أو ليخيطن ثوبه أو ليبنين داره فأمر غيره ففعل
بر في يمينه لأنه هو الفاعل لذلك وإن أمر غيره
به فإن في العرف يقال ابني فلان دارا أو خاط
فلان ثوبا على معنى أنه أمر غيره به وإن لم
يكن هو بناء ولا خياطا إلا أن يكون عنى أن
يبنيه بيده فحينئذ المنوى حقيقة فعله وفيه
تشديد عليه وكذلك كل شيء يحسن فيه أن يقول
فعلته وقد فعل وكيله ولو حلف على حر ليضربنه
فأمر غيره فضربه لم يبر حتى يضربه بيده لأنه
لا ولاية له على الحر فلا يعتبر أمره فيه ألا
ترى أنه لا يثبت للضارب حل الضرب باعتبار أمرة
بخلاف العبد فإنه مملوك له عليه ولاية فأمر
غيره بضربه معتبر ألا ترى أن الضارب يستفيد به
حل الضرب ولأن العادة الظاهرة أن الإنسان
يترفع من ضرب عبده بيده وإنما يأمر به غيره
فعرفنا أن ذلك مقصوده ولا يوجد مثله في حق
الحر إلا أن يكون الحالف السلطان أو القاضي
فحينئذ يبر إذا أمر غيره بضربه لأنه لا يباشر
الضرب بنفسه عادة وضرب الغير بأمره يضاف إليه
فيقال الأمير اليوم ضرب فلانا وضرب القاضي
فلانا الحد إلا أن ينوي أن يضربه بيده فحينئذ
نوى حقيقة كلامه فتعمل نيته ويدين في القضاء
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب اليمين في الخدمة
قال
رضي الله تعالى عنه: وإذا حلف الرجل لا يستخدم خادما قد كانت تخدمه
قبل ذلك ولا نية له فجعلت الخادم تخدمه من غير
أن يأمرها حنث لأنه يستخدمها باستدامة ملكه
فيها فإنه إنما اشتراها للخدمة فما دام
مستديما للملك فيها فهو دليل استخدامها ولأنها
كانت تخدمه قبل اليمين باستخدام كان منه فإذا
جعلت تخدمه على حالها ولم ينهها فهو مستخدم
لها بما سبق منه حتى لو نهاها ثم خدمته لم
يحنث لأنه بالنهى قد انقطع حكم الاستخدام
السابق ولأن إدامة الملك دليل الاستخدام ولا
معتبر بالفعل بعد التصريح بخلافه ولو حلف على
خادم لا يملكها أن لا يستخدمها فخدمته بغير
أمره لم يحنث لانعدام الاستخدام صريحا ودلالة
فإنه ليس بمالك ليكون طالبا خدمتها باستدامة
ذلك الملك أو ليجعل الاستخدام السابق باعتباره
قائما وإن كان حلف أن لا تخدمه حنث لأنه عقد
اليمين على فعل الخادم وقد تحقق منه ذلك سواء
كان بأمره أو بغير أمره بخلاف الأول فإنه عقد
اليمين على فعل نفسه لأن الاستخدام طلب الخدمة
وكل شيء من عمل بيته فإنه خدمته لأن الإنسان
إنما يتخذ الخادم لذلك وكذلك لو سألها وضوء أو
شرابا أو أشار أو أومأ إليها بذلك فقد
استخدمها لأن الاستخدام بالإيماء والإشارة
ظاهر ممن ترفع عن أن يخاطب خدمه بالكلام وكذلك
لو
ج / 9 ص -11-
حلف أن
لا يستعين بها فأشار إليها بشيء من ذلك حنث إن
أعانته أو لم تعنه لأن الاستعانة طلب الإعانة
وقد تحقق منه إلا أن يكون نوى أن تفعله فلا
يحنث حينئذ حتى تعينه لأن المقصود هو الإعانة
دون الاستعانة فإذا ذكر السبب وعنى به ما هو
المقصود عملت نيته فإذا حلف لا يخدمه خادم
فلان فجلس على مائدة مع قوم يطعمون وذلك
الخادم يقوم في طعامهم وشرابهم حنث لأنه قد
خدم كل واحد منهم فوجد به شرط الحنث في حق
الحالف بدليل حديث أنس رضي الله عنه كن جواري
عمر رضي الله عنه يخدمن الضيفان كاشفات الرؤس
مضطربات الثدي وإن كان حلف أن لا يستخدمها لم
يحنث لأنه عقد اليمين على فعل نفسه ولم يوجد
منه حقيقة ولا حكما لأنها غير مملوكة له وسواء
في ذلك إذا استخدم غلاما أو جارية صغيرا كان
أو كبيرا لأن اسم الخادم يتناولهما والاستخدام
يتحقق منهما وهو متعارف أيضا فلهذا حنث في ذلك
كله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه
المرجع والمآب.
باب اليمين في الركوب
قال رضي الله عنه: وإذا حلف
لا يركب دابة فركب حمارا أو فرسا أو برذونا أو
بغلا حنث وكذلك إن ركب غيرها من الدواب
كالبعير والفيل لأن اسم الدابة يتناوله حقيقة
وعرفا فإن الدابة ما يدب على الأرض قال تعالى:
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ}
[هود: 6] الآية وفي الاستحسان لا يحنث لعلمنا أنه لم يرد التعميم في
كل ما يدب على الأرض وقد وقع يمينه على فعل
الركوب فيتناول ما يركب من الدواب في غالب
البلدان وهو الخيل والبغال والحمير وقد تأيد
ذلك بقوله تعالى:
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وإنما ذكر الركوب في هذه الأنواع الثلاثة فأما في
الأنعام ذكر منفعة الأكل بقوله
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل:5] وبأن كان يركب الفيل والبعير في بعض الأوقات فذلك لا يدل
على أن اليمين يتناوله ألا ترى أن البقر
والجاموس يركب في بعض المواضع ثم لا يفهم أحد
من قول القائل فلان ركب دابة البقر إلا أن
ينوي جميع ذلك فيكون على ما نوي لأنه نوي
حقيقة كلامه وفيه تشديد عليه وإن عني الخيل
وحده لم يدين في الحكم لأنه نوى التخصيص في
اللفظ العام وإن قال لا أركب وعنى الخيل وحدها
لم يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله
تعالى لأن في لفظه فعل الركوب والخيل ليس
بمذكور ونية التخصيص تصح في الملفوظ دون ما لا
لفظ له وإن حلف لا يركب فرسا فركب برذونا لم
يحنث وكذلك إن حلف لا يركب برذونا فركب فرسا
لم يحنث لأن البرذون فرس العجم والفرس اسم
العربي فهو كما لو حلف لا يكلم عربيا فكلم
عجميا أو على عكس هذا لم يحنث وإن حلف لا يركب
شيئا من الخيل فركب فرسا أو برذونا حنث لأن
اسم الخيل يجمع الكل قال الله تعالى
{وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ} [ الأنفال:60] الآية وقال صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" ولهذا يستحق الغازي السهم بالبرذون والفرس جميعا وإن حلف لا يركب
دابة فحمل عليها مكرها لم يحنث لأنه عقد يمينه
على فعله في الركوب وهو ما ركبها بل حمل عليها
مكرها ألا ترى أن
ج / 9 ص -12-
الحمل
يتحقق فيما يستحيل نسبة الفعل إليه كالجمادات
وإن ركب دابة عريانا أو بسرج أو إكاف حنث لأنه
ركبها والركوب بهذه الأوصاف معتاد وإن حلف لا
يركب دابة لفلان فركب دابة لعبده ولا دين عليه
لم يحنث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله تعالى إلا أن ينويها وفي قول محمد رحمه
الله تعالى هو حانث لأنه عقد يمينه على دابة
هي مملوكة لفلان فإن اللام دليل على الملك
وكسب العبد مملوك لمولاه فيكون حانثا به
وكونها في يد عبده ككونها في يد أجيره وهما
يقولان عقد يمينه على دابة هي منسوبة إلى فلان
وهذه منسوبة إلى العبد حقيقة من حيث أنه
اكتسبها وعرفا من حيث أنه يقال دابة عبد فلان
وشرعا فأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من
باع عبدا وله مال.." فقد أضاف
المال إلى العبد فلا يحنث به إلا أن ينويه وهو
نظير ما تقدم في قوله لا أدخل دارا لفلان أن
المعتبر هو النسبة بالسكنى دون الملك فهذا
مثله ثم على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن
كان على العبد دين يحيط بكسبه وبرقبته لم يحنث
وإن نواها لأن من أصله أن المولى لا يملك كسب
عبده المديون بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين
فإن هناك إذا نواها يحنث لأنه نوى إضافة الملك
وهو مملوك له
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى سواء كان عليه
دين أو لم يكن عليه دين فإن نواها يحنث لأن
عنده استغراق كسب العبد بالدين لا يمنع ملك
المولى وعند محمد يحنث على كل حال لأن المعتبر
عنده إضافة الملك واستغراق كسب العبد بالدين
يمنع ملك المولى وإن ركب دابة لمكاتب فلان لم
يحنث وكذلك الدار والثوب لأنه إن اعتبر إضافة
الملك فكسب المكاتب غير مملوك ما بقى مكاتبا
وإن اعتبر إضافة النسبة فهي منسوبة إلى
المكاتب دون المولى وإن حلف لا يركب مركبا ولا
نية له فركب سفينة أو محملا أو دابة حنث لأنه
ذكر المركب هنا وكل هذا مركب والمركب ما يركب
ومن حيث العرف تسمى السفينة مركبا وكذلك شرعا
قال الله تعالى:
{يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:42] وقال:
{ارْكَبُوا فِيهَا} [هود: 41] وإن حلف لا يركب بهذا السرج فزاد فيه شيئا أو نقص منه
حنث لأنه ذلك السرج الذي عينه وقد ركب به
والنقصان والزيادة في شيء لا يبدل أصله ولو
بدل السرج نفسه وترك اللبد والصفة لم يحنث لأن
اسم السرج للحنا أصل واللبد والصفة وصف فيه
والمعتبر هو الأصل دون الوصف وهذا لأن الذي
يدعوه إلى اليمين ضيق السرج وسعته وذلك يتبدل
بتبدل الحنا دون اللبد والصفة وإذا حلف بالله
ماله مال وله دين على مفلس أو على ملى وليس له
غيره لم يحنث لأن الدين ليس بمال حقيقة فالمال
ما يتمول وتمول ما في الذمة لا يتحقق والمال
ما يتوصل به إلى قضاء الحوائج وما في الذمة
باعتبار عينه غير صالح لذلك بل باعتبار ما له
وهو بالقبض والمقبوض عين وكذلك إن كان رجل قد
غصبه مالا فاستهلكه وأقر به أو جحده وهو قائم
بعينه لم يحنث أما إذا استهلكه فقد صار دينا
في ذمته وأما إذا كان قائما بعينه إذا كان
جاحدا له فهو تاو في حق الحالف ألا ترى أنه لا
يلزمه الزكاة باعتباره ولا يحرم عليه الصدقة
باعتباره والتأوى لا يمكن تموله فلا يعد ذلك
مالا له ولو كانت له وديعة عند إنسان حنث لأن
الوديعة عين ماله ويد مودعه كيده ألا ترى أنه
ج / 9 ص -13-
يتمكن
من استردادها متى شاء وأنه تنفذ تصرفاته فيها
مطلقا ولم يذكر المغصوب إذا كان قائما بعينه
والغاصب مقر به قيل هنا يحنث لأنه متمكن من
استردادها بقوة السلطان لما كان الغاصب مقرا
به وتصرفه فيه ينفذ فهو كالوديعة وقيل لا يحنث
لأن الغاصب إذا كان قاهرا فالظاهر أنه لا
يتمكن من الاسترداد عنه وإن كان مقرا وفي
العرف إذا صودر رجل يقال له قد افتقر ولم يبق
له مال وإن كان من صادره مقرا وفي باب الأيمان
العرف معتبر وإن كانت عنده فضة أو ذهب قليل أو
كثير حنث لأن النقد مال على كل حال ألا ترى أن
زكاة المال تجب في النقود باعتبار العين إلا
أن اعتبار النصاب هناك لإثبات صفة الغني
للمالك بها أما هنا اسم المال يتناول القليل
والكثير وكذلك مال التجارة والسائمة كان ذلك
مالا حقيقة وشرعا حتى تجب الزكاة فيها وإن نوى
الفضة والذهب خاصة لم يدين في القضاء لأنه نوى
التخصيص في اللفظ العام وإن كان له عروض أو
حيوان غير السائمة لم يحنث وفي القياس يحنث
لأن ذلك مال ألا ترى أن الوصية تتناول ذلك كله
ولكنه استحسن فقال ليس ذلك بمال شرعا وعرفا
حتى لا تجب الزكاة فيها ولا يعد صاحبها متمولا
بها والأيمان مبنية على العرف والعادة وإن لم
يكن له مال وكان له عبد له مال لم يحنث في قول
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ويحنث
في قول محمد رحمه الله تعالى وهذا ومسألة
الدابة سواء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
وإليه المرجع والمآب.
باب الوقت في اليمين
قال رضي الله عنه: وإذا حلف الرجل ليعطين فلانا حقه إذا صلى الأولى فله
وقت الظهر إلى آخره لأن المراد بذكر الصلاة
الوقت والأولى هي الظهر في لسان الناس فلا
يحنث ما لم يخرج وقت الظهر قبل أن يعطيه وإن
حلف ليعطيه كل شهر درهما ولا نية له وقد حلف
في أول الشهر فهذا الشهر يدخل في يمينه وينبغي
أن يعطيه فيه درهما قبل أن يخرج وكذلك لو حلف
في آخر الشهر ألا ترى أنه لو حلف ليعطينه في
الشهر كان عليه أن يعطيه قبل أن يهل الهلال
سواء كان في أول الشهر أو آخره وكذلك لو قال
في كل شهر لأن الشهر الذي فيه أقرب الشهور
إليه ألا ترى أنه لو قال في كل يوم كان اليوم
الذي حلف فيه داخلا في الجملة فكذلك إذا قال
في كل شهر وكذلك لو كان المال عليه نجوما عند
انسلاخ كل شهر فحلف ليعطينه النجوم في كل شهر
كان له ذلك الشهر الذي حل فيه النجم فمتى
أعطاه في آخر ذلك الشهر فقد بر لأنه جعل شرط
البر إعطاء كل نجم بعد حلوله في الشهر والشهر
اسم لجزء من الزمان من حين يهل الهلال إلى أن
يهل الهلال فإذا أعطاه في ذلك أو في آخره فقد
تم شرط بره ولو حلف ليعطينه عاجلا ولا نية له
فالعاجل قبل أن يمضي الشهر لأن الآجال في
العادة تقدر بالشهور وأدنى ذلك شهر فما دونه
في حكم العاجل وكذلك لو حلف لا يكلم فلانا
عاجلا فإن كان يعنى شيئا فهو على ما نوى وإن
لم يكن له نية فإذا كلمه بعد شهر لم يحنث
وكذلك إذا قال مليا فالمراد به البعيد قال
تعالى:
{وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً}
[مريم: 46] وإن كان يعني
ج / 9 ص -14-
شيئا
فهو على ما نوى وإلا كان على الشهر فصاعدا لأن
البعيد والأجل سواء وإن حلف ليعطينه في أول
الشهر الداخل فيه فله أن يعطيه قبل أن يمضى
منه نصفه وإن مضى منه نصفه قبل أن يعطيه حنث
لأن للشهر أولا وآخرا فأوله عند الإطلاق
يتناول النصف الأول والآخر منه يتناول النصف
الآخر
وعلى هذا روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه
لو قال والله لا أكلمه آخر يوم من أول الشهر
وأول يوم من آخر الشهر أن يمينه يتناول الخامس
عشر والسادس عشر وإن حلف لا يعطيه ماله عليه
حينا فأعطاه قبل ستة أشهر حنث لأن الحين قد
يذكر بمعنى الساعة قال الله تعالى:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ
تُصْبِحُونَ} [الروم:17] والمراد وقت الصلاة ويذكر بمعني أربعين سنة قال الله
تعالى
{هَلْ أَتَى
عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}
[ الإنسان: 1]ويذكر بمعنى ستة أشهر كما نقل عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تأويل قوله
تعالى:
{تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}
[إبراهيم: 25] أنه ستة أشهر من حين يخرج الطلع
إلى أن يدرك التمر فعند الإطلاق يحمل على
الوسط من ذلك فإن خير الأمور أوسطها ولأنا
نعلم أنه لم يرد به الساعة فإنه إذا قصد
المماطلة ساعة واحدة لا يحلف على ذلك ويعلم
أنه لم يرد أربعين سنة فإنه إذا أراد ذلك يقول
أبدا فعرفنا أن المراد ستة أشهر والزمان في
هذا كالحين لأنهما يستعملان استعمالا واحدا
فإن الرجل يقول لغيره لم ألقك منذ حين لم ألقك
منذ زمان ويستوي إن كان ذكره معرفا بالألف
واللام أو منكرا لأن ستة أشهر لما صار معهودا
في الحين والزمان فالمعرف ينصرف إلى المعهود
وكذلك الدهر في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا
أدري مالدهر من أصحابنا من يقول هذا الاختلاف
فيما إذا ذكره منكرا وقال دهرا فأما إذا ذكره
معرفا فذلك على جميع العمر قال الله تعالى
{حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] فقد جعل الحين من الدهر جزء فيبعدان يسوى بينهما في
التقدير ومنهم من قال إن الخلاف في الكل واحد
وهما يقولان الدهر في العرف يستعمل استعمال
الحين والزمان فإن الرجل يقول لغيره لم ألقك
منذ دهر لم ألقك منذ حين وفي ألفاظ اليمين
المعتبر هو العرف وأبو حنيفة رحمه الله تعالى
يقول قد علمت بالنص أن الحين بعض الدهر ولم
أجد في تقدير الدهر شيئا نصا ونصب المقادير
بالرأي لا يكون وإنما يعتبر العرف فيما لم يرد
نص بخلافه فلهذا توقف ولا عيب عليه في ذلك ألا
ترى أن بن عمر رضي الله عنه لما سئل عن شيء
فقال لا أدري حين لم يحضره جواب ثم قال طوبي
لابن عمر سئل عما لا يدري فقال لا أدري وقيل
إنما قال لا أدري لأنه حفظ لسانه عن الكلام في
معني الدهر فقد جاء في الحديث عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسبوا الدهر
فإن الله هو الدهر" معناه أنه خالق الدهر وفي حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام
قال فيما يؤثر عن ربه
استقرضت من عبدي فأبي أن يقرضني وهو يسبني ولا
يدري فسب الدهر ويقول وادهراه وإنما أنا الدهر حديث فيه طول فلهذه الآثار الظاهرة حفظ لسانه وقال لا أدري ما
الدهر وهو كما روي أن النبي عليه الصلاة
والسلام سئل عن خير البقاع فقال "لا أدري حتى
ج / 9 ص -15-
أسأل
جبريل فسأل
جبريل فقال لا أدري حتى أسأل ربي فصعد إلى
السماء ثم نزل وقال سألت ربي عن ذلك فقال خير
البقاع المساجد وخير أهلها من يكون أول الناس
دخولا وآخرهم خروجا" فعرفنا أن التوقف في مثل هذا يكون من الكمال لا من النقصان وإن حلف
لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيام في قول أبي
حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد رضوان الله
عليهم أجمعين على سبعة أيام لأن الألف واللام
للمعهود فيما فيه معهود والمعهود في الأيام
السبعة التي تدور عليها الشهور والسنين كلما
دارت عادت وفي الشهور اثني عشر شهرا وليس في
السنين معهود فيستغرق العمر وأبو حنيفة رحمه
الله تعالى يقول الألف واللام للكثرة فكأنه
قال أياما كثيرة وأكثر ما يتناوله اسم الأيام
مقرونا بالعدد العشرة لأنه يقال بعده أحد عشر
يوما وكذلك في الشهور والسنين فينصرف يمينه
إلى العشرة مما سمي وإن قال أياما ولا نية له
على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو
على ثلاثة أيام لأنه ذكر لفظ الجمع وأدني ما
يطلق عليه اسم الجمع المتفق عليه ثلاثة وكذلك
قول أبي حنيفة على ما ذكره في الجامع الكبير
وهو الصحيح وذكر هنا أن على قوله يكون على
عشرة أيام سواء قال أياما أو قال الأيام وأكثر
مشايخنا على أن هذا غلط والصحيح ما ذكره في
الجامع وقد بيناه ثمة وإن حلف ليعطينه غدا في
أول النهار فإذا أعطاه قبل أن ينتصف النهار بر
لما بينا أن للنهار أولا وآخرا كما للشهر وإن
حلف ليعطينه مع حل المال أو عند حله أو حين
يحل المال أو حيث يحل ولا نية له فهذا يعطيه
ساعة يحل فإن أخره أكثر من ذلك حنث لأن مع
للضم وعند للقرب وحين في مثل هذا الموضع يراد
به الساعة عادة فكأنه حلف ليعطينه ساعة يحل
فإذا أخره من ذلك حنث وإن حلف لا يضرب عبده
فوجأه أو خنقه أو قرصه أو مد شعره أو عضه حنث
لأن الضرب فعل موجع على قصد الاستخفاف أو
التأديب وهذا كله موجع موصل الألم إلى قلبه
فكان ضربا وكذلك من حيث العادة القاصد إلى ضرب
عبده إنما يقصد ما يقدر عليه من هذه الأفعال
ويسمى فعله ضربا ومن يعاينه يفعل ذلك يسميه
ضاربا عبده ولو حلف ليضربنه مائة سوط فضربه
مائة سوط وخفف بر لأن شرط بره أصل الضرب دون
نهايته والخفيف كالضرب الشديد ومطلق الاسم لا
يتناول نهاية الشيء وإن جمعها جماعة ثم ضربه
بها لم يبر لأنه إنما يكون ضاربا له بما يصل
إلى بدنه والواصل إلى بدنه بعض السياط حين جمع
الكل جمعا فلهذا لا يبر ولو ضربه بسوط واحد له
شعبتان خمسين ووقعت عليه الشعبتان بر لأن كل
شعبة سوط واقع على بدنه ضربا فيصير بكل إيقاع
ضاربا له سوطين فإذا ضربه خمسين فقد ضربه مائة
سوط وهو شرط بره ألا ترى أن الإمام يصير مقيما
حد الزنى بهذا المقدار فكذلك الحالف والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع
والمآب.
باب البشارة
قال رضي الله عنه: وإذا قال
أي غلماني بشرني بكذا فهو حر فبشره بذلك واحد
ثم آخر عنق الأول دون الثاني لأن الأول بشير
والآخر مخبر فإن البشير من يخبره بما غاب عنه
علمه
ج / 9 ص -16-
فتتغير
عند سماعه بشرة وجهه وإنما وجد هذا من الأول
دون الثاني وإن بشروه معا عتقوا لأن كل واحد
منهم أخبره بما غاب عنه علمه فالعلم بالمخبر
به يتعقب الخبر ولا يقترن به.
والدليل على أن البشارة تتحقق من الجماعة قوله
تعالى
{وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] ولو بعث أحد غلمانه مع رجل بالبشارة فقال إن غلامك
يبشرك بكذا عتق لأن عبارة الرسول كعبارة
المرسل فالبشير هو المرسل والرسول مبلغ قال
الله تعالى
{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
اسْمُهُ الْمَسِيحُ} [آل عمران: 39] وإنما سمعت من رسل الله صلوات الله عليهم وهم
الملائكة ثم كان بشارة من الله تعالى لها
وكذلك لو كتب به إليه كتابا لأن البيان
بالكتاب كالبيان باللسان فإن قال نويت
المشافهة لم يعتق لأنه نوى حقيقة كلامه فإن
البشارة إنما تكون حقيقة منه إذا سمعه بعبارته
وإذا قال أي غلماني أخبرني بكذا فالأول
والثاني والكاتب والمرسل يعتقون جميعا لأن
الخبر متحقق منهم فقد يخبر المرء بما هو معلوم
له كما يخبر بما غاب عنه علمه إلا أن يعني
المشافهة فتعمل نيته لأنه حقيقة كلامه وقع في
بعض نسخ الأصل التسوية بين الإخبار والإعلام
والمراد أن الإعلام يحصل بالكتاب والرسول
كالإخبار فأما الأعلام لا يكون من الثاني بعد
الأول لأن الإعلام إيقاع العلم بالخبر وذلك لا
يتكرر بخلاف الأخبار ألا ترى أن الرجل يقول
أخبرني بهذا غير واحد ولا يقول أعلمني غير
واحد وإذا قال أي غلماني حدثني فهو على
المشافهة بمنزلة قوله كلمني ألا ترى أنا نقول
أخبرنا الله بكذا بكتابه أو على لسان رسوله
ولا نقول حدثنا الله ولا كلمنا الله وإن حلف
إن علم بمكان فلان ليخبرنك به ثم علما جميعا
فلا بد من أن يخبره ليبر لأن الأخبار يتحقق
وإن كان المخبر به معلوما له ولو قال ليعلمنك
به لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله تعالى وهو حانث في قول أبي يوسف رحمه
الله لأنهما إذا علما جميعا به فما هو شرط بره
وهو الإعلام فائت فهو بمنزلة قوله لأشربن
الماء الذي في الكوز ولا ماء فيه وإن قال يوم
أفعل كذا فعبده حر ففعله ليلا عتق لأن اليوم
يذكر بمعني الوقت قال الله تعالى
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً}
[الأنفال: 16] والرجل يقول انتظر يوم فلان ويذكر والمراد بياض
النهار فقلنا إذا قرن به ما يمتد كالصوم علم
أن المراد به بياض النهار وإذا قرن به ما لا
يمتد فالمراد به الوقت وإنما قرن بذكر اليوم
هنا فعلا لا يمتد فكان بمعنى الوقت وإن قال
نويت النهار دون الليل دين في القضاء لأنه نوى
حقيقة كلامه وهي حقيقة مستعملة وإن قال ليلة
أفعل كذا فهو على الليل خاصة لأن الليل ضد
النهار قال الله تعالى
{وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
خِلْفَةً} [الفرقان: 62] وكما أن النهار مختص بزمان الضياء فالليل مختص بزمان
الظلمة والسواد وإن حلف لا يبيت في مكان كذا
فأقام فيه ولم ينم حنث لأن البيتوتة هو المكث
والقرار بالليل في مكان ولهذا يسمى الموضع
الذي يكون المرء فيه بالليل مبيتا واللفظ لا
يدل على النوم واليقظة فيحنث نام أو لم ينم
إلا أن يعنى النوم فيكون على ما نوى لأنه نوى
التخصيص في لفظه والعرف والاستعمال يشهد له
وكذلك إن أقام فيه أكثر من نصف الليل وإن أقام
فيه أقل من نصف الليل لم يحنث لأن
ج / 9 ص -17-
الإنسان قد يكون في بعض الليل في غير منزله ثم
يرجع إلى منزله وإذا سئل أين بات قال في منزلي
ولأن الأكثر ينزل منزلة الكمال والأقل تبع
للأكثر فإذا أقام فيه أكثر من نصف الليل فكأنه
أقام فيه جميع الليل فيحنث وإن حلف لا يظله ظل
بيت فدخل بيتا حنث لأن هذا للفظ عبارة عن
الدخول في عرف الناس فإنه إنما يظله ظل البيت
إذا دخل تحت سقفه وإن أقام في ظله خارجا لم
يحنث إلا أن ينوى ذلك لأن لفظه عبارة عن
الدخول لغلبة الاستعمال ولم يوجد ذلك وإن حلف
لا يأويه بيت فآواه بيت ساعة من الليل أو
النهار ثم خرج لم يحنث حتى يكون فيه أكثر من
نصف الليل أو النهار في قول أبي يوسف رحمه
الله تعالى الأول لأن الإيواء والبيتوتة
تتقارب في الاستعمال إلا أن البيتوتة تستعمل
في الليل خاصة يقال بات فلان يفعل كذا إذا فعل
ليلا وظل يفعل كذا إذا فعله نهارا فأما
الإيواء يستعمل فيهما ثم البيتوتة لا تكون إلا
في أكثر من نصف الليل فكذلك الإيواء لا يكون
إلا في أكثر من نصف الليل أو النهار ثم رجع
وقال إذا دخل ساعة حنث وهو قول محمد رحمه الله
تعالى لأن الإيواء بالحصول في مكان قال الله
تعالى
{سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} [هود: 43] أي ألتجئ إليه فأكون فيه وقال أبو سعيد الخدري لابن عباس
رضي الله عنهم لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت
على هذا القول أي لا أجتمع معك وقال عليه
الصلاة والسلام "ما
آواه الحرز ففيه القطع" فإذا آواه
الحرز أي حصل فيه فإذا دخل البيت ساعة فقد وجد
الإيواء فيحنث ولو أدخل إحدى قدميه لم يحنث
لأنه ما حصل في البيت بإدخال إحدى القدمين
وكذلك إن أدخل جسده وهو قائم ولم يدخل رجليه
لم يحنث لأن اعتماد القائم على رجليه والجسد
تبع للرجلين فإذا لم يدخلهما لم يكن حاصلا في
البيت فلا يحنث والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب.
باب اليمين في الكفالة
قال وإذا حلف لا يكفل بكفالة فكفل بنفس حر أو عبد أو ثوب أو دابة أو
بدرك في بيع فهو حانث لأن الكفالة التزام
المطالبة بما على الغير من تسليم مال أو نفس
وقد تحقق ذلك منه ويسمى به في الناس كفيلا
والمتحرز من الكفالة يكون ممتنعا من ذلك فيحنث
والضمان والقبالة قياس الكفالة لأن الكل
يستعمل استعمالا واحدا وإذا حلف لا يكفل عن
إنسان بشيء فكفل بنفس رجل لم يحنث لأن صلة عن
لا تستعمل إلا في الكفالة بالمال فأما الصلة
في الكفالة بالنفس الباءي قال كفل بنفس فلان
وكفل عن فلان بكذا من المال وإن حلف لا يكفل
عنه بشيء فاشترى له بأمره شيئا لم يحنث لأن
الكفالة التزام المطالبة بما على الغير والثمن
بالشراء هنا في ذمة الوكيل دون الموكل فلا
يكون الوكيل كفيلا عن الموكل بل يكون هو في
حقه بمنزلة البائع ولهذا طالبه بالثمن وإن
أبرأه البائع عنه وحبس المبيع عنه إلى أن
يستوفي الثمن وإن كفل بأمره عن إنسان شيئا لم
يحنث لأنه ما التزم عن الآمر شيئا هو عليه
وإنما التزم ما على المطلوب ولكن بمسألة الآمر
فكان كفيلا عن المطلوب دون الآمر ألا ترى أنه
يبرأ ببراءة المطلوب وأنه لا يرجع عند الأداء
على الآمر بشيء وإنما يرجع على المطلوب إذا
كان
ج / 9 ص -18-
ذلك
بسؤاله ولو كان المال على فلان وبه كفيل فأمر
فلان الحالف فكفل بها عن كفيله لم يحنث لأن
الكفيل غير الأصيل وهو إنما كفل عن الكفيل
وشرط حنثه الكفالة عن الأصيل ألا ترى أنه لو
بريء الكفيل الأول بريء الكفيل الثاني وإن بقي
المال على الأصيل ولو حلف لا يكفل له فكفل
لغيره والدراهم أصلها له لم يحنث لأن الكفالة
له أن يلتزم مطالبة عليه ولم يوجد ذلك فإن
المطالبة إنما تتوجه للمكفول له دون من يملك
أصل المال وكذلك لو كفل لعبده لأنه ما التزم
المطالبة للمولى إنما التزمها للعبد وإن كان
أصل المال للمولى ولا بد من مراعاة لفظ الحالف
في بره وحنثه وإن كفل لفلان وأصل الدراهم
لغيره حنث لأنه التزم المطالبة لفلان ومتى كان
وجوب المال بعقده ففي حكم المطالبة كان الواجب
له وإن كان أصل الملك لغيره وإن حلف لا يكفل
عنه فضمن عنه حنث لأن الضمان والكفالة تتقارب
في الاستعمال كالهبة مع التخلي والعمري وإن
كان عني اسم الكفالة أن لا يكفل ولكن يضمن دين
فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى حقيقة
لفظه ولكنه نوى الفصل بين الضمان والكفالة
وهذا خلاف الظاهر فلا يصدق في القضاء ولو حلف
لا يكفل عن فلان وأحال فلان عليه بماله عليه
لم يحنث إذا لم يكن للمحتال له دين على المحيل
لأن الكفالة عنه أن يلتزم المطالبة عنه لغيره
بما لم يكن عليه قبل الكفالة وذلك لم يوجد هنا
إنما وكل فلان المحتال له بقبض دينه من الحالف
وذلك لا يكون كفالة عنه للمحتال له وكذلك إن
ضمنه له ولو كان للمحتال له على المحيل مال
ولم يكن للمحيل مال على المحتال عليه حنث لأنه
التزم المطالبة عنه للمحتال له بما لم يكن
عليه من قبل والالتزام بقبول الحوالة أبلغ من
الالتزام بالكفالة والضمان فإذا كان يحنث هناك
فكذلك يحنث هنا لأنه لا فرق بينهما في حق
الملتزم إنما الفرق في حق المضمون عنه أن
الحوالة توجب براءة الأصيل والكفالة لا توجب
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه
المرجع والمآب.
باب اليمين في الكلام وغيره
قال وإذا حلف لا يتكلم اليوم
ثم صلى لم يحنث استحسانا وفي القياس يحنث وهو
قول الشافعي رحمه الله تعالى لأنه بالتسبيح
والتهليل والتكبير وقراءة القرآن متكلم فإن
التكلم ليس إلا تحريك اللسان وتصحيح الحروف
على وجه يكون مفهوما من العباد وقد وجد ذلك
ألا ترى أنه لو أتى به في غير الصلاة كان
حانثا فكذلك في الصلاة.
ووجه الاستحسان قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا يتكلم في الصلاة" ولا يفهم أحد من هذا ترك القراءة وأذكار الصلاة وكذلك في العرف
يقال فلان لم يتكلم في صلاته وإن كان قد أتى
بأذكار الصلاة ويقال حرمة الصلاة تمنع الكلام
ولا يراد به الأذكار والعرف معتبر في الأيمان
فأما إذا قرأ في غير الصلاة أو سبح أو هلل أو
كبر يحنث لأنه قد تكلم ألا ترى أنه يقال
القرآن كلام الله وأن التكلم لا يتحقق من
الأخرس والقراءة والذكر باللسان لا يتحقق من
الأخرس فكان كلاما وكذلك لو أنشد شعرا
ج / 9 ص -19-
أو
تكلم بأي لسان كان فهو حانث لوجود الشرط ولو
حلف لا يكلم فلانا فناداه من بعيد فإن كان
بحيث لا يسمع صوته لا يحنث وإن كان بحيث يسمع
صوته فهو حانث لأنه يكون مكلما فلانا بإيقاع
صوته في أذنه فإذا كان من البعد بحيث لا يسمع
لم يوجد ذلك وإذا كان بحيث يسمع فقد أوقع صوته
في أذنه وإن لم يفهم لتغافله عنه واشتغاله
بغيره فيحنث ألا ترى أن الأول يسمى هاذيا
والثاني يسمى مناديا له وكذلك لو ناداه وهو
نائم فأيقظه حنث وهذا ظاهر وقع في بعض نسخ
الأصل فناداه أو أيقظه وهذا إشارة إلى أنه وإن
لم ينتبه بندائه فهو حانث لأنه أوقع صوته في
أذنه ولكنه لم يفهم لمانع والأظهر أنه لا يحنث
لأن النائم كالغائب وإن لم ينتبه كان بمنزلة
ما لو ناداه من بعيد بحيث لا يسمع صوته فلا
يكون حانثا وإذا انتبه فقد علمنا أنه أسمعه
صوته فيكون مكلما له وقيل هو على الخلاف عند
أبي حنيفة رحمه الله تعالى يحنث لأنه يجعل
النائم كالمنتبه وعندهما لا يحنث بيانه فيمن
رمي سهما إلى صيد فوقع عند نائم حيا ثم لم
يدرك ذكاته حتى مات على ما نبينه في كتاب
الصيد وإن مر على قوم فسلم عليهم وهو فيهم حنث
لأنه مخاطب كل واحد منهم بسلامه إلا أن ينوى
القوم دونه فيدين فيما بينه وبين الله تعالى
لأنه لا يكون مكلما له إذا قصد بالخطاب غيره
ولكنه لا يدين في القضاء لأنه في الظاهر مخاطب
لهم وإن كتب إليه أو أرسل لم يحنث لما بينا أن
الكلام لا يكون إلا مشافهة ألا ترى أن أحدا
منا لا يستجيز أن يقول كلمني الله وقد أتانا
كتابه ورسوله وإنما يقال كلم الله موسى تكليما
لأنه اسمعه كلامه بلا واسطة وكذلك لو أومى أو
أشار لم يحنث لأن الكلام ما لا يتحقق من
الأخرس والإيماء والإشارة يتحقق منه فلا يكون
كلاما وذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى
قال سألني هارون عمن حلف لا يكتب إلى فلان
فأمر أن يكتب إليه بإيماء أو إشارة هل يحنث
فقلت نعم إذا كان مثلك يا أمير المؤمنين وهذا
صحيح لأن السلطان لا يكتب بنفسه عادة إنما
يأمر به غيره ومن عادتهم الأمر بالإيماء
والإشارة وعن ابن سماعة قال سألت محمدا عمن
حلف لا يقرأ كتابا لفلان فنظر فيه حتى فهمه
ولم يقرأه فقال سأل هارون أبا يوسف رحمه الله
تعالى عن هذا وكان قد ابتلى بشيء منه فقال لا
يحنث وأنا بريء من ذلك ثم ندم وقال أما أنا
فلا أقول فيه شيئا وذكر هشام وابن رستم عن
محمد رحمهم الله تعالى أنه يحنث لأن المقصود
الوقوف على ما فيه لا عين القراءة وفي الأيمان
يعتبر المقصود.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى: أن اللفظ
مراعى ولفظه القراءة والنظر والتفكر ليفهم لا
يكون قراءة ألا ترى أنه لا يتأدى به فرض
القراءة في الصلاة وإن قال لا أكلم مولاك وله
موليان أعلى وأسفل ولا نية له حنث بأيهما كلم
وكذلك لو قال لا أكلم جدك وله جدان من قبل
أبيه وأمه لأن هذا اسم مشترك والأسماء
المشتركة في موضع النفي تعم لأن معنى النفي لا
يتحقق بدون التعميم وهو بمنزلة النكرة تعم في
موضع النفي دون الإثبات وهذا إشارة إلى الفرق
بين هذا وبين الوصية لمولاه وقد بينا تمام هذا
الفرق في الجامع وإن حلف
ج / 9 ص -20-
لا
يفارق غريمه حتى يستوفى ماله عليه فلزمه ثم فر
منه الغريم لم يحنث لأنه عقد يمينه على فعل
نفسه في المفارقة وهو ما فارق غريمه إنما
الغريم هو الذي فارقه وكذلك لو كابره حتى
انفلت منه لأنه يقصد بيمينه منع نفسه عما في
وسعه دون ما ليس في وسعه.
قال: ولو أن المطلوب أحال
بالمال على رجل وأبرأه الطالب منه ثم فارقه لم
يحنث عند محمد وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى
وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يحنث لأن ما
جعله غاية وهو استيفاء ماله عليه قد فات حين
بريء المطلوب بالحوالة وقد بينا أن فوت الغاية
عندهما يسقط اليمين لا إلى حنث خلافا لأبي
يوسف رحمه الله تعالى كما في قوله لا أكلمك
حتى يأذن لي فلان فإن توى المال على المحال
عليه ورجع الطالب إلى المطلوب لم يحنث أيضا
لأن الحوالة تنفسخ بالتوى ولا يتبين أنها لم
تكن وإنما تنفسخ الحوالة في حق حكم يحتمل
الفسخ وسقوط اليمين لا يحتمل الفسخ فلهذا لا
يعود اليمين بانفساخ الحوالة وإن لم يحل
بالمال ولكنه قضاه وفارقه ثم وجده زيوفا أو
نبهرجة أو ستوقا فإن كان الغالب عليه الفضة لم
يحنث وإن رده لأنه مستوف بالقبض ألا ترى أنه
لو تجوز بها في الصرف والسلم جازفتم شرط بره
ثم انتقض قبضه بالرد فلا ينتقض به حكم البر
لأنه لا يحتمل الانتقاض وإن كان الغالب النحاس
كالستوقة فهو حانث لأنه ما صار مستوفيا حقه
بالقبض ألا ترى أنه لو تجوز به في الصرف
والسلم لا يجوز وإن استحق المقبوض من يده لم
يحنث لأنه مستوف ألا ترى أنه لو أجازه المستحق
بعد الافتراق في الصرف والسلم جاز ثم انتقض
قبضه بالاستحقاق بعد حصول الاستيفاء وشرط البر
لا يحتمل الانتقاض وإن حلف ليعطينه حقه عن
قريب فهو وقوله عاجلا سواء وإن نوى وقتا فهو
على ما نوى لأن الدنيا كلها قريب عاجل وإن لم
يكن له نية فهو على أقل من شهر استحسانا وقد
بينا هذا وإن حلف أن لا يحبس عنه من حقه شيئا
ولا نية له فينبغي أن يعطيه ساعة حلف لأن
الحبس عبارة عن التأخير فإن لم يؤخره بعد
الحلف لم يكن حابسا وإن أخره كان حابسا ولكن
الحبس قد يطول ويقصر فإن حاسبه فأعطاه كل شيء
له عنده وأقر بذلك الطالب ثم أتاه بعد ذلك
بأيام فقال بقي لي عندك كذا من قبل كذا فذكر
المطلوب ذلك وقد كان نسيا ذلك جميعا لم يحنث
إذا أعطاه ساعتئذ أو قال له خذه لأن الحبس لا
يتحقق فيما لا يكون معلوما لهما وبعد التذكر
لم يحبسه ولكنه أعطاه بالمناولة أو التخلية
بينه وبينه فلهذا لم يحنث وإن حلف لا يقعد على
الأرض ولا نية له فقعد على بساط أو غيره لم
يحنث لأن القاعد على الأرض من يباشر الأرض من
غير أن يكون بينه وبين الأرض ما هو منفصل عنه
ولم يوجد ذلك وفي العرف الرجل يقول لغيره اجلس
على البساط ولا تجلس على الأرض ويقول فلان
جالس على الأرض وفلان على البساط والعرف معتبر
في الأيمان وإن قعد على الأرض ولباسه بينه
وبين الأرض حنث لأنه يسمى في الناس قاعدا على
الأرض ولأن الملبوس تبع اللابس فلا يصير حائلا
بينه وبين الأرض ولأن الإنسان إنما يمتنع من
الجلوس على الأرض لكيلا تضربه وهذا يوجد وإن
كان
ج / 9 ص -21-
ذيله
بينه وبين الأرض ولا يوجد إذا جلس على بساط
وإن حلف لا يمشى على الأرض فمشى عليها بنعل أو
خف حنث لأن المشي على الأرض هكذا يكون في
العرف وإن مشى على بساط لم يحنث لأنه غير ماش
على الأرض ولو مشي على ظهر إجار حافيا أو
بنعلين حنث لأن ظهر الإجار يسمى أرضا عرفا فإن
من أراد الجلوس عليه يقول له غيره اجلس على
البساط ولا تجلس على الأرض وإن حلف لا يدخل في
الفرات فمر على الجسر أو دخل سفينة لم يحنث
وإن دخل الماء حنث لأن في العرف دخول الفرات
بالشروع في الماء والجسر والسفينة ما اتخذ
للعاجزين عن الشروع في الفرات فعرفنا أن
الحاصل على الجسر أو السفينة لا يكون داخلا في
الفرات عرفا.
وفي النوادر ولو حلف لا يدخل بغداد فمر في
الدجلة في السفينة فهو حانث في قول محمد رحمه
الله تعالى وعند أبي يوسف رحمه الله لا يحنث
ما لم يخرج إلى الحد.
قال ولو كان من أهل بغداد
فجاء من الموصل في السفينة في دجلة حتى دخل
بغداد كان مقيما وإن لم يخرج إلى الحد ومحمد
رحمه الله تعالى سوى بينهما ويقول الموضع الذي
حصل فيه من بغداد فيكون حانثا كما لو حلف لا
يدخل الدار فدخلها راكبا وأبو يوسف رحمه الله
تعالى يقول مراد الحالف دخول الموضع الذي
يتوطن فيه أهل بغداد ولا يوجد ذلك ما لم يخرج
إلى الحد فإن قهر الماء يمنع قهر غيره وإن حلف
لا يكلم فلانا إلى كذا وكذا فإن نوى شيئا فهو
على ما نوى وإن لم يكن له نية ولم يسم شيئا
فله أن يكلمه بعد ذلك اليوم لأن الكلام كان
مطلقا له قبل اليمين فلا يمتنع إلا القدر
المتيقن به والمتيقن ذلك اليوم لأنا نعلم أنه
إذا كان مراده أقل من يوم لا يحلف على ذلك ولا
يقين فيما وراء ذلك فلا يحنث بالشك.
فإن قيل: أليس أنه لو قال لفلان علي كذا وكذا
درهما يلزمه أحد وعشرون درهما.
قلنا وهنا لو قال كذا وكذا يوما فالجواب كذلك
فأما إذا لم يقل يوما فيحتمل أن مراده الساعة
واليوم والليلة يشتمل على ساعات كثيرة فلهذا
له أن يكلمه بعد ذلك اليوم وإن حلف لا يكلم
فلانا إلى قدوم الحاج أو إلى الحصاد فقدم أول
قادم كان له أن يكلمه لأن مراده وقت القدوم
ووقت الحصاد وقد علمنا بدخول ذلك الوقت فهو
كما لو حلف لا يكلمه إلى الغد فكما طلع الفجر
من الغد له أن يكلمه ولو حلف لا يؤم الناس فأم
بعضهم حنث لأن الناس اسم جنس وقد علمنا أنه لم
يرد استغراق الجنس لأن ذلك لا يتحقق فيتناول
أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس وإن حلف لا
يكلمه حتى الشتاء فجاء أول الشتاء سقطت اليمين
وكذلك الصيف وقد بينا الفصول الأربعة في كتاب
الطلاق وإن حلف لا يستعير من فلان فاستعار منه
حائطا يضع عليه جذوعه حنث لأن الاستعارة طلب
العارية وقد تحقق منه بما استعار من حائطه
ليضع عليه جذوعه فهو كما لو استعار منه بيتا
أو دارا أو دابة ولو سار إليه ضيفا أو دخل
عليه فاستقى من بئره لم يحنث لأنه لا يسمى
مستعيرا شيئا فإن موضع جلوس الضيف وما جلس
عليه في يد المضيف ومن استقي من بئر في دار
غيره لا تثبت يده على الرشا
ج / 9 ص -22-
فلا
يكون مستعيرا شيئا من ذلك ولو حلف لا يعرف هذا
الرجل وهو يعرفه بوجهه دون اسمه لم يحنث لأنه
يعرفه من وجه دون وجه فإنه يمكنه أن يشير إليه
إذا كان حاضرا ولا يمكنه إحضاره إذا كان غائبا
والثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا
والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم سأل رجلا عن رجل فقال "هل تعرفه" فقال
نعم فقال "هل تدري ما
اسمه" قال لا قال "فإنك إذا لا تعرفه"
إلا أن يعني معرفة وجهه فإن عني ذلك فقد شدد
الأمر على نفسه واللفظ محتمل لما نوى وهذا إذا
كان للمحلوف عليه اسم فإن لم يكن له اسم بأن
ولد من رجل فرأى الولد جاره ولكن لم يسم بعد
فحلف الجار أنه لا يعرف هذا الولد فهو حانث
لأنه يعرف وجهه ويعرف نسبه وليس له اسم خاص
ليشترط معرفة ذلك فكان حانثا في يمينه والله
أعلم بالصواب.
باب في الاستثناء
قال وإذا قال الرجل لامرأته
أنت طالق إلا أن يقدم فلان فإن قدم فلان لم
تطلق وإن مات قبل أن يقدم طلقت لأن معنى كلامه
أنت طالق إن لم يقدم فلان أي إلا أن يقدم فلان
فلا تكون طالقا وإنما لا تكون طالقا عند قدوم
فلان إذا كان الوقوع متعلقا بشرط عدم القدوم
سواء كان الشرط نفيا أو إثباتا فما لم يوجد لا
ينزل الجزاء فإن قدم فلان فشرط الوقوع قد
انعدم وإذا مات قبل أن يقدم فقد تحقق شرط
الوقوع الآن وهذا بخلاف ما لو قال أنت طالق إن
كلمت فلانا إلا أن يقدم فلان فإنها إن كلمت
فلانا قبل القدوم طلقت وإن سبق القدوم لم تطلق
بعد ذلك وإن كلمت فلانا يمين لوجود الشرط
والجزاء واليمين قابلة للتوقيت فكان قوله إلا
أن يقدم فلان توقيت ليمينه بمعنى حتى وإذا
كلمت قبل القدوم فقد وجد الشرط واليمين باقية
فتطلق وإذا قدم فلان فقد انتهت اليمين بوجود
غايتها وإذا كلمت بعد ذلك فقد وجد الشرط ولا
يمين فأما في الأول قوله أنت طالق إيقاع لا
يحتمل التوقيت فلو جعلنا قوله إلا أن يقدم
فلان بمعنى حتى كان لغوا وكلام العاقل مهما
أمكن
تصحيحه لا يجوز إلغاؤه فجعلناه قوله إلا أن
يقدم فلان بمعني الشرط لأن الإيقاع يحتمل
التعليق بالشرط ولو قال أنت طالق إلا أن يري
فلان غير ذلك فهذا إليه على مجلسه الذي يعلم
فيه فإن قام قبل أن يري غيره طلقت لأن معنى
كلامه إن لم ير فلان غير ذلك ولو قال إن رأى
فلان غير ذلك كان يتوقت بالمجلس عليه فكذلك
إذا قال إن لم ير فلان غير ذلك لأنه تمليك
للأمر من فلان
وكذلك لو قال إلا أن يشاء فلان غير ذلك أو إلا
أن يبدو لفلان غير ذلك وذلك كله بلسانه لأنا
لا نقف على ما في ضميره وإنما يعبر عما في
قلبه لسانه ولو قال إلا أن أرى غير ذلك أو إلا
أن أشاء أو إلا أن يبدو لي فهو إلى الموت لأن
في حقه لا يمكن أن يحمل على معنى تمليك الأمر
من نفسه فإنه كان مالكا لأمرها فيحمل على
حقيقة الشرط وعدم رؤيته غير ذلك بعد موتها
يتحقق والحال بعد موتها في حقه كالحال قبله
وكذلك قوله أنت طالق إن شاء فلان أو أحب أو
رضي أو هوى أو أراد ذلك كله على مجلس علمه به
ولو أضاف إلى نفسه فكان على الأبد لأن في حق
ج / 9 ص -23-
الغير
يجعل تمليكا للأمر منه فيختص بالمجلس وفي حق
نفسه لا يمكن أن يجعل تمليكا فيبقي حقيقة
الشرط معتبرا ولو قال إن لم أشأ ثم قال بعد
ذلك لا أشاء لا يقع به الطلاق لأن الشرط عدم
مشيئة طلاقها في عمره ولم يوجد ذلك بقوله لا
أشاء فإنه متمكن من أن يشاء بعد ذلك ولو قال
إن أبيت طلاقك أو كرهت طلاقك ثم قال لست أشاء
طلاقك وقد أبيته طلقت لأنه جعل الشرط هنا وجود
فعل هو إباء منه وقد وجد ذلك بقوله لا أشاء أو
بقوله أبيت وفي الأول جعل الشرط عدم المشيئة
فكأنه قال إن سكت عن مشيئة طلاقك حتى أموت فلا
يصير الشرط موجودا بقوله لا أشاء فلهذا لا
تطلق ولو قال إن لم يشأ فلان ذلك فقال فلان لا
أشاء طلقت لا بقوله لا أشاء ولكن بخروج
المشيئة عن يده فقوله لا أشاء بمنزلة ما لو
قام عن المجلس أو أخذ في عمل آخر حتى أنه لو
وقت كلامه في حق فلان فقال إن لم يشأ فلان
اليوم فقال فلان لا أشاء لم تطلق لأن هذا
يتوقت باليوم دون المجلس وبقوله لا أشاء لا
تنعدم المشيئة منه في بقية اليوم فلهذا لا
تطلق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب
وإليه المرجع والمآب.
باب اليمين في الأزهار والرياحين
قال رضي الله عنه وإذا حلف لا يشتري بنفسجا فاشترى دهن بنفسج حنث عندنا
ولم يحنث عند الشافعي رحمه الله تعالى لأنه
يعتبر حقيقة لفظه وما اشترى غير البنفسج لأن
المنتقل إلى الدهن رائحة البنفسج لا عينه
ولكنا نعتبر العرف فإنه إذا أطلق اسم البنفسج
في العرف يراد به الدهن ويسمى بائعه بائع
البنفسج فيصير هو بشرائه مشتريا للبنفسج أيضا
ولو اشترى ورق البنفسج لم يحنث.
وذكر الكرخي في مختصره أنه يحنث أيضا وهذا شيء
ينبنى على العرف وفي عرف أهل الكوفة بائع
الورق لا يسمي بائع البنفسج وإنما يسمي به
بائع الدهن فبنى الجواب في الكتاب على ذلك ثم
شاهد الكرخي عرف أهل بغداد أنهم يسمون بائع
الورق بائع البنفسج أيضا فقال يحنث به وهكذا
في ديارنا ولا يقول اللفظ في أحدهما حقيقة وفي
الآخر مجاز ولكن فيهما حقيقة أو يحنث فيهما
باعتبار عموم المجاز والخيري كالبنفسج فأما
الحنا والورد فقال إني أستحسن أن أجعله على
الورق والورد إذا لم يكن له نية وإن اشترى
دهنهما لم يحنث والقياس في الكل واحد ولكنه
بني الاستحسان على العرف وإن الورد والحنا
تسمي به العين دون الدهن والبنفسج والخيري
يسمى بهما مطلقا والياسمين قياس الورد يسمي به
العين فإن الدهن يسمي به زنبقا وإن حلف لا
يشتري بزرا فاشتري دهن بزر حنث وإن اشترى الحب
لم يحنث لاعتبار العرف الظاهر ولو حلف لا
يشتري دهنا فهذا على الدهن الذي يدهن به الناس
عادة حتى لو اشترى زيتا أو بزرا لم يحنث ولو
حلف لا يدهن فادهن بزيت حنث ولو ادهن بسمن أو
بزر لم يحنث والزيت من حيث أنه يلقي فيه
الأرايح ويطبخ ثم يدهن به يكون دهنا ومن حيث
إنه لا يدهن به كذلك لا يكون دهنا مطلقا فإن
كانت يمينه على الشراء لم
ج / 9 ص -24-
يحنث
وإذا كانت على الأدهان يحنث به وأما السمن
والبزر لا يدهن بهما في العادة بحال ولو حلف
لا يشتري بزا فاشترى فروا أو مسحا لم يحنث
وكذلك الطيالسة والأكيسة لأن بائع هذه الأشياء
لا يسمى بزازا ولا يباع في سوق البزازين أيضا
فلا يصير مشتريا البز بشرائها ولو حلف لا
يشتري طعاما فاشتري تمرا أو فاكهة حنث في
القياس لأن الطعام اسم لما يطعمه الناس
والفاكهة والتمر بهذه الصفة ألا ترى أنه لو
عقد يمينه على الأكل حنث بهما فكذلك الشراء
ولكنه استحسن فقال لا يحنث إلا في الحنطة
والخبز والدقيق لأنه عقد يمينه على الشراء
والشراء إنما يتم به وبالبائع وما يسمى بائعه
بائع الطعام أو يباع في سوق الطعام يصير هو
بشرائه مشتريا للطعام وبائع الفاكهة واللحم
لايسمى بائع الطعام فلا يصير هو بشرائها
مشتريا للطعام أيضا بخلاف الأكل فإنه يتم
بالآكل وحد فيعتبر فيه حقيقة الاسم وإن حلف لا
يشتري سلاحا فاشترى حديدا غير معمول لم يحنث
لأن بائعه لا يسمى بائع السلاح وإنما يسمى
حدادا وكذلك يباع في سوق الحدادين ولا يباع في
سوق الأسلحة وإن اشتري سكينا لم يحنث أيضا لأن
بائعه لا يسمى بائع السلاح وإنما يسمى سكانا
وإما إذا اشترى سيفا أو درعا أو قوسا يحنث
لأنه سلاح يباع في سوق السلاح وبائعه يسمى
بائع السلاح فيصير هو مشتريا السلاح بشرائه.
قال وإذا سأل رجل رجلا عن
حديث فقال أكان كذا وكذا فقال نعم وسعه أن
يقول حدثني فلان بكذا وإن حلف على ذلك كان
صادقا لأنه ذكر في جوابه نعم وهو غير مستقل
بنفسه فيصير ما تقدم كالمعاد فيه ألا ترى أن
من قرأ صكا على غيره وقال أشهد عليك بكذا وكذا
فقال نعم وسعه أن يشهد بجميع ذلك عليه. وإن
حلف لا يشم طيبا فدهن به لحيته فوجد ريحه لم
يحنث لأنه عقد يمينه على فعل منه يسمي شم
الطيب ولم يوجد وإنما وصلت رائحة الطيب إلى
دماغه فهو كما لو مر على سوق العطارين فدخل
رائحة الطيب في أنفه ألا ترى أن المحرم بهذا
لا يلزمه شيء وأنه لو ادهن قبل إحرامه ثم وجد
ريحه بعد الإحرام لم يلزمه شيء وهو ممنوع من
شم الطيب في الإحرام وليس الدهن بطيب إذا لم
يجعل فيه طيب إنما الطيب ما يجعل فيه المسك
والعنبر ونحوهما لأن الطيب ماله رائحة مستلذة
وليس للدهن ذلك إذا لم يكن فيه طيب وإنما
يستعمل الدهن لتليين الجلد ودفع اليبوسة لا
للطيب إذا لم يكن متطيبا وإن حلف لا يشم دهنا
أو لا يدهن فالزيت فيه كغيره من الأدهان وقد
بينا الفرق بين هذا والشراء وإن حلف لا يشم
ريحانا فشم آسا أو ما أشبه ذلك من الرياحين
حنث وإن شم الياسمين أو الورد لم يحنث لأنهما
من جملة الأشجار والريحان اسم لما ليس له شجر
ألا ترى أن الله تعالى قال
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]
{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}
[الرحمن: 12] قد جعل الريحان غير الشجر عرفنا
أن ماله شجر فليس بريحان وإن كان له رائحة
مستلذة وكذلك في العرف لا يطلق اسم الريحان
على الورد والياسمين وإنما يطلق على ما ينبت
من بزره مما لا شجر له وقيل الريحان ما يكون
لعينه رائحة مستلذة.
ج / 9 ص -25-
وشجر
الورد والياسمين ليس لعينه رائحة إنما الرائحة
للورد خاصة فلا يكون من جملة الرياحين.
قال: ولو أن امرأة حلفت أن لا
تلبس حليا فلبست خاتم الفضة لم تحنث لأن الرجل
ممنوع من استعمال الحلي وله أن يلبس خاتم
الفضة فعرفنا أنه ليس بحلى وقيل هذا إذا كان
مصوغا على هيئة خاتم الرجال فأما إذا كان على
هيئة خاتم النساء مما له فصوص فهو من الحلى
لأنه يستعمل استعمال الحلى للتزين به والسوار
والخلخال والقلادة والقرط من الحلى لأنها
تستعمل استعمال الحلى للتزين بها حتى يختص
بلبسها من يلبس الحلى والله تعالى وعد ذلك
لأهل الجنة بقوله
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ
ذَهَبٍ} [الكهف: 31] فأما اللؤلؤ عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يكون
حليا إلا أن يكون مرصعا بالذهب والفضة وعند
أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو حلى
لقوله تعالى
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ
ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [الحج:23] ولقوله
{وََتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] وكذلك من حيث العرف يستعمل ذلك استعمال الحلي فالمرأة
قد تلبس عقد لؤلؤ للتحلي بها ولكن أبو حنيفة
رحمه الله تعالى شاهد العرف في عصره وأنهم
يتحلون باللؤلؤ مرصعا بالذهب أو الفضة ولا
يتحلون باللؤلؤ وحده فبنى الجواب على ما شاهده
وقد بينا أنه لا تبنى مسائل الأيمان على ألفاظ
القرآن ولكن قولهما أظهر وأقرب إلى عرف ديارنا
ولو حلف لا يقطع بهذا السكين فكسره فجعل منه
سكينا آخر ثم قطع لم يحنث لأنه حين كسره فقد
زال الاسم الذي عقد به اليمين فلهذا لا يحنث
وقد بينا نظيره في الدار إذا جعلها بستانا ولو
حلف لا يتزوج امرأة فتزوج امرأة بغير شهود حنث
في القياس لأنه منع نفسه عن أصل العقد والفساد
والجواز صفة لا ينعدم أصل العقد بانعدامها
كالبيع ألا ترى أنه لو عقد يمينه على الماضي
بأن قال ما تزوجت كان على الفاسد والجائز
فكذلك في المستقبل.
وجه الاستحسان أن المقصود بالنكاح ملك الحل
وذلك لا يحصل بالعقد الفاسد كيف وقد نفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم أصل العقد بغير شهود
حيث قال "لا نكاح إلا بشهود"
بخلاف البيع فالمقصود هناك وهو الملك يحصل
بالعقد الفاسد إذا تأكد بالقبض وبخلاف ما لو
تدبر الكلام في النكاح لأنه في الخبر عن
الماضي من النكاح ليس مقصوده الحل والعفة
وإنما يمينه في الماضي على مجرد الخبر والخبر
يتحقق عن العقد الفاسد والجائز ولو حلف لا
يشتري عبدا فاشتراه شراء فاسدا حنث عندنا وعند
زفر رحمه الله تعالى لا يحنث إلا بالقبض لأن
القبض في الشراء الفاسد نظير القبول في الشراء
الصحيح من حيث أن الملك لا يحصل إلا به ولكنا
نقول شرط حنثه العقد وبالإيجاب والقبول ينعقد
العقد فاسدا كان أو صحيحا والملك غير معتبر في
تحقيق شرط الحنث ألا ترى أنه لو اشتراه بشرط
الخيار أو اشتراه لغيره حنث وإن لم يثبت الملك
له قال وهذا والنكاح سواء في القياس ولكني
أستحسن في البيع وهذا الاستحسان يعود إلى
القياس في النكاح وأشار إلى الفرق فقال ألا
ترى أنه لو أعتقه بعد
ج / 9 ص -26-
القبض
عتق وأنه لا يقع الطلاق في النكاح الفاسد فدل
أن العقد منعقد هنا غير منعقد هناك
ولو حلف لا يصلى ركعتين فصلاها بغير وضوء ففي
القياس يحنث وفي الاستحسان لا يحنث وهذا
والنكاح سواء لأن المقصود بالصلاة العبادة
ونيل الثواب ولا يحصل ذلك بالصلاة بغير وضوء
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بطهور".
قال: ولو حلف لا يصلى فافتتح
الصلاة لم يحنث حتى يصلى ركعة وسجدة استحسانا
وفي القياس يحنث لأن شرط حنثه فعل يكون به
مصليا وقد حصل ذلك بالتكبير لأنه يسمى في
العادة مصليا ويحرم عليه ما يحرم على المصلين
ولكنه استحسن فقال الصلاة تشتمل على أركان
منها القيام والقراءة والسجود والركوع لأنها
عبادة بجميع البدن وكل ركن من هذه الأركان لا
يتناوله اسم الصلاة فلا يكون مصليا مطلقا ما
لم يأت بأركان الصلاة وإنما يسمى مصليا بعد
التكبير مجازا على اعتبار أنه اشتغل بالأركان
التي يصير بها مصليا فإذا قيد الركعة بسجدة
فقد أتي بأركان الصلاة وما بعد ذلك يكون
تكرارا ولا يشترط التكرار في إتمام شرط الحنث
وقد بينا في كتاب الصلاة أن القعدة من أسباب
التحلل وإن حلف لا يصوم فأصبح صائما ثم أفطر
حنث لأن الصوم ركن واحد وهو الإمساك وشرطه
النية فلما أصبح ناويا للصوم فقد أتى بما هو
ركن الصوم فيتم به شرط حنثه إلا أن يكون قال
يوما فحينئذ إذا أفطر قبل الليل لم يحنث لأن
شرط حنثه صوم يوم كامل ولا يحصل ذلك إلا
بامتداد الإمساك إلى غروب الشمس وإن حلف
ليفطرن عند فلان ولا نية له فأفطر على ماء
وتعشى عند فلان حنث لأنه جعل شرط بره الفطر
عند فلان وقد تعشى عند فلان وما أفطر عنده
فالفطر الحكمي بغروب الشمس وحقيقته بوصول
المفطر إلى جوفه وقد وجد ذلك قبل أن يأتي
فلانا وإن كان نوى حين حلف العشاء لم يحنث لأن
الفطر يذكر في العادة والمراد العشاء فإن
الرجل يقول أفطرت عند فلان وفلان يفطر عنده
جماعة والمراد التعشي وإن حلف لا يتوضأ بكوز
فلان فصب فلان عليه الماء من كوزه فتوضأ حنث
لأن التوضي بالماء الذي في الكوز لا يغير
الكوز وقد وجد ذلك وإن كان الذي يصب عليه
الماء من ذلك الكوز غيره وكوز الصفر والأدم
وغير ذلك فيه سواء وهذا إذا كان ذلك يسمى كوزا
عادة فأما إذا توضأ بإناء لفلان غير الكوز لم
يحنث ولو كان فلان هو الذي وضأه وغسل يديه
ووجهه لم يحنث لأنه عقد اليمين على فعل نفسه
وهو التوضي ولم يوجد وكذلك لو حلف لا يشرب
بقدح فلان والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب اليمين في العتق
قال رضي الله عنه: رجل تزوج
أمة ثم قال لها إن مات مولاك فأنت طالق اثنتين
فمات المولى والزوج وارثه وقع الطلاق عليها
ولم تحل له حتى تنكح زوجا غيره في قول أبي
يوسف رحمه الله تعالى وقال محمد رحمه الله لا
يقع الطلاق لأن موت المورث سبب لانت قال المال
إلى الوارث وذلك مفسد للنكاح وأوان وقوع
الطلاق بعد وجود الشرط فيقترن
ج / 9 ص -27-
الطلاق
بحال فساد النكاح ولا يقع الطلاق في هذه
الحالة كما إذا قال إذا باعك مني فأنت طالق
اثنتين ثم اشتراها لم تطلق.
توضيحه أن الطلاق لا يقع إلا في النكاح
المستقر وهو غير مستقر في حال انتقال الملك
إليه ولهذا قال محمد لو كان قال إذا مات مولاك
فأنت حرة فمات المولى وهو وارثه لا تعتق لأن
العتق لا ينزل إلا في الملك المستقر وبنفس موت
المولى لا يستقر الملك للوارث ولكن أوان
استقرار ملكه بعده بخلاف ما لو قال إذا مات
مولاك فملكتك لأن أوان العتق هناك ما بعد
استقرار الملك وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول
وجد شرط الطلاق وهي منكوحة بعد فيقع الطلاق
كما لو لم يكن الزوج وارثا له وبيان ذلك أن
موت المولى سبب لزوال ملكه فإنما يزول ملكه
بعد الموت ثم ينتقل إلى الوارث بعد ذلك ثم
يفسد النكاح بعد ما يدخل في ملكه ووقوع الطلاق
قبل هذا بدرجتين لأن وقوع الطلاق يقترن بزوال
ملك المولى وزوال ملك المولى غير مؤثر في دفع
استقرار النكاح.
والدليل عليه أنه لو قال لها إذا مات مولاك
فأنت حرة لم تعتق لأن أوان وقوع العتق مع زوال
ملك المالك وملك الوارث يكون بعد ذلك فإذا لم
يعتبر الملك الذي يتأخر للوارث في تصحيح عتقه
فكذلك لا يعتبر في المنع من وقوع الطلاق ألا
ترى أنه لو شرط الملك بقوله إذا مات مولاك
فملكتك وقع العتق دون الطلاق فإذا لم يشترط
الملك يقع الطلاق دون العتق لأن الملك منفذ
للعتق مانع وقوع الطلاق رجل قال لأمته إذا مات
فلان فأنت حرة ثم باعها ثم تزوجها ثم قال لها
إذا مات مولاك فأنت طالق اثنتين ثم مات المولى
وهو وارثه على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى
لا تعتق ويقع الطلاق وعلى قول زفر رحمه الله
تعالى يقع العتاق ولا يقع الطلاق وعلى قول
محمد رحمه الله تعالى لا يقع الطلاق ولا
العتاق أما أبو يوسف رحمه الله تعالى مر على
أصله أن الطلاق لا يمتنع وقوعه إلا بعد الملك
كما أن العتق لا يقع إلا بعد الملك وقد علقهما
الحالف بموت فلان والذي ثبت بموت فلان زوال
ملكه ثم ثبوت الملك للوارث بعد ذلك فأوان
العتق والطلاق قبل ثبوت الملك له فيقع الطلاق
ولا يقع العتق ومحمد رحمه الله تعالى مر على
أصله أن وقوع الطلاق مع وقوع الملك وحال وقوع
الملك للزوج في رقبتها ليس بحال استقرار
النكاح فلا يقع الطلاق ولا يقع العتق لأنه
يقترن بوقوع الملك وأوان نفوذ العتق ما بعد
الملك وأما زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول لا
يقع الطلاق لما قال محمد رحمه الله تعالى لأن
ما بعد موت المولى ليس بحال استقرار النكاح
ويقع العتق باعتبار أنه حلف بالعتق في الملك
والشرط ثم في الملك لأن تمام الشرط بعد موت
المولى المورث وكما مات المورث انتقل الملك
إلى الوارث فيقع العتق ولا يعتبر تخلل زوال
الملك بعد ذلك كما لو قال لها إن دخلت الدار
فأنت حرة ثم باعها ثم اشتراها ثم دخلت الدار.
توضيحه أن العتق لما كان أوان نزوله بعد الملك
يصير تقدير كلامه كأنه قال إذا مات
ج / 9 ص -28-
مولاك
فورثتك ولا يدرج مثل هذا في الطلاق لأنه يبطل
الطلاق والإدراج للتصحيح لا للإبطال أو يدرج
حتى لا يقع الطلاق ويقع العتق كما هو مذهب زفر
وإذا قال لأمته إذا باعك فلان فأنت حرة فباعها
من فلان ثم اشتراها منه لم تعتق لأن الشرط بيع
فلان إياها وبيع فلان من الحالف سبب لزوال
ملكه فأما وقوع الملك للحالف بشرائه لا ببيع
فلان فلهذا لا تعتق ألا ترى أنه لو قال إذا
وهبك لي فلان فأنت حرة فباعها من فلان وسلمها
ثم استودعها البائع ثم قال للبائع هبها لي
فقال هي لك أنها له وهذا قبول ولا تعتق لأن
العتق والهبة وقعا وهي في ملك غيره فإنه إنما
يملكها بالهبة والشراء بعد خروجها من ملك
البائع والواهب فكان العتق متصلا بزوال ملك
البائع والواهب أو مقترنا بوقوع الملك للحالف
ولا ينفذ العتق إلا بعد تقدم الملك في المحل
وإن قال إذا وهبك فلان مني فأنت حرة فوهبها
منه وهو قابض لها عتقت وكذلك قوله إذا باعك
فلان مني فأنت حرة لأنه صرح بما هو سبب الملك
في حقه وإضافة العتق إلى سبب الملك كإضافته
إلى نفس الملك رجل قال لآخر يا فلان والله لا
أكلمك عشرة أيام والله لا أكلمك تسعة أيام
والله لا أكلمك ثمانية أيام فقد حنث مرتين
لأنه باليمين الثانية صار مخاطبا له فيحنث في
اليمين الأولى وباليمين الثالثة صار مخاطبا له
فيحنث في اليمين الثانية وعليه اليمين الثالثة
حتى إن كلمه في الثمانية الأيام حنث أيضا وإن
قال والله لا أكلمك ثمانية أيام والله لا
أكلمك تسعة أيام والله لا أكلمك عشرة أيام فقد
حنث مرتين وعليه اليمين الثالثة إن كلمة في
العشرة الأيام حنث أيضا رجل قال علي المشي
إلى بيت الله تعالى وكل مملوك له حر وكل امرأة
له طالق إن دخل هذه الدار وقال رجل آخر علي
مثل ما حلفت على يمينك من هذه الأيمان إن دخلت
الدار فدخل الثاني الدار لزمه المشي إلى بيت
الله تعالى ولم يلزمه عتق ولا طلاق لأن الثاني
صرح بكلمة على وهي كلمة التزام فكانت عاملة
فيما يصح التزامه في الذمة دون ما لا يصح
التزامه في الذمة والمشي إلى بيت الله تعالى
يصح التزامه في الذمة فيتعلق بدخوله الدار
وعند الدخول يصير كالمنجز فأما الطلاق لا يصح
التزامه في الذمة والعتق وإن كان يصح التزامه
في الذمة ولكن لا يتنجز في المحل بدون التنجيز
فلهذا لا يعتق مملوكه ولا تطلق زوجته إذا دخل
الدار.
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى
أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت
الدار وقال آخر علي مثل ذلك في امرأتي من
الطلاق إن دخلتها فدخل الثاني الدار لم تطلق
امرأته عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وطلقت
عند زفر رحمه الله تعالى لأنه ألزم نفسه عند
دخول الدار في امرأته من الطلاق ما التزمه
الأول والأول إنما الزم نفسه وقوع الطلاق
عليها عند الدخول لا لزوم الطلاق دينا في ذمته
فيثبت ذلك في حق الثاني.
قال: في الكتاب ألا ترى أنه
لو قال لله علي طلاق امرأتي لا يلزمه شيء وهذا
يصير رواية في فصل وفيه اختلاف أن من قال
لامرأته طلاقك على واجب أو طلاقك لي لازم فكان
محمد بن سلمة رحمه الله تعالى يقول يقع الطلاق
فيهما جميعا والعراقيون من
ج / 9 ص -29-
مشايخنا كانوا يقولون في قوله علي واجب لا يقع
وفي قوله لي لازم يقع والأصح ما ذكره محمد بن
مقاتل رضي الله تعالى عنه عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى لا يقع الطلاق فيهما جميعا لأن
الوجوب واللزوم يكون في الذمة والطلاق لا
يلتزم في الذمة وليس لالتزامه في الذمة عمل في
الوقوع وعلى قول محمد رحمه الله تعالى في قوله
لي لازم يقع لأن معناه حكم الطلاق لي لازم
وجعل السبب كناية عن الحكم صحيح وعلى قول أبي
يوسف رحمه الله تعالى ينوى في ذلك لاحتمال أن
يكون المراد لزوم الحكم إياه فإذا نوى الوقوع
وقع فأما العتق فقد جعل الثاني بهذا اللفظ
عليه عتق مماليكه فيؤمر بالوفاء بالنذر من غير
أن يجبر عليه في القضاء كما لو قال لله علي أن
أعتق عبدي هذا لم يعتق بهذا القول ولكن الأفضل
له إن بقي به.
معناه أن يؤمر بالوفاء فيما بينه وبين ربه كما
هو موجب نذره ألا ترى أن رجلا لو قال عبده
سالم حر إن دخل الدار فقال رجل آخر علي مثل ما
جعلت على نفسك إن دخلت الدار فدخلها أنه لا
شيء عليه وهذا ظاهر لأن الثاني يلتزم بالدخول
عتق مالا يملكه ولا عتق فيما لا يملكه بن آدم
فإن عني به عتق عبد من عبيده الذي يملكه
فالأحسن له أن يفي به وهو آثم إن لم يف به
لترك الوفاء بالمنذور وبيانه في قوله تعالى
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] الآية وأما المشي إلى بيت الله تعالى والحج والعمرة
والنذر والصيام وكل شيء يتقرب به العبد إلى
ربه فإذا قال رجل آخر علي مثل ما حلفت به إن
فعلت ففعله الثاني فإنه عليه وكذلك لو قال
الأول علي عتق نسمة إن فعلت كذا ففعل فعليه
عتق نسمة لأنه قربة يصح التزامها في الذمة
بالنذر والوفاء بالنذور يؤمر به الناذر بينه
وبين ربه والله أعلم. |