المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 12 ص -95-
كتاب البيوع
قال: الشيخ الإمام الأجل
الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد
بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء
اعلم بأن الله سبحانه وتعالى جعل المال سببا
لإقامة مصالح العباد في الدنيا وشرع طريق
التجارة لإكسابها لأن ما يحتاج إليه كل أحد لا
يوجد مباحا في كل موضع وفي الأخذ على سبيل
التغالب فساد والله لا يحب الفساد وإلى ذلك
أشار الله سبحانه وتعالى في قوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} والتجارة نوعان حلال يسمى في الشرع بيعا وحرام يسمى ربا كل واحد
منهما تجارة فإن الله أخبر عن الكفرة إنكارهم
الفرق بين البيع والربا عقلا فقال عز وجل
{ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبا} [البقرة:27] ثم فرق بينهما في الحل والحرمة بقوله تعالى
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 27] فعرفنا أن كل واحد منهما تجارة وأن الحلال الجائز
منها بيع شرعا بعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم والناس يتعاملونه فأقرهم عليه وانعقاد
هذا البيع بلفظين هما عبارة عن الماضي وهو
بقوله بعت واشتريت في محلين كل واحد منهما مال
متقوم على طريق الاكتساب حتى إن ما يدخله معنى
التبرع كالهبة بشرط العوض لا يكون بيعا ابتداء
ولو كان أحد اللفظين عبارة عن المستقبل بأن
يقول أحدهما بعني فيقول الآخر بعت أو يقول
اشتري فيقول الآخر اشتريت لا ينعقد البيع
عندنا بخلاف النكاح والشافعي يسوي بينهما
باعتبار أن كل واحد منهما عقد تمليك بعوض من
الجانبين والفرق لنا من وجهين:
أحدهما: أن النكاح يتقدمه
خطبة عادة فقوله زوجيني نفسك في مجلس العقد لا
يجعل خطبة لأن الخطبة قد تقدمته فيجعل أحد
شطري العقد فأما البيع يقع بغتة من غير تقدم
استيام فيجعل قوله بعني استياما فلا بد من لفظ
العقد بعده.
والثاني: أن قوله: زوجيني
نفسك تفويض للعقد إليها فيجعل قولها زوجت عقدا
تاما لأن كلام الواحد يصلح للعقد من الجانبين
في النكاح إذا كان مأمورا به وفي البيع لا
يتأتى مثل هذا لأن كلام الواحد لا ينعقد به
البيع من الجانبين إذا لم يكن أحدهما موليا
عليه من الآخر فأما الربا في اللغة هو الزيادة
يقال أربى فلان على فلان أي زاد عليه ويسمى
المكان المرتفع ربوة لزيادة فيه على سائر
الأمكنة وفي الشريعة الربا هو الفضل الخالي عن
العوض المشروط في البيع لما بينا أن البيع
الحلال مقابلة مال متقوم بمال متقوم فالفضل
الخالي عن
ج / 12 ص -96-
العوض
إذا دخل في البيع كان ضد ما يقتضيه البيع فكان
حراما شرعا واشتراطه في البيع مفسد للبيع
كاشتراط الخمر وغيرها والدليل على حرمة الربا
الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى:
{وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] وقد ذكر الله تعالى لآكل الربا خمسا من العقوبات:
أحدها: التخبط قال الله
تعالى:
{لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] قيل معناه ينتفخ بطنه يوم القيامة بحيث لا تحمله
قدماه وكلما رام القيام يسقط فيكون بمنزلة
الذي أصابه مس من الشيطان فيصير كالمصروع الذي
لا يقدر على أن يقوم وقد ورد بنحوه أثر عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"يملأ بطنه
نارا بقدر ما أكل من الربا" والمراد أن
يفتضح على رؤس الأشهاد كما أشار إليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:
"أن لواء ينتصب يوم القيامة لأكلة الربا فيجتمعون تحته ثم يساقون إلى
النار".
والثاني: المحق قال الله
تعالى:
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا}
[البقرة:276] والمراد الهلاك والاستيصال وقيل
ذهاب البركة والاستمتاع حتى لا ينتفع هو به
ولا ولده بعده.
والثالث: الحرب قال الله
تعالى:
{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] والمعنى من القراءة بالمد أعلموا الناس أكلة الربا
إنكم حرب الله ورسوله بمنزلة قطاع الطريق
والقراءة بالقصر اعلموا أن أكلة الربا حرب
الله ورسوله.
والرابع: الكفر قال الله
تعالى:
{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]
وقال تعالى:
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ
أَثِيمٍ}
[البقرة: من الآية276] أي كفار باستحلال الربا
أثيم فاجر بأكل الربا
والخامس: الخلود في النار قال
الله تعالى:
{وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ}
[البقرة:275] والسنة جاءت بتأييد ما قلنا أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكل درهم واحد من الربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية يزنيها الرجل من نبت
لحمه من حرام فالنار أولى به".
والمقصود من هذا الكتاب بيان الحلال الذي هو
بيع شرعا والحرام الذي هو ربا ولهذا قيل لمحمد
ألا تصنف في الزهد شيئا قال قد صنفت كتاب
البيوع ومراده بينت فيه ما يحل ويحرم وليس
الزهد إلا الاجتناب عن الحرام والرغبة في
الحلال ولهذا بدأ الكتاب بحديث رواه عن أبي
حنيفة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي
الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"الذهب بالذهب مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا
والفضة بالفضة مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا
والحنطة بالحنطة مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا
والملح بالملح مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا
والشعير بالشعير مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا
والتمر بالتمر مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا"
وهذا حديث مشهور تلقته العلماء رحمهم الله
تعالى بالقبول والعمل به ولشهرته بدأ محمد
ببعضه كتاب البيوع وببعضه كتاب الإجارات
وببعضه كتاب الصرف ومثله حجة في الأحكام تجوز
به الزيادة على الكتاب عندنا ودار هذا الحديث
على أربعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
عمر بن الخطاب وعبادة بن الصامت وأبي سعيد
الخدري ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم مع
اختلاف ألفاظهم ثم الحديث يشتمل على تفسير
وحكم ومعنى يتعلق به
ج / 12 ص -97-
الحكم في
الفرع أما تفسير قوله صلى الله عليه وسلم:
"الذهب بالذهب" أي بيع الذهب
بالذهب أو بيعوا الذهب بالذهب لأن الباء تصحب
الأعواض والإبدال فإنه للإلصاق فهو دليل فعل
مضمر كقولنا: بسم الله، وقوله:
"مثل بمثل" روى بالرفع
والنصب فمعنى الرواية بالرفع بيع الذهب بالذهب
مثل بمثل ومعنى الرواية بالنصب بيعوا الذهب
بالذهب مثل بمثل والمراد به المماثلة في القدر
دون الصفة وإن كان مطلق اسم المماثلة
يتناولهما ولكنه ذكر هذا الحديث في أول كتاب
الصرف وذكر مكان قوله:
"مثل بمثل وزن بوزن" فبذلك اللفظ يتبين أن المراد من هذا اللفظ المماثلة في الوزن وبهذا
اللفظ يتبين أن المراد قوله وزن بوزن المماثلة
قدرا لا وصفا وكلام رسول الله صلى الله عليه
وسلم يفسر بعضه بعضا وفي حديث عبادة بن الصامت
رضي الله عنه قال:
"تبره وعينه
سواء" فهذا تنصيص على أن المراد المماثلة في الوزن دون الصفة لأن التبر لا
يساوي العين في الصفة وإنما يساويه من حيث
المقدار وقوله:
"يدا بيد"
يجوز أن يكون المراد به عين بعين لأن التعيين
يكون بالإشارة باليد ويجوز أن يكون المراد قبض
بقبض لأن القبض يكون باليد وزعم بعض أصحابنا
رحمهم الله تعالى أن المراد به القبض هنا
لبيانه في حديث عمر رضي الله تعالى عنه فإنه
قال في الصرف: "من يدك إلى يده وإن استنظرك إلى خلف السارية فلا تنتظره وإن وثب من
السطح فثب معه"
ولكن الأصح أن المراد التعيين لأنه لو كان
المراد به القبض لقال من يد إلى يد لأنه يقبض
من يد غيره فعرفنا أن المراد التعيين إلا أن
التعيين في النقود لا يتم إلا بالقبض لأنها لا
تتعين في العقود بالإشارة فكان اشتراط القبض
لتحقيق التعيين المنصوص عليه وإليه أشار في
حديث عمر رضي الله تعالى عنه بقوله: "ها وها"
أي هذا بهذا وقوله:
"والفضل ربا" يحتمل الفضل في القدر ويحتمل الفضل في الحال بأن يكون أحدهما نقدا
والآخر نسيئة وكل واحد منهما مراد باللفظ
وقوله ربا أي حرام أي فضل خال عن العوض
والمقابلة إما متيقنا به عند فضل القدر أو
موهوم الوجود عادة لتفاوت بين النقدين والنسبة
في المالية وكذلك تفسير قوله
"الفضة بالفضة"
فأما قوله
"الحنطة بالحنطة مثل بمثل" يحتمل المماثلة في الكيل ويحتمل المماثلة في الصفة ولكنه في كتاب
الصرف ذكر مكان قوله
"مثلا
بمثل" كيلا بكيل فتبين به أن المراد المماثلة من حيث القدر وفي حديث عبادة
بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال
"جيدها ورديها سواء" فهو
بيان أن المراد المماثلة في القدر وقوله يدا
بيد معناه عندنا عين بعين ولهذا لا يشترط
التقابض في بيع الحنطة بالحنطة لأن التعيين
فيها يتم بالإشارة وقوله:
"والفضل ربا"
يحتمل الفضل في القدر ويحتمل الفضل في الحال
وكل واحد منهما مراد وقد فسر ذلك في حديث
عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه فقال:
"من زاد أو ازداد فقد أربى" وكذلك الشعير والتمر والملح فأما الحكم ففي الحديث حكمان حرمة النساء
في هذه الأموال عند المبايعة بجنسها وهو متفق
عليه وحرمة التفاضل وهو قول الجمهور من
الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا البتى روى عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يجوز
التفاضل في هذه الأموال ولا معتبر بهذا القول
فإن
ج / 12 ص -98-
الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يسوغوا له هذا
الاجتهاد على ما روى أن أبا سعيد الخدري رضي
الله تعالى عنه مشى إليه فقال يا ابن عباس إلى
متى تؤكل الناس الربا أصحبت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما لم يصحب أسمعت منه ما لم
يسمع فقال لا ولكن حدثني أسامة بن زيد رضي
الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال
"لا ربا إلا في النسيئة" فقال والله لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا القول وقال جابر
بن زيد رضي الله تعالى عنه ما خرج ابن عباس
رضي الله تعالى عنه من الدنيا حتى رجع عن قوله
في الصرف والمتعة فإن لم يثبت رجوعه فإجماع
التابعين رحمهم الله تعالى بعده يرفع قوله
فهذا معنى قولنا لا يعتد بهذا القول وتأويل
حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مبادلة
الحنطة بالشعير والذهب بالفضة فقال النبي صلى
الله عليه وسلم
"لا ربا إلا في النسيئة"
فهذا بناء على ما تقدم من السؤال فكأن الراوي
سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم
يسمع ما تقدم من السؤال أو لم يشتغل بنقله
وأما المعنى فنقول اتفق فقهاء الأمصار رحمهم
الله تعالى على أن حكم الربا غير مقصود على
الأشياء الستة وإن فيها معنى يتعدى الحكم بذلك
المعنى إلى غيرها من الأموال إلا داود من
المتأخرين وعثمان البتى من المتقدمين فإن داود
يقول حكم الربا مقصور على هذه الأشياء الستة
لأنه لا يجوز قياس غير المنصوص على المنصوص
لإثبات الحكم وعند فقهاء الأمصار رحمهم الله
تعالى القياس حجة لتعدية الحكم الثابت بالنص
والبتى يقول بأن القياس حجة ولكن من أصله أنه
لا يجوز القياس على الأصول إلا أن يقوم دليل
في كل أصل على جواز القياس عليه ولم يقم ذلك
الدليل هنا وعند فقهاء الأمصار رحمهم الله
تعالى يجوز القياس على الأصول إلا أن يقوم
دليل يمنع القياس على كل أصل ثم قد قام الدليل
هنا على جواز القياس فإن مالك بن أنس واسحاق
بن إبراهيم الحنظلي رحمهما الله تعالى رويا
هذا الحديث وذكر في آخره وكذلك كل ما يكال
ويوزن فهو تنصيص على تعدية الحكم إلى سائر
الأموال وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخشى عليكم
الربا" أي
الربا ولم يرد به عين الصاع وإنما أراد به ما
يدخل تحت الصاع كما يقال خذ هذا الصاع أي ما
فيه ووهبت لفلان صاعا أي من الطعام وفي حديث
عامل خيبر رضي الله تعالى عنه أنه أهدى إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا جنيا فقال
صلى الله عليه وسلم "أو كل تمر خيبر هكذا؟" فقال لا ولكني دفعت صاعين من عجوة بصاع من هذا فقال صلى الله عليه
وسلم
"أربيت هلا بعت
تمرك بسلعة ثم اشتريت بسلعتك تمرا؟"
ثم قال صلى الله عليه وسلم
"وكذلك الميزان" يعني ما
يوزن بالميزان فتبين بهذه الأثار قيام الدليل
على تعدية الحكم من الأشياء الستة لا غيرها
وهذا بخلاف قوله صلى الله عليه وسلم
"خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم"
ثم لم يجوز قياس ما سوى هذا الخمس على الخمس
لأن التعليل لتعدية حكم النص إلى غير المنصوص
لإبطال المنصوص وقد نص في ذلك الحديث على أن
الفواسق خمس فلو اشتغلنا بالتعليل كان أكثر من
خمس فيكون إبطالا للمنصوص وهنا ليس في الحديث
أن مال الربا ستة أشياء ولكن ذكر حكم الربا في
الأشياء الستة فالاشتغال بالتعليل لا
ج / 12 ص -99-
يؤدي
إلى إبطال المنصوص عليه فلهذا جوزنا ذلك
وفائدة تخصيص هذه الأشياء بالذكر أن عامة
المعاملات يومئذ كان بها على ما جاء في الحديث
كنا نتبايع في الأسواق بالأوساق والمراد به ما
يدخل تحت الوسق مما يكثر الحاجة إليه وهي
الأشياء المذكورة ثم اختلفوا بعد ذلك في
المعنى الذي يتعدى الحكم به إلى سائر الأموال
قال علماؤنا رحمهم الله تعالى الجنسية والقدر
عرفت الجنسية بقوله صلى الله عليه وسلم:
"الذهب بالذهب والحنطة بالحنطة" والقدر بقوله صلى الله عليه وسلم "مثل بمثل"
ويعني بالقدر الكيل فيما يكال والوزن فيما
يوزن وظن بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى أن
العلة مع الجنس الفضل على القدر وذلك محكي عن
الكرخي ولكنه ليس بقوي فإنه لا يجوز إسلام
قفيز حنطة في قفيز شعير ولا تثبت حرمة النساء
إلا بوجود أحد الوصفين ولو كانت العلة هي
الفضل لما حرم النساء هنا لانعدام الفضل
فعرفنا أن العلة نفس القدر مع الجنس وقال مالك
رضي الله عنه العلة الاقتيات والادخار مع
الجنس وقال ابن سيرين تقارن المنفعة مع الجنس
وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في القديم
العلة في الأشياء الأربعة الكيل والطعم وقال
في الجديد العلة هي الطعم وفي الذهب والفضة
العلة الثمنية وهو أنهما جوهر الأثمان
والجنسية عنده شرط لا تعمل العلة إلا عند
وجودها ولهذا لا يجعل للجنسية أثرا في تحريم
النساء فحاصل المسألة أن بيع كل مكيل أو موزون
بجنسه لا يجوز عندنا إلا بعد وجود المخلص وهو
المماثلة في القدر وأن يكون عينا بعين وعنده
بيع كل مطعوم بجنسه وكل ثمن بجنسه حرام إلا
عند وجود المخلص وهو المساواة في المعيار
الشرعي وأن يكون قبضا بقبض في المجلس والحاصل
أن حرمة البيع في هذه الأموال أصل عنده
والجواز يعارض المساواة في المعيار مع القبض
في المجلس وعندنا إباحة البيع في هذه الأموال
أصل كما في سائر الأموال والفساد يعارض انعدام
المماثلة بوجود الفضل الخالي عن العوض متيقنا
به أو موهوما احتياطا والمقصود من التعليل
عنده منع قياس غير المطعومات على المطعومات
وغير الثمن على الثمن بناء على أصله أن
التعليل صحيح لإثبات حكم الأصل والمنع من
إلحاق غيره به وعندنا التعليل لتعدية حكم النص
إلى غير المنصوص فالحكم في المنصوص ثابت بالنص
لا بالعلة لأن الثابت بالنص مقطوع به والمنع
بظاهر النص ثابت فالاشتغال بالتعليل يكون لغوا
عندنا وبيان هذا الأصل إذا باع تفاحة بتفاحتين
عنده لا يجوز لأن الحرمة هي الأصل في بيعها
والحل يثبت بعارض بوجود المساواة في المعيار
الشرعي ولم يوجد فلا يجوز وعندنا يجوز لانعدام
الفضل على القدر وهو المعيار الشرعي والحرام
هو الفضل على القدر ولم يوجد فيجوز لأن الجواز
أصل في البيع والحرمة تثبت بعارض انعدام
المماثلة في القدر وهو المعيار الشرعي وهذا لا
معيار له فيجوز العقد ولو باع قفيز جبس بقفيزي
جص عندنا لا يجوز لوجود الجنسية والقدر وعنده
يجوز لعدم الطعم ولو باع حفنة بحفنتين عنده لا
يجوز لكونه مطعوما وقد عدمت المساواة في
المعيار الشرعي وعندنا يجوز لعدم الكيل مع
الجنس ولو باع منا سكر بمنوي سكر عندنا لا
يجوز لوجود
ج / 12 ص -100-
الجنس مع القدر وعنده لا يجوز أيضا لوجود
الطعم مع الجنس ولو باع منا قطن بمنوى قطن
عندنا لا يجوز لوجود الجنسية والقدر وعنده
يجوز لعدم الطعم وحجة الشافعي لإثبات أصله ما
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع
الطعام بالطعام إلا سواء بسواء وفي رواية قال:
"لا تبيعوا
البر بالبر إلا سواء بسواء" ففي
هذا بداية ببيان النهى والمنع لو اقتصر على
قوله:
"لا تبيعوا" لم يجز بيع
أحدهما بالآخر بحال فبه تبين أن حرمة البيع
أصل وأن الجواز يعارض المساواة بين ذلك بقوله:
"إلا سواء بسواء"
والمراد المساواة في القدر ثم اسم الطعام
يتناول القليل والكثير وما يكال من الأطعمة
وما لا يكال فثبت حرمة البيع في جميع ذلك
وتبين بهذا أن التعليل بالقدر يوجب تخصيص
الأصل المعلل وذلك باطل وكذلك في الحديث
المشهور قال:
"الحنطة بالحنطة"
فهذا اللفظ يتناول القليل والكثير وقوله صلى
الله عليه وسلم:
"مثلا بمثل"
نصب على الحال أي إنما يكون بيعا في حالة ما
يكون مثلا بمثل والمراد المماثلة في القدر
فتبين به أيضا أن الحرمة أصل فيها وأن الحل
يعارض المماثلة في القدر وليس المراد بالربا
الزيادة فقد قال عمر رضي الله عنه أن آية
الربا آخر ما نزل وقبض رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبل أن يبين لنا شأنها وإن من الربا
أبوابا لا يكدن يخفين على أحد منها السلم في
السن فتبين بهذا أنه علم أن الاسم غير عما
عليه مقتضى اللغة وأنه ليس المراد من الربا
الزيادة فإنه ليس في السلم في السن زيادة
خالية عن العوض وقد جعله من الربا الذي لا
يكاد يخفى على أحد ولئن كان المراد الزيادة
فإنما أراد فضلا قائما في الذات لأن المطعوم
إذا قوبل بجنسه لا يتساويان في الطعم إلا
نادرا ولا ينبني الحكم عن النادر فذلك الفضل
القائم في الذات حرام وربا إلا أنه سقط
اعتباره شرعا بالمساواة في القدر تيسيرا على
الناس فتبين بهذا أن الحرمة أصل أيضا وفي ذكر
الطعام ما يدل على أن العلة هي الطعم لأن
الطعام اسم مشتق منه معنى والحكم إذا علق باسم
مشتق من معنى فالمعنى الذي اشتق منه الاسم هو
العلة للحكم كما في قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] وفي قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}[المائدة:38] ومن حيث الاستدلال وهو أن الشرع شرط لجواز البيع في
هذه الأموال شرطين المساواة واليد باليد
فعرفنا أن الموجب لهذين الشرطين معنى في المحل
ينبئ عن زيادة شرطين الولي والشهود كان ذلك
دليلا على أن الموجب للشرطين معنى في المحل
ينبئ عن زيادة خطر وهو أن المستحق به ما في
حكم النفوس ثم هنا المعنى ينبئ عن الخطر في
الذهب والفضة الثمنية لأنهما خلقا لذلك
وبالثمنية حياة الأموال والمعنى أن الذي ينبئ
عن زيادة الخطر في الأشياء الأربعة الطعم لأن
بالطعم حياة النفوس فعرفنا أن العلة الموجبة
لهذين الشرطين الطعم والثمنية ولهذا جعلنا
الجنسية شرطا لا علة لأن الحكم يدور مع الشرط
وجودا وعدما كما يدور مع العلة والفرق بينهما
بالتأثير فإذا لم يكن في الجنسية ما ينبئ عن
زيادة الخطر ولا يثبت الحكم إلا عند وجوده
جعلناه شرطا لا علة وبهذا تبين فساد التعليل
بالقدر فإنه لا ينبئ عن زيادة خطر في المحل
لأن الجص شيء هين يكال فلا يتعلق به حياة نفس
ولا مال إنما هو معد لتزين البناء ولأن الشرع
ذكر عند بيان حكم الربا
ج / 12 ص -101-
جميع الأثمان وهي الذهب والفضة وذكر من
المطعومات أنفس كل نوع فالحنطة أنفس مطعوم بني
آدم والشعير أنفس علف الدواب والتمر أنفس
الفواكه والملح أنفس التوابل فلما أراد
المبالغة في بيان حكم الربا ولم يمكنه ذكر
جميع المطعومات نص من كل نوع على أعلاه ليبين
بذلك أن العلة هي الطعم فأما إذا جعل العلة
القدر يتمحض ذكر هذه الأشياء تكرارا لأن صفة
القدر لا تختلف في الأشياء الأربعة وحمل كلام
صاحب الشرع على ما يفيد أولى ولهذا قال مالك
العلة الاقتيات لأنه خص بالذكر كل مقتات مدخر
وقال ابن سيرين العلة تقارب المنفعة لوجود ذلك
في الأشياء المذكورة فإن الحنطة مع الشعير
تتقارب في المنفعة فإذا ثبت أن العلة هي الطعم
والثمنية امتنع قياس غير المطعوم على
المطعومات وغير الأثمان على الأثمان لانعدام
العلة فيها ولما جعل الشرع القدر معتبرا في
الخلاص عن الربا لا يجوز اعتبار ذلك بعينه في
الوقوع في الربا لاستحالة أن يتضمن الشيء
حكمين متضادين بل القدر في المقدرات بمنزلة
العدد في المعدودات والزروع في المزروعات فكما
لا يصلح جعل علة ذلك للربا فكذلك القدر وحجتنا
في المسألة ما روينا أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال بعد ذكر الأشياء الستة بصفة الكيل
والوزن فذلك دليل على أن العلة فيها الكيل
والوزن وإن لم تثبت هذه الزيادة فقوله
"الحنطة
بالحنطة" معناه بيع الحنطة بالحنطة والبيع لا يجري باسم الحنطة فالاسم
يتناول الحبة الواحدة ولا يبيعها أحد وإنما
يعرف ماليتها ولو باعها لم يجز لأنها ليست
بمال متقوم فعلم ضرورة أن المراد الحنطة التي
هي مال متقوم ولا يعلم ماليتها إلا بالكيل
فصارت صفة الكيل ثابتة بمقتضى النص وكذلك
قوله:
"الذهب بالذهب"
فالاسم قائم بالذرة ولا يبيعها أحد وإنما تعرف
ماليتها بالوزن كالشعيرة ونحو ذلك فصارت صفة
الوزن ثابتة بمقتضى النص فكأنه قال الذهب
الموزون بالذهب والحنطة المكيلة بالحنطة
والصفة من اسم العلم يجري مجرى العلة للحكم
كقوله صلى الله عليه وسلم "في خمس من
الإبل السائمة شاة" وما ثبت
بمقتضى النص فهو كالمنصوص ألا ترى أنه لو قال
غصبت من فلان شيئا يلزمه أن يبين مالا متقوما
لثبوت صفة المالية بمقتضى الغصب وكذلك
قوله:صلى الله عليه وسلم
"لا تبيعوا الطعام بالطعام" ذكر الطعام عند ذكر البيع فلا يتناول إلا الحنطة ودقيقها كمن وكل
وكيلا بأن يشتري له طعاما فاشترى فاكهة يصير
مشتريا لنفسه وهذا لأن سوق الطعام الذي يباع
فيه الحنطة ودقيقها وبائع الطعام من يبيع
الحنطة ودقيقها وهذا من أبواب الكتاب ليس من
فقه الشريعة في شيء وأما الكلام في المسألة من
حيث الاستدلال فينبني على معرفة النص فنقول
حكم نص الربا وجوب المماثلة في المعيار شرط
لجواز العقد ثم ضرورة الفضل لعدم تلك المماثلة
ربا لوجوب المماثلة لا كما قاله الخصم أن
الحكم حرمة فضل في الذات ثم المماثلة شرط
لإزالة فضل حرام والدليل على ما قلنا أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال
"الحنطة بالحنطة مثل بمثل"
فقد أوجب المماثلة لجواز العقد ثم جعل الفضل
بعد تلك المماثلة بقوله عليه الصلاة والسلام
"والفضل ربا"
وفي الحديث الآخر قال
"لا
تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء"
وبالإجماع المساواة في الكيل فعرفنا أن المراد
اشتراط المماثلة لجواز
ج / 12 ص -102-
العقد لأن الكلام المقيد بالاستثناء يصير
عبارة عما وراء المستثنى فيكون المعنى فساد
البيع عند عدم المماثلة التي هي واجبة وإذا
ثبت أن الحكم وجوب المماثلة ولا يتصور ثبوت
الحكم بدون محله عرفنا أن المحل الذي لا يقبل
المماثلة لا يكون مال الربا أصلا والحفنة
والتفاحة لا تقبل المماثلة بالاتفاق فلم يكن
مال الربا والدليل عليه أن صاحب الشرع صلى
الله عليه وسلم ما نص على حكم الربا إلا
مقرونا بالمخلص فكل علة توجب الحكم في محل لا
يقبل المخلص أصلا فهي علة باطلة والطعم بهذه
الصفة فإنها توجب الحكم في الرمان والسفرجل
ولا يتصور فيه المخلص وكذلك قوله:
"لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" كلام مقيد بالاستثناء والمستثنى من جنس المستثنى منه لأن الاستثناء
لا خراج ما لولاه لكان الكلام متنا ولا له وإن
كان المستثنى الكثير القابل للماثلة لا
يتناوله الحديث أصلاً فإن قال هو استثناء
مقطوع بمعنى لكن أي جعلتموه سواء بسواء فبيعوا
أحدهما بالآخر قلنا هذا مجاز ولا يترك العمل
بالحقيقة إلا عند قيام الدليل وباعتبار
الحقيقة يتبين أن حكم النص وجوب المماثلة فيما
يختص بمحل قابل للمماثلة والدليل عليه أنه لو
باع قفيز حنطة يملكه بقفيز حنطة أرخوة أو قد
أكلها السوس يجوز وقد تيقنا بفضل في الذات ومع
ذلك جاز العقد لوجود المماثلة في القدر فإن
قال سقط اعتبار الفضل القائم في الذات لوجود
المساواة في القدر قلنا هذا جائز ولكن عند
قيام الدليل فإذا أمكن أن يجعل الحكم في الذات
وجوب المماثلة والفضل الذي هو ربا بعد تلك
المماثلة فلا حاجة بنا إلى إسقاط ما هو موجود
حقيقة خصوصا فيما إذا بنى أمره على الاحتياط
وهو الربا والذي قال إن الاسم غير عما عليه
مقتضى اللغة ممنوع فإنه دعوى المجاز أيضا فلا
يمكن إثباته أيضا إلا بدليل فأما حديث عمر رضي
الله عنه فله تأويلان:
أحدهما: أن المراد بقوله وإن
من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد منها
السلم في السن ما كانوا اعتادوا في الجاهلية
أن الواحد منهم يسلم في ابنة مخاض فإذا حل
الأجل زاده في السن وجعله ابنة لبون ليزيده في
الأجل ثم يزيده إلى سن الحقة والجذعة وفي ذلك
نزل قوله تعالى
{لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً
مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فتلك الزيادة خالية عن عوض هو مال ولهذا قال إنه من
الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد.
والثاني: أن المراد السلم في
الحيوان والحيوان مما يتفاوت والمسلم فيه دين
فإنما يصير معلوما بذكر الوصف ورأس المال
بمقابلة الأوصاف المذكورة عند العقد ثم عند
القبض يتمكن التفاوت في المالية بين المقبوض
والموصوف عند العقد لا محالة فتلك الزيادة
كأنها خالية عن عوض هو مال ولهذا جعل من الربا
الذي لا يكاد يخفى على أحد وإن سلموا أن حكم
النص وجوب المماثلة لا يبقى لهم شيء لأن وجوب
المماثلة لا تكون إلا في محل قابل للمماثلة
وإن لم يسلموا فالدليل على إثبات هذه القاعدة
أن الأموال أنواع ثلاثة متفاوتة في نفسها
كالثياب والدواب فلا تجب المماثلة فيها
للمبايعة وأمثال متقاربة كالسهام ولا تجب
المماثلة فيها أيضا للمبايعة وأمثال متساوية
كالفلوس الرائجة وتجب المماثلة فيها حتى إذا
باع فلسا بغير عينه
ج / 12 ص -103-
بفلسين بغير أعيانهما لا يجوز للرسنة فإن بيع
فلس بفلس جائز بل لوجوب المماثلة فإن أحدى
الفلسين يبقى بغير شيء لما كانت أمثالا
متساوية بصفة الرواج فيكون ذلك ربا وإذا كان
كل واحد منهما بعينه فكأن المتعاقدين أعرضا عن
الاصطلاح على كونها أمثالا متساوية ولهذا
يتبين بالتعيين فتصير أمثالا متقاربة كالجوز
والبيض إذا عرفنا هذا فنقول الشرع هنا نص على
اشتراط المماثلة في هذه الأموال فعرفنا أنها
أمثال متساوية وإنما تكون أمثالا متساوية
بالجنس والقدر لأن كل حادث في الدنيا موجود
بصورته ومعناه فإنما بطلت المماثلة من هذين
الوجهين والمماثلة صورة باعتبار القدر لأن
المعيار في هذا المقدار كالطول والعرض
والمماثلة معنى باعتبار الجنسية ولكن هذه
المماثلة لا تكون قطعا إلا بشرط وهو سقوط قيمة
الجودة منها لجواز أن يكون أحدهما أجود من
الآخر وإذا سقطت قيمة الجودة منها صارت أمثالا
متساوية قطعا فإنما يقابل البعض بالبعض في
البيع من حيث الذات فإذا كان في أحد الجانبين
فضل كان ذلك الفضل خاليا عن المقابلة كالخيطين
إذا تقابلا وأحدهما أطول فتلك الزيادة تكون
خالية عن المقابلة والفضل الخالي عن المقابلة
ربا فإذا جعل شرطا في العقد فسد به العقد
وهكذا في سائر الأموال إلا أن الفضل الخالي عن
المقابلة هناك إنما يظهر بالشرط حتى لو باع
ثوبا بثوب بشرط أن يسلم له مع ذلك ثوبا آخر لا
يجوز لأن هناك الفضل يظهر بالشرط وهنا يظهر
شرعا لوجوب المماثلة فثبت بما قررنا أن العلة
لهذا الحكم بالتأثر في إيجاب المماثلة وهو
الجنس والقدر وإن شرط عمل العلة سقوط قيمة
الجودة منها وهذا شرط عرفناه بالنص وهو قوله
صلى الله عليه وسلم:
"جيدها ورديها سواء" وبدليل مجمع عليه وهو أنه لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة ردية
ودرهم لا يجوز وما كان مالا متقوما يجوز
الاعتياض عنه كالبيع وإنما يجوز الاعتياض عما
فسد بتقومه شرعا كالخمر ونحو ذلك فلما لم يجز
الاعتياض عن الجودة هنا عرفنا أنه لا قيمة
للجودة عند المقابلة بالجنس ثم إثبات الحكم
بهذا الطريق يكون على موافقة الأصول وعلى ما
يدعيه الخصم أن الحكم حرمة فضل في الذات يكون
إثبات الحكم على مخالفة الأصول فالبيع ما شرع
إلا لطلب الربح والفضل فالفضل الذي يقابله
العوض حلال ككسبه بالبيع فكيف يستقيم أن يجعل
حراما بالرأي وإن أردت تحرير النكتة قلت
التفاح والرمان مال لم يسقط قيمة الجودة منه
عند المبايعة فيجوز بيع بعضه ببعض كيف ما كان
كالثياب والدواب ثم تقريره من الوجه الذي
ذكرنا وبهذا يعلل في القليل من الحنطة كالحفنة
ونحوها فإن قيل كيف يستقيم هذا ولو غصب من آخر
حفنة من حنطة فنقصت عنده ليس للمغصوب منه أن
يضمنه النقصان مع أخذ حنطته ولو كان للجودة
منها قيمة لكان له ذلك كما في التفاح والرمان
والثياب ونحوها قلنا الواجب على الغاصب ضمان
القيمة لأن الحفنة ليست من ذوات الأمثال فإن
المماثلة بالمعيار وليس للحفنة معيار فعرفنا
أن الواجب هو القيمة وقد بينا أن المالية
والقيمة في الحنطة لا تعلم إلا بالكيل فلا بد
من إظهار قيمة هذا المغصوب من اعتبار الكثير
وهو القفيز وعند اعتبار ذلك لا قيمة للجودة
فلا يمكن معرفة
ج / 12 ص -104-
النقصان ليوجب ذلك على الغاصب ويمكن معرفة
القيمة بالحرز فيوجب القيمة ويكون شرط
الاستيفاء تسليم العين إلى الغاصب فإذا أراد
استرداد العين لم يكن له أن يرجع بشيء كما لو
قطع يد عبد عند إنسان فأراد المولى إمساك
العبد لم يرجع بشيء على قول أبي حنيفة وعلى
هذا الأصل قلنا لو باع حفنة بقفيز لا يجوز
أيضا لأن القفيز لا قيمة للجودة منه فتكون
المقابلة باعتبار الذات فيظهر الفضل الخالي عن
المقابلة بخلاف الحفنة بالحفنتين فكل واحد
منهما يقابل الآخر في البيع والشراء من غير
اعتبار القفيز وبدون اعتباره للجودة قيمة فلا
يظهر الفضل الخالي عن المقابلة ويتبين بما
ذكرنا فساد علة الخصم بالطعم والثمينة فإنها
علة قاصرة لا تتعدى إلى الفروع ولأنها تثبت
الحكم على مخالفة الأصول ولأن الطعم عبارة عن
أعظم وجوه الانتفاع بالمال وكذلك الثمنية
فإنها تنبئ عن شدة الحاجة إليه وتأثير الحاجة
في الإباحة لا في الحرمة كتناول الميتة تحل
باعتبار الضرورة ولا معنى لما قال إن الشرع ما
حرم البيع في هذه الأموال إلا ما حرم في سائر
الأموال وهو الفضل الخالي عن المقابلة وهذا
لأن هذه الأموال بذلة كسائر الأموال حتى يجوز
تناولها بدون الملك بالإباحة وبالملك بغير عوض
وهو الهبة بخلاف البضع فإنه مصون عن الابتذال
يلحق بالنفوس فيجوز أن يشترط في النكاح زيادة
شرط لإظهار خطر المحل وبهذا تبين فساد ما قال
إن الاسم المشتق من فعل إذا علق به الحكم يصير
ذلك الفعل علة لأنه إنما يكون ذلك الفعل علة
إذا كان صالحا له كالزنا والسرقة وإذا كانت
الثمنية والطعم ينبئان عن شدة الحاجة فلا
يصلحان أن يكونا علة للحرمة والذي قال إن صاحب
الشرع نص على الأشياء الأربعة قلنا قد نص على
الأشياء الستة وعطف بعضها على البعض فينبغي أن
تكون العلة في الكل واحدة وذلك الجنس والقدر
ثم الكيل والوزن اختلاف عبارة في القدر كالصاع
والقفيز ونحوه فأما إذا كانت العلة في النقود
الثمنية وفي سائر الأشياء الأربعة الطعم لم
يستقم عطف بعضها على البعض إذ لا موافقة بين
الثمنية والطعم والذي قال القدر علة للخلاص لا
كذلك قد بينا أن جواز البيع في هذه الأموال
أصل فحيث مفسد إنما يفسد لوجود العلة المفسدة
لذلك فأما جواز باعتبار الأصل لا باعتبار
المخلص ولئن كان هذا مخلصا فهو مخلص في حالة
التساوي وعلة الربا في حالة الفضل والشيء
الواحد يتضمن حكمين في محلين كالنكاح يثبت
المحل للمنكوحة والحرمة في أمها وإنما جعلنا
القدر مخلصا لأن الخلاص عن الربا بالمساواة في
القدر وذلك لا يعرف إلا بالكيل والوزن فكذلك
الوقوع في الربا بالفضل على القدر وذلك لا
يعرف إلا بالكيل والوزن وربما يقول بعضهم إن
الحفنة مقدرة إلا أنه لا يمكن معرفة مقدارها
إلا بضم أمثالها إليها ولا تخرج به من أن تكون
مقدارا كالصبرة وهذا فاسد فإن المقدر لا يمكن
معرفة مقداره فإذا ضم إلى الحفنة أمثالها
وكيلت يصير مقدار القفيز معلوما لا مقدار
الحفنة بخلاف الصبرة فإنها إذا فرقت جزاء
وكيلت يصير مقدار الصبرة معلوما فأما علة ربا
النساء أحد هذين الوصفين إما الجنس أو القدر
ثبت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم بعد الأشياء
الستة:
"وإذا اختلف
النوعان فبيعوا كيف
ج / 12 ص -105-
شئتم بعد أن يكون يدا بيد"
فقد ألغي ربا النساء بعد انعدام الجنسية لبقاء
أحد الوصفين والشافعي لا يخالفنا فيما هو
العلة عنده أيضا وإنما يخالفنا في الجنسية
بناء على أصله أن الجنسية شرط لا علة وسنبين
هذا الفضل في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى
وعن إبراهيم قال أسلم ما يكال فيما يوزن وأسلم
ما يوزن فيما يكال ولا تسلم بالوزن فيما يوزن
ولا ما يكال فيما يكال وإذا اختلف النوعان مما
لا يكال ولا يوزن فلا بأس به واحدا باثنين يدا
بيد ولا بأس به نسيئة وإن كان من نوع واحد مما
لا يكال ولا يوزن فلا بأس به اثنين بواحد يدا
بيد ولا خير في نسيئته ونقول أما قوله:
"أسلم ما يكال فيما يوزن" غير
مجرى على ظاهره بل المراد إذا كان الموزون مما
يصلح أن يكون مسلما فيه يكون مبيعا مضبوطا
بالوصف حتى إذا أسلم الحنطة في الذهب والفضة
لا يجوز عندنا وللشافعي قول في القديم أن ذلك
يجوز بناء على مذهبه أن النقد يصلح أن يكون
مبيعا حتى يتعين بالتعين فأما عند الذهب
والفضة لا يصلح أن يكون مبيعا حتى يتعين
بالتعيين والمسلم فيه مبيع فإذا لم يكن هذا
أسلما.
قال عيسى بن إبان يكون هذا عقدا باطلا وكان
أبو بكر الأعمش يقول أنه بيع الحنطة بدراهم
مؤجلة فيكون صحيحا لأن تحصيل مقصود المتعاقدين
بحسب الإمكان واجب وقد قصدا مبادلة الحنطة
بالدراهم مؤجلة وما ذكره عيسى أصح لأن المعقود
عليه في السلم المسلم فيه فإنما يشتغل بتصحيح
العقد في المحل الذي أوجبنا العقد فيه وذلك
غير ممكن ولا وجه لتصحيحه في محل آخر لأنهما
لم يوجبا العقد فيه وقوله وأسلم ما يوزن فيما
يكال مجرى على ظاهره فإن إسلام المكيل في
الموزون جائز على كل حال لانعدام الوصفين
جميعا إذ الاتفاق بين البدلين في الجنس ولا في
القدر والموزون غير المكيل وقوله ولا تسلم ما
يوزن فيما يوزن غير مجرى على ظاهره أيضا بل
المراد إذا كانا متفقين في المعنى بأن كانا
مثمنين كالزعفران مع القطن فأما إذا كان
مختلفين في المعنى فذلك جائز كما لو أسلم
النقود في الزعفران أو الحديد أو القطن فإنه
يجوز والعراقيون من مشايخنا رحمهم الله تعالى
يقولون الجواز للحاجة لأن رأس المال يكون من
النقود عادة والحاجة تمس إلى إسلامها في
الموزونات والمكيلات جميعا ولكن هذا كلام من
يجوز تخصيص العلل الشرعية ولسنا نقول به بل
نقول اتفاقهما في الوزن صورة لا معنى وحكما
فإن الوزن في النقود ليس نظير الوزن في
الزعفران فإن الزعفران يوزن بالأمناء ويكون
مثمنا يتعين في العقود والنقد يوزن بالصنجات
ويكون ثمنا لا يتعين في العقد ومن حيث الحكم
صفة الوزن يلزم في الزعفران حتى لو اشترى
زعفرانا بشرط الوزن ليس له أن يتصرف فيه قبل
أن يزنه ولا يلزم في النقود حتى لو باع شيئا
بدرهم بشرط الوزن كان له أن يتصرف فيه قبل أن
يزنه فما كان هذا إلا نظير الموزون مع المكيل
فإنهما استويا من حيث إن كل واحد منهما مقدر
صورة ولكن لما اختلفا في المعنى والحكم جوز
إسلام أحدهما في الآخر فكذلك النقود مع سائر
الموزونات وقوله:
"ولا ما يكال فيما يكال" مجرى على ظاهره فإن إسلام المكيل في المكيل لا يجوز بحال لاتفاقهما
في قدر واحد
ج / 12 ص -106-
وقوله:
"وإذا اختلفا النوعان مما
لا يكال ولا يوزن فلا بأس به واحدا باثنين يدا
بيد"
هذا مجرى على ظاهره لانعدام العلة المحرمة
للفضل وقوله ولا بأس به نسيئة هذا غير مجرى
على ظاهره ولكن المراد إذا كان ما يجعل مسلما
فيه يصير مضبوطا بالوصف على وجه يلتحق بذكر
الوصف بذوات الأمثال حتى لو أسلم ثوبا في
جوهره أودرة لا يجوز وكذلك في الحيوان عندنا
وقوله وإن كان من نوع واحد مما لا يكال ولا
يوزن فلا بأس به اثنان بواحد يدا بيد هذا مجرى
على ظاهره وهو متفق عليه لقوله صلى الله عليه
وسلم:
"لا بأس ببيع النجيبة بالإبل والفرس بالافراس يدا بيد" وقوله لا خير فيه نسيئة هو قول علمائنا رحمهم الله تعالى فإن الجنس
عندنا يحرم النساء بانفراده حتى لو أسلم ثوبا
هرويا في ثوب هروي لا يجوز عندنا وعند الشافعي
يجوز وكان مالك رحمه الله تعالى يقول إن
اختلفا في الصفة يجوز فكأنه يجعل اختلاف الجنس
باختلاف الصفة ولو أسلم هرويا في مروى جاز
عندنا وعند ابن أبي ليلى لا يجوز فكأنه يجعل
اختلاف الجنس باختلاف الأصل فأما إذا اتحد
الأصل فالكل عنده جنس واحد أو باعتبار تقارب
المنفعة يجعل الهروى والمروى جنسا واحدا وقد
نقل ذلك عنه في الحنطة والشعير أيضا أنهما من
جنس واحد لتقارب المنفعة لكن هذا بعيد فإن
النبي صلى الله عليه وسلم عطف الشعير على
الحنطة ثم قال
وإذا اختلفا النوعان فكذلك بيان أنهما جنسان وكذلك المصنوع من أصل لا يكون جنسا للأصل كالقطن مع الثوب فكيف
يكون جنسا لمصنوع آخر على هيئة أخرى من ذلك
الأصل فعرفنا أن باتحاد الأصل لا تثبت
المجانسة وباختلاف الصفة لا تنعدم المجانسة
أيضا كما في الأموال الربوية فالحنطة العفنة
مع الحنطة الجيدة جنس واحد وكذلك السقي مع
التجنبي والفارسي مع الدقل في التمر جنس واحد
مع اختلاف الوصف فأما الشافعي فإنما بنى مذهبه
على ما قلنا أن الجنسية عنده شرط وقد بينا
فساد ذلك وعلى سبيل الابتداء يحتج بحديث عبد
الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم جهز جيشا ففرت الإبل
فأمرني أن أشتري بعيرا ببعيرين إلى أجل وعن
علي رضي الله تعالى عنه أنه باع بعيرا يقال له
عصفور بعشرين بعيرا إلى أجل وعن ابن عمر رضي
الله تعالى عنهما أنه باع بعيرا بأربعة أبعرة
إلى أجل ولأن هذا عقد جمع بين بدلين لو قوبل
كل واحد منهما بجنسه عينا حل التفاضل بينهما
فيجوز إسلام أحدهما في الآخر كالهروي مع
المروي وتأثير هذا الكلام أن باعتبار التأجيل
في أحد البدلين يظهر التفاوت في المالية حكما
والتفاوت في المالية حقيقة أكثر تأثيرا من
التفاوت في المالية حكما فإذا كان التفاوت في
المالية في هذه الأموال حقيقة لا أثر له في
المنع من جواز العقد فالتفاوت حكما أولى وهذا
لأن حكم الربا في خاص من الأموال وجعل الجنسية
علة تؤدى إلى تعميم حكم الربا في كل مال فما
من مال إلا وله جنس فما كانت الجنسية إلا نظير
المالية ثم لا يجوز جعل المالية علة الربا
فكذلك الجنسية وحجتنا في ذلك ما روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الحيوان
بالحيوان نسيئة ولا يحمل هذا على النسيئة من
الجانبين لأن ذلك يستفاد بنهيه صلى الله عليه
وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ ولأنه إذا قيل باع
فلان عبده بالحيوان نسيئة فإنما يفهم منه
ج / 12 ص -107-
النسيئة في البدل خاصة ومطلق الكلام محمول على
ما يتفاهمه الناس وتأويل ما رووا من الآثار
أنه كان قبل نزول آية الربا وكان ذلك في دار
الحرب وعندنا لا يجوز الربا بين المسلم
والحربي في دار الحرب فتجهيز الجيش وإن كان في
دار الإسلام تقل الآلات كما لو كان في دار
الحرب لعزتها في دار الإسلام يومئذ ولأن النبي
صلى الله عليه وسلم سوى بين الجنسية والقدر في
أول الحديث ثم قال:
"وإذا اختلفا النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" فقد أبقى ربا النساء لبقاء ما هو قريبه وهو الجنس فكان ذلك تنصيصا
على ثبوت ربا النساء عند وجود الجنسية لأنه
متى ثبتت المساواة بين الشيئين بالنص ثم خص
جنس أحدهما بحكم كان ذلك تنصيصا على ذلك الحكم
في الآخر كالرجل يقول اجعل زيدا وعمرا في
العطية سواء ثم يقول اعط زيدا درهما يكون ذلك
تنصيصا على أن يعطى عمرا أيضا درهما ولا
يستقيم اعتبار ربا النساء بربا الفضل لاتفاقنا
على أن ربا النساء أعم حتى يثبت في بيع الحنطة
بالشعير وإن كان لا يثبت ربا الفضل وليس الجنس
كالمالية لأن جعل المالية علة تؤدي إلى تعميم
الربا في البيوع كلها لأن البيع لا يجوز إلا
في مال متقوم والشرع فصل بين البيع والربا
فعرفنا أن المالية ليست بعلة فيه وليس في جعل
الجنسية علة تعميم الربا في العقود كلها
والقياس على أصول تنعدم فيها الجنسية باطل لأن
انعدام الحكم عند عدم العلة دليل صحة العلة لا
دليل فسادها ولأن إسلام الشيء في جنسه يؤدي
إلى إخلاء العقد عن الفائدة وإلى أن يكون
الشيء الواحد عوضا ومعوضا وإلى فضل خال عن
العوض مستحق بالبيع وذلك باطل بيانه أنه إذا
أسلم ثوبا هرويا في ثوب هروي فإنه يلزم تسليم
رأس المال في الحال ثم إذا حل لأجل يرد ذلك
الثوب بعينه والمقبوض بحكم السلم في حكم عين
ما يتناوله العقد فلو جوزنا هذا العقد لم يكن
مفيدا شيئا ويكون الثوب الواحد عوضا ومعوضا
وإذا أسلم ثوبا هرويا في ثوبين هرويين لو
جوزنا ذلك لكان إذا حل الأجل أخذ منه ذلك
الثوب بعينه وثوبا آخر فالثوب الآخر يكون فضلا
خاليا عن العوض مستحقا بالبيع وهو الربا
بعينه.
قال: وإذا أسلم الرجل في
الطعام كيلا معلوما وأجلا معلوما وضربا من
الطعام وسطا أو رديا أو جيدا واشترط المكان
الذي يوفيه فيه فهو جائز.
قال رحمه الله تعالى: إعلم
بأن السلم أخذ عاجل بآجل وهو نوع بيع لمبادلة
المال بالمال اختص باسم لاختصاصه بحكم بدل
الاسم عليه وهو تعجيل أحد البدلين وتأخير
الآخر كالصرف وقيل السلم والسلف بمعنى واحد
وإنما سمى هذا العقد به لكونه معجلا على وقته
فإن أوان البيع ما بعد وجود المعقود عليه في
ملك العاقد وإنما يقبل السلم في العادة فيما
ليس بموجود في ملكه فلكون العقد معجلا على
وقته سمى سلما وسلفا والقياس يأبى جوازه لأنه
بيع المعدوم وبيع ما هو موجود غير مملوك
للعاقد باطل فبيع المعدوم أولى بالبطلان ولكنا
تركنا القياس بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله
تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}
[البقرة:282] وقال ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أشهد أن السلم
ج / 12 ص -108-
المؤجل في كتاب الله تعالى أنزل فيه أطول آية
وتلا هذه الآية والسنة ما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان
ورخص في السلم ففي هذا دليل أنه جوزه للحاجة
مع قيام السبب المعجز له عن التسليم وهو عدم
وجوده في ملكه ولكن بطريق إقامة الأجل مقام
الوجود في ملكه رخصة لأن بالوجود في ملكه يقدر
على التسليم وبالأجل كذلك فإنه يقدر على
التسليم إما بالتكسب في المدة أو مجىء أو أن
الحصاد في الطعام وفي الحديث عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
دخل المدينة فوجدهم يسلفون في الثمار السنة
والسنتين فقال صلوات الله تعالى عليه:
"من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" فقد قررهم على أصل العقد وبين شرائطه فذلك دليل جواز العقد ثم
الشرائط التي يحتاج إلى ذكرها في السلم عند
أبي حنيفة سبعة إعلام الجنس في المسلم فيه
وإعلام النوع وإعلام القدر وإعلام الصفة
وإعلام الأجل وإعلام المكان الذي يوفيه فيه
فيما له حمل ومؤنة وإعلام قدر رأس المال فيما
يتعلق العقد على قدره والأصل في هذه الشرائط
الحديث الذي روينا فإن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمر بإعلام القدر بأن ترك إعلامه
يفضي إلى المنازعة التي تمنع البائع عن
التسليم والتسلم فدل ذلك عن أن كل جهالة تفضي
إلى المنازعة المانعة عن التسليم والتسلم يجب
إزالتها بالإعلام وجهالة الجنس تفضي إلى ذلك
لأنه إذا أسلم في شيء فرب السلم يطالبه بإعلام
الأشياء والمسلم إليه لا يعطي إلا أدنى
الأشياء ويحتج كل واحد منهما على صاحبه بمطلق
الاسم فلا بد من إعلام الجنس لقطع هذه
المنازعة وكذلك إعلام النوع فإنه إذا أسلم
إليه في تمر فالمسلم إليه يعطيه الدقل ورب
السلم يطالبه بالفارسي ويحتج كل واحد منهما
على صاحبه بمطلق الاسم فلا بد من إعلام النوع
لقطع هذه المنازعة وكذلك إعلام الصفة لأنه إذا
أسلم إليه في الحنطة فرب السلم يطالبه بحنطة
جيدة والمسلم إليه لا يسلم إلا الرديء ويحتج
كل واحد منهما باسم الحنطة فلا بد من بيان
الصفة لقطع هذه الخصومة وإعلام القدر منصوص
عليه في الحديث وجهالته تفضي إلى المنازعة
ولأن المقصود بهذا العقد الاسترباح ولا يعرف
ذلك إلا بمعرفة مقدار المالية والمالية تختلف
باختلاف الجنس والنوعوالصفة والقدر فلا بد من
إعلام ذلك كله ليصير ما هو المقصود لكل واحد
منهما معلوماً له. فأما الأجل فهو من شرائط
السلم عندنا وقال الشافعي الأجل يثبت ترفيها
لا شرطا حتى يجوز السلم عندنا حالا في الموجود
فأما في المعدوم لا يجوز السلم إلا مؤجلا
واحتج في ذلك بالحديث ورخص في السلم فأثبت في
السلم رخصة مطلقة واشتراط التأجيل فيه لا يكون
زيادة على النص والمعنى فيه أنه صار معاوضة
مال بمال فيكون الأجل فيه ترفيها لا شرطا
كالبيع والإجارة وهذا لأن المسلم فيه دين وشرط
جواز العقد القدرة على التسليم وتسليم الدين
بالمثل الموجود في العالم والظاهر من حال
العاقل أنه لا يقدم على التزام تسليم ما لا
يقدر على تسليمه فإذا قيل السلم فيما هو موجود
في العالم فالظاهر أنه قادر على تسليمه وذلك
يكفي لجواز العقد وإن لم يكن قادرا على
التسليم فيما يدخل في ملكه من رأس المال يقدر
على التحصيل والتسليم ولهذا
ج / 12 ص -109-
أوجبنا تسليم رأس المال على رب السلم أولا قبل
قبض المسلم فيه وبهذا فارق الكتابة الحالة.
قال: فإني لا أجوز الكتابة
الحالة فإن العبد يخرج من يد مولاه غير مالك
لشيء" فلا يكون قادرا على تسليم البدل وربما
يدخل في ملكه بالعقد لا يقدر على التحصيل إلا
بمدة فلهذا لا أجوزه إلا مؤجلا فأما المسلم
إليه حر من أهل الملك قبل العقد فالظاهر قدرته
على التسليم إلا أن يكون معدما في العالم
فحينئذ لا يقدر على التسليم إلا بوجوده في
أوانه فلا يجوز السلم فيه إلا مؤجلا وحجتنا في
ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أسلم
فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل
معلوم"
فقد شرط لجواز السلم إعلام الأجل كما شرط
إعلام القدر والمراد بيان أن الأجل من شرائط
السلم كالرجل يقول من أراد الصلاة فليتوضأ إلا
أن يكون المراد به إذا أسلم مؤجلا ينبغي أن
يكون الأجل معلوما وفي قوله صلى الله عليه
وسلم رخص في السلم ما يدل على الأجل أيضا لأن
الرخصة في الشيء تيسير مع قيام المانع والمانع
هو العجز عن التسليم فعرفنا أنه رخص فيه مع
قيام العجز عن التسليم بإقامة الأجل مقامه لأن
به يقدر على التسليم إما بالتكسب أو بمجيء
زمان الحصاد وهو كالرخصة في المسح على الخفين
فإن إقامة المسح مقام الغسل للتيسير وهو
المعنى في قوله في المسألة فإنا نقول باع ما
لا يقدر على تسليمه عند وجوب التسليم فلا يجوز
العقد كما لو قيل السلم في المعدوم حالا وبيان
ذلك أن عقد السلم من عقود المفاليس فإنه يكون
بدون ثمن المثل ولو كان موجودا في ملكه لكان
يبيعه بأوفى الأثمان ولا يقبل السلم فيه بدون
القيمة ولا يقال أنه إنما يقبل السلم فيه
لإسقاط مؤنة الإحضار والإراءة للمشتري فيه لأن
صاحب الشرع استثنى السلم من بيع ما ليس عند
الإنسان وبالإجماع المراد بيع ما ليس في ملكه
فإن ما في ملكه وإن لم يكن حاضرا يجوز بيعه
إذا كان المشتري رآه قبل ذلك وما ليس في ملكه
وإن كان حاضرا لا يجوز بيعه فعرفنا أن المراد
قبول السلم فيما لا يقدر على تسليمه وبالعقد
لا يصير قادرا على التسليم لأن العقد سبب
للوجوب عليه لا له فلا تثبت به قدرته على
التسليم وإنما تكون قدرته بالاكتساب ويحتاج
ذلك إلى مدة فإذا كان مؤجلا لا يظهر المانع
وهو عجزه عن التسليم وإذا كان حالا يظهر
المانع والدليل عليه أن بالاتفاق يجب تسليم
رأس المال أولا فلو جاز أن يكون المسلم فيه
حالا لم يجب تسليم رأس المال أولا لأن قيضة
المعاوضة التسوية بين المتعاقدين في التمليك
والتسليم ويتضح هذا فيما إذا كان رأس المال
عينا فإن أول التسلمين في البدل الذي هو دين
كالثمن في بيع العين والدليل عليه أن السلم
اختص بالدين مع مشاركة العين الدين فيما هو
المقصود فما كان ذلك إلا لاختصاصه بحكم يختص
به الدين وليس ذلك إلا الأجل وبه يبطل قولهم
إن السلم الحال أبعد عن الغرر من المؤجل لأن
السلم في العين أبعد عن الغرر من السلم في
الدين ومع ذلك اختص السلم بالدين وهذا بخلاف
الكتابة عندنا فإن البدل في الكتابة معقود به
لا معقود عليه والقدرة على تسليم المعقود به
ليس بشرط لجواز العقد كالثمن في المبيع فأما
المسلم فيه معقود عليه والقدرة على تسليم
المعقود عليه شرط لجواز العقد كما في بيع
العين
ج / 12 ص -110-
ولأن الكتابة عقد ارفاق فالظاهر أن المولى لا
يضيق عليه في المطالبة بالبدل وأما السلم عقد
تجارة وهو مبنى على الضيق فالظاهر أنه يطالبه
بالتسليم عقيب العقد وهو عاجز عن ذلك فلهذا لم
يجوزه إلا مؤجلا ولم يبين في الكتاب أدنى
الأجل في السلم وذكر أحمد بن أبي عمران من
أصحابنا رحمهم الله تعالى أن أدنى الأجل فيه
ثلاثة أيام اعتبارا للأجل بالخيار الذي ورد
الشرع فيه بالتقدير بثلاثة أيام وكان أبو بكر
الرازي يقول أدنى الأجل فيه أن يكون أكثر من
نصف يوم لأن المعجل ما كان مقبوضا في المجلس
والمؤجل ما يتأخر قبضه عن المجلس ولا يبقى
المجلس بينهما في العادة أكثر من نصف يوم ومن
مشايخنا رحمهم الله تعالى من قال أدنى الأجل
شهرا استدلالا بمسئلة كتاب الإيمان إذا حلف
المدين ليقضين دينه عاجلا فقضاه قبل تمام
الشهر بر في يمينه فإذا كان ما دون الشهر في
حكم العاجل كان الشهر فما فوقه في حكم الآجل
فأما تعجيل رأس المال فنقول إذا كان رأس المال
دراهم أو دنانير يكون التعجيل فيه شرطا قياسا
واستحسانا لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان
في العقود فيكون هذا بيع الدين الدين وذلك لا
يجوز لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
بيع الكالئ بالكالئ يعني النسيئة بالنسيئة
فأما إذا كان رأس المال عروضا هل يكون التعجيل
شرطا القياس أن لا يكون شرطا وفي الاستحسان
يكون شرطا وجه القياس أن العروض سلعة تتعين في
العقود بخلاف الدراهم فلو لم يشترط التعجيل لا
يؤدى إلى بيع الدين بالدين وجه الاستحسان أن
السلم أخذ عاجل بآجل والمسلم فيه آجل فوجب أن
يكون رأس المال عاجلا ليكون حكمه ثابتا على ما
يقتضيه الاسم لغة كالصرف والحوالة والكفالة
فإن هذه العقود تثبت أحكامها بمقتضيات أساميها
لغة ومن علماؤنا رحمهم الله تعالى من عبر وقال
شرط جواز السلم إعلام قدر رأس المال وتعجيله
وإعلام المسلم فيه وتأجيله وبعضهم عبر بعبارة
أخرى شرط جواز السلم أن يكون المسلم فيه مضبوط
الوصف معلوم القدر موجودا من وقت العقد إلى
وقت التسليم فأما بيان مكان الإيفاء فيما له
حمل ومؤنة من شرائط جواز السلم في قول أبي
حنيفة الآخر وكان يقول أولا ليس بشرط ولكن إن
بين مكانا تعين ذلك المكان للإيفاء وإن لم
يبين يتعين موضع العقد للإيفاء وهو قول أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى. وحجتهما في ذلك
أن موضع العقد موضع الالتزام فيتعين لإيفاء ما
التزمه في ذمته كموضع الاستقراض والاستهلاك
وهذا لأن المسلم فيه دين ومحله الذمة فإنما
يصير مملوكا لرب السلم في ذلك المكان والتسليم
إنما يجب في الموضع الذي ثبت الملك له فيه ألا
ترى أن من باع حنطة بعينها بالسواد يجب
تسليمها موضع الحنطة لأنه ملكها في ذلك الموضع
ولأن أحد البدلين وهو رأس المال يجب تسليمه في
موضع العقد فكذلك البدل الآخر لأن العقد في
حكم مكان التسليم مطلق فيقتضي المساواة بين
البدلين وبأن جاز تعبيره بالشرط فذلك لا يدل
على أنه غير ثابت بمطلق العقد ويجوز تعبره
باشتراط الأجل والمطلق بمطلق البيع ثبت عقيب
العقد ويجوز تعبيره بشرط الخيار وتوجه
المطالبة بتسليم الثمن ثابت بمطلق العقد عقيبه
ثم يجوز تعبيره باشتراط الأجل وأبو حنيفة
يقول: مكان
ج / 12 ص -111-
الإيفاء مجهول وجهالته تفضي إلى المنازعة فيجب
التحرز عن ذلك بإعلامه كزمان التسليم وإنما
قلنا ذلك لأن موضع الإلزام إنما يتعين للتسليم
بسبب يستحق به التسليم بنفس الالتزام كالقرض
والغصب والاستهلاك والسلم لا يجوز إلا مؤجلا
فعرفنا أنه لا يستحق التسليم عقيب العقد فيه
بحالي وإنما استحقاق التسليم عند حلول الأجل
وعند ذلك لا ندري أنه في أي مكان يكون ثم
قال: أرأيت لو عقد اعقد السلم في السفينة في
لجة البحر أكان يتعين موضع العقد للتسليم عند
حلول الأجل هذا مالا يقوله عاقل والدليل عليه
أن مكان العقد لو تعين لتسليم المسلم فيه لم
يجز تعبيره بالشرط كمكان البيع في بيع العين
فإنه لو باع حنطة في السواد على أن يسلمها في
المصر لا يجوز العقد ولما أجاز هنا بيان مكان
الإيفاء عرفنا أن موضع العقد غير متعين له
وهذا بخلاف رأس المال فإنه لما تعين مجلس
العقد بتسليمه لم يجز تعبيره بالشرط ثم هناك
موضع العقد غير متعين ولكن الشرط تسليم رأس
المال قبل الافتراق حتى لو مشيا فرسخا ثم سلم
إليه رأس المال قبل أن يفارقه كان صحيحا فأما
فيما لا حمل له ولا مؤنة فلا خلاف أن بيان
مكان الإيفاء ليس بشرط ولكن عند أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى في أظهر الروايتين
يجب تسليمه في موضع العقد لأنه موضع الالتزام
وفي رواية أخرى عنهما يسلم إليه حيث ما لقيه
وهو قول أبي حنيفة سواء بينا المكان أو لم
نبين لأن الشرط الذي ليس بمفيد لا يكون معتبرا
والمالية فيما لا حمل له ولا مؤنة لا تختلف
باختلاف الأمكنة إنما تختلف لعزة الوجود وكثرة
الوجود فأما فيما له حمل ومؤنة تختلف ماليته
باختلاف المكان فإن الحنطة والحطب موجود في
المصر والسواد جميعا ثم يشتري في المصر بأكثر
مما يشترى به في السواد وما كان ذلك إلا
لاختلاف المكان وقد بينا أن ما يختلف مالية
المسلم فيه باختلافه فإعلامه شرط لجواز العقد
وهذا الخلاف في فصول أربعة:
أحدها: السلم.
والثاني: إذا باع عبدا بحنطة
موصوفة في الذمة إلى أجل يشترط بيان مكان
الإيفاء لجواز العقد عند أبي حنيفة وعندهما لا
يشترط بيان مكان الإيفاء.
والثالث: إذا استأجر دارا
بماله حمل ومؤنة دينا في ذمته عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى يشترط بيان مكان الإيفاء
وعندهما يتعين موضع الدار للاستيفاء لا موضع
العقد.
والرابع: إذا اقتسما دارا
وشرط أحدهما على صاحبه شيئا له حمل ومؤنة فهو
على هذا الخلاف ويأتي بيان ذلك في الإجارات
والقسمة إن شاء الله تعالى فأما إعلام قدر رأس
المال فيما يتعلق العقد على قدره كالمكيل
والموزون فشرط السلم عند أبي حنيفة وعندهما
ليس بشرط والإشارة إلى عينه تكفي وكذلك إذا
كان رأس المال عدديا متقاربا كالفلوس والجوز
والبيض وجه قولهما إن المقصود من إعلام القدر
القدرة على التسليم وانقطاع المنازعة وذلك
حاصل بالإشارة إلى العين فيغني ذلك عن إعلام
القدر كما في الثمن والأجرة وكما في المضاربة
لو دفع إليه دراهم غير معلومة المقدار مضاربة
بالنصف كان جائزا والدليل عليه أن
ج / 12 ص -112-
رأس المال لو كان ثوبا لا يشترط إعلام ذرعانه
والذرع في المذروعات للإعلام بمنزلة القدر في
المقدرات ألا ترى أن في المسلم فيه كما يشترط
إعلام القدر يشترط إعلام الذراع إذا كان ثوبا
ثم في رأس المال لا يشترط إعلام الذرع في
المذروعات لكونه عينا فكذلك لا يشترط إعلام
القدر في المقدرات ومذهب أبي حنيفة مروى عن
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ذكره في كتاب
الصلح وقول الفقيه من الصحابة رضي الله تعالى
عنهم مقدم على القياس والمعنى فيه أن هذا مقدر
يتناوله عقد السلم فلا بد من إعلام قدره
كالسلم فيه وتحققه أن جهالة قدر رأس المال
تؤدى إلى جهالة المسلم فيه لأن المسلم إليه
ينفق رأس المال شيئا فشيئا وربما يجد بعد ذلك
زيوفا فيرده ولا يستند له في مجلس الرد فيبطل
العقد بقدر ما ردوا لا لم يكن مقدار رأس المال
معلوما لا يعلم في كم انتقض السلم وفي كم بقي
وإذا كان مقدار رأس المال معلوما بوزن المردود
فيعلم أنه في كم انتقض العقد وما يؤدي إلى
جهالة المسلم فيه يجب الاحتراز عنه وإن كان
ذلك موهوما ألا ترى أنه لو أسلم في مكيل
بمكيال رجل بعينه لا يجوز العقد لأنه يتوهم
هلاك ذلك المكيال وهو مخالف لغيره من المكاييل
فإذا هلك صار مقدار المسلم فيه مجهولا فكذلك
هنا يجب التحرز عن الجهالة بإعلام مقدار رأس
المال بخلاف ما إذا كان رأس المال ثوبا لأن
الذرعان في الثوب المعين صفة ولهذا لو اشترى
ثوبا على أنه عشرة أذرع فوجده أحد عشر ذراعا
تسلم له الزيادة ولو وجده تسعة أذرع لا يحط
عنه شيئا من الثمن فالمسلم فيه لا ينقسم على
عدد الذرعان فيشترط فيه إعلامه ثم لا يتصور
استحقاق ذرع بعينه من الثوب وإنما يتصور
استحقاق النصف أو الثلث وذلك لا يؤدي إلى
جهالة المسلم فيه وإن لم يكن معلوم الذرع
بخلاف المقدار على ما بينا وإنما لم يذكر في
جملة الشرائط تعجيل رأس المال في المجلس لأنا
عددنا الشرائط التي يحتاج إلى ذكرها في العقد
وتعجيل رأس المال ليس من ذلك في شيء لأن ذلك
شرط بقاء العقد لا شرط انعقاده صحيحا فإن
العقد بينهما لازم قبل تعجيل رأس المال ما
داما في المجلس فلهذا لم يذكره من جملة
الشرائط.
قال: وإذا شرط طعام قرية
بعينها أو أرض خاصة لا يبقى طعامها في أيدي
الناس فالسلم فاسد لما روى أن زيد بن شعبة
أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
التمر فقال أسلمت إليك في تمر حائط فلان فقال
صلى الله عليه وسلم:
"أما حائط فلان فلا أسلم إلا في تمر جيد" وفي مثله قال صلى الله عليه وسلم:
"أرأيت لو أذهب الله ثمرته بم يستحل أحدكم مال أخيه لا تسلفوا في
الثمار حتى يبدو صلاحها"
وفي هذا إشارة إلى المعنى وهو أن قدرة العاقد
على التسليم عند وجوب التسليم شرط لجواز العقد
ولا يعلم قدرته على التسليم عند حلول الأجل
إلا بوجود الثمار في تلك النخلة أو الحائط
الذي عينه ووجود ذلك موهوم وبالموهوم لا تثبت
القدرة على التسليم وكذلك إذا عين أرضا لا
يبقى طعامها في أيدي الناس فقدرته على التسليم
عند وجوب التسليم موهوم.
قال: ولا بأس بأن يأخذ بعض
رأس ماله وبعض ما أسلم فيه إذا حل الأجل عندنا
وهو
ج / 12 ص -113-
قول ابن عباس رضي الله عنهما وكان عبد الله بن
عمر رضي الله عنهما لا يجوز ذلك وبه أخذ ابن
أبي ليلى.
قال: وإذا أخذ بعض رأس ماله
فسد العقد ويسترد ما بقي من رأس المال لقوله
صلى الله عليه وسلم:
"لا تأخذ إلا
سلمك أو رأس مالك" فإذا أخذ
بعض كل واحد منهما فلم يأخذ لا هذا ولا ذاك
فلا يتمكن منه شرعا ولأنه حين أخذ بعض رأس
المال فقد اختار فسخ العقد فينفسخ في الكل
وحجتنا في ذلك أن أخذ رأس المال إقالة ولو
أقاله في الكل جاز فلذلك إذا أقاله في البعض
يجوز أيضا كما في بيع العين وتأويل الحديث أن
النهي عن أخذ شيء آخر سوى رأس المال والمسلم
فيه وأنه في هذا الموضع ما أخذ غير رأس المال
وغير المسلم فيه وإنما يكون ذلك عند الاستبدال
وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ذلك
المعروف الحسن الجميل وكان يكفيه أن يقول جائز
وإنما ذكر هذا اللفظ لأن السلم بدون ثمن المثل
يكون عادة والمسلم إليه يندم عند محل الأجل
وقال صلى الله عليه وسلم:
"من أقال نادما بيعته أقال الله عثراته يوم
القيامة" إلا أنه لو أقاله في الكل فات مقصود رب السلم وهو الربح فأقاله في
البعض انتدابا إلى ما ندب إليه واستوفى بعض
المسلم فيه ليحصلا مقصوده في الربح ففيه النظر
لهما وهو المعروف الحسن الجميل.
قال: والسلم جائز فيما يكال
أو يوزن مما لا ينقطع من أيدي الناس والأصل
فيه أن كل ما كان مضبوطا بوصفه معلوما بقدره
موجودا من وقت عقده إلى حين أجله يجوز السلم
فيه وما لا فلا وقيل كل ما يمكن أن يؤتى على
حصر متقاربة ويكون مقدور التسليم يجوز السلم
فيه وقيل كل ما يمكن معرفة كميته اجتهادا
وكيفيته ضرورة يجوز السلم فيه والمكيلات
والموزونات بهذه الصفة.
قال: ولا خير في السلم في
الرطبة ولا في الحطب حزما ولا جرزا وأوقارا
لأن هذا مجهول لا يعرف طوله وعرضه وغلظه فإن
الأوقار تختلف وبسبب هذه الجهالة تتمكن
المنازعة بينهما وقد بينا أن كل جهالة تفضي
إلى المنازعة فهي مفسدة للعقد وإن عرف ذلك فهو
جائز" معناه إذا بين طول ما تشد به الحزمة أنه
ذراع أو شبر فإن كان ذلك على وجه لا يتفاوت
فحينئذ يجوز السلم لكون المسلم فيه معلوما
مقدور التسليم.
قال: ولا خير في السلم في
جلود الإبل والبقر والغنم عندنا وقال مالك
بأنه يجوز لأنه مقدور التسليم معلوم المقدار
بالوزن والصفة بالذكر ولكنا نقول الجلود لا
توزن عادة ولكنها تباع عددا وهي عددية متفاوتة
فيها الصغير والكبير فلا يجوز السلم فيها وفي
الحاصل هذا مبنى على السلم في الحيوان فقد
قامت الدلالة لنا على أن السلم في الحيوان لا
يجوز فكذلك في أبعاض الحيوان ولهذا لا يجوز
السلم في الأكارع والرؤس وكذلك لا يجوز السلم
في الأدم والورق لأنه مجهول فيه الصغير
والكبير إلا أن يشترط من الورق والصحف والأدم
ضربا معلوم الطول والعرض والجودة فحينئذ يجوز
السلم فيه كالثياب،
ج / 12 ص -114-
وكذلك الأدم إذا كان يباع وزنا فإنه يجوز
السلم فيه بذكر الوزن إذا كان على وجه لا
تتمكن المنازعة بينهما في التسليم والتسلم.
قال: ولا خير في السلم في شيء
من الحيوان عندنا وعند الشافعي يجوز إذا بين
الجنس والنوع والصفة والسن واحتج في ذلك بما
روينا من الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم
استقرض بكرا وقضاه رباعيا وقال:
"خيركم أحسنكم قضاء"
والسلم أقرب إلى الجواز من الاستقراض فإذا ثبت
جواز استقراض الحيوان بهذا الحديث ثبت جواز
السلم فيه بطريق الأولى والمعنى فيه أنه مبيع
معلوم مقدور التسليم فيجوز السلم فيه كالثياب
والمكيلات والموزونات وبيان الوصف أنه يجوز
بيعه عينا والدليل على أنه معلوم فإنه إذا سمى
الإبل صار الجنس معلوما وإذا قال حيوان صار
النوع معلوما وإذا قال جذع أوثنى يصير السن
معلوما وإذا قال ثمين تصير الصفة معلومة
وإعلام الشيء من الأعيان بهذه الأشياء وشرط
جواز العقد إعلام العين ولا يعتبر بعد ذلك
جواز نفع في المالية كما في الذبائح والثياب
الفاخرة والدليل عليه أن بني إسرائيل استوصفوا
البقرة فوصفها الله تعالى لهم وأدركوها بتلك
الصفة حيث قالوا:
{الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] وقال صلى الله عليه وسلم:
"لا يصف الرجل الرجل بين يدي امرأته حتى كأنها تنظر إليه" فقد جعل الموصوف من الحيوان كالمرئي والدليل عليه أنه يثبت في
الذمة مهرا وأن الدعوى والشهادة في الحيوان
تسمع بذكر الصفة فدل أنها تصير معلومة بذكر
الوصف بخلاف اللآلئ والجواهر فالسلم في الصغار
من اللآلئ يجوز وزنا أما الكبار منها فلا يمكن
إعلامها لكون المقصود التدوير والصفا والماء
وليس لذلك حد معلوم يوقف عليه فإذا بالغ في
بيانه يصير بذلك عديم النظير وفي مثله لا يجوز
السلم ولهذا لا يثبت مهرا في الذمة وحجتنا في
ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلم في
الحيوان وفي الكتاب.
قال: بلغنا عن عبد الله بن
مسعود رضي الله تعالى عنه وإنما فسر هذا
الحديث في أول كتاب المضاربة أن ابن مسعود رضي
الله تعالى عنه دفع مالا مضاربة إلى زيد ابن
خليدة فأسلمها زيد إلى عتويس ابن عرقوب في
قلانص معلومة فقال عبد الله بن مسعود رضي الله
تعالى عنه اردد مالنا لا نسلم أموالنا في
الحيوان وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه أنه قال أن من الربا أبوابا لا يكدن
يخفين على أحد منها السلم في السن وقد بينا
تأويل آثارهم وما روي أنه استقرض بكرا فالمراد
استعجل في الصدقة ثم لم تجب الزكاة على صاحبها
فردها رباعيا أو استقرض لبيت المال وكما يجوز
أن يثبت لبيت المال حق مجهول يجوز أن يثبت ذلك
على بيت المال أيضا والمعنى فيه أنه أسلم في
مجهول فلا يجوز كما لو أسلم في الحلقات أو
الجواهر وهذا لأن المسلم فيه مبيع وشرط جواز
العقد القدرة على التسليم ولا يوجد ذلك إذا
كان المسلم فيه مجهولا وبيان الوصف أن بعد ذكر
الأوصاف التي يشترطها الخصم يبقى تفاوت عظيم
في المالية فإنك تجد فرسين مستويين في السن
والصفة ثم تشتري
ج / 12 ص -115-
أحدهما بأضعاف ما تشتري به الآخر لتفاوت
بينهما في المعاني الباطنة كالهملجة وشدة
العدو وكذلك في البعيرين وهذا في بني آدم لا
يخفى فإن العبدين والأمتين يتساويان في السن
والصفة ويختلفان في المالية لتفاوتهما في
الذهن والكياسة وفيه يقول القائل:
رب واحد يعدل ألفا زائداً
وألوف تراهم لا يساوون واحداً
وكما أن العين مقصود فالمالية أيضا مقصودة بل
أكثر لأن المقصود هو الاسترباح وذلك بالمالية
يكون فإذا كان الحيوان بذكر الأوصاف لا يلتحق
بذوات الأمثال في معنى المالية قلنا لا يجوز
السلم فيها بخلاف الثياب فإنها مصنوع بني آدم
فما لم يكن معلوما لهم لا يتمكنون من اتخاذها
والثياب إذا نسجت في منوال واحد على هيئة
واحدة لا تتفاوت في المالية إلا يسيرا ولا
معتبر بذلك القدر كالتفاوت بين الجيد والردي
في الحنطة في المالية فأما الحيوان مصنوع الله
تعالى وذلك يكون على ما يريده فقد يكون على
وجه لا نظير له ولو بالغ فاستقصى في بيان وصفه
يصير عديم النظير وذلك لا يجوز السلم فيه
بالاتفاق ويوضحه أن أقرب الحيوانات إلى الثياب
الغنم وما هو المقصود من الغنم غير مرئي بل هو
تحت الجلد ويقع فيه تفاوت عظيم وما هو المقصود
في الثياب ظاهر مرئي وقد ذكر عمرو بن أبي عمرو
عن محمد رحمهما الله تعالى قال قلت له إنما لا
يجوز السلم في الحيوان لأنه غير مضبوط بالوصف.
قال: لا فإنا نجوز السلم في
الذبائح ولا نجوز في العصافير ولعل ضبط
العصافير بالوصف أهون من ضبط الذبائح ولكنه
للسنة وإنما ذكر الله تعالى لبني إسرائيل
الأوصاف الظاهرة وذلك يمكن إعلامه عندنا ثم
كان المقصود التشديد عليهم لما استقصوا في
الاستيصاف هكذا قاله ابن عباس رضي الله عنه
وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الاستيصاف لخوف الفتنة وذلك يقع بالأوصاف
الظاهرة وكذلك سماع الدعوى والشهادة لأن
الأوصاف الظاهرة منها تصير معلومة وثبوته في
الذمة مهرا لكون النكاح مبنيا على التوسع فإن
المقصود به شيء آخر سوى المالية بخلاف السلم
ولهذا يجوز من غير بيان الوصف هناك.
قال: ولا بأس بالسلم في
الثياب كلها بعد أن يشترط ضربا معلوما وطولا
وعرضا بذراع معلوم وأجلا وصفة معلومة لأن
مقدار المالية بذكر هذه الأوصاف يصير معلوما
عادة والتفاوت الذي يقع بعد هذا يسير واليسير
من التفاوت غير معتبر لأنه لا يتمكن بسببه
منازعة مانعة من التسليم والتسلم ولا يشترط
الوزن بخلاف الحرير فإنه إذا أسلم في الحرير
ينبغي أن يشترط الوزن لأن قيمة الحرير تختلف
باختلاف الوزن وينبغي أن يشترط الطول والعرض
مع الوزن لأن المسلم إليه ربما يأتي وقت حلول
الأجل يقطع الحرير بذلك الوزن ونحن نعلم يقينا
أنه لم يرد به قطع الحرير.
قال: وكل شيء ينقطع من أيدي
الناس فلا خير في السلم فيه" وهذه المسألة على
أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون المسلم فيه
موجودا عند العقد منقطعا عن أيدي الناس عند
حلول
ج / 12 ص -116-
الأجل فلهذا لا يجوز بالاتفاق لأن السلم إليه
بالعقد يلتزم التسليم عند حلول الأجل فإذا لم
يكن مقدور التسليم عند ذلك لا يجوز العقد.
الثاني: أن يكون منقطعا وقت
العقد موجودا في أيدي الناس عند حلول الأجل
فهذا لا يجوز عندنا ويجوز عند الشافعي.
الثالث: أن يكون موجودا عند
العقد وعند حلول الأجل ولكنه ينقطع عن أيدي
الناس فيما بين ذلك فهذا لا يجوز عندنا وعلى
قول مالك والشافعي رحمهما الله.
الرابع: أن يكون موجودا من
وقت العقد إلى وقت المحل على وجه لا ينقطع
فيما بين ذلك فيكون العقد صحيحا بالاتفاق
وحجتهم في ذلك حديث عبد الله ابن عباس رضي
الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل
المدينة فوجدهم يسلفون في الثمار السنة
والسنتين وربما قال ثلاث سنين فقال:
"من أسلم
منكم فليسلم في كيل معلوم"
ومعلوم
أن الثمار الرطبة لا تبقى إلى هذه المدة
الطويلة ومع هذا قرهم على السلم فيها والمعنى
فيه وهو أن المسلم فيه معلوم مقدور التسليم
عند وجوب التسليم فيجوز العقد كما لو كان
موجودا من وقت العقد إلى وقت المحل وبيان
الوصف أن وجوب التسليم بحكم العقد عند حلول
الأجل وعند ذلك هو موجود في العالم والقدرة
على تسليم الدين بوجود جنسه في العالم ولا
معنى لقول من يقول من الجائز أن يموت المسلم
إليه عقيب العقد فيحل الأجل لأن هذا موهوم ولا
يبنى العقد على الموهومات ألا ترى أن اعتبار
هذا الموهوم يؤدي إلى الحلول أو جهالة الأجل
وذلك مبطل لعقد السلم وإن كان موجودا في الحال
فدل أنه لا يعتبر ذلك وكذلك إن كان ينقطع فيما
وراء ذلك المحل يجوز العقد وإن كان يتوهم أن
يتأخر التسليم إلى أن ينقطع وليس هذا نظير ما
لو عين مكيالا أو قيما تخالف ما بين الناس لأن
بطلان العقد ليس باعتبار هلاك ما عينه بل
باعتبار جهالة قدر المسلم فيه كتعيين المسلم
فيه لا لأنه يتوهم أو يصيب ثمار تلك النخلة
آفة والدليل أن وجود السلم فيه في مكان العقد
ليس بشرط بجواز العقد فكذلك في زمان العقد لا
التسليم لا يتأتى إلا بمكان أو زمان فكل يسقط
اعتبار وجوده في مكان العقد فكذلك في زمان
العقد.
وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها" وفي الحديث المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار
حتى يبدو صلاحها ولم يرد به النهي عن بيعها
سلما والمعنى فيه أن قدرة العاقد على تسليم
المعقود عليه شرط لجواز العقد كما في بيع
العين وهذا لأن الملتزم للتسليم هو العاقد
فيشترط قدرته على التسليم ولا يوجد ذلك إذا
كان المسلم فيه معدوما في الحال لأن العاقد لا
يقدر على تسليمه إلا بايصال حياته وأن ذلك
الشيء وإيصال حياته بأوان الوجود موهوم
وبالموهوم لا تثبت القدرة على التسليم فإن قيل
حياته معلومة في الحال والأصل بقاؤه حيا إلى
ذلك الوقت وإنما الموت موهوم قبله قلنا نعم
ولكن بقاؤه حيا إلى ذلك الوقت باستصحاب الحال
فيكون معتبرا في إبقاء ماله على ملكه لا في
توريثه من مورثه فبهذا الطريق لا تثبت قدرته
على التسليم إلا أن يكون موجودا في الحال حتى
تكون
ج / 12 ص -117-
حياته متصلة بأوان ذلك الشيء ثم عجزه بالموت
أو بآخر التسليم إلى أن ينقطع موهوم فلا يعتبر
ذلك في إفساد العقد يقرره أن ما بعد العقد
بمنزلة حالة المحل لأن زمان المحل وقت وجوب
التسليم بشرط بقائه حيا إلى ذلك الوقت وذلك
موهوم وما بعد العقد وقت وجوب التسليم يشترط
موته وذلك موهوم أيضا فاستويا من هذا الوجه ثم
يشترط الوجود وقت المحل بالاتفاق فلذلك يشترط
الوجود من وقت العقد إلى وقت المحل بخلاف ما
وراء المحل لأن ذلك ليس بزمان وجوب التسليم
ابتداء وإنما هو زمان بقاء ما وجب من التسليم
ولا يعتبر في حالة البقاء ما يعتبر في حالة
الابتداء كخلو المحل عن الردة والعدة في
النكاح والشهود تعتبر عند ابتداء العقد لا عند
البقاء واعتبار الزمان بالمكان ساقط لأنه
يتحقق نقله من مكان إلى مكان فبانعدامه في
مكان العقد لا تنعدم القدرة على التسليم ولا
يتحقق نقله من زمان إلى زمان فتنعدم القدرة
على التسليم لعدم الوجود في زمان العقد ألا
ترى أنه لا يشترط وجوده في المكان الذي جعلاه
محل التسليم ويشترط وجوده في زمان المحل وما
افترقا إلا لما قلنا وإذا كان المسلم فيه
موجودا من وقت العقد إلى وقت المحل ثم لم
يأخذه بعد محل الأجل حتى انقطع فرب المسلم
بالخيار إن شاء أخذ رأس المال وإن شاء صبر حتى
يجيء حينه فيأخذ ما أسلم فيه عند علمائنا
الثلاثة رحمهم الله تعالى وقال زفر يبطل العقد
ويسترد رأس المال لأن الانقطاع من أيدي الناس
في العجز عن تسليم الدين بمنزلة هلاك العين في
العجز عن التسليم ولو هلك المبيع في بيع العين
قبل التسليم بطل به البيع فكذلك إذا انقطعت من
أيدي الناس وقاس بما لو اشترى بفلوس شيئا
فكسدت قبل القبض يبطل العقد لهذا المعنى فكذلك
إذا انقطع المسلم فيه من أيدي الناس وحجتنا في
ذلك أنه يعذر بتسليم المعقود عليه بعارض على
شرف الزوال فيتخير فيه العاقد كما لو أبق
العبد المبيع قبل القبض وهذا لأن المعقود عليه
دين وبقاء الدين ببقاء محله ومحل الدين إنما
هو الذمة فكان المعقود عليه باقيا ببقاء الذمة
ولكن تأخر تسليمه إلى أوان وجوده وفيه يعتبر
شرط العقد فيثبت للعاقد الخيار بين أن يفسخ
العقد ويسترد رأس المال وبين أن يصبر حتى يأتي
أوانه فيأخذ المسلم فيه وبه فارق هلاك العين
فالمعقود عليه هناك يفوت أصلا وكذلك الفلوس
إذا كسدت فإن العقد إنما تناول فلوسا هي ثمن
فبعد الكساد لا يبقى ثمنا أصلا يوضحه أن ما
يكسد من الفلوس لا يروج بعد ذلك أو لا يدري
متى يروج فلم يكن للقدرة فيه على التسليم أوان
معلوم فلهذا يبطل العقد هنا لإدراك الثمار
للقدرة على التسليم أوان معلوم فيخير رب السلم
إن شاء رضي بالتأخير وإن شاء فسخ العقد وأخذ
رأس ماله.
قال: ولا خير في السلم في
الرمان والسفرجل والبطيخ والقثاء والخيار وما
أشبه ذلك مما لا يكال ولا يوزن لأنه يختلف فيه
الصغير والكبير فلا يمكن أن يؤتي على حصر
متقاربة وأصل هذا الجنس مروي عن أبي يوسف.
قال: ما يتفاوت آحاده في
القيمة فهو عددي متفاوت لا يجوز السلم فيه
عدداً وما لا
ج / 12 ص -118-
يتفاوت آحاده في القيمة وإن ما يتفاوت أنواعه
فهو عددي متفاوت لا يجوز السلم فيه عددا
والرمان والبطيخ تتفاوت في المالية آحاده
والباذنجان وما أشبه ذلك لا يتفاوت آحاده في
المالية وعلى هذا الأصل يجوز السلم في البيض
والجوز عددا لأن آحاده في المالية لا تتفاوت
فإنك لا ترى جوزة بفلس وجوزة بفلسين وإنما
تتفاوت أنواعه في المالية وذلك التفاوت يزول
بذكر العد في العدديات كالقدر في المقدرات
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنه لا يجوز السلم في بيض النعام لأنه تتفاوت
آحاده في المالية وعلى قول زفر لا يجوز السلم
في البيض والجوز عددا لأن فيه الصغير والكبير
وتجري فيه المنازعة بينهما في التسليم والتسلم
وإنما يجوز السلم في البيض وزنا وفي الجوز
كيلا بعد أن يكون بمكيال معروف له ونحن نجوز
السلم فيه كيلا أيضا لأنه يكال تارة ويعد أخرى
فتنقطع فيه المنازعة بينهما بذكر الكيل كما
ينقطع بذكر العدد.
قال: ولا بأس بالسلم في
الفلوس عددا لأنه عددي متقارب أو هي أمثال
متساوية قطعا ما دامت متساوية رائجة لسقوط
قيمة الجودة منها باصطلاح الناس وذكر أبو
الليث الخوازم عن محمد أنه لا يجوز السلم في
الفلوس لأنها ثمن ما دامت رائجة والمسلم فيه
مبيع فما هو ثمن لا يجوز أن يكون مسلما فيه
كالذهب والفضة وبعد الكساد هي قطع صغار موزونة
فلا يجوز السلم فيها عددا ولكن ما ذكره في
الكتاب أصح لأن صفة الثمنية في الفلوس عارضة
باصطلاح الناس والمتعاقد إن أعرض عن هذا
الاصطلاح حين عقد السلم وما أعرض على الاصطلاح
على كونه عدديا ولكن ليس من ضرورة خروجه في
حقهما من أن يكون ثمنا خروجه من أن يكون عدديا
كالجوز والبيض فأما الذهب والفضة ثمن بأصل
الحقة فلا ينعدم ذلك بجعلهما إياه مبيعا ألا
ترى أن الفلوس تروج تارة وتكسد أخرى وتروج في
ثمن الخسيس من الأشياء دون النفيس بخلاف
النقود ولا خير في السلم في اللحم
لأنه مختلف في قول أبي حنيفة ولا بأس به في
قول ابن أبي ليلى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى إذا أسلم في موضع منه معلوم وسمى
صفة معلومة فهو جائز وقيل لا خلاف بينهما وبين
أبي حنيفة بل جواب أبي حنيفة فيما إذا أطلق
السلم في اللحم وهما لا يجوزان ذلك وجوابهما
فبما إذا بين منه موضعا معلوما وأبو حنيفة
يجوز ذلك والأصح أن الخلاف ثابت وأن عند أبي
حنيفة لا يجوز السلم فيه وإن بين منه موضعا
معلوما وجه قولهما أنه موزون معلوم فيجوز
السلم فيه كسائر الموزونات وبيان الوصف أن
الناس اعتادوا بيعه وزنا ويجوز استقراضه وزنا
ويجري فيه الربا بعلة الوزن ثم الموزون المثمن
معتبر بالمكيل المثمن ويجوز السلم فيه وإن
اشتمل على ما هو مقصود وعلى ما ليس بمقصود
كالتمر فما فيه من النوى غير مقصود ولا يمنع
ذلك جواز السلم فكذلك ما في اللحم من العظم
لأن كل واحد منهما ثابت بأصل الخلقة والدليل
عليه جواز السلم في الإلية مع ما فيها من
العظم وكذلك يجوز السلم في الشحم لأنه موزون
فكذلك في اللحم ولأبي حنيفة طريقان:
ج / 12 ص -119-
أحدهما:
أن اللحم يشتمل على ما هو المقصود وعلى ما ليس
بمقصود وهو العظم فيتفاوت ما هو المقصود
بتفاوت ما ليس بمقصود منه ألا ترى أنه تجري
المماكسة بين البائع والمشتري في ذلك فالمشتري
يطالبه بالنزع والبائع يدسه فيه وهذا نوع من
الجهالة والمنازعة بينهما لا ترتفع ببيان
الموضع وذكر الوزن بخلاف النوى الذي في التمر
فالمنازعة لا تجري في نزع ذلك وكذلك العظم
الذي في الإلية وعلى هذا الطريق إذا أسلم في
لحم منزوع العظم يجوز عند أبي حنيفة وهو
اختيار ابن شجاع والطريق الآخر أن اللحم يشتمل
على السمن والهزال ومقاصد الناس في ذلك مختلفة
وذلك يختلف باختلاف فصول السنة وبقلة الكلاء
وبكثرة الكلاء والسلم لا يكون إلا مؤجلا فلا
يدري أن عند حلول الحول على أي صفة تكون وهذه
الجهالة لا ترتفع بذكر الوصف فكان السلم في
اللحم بمنزلة السلم في الحيوان وبه فارق
الاستقراض فالقرض لا يكون إلا حالا وفي الحال
صفة السمن والهزال معلومة وبخلاف الشحم
والإلية فالتفاوت فيهما من حيث القلة والكثرة
وبذكر الوزن يزول ذلك وعلى هذا الطريق منزوع
العظم سواء وهو الأصح.
قال: ولا خير في السلم في
السمك الطري في غير حينه لأنه ينقطع عن أيدي
الناس ولأنه مختلف فالنكتة الأولى تدل على أنه
إذا أسلم في حينه يجوز والنكتة الثانية تمنع
من ذلك وحاصل الجواب أن السلم فيه في غير حينه
لا يجوز وزنا ولا عددا وفي حينه يجوز وزنا ولا
يجوز عددا لأن فيه الصغير والكبير إلا أن
الناس اعتادوا بيعه وزنا والتفاوت في المالية
ينعدم بذكر الوزن وأبو حنيفة يفرق بين هذا
وبين السلم في اللحم لما بينا أن العظم ليس
بمقصود من اللحم حتى يجري المماكسة في نزعه
فإنه يشتمل على السمن والهزال وذلك لا يوجد في
السمك وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى أن الكبار من السمك الذي يقطع لا يجوز
السلم فيها وزنا بمنزلة السلم في اللحم فإنه
إذا كان يقطع تجري المماكسة في نزع العظم منه
وتختلف رغائب الناس باختلاف الموضع منه فأما
السمك المالح فلا بأس بالسلم فيه وزنا معلوما
ولا خير فيه عددا أما الصغار منه فإنه يباع
وزنا ولا سمن له وهو مما لا ينقطع عن أيدي
الناس فيجوز السلم فيه وزنا وفي الكبار لا
يجوز السلم عددا للتفاوت ويجوز وزنا وعن أبي
يوسف أنه لا يجوز ذلك بخلاف اللحم فهناك يتمكن
من إعلام موضع الخبث أو الطهر ولا يتأتى ذلك
في السمك فلا يجوز السلم فيه وزناً.
قال: وإذا أسلم في الجذوع
ضربا معلوما وسمى طوله وغلظه وأجله والمكان
الذي يوفيه فيه فهو جائز لأنه مذروع معلوم
كالثياب وكذلك الساج وصنوف العيدان والخشب
والقصب وإعلام الغلظ في القصب بإعلام ما يسد
به الظن بشبر أو ذراع أو نحو ذلك فعند ذلك لا
تجري المنازعة بينهما.
قال: وإذا استصنع الرجل عند
الرجل خفين أو قلنسوة أو طستا أو كوزا أو آنية
من أواني النحاس فالقياس أن لا يجوز ذلك لأن
المستصنع فيه مبيع وهو معدوم وبيع المعدوم لا
ج / 12 ص -120-
يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس
عند الإنسان ثم هذا في حكم بيع العين ولو كان
موجودا غير مملوك للعاقد لم يجز بيعه فكذلك
إذا كان معدوما بل أولى ولكنا نقول نحن تركنا
القياس لتعامل الناس في ذلك فإنهم تعاملوه من
لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا
هذا من غير نكير منكر وتعامل الناس من غير
نكير أصل من الأصول كبير لقوله صلى الله عليه
وسلم:
"ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"
وقال صلى الله عليه وسلم:
"لا تجتمع
أمتي على ضلالة" وهو نظير
دخول الحمام بأجر فإنه جائز لتعامل الناس وإن
كان مقدار المكث فيه وما يصب من الماء مجهولا
وكذلك شرب الماء من السقا بفلس والحجامة بأجر
جائز لتعامل الناس وإن لم يكن له مقدار فما
يشترط أن يصنع من الكنة على ظهره غير معلوم
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم
استصنع خاتما واستصنع المنبر فإذا ثبت هذا
يترك كل قياس في مقابلته وكان الحاكم الشهيد
يقول الاستصناع مواعدة وإنما ينعقد العقد
بالتعاطي إذا جاء به مفروغا عنه ولهذا ثبت فيه
الخيار لكل واحد منهما والأصح أنه معاقدة فإنه
أجرى فيه القياس والاستحسان والمواعيد تجوز
قياساً واستحسانا ثم كان أبو سعيد البردعي
يقول المعقود عليه هو العمل لأن الاستصناع
اشتغال من الصنع وهو العمل فتسمية العقد به
دليل على أنه هو المعقود عليه والأديم والصرم
فيه بمنزلة الآلة للعمل والأصح أن المعقود
عليه المستصنع فيه وذكر الصنعة لبيان الوصف
فإن المعقود هو المستصنع فيه ألا ترى أنه لو
جاء به مفروغا عنه لا من صنعته أو من صنعته
قبل العقد فأخذه كان جائزاً والدليل عليه أن
محمدا قال إذا جاء به مفروغا عنه فللمستصنع
الخيار لأنه اشترى شيئا لم يره وخيار الرؤية
إنما يثبت في بيع العين فعرفنا أن المبيع هو
المستصنع فيه.
قال: وإذا عمله الصانع فقبل
أن يراه المستصنع باعه يجوز بيعه من غيره لأن
العقد لم يتعين في هذا بعد ولكن إذا أحضره
ورآه المستصنع فهو بالخيار لأنه اشترى ما لم
يره وقال صلى الله عليه وسلم:
"من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه"
وعن أبي يوسف قال إذا جاء به كما وصفه له فلا
خيار للمستصنع استحسانا لدفع الضرر عن الصانع
في إفساد أديمه وآلاته فربما لا يرغب غيره في
شرائه على تلك الصفة فلدفع الضرر عنه قلنا
بأنه لا يثبت له الخيار وفرق في ظاهر الرواية
بين هذا والسلم وقال لا فائدة في إثبات الخيار
في السلم لأن المسلم فيه دين في الذمة وإذا رد
المقبوض عاد دينا كما كان وهنا إثبات الخيار
مقيد لأنه مبيع عين فبرده ينفسخ العقد ويعود
إليه رأس ماله ويوضح الفرق أن إعلام الدين
بذكر الصفة إذ لا يتصور فيه المعاينة فقام ذكر
الوصف في المسلم فيه مقام الرؤية في بيع العين
فأما إعلام العين فتمامه بالرؤية والمستصنع
فيه مبيع عين فلهذا يثبت فيه خيار الرؤية.
قال: فإن ضرب لذلك أجلا وكانت
تلك الصناعة معروفة فهو سلم في قول أبي حنيفة
تعتبر فيه شرائط السلم من قبض رأس المال في
المجلس ولا خيار فيه لرب السلم إذا أحضره
المسلم إليه وهو عند أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى استصناع على حاله لأنه بدون ذكر
الأجل عقد جائز غير لازم فبذكر الأجل فيه لا
يصير لازما لعقد الشركة والمضاربة وهذا
ج / 12 ص -121-
لأن ذكر الأجل تيسر فيه وتأخير المطالبة فلا
يتغير به العقد من جنس إلى جنس آخر ولو كان
الاستصناع بذكر الأجل فيه يصير سلما لصار
السلم بحذف الأجل منه استصناعا ولو كان هذا
سلما لكان سلما فاسدا لأنه شرط فيه صنعة صانع
بعينه وذلك مفسد للسلم وأبو حنيفة يقول هذا
مبيع دين والمبيع الدين لا يكون إلا سلما كما
لو ذكر لفظة السلم وبيانه ما ذكرنا أن
المستصنع فيه مبيع والأجل لا يثبت إلا في
الديون فلما ثبت فيه الأجل هنا عرفنا أنه مبيع
دين فتأثيره أن المعتبر ما هو المقصود وبه
يختلف العقد لا باعتبار اللفظ ألا ترى أنه لو
قال ملكتك هذا العين بعشرة دراهم كان بيعا ولو
قال بسكنى هذا الدار شهرا كانت إجارة فعرفنا
أن المعتبر ما هو المقصود ثم السلم أقرب إلى
الجواز من الاستصناع فإن كل واحد منهما مستحسن
ولكن الآثار في السلم مشهورة وهو جائز فيما
للناس فيه تعامل وفيما لا تعامل فيه فكان
الأصل فيما قصداه السلم إلا إذا تعذر جعله
سلما بأن لم يذكرا فيه أجلا فحينئذ جعل
استصناعا فأما إذا أمكن جعله سلما بأن ذكر
الأجل يجعل سلما ولأن الأجل مؤخر للمطالبة ولا
يكون ذلك إلا بعد لزوم العقد واللزوم في السلم
دون الاستصناع فثبوت الأجل فيه دليل على أنه
سلم وذكر الصنعة لبيان وصف المسلم فيه ولهذا
لو جاء به مفروغا عنه لا من صنعته يجبر على
القبول وبهذا تبين فساد قولهم أنه سلم شرط فيه
صنعة صانع بعينه وما قالا بأن السلم بحذف
الأجل لا يصير استصناعا يشكل بالمتعة فإنه لا
يصير نكاحا بحذف المدة عنه ثم النكاح بذكر
المدة فيه يصير متعة وهو إذا تزوج امرأة شهرا
وهذا إذا كان ذكر المدة على سبيل الاستمهال
أما إذا كان على سبيل الاستعجال بأن قال على
أن يفرغ منه غدا أو بعد غد فهذا لا يكون سلما
لأن ذكر المدة للفراغ من العمل لا لتأخير
المطالبة بالتسليم ألا ترى أنه ذكر أدنى مدة
يمكنه الفراغ فيها من العمل ويحكى عن
الهندواني قال إن كان ذكر المدة من قبل
المستصنع فهو للاستعجال ولا يصير به سلما وإن
كان الصانع هو الذي ذكر المدة فهو سلم لأنه
يذكر على سبيل الاستمهال وقيل إن ذكر أدنى مدة
يتمكن فيها من الفراغ من العمل فهو استصناع
وإن كان أكثر من ذلك فهو سلم لأن ذلك يختلف
باختلاف الأعمال فلا يمكن تقديره بشيء معلوم
قال: ولا بأس بالسلم في اللبن في جبنه وزنا أو
كيلا معلوما لأنه يكال تارة ويوزن أخرى فيصير
معلوما بذكر كل واحد منهما على وجه لا يبقى
فيه منازعة في التسليم.
قال: في الكتاب وهذا قبل
انقطاعه وهذا في عرف ديارهم لأن اللبن ينقطع
عن أيدي الناس في بعض الأوقات فأما في ديارنا
لا ينقطع وإن كانت تزاد قيمته في بعض الأوقات
ولكن لا يعد ذلك انقطاعا فيجوز السلم فيه في
كل وقت.
قال: ولا بأس بالسلم في اللبن
والآجر إذا شرط فيه شيئا معلوما لأنه عددي
متقارب فإن آحاده لا تختلف في المالية وإنما
تختلف أنواعه وإنما يكون معلوما بذكر الملبن
فملبن كل نوع منه معلوم عند أهل الصنعة وإن
كان لا يعرف ذلك فلا خير فيه.
ج / 12 ص -122-
قال:
ولا بأس بالسلم في التبن كيلا معلوما وكيمانا
معلومة لأنه مكيل مقدور التسليم وكيله الغرارة
إذا كان معلوما وإن كان لا يعرف ذلك فلا خير
فيه.
قال: ولا خير في السلم في رؤس
الغنم والأكارع لأنها عددية متفاوتة ألا ترى
أن المشتري ينازع البائع فيقول أريد هذا ولا
أريد هذا والمقصود ما عليها من اللحم وهي
تختلف ثم هذا على قول أبي حنيفة غير مشكل
لأنها أبعاض الحيوان كاللحم وهما يقولان اللحم
موزون أما الرؤس والأكارع فغير موزونة عادة
وبذكر الوزن لا يصير المقصود منها معلوما فلا
يجوز السلم فيها.
قال: ولا خير في السلم في كل
شيء مما يكال أو يوزن إذا شرط بمكيال غير
معروف أو بإناء بعينه غير معروف أو بوزن حجر
غير معروف" لأن مقدار السلم فيه لا بد من أن
يكون معلوما عند العقد وبما ذكر لا يصير
مقداره بالمكيال المعروف والميزان المعروف
معلوما فكان هذا سلما في المجهول ولأن القدرة
على التسليم وقت وجوب التسليم شرط وذلك لا
يتحقق إلا ببقاء ما عينه من المكيال إلى وقت
حلول الأجل وبقاؤه موهوم فربما يهلك قبل ذلك
وإن اشترى بذلك الإناء يدا بيد فلا بأس به لأن
في العين يجوز البيع مجازفة فمكيال غير معروف
أولى وهذا لأن التسليم عقيب العقد والقدرة على
التسليم للحال ثابتة وهذا لأن التسليم عقيب
العقد لا بقيام المكيال الذي عينه وعن أبي
حنيفة في غير الأصول أنه لا يجوز لأن البيع في
المكيلات والموزونات إما أن تكون مجازفة أو
يذكر القدر ففي المجازفة والمعقود عليه ما
يشار إليه وعند ذكر القدر المعقود عليه ما سمى
من القدر ولم يوجد واحد منهما هنا فإنه ليس
بمجازفة ولا يشترط فيه الكيل إذا لم يكن
المكيال معلوما وعن أبي يوسف قال في بيع العين
إن عين مكيالا لا ينكبس بالكبس فيه كالزنبيل
ونحوه لا يجوز العقد فيه فإنه تتمكن المنازعة
بينهما في الكيل وإن كان شيئا لا ينقبض ولا
ينبسط كالقصعة ونحوها يجوز.
قال: ولا بأس بالسلم في
العصير في حينه وزنا أو كيلا" لأنه يوزن أو
يكال كاللبن وكذلك الخل لا بأس بالسلم فيه
كيلا معلوما أو وزنا معلوما لأنه يكال ويوزن
وإعلام المقدار بذكر كل واحد منهما محصل
والأصل أن ما عرف كونه مكيلا على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم فهو مكيل أبدا وإن
اعتاد الناس بيعه وزنا وما عرف كونه موزونا في
ذلك الوقت فهو موزون أبدا وما لم يعلم كيف كان
يعتبر فيه عرف الناس في كل موضع إن تعارفوا
فيه الكيل والوزن جميعا فهو مكيل وموزون وعن
أبي يوسف أن المعتبر في جميع الأشياء العرف
لأنه إنما كان مكيلا في ذلك الوقت أو موزونا
في ذلك الوقت باعتبار العرف لا بنص فيه من
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنا نقول
تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم على
ما تعارفوه في ذلك الشيء بمنزلة النص منه فلا
يتغير بالعرف لأن العرف لا يعارض النص
قال: وإن أسلم في تمر ولم يسم
فارسيا ولا دقلا لم يجز. لأن التمر أنواع
فبدون ذكر
ج / 12 ص -123-
النوع لا تنقطع المنازعة فإن اشترط فارسيا فلا
بد من أن يشترط جيدا أو وسطا أو رديا لأن كل
نوع من التمر يشتمل على هذه الأوصاف الثلاثة
والمالية تختلف بجنسها.
قال: ولا خير في السلم في شيء
من الطيور ولا في لحومها لأن آحادها تختلف في
المالية فكانت عددية متفاوتة وهما فرقا بين
هذا وبين السلم في اللحم لأن هناك يمكن إعلام
المسلم فيه بذكر الموضع ولا يتأتى ذلك في لحوم
الطير وعن أبي يوسف قال مالا تتفاوت آحاده في
المالية كالعصافير ونحوها يجوز السلم في
لحومها قال: ولا خير في السلم في شيء من
الجواهر واللؤلؤ" أما الصغار من اللآلئ التي
تباع وزنا وتجعل في الأدوية يجوز السلم فيها
وزنا وأما الكبار منها تتفاوت آحادها في
المالية وهي عددية متفاوتة لا يمكن إعلام ما
هو المقصود منها فلا يجوز السلم فيها قال: ولا
بأس بالسلم في الجص والنورة كيلاً لأنه مكيل
معلوم وهو مقدور التسليم في كل وقت.
قال: ولا خير في السلم في
الزجاج إلا أن يكون مكسورا فيشترط وزنا معلوما
وكذلك جوهر الزجاج فإنه موزون معلوم على وجه
لا تفاوت فيه أما الأواني المتخذة من الزجاج
فهي عددية متفاوتة فلا يجوز السلم فيها بذكر
العدد ولا بذكر الوزن لأن ذلك لا يوزن ولا
تعلم ماليته بوزنه إلا أن يكون شيئا معروفا
يعلم أنه لا يتفاوت في المالية كالمكاحل
والمطابق فإن آحاد ذلك لا تختلف في المالية
إنما تختلف أنواعه وكل نوع منه معلوم عند أهل
الصنعة فيجوز السلم فيه بذكر العدد. قال: وإذا
أسلم الرجل إلى رجل ألف درهم في طعام خمسمائة
من ذلك كانت دينا عليه وخمسمائة نقدها إياه
جازت حصة العين من ذلك وبطلت حصة الدين وعن
زفر أن العقد في الكل باطل أما في حصة الدين
فلنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ
بالكالئ يعني الدين بالدين وهذا فساد قوى يمكن
في البعض فيفسد به الكل باعتبار أنه جعل قبول
العقد في حصة الدين شرطا للقبول في حصة العين
وهذا شرط فاسد ومذهبنا مروى عن ابن عباس رضي
الله عنهما ثم يعتبر البعض بالكل في الدين
والمعنى جميعا وحقيقة المعنى أن العقد انعقد
صحيحا في الكل حتى لو نقد جميع الألف في
المجلس كان العقد صحيحا وهذا لأنه لا يتعلق
العقد بالدين المضاف إليه وإنما يتعلق بجنسه
ومثله ولو اشترى بالدين شيئا ممن عليه الدين
ثم تصادقا على أن لا دين بقي الشراء صحيحا
وإنما فسد العقد هنا بمقدار الخمسمائة بترك
القبض في المجلس وهذا فساد طارئ فيقتصر على ما
وجدت فيه علته كما لو هلك بعض المعقود عليه
قبل التسليم.
قال: وإذا أسلم الرجل مائة
درهم في كر حنطة وكر شعير ولم يبين رأس مال كل
واحد منهما فلا خير فيه عند أبي حنيفة بلغنا
ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما" وهذا
بناء على ما بينا أن إعلام قدر رأس المال فيما
يتعلق العقد على شرطه شرط عنده وهنا المائة
التي تنقسم انقسمت على الحنطة والشعير باعتبار
القيمة وطريق معرفته الحرز فلا يكون مقدار رأس
المال
ج / 12 ص -124-
لكل واحد منهما معلوما ولو تتاركا السلم في
أحدهما لم يعلم يقينا مقدار ما يرده فلا يجوز
العقد وعندهما الإشارة إلى العين تكفي لجواز
العقد وقد وجد.
قال: ولا يجوز السلم إذا كان
فيه شرط خيار لأن خيار الشرط يعدم الملك ويجعل
العقد في حق الحكم كالمتعلق بشرط سقوط الخيار
فكان تأثيره أكثر من تأثير عدم القبض وعدم قبض
رأس المال في المجلس مبطل للسلم فاشتراط
الخيار فيه أولى وهذا لأن للقبض حكم العقد وقد
صار العقد بشرط الخيار في حق الحكم كالمتعلق
بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبله وبهذا تبين
أن القبض لا يتم والافتراق قبل تمام القبض
مبطل للعقد إلا أن يبطل صاحب الخيار خياره قبل
أن يتفرقا فحينئذ ينقلب العقد صحيحا عندنا
خلافا لزفر فإن من أصله أن تصحيح العقد الفاسد
في استقباله فقط وعندنا المفسد متى زال قبل
تقرره جعل كأن لم يكن وتقرر الفساد هنا
بالافتراق قبل تمام القبض وقد انعدم ذلك متى
أسقطا الخيار قبل أن يتفرقا ولأن حالة المجلس
كحالة العقد ولهذا جعل قبض رأس المال في
المجلس كالمقترن بالعقد فكذلك لزوم العقد
بإسقاط الخيار في المجلس يجعل كالمقترن بالعقد
وهذا إذا كان رأس المال قائما في يد المسلم
إليه عند اسقاط الخيار وإن كان قد أنفقه حتى
صار دينا عليه لم يصح العقد بإسقاط الخيار
ذكره في الجامع لأن ابتداء العقد برأس مال هو
دين لا يجوز فكذلك إتمامه بإسقاط الخيار.
قال: وإذا أسلم إليه عشرة
دراهم أو ثوبا أو عبدا في طعام ثم افترقا قبل
قبض رأس المال لم يجز السلم وقال مالك يجوز
وإن لم يقبض رأس المال يوما أو يومين بعد أن
لا يكون مؤجلا بمنزلة الثمن في البيع فإنه لا
يشترط قبضه في المجلس إلا أن هنا الشرط أن
يكون حالا لأن ما يقابله مؤجل والنسيئة
بالنسيئة حرام ولا تنعدم صفة الحلول بترك
القبض فيه يوما أو يومين ولكنا نقول السلم أخذ
عاجل بآجل فيشترط كون أحد البدلين فيه معجلا
كما يشترط أن يكون الآخر مؤجلا ليتوفر على هذا
العقد مقتضاه والتعجيل إنما يحصل بالقبض في
المجلس فكان ينبغي أن يشترط اقتران القبض
بالعقد فإنه أتم ما يكون من التعجيل ولكن
الشرع جعل ساعات المجلس كحالة العقد تيسيرا
كما في عقد الصرف ثم إن كان رأس المال دينا
فالعقد يبطل بالافتراق قبل قبض رأس المال
قياسا واستحسانا لأنه دين بدين وإن كان رأس
المال عينا ففي القياس لا يبطل العقد لأنهما
افترقا عن عين بدين وذلك جائز كبيع العين بثمن
مؤجل ولكنه استحسن لمراعات اسم هذا العقد ولأن
جواز عقد السلم لحاجة المسلم إليه وإنما يتوفر
عليه حاجته إذا وصل رأس المال إليه فيشترط
وصوله إلى يده مقرونا بالعقد ثم حالة المجلس
جعلت كحالة العقد فلهذا يفسد بترك قبض رأس
المال في المجلس وإن كان عينا وإن قبض الدراهم
ثم افترقا فوجدها زيوفا فإنه يردها وينتقض
السلم أما إذا تجوز بها جاز العقد لأن الزيوف
من جنس الدراهم ولكن فيه عيب ووجود العيب في
الشيء لا يجعله في حكم جنس آخر ثم الزيوف ما
زيفه بيت المال ولكن يروج فيما بين التجار
ولتبهرجة ما
ج / 12 ص -125-
تبهرجه التجار وربما تسامح فيه بعضهم وربما
يأباه بعضهم لغش فيه وبهذا لا يخرج من أن يكون
من جنس الدراهم فقابضه يكون مستوفيا لحقه فإذا
تجوز به تجوز بخلاف ما إذا وجد المقبوض ستوقه
أو رصاصا فإن ذلك ليس من جنس الدراهم فإن
الستوقة فلس مموه بالفضة ومعناه من طاقه
والرصاص ليس من جنس الدراهم فلا يصير بقبضه
مستوفيا لرأس المال فإذا تجوز بها كان مستبدلا
لا مستوفيا والاستبدال برأس المال قبل القبض
لا يجوز فأما إذا رده في القياس ينتقص السلم
سواء استبدل في مجلس الرد أو لم يستبدل وصار
الكل زيوفا أو البعض وهو قول زفر لأن الرد
بعيب الزيافة ينقض القبض من الأصل بدليل أنه
يرجع بموجب العقد وهو الجياد والعقد لا يوجب
القبض مرتين فلو لم ينتقض القبض الأول من
الأصل لما كان له أن يرجع بموجب العقد وبدليل
أنه لو لم يستبدل في مجلس الرد بطل العقد
وبقاء القبض ليس بشرط لبقاء العقد وإذا ثبت
انتقاض القبض من الأصل صار كأن لم يوجد فيبطل
العقد بقدر المردود كما لو وجده مستحقا ولأن
رأس المال دين والدين يختلف باختلاف الوصف
وإنما يكون الزيوف رأس المال باعتبار إسقاط
حقه عن الجودة إذا تجوز به فإذا أتى ذلك بالرد
تبين أنه فارقه قبل قبض حقه فبطل العقد كما لو
وجد المقبوض ستوقا أو رصاصا واستحسن أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى فقالا إذا استبدل في
مجلس الرد بقي العقد صحيحا سواء وجد الكل
زيوفا أو البعض لأنهما افترقا عن قبض صحيح حتى
لو تجوز به جاز فإنما انتقض ذلك القبض بالرد
وصار العقد عند الرد موجبا قبض الجياد وهما
مجتمعان في مجلس الرد فيجعل اجتماعهما في مجلس
الرد كاجتماعهما في مجلس العقد فإذا افترقا
بعد قبض موجب العقد وهي الجياد بقي العقد
صحيحا كما لو زاد في رأس المال وافترقا عن
مجلس الزيادة قبل القبض وهذا بخلاف الاستحقاق
فقبض المشترى موقوف على إجازة صاحبه ألا ترى
أن المسلم إليه لو أراد أن يرضي به لا يتمكن
من ذلك والموقوف إذا بطل صار كأنه لم يكن فإذا
نفذ بإجازة المستحق التحق بما لو كان نافذا في
الابتداء كالمبيع الموقوف فلهذا إذا أجاز
المستحق بقي العقد صحيحا وإذا أتى وأخذ دراهمه
كان العقد باطلا وأبو حنيفة أخذ بالقياس إذا
وجد الكل زيوفا أو كانت الزيوف أكثر وأخذ
بالاستحسان إذا قل المردود بعيب الزيافة لأن
في القليل بلوى وضرورة فدراهم الناس لا تخلو
عن قليل زيف فيذهب على الناقد وإن كان بصيرا
وإقامة مجلس الرد مقام مجلس العقد لدفع الحرج
فإن الموجود في هذا المجلس شرط بوجه المطالب
بموجب العقد وهو الرد لا سببه وإقامة الشرط
مقام السبب لدفع الحرج وذلك يتحقق فيما تتحقق
فيه البلوى وهو القليل دون ما لا بلوى فيه وهو
الكثير بل الكثير كالمستحق قل أو كثر لأن
دراهم الناس لا تخلو عن المستحق عادة وهذا
بخلاف الزيادة لأن أصل العقد ما كان موجبا
لهذه الزيادة وإنما صار الآن موجبا فكان هذا
المجلس في حق الزيادة مجلس السبب بمنزلة مجلس
العقد في حق رأس المال وإذا وجد القبض في مجلس
الزيادة لم يضرهما الافتراق بعد ذلك ثم اختلفت
الروايات عن أبي حنيفة في الفرق بين القليل
والكثير ففي
ج / 12 ص -126-
كتاب البيوع يقول ما دون النصف قليل والنصف
فما فوقه كثير وفي كتاب الصرف يقول النصف فما
دونه قليل وفي رواية عن أبي حنيفة الثلث كثير
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد رضي
الله تعالى عنه
"والثلث كثير" فإذا وجد
الثلث زيوفا فرده يبطل العقد بقدره ووجه هذه
الرواية أن قلة الشيء وكثرته تتبين بالمقابلة
فإن العشرة بمقابلة الدرهم كثيرة وبمقابلة
المائة قليلة فإذا كانت الزيوف دون النصف قلنا
إذا قوبلت الزيوف بالجياد فالزيوف قليلة وإن
كانت أكثر من النصف فهي كثيرة عند المقابلة
بالجياد فإذا كان النصف سواء ففي رواية كتاب
البيوع قال هذا كثير لا يقابله ما هو أكثر منه
لتتبين قلته بالمقابلة وفي كتاب الصرف قال
الشرط كثرة المردود ولا تتبين كثرته إذا لم
يكن ما يقابله أقل منه وقد كان العقد صحيحا في
الكل فلا تنتقض بالشك وكذلك حكم الصرف في جميع
ما ذكرنا.
قال: رجل أسلم إلى رجل في
طعام وأخذ منه كفيلا بالمسلم فيه ثم صالح
الكفيل على رأس ماله وذلك دين" فالصلح موقوف
على إجازة المسلم إليه في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى فإن اختار رد رأس المال جاز
وإن رد الصلح بطل واسترد الكفيل دراهمه وطالب
رب السلم بطعام السلم أيهما شاء وعند أبي يوسف
الصلح جائز بين الكفيل ورب السلم ويرجع الكفيل
على المسلم إليه بطعام السلم وهذا إذا كان رأس
المال دراهم أو دنانير فإن كان رأس المال
عروضا لا يجوز الصلح بالاتفاق لأنه إذا كان
رأس المال ثوبا فإما أن يصح الصلح عن ذلك
الثوب بعينه وهو باطل لأنه ملك المسلم إليه
فلا يكون الكفيل قادرا على تسليمه وإما أن يصح
على ثوب غيره وهو باطل أيضا لأنه يكون
استبدالا برأس المال وكذلك الصلح على قيمة ذلك
الثوب يكون استبدالا فلا يجوز فأما إذا كان
رأس المال دراهم أو دنانير فالخلاف فيه يتحقق
وجه قول أبي يوسف وهو أن صلح الكفيل عن المسلم
فيه على رأس المال كالصلح عن سائر الديون على
أي بدل كان بدليل جواز ذلك من الأصل ثم الكفيل
في سائر الديون لو صالح على بدل جاز صلحه ورجع
على المكفول عنه بما كفل عنه فكذلك الكفيل
بالسلم إذا صالح على رأس المال وهذا لأن
الكفيل مطلوب بالمسلم فيه كالأصيل إذا كان
قادرا على تسليم رأس المال إليه وبهذا فارق ما
لو كان رأس المال عينا في يد المسلم إليه لأن
الكفيل لا يقدر على تسليمه ولو صالح على قيمته
كان مستبدلا لا مستردا لرأس المال ولا يقال في
هذا الصلح تمليك طعام السلم من الكفيل لأن
تمليك الدين من غير من عليه الدين في سائر
الديون لا يجوز الصلح أيضا ثم جاز الصلح مع
الكفيل في سائر الديون عرفنا أنه ليس بتمليك
الدين ولكن يعقد الكفالة كما وجب للطالب على
الكفيل وجب للكفيل على الأصيل إلا أنه مؤخر
إلى أن يسقط مطالبة الطالب عن الأصيل وقد سقط
ذلك بصلحه على رأس المال كما يسقط بإيفائه
فلهذا كان له أن يرجع على المسلم إليه بطعام
السلم وجه قولهما أن الصلح عن المسلم فيه على
رأس المال فسخ للعقد بدليل أنه يختص برأس
المال وأنه يصح بلفظ المتاركة والإقالة فإنه
لو لم يكن فسخا كان هذا استبدالا لبقاء العقد
الموجب لطعام
ج / 12 ص -127-
السلم والاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا
يجوز والكفيل أجنبي من العقد فلا يملك الفسخ
كسائر الأجانب والكفيل بالثمن في البيع وهذا
لأن الفسخ تصرف في العقد فلا يجوز من العاقد
أو ممن قام مقام العاقد أو ممن كان وقع العقد
له والكفيل بهذه الصفة وإنما التزم ما التزمه
من الكفالة فلا يصير به في حكم العاقد للسلم
بخلاف المسلم إليه فإنه عاقد فيجوز صلحه بطريق
الفسخ والدليل على الفرق أن رب السلم إذا زاد
للمسلم إليه درهما جاز ولو زاد الكفيل في رأس
المال درهما كان باطلا وبه فارق سائر الديون
فالصلح هناك ليس بتصرف في السبب الموجب للفسخ
وإنما هو تصرف في الدين الواجب ولهذا جاز بأي
بدل كان والكفيل مطلوب بالدين كالأصيل ولهذا
جاز الصلح معه.
قال: وإذا أسلم الرجلان إلى
رجل في طعام فصالحه أحدهما على رأس ماله
فالصلح موقوف عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
فإن أجازه الآخر جاز وكان المقبوض من رأس
المال مشتركا بينهما وما بقي من طعام السلم
مشتركا بينهما وإن لم يجزه فالصلح باطل وعند
أبي يوسف الصلح جائز بين المصالح والمسلم إليه
لما قلنا في المسألة الأولى أن الصلح عن
المسلم فيه على رأس المال كالصلح عن سائر
الديون على أي بدل كان عنده ثم أخذ رب الدين
إذا صالح عن نصيبه مع المديون على بدل جاز
الصلح ويخير الآخر بين أن يشاركه في المقبوض
وبين أن يرجع على المديون بنصيبه من الدين
كذلك هنا إذا صالح على رأس المال ولأن أكثر ما
فيه أن هذا فسخ العقد ولكل واحد من المتعاقدين
حق التفرد بالفسخ في نصيب نفسه كما في بيع
العين لو اشترى رجلان عينا ثم أقال أحدهما
البيع في نصيبه مع البائع جاز بدون رضي الآخر
فهذا مثله وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى
قال في هذا الصلح قسمة الدين قبل القبض وذلك
لا يجوز بيانه أنه إن كان صلحه عن نفسه خاصة
فلا يتحقق ذلك إلا بأن يتميز نصيبه عن نصيب
صاحبه وهذا هو القسمة وإن كان صالحه عن النصف
من النصيبين جميعا فلا يمكن تصحيحه بدون إجازة
الآخر لتناوله نصيبه وفقه هذا الكلام أن وجوب
المسلم فيه بعقدهما إذا هو لم يمكن موجودا قبل
العقد والعقد منهما واحد فكل واحد منهما في
التصرف فيه كشطر العلة وبشطر العلة لا يثبت
شيء من الحكم ما لم يتم ذلك بإجازة الآخر
كالمعتقة بين رجلين زوجها أحدهما وبه فارق بيع
العين فقد كانت العين هناك موجودة قبل العقد
محلا لتصرف كل واحد منهما إلا أن يكون ثبوت
ولاية التصرف فيه لكل واحد منهما بالعقد فلهذا
كان الفسخ من كل واحد منهما في نصيبه كأنه كان
منفردا به وهناك المسلم فيه لم يكن موجودا قبل
العقد وجواز التصرف باعتبار وجوبه بالعقد فكان
كل واحد منهما فيه كشطر العلة ولأنه لو جاز
الصلح من أحدهما هنا يؤدي إلى أن يسقط حق رب
السلم عن المسلم فيه ويتقرر في رأس المال ثم
يعود في المسلم فيه وذلك لا يجوز كما لو
تقايلا السلم ثم أراد فسخ الإقالة لم يجز ذلك
بخلاف بيع العين وبيان الوصف أن الآخر إذا
اختار المشاركة في المقبوض مع المصالح كان ما
بقي من طعام السلم مشتركا بينهما وقد سقط
بالصلح حق المصالح عن
ج / 12 ص -128-
المسلم فيه وتقرر في رأس المال فلا يجوز أن
يعود حقه بعد ذلك في المسلم فيه وبه فارق سائر
الديون إلا أن أبا يوسف يقول إنما لا يجوز أن
يعود حقه فيما كان ساقطا لأن الساقط مثلا شيء
كما في فصل الإقالة وهنا إنما يعود بحقه فيما
هو قائم وهو النصف الباقي من طعام السلم وأما
بيان قول أبي يوسف فإنه يقول للآخر الخيار فإن
شاء شارك القابض في المقبوض لأن أصل رأس المال
كان مشتركا بينهما فلا يسلم لأحدهما منه شيء
إلا بتسليم الآخر وإذا شاركه في المقبوض كان
الباقي في ذمة المسلم إليه مشتركا بينهما وإن
شاء سلم المقبوض للقابض ويرجع على المسلم إليه
بطعام السلم فإذا فعل ذلك ثم أراد الرجوع عن
شريكه لم يكن له ذلك لأنه كان مخيرا بين شيئين
فإذا اختار أحدهما تعين ذلك عليه كالغاصب مع
غاصب الغاصب إذا اختار المغصوب منه تضمين
أحدهما فليس له أن يرجع فيضمن للآخر بعد ذلك
فإن نوى ما على المسلم إليه كان له أن يرجع
على شريكه بنصف المقبوض لأنه إنما سلم له
المقبوض بشرط أن يسلم له ما في ذمة المسلم
إليه فإذا نوى بطل تسليمه كالمحتال عليه إذا
مات مفلسا عاد الدين إلى ذمة المحيل.
قال: وهذا بمنزلة رجلين لهما
على رجل مائة درهم فصالحه أحدهما من حصته على
ثوب وسلم له الآخر واختار اتباع المديون فنوى
ما عليه كان له أن يرجع على صاحب الثوب في
الثوب فيأخذ منه نصفه إلا أن يرضى صاحب الثوب
أن يرد عليه خمسة وعشرين درهما ولا يعطيه شيئا
من الثوب كان له ذلك حينئذ والخيار فيه إلى
صاحب الثوب كما في الابتداء لو اختار المشاركة
معه كان صاحب الثوب بالخيار بين أن يعطيه خمسة
وعشرين درهما وبين أن يعطيه نصف الثوب لأن من
حجته أن يقول مبنى الصلح على التجوز بدون الحق
إنما توصلت إلى نصيبي لأني رضيت بدون حقي
بخلاف ما إذا اشترى بنصيبه ثوبا وهذا فرق
معروف في كتاب الصلح وكذلك لو كان بالسلم كفيل
فصالح أحد صاحب السلم مع الكفيل على رأس ماله
فهو كالصلح مع الأصيل على الخلاف الذي بينا.
قال: وإذا أسلم الرجل إلى رجل
دراهم في طعام ثم صالحه على رأس ماله ثم أراد
أن يشتري برأس ماله شيئا قبل أن يقبضه في
القياس له ذلك وهو قول زفر لأن عقد السلم
ارتفع بالفسخ بقي رأس المال في ذمته بحكم
القبض لا بحكم العقد وهو دين لا يستحق قبضه في
المجلس فيجوز الاستبدال به كسائر الديون ألا
ترى أن السلم لو كان فاسدا كان له أن يستبدل
برأس المال قبل الاسترداد لهذا المعنى واستحسن
علماؤنا رحمهم الله فقالوا لا يجوز ذلك لحديث
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا أسلمت في
شيء فلا تصرفه في غيره" فلو جوزنا
هذا كان صارفا حقه من طعام السلم إلى شيء آخر
بهذا الطريق وفي الحديث المعروف
"لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك" وبهذا الطريق نأخذ شيئا آخر غير رأس المال وغير المسلم فيه وذلك
غير جائز ثم حال رب السلم مع المسلم إليه بعد
الفسخ كحال المسلم إليه مع رب السلم حال قيام
العقد قبل قبض رأس المال فكما لا يجوز
الاستبدال
ج / 12 ص -129-
هناك فكذلك لا يجوز هنا وبه فارق السلم الفاسد
من الأصيل لأنه ما كان موجبا تسليم رأس المال
ليعتبر الانتهاء بالابتداء وهنا العقد كان
موجبا تسليم رأس المال فاعتبرنا حال الفسخ
بحال العقد في المنع من الاستبدال.
قال: وإذا أسلم دراهم ودنانير
في طعام وقد علم وزن أحدهما ولم يعلم وزن
الآخر فلا خير فيه عند أبي حنيفة وجائز عندهما
لأن إعلام قدر رأس المال عندهما ليس بشرط
والإشارة إلى العين تكفي وعند أبي حنيفة إعلام
القدر فيما يتعلق العقد على قدره شرط فإذا لم
يعلم وزن أحدهما بطل العقد في حصته لانعدام
شرط الجواز فيبطل في حصة الآخر أيضا لاتحاد
الصفقة أو لجهالة حصة الآخر والسلم في المجهول
لا يصح ابتداء.
قال: وإذا أسلم عشرة دراهم في
ثوبين أحدهما هروي والآخر مروي فما لم تتبين
حصة كل واحد منهما من رأس المال لا يجوز
العقد" عند أبي حنيفة كما في الحنطة والشعير
لأن الانقسام باعتبار القيمة وطريق معرفته
الحرز فلا يتيقن بحصة كل واحد من الثوبين إلا
بالقسمة وإن كانا موصوفين بصفة واحدة ففي
القياس كذلك لأن الثياب ليست من ذوات الأمثال
والانقسام على الثوبين باعتبار القيمة كما لو
اشتراهما عينا وفي الاستحسان يجوز لأن
الموصوفين بصفة واحدة لا يتفاوتان في الظاهر
في المالية ما داما في الذمة والانقسام حال
كونهما في الذمة فحصة كل واحد منهما نصف رأس
المال بيقين فيجوز العقد من غير إعلام حصة كل
واحد منهما كما لو أسلم عشرة في كرين من حنطة
بخلاف ما لو اشتراهما عينا فإنهما يتفاوتان في
المالية إذا كانا عينين فلهذا كان انقسام
الثمن عليهما باعتبار القيمة فإن قبض الثوبين
في السلم ثم أراد أن يبيع أحدهما مرابحة على
خمسة دراهم فليس له ذلك عند أبي حنيفة إلا أن
يبين وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا بأس
بذلك لأن حصة كل واحد منهما من رأس المال
معلومة بيقين فبيعه مرابحة على ذلك كالكرين
وبيانه ما ذكرنا أن الثمن بمقابلة ما تناوله
العقد ولا تفاوت في ذلك ولهذا جاز العقد عند
أبي حنيفة والدليل عليه أنهما لو تقايلا السلم
في أحدهما يرد من رأس المال خمسة ولو وجد
بأحدهما عيبا فرده يرده بخمسة فعرفنا أن حصة
كل واحد منهما خمسة بيقين فكأنه سمى ذلك في
العقد وأبو حنيفة يقول اشترى الثوبين بثمن
واحد فلا يبيع أحدهما مرابحة كما لو اشتراهما
عينا بخلاف الكرين فإن هناك لو اشتراهما عينا
كان له أن يبيع أحدهما مرابحه وبيان الوصف أن
رب السلم مشترى والمسلم فيه مبيع فإذا قبض
المسلم فيه كان المقبوض عين ما تناوله العقد
لا غيره لأنه إن جعل غيره كان استبدالا
بالمسلم فيه وذلك لا يجوز فمن هذا الوجه جعل
كأنه عين ما تناله العقد فأما في الحقيقة هو
غيره لأن العقد يتناول دينا في الذمة والعين
غير الدين فباعتبار هذه الحقيقة لم يكن
المقبوض عين ما تناوله العقد فلا بد من طريق
يجعل بذلك الطريق كأنه عين المعقود عليه وذلك
الطريق أن يجعل عند القبض كأنهما جددا ذلك
العقد على المقبوض وهو معنى قول المتقدمين
رحمهم الله للقبض في باب السلم حكم عقد جديد
والدليل عليه ما قاله في
ج / 12 ص -130-
الزيادات لو أسلم إلى رجل مائة درهم في كر
حنطة ثم اشترى المسلم إليه من رب السلم كر
حنطة بمائتي درهم إلى سنة وقبضه فما حل الطعام
في السلم أعطاه ذلك الكر لم يجز لأنه اشترى ما
باع بأقل مما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن
وإنما يكون ذلك إذا جعلا عند القبض كأنهما
جددا العقد عليه وإذا تقرر هذا فهو وما لو
اشتراهما عينا بثمن واحد سواء وقال في السير
الكبير لو أحرز المشركون كرا لرجل من المسلمين
بدراهم فدخل إليهم مسلم وأسلم إليهم مائة درهم
في كر حنطة فأعطوه ذلك الكر فأخرجه فلا سبيل
للمالك القديم عليه لأنه أخذه عوضا عن الكر
الذي له في ذمتهم فلو
أخذه المالك القديم أخذه بمثله وذلك غير مفيد
وفي السلم عند القبض يصير كالمجدد للعقد على
ذلك الكر بالمائة فيأخذه المالك القديم بذلك
ثم أكثر ما في الباب أن يثبت شبهة تجديد العقد
بينهما وإن لم يثبت الحقيقة والشبهة في بيع
المرابحة بمنزلة الحقيقة ألا ترى أنه لو أشترى
شيئا بثمن مؤجل لا يبيعه مرابحة من غير بيان
لشبهة الزيادة بسبب الأجل ولو أخذ عينا صلحا
من دين له على إنسان لا يبيعه مرابحة على ذلك
الدين لشبهة الحط بسبب الصلح والذي يوضح كلام
أبي حنيفة أن الثوبين الموصوفين لا يتفاوتان
في الذمة ويتفاوتان بعد التعيين ألا ترى أنه
لو قبضهما وباع أحدهما من إنسان ثم استهلك ذلك
الثوب على المشتري لا يجب عليه تسليم الثوب
الآخر وإنما يجب قيمة المستهلك فدل أنهما لا
يتماثلان عينا فجاز العقد في الابتداء في
الدين وكذلك الإقالة في أحدهما وأما بيع
المرابحة لا يكون إلا بعد التعيين فيعتبر
التفاوت في حكم بيع المرابحة فلا يبيع أحدهما
مرابحة من غير بيان ولا بأس بأن يبيعهما
مرابحة على غيره لأن ثمنهما مسمى معلوم كما لو
اشتراهما عيناً.
قال: ولا بأس بالسلم في
المسوح والأكسية والعبا والجواليق والكرابيس
بصفة معلومة عرضا وطولا ورفعة لما بينا أن
إعلامه على وجه لا يبقى فيه تفاوت في المالية
ولا يبقي بينهما منازعة في التسليم تمكن قال:
ولا بأس بالرهن والكفيل في السلم أما برأس
المال يجوز أخذ الكفيل والرهن عندنا" ولا يجوز
عند زفر وله في السلم روايتان لأن الرهن
والكفيل مما يتأخر قبضه وقبض رأس المال مستحق
في المجلس فأخذ الكفيل والرهن به لا يفيد
ولكنا نقول رأس المال دين واجب على رب السلم
فالكفيل يلتزم المطالبة بما هو مضمون على
الأصيل وهو شرط صحة الكفالة والرهن للاستيفاء
ورأس مال السلم دين يستوفي فإن هلك الرهن في
المجلس وفي قيمته وفاء برأس المال صار مستوفيا
به رأس المال فإن افترقا قبل هلاك الرهن بطل
السلم لأن الاستيفاء لا يتم إلا بهلاك الرهن
والافتراق قبل تمام القبض يبطل السلم وكذا إن
نقد الكفيل رأس المال قبل أن يتفرق المتعاقدان
ثم العقد وإن افترقا قبل أن ينقد الكفيل بطل
العقد ولا معتبر بذهاب الكفيل لأنه ليس بعاقد
حتى لو ذهب وجاء برأس المال قبل افتراق
المتعاقدين فأدى تم العقد وهذه ثلاثة فصول
الوكالة والكفالة والحوالة والجواب في الكل
واحد أن قبض رأس المال من الوكيل أو المحتال
عليه قبل افتراق المتعاقدين تم عقد السلم ولا
معتبر بذهاب الوكيل والمحتال عليه. وأما أخذ
ج / 12 ص -131-
الرهن والكفيل يجوز بالمسلم فيه وهكذا ذكر ابن
شجاع عن زفر رحمهما الله تعالى وذكر الحسن عن
زفر رحمهما الله تعالى أنه لا يجوز فعلى رواية
ابن شجاع قال كل دين لا يجوز قبضه في المجلس
ويجوز التأجيل فيه فأخذ الرهن والكفيل به صحيح
للتوثيق والمسلم فيه بهذه الصفة بخلاف رأس
المال وبدل الصرف وعلى الرواية الأخرى قال كل
دين لا يجوز الاستبدال به قبل القبض فأخذ
الرهن والكفيل به لا يجوز لأن في الكفالة
إقامة ذمة الكفيل مقام ذمة الأصيل فيكون في
معنى الاستبدال من حيث المحل والحوالة كذلك
وفي الرهن يصير مستوفيا بالهلاك والرهن ليس من
جنس الدين فكان هذا استبدالا فعلى هذا لا يجوز
الرهن بالمسلم فيه ورأس المال وبدل الصرف.
وحجتنا في ذلك ما روى عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه اشترى من يهودي طعاما نسيئة
ورهنه درعه وشراء الطعام نسيئة يكون سلما وقد
روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه جوز
الرهن بالسلم واستدل فيه بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلى قوله تعالى:
{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283-283] والمعنى فيه أن عند هلاك الرهن يصير مستوفيا عين
حقه لا مستبدلا فإن عين الرهن لا تكون مملوكة
للمرتهن ولهذا لو كان الرهن عبدا فمات كان
كفنه على الراهن وإنما يصير مستوفيا دينه من
ماليته والأعيان باعتبار صفة المالية جنس واحد
ولهذا لو ارتهن أحد الشريكين بنصيبه من الدين
فهلك الرهن يرجع شريكه عليه بنصف نصيبه من
الدين وإذا ثبت أنه استيفاء لا استبدال جاز
الرهن بكل دين يجب استيفاؤه وفي الحوالة
والكفالة لا شك فإن المستوفي من الكفيل
والمحتال عليه كالمستوفي من الأصيل في أنه عين
حق الطالب لا بدله.
قال: وإذا أسلم في شيء من
الثياب واشترط طوله وعرضه بذراع رجل معروف لم
يجز كما في المكيل إذا عين المكيال وهذا لأن
مقدار المسلم فيه بالذراع المعروف وربما يموت
ذلك الرجل فيتعذر تسليم المسلم فيه إذا حل
الأجل وإذا اشترط كذا وكذا ذراعا فهو جائز وله
ذراع وسط لأن مطلق التسمية تنصرف إلى المتعارف
كمطلق تسمية الدراهم في الشراء تنصرف إلى نقد
البلد والمتعارف الذراع الوسط ويسمى المكسرة
وسمى لذلك لأنه كسره من ذراع قبضة الملك وإن
الذراع الوسط سبع قبضات وهي تسع مسببات ومعرفة
هذا في كتاب العشر والخراج قال: وإذا أسلم في
الحرير وزنا ولم يشترط الطول والعرض لم يجز"
لأن المالية لا تصير معلومة إلا ببيان الطول
والعرض في الثياب ولأنه لو جاز هذا لكان يأتيه
بقطاع الحرير بذلك الوزن الذي سمى فيجبر على
أخذه ونحن نعلم أنه لم يقصد ذلك فلهذا لا يجوز
ما لم يبين الطول والعرض ولا بد من بيان الوزن
أيضا فيما تختلف ماليته بالثقل والخفة كالحرير
والوذاري وما أشبه ذلك وإن اشترط الطول والعرض
بقيمان غير الذراع فإن كان قيمانا معروفا من
قيامين التجار فهو جائز لأن المقدار يصير
معلوما بذلك وهو المقصود وكذلك القدرة على
التسليم تحصل بتسمية ذلك.
قال: وإن اشترط الرجل في سلمه
ثوبا جيدا ثم جاء به المسلم إليه فقال رب
السلم:
ج / 12 ص -132-
ليس هذا بجيد وقال المسلم إليه جيد فإن الحاكم
يريه رجلين من أهل تلك الصناعة" لأنه لا علم
عنده فيما إذا اختلفا فيه فيرجع إلى من له فيه
علم كما لو احتاج إلى معرفة قيمة المستهلك
والأصل فيه قوله تعالى:
{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فإذا اجتمعا على أنه جيد مما يقع عليه إسم الجودة وإن
كان ليس نهاية في الجودة أجبر رب السلم على
أخذه لأن المسلم إليه وفي بما شرط له فالمستحق
بالتسمية أدنى ما يتناوله الاسم إذ لا نهاية
للأعلى فإنه ما من جيد إلا وفوقه أجود منه ألا
ترى أنه لو اشترط في العبد أنه كاتب أو خباز
فإنه يستحق به أدنى ما يتناوله الاسم وإنما
شرط المثنى لأنه يحتاج إلى فصل الخصومة بينهما
وإنما يمكنه ذلك بحجة تامة وهو قول المثنى.
قال: وإن كان اشترط وسطا فأتاه المسلم إليه
بجيد أجبر رب السلم على قبوله وعلى قول زفر لا
يجبر لأن الجيد غير الوسط وهو متبرع عليه بصفة
الجودة ولو تبرع عليه بزيادة قدر كان له أن لا
يقبل تبرعه فكذلك إذا تبرع بالجودة ولكنا نقول
أوفاه حقه بكماله وأحسن في قضاء الدين قال صلى
الله عليه وسلم:
"خيركم أحسنكم قضاء للدين" وقال للوزان:
"زن وأرجح فإنا معاشر الأنبياء هكذا نزن".
قال: فإن أتاه بالثوب الجيد
والمشروط عليه ثوب وسط وقال خذ هذا وزدني
درهما فلا بأس بذلك إن فعل وهذه في الحاصل
ثمانية فصول أربعة في الثياب وأربعة في
المقدرات أما في الثياب إن أتاه بأزيد وصفا أو
بأدون وصفا أو بأزيد قدرا أو بأنقص قدرا أما
في الثياب إن أتاه بأزيد وصفا أو ذرعا بأن
أتاه بأحد عشر ذراعا وقد كان المسلم فيه عشرة
أذرع فقال خذ هذا وزدني درهما يجوز وتكون تلك
الزيادة بمقابلة صفة الجودة أو الذراع الزائد
وذلك مستقيم ألا ترى أنه لو باعه ثوبا جيدا
بثوب وسط ودرهم يجوز ولو باعه أحد عشر ذراعا
بعشرة أذرع ودرهم يجوز فكذلك القبض بحكم السلم
ولو أتاه بأنقص وصفا بأن أتاه بثوب رديء فقال
خذ هذا وأرد عليك درهما لا يجوز لأن هذا منهما
إقالة للعقد في الصفة وحصة الصفة من رأس المال
غير معلومة فلا تجوز الإقالة فيه وكذلك لو
أتاه بتسعة أذرع فقال خذ هذا وأرد عليك درهما
لأن الذرع في الثوب صفة ولأن رأس المال لا
ينقسم على ذرعان الثوب باعتبار الأجزاء فلم
تكن حصة الذرع معلومة من رأس المال فلا تجوز
الإقالة فيه أما في المقدرات لو أسلم عشرة
دراهم في عشرة أقفزة حنطة وسط فأتاه بطعام جيد
وقال خذ هذا وزدني درهما فإنه لا يجوز لأن
الدرهم الزائد بمقابلة الجودة ولا قيمة للجودة
في الأموال الربوية؟ ألا ترى أنه لو باع قفيز
حنطة جيدة بقفيز وسط ودرهم لا يجوز وهذا في
معنى ذلك فإنه يأخذ هذا القفيز الجيد عوضا عن
الوسط الذي له في ذمته وعن الدرهم الزائد ولو
أتاه بأحد عشر قفيزا وقال خذ هذا وزدني درهما
جاز لأن الدرهم الزائد بمقابلة القفيز الزائد
وهو جائز ولو أتاه بعشرة أقفزة رديئة فقال خذ
هذا وأرد عليك درهما لا يجوز لأنه لا قيمة
للصفة فكيف تستقيم الإقالة على القيمة فيه ولو
أتاه بتسعة أقفزة وقال: خذ هذا
ج / 12 ص -133-
وأرد عليك درهما يجوز بخلاف الثوب لأن رأس
المال ينقسم على القفيزين باعتبار الأجزاء
فحصة القفيز من رأس المال معلومة بخلاف ذرعان
الثوب وعن أبي يوسف أنه يجوز في الفصول كلها
ذكر قوله في كتاب الصلح لأن رب السلم يزيد في
رأس المال فتلحق الزيادة بأصل العقد أو المسلم
إليه يحط شيئا من رأس المال والحط أيضا يلتحق
بأصل العقد لا أن يكون بمقابلة الصفة أو يكون
فيه إقالة العقد في شيء ثم المسلم إليه أجنبي
في قضاء الدين إذا أتى بالأجود ورب السلم أحسن
إليه حين تجوز بالرديىء فإذا أمكن تحصيل
مقصودهما بهذا الطريق وجب حمل تصرفهما عليه
عملا بقوله تعالى:
{فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ}
[الزمر 17-18] ولكنا نقول هذا إذا لم ينصا على
النص والمقابلة أما إذا نصا على ذلك لا يمكن
حمل فعلهما على التبرع كما لو باع درهما
بدرهمين لا يجوز ولا يجعل أحد الدرهمين هبة
وذكر أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله أن
أبا حنيفة جوز ذلك في الثياب ولم يجوزه في
الطعام وهذه الرواية تخالف رواية محمد في
الثوب إذا أتاه بأردىء مما شرط أو بأنقص مما
شرط والاعتماد على رواية محمد.
قال: وإذا اختلفا في السلم
فقال الطالب شرطت لي جيدا وقال المطلوب شرطت
لك وسطا أو قال الطالب أسلمت إليك في حنطة
وقال المطلوب أسلمت إلي في شعير تحالفا
وترادا" وحكم التحالف ثابت بالسنة بخلاف
القياس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا" وفي حديث آخر قال:
"إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها
فالقول ما يقوله البائع أو يترادان" وسنقرر هذا في باب التحالف إن شاء الله تعالى فنقول الآن إذا
اختلفا في جنس المعقود عليه فتعلق العقد
بالمعقود عليه أكثر من تعلقه بالثمن ثم لو
اختلفا في جنس الثمن تحالفا ففي جنس المعقود
عليه أولى وكذلك إذا اختلفا في الصفة لأن
المسلم فيه دين وإنما يعرف الدين بصفته فالجيد
منه غير الوسط ألا ترى أنهما لو أحضرا كانا
غيرين والاختلاف في الصفة فيما هو دين يكون
اختلافا في المعقود عليه فيجرى التحالف بينهما
بخلاف ما إذا اختلفا في الصفة في بيع العين
فإن العين لا تختلف باختلاف صفته فلا يكون ذلك
اختلافا بينهما في المعقود عليه.
قال: والذي يبدأ به في اليمين
المطلوب في قول أبي يوسف الأول، لأنه بمنزلة
البائع وصاحب الشرع عليه الصلاة والسلام قال:
"فالقول ما يقوله البائع" فظاهر
هذا يقتضى أن يكتفي بيمينه وقد قام الدليل على
أنه لا يكتفي بذلك فيبقى هذا الظاهر معتبرا في
البداية بيمينه ولأنه أشبه بالمنكرين فإنه
ينكر ما ادعاه الطالب من الجنس والصفة لنفسه
واليمين على المنكر ثم رجع وقال يبدأ بيمين
الطالب وهو قول محمد لأن أول التسليمين في عقد
السلم على الطالب وهو رأس المال فلذلك أول
اليمينين عليه ولأنه بنكوله يثبت ما ادعاه
المطلوب منه ويقع الاستغناء عن يمينه وبعض
مشايخنا رحمهم الله يقول: القاضي يقرع بينهما
ويبدأ بيمين من خرجت قرعته نفيا لتهمة الميل
عن نفسه وقيل الرأى في ذلك إلى القاضي.
ج / 12 ص -134-
وقيل ينظر أيهما سبق بالدعوة يبدأ بيمين خصمه
وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه لأن
نكوله قائم مقام إقراره وإن قامت لهما جميعا
بينة أخذت بينة الطالب لأن في بينته زيادة
إثبات ولأنه يقيم البينة على حق نفسه فالمطلوب
إنما يقيم البينة على حق الطالب وبينة الإنسان
على حق نفسه أولى بالقبول وهذا قول أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله وعن محمد إن كان افترقا
عن مجلس العقد فكذلك الجواب وإن لم يفترقا عن
مجلس العقد يقضي بسلمين عشرة في كر حنطة ببينة
رب السلم وعشرة في كر شعير بينة المسلم إليه
ومحمد رحمه الله يقول البينات حجج فمهما أمكن
العمل بها لا يجوز إبطال شيء منها وهنا العمل
بالبينتين يمكن إذلا منافاة بين العقدين فيجب
العمل بهما كحجج الشرع بخلاف ما بعد الافتراق
فإنه ما قبض في المجلس إلا عشرة واحدة فلا
يمكن القضاء بالعقدين فلهذا رجحنا بينة الطالب
وقاس هذا ببيع العين فإنه لو قال بعت منك هذه
الجارية بألف درهم وقال المشتري بعتني العبد
بألف درهم وأقاما جميعا البينة يقضى بالعقد
فيهما جميعا بالاتفاق فكذلك في السلم وأبو
حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان مع
اختلافهما اتفقا على أنه لم يكن بينهما إلا
عقد واحد فالقضاء بالعقدين قضاء بما لم يطلبا
وليس للقاضي ذلك يقرره أنه لا مقصود للمطلوب
في هذة البينة إثباتا لأن حقه في رأس المال
وهو سالم له ولا مؤنة عليه في ما في ذمته حنطة
كان أو شعيرا فإنما مقصوده نفي بينة الطالب
فرجحنا بينة الطالب للإثبات بخلاف بيع العين
فالبائع هناك ببينته يثبت إزالة العين عن ملكه
ليسقط مؤنته عن نفسه بالتسليم إلى المشتري
فكان هو مثبتا كالمشتري فلهذا قضينا بالعقدين
ثم نص على الخلاف فيما إذا اختلفا في جنس
المسلم فيه ولم يذكر ذلك فيما إذا اختلفا في
صفته ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال هو
على الخلاف أيضا ومنهم من فرق لمحمد بينهما
فقال باختلافهما في الصفة لا يتحقق الخلاف في
العقد ألا ترى أنه قد يسلم في الجيد ويأخذ
مكانه رديئا ويجوز أن يسلم في الرديء فيعطيه
مكانه جيدا فعرفنا أن باختلاف الصفة لا يختلف
العقد فلا يمكن القضاء هناك بالعقدين بخلاف
الجنس فإن بالسلم بالحنطة لا يجوز أخذ الشعير
فكان الاختلاف في ذلك اختلافا في العقد وقد
أثبت كل واحد منهما ما ادعي من العقد بالبينة
فيقضي بالعقدين فإن لم يكن لهما بينة وتحالفا
فسخ القاضي العقد بينهما إذا طلب ذلك أحدهما
قطعا للمنازعة لما في امتدادها من الفساد ودفع
الضرر عن كل واحد منهما بإعادة رأس ماله إليه
وقد بينا في باب اللعان أنه يفرق بينهما بعد
التلاعن من غير طلبهما لأن حرمة الاجتماع بين
المتلاعنين ما داما مصرين حق الشرع فلا يتوقف
التفريق على طلبهما أو طلب أحدهما وهنا فسخ
العقد حقهما فيتوقف على طلبهما أو طلب أحدهما.
قال: فإن لم يختلفا في المسلم
فيه ولكن اختلفا في مكان الإيفاء فقال الطالب
شرطت لي مكان كذا وكذا وقال المطلوب بل مكان
كذا وكذا فإن أقام البينة فالبينة بينة الطالب
وإن لم يكن لهما بينة فالقول قول المطلوب مع
يمينه وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه
ج / 12 ص -135-
وإن لم ينص عليه في الكتاب وعند أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى يتحالفان ويتردان
السلم وقيل هذا الاختلاف على القلب فإن من
مذهب أبي حنيفة أن بيان مكان الإيفاء شرط
كالصفة فلا بد من ذكره فالاختلاف فيه يوجب
التحالف عنده وعندهما ليس بمنزلة الصفة بل هو
زائد لا يحتاج إلى ذكره والأصح أن الخلاف في
موضعه فإن عندهما متعين مكان الإيفاء موجب
العقد ولهذا لا يحتاج إلى ذكره بل يتعين موضع
العقد للإيفاء والاختلاف في موجب العقد يوجب
التحالف وعند أبي حنيفة هو موجب بالشرط كالأجل
والاختلاف فيه لا يوجب التحالف ثم وجه قولهما
أن المالية فيما له حمل ومؤنة تختلف باختلاف
الأمكنة فالاختلاف فيه كالاختلاف في الصفة
وهذا لأن المقصود بالعقد المالية وأبو حنيفة
يقول القياس يمنع التحالف تركنا ذلك بالسنة
وإنما جاءت السنة بالتحالف عند الاختلاف فيما
هو من صلب العقد وهو البدل فأما المكان ليس من
صلب العقد فالاختلاف فيه كالاختلاف في الأجل
وهذا لأن المعقود عليه لا يختلف باختلاف مكان
تسليمه بخلاف الصفة فالمعقود عليه إذا كان
دينا يختلف باختلاف صفته فلهذا فرق بينهما في
حكم التحالف.
قال: وإن اختلفا في الأجل فهو
على ثلاثة أوجه ما أن يختلفا في مقدار الأجل
أو في مضي الأجل أو في أصل الأجل فإن اختلفا
في مقدار الأجل فقال الطالب كان الأجل شهرا
وقال المطلوب شهرين فالقول قول الطالب مع
يمينه لأن الأجل حق المطلوب قبل الطالب فإن
باعتباره تتأخر مطالبته عنه فالمطلوب يدعي
زيادة في حقه والطالب ينكر والقول قول المنكر
مع يمينه فإن أقاما البينة فالبينة بينة
المطلوب لإثباته الزيادة في حقه وإن اختلفا في
مضيه فقال الطالب كان الأجل شهراً وقد مضى
وقال المطلوب إنما عقدنا العقد اليوم والأجل
شهر فالقول قول المطلوب إما لأن الطالب يدعي
تاريخا سابقا في العقد والمطلوب منكر لذلك أو
لأنهما تصادقا على ثبوت الأجل حقا للمطلوب ثم
الطالب يدعي إيفاء حقه والمطلوب ينكر فالقول
قول المنكر وإن أقام البينة فالبينة بينة
المطلوب أيضا لأن المقصود إثبات الأجل وذلك
ببينة المطلوب لأنه يثبت قيام الأجل في الحال
والطالب ينفي ذلك ببينته فكان القول قوله من
وجه والبينة بينة من وجه كالمودع إذا ادعى رد
الوديعة فالقول قوله لإنكاره الضمان. وإن أقام
البينة فالبينة بينته أيضا لإثباته الرد فإن
اختلفا في شرط الأجل ففي القياس القول قول من
ينكر شرط الأجل والعقد فاسد لأن عقد السلم لا
يصح إلا باشتراط الأجل فمن ينكر الأجل فهو
منكر للعقد في المعنى فالقول قوله ولأن الأجل
شرط زائد فإذا اختلفا فيه كان القول قول من
ينكره كالخيار في البيع استحسن أبو حنيفة فقال
القول قول من يدعي الأجل أيهما كان وقال أبو
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كان الطالب
يدعي الأجل فكذلك وإن كان المطلوب هو الذي
يدعي الأجل فالقول قول الطالب لانكاره قياسا
لأن الأجل حق المطلوب قبل الطالب فإذا ادعاه
المطلوب وأنكر الطالب فكلاهما خرج مخرج الدعوى
والإنكار فكان القول قول المنكر وذا ادعى
الطالب الأجل فكلام المطلوب
ج / 12 ص -136-
في الإنكار تعنت لأن الطالب أقر له بحقه وهو
أنكر ذلك ليفسد العقد ولا يلتفت إلى قول
المتعنت فهو كما لو اختلفا المضارب ورب المال
فقال رب المال شرطت لك نصف الربح إلا عشرة
وقال المضارب بل شرطت لي نصف الربح فالقول قول
رب المال لإنكاره الزيادة ولو قال رب المال
شرطت لك نصف الربح وقال المضارب إلا عشرة
فالقول قول رب المال لأن المضارب متعنت في
إنكاره بعض ما أقر به ليفسد العقد وأبو حنيفة
يقول الأجل من شرائط السلم فاتفاقهما على عقد
السلم يكون اتفاقا على شرائطه فكان المنكر
منهما للأجل راجعا عما أقر به والرجوع عن
الإقرار باطل ألا ترى أن الاختلاف لو وقع بين
الزوجين في النكاح أنه كان بشهود أو بغير شهود
يجعل القول قول من يدعى أن النكاح بشهود لهذا
المعنى وهذا لأن شرط الشيء تبع له وثبوت التبع
بثبوت الأصل.
ألا ترى أن من نذر صلاة تلزمه الطهارة
فاتفاقهما على أصل العقد يكون اتفاقا على ما
هو من شرائطه فإن أقام البينة فالبينة بينة من
يثبت الأجل لأنه يثبت ببينته شرط صحة العقد إذ
الأجل شرط زائد كالخيار فمن يثبته بالبينة
كانت بينته أولى بالقبول.
قال: وإذا تتاركا السلم بعد
قبض رأس المال ثم اختلفا في رأس المال فالقول
قول المطلوب مع يمينه والبينة بينة الطالب
لأنه يثبت الزيادة ببينته والمطلوب ينكر تلك
الزيادة فالقول قوله مع يمينه ولا يتحالفان
بخلاف بيع العين فإنهما إذا اختلفا هناك في
الثمن بعد الإقالة تحالفا وهذا لأن المقصود
بالتحالف الفسخ والإقالة كالبيع في احتمال
الفسخ ألا ترى أنه لو هلك المبيع بعد الإقالة
قبل الرد تنفسخ الإقالة ولو وجد به عيبا فإن
حدث عند المشتري يرده بذلك وإقالة السلم لا
تحتمل الفسخ حتى لو كان رأس المال عينا لم
تنفسخ الإقالة بالهلاك في يد المسلم إليه ولا
بالرد بالعيب وهذا لأن المسلم فيه دين
وبالإقالة يسقط والساقط متلاشى فلا يتصور فسخ
السبب فيه وإنما كان وجوبه بالعقد فلا يبقى
بعد انفساخ العقد وبدون بقاء ما تتناوله
الإقالة لا يتصور فسخ الإقالة وهناك العقد
تناول العين وهو باقي بعد الإقالة.
قال: وإذا أسلم الرجل عشرة
دراهم إلى رجل في طعام فوجد فيها درهما زائفا
بعد ما افترقا فأنكر رب السلم أن يكون ذلك من
دراهمه فالقول قول المسلم إليه مع يمينه لأنه
ينكر استيفاء حقه لأن حقه في الجياد وهذا
بخلاف بيع العين فإن هناك المشتري إذا طعن
بعيب وأنكر البائع أن يكون ما أحضره هو المبيع
فالقول قول البائع لأن العقد تناول العين وقد
تصادقا على قبض المشتري لما هو المعقود عليه
ثم المشتري يدعي عليه لنفسه حق الرد والبائع
منكر لذلك وهنا حق المسلم إليه يثبت في الجياد
دينا وهو منكر لقبض الجياد فالقول قوله وهذا
إذا لم يسبق منه إقرار باستيفاء الجياد أو
باستيفاء حقه أو باستيفاء رأس المال بأن كان
ساكتا أو أقر بقبض الدراهم فاسم الدراهم
يتناول الجياد والزيوف فأما إذا أقر بشيء مما
ذكرنا كان هو في دعوى الزيافة بعد ذلك مناقضا
فلا يقبل قوله.
قال: وإذا أسلم إليه مائة
درهم في طعام وأعطاه بعضها وأحاله على رجل
ببعضها وبقي
ج / 12 ص -137-
عنده بعضها ثم تفرقا فله من السلم بحساب ما
نقده وقد بطل ما سوى ذلك" لافتراقهما قبل قبض
رأس المال فإنه بالحوالة لا يصير قابضا بل حقه
في ذمة المحال عليه كهو في ذمة المحيل وقد
بطلت الحوالة لأنها كانت برأس مال السلم وقد
بطل حق المسلم إليه عن ذلك حين افترقا قبل
القبض فتبطل الحوالة لذلك ويرجع رب السلم
بالدراهم التي أحاله بها على المحتال عليه
يريد به أن ذلك كان دينا للمحيل على المحتال
عليه فيرجع عليه بدينه كما كان.
قال: ويجوز أن يسلم الحيوان
ولا مالا يكال ولا يوزن فيما يكال ويوزن لأن
رأس المال معجل في هذا العقد يجوز تعينه فكل
ما يصلح مبيعا عينا يصلح أن يكون رأس المال
وإنما يجوز السلم عند انعدام وصفى علة ربا
الفضل الجنسية والقدر وقد وجد ذلك قال: ويسلم
الثوب الفوهي في الثوب الهروى والمروى وما
أشبه ذلك من الثياب المختلفة باختلاف البلدان
والصنعة يسلم بعضها في بعض" وكذلك الزطي في
الهروي والكسا في الطيلسان والطيلسان في الكسا
والثوب من الكتان في الثوب من القطن إما
لاختلاف الأصول أو لاختلاف الصنعة على وجه
يوجب تبديل الاسم والمقصود والوذاري يراد به
ما لا يراد به البلدى والزنديجي كذلك وإن كان
أصل الكل واحدا وهو القطن وهو كالسعلاطوى مع
الخمار الأسود جنسان وإن اتحد الأصل وهو
الإبريسم واليعفوري مع الكساجنسان وإن اتحد
الأصل وعند اختلاف الجنس فيما لا يكال ولا
يوزن يجوز إسلام البعض في البعض.
قال: ولا بأس بالسلم في
الكتان والقطن والقز والإبريسم لأنه موزون
معلوم مقدور التسليم وإن اشترط أن يوفيه السلم
في مدينة كذا وفي مصر كذا فحيث ما دفعه إليه
من ذلك المصر أو من تلك المدينة فله ذلك وليس
لرب السلم أن يكلفه تسليمه إليه في موضع آخر
منه لأن المستحق بالشرط أدنى ما يتناوله الاسم
كما بينا في شرط الجيد فحيث ما دفعه إليه في
ذلك المصر فقد وفى بالشرط ولأن نواحي المصر في
المصر كمكان واحد بدليل جواز عقد السلم فإذا
لم يعين موضعا من المصر كان له أن يسلم في أي
موضع شاء منه فإن قيل:أليس أنه إذا استأجر
دابة إلى مصر كذا فدخلها كان له أن يتبلغ
عليها إلى منزله في المصر؟
قلنا: هذا مستحسن للعرف
والعادة فإن الإنسان إذا استأجر دابة إلى مصر
من الأمصار أنه لا يستأجر دابة أخرى بعد دخول
ذلك المصر ليتبلغ عليها إلى منزله فالمستحسن
من القياس بالعرف لا يرد نقضا على القياس ولا
يعدو الموضع الذي فيه الغرف.
قال: ولا خيار في السلم في
المسابق والفرا لأنها تختلف منها الصغيرة
والكبيرة والمسبق ماله كمان طويلان كما يكون
للأكراد وبعض العرب والفرو ما لا كم له قال:
إلا أن يشترط من ذلك شيئا معروف الطول والعرض
والتقطيع والصفة فحينئذ يجوز" لأنه معلوم
مقدور التسليم.
قال: ولا خير في السلم في كل شيء اشترط فيه
الأوقار والأحمال لأن ذلك يختلف فبعضها يكون
أثقل من بعض وهذه الجهلة تفضي إلى المنازعة
بينهما.
ج / 12 ص -138-
قال:
وإن اشترط على المسلم إليه أن يحمل السلم إلى
منزل صاحب السلم بعد ما يوفيه إياه في المكان
الذي شرطه فلا خير فيه على هذا الشرط لأن
العقد ينتهي بالإيفاء في المكان المشروط ثم قد
شرط لنفسه منفعة بعد انتهاء العقد وهو الحمل
وذلك مفسد للعقد كما لو شرط أن يطحنه وإن
اشترط أن يوفيه إياه في منزله فلا بأس به
استحسانا والقياس فيه مثل الأول من أصحابنا
رحمهم الله تعالى من يقول موضع هذا القياس
والاستحسان إذا اشترط أن يوفيه في منزله بعد
ما يوفيه في مكان كذا ليكون الفصل الثاني على
وزان الفصل الأول وفي القياس لا يجوز لاشتراطه
منفعة لنفسه بعد ما انتهى العقد نهايته إذ لا
يتأتى إيفاؤه في منزله بعد الأيفاء في المكان
المشروط إلا بالحمل فلفظ الحمل والأيفاء فيه
على السواء وفي الإستحسان.
قال: إن اشترط بلفظة الإيفاء
فالثاني مثل الأول من جنسه فينفسخ به الشرط
الأول ويصير كأنه اشترط ابتداء هذا فأما الحمل
ليس من جنس الأيفاء فلا ينفسخ به الشرط الأول
وهو نظير ما لو باعه بألف ثم باعه بالفين
انفسخ به العقد الأول ولو وهبه لم ينفسخ به
العقد الأول وبيان المجانسة أن العقد يقتضي
الإيفاء لا محالة ولا يقتضي الحمل ألا ترى أن
رب السلم قد يأتي إلى المسلم إليه ليوفيه في
منزله فلا يحتاج إلى الحمل فعرفنا أن الحمل
ليس من جنس الإيفاء من حيث أن العقد قد يخلو
منه. وقيل بأن القياس والاستحسان فيما إذا
اشترط ابتداء أن يوفيه في منزله في القياس لا
يجوز لأنه لم يعين منزله وإنما المراد منزله
عند حلول الأجل وذلك غير معلوم وقد يكون في
هذا المصر وقد يكون في مصر آخر ولكنه استحسن
فقال العادة لم تجر باستبدال المنزل بالمنزل
في كل وقت أو الانتقال من المصر إلى المصر
للتوطن ومنزله للحال معلوم فباعتبار الظاهر
يكون هذا منزله عند حلول الأجل والتعين بالعرف
كالتعيين بالنص وقيل بل موضع القياس
والاستحسان ما إذا شرط أن يوفيه في منزله ولا
يعلم المسلم إليه منزله في المصر في أي محلة
هو ففي القياس لا يجوز للجهالة وفي الاستحسان
يجوز لأن نواحي المصر كمكان واحد ولكن في هذين
الوجهين لا فرق بين أن يكون بلفظ الحمل أو
بلفظ الإيفاء وفي الكتاب قال نأخذ بالحمل في
القياس وفي هذا بالاستحسان فعرفنا أن مراده
الوجه الأول.
قال: ولا بأس بالسلم بالجبن
والمصل لأنه موزون معلوم وبعض المتأخرين رحمهم
الله يقولون هذا في مصل ديار خوارزم فإنه لا
يخالطه الدقيق فإنا في مصل ديارنا ينبغي أن لا
يجوز لأنه يخالطه دقيق الشعير وقد نقل ذلك وقد
يكثر وبجنسه تختلف المالية فكان قياس السلم في
الناطف الممون والأصح أنه إن كان معلوما عند
أهل الصنعة على وجه لا يتفاوت فالسلم صحيح.
قال: وإذا اختلفا فقال رب
السلم أسلمت إليك في ثوب يهودي وقال المسلم
إليه بل هو في زطي يحلف كل واحد منهما على
دعوى صاحبه لاختلافهما في جنس المعقود عليه
وأيهما أقام البينة وجب قبول بينته وإن أقاما
البينة فالبينة بينة الطالب في قول أبي يوسف.
وفي
ج / 12 ص -139-
قول محمد يقضي بسلمين إذا كانا في المجلس وقد
بينا هذا وإذا اتفقا على أنه يهودي غير أن
الطالب قال هو ستة أذرع في ثلاثة أذرع وقال
المطلوب خمسة أذرع في ثلاثة أذرع في القياس
يتحالفان ويترادان وبالقياس نأخذ وفي
الاستحسان القول قول المطلوب لأن المسلم فيه
مبيع ولو كان مبيعا عينا واختلفا في طوله
وعرضه لا يتحالفان بل القول قول من ينكر
الزيادة فكذلك في السلم وهذا لأن زيادة الطول
والعرض لا تستحق إلا بالشرط فكان بمنزلة الأجل
وقد بينا أنهما إذا اختلفا في الأجل لم
يتحالفا فهذا مثله وفي القياس المسلم فيه دين
والذرعان لا علامة في المذروعات بمنزلة العقد
في المقدورات ولو اختلفا في مقدار المسلم فيه
تحالفا ثم أكثر ما في الباب أن الذرعان صفة
ولكن المسلم فيه دين فيختلف باختلاف الصفة وقد
بينا هذا في الجيد والردى أنهما إذا اختلفا
فيه تحالفا فكذلك في الذرعان ونأخذ بالقياس
لقوة جانب القياس والاستحسان قياسان فأيهما
كان أثره أقوى يؤخذ به ولم يذكر هذا القياس
والاستحسان عند الاختلاف في صفة الجودة
والرداءة لتحقق المغايرة بينهما والجيد غير
الردى إذا كان دينا ولا يتحقق مثل تلك
المغايرة هنا فالطويل من الثوب قد يصير قصيرا
بقطع بعضه والقصير قد يزاد فيه فيصير طويلا
فلهذا ذكر القياس والاستحسان هنا ولم يذكر
ثمنه.
قال: وإذا اختلفا في السلم أو
في رأس المال ولم يقبضه ولم يتفرقا" فالحاصل
أن هذه ثلاثة فصول "أحدها" أن يكون الاختلاف
في رأس المال وهو على وجهين إما أن يكون عينا
أو دينا فإن كان عينا فقال الطالب أسلمت إليك
هذا الثوب في كر حنطة وقال المطلوب بل هذا
الثوب الآخر وأقاما البينة فإنه يقضي بالسلمين
بالاتفاق لأن كل واحد منهما ببينته يثبت حقه
فالطالب يثبت إزالة الثوب بالذي عينه عن ملكه
بكر حنطة والمطلوب يثبت ملكه في الثوب الآخر
فلا بد من القضاء بالعقدين. وإن قال الطالب
أسلمت إليك هذا الثوب وقال المطلوب مع هذا
الثوب الآخر وأقاما البينة فالبينة بينة
المطلوب بالاتفاق لأن القضاء بالعقدين غير
ممكن فالثوب الواحد لا يكون جميع رأس المال في
عقد وبعض رأس المال في عقد آخر والمطلوب يثبت
الزيادة في حقه ببينته فلهذا قضينا ببينته
بإسلام الثوبين في كر حنطة وإن كان رأس المال
دينا فإن اختلفا في جنسه فقال رب السلم عشرة
دراهم في كر حنطة وقال المسلم إليه دينار في
كر حنطة وأقاما البينة فلا إشكال على قول محمد
أنه يقضي بالعقدين وقيل هكذا ينبغي في القياس
على قول أبي يوسف اعتبارا للدين بالعين
والدنانير غير الدراهم ولكنه استحسن فقال يقض
بعقد واحد وتكون البينة بينة المطلوب لأن
الطالب لما لم يثبت لنفسه شيئا إذ لا مؤنة
عليه فيما في ذمته وحقه في الكر ثابت
باتفاقهما والمطلوب يثبت حقه ببينته فكانت
بينته أولى وإن اختلفا في قدر رأس المال فقال
الطالب عشرة دراهم وقال المطلوب عشرون وأقاما
البينة فهو على هذا الخلاف وكذلك لو كان
الاختلاف في المسلم فيه في الجنس والقدر وقد
بينا الاختلاف وإن كان الاختلاف فيهما جميعا
بأن قال رب السلم:
ج / 12 ص -140-
عشرة دراهم في كري حنطة وقال المسلم عشرون
درهما في كر حنطة فعند أبي يوسف تقبل بينة كل
واحد منهما على ما يدعي من الزيادة في حقه
ويقضي بعقد واحد وهو إسلام عشرين درهما في كري
حنطة وعند محمد يقضي بعقدين كما شهد به كل
فريق فالحاصل أن عند محمد يقضي بعقدين ما أمكن
إلا إذا تعذر فحينئذ يشتغل بالترجيح للضرورة
وعند أبي يوسف يقضي بعقد واحد إلا إذا تعذر
فحينئذ يقضي بعقدين للضرورة وقول أبي حنيفة
كقول أبي يوسف رحمهما الله.
قال: ولو أسلم عبدا أو ثوبا
في حنطة أو شعير ولم يسم رأس مال كل واحد
منهما فهو جائز لما بينا أن الثوب والعبد ليس
بمقدر فلا يضر ترك تسمية رأس مال كل واحد
منهما ولكن ينقسم عليهما باعتبار القيمة كما
لو اشترى كر حنطة وكر شعير عينا بثوب واحد أو
عبد بعينه فإنه ينقسم باعتبار القيمة للتعارض
بينهما وليس أحدها في تخصيصه بشيء بأولى من
الآخر.
قال: وإذا باع جارية بألف
مثقال ذهب وفضة أو دراهم ودنانير كان له من كل
واحد منهما النصف لأن الواو للعطف ومطلق العطف
يوجب الاشتراك على وجه المساواة بين المعطوف
والمعطوف عليه إلا أنه إذا كان قال ألف مثقال
فعليه خمسمائة مثقال ذهب وخمسمائة مثقال فضة
لأنه فسر المثاقيل بالذهب والفضة. وإن قال ألف
من الدراهم والدنانير فعليه خمسمائة دينار
بالمثاقيل وخمسمائة درهم وزن سبعة لأنه هو
المتعارف في وزن الدراهم فينصرف إليه وكل ما
يصلح أن يكون عوضا في البيع يصلح ذلك في
الإجارة أيضا لأن المنافع في حكم الأموال أو
بالعقد يثبت لها حكم المالية حتى لا يثبت
الحيوان دينا فيه في الذمة لا حالا ولا مؤجلا
كما في البيع ويثبت المكيل والموزون حالا
ومؤجلا والثياب المرصوفة فيه تثبت مؤجلة لا
حالة لأن استقراض الثياب لا يجوز والسلم فيها
صحيح والقرض لا يكون إلا حالا والسلم لا يكون
إلا مؤجلا فعرفنا أنها تثبت في الذمة مؤجلة لا
حالة لأن استقراض الثياب لا يجوز عوضا عما هو
مال وأما الحيوان لا يجوز استقراضه ولا السلم
فيه فعرفنا أنه لا يثبت في الذمة مؤجلا ولا
حالا بدلا عما هو مال.
قال: وإذا أسلم إليه عشرة
دراهم في عشرين مختوم شعير أو عشرة مخاتيم
حنطة بالشك أنه يعطيه أيهما شاء فلا خير فيه
لأن المسلم فيه مبيع وهو مجهول حين أدخل حرف
أو بين الحنطة والشعير ومثل هذه الجهالة في
بيع العين يمتنع جواز العقد ففي السلم أولى
وكذلك لو قال إن أعطيتني إلى شهر فكذا أو إن
أعطيتني إلى شهرين فكذا فهو فاسد لجهالة
المعقود عليه عند لزوم العقد إما جنسا وإما
قدرا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن
صفقتين في صفقة وعن شرطين في بيع وتفسير ذلك
هذا ونحوه.
قال: ولا يستطيع رب السلم أن
يبيع ما أسلم فيه قبل القبض لأن المسلم فيه
مبيع وبيع المبيع قبل القبض لا يجوز لحديث عمر
وبن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض ولما بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم غياث بن أسد رضي
الله عنه قاضيا وأميرا قال:
ج / 12 ص -141-
انههم عن أربعة عن بيع ما لم يقبضوا وعن ربح
ما لم يضمنوا وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف
ولأن العين أقبل للتصرف من الدين ثم المبيع
العين إذا كان منقولا لا يجوز التصرف فيه قبل
القبض لبقاء الغرر في الملك المطلق للتصرف
فإذا كان دينا أولى وذلك الغرر هنا قائم فإن
الدين ينوي بفوات محله يعنى إذا مات المديون
مفلسا ولهذا تبطل الحوالة فكما لا يبيع المسلم
فيه قبل القبض لا يشرك فيه شريكا ولا يوليه
أحدا لأن التولية تمليك ما يملك بمثل ما ملك
به والإشراك تمليك مثل ما ملكه بمثل نصف ما
ملك به فكما لا يجوز هذا التصرف منه في الكل
لا يجوز منه في البعض قال: رجل قال لرجل أسلمت
إلى عشرة دراهم في كر حنطة ثم قال بعد ما سكت
ولكني لم أقبض الدراهم منك وقال رب السلم بل
قبضتها فالقول قول رب السلم استحسانا وفي
القياس القول قول المسلم إليه" وكذلك لو كان
رأس المال ثوبا وجه القياس أن السلم اسم للعقد
وإقراره لا يكون إقرارا بالقبض كالبيع فإنه
إذا قال ابتعت منك كذا ثم قال لم أقبض كان
القول قوله في ذلك لأنه منكر للقبض والآخر
يدعى عليه التسليم فجعل القول قول المنكر فكذا
في السلم ألا ترى أنه لو قال ذلك موصولا
بكلامه كان القول قوله ولو صار بالإقرار
بالسلم مقرى بالقبض لكان هذا رجوعا والرجوع لا
يعمل موصولا كان أو مفصولا ولكنه استحسن فقال
السلم أخذ عاجل بآجل فمطلقه يقتضي الإقرار
بالعقد والقبض جميعا فكان قوله لم أقبضه بيانا
فيه تغيير لمقتضي مطلق كلامه والبيان المغير
للفظه صحيح موصولا بكلامه لا مفصولا وهذا
تخصيص للفظه العام والتخصيص ممن لا يملك
الإبطال صحيح موصولا لا مفصولا بمنزلة
الاستثناء قال في الأصل وهذا مثل قوله قد
أعطيتني عشرة دراهم في كر حنطة أو أسلفتني أو
أقرضتني عشرة دراهم برؤسها ثم قال لم أقبض
والقياس والاستحسان في الكل ولكن من عادته
الاستشهاد بالأوضح وكذلك لو قال على ألف درهم
من ثمن جارية بعتنيها ثم قال لم أقبضها وقال
الآخر قد قبضت فهو غير مصدق في قوله لم أقبضها
وصل أم قطع في قول أبي حنيفة وكان أبو يوسف
يقول أولا إن وصل يصدق وإن فصل لم يصدق ثم رجع
وقال إذا فصل يسأل المقر له عن جهة المال فإن
أقر بجهة البيع وقال قد قبضتها فالقول قول
المقر إني لم أقبضها وإن قال المال عليه من
جهة أخرى فالقول قوله والمال لازم على المقر
وهو قول محمد وهذا في الحقيقة ليس برجوع بل
تفسير لما أبهمه في الابتداء وجه قولهما أنهما
تصادقا على البيع فالبائع يدعي تسليم المعقود
عليه والمشتري منكر فالقول قول المنكر كما لو
قال ابتعت منك جارية بألف درهم ثم قال لم
أقبضها أو قال لك على ألف درهم ثمن هذه
الجارية التي بعتها مني ولم أقبضها فالقول
قوله في ذلك فإن لم يصدقه المقر له في الجهة
فقد أقر بوجوب المال له عليه ثم ادعى ما يسقطه
فلا يصدق إذا كان مفصولا لما بينا أن قوله لم
أقبضها بيان مغير لموجب إقراره فيصح موصولا لا
مفصولا كالاستثناء إذا قال لفلان على ألف درهم
إلا مائة أو قال إلا وزن خمسة وأبو حنيفة يقول
أقر بالقبض ثم رجع والرجوع باطل موصولا كان
أومفصولاً. ومعنى هذا
ج / 12 ص -142-
أنه أقر بكون المال دينا في ذمته بقوله له على
ألف درهم ثمن جارية غير معينة وثمن الجارية
التي هي غير معينة لا يكون واجبا إلا بالقبض
لأن التي هي غير معينة في حكم المستهلكة وثمن
الجارية المستهلكة لا يكون واجبا إلا بعد
القبض فعرفنا أنه أقر بالقبض ثم رجع بخلاف
قوله ابتعت فهنالك ما أقر بأن المال واجب في
ذمته إنما أقر بالابتياع وذلك لا يكون إقرارا
بالقبض وبخلاف قوله ثمن هذه الجارية لأنه إنما
أقر بوجوب المال عليه بمقابلة جارية معينة
وثمن الجارية المعينة يكون واجبا قبل القبض
يوضحه أنه أقر بالمال وادعى لنفسه أجلا غير
متناه فإن المشترى لا يلزمه تسليم الثمن إلا
بعد إحضار البائع المبيع وما من جارية يحضرها
البائع إلا وللمشترى أن يقول المبيعة غيرها
ولو ادعى لنفسه أجلا معلوما كشهر أو سنة لم
يقبل قوله في ذلك وصل أو فصل فهنا أولي بخلاف
الجارية المعينة فإن هناك ما ادعى لنفسه أجلا
لأنها حاضرة وإنما أقر على نفسه بالمال بشرط
أن يسلم له تلك الجارية ألا ترى أن المقر له
لو قال الجارية جاريتك ما بعتها ولي عليك ألف
درهم يلزمه المال ولو قال الجارية جاريتي ولي
عليك المال لم يلزمه شيء لأنه لم يسلم له شرطه
قال: وإذا أسلم الرجل إلى رجل في كر حنطة
فأعطاه كرا بغير كيل فليس له أن يبيعه ولا
يأكله حتى يكتاله" لأن المسلم فيه مبيع وإنما
اشتراه رب السلم بذكر الكر فلا يتصرف فيه حتى
يكتاله والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه
صاعان صاع البائع وصاع المشترى يعني إذا
اشتراه بشرط الكيل فليس له أن يكتفي بكيل
البائع ولا يتصرف فيه بعد القبض حتى يكيله
وهذا لأنه إنما يملك المعقود عليه والمعقود
عليه القدر المسمى ولا يعلم ذلك إلا بالكيل
ألا ترى أنه لو كاله فوجده أزيد يلزمه رد
الزيادة وتصرفه من حيث الأكل والبيع بحكم
الملك فما لم يتعين ملكه بمعرفة المقدار لم
يكن له أن يتصرف فيه وإن هلك عنده وهو مقر
بأنه كر واف فهو مستوف لأنه قبضه على وجه
التملك بعقد السلم فيصير مضمونا عليه بالقبض
وقد هلك عنده فيلزمه مثله وقد أقر أنه كان كرا
فيصير مستوفيا بطريق المقاصة لأن ما في
المقاصة آخر الدينين قضاء عن أولهما وآخره دين
المسلم إليه فيصير رب السلم مقتضيا طعام السلم
به ولأن القبض تلاقي العين واستيفاء الدين لا
يكون إلا من العين فإذا أقر أنه كان كرا فقد
علمنا أنه بقبضه صار مستوفيا لحقه وهذا الحكم
في كل مكيل وموزون فأما في المذروعات له أن
يتصرف قبل الذرع لأن الذرع صفة حتى لو وجدوه
أزيد يسلم له الزيادة ولو وجده أنقص لا يحط
شيئا من الثمن فعرفنا أن الملك بالعقد إنما
يثبت له في العين وقد تم قبضه في العين وفي
العدديات المتقاربة أظهر الروايتين عن أبي
حنيفة أنه لا يتصرف قبل العد في العدديات
مقدار كالكيل والوزن حتى لو وجده زائدا لا
يسلم له الزيادة ولو وجده أنقص يحط حصة
النقصان من الثمن وقد روى عنه أنه جوز التصرف
فيه قبل العد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله لأن بصفة العدد لا يصير مال الربا فهو
بمنزلة الذرع في المذروعات والزيادة والنقصان
لا يتحققان فيه إلا بغلط في العدد بخلاف الكيل
والوزن والزيادة والنقصان هناك
ج / 12 ص -143-
يظهران باجتهاد من الكيال والوزان من غير أن
يتيقن بالخطأ فيه وهنا الزيادة والنقصان لا
يظهران إلا بغلط في العد فكان العقد متنا ولا
للعين فيجوز التصرف فيه قبل العد كما في
المذروعات وجه قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن
المقصود عليه في العدديات العدد لأنه مقدار
كالكيل والوزن ألا ترى أنه لو وجده أزيد لا
يسلم له الزيادة ولو وجده أنقص يحط بحصة
النقصان من الثمن فصار المعقود عليه القدر
والقدر لا يصير معلوما إلا بالعد إلا أنه لا
يجري فيه الربا لأنه صار عدديا باصطلاح الناس
لا بجعل الشرع أمثالا متساوية فإذا باع جوزة
بجوزتين فقد أعرضا عن ذلك الاصطلاح وما ثبت
باصطلاح الناس يبطل باصطلاحهم أيضا بخلاف
المكيل والموزون.
قال: وإن اشترى المسلم إليه
من رجل كرا ثم قال لرب السلم اقبضه قبل أن
يكتاله من المشترى فليس ينبغي لرب السلم أن
يقبضه حتى يكتاله المشتري لأن في هذا القبض
وكيل المسلم إليه فكما أن المسلم إليه لو قبض
بنفسه كان عليه أن يكيله فكذلك إذا قبضه وكيله
كان عليه أن يكتاله للمسلم إليه بحكم الشراء
ثم يكيله ثانيا للقبض بنفسه بحكم السلم وليس
له أن يأخذ بكيله ذلك لأنه في ذلك نائب عن
المسلم إليه فكأن المسلم إليه فعله بنفسه ثم
سلمه إليه فعليه أن يكتاله لنفسه بحكم السلم
وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم حتى
يجرى فيه الصاعان أي إذا تلقاه البائع من غيره
بشرط الكيل ولقاه غيره بشرط الكيل واختلف
مشايخنا رحمهم الله في فصل وهو ما إذا اشترى
طعاما مكايلة فكاله البائع بمحضر من المشتري
ثم سلمه إليه فمنهم من يقول ليس للمشترى أن
يكتفي بذلك الكيل ولكنه يكيله مرة أخرى
استدلالا بهذه المسألة وكيل البائع بحضرته لا
يكون أقوى من كيله بنفسه والأصح له أن يكتفي
بذلك الكيل لأن استحقاق الكيل بحكم عقده ففعل
البائع بحضرته كفعله بنفسه وفي مسألة السلم
استحقاق الأول بالكيل كان بالشراء فلا ينوب
ذلك عن الكيل المستحق بالسلم فلهذا يلزمه
الكيل مرة أخرى فإن دفع المسلم إليه إلى رب
السلم دراهم فقال اشتري لي بها طعاما فاقبضه
لي بكيل ثم كله لنفسك بكيل مستقبل كان جائزا
لأنه وكيل المسلم إليه في الشراء له وفعل
الوكيل كفعل الموكل فكأنه اشتراه بنفسه ثم أمر
رب السلم بقبضه وهي المسألة الأولى ولو قال رب
السلم للمسلم إليه كل مالي عليك من الطعام
فأعز له في بيتك أو في غرائرك ففعل ذلك لم يكن
رب السلم قابضا بمنزلة قوله اقبضه لي بيسارك
من يمينك وهذا لأن المسلم فيه دين على المسلم
إليه والمديون لا يصلح أن يكون نائبا عن صاحب
الدين في قبض الدين من نفسه ولو وكل رب السلم
بقبض ذلك غلام المسلم إليه أو ابنه فهو جائز
لأنه يصلح نائبا عن رب السلم في قبض حقه وهو
في ذلك كأجنبي آخر والإنسان يصير قابضا حقه
بيد نائبه كما يصير قابضا بيد نفسه.
قال: ولو دفع إليه غرائره
فقال كل مالي عليك اجعله في غرائري ففعل ذلك
ورب السلم ليس بحاضر لم يكن ذلك قبضا وفرق بين
هذا وبين ما إذا اشترى منه طعاما بعينه على
أنه كر ثم دفع إليه غرائره وأمره أن يكيله
فيها ففعل فإنه يصير قابضا والفرق بينهما أن
القبض
ج / 12 ص -144-
في باب السلم موجب بملك العين وغرائره لا تصلح
نائبة عنه في تملك العين وفي باب الشراء قد
ملك العين بالعقد وإنما القبض للاحراز
والغرائر تصلح نائبة عنه في الاحراز والثاني
أن أمره بالكيل في غرائره غير معتبر بنفسه في
السلم لأن المسلم إليه إنما يكيل ملك نفسه وله
في ملك نفسه ولاية الكيل من غير إذنه فأما في
الشراء إذنه معتبر في الكيل لأنه إنما يكيل
ملك المشتري وله في ملك نفسه إذن معتبر فكان
كيله في غرائره ككيل المشتري بنفسه ألا ترى
أنه لو أمر المسلم إليه بأن يطحن ما عليه من
طعام السلم ففعل ذلك كان الدقيق له ولا يكون
لرب السلم أن يقبضه لأنه يصير به مستبدلا وفي
الشراء لو أمره أن يطحنه ففعل جاز وكان الدقيق
للمشتري وكذلك في الشراء لو أمره أن يلقيه في
البحر ففعل جاز وكان الثمن مقررا عليه ولو
أمره بذلك في السلم لم يجز ثم قال: في الشراء
وله أن يبيعه إذا كان له البائع في غرائر
المشتري بأمره قبل هذا غلط لأن الغرائر نائبة
عنه في الإحراز لا في معرفة القدر فكأنه قبضه
بنفسه فلا يتصرف فيه حتى يكيله ولكن ما ذكره
في الكتاب أصح لما بينا أن أمره إياه بالكيل
معتبر لمصادفته ملكه فكان البائع في الكيل
كالنائب عنه والغرائر في القبض والاحراز تنوب
عنه وفعل نائبه كفعله بنفسه وفي السلم إن كان
في الغرائر طعام لرب السلم فكاله فيه بأمره
فقد قيل لا يصير قابضا لما ذكرنا أن أمره غير
معتبر في ملك الغير قال رضي الله عنه والأصح
عندي أنه يصير قابضا هنا لأنه أمره بخلط طعام
السلم بطعامه على وجه لا يمكن التميز معتبر
فيصير بهذا الخلط قابضا وهو مثل ما ذكر في
كتاب الصرف لو دفع إلى صائغ نصف درهم فضة وقال
زد من عندك نصف درهم وصغ لي منهما خاتما ففعل
ذلك جاز وصار بالخلط قابضاً له.
قال: وإذا أسلم الرجل في كر
حنطة ثم أسلم المسلم إليه إلى رب السلم في كر
حنطة وأجلهما واحد وصفتهما واحدة أو مختلفة لم
يكن أحدهما قصاصا بالآخر إذا حلا وإن تقاصا"
لأن المسلم فيه مبيع فيستحق قبضه بحكم العقد
ولا يجوز أن يقضي به دين آخر لأن المستحق بعقد
السلم قبض بكيل بعد عقد السلم ولا يحصل ذلك
بقضاء دين آخر به فإذا تقاصا منا فلا بد من أن
يكون أحدهما قابضا المسلم فيه ويكون دينا عليه
وذلك غير جائز.
قال: فإن كان أولهما مسلما
والآخر قضاء لا يصير أحدهما قصاصا في الحال من
قبل أن القصاص عبارة عن المساواة ولا مساواة
بينهما لأن أحدهما معجل والآخر مؤجل والمعجل
خير من المؤجل إلا إذا حل الأجل في السلم
فحينئذ يكون أحدهما قصاصا بالآخر ولا بأس بأن
يكون قصاصا إذا كان سواء تقاصا أو لم يتقاصا
لوجود القبض بكيل بعد عقد السلم وهو قبض
المستقرض ألا ترى أن رب السلم لو غصب من
المسلم إليه كرا بعد ما حل طعام السلم كان
مستوفيا حقه بطريق المقاصة فكذلك إذا استقرض
وهذا لأن في باب المقاصة آخر الدينين قضاء من
أولهما ولا يكون أول الدينين قضاء عن آخرهما
لأن القضاء يتلو الوجوب ولا يسبقه ولهذا في
الدين المشترك لو وجب للمدين على أحد الشريكين
دين بقدر حصة وصار قصاصاً
ج / 12 ص -145-
كان للشريك الآخر أن يرجع عليه بنصفه لأنه صار
مستوفيا حصته ولو كان دين المديون عليه سابقا
على دينهما فصار قصاصا لم يكن لشريكه أن يرجع
عليه بشيء لأنه صار بنصيبه قاضيا دينا عليه لا
مقتضيا إذا ثبت هذا فنقول إذا كان آخر الدينين
قرضا فالمسلم إليه بما أوجب له من القرض يصير
قاضيا طعام السلم ورب السلم يكون مستوفيا وإذا
كان القرض أولا لم يكن قصاصا وإن تقاضيا به
لأن رب السلم يصير قاضيا بطعام السلم ما عليه
من القرض ودين السلم يجب قبضه ولا يجوز قضاء
دين آخر به فإن كان للمسلم إليه كر حنطة دينا
على رجل أو استقرض من رجل كرا فقال لصاحب
السلم كله فاكتاله رب السلم كيلا واحدا جاز
ويصير قابضا لأن القرض لا يشترط فيه الكيل ألا
ترى أن المقرض لو استرد ما أقرض ولم يكله كان
له أن يتصرف فيه والمستقرض لو قبض ولم يكل كان
له أن تتصرف فيه ورب السلم في القبض من المقرض
أو المستقرض نائب عن المسلم إليه فكما قبضه تم
فيه ملك المسلم إليه قبل أن يكيله ثم إنما
يكيله بعد ذلك لنفسه بحكم السلم فلهذا يكفيه
كيل واحد بخلاف ما سبق من الشراء فإن المسلم
إليه لما اشتراه بشرط الكيل لا يتعين ملكه إلا
بالكيل فكان الكيل الأول من رب السلم كتعيين
ملك المسلم إليه فلا بد من أن يكيله لنفسه بعد
ذلك كيلا مستقبلا.
قال: وإن تتاركا السلم ورأس
المال ثوب فهلك عند المسلم إليه فعليه قيمته
وكذلك لو تتاركا بعد هلاكه وهذه أربعة فصول:
أحدهما: أن يشتري عينا بدراهم
فتقابضا ثم تقايلا ثم هلك المبيع قبل الرد
بطلت الإقالة سواء كان الثمن قائما أو هالكا
لأن الإقالة رفع العقد وإنما يرفع الشيء من
المحل الوارد عليه ومحل العقد المعقود عليه
والمعقود عليه المبيع دون الثمن فإن الثمن
معقود به ولهذا شرط قيام الملك في المبيع عند
العقد دون الثمن فإن كان المبيع هالكا عند
الإقالة فالإقالة باطلة لفوات محلها وكذلك إذا
هلك بعد الإقالة قبل الرد لأن العارض من هلاك
المحل بعد الإقالة قبل الرد كالمقترن بالإقالة
ألا ترى أن هلاك المعقود عليه بعد العقد قبل
القبض يبطل العقد ويجعل كالمقترن بالعقد.
والثاني: لو تبايعا عبدا
بجارية وتقابضا ثم تقايلا ثم هلك أحدهما بقيت
الإقالة لأن ابتداء الإقالة بعد هلاك أحد
العوضين صحيح فإن كل واحد منهما معقود عليه
بدليل أنه يشترط قيام الملك في العوضين جميعا
للمتعاقدين بخلاف الثمن ألا ترى أن بعد هلاك
أحدهما يمكن فسخ العقد برد الآخر بالعيب فكذلك
بالإقالة وإذا جاز ابتداء الإقالة بعد هلاك
أحدهما فكذلك تبقي الإقالة في القائم وعليه رد
قيمة الهالك لأنه تعذر رد العين مع بقاء السبب
الموجب للرد فترد القيمة إذ القيمة سميت قيمة
لقيامها مقام العين ولو هلكا جميعا بعد
الإقالة قبل التراد بطلت الإقالة لأن ابتداء
الإقالة بعد هلاكهما باطل إذا لم يبق شيء من
المحل الذي
ج / 12 ص -146-
تناوله العقد فكذلك لا تبقي الإقالة بعد
هلاكهما.
والثالث: السلم إذا تقايلا
ورأس المال عين فهلكت بعد الإقالة لم تبطل
الإقالة لأن ابتداء الإقالة بعد هلاك رأس
المال صحيح فإن السلم بمنزلة بيع المقابضة لأن
المسلم فيه مبيع معقود عليه فجازت الإقالة بعد
هلاك ما يقابله وإذا بقيت الإقالة فعليه رد
قيمة رأس المال لتعذر رد العين مع بقاء السبب
الموجب له والقول قول المطلوب في مقدار القيمة
إذا اختلفا لأن الطالب يدعي عليه زيادة وهو
منكر لتلك الزيادة.
والرابع: الصرف فإنهما لو
تصارفا دينارا بعشرة دراهم وتقابضا وهلك
البدلان جميعا ثم تقايلا ثم هلك البدلان قبل
التراد جازت الإقالة لأن المعقود عليه ما
استوجب كل واحد منهما في ذمة صاحبه ألا ترى أن
بعد الإقالة لا يلزمه رد المقبوض بعينه ولكن
إن شاء رده وإن شاء رد مثله فلا يكون هلاك
المقبوض مانعا من الإقالة هذا هو الصحيح في
تخريج هذه المسائل وقع في الأصل تشويش وتقديم
وتأخير وألفاظ مختلفة وذلك كله غلط من الكاتب
وقد تكلف لتصحيحه بعض مشايخنا رحمهم الله فإنه
قال بعد مسألة القرض ألا ترى أنه لو اشتريا
جارية بعبد وتقابضا فمات أحدهما في يديه ثم
تناقضا أنه جائز ومعنى هذا الاستشهاد أن القرض
وإن كان في معنى البيع من حيث أنه تمليك
الطعام بمثله فليس ببيع حقيقة فلا يشترط فيه
من الكيل ما يشترط في المبيع كما أن الإقالة
في حكم البيع ولكن ليس ببيع على الحقيقة فيجوز
بعد هلاك أحد العوضين وإن كان لا يجوز ابتداء
البيع فإنه لو اشترى عبدا بقيمة جارية هالكة
لا يجوز وإليه أشار بقوله وليس هذا بمنزلة
شراء الحي قبل أن يموت يعني شراء الحي بقيمة
الميت أو شراء الحى بالحي إذا مات أحدهما قبل
القبض ولكن هذا تكلف ولا يليق هذا اللفظ
بفصاحة محمد رحمه الله فإن شراء الحي يعلم أنه
يكون قبل أن يموت فعرفنا أنه غلط من الكاتب ثم
قال وكذلك السلم لأن السلم بيع يعنى أن
الإقالة بعد هلاك رأس المال يجوز كما يجوز في
بيع المقابضة الإقالة بعد هلاك أحدهما ثم قال
ولا يشبه هذا الأثمان الدنانير بالدراهم يعنى
أن في عقد الصرف تجوز الإقالة بعد هلاكهما
بخلاف بيع المقابضة وفي بعض النسخ قال
الدنانير والدراهم يعني إذا اشتريا عينا بنقد
ثم تقايلا فهلك المعقود عليه بطلت الإقالة فإن
كان الثمن قائما وقد قررنا هذا الفرق.
قال: وإذا أسلم الرجل إلى رجل
دراهم في كر حنطة فوجد فيها دراهم ستوقة فجاء
يردها فقال المسلم إليه هذا من نصف رأس المال
وقد بطل نصف السلم وقال رب السلم بل هو ثلث
رأس المال فالقول قول المسلم إليه لأن السوقة
ليست من جنس الدراهم فقد علمنا أن السلم لم
يتم في جميع الكر وحاصل الاختلاف بينهما في
قبض المسلم إليه مقدار حقه من رأس المال فرب
السلم يدعي عليه أنه قبض ثلثي حقه والمسلم
إليه ينكر القبض فيما زاد على النصف فكان
القول قول المنكر مع يمينه وعلى المدعي أن
يثبت ما يدعيه بالبينة وإذا أسلم
ج / 12 ص -147-
عشرة دراهم في كر حنطة فأقام رب السلم البينة
أنهما تفرقا قبل قبض المسلم إليه رأس المال
وأقام المسلم إليه البينة أنه قبض رأس المال
قبل أن يفترقا فالسلم جائز ويؤخذ بينة المسلم
إليه لأنها تثبت القبض في المجلس وبينة رب
السلم تنفي ذلك والبينات تترجح بالإثبات ولم
يذكر في الكتاب أنه لو لم يكن لهما بينة
فالقول قول من يكون وأورد هذا في اختلاف زفر
ويعقوب رحمهما الله وقال على قول زفر القول
قول من يدعى القبض منهما لأن العقد لا يتم إلا
بقبض رأس المال فكان اتفاقهما على العقد
إتفاقا منهما على قبض رأس المال والذي ينكر
القبض في حكم الراجع عن الإقرار وقد قررنا هذا
المعنى في الأجل فكذلك في قبض رأس المال وعند
أبي يوسف رحمه الله القول قول الذي في يده رأس
المال لأن الآخر يدعى تملك ما في يده عليه وهو
منكر والقول قول المنكر فإن كان رأس المال في
يد رب السلم فظاهر لأن المسلم إليه يدعى أنه
يملك ما في يده بالقبض وأنه غصبه منه بعد ذلك
وإن كان في يد المسلم إليه فرب السلم يدعي أنه
غصبه منه والمسلم إليه منكر لذلك فكان القول
قول المنكر لذلك فلو كانت الدراهم في يد رب
السلم بأعيانها فقال المسلم إليه أودعتها إياه
أو غصبها بعد قبضي لها وقد قامت البينة بالقبض
فكان القول قوله ويقضي له بالدراهم لأنه لما
أثبت قبضه بالبينة فقد تم ملكه فيها ثم ظهرت
في يد غيره بعد ذلك فيؤمر بردها عليه سواء زعم
أن وصولها إلى يده بالوديعة أو بالغصب ولو
أسلم فلوسا في طعام يجوز لأن هذا عددي متقارب
يصلح أن يكون ثمنا في باب البيع فيصلح أن يكون
رأس المال في باب السلم ولا يجوز في الصفر رجل
باع عبدا أو ثوبا بشيء مما يكال أو يوزن ثم
تفرقا قبل أن يقبض المشتري ما اشترى فالبيع
جائز لأنهما تفرقا عن عين بدين وذلك جائز في
البيع كما لو اشترى شيئا بثمن مؤجل وقبض
المشتري وتفرقا أو تفرقا قبل قبض المشتري وقد
بينا أن القياس في السلم هكذا ولكنا تركنا
القياس هناك لمقتضي اسم السلم وإليه أشار في
الفرق فقال لو باعه ثوبا بحنطة وسمى الكيل ولم
يجعل له أجلا كان جائزا ولو أسلم هذا الثوب في
كر حنطة موصوفة ولم يجعل له أجلا كان فاسدا
ومعنى هذا الإستشهاد أن التأجيل في السلم في
المسلم فيه جعل شرطا لتحقق معنى الاسم فكذلك
التعجيل في رأس المال مقتضي الاسم بخلاف البيع
وقد بينا أن جواز أخذ الرهن بالمسلم فيه وإن
بهلاك الرهن يصير المرتهن مستوفيا حقه من
مالية الراهن إذا كان فيه وفاء بحقه فسقط حق
رب السلم عن المطالبة بعد هلاك الرهن في يده
وقد بينا أيضا جواز التوكيل بدفع رأس المال
وأن القبض من الوكيل في مجلس العقد بمنزلة
القبض من الموكل ويستوى إن كان الوكيل شريكا
لرب السلم أو أجنبيا لأن أداءه قام مقام أداء
الموكل بحكم الوكالة إذا قبض المسلم إليه حتى
لو تبرع أجنبي بأداء رأس المال وقبضه المسلم
إليه قبل أن يفارق رب السلم كان جائزا وإن كان
بالمسلم كفيل فاستوفى الكفيل السلم من المسلم
إليه على وجه الاقتضاء ثم باعه وربح فيه فذلك
حلال له إذا قضى رب السلم طعاما مثله لأن عقد
الكفالة كما يوجب لرب السلم على الكفيل يوجب
للكفيل على المسلم إليه إلا أن مال الكفيل على
ج / 12 ص -148-
المسلم إليه مؤجل إلى وقت أدائه الطعام إلى رب
السلم فإذا استوفى قبل الأجل فقد استعجل دينا
له مؤجلا والمقبوض بهذا السبب يملك ملكا صحيحا
فإنما تصرف وربح في ملك حلال له فلهذا طاب له
الربح ولا خلاف في هذا إذا تقرر ملكه بأداء
طعام السلم وإنما الخلاف فيما إذا كان المسلم
إليه هو الذي قضى رب السلم طعام السلم فإنه
يرجع على الكفيل بطعام مثل ما دفع إليه لأنه
إنما أعطاه في ذلك ليسقط دين رب السلم عنه
بأدائه ولم يفعل ذلك فكان له أن يرجع عليه بما
أدى ثم قال في هذا الكتاب فما ربح يطيب للكفيل
وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله كما حكاه
عنهما في الجامع الصغير وذكر عن أبي حنيفة أنه
قال أحب إلي أن يرده على الذي قضاه ولا أجبره
عليه في القضاء وفي كتاب الكفالة قال له أن
يتصدق بالفضل ووجه تلك الرواية أن المسلم إليه
إنما رضي بقبضه ويملكه بشرط أن يؤدي عنه طعام
السلم فإذا لم يفعل لم يتم رضاه وصار هذا
كالمقبوض بغير إذنه فإنما حصل له الربح فيه
بسبب خبيث شرعا والسبيل في الكسب الخبيث
التصدق ووجه رواية الجامع الصغير أن معنى
الخبث ليس في معنى السبب بل لخلل في رضى
المسلم إليه فإذا رده عليه مع الربح انعدم
الخبث فكان هذا أولى الوجهين ولكن لا يجوز
عليه في القضاء لأن المتصرف إنما ربح على ملك
نصيبه ووجه رواية هذا الكتاب أن المقبوض كان
مملوكا له ملكا صحيحا وكان التصرف فيه مطلقا
له شرعا فالربح الحاصل به يكون حلالا ألا ترى
أنه لو أدى طعام السلم كان الربح طيبا له فإذا
لم يؤد فإنما يثبت حق الرجوع للمسلم إليه على
الكفيل يكن في ذمته وبأن لحقه دين لا يتمكن
فيه خبث فيما حصل له من الكسب كما إذا وجب
عليه دين آخر بسبب آخر هذا إذا قبضه الكفيل
على وجه الاقتضاء فأما إذا قبضه على وجه
الرسالة بأن يسلم إليه المسلم إليه طعام السلم
ليكون رسوله في تبليغه إلى رب السلم فتصرف فيه
وربح فالربح لا يطيب له في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله ويطيب له في قول أبي يوسف
لأنه أمين فيما قبضه على وجه الرسالة كالمودع
وقد بينا الخلاف في المودع إذا تصرف في
الوديعة وربح في كتاب الوديعة وإن قضى الكفيل
السلم من مال قبل أن يقبضه من المكفول عنه ثم
صالح المكفول عنه على دراهم أو غير ذلك مما
يكال أو يوزن أو على عروض أو حيوان فهو جائز
ولا يكون استبدالا لأن الكفيل هنا مقرض معناه
أن ما يرجع به الكفيل على المسلم إليه لا يكون
مسلما فيه لأن المسلم فيه ما يجب بعقد السلم
ووجوب هذا بعقد الكفالة ثم الكفالة توجب طعام
السلم على الكفيل لا للكفيل فعرفنا أنه دين
آخر بمنزلة سائر الديون فلم يكن استبدالا
ولأنه يصير كالمقرض لما أدى من المسلم إليه
وإن لم يكن قرضا على الحقيقة حتى لو أجل
المكفول عنه فيه لزمه الأجل والأجل في بدل
القرض لا يلزم فعرفنا أن مراده أنه دين آخر
سوى السلم فيجوز الاستبدال به قبل القبض وإن
أكفل رجل لرب السلم برأس ماله قبل أن يترادا
فالكفالة باطلة لأن الكفالة بما هو واجب في
ذمة الأصيل وقيل الإقالة الواجب في ذمة الأصيل
لرب السلم المسلم فيه لا رأس المال وإنما كفل
بما ليس بواجب له ولم يضف الكفالة إلى سبب
الوجوب فكان باطلا بخلاف ما لو قال إذا
تقايلتما العقد فأنا كفيل برأس المال لك ولأن
رأس المال قبل أن يترادا فالكفالة باطلة لأن
الكفالة بمل هو واجب في ذمة الأصيل وقيل:
الإقامة الواجب في ذمة الأصيل لرب السلم
المسلم فيه لا رأس المال وإنما كفل بما ليس
بواجب له ولم يضف الكفالة إلى سبب الوجوب
ج / 12 ص -149-
الإقالة حق المسلم إليه فإنما كفل عنه بما هو
حقه وذلك ليس من موضوع الكفالة في شيء.
قال: وإذا أسلم الرجل في بعض
الأدهان المربى بالبنفسج والزئبق والحنا وغيره
يجوز لأنه موزون مضبوط بالوصف مقدور التسليم
من أصحابنا رحمهم الله من قال هذا يجوز في
الدهن الصافي أما المربى بالبنفسج وغيره فلا
لأن المربى يختلف باختلاف ما يرى به من
الأدوية والرياحين والصحيح أنه يجوز لأنه يمكن
إعلامه بإعلام قدر ما يؤدى به.
قال: وكل شيء وقع عليه كيل
الرطل فهو موزون يريد به الأدهان ونحوها لأن
الرطل إنما يعدل بالوزن إلا أنه يشق عليهم وزن
الدهن بالأمناء والسنجات في كل وقت لأنه لا
يتمسك إلا في وعاء وفي وزن كل وعاء نوع حرج
فاتخذ الرطل لذلك تيسيرا فعرفنا أن ما يقع
عليه كيل الرطل فهو موزون فيجوز السلم فيه
بذكر الوزن وإذا أسلم النصراني إلى النصراني
في خمر بكيل معلوم فهو جائز وهذا عندنا بناء
على الأصل الذي بينا في كتاب الغصب أن الخمر
مال متقوم في حقهم بمنزلة الخل والعصير في
حقنا فيجوز السلم فيما بينهم بذكر الكيل
والوزن وإن أسلم أحدهما قبل قبض خمر السلم بطل
السلم ورد المسلم إليه رأس المال لأن الإسلام
وجد الخمر مملوكة بالعقد غير مقبوضة فيجعل
وجود إسلام أحدهما عند القبض كوجوده عند العقد
وهذا لأن قبض المسلم فيه قبض تملك فإنه بعقد
السلم ملك المسلم فيه دينا وإنما يتعين ملكه
بالقبض فإن كان رب السلم هو الذي أسلم فالمسلم
لا يملك الخمر بحكم عقده فإن كان المسلم إليه
هو الذي أسلم فليس له أن يملك الخمر من غيره
بعقد فعلمنا أنه تحقق فوات قبض المسلم فيه
وذلك مبطل للعقد فإن المسلم فيه مبيع ومتى
تحقق فوات قبض المبيع بطل البيع كما إذا تحقق
ذلك بالهلاك في بيع العين وإن كان قبض بعضه
بطل ما بقي وجاز ما قبض لأن ملكه تم في
المقبوض فبإسلامه بعد ذلك لا يبطل ولكن إسلامه
يمنع من قبض ما بقي فيبطل العقد فيه لفوات
القبض وهذا لأن السبب الطارئ يلاقي المنتهي
بالعفو عنه والقائم بالرد قال الله تعالى
{وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] فبنزول حكم الربا إنما لزمهم ترك ما لم يقبضوا لا رد
ما قبضوا منه فهذا مثله ثم النصراني والمسلم
في حكم السلم سواء ما خلا الخمر حتى لا يجوز
السلم بينهم في المنقطع لأن فساد ذلك فيما بين
المسلمين لعجز العاقد عن تسليم المعقود عليه
وهم في ذلك كالمسلمين والسلم بينهم في الخنزير
لا يجوز بمنزلة السلم في الشاة بين المسلمين
لأن امتناع جواز السلم في الحيوان لمعنى
الجهالة وهم يستوون في ذلك بالمسلمين وإذا
أسلم في طعام جيد من طعام العراق أو الشام فهو
جائز بخلاف ما لو أسلم في طعام قرية أو قراح
بعينه لأن ذلك يتوهم انقطاعه بآفة فأما طعام
ولاية كالعراق والشام لا يتوهم انقطاعه عرفا
بآفة فإنما أسلم فيما هو مقدور التسليم وقت
وجوب التسليم ولا بأس بالسلم في الصوف وزنا
لأنه موزون معلوم في نفسه وإن اشترى كذا جزة
بغير وزن لم يجز للجهالة لأن مقدار الصوف في
كل جزة غير معلوم وذلك يتفاوت على وجه يفضي
إلى المنازعة بينهما وإن أسلم في صوف غنم
بعينها لم يجز لأن ذلك يتوهم انقطاعه بالهلاك
ج / 12 ص -150-
ولأن تعين محل المسلم فيه كتعين المسلم فيه
ولأنه لو باع الصوف الذي على ظهر الشاة بعينه
لا يجوز فكذلك إذا أسلم فيه وكذلك ألبانها
وسمونها لما بينا ولأن هذه الأعيان ما دامت
متصلة بالحيوان فهي وصف للحيوان ولا تثبت فيها
المالية مقصودا إلا بعد الانفصال فلا تكون
قابلة للعقد مقصودا وكذلك إن أسلم في سمن حديث
أو زيت حديث في غير حينه وجعل أجله في حينه
فلا خير فيه لأنه منقطع في الحال من أيدي
الناس وكذلك لا خير في السلم في الحنطة
الحديثة لأنها اليوم منقطعة عن أيد الناس ولا
يدري أيكون في تلك السنة أم لا فلا يكون مقدور
التسليم له وبدون قدرة التسليم لا يجوز العقد.
قال: وإذا أسلم في حنطة من
حنطة هراة خاصة وهي تنقطع من أيدي الناس فلا
خير فيه كما لو أسلم في طعام قراح بعينه قيل
لم يرد بهذا هراة خراسان وإنما مراده قرية من
العراق تسمى هراة وتلك القرية يتوهم أن يصيبها
آفة فأما هراة خراسان لا يتوهم انقطاع طعامها
فهو والسلم في طعام العراق سواء ثم قال وإن
أسلم في ثوب هروي فلا بأس به من أصحابنا رحمهم
الله من يقول لأن الثوب الهروي لا يتوهم
انقطاعه بخلاف الطعام فالمراد قد يستأصل طعام
هراة ولا يستأصل حركة هراة وهذا ضعيف قالوا قد
يستأصل حركة هراة أيضا ولكن المعنى الصحيح في
الفرق أن نسبة الثوب إلى هراة لبيان جنس
المسلم فيه لا لتعين المكان فإن الثوب الهروي
ما ينسج على صفة معلومة فسواء نسج على تلك
الصفة بهراة أو بغير هراة يسمى هرويا بمنزلة
الزنديجي والوداري وإلى هذا أشار في الكتاب
فقال الثوب الهروي من الثياب بمنزلة الحنطة من
الحبوب يعني بهذا بيان الجنس بخلاف الحنطة فإن
حنطة هراة ما تنبت بأرض هراة حتى أن النابت في
موضع آخر لا ينسب إلى هراة وإن كان بتلك الصفة
فكان هذا تعينا منه للمكان ولذلك يتوهم
انقطاعه وقال مشايخنا رحمهم الله أن نسب
الطعام إلى موضع يعلم أن مراده بذلك بيان
الصفة فذلك لا يفسد السلم كالحمراني سحاري
فإنه يذكر ذلك لبيان صفة جودة الحنطة فلا يختص
به ما يثبت في تلك القرية فكأنه قال في حنطة
جيدة ووقع في الأصل والثوب الهروي لا يصنع
بغير تلك البلاد وهو غلط بل الصحيح أن الثوب
الهروي يصنع في غير تلك البلاد وعلى ما بينا
أنه اسم للمنسوج بصفة فيسمى به وإن نسج في غير
هراة.
قال: ولا بأس بالسلم في
البواري والحصير إذا وصف الطول والعرض والصفة
لأنه مذروع معلوم كالثياب فالحصير ما يتخذ من
البردى والحشيش والبوريا ما يتخذ من القصب ولا
بأس بالسلم في نصل السيف إذا كان معلوم الطول
والعرض والصفة لأن ذلك لا يتفاوت في المالية
بعد بيان نوع الحديد الأشياء يسيرا وذلك غير
معتبر كما في الثياب والجيد من الطعام ولا خير
في السلم في الطلع وهو اسم لأول ما يبدو من
النخيل قيل هو شيء أحمر مثل لسان البقر يبدو
من النخل ثم يخرج التمر منه وقد يقطع ذلك
فيؤكل كما هو أو يطبخ منه المرقة لحموضة فيه
وهو عددي متفاوت يختلف فيه الصغير والكبير
وتتفاوت آحاده في المالية
ج / 12 ص -151-
فلا يجوز السلم فيه كذلك.
قال: ولا يجوز للشريكين قسمة
السلم وغيره من الديون قبل القبض لأن القسمة
للحيازة وذلك بأن يجعل كل واحد منهما نصيبه في
حيزه وفي الدين لا يتحقق ذلك ثم القسمة لتوفير
المنفعة على كل واحد منهما في نصيبه وقطع
الانتفاع عن نصيبه وذلك لا يتحقق في الدين قبل
القبض فإذا كان الشرط في عقد السلم أن يوفيه
في مكان كذا فقال المسلم إليه خذه في مكان آخر
وخذ مني الكرا إلى ذلك المكان فقبضه كان قبضه
جائزا لأنه أخذ حقه ولا يجوز أخذ الكر إلا أنه
يملك المقبوض بقبضه وإنما يحمل ملك نفسه
والإنسان في حمل ملك نفسه لا يستوجب الأجر على
الغير وإنما يستوجب الأجر على الغير بعمل يعمل
للغير لا لنفسه فعليه رد ما أخذ من الكرا وهو
بالخيار إن شاء رضي بقبضه وإن شاء يرده حتى
يوفيه في المكان الذي شرط لأنه إنما رضي بقضبه
في غير ذلك المكان بشرط أن يسلم له الكرا فإذا
لم يسلم لا يكون راضيا به وبدون رضاه لا يسقط
ما كان مستحقا له وهو المطالبة بالإيفاء في
المكان المشروط فإن هلك المقبوض في يده فلا
شيء له لأنه تم قبضه للمسلم فيه وإنما كان
الباقي له مجرد خيار وقد سقط ذلك بهلاك
المقبوض في يده والخيار ليس بمال فلا يستوجب
حق الرجوع بشيء عند سقوط خياره.
قال: ولا خير في أن يسلم
العروض في تراب المعدن ولا في تراب الصواغين
لأن عين التراب غير مقصود بل ما فيه من الذهب
والفضة وقد بينا أن السلم في الذهب والفضة لا
يجوز ولأن بذكر وزن التراب لا يصير ما هو
المقصود معلوما وقد يخلو بعض التراب منه وقد
يقل فيه وقد يكثر فعرفنا أنما هو المقصود
مجهول جهالة لا تقبل الإعلام فكان العقد باطلا
لذلك ولا بأس بأن يسلم الحنطة وما أشبهها فيما
يوزن أو يكال بالرطل لما بينا أن ما يكال
بالرطل فهو موزون وإسلام المكيل في موزون هو
مبيع جائز لأنه لا يجتمع في البدلين أحد
الوصفين وهو الجنسية والقدر الواحد وإذا اختلف
النوعان مما يكال فلا بأس به اثنان بواحد يدا
بيد ولا خير فيه نسيئة وكذلك الموزونات وقد
بينا هذه الفصول في أول الكتاب ولا بأس
بالبنفسج بالحنا والزئبق والورد رطلين برطل
فإن الأدهان أجناس مختلفة عندنا وعند الشافعي
رضي الله عنه ما اتحد أصله منها جنس واحد
وفيما اختلف أصله له قولان لأن الاسم والهبة
واحد وإنما اختلف فيها الرائجة وباختلاف
الرائجة لا يختلف الجنس كالمنتن من اللحم مع
غير المنتن ولكنا نقول بما حل بكل واحد منهما
من الصفة اختلف الأصل والمقصود ومنع عود كل
واحد منهما إلى مثل حال صاحبه فيختلف الجنس
كالثياب والوداري مع الزنديجي جنسان مع اتحاد
الأصل لاختلاف المقصود وعلى هذا الزبد مع
السمن وكذلك الزيت المطبوخ مع غير المطبوخ
والدهن المربى بالبنفسج مع غير المربى يجوز
بيع رطل من المطبوخ والمربى برطلين من غير
المطبوخ وغير المربى لأن تلك الرائجة بمنزلة
زيادة في عينها فكأنه باع رطلا من زيت وبقله
برطلين من زيت فيكون المثل بالمثل والباقي
بإزاء الزيادة وعن أبي يوسف
ج / 12 ص -152-
رحمه الله قال: هذا إذا كان المطبوخ ينتقص إذا
ذهبت تلك الرائجة منه فإن كان لا ينتقص فقد
عرفنا أنه ليس بزيادة في العين فلا يجوز بيعه
بغير المطبوخ إلا رطلا برطل بخلاف المربى
بالبنفسج مع المربى بالياسمين فهناك كل واحد
منهما لا يصير مثل صاحبه بحال وهنا غير
المطبوخ من الزيت يطبخ فيكون مثل المطبوخ
فتعتبر المماثلة باعتبار المال وعلى هذا
الألبان فإنها أجناس عندنا وعند الشافعي رضي
الله عنه الكل جنس واحد لبن الإبل والبقر
والغنم لاتفاق الاسم والهيئة وتقارب المقصود
ولكنا نقول أصولها أجناس واللبن يتولد من
العين كالولد فكان اختلاف جنس الأصل دليلا على
اختلاف أجناسها ولا تقارب في المقصود أيضا فإن
مقصود المسلي يحصل بلبن البقر دون لبن الإبل
حتى أن ما يكون أصله جنسا واحدا كالبقر مع
الجواميس والعراب مع البخاتي والمعز مع الضأن
فلبنهما جنس واحد ودليل اتحاد جنس الأصل تكميل
نصاب البعض بالبعض في باب الزكاة وكذلك اللحوم
أجناس مختلفة عندنا وللشافعي قولان في أحد
القولين يقول كذلك لاختلاف الهيئة هنا ألا ترى
أنه يمكن تمييز البعض عن البعض برؤية الأعيان
بخلاف الأدهان والألبان وفي القول الآخر يقول
الكل جنس واحد لاتفاق اسم العين وهو اللحم
وتقارب المقصود منها فإن كلها يصلح لما هو
المقصود وهو اتخاذ المرقة منها وعندنا هي
أجناس لأن أصولها أجناس حتى لا يضم البعض إلى
البعض في حكم الزكاة وكذلك الأسامي مختلفة
لاختلاف الإضافة كدقيق الحنطة مع دقيق الشعير
والثوب الهروي مع المروي وكذا لحم البقر
والغنم والمقصود مختلف أيضا فبعض الناس يرغب
في بعض اللحوم دون البعض فربما ينفعه البعض
ويضره البعض ولا تفاوت في المقصود أبلغ من هذا
ولكن مع اختلاف الجنس هي موزونة كلها فكذلك لا
يجوز بيع البعض بالبعض نسيئة ويجوز متفاضلا
يدا بيد لانعدام أحد الوصفين.
قال: ولا خير في الحنطة
بالدقيق متساويا ولا متفاضلا لأن من الحنطة
والدقيق شبهة المجانسة فإن عمل الطحن في
الصورة هو تفريق الأجزاء وإن كان في الحكم
الدقيق غير الحنطة ويجعل الدقيق حاصلا بالطحن
ولهذا كان للغاصب إذا طحن الحنطة إلا أن الربا
مبنى على الاحتياط فالشبهة فيه تعمل على
الحقيقة وعند وجود حقيقة المجانسة لا يجوز بيع
البعض بالبعض إلا متساويا فكذلك إذا وجبت شبهة
المجانسة ولا يعرف التساوي في الكيل بين
الدقيق والحنطة فالدقيق لا يصير حنطة قط ولكن
الحنطة تطحن ولا يدري أن بعد الطحن يتساويان
في المكيال أم لا فإذا كان بالتساوي في
المعيار في الحال لا يعلم التساوي بينهما بعد
الطحن لا يجوز بيع أحدهما بالآخر وكذلك بيع
الحنطة بالنخالة والنخالة أجزاء الحنطة
كالدقيق إلا أنه جزء خشن والدقيق جزء لين فأما
بيع الدقيق بالدقيق عندنا كيلا بكيل يجوز وعند
الشافعي لا يجوز لأن الدقيق لا يعتدل في
الدخول في الكيل فإنه ينكبس بالكبس والكيل
عنده لا يكون معيارا شرعا إلا فيما يعتدل في
الكيل ولهذا قال ولا يجوز بيع الباقلاء والرطب
بالرطب والمطعوم بالمطعوم إذا قوبل بجنسه فشرط
جواز البيع عنده التساوي في
ج / 12 ص -153-
المعيار الشرعي وذلك لا يوجد فيما لا يعتدل
بالكيل ولكنا نقول الكيل فيما هو مكيل معيار
شرعي والدقيق مكيل ومعرفة كونه مكيلا بالرجوع
إلى عرف الناس وهم يكيلون الدقيق كالحنطة
ويجوز السلم في الدقيق كيلا كما يجوز في
الحنطة فكان الكيل فيه معيارا شرعيا وما يتوهم
فيه من التفاوت عند التكلف في كيل الدقيق
يتوهم في الحنطة أيضا ثم يسقط اعتباره ووجب
بناء الحكم على الوسط من ذلك فكذلك الدقيق ولا
يجوز بيع السويق بالدقيق في قول أبي حنيفة
متساويا ولا متفاضلاً. وقال أبو يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى يجوز البيع تساويا أو
تفاضلا بعد أن يكون يدا بيد لأنهما جنسان
مختلفان فإن الاسم مختلف والمقصود مختلف لأنه
يقصد بالدقيق اتحاد الخبز والعصايد والأطولة
منه ولا يحصل شيء من ذلك بالسويق إنما يلت
بالسمن والعسل فيؤكل كذلك أو يضرب بالماء
فيشرب فكان التفاوت بينهما في المقصود أظهر من
التفاوت في الهروى والمروى من الثياب وكذلك كل
واحد منهما لا يصير مثل صاحبه بحال فالسويق لا
يصير دقيقا والدقيق لا يصير سويقا بحال
واختلاف الجنس يعرف بهذا ثم اتحاد الأصل لا
يمنع اختلاف الجنس باعتبار هذه المعاني
كالأدهان. وعن أبي يوسف أنه يجوز البيع
متساويا لا متفاضلا لأن الدقيق قد يصير سويقا
بأن يرش عليه الماء ثم يقلي فيصير سويقا
وببغداد يتخذ السويق بهذه الصفة فتعتبر
المساواة بينهما لجواز العقد باعتبار المال
ولأبي حنيفة طريقان:
أحدهما: أن السويق أجزاء
الحنطة المقلية والدقيق أجزاء حنطة غير مقلية
وبيع الحنطة المقلية بغير المقلية لا يجوز
بحال فكذلك بيع السويق بالدقيق وتحقيق هذا
أنهما إنما جعلا جنسا واحدا قبل الطحن فعرفنا
أنهما جنس واحد بعد الطحن لأن الطحن فيهما عمل
بصفة واحدة فلا يوجب اختلاف الجنس وإذا كان
جنسا واحدا تعتبر المماثلة على الوجه الذي صار
مال الربا وهو قبل القلي والطحن وبتساويهما
كيلا في الحال لا تظهر تلك المماثلة فلا يجوز
العقد والطريق الآخر أن بيع الحنطة بالسويق لا
يجوز بالاتفاق وربا الفضل لا يثبت إلا باعتبار
المجانسة ولا مجانسة بين الحنطة والسويق صورة
فعرفنا أن المجانسة باعتبار ما في الضمن والذي
في ضمن الحنطة دقيق فتثبت المجانسة بين السويق
والدقيق بعد الطحن كما تثبت المجانسة بين
السويق والحنطة باعتبار ما في الضمن قبل الطحن
يوضحه أن بيع الحنطة بالدقيق ربا وبيع الحنطة
بالسويق ربا ومن ضرورة كون كل واحد منهما جنسا
للحنطة أن يكون أحدهما جنسا للآخر وإنما اختلف
الاسم للصنعة لا اسم العين فكل واحد منهما
أجزاء متفرقة فيما كان له لت الحنطة قبل
التفريق وليس فيه أكثر من أنه فات بعض المقاصد
في السويق وبه لا يختلف الجنس كالحنطة المقلوة
بغير المقلوة والعلكة مع الرخوة والتي أكلها
السوس فإنها لا تصلح للزراعة واتخاذ الهريسة
والكشك منها ولا يوجب ذلك اختلاف الجنس فكذلك
الدقيق مع السويق ولا خير في الزيت بالزيتون
إلا أن يعلم أن ما في الزيتون أقل فحينئذ يجوز
والأصل في جنس هذه المسائل أن المجانسة بين
الشيئين تكون باعتبار العين تارة وباعتبار ما
ج / 12 ص -154-
في الضمن أخرى ففيما وجدت المجانسة عينا لا
تعتبر في الضمن حتى يجوز بيع قفيز حنطة علكة
بقفيز حنطة أكلها السوس ولا يعتبر ما في الضمن
وفي الحنطة بالدقيق تعتبر المجانسة بما في
الضمن حقيقة وإن كان ذلك شيئا آخر حكما ثم لا
مجانسة بين الزيت والزيتون صورة فإنما تعتبر
المجانسة بما في الضمن وهو الزيت الذي في
الزيتون وبيع أحدهما بالآخر على أربعة أوجه إن
علم أن ما في الزيتون من الزيت أكثر من
المنفصل فقد يتحقق الفضل الخالي عن العوض فلا
يجوز البيع وكذلك إن علم أنه مثله لأن تفل
الزيتون يكون فضلاً خاليا عن العوض وإن كان لا
يعلم كيف هو لا يجوز العقد عندنا. وقال زفر
يجوز لأن الأصل في مقابلة مال بمال متقوم جواز
العقد وإنما الفساد بوجود الفضل الخالي عن
العوض فما لم يعلم به لا يفسد البيع وعندنا
الفضل الذي هو يتوهم الوجود كالمتحقق في باب
الربا احتياطا لما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم:
"نهى عن الربا والريبة والريبة" شبهة الربا وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه كنا ندع تسعة أعشار
الحلال مخافة الحرام فإذا لم تعلم المساواة
جعل ذلك لتحقق الفضل احتياطا فيفسد العقد وإن
علم أن ما في الزيتون من الزيت أقل من المنفصل
فالبيع جائز لأن المثل يصير بإزاء المثل
والباقي من الزيت بإزاء التفل فلا يظهر الفضل
الخالي عن المقابلة بهذا الطريق وكذلك دهن
السمسم بالسمسم والعصير بالعنب واللبن بالسمن
والرطب بالدبس ولا خير في شيء من ذلك نسيئة
لوجود الجنسية بينهما باعتبار ما في الضمن ولا
بأس بخل الخمر بخل السكر متفاضلاً يدا بيد
لأنهما جنسان فإن أصلهما جنسان لأن السكر ماء
التمر والخمر بالعنب وكما أن العنب مع التمر
جنسان فكذلك الخل المتخذ منهما فيجوز بيع
أحدهما بالآخر متفاضلاً ولا خير في ذلك نسيئة
لأنه جمعهما قدر واحد وهو الكيل والوزن وإن
اشترى شاة بصوف وعلى ظهرها صوف أو شاة في
ضرعها لبن بلبن فإن ذلك لا يجوز إلا بطريق
الاعتبار وهو أن يعلم أن اللبن المنفصل أكثر
مما في الضرع وأن الصوف المجزوز أكثر مما على
ظهر الشاة وذكر الطحاوي أن هذا على الخلاف
وجعله نظير بيع لحم الشاة بالشاة فإن عند أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يجوز بيع
لحم الشاة بالشاة الحية على كل حال وعند محمد
لا يجوز إلا بطريق الاعتبار وهو أن يعلم أن
اللحم المنفصل أكثر من اللحم الذي في الشاة
فيكون المثل بالمثل والباقي بإزاء المسقط وهو
القياس لأن المجانسة بين الشاة واللحم ثابتة
باعتبار ما في الضمن فلا يجوز البيع إلا بطريق
الاعتبار كما في الفصول المتقدمة وبيان ذلك أن
اللحم موجود في الشاة وهو المقصود وبه تختلف
المالية ألا ترى أن الشاة في الغنيمة من جملة
الطعام يباح لكل واحد من الغانمين تناوله وذلك
باعتبار ما فيه من اللحم بل وجود اللحم في
الشاة أبين وأظهر من وجود الدهن في السمسم فإن
ذلك حادث بالعصير حكما ولهذا كان ملكا للغاصب
واللحم لا يحدث بالذبح ولهذا لو غصب شاة
فذبحها لم يكن اللحم له والذبح نقصان محض
بمنزلة القطع في الثوب فلا يحدث به اللحم وهو
إزهاق الحياة فيفوت به معنى النسل بمنزلة
القلي في الحنطة يفوت ما كانت الحنطة باعتباره
مثبتة وإذا ثبت
ج / 12 ص -155-
أن اللحم موجود قبل الذبح لا يجوز البيع إلا
بطريق الاعتبار وجه قولهما أنه باع عدديا
متفاوتا بوزنى فيجوز كيف ما كان كما لو باع
الثوب بالقطن وبيان الوصف أن الحيوان عددي
متفاوت ولهذا لا يجوز السلم فيها ويجوز بيع
الشاة بالشاتين وتأثيره أن المجانسة باعتبار
ما في الضمن إنما تطلب إذا كان كل واحد من
البدلين مقدرا فأما إذا لم يكن أحدهما مقدرا
لا يشتغل بطلب المجانس بينهما وبهذا يقع الفرق
بين هذا وبين ما تقدم من الفصول ولكن بهذا
التقرير لا يتضح الفرق في جميع الفصول فإن بيع
دهن الجوز بالجوز لا يجوز إلا بطريق الاعتبار
والجوز ليس بمقدر ولهذا يجوز بيع جوزة بجوزتين
ولكن نقول اللحم في شراء الحيوان غير مقصود
وإنما المقصود منه الدر والنسل والأسامة
ليزداد عينها بالسمن فأما اللحم آخر المقاصد
من الحيوان وإنما تعتبر المجانسة بما في الضمن
إذا كان مقصودا والدليل عليه أن المالية في
الحيوان لا تختلف باختلاف اللحم فقد نرى فرسين
أو نجبين يتساويان في اللحم ويتفاوتان في
القيمة تفاوتا فاحشا والبيع مبادلة مال بمال
فإذا كانت مالية الحيوان لا تعرف بمقدار اللحم
لا يعتبر ذلك في البيع قبل الذبح بخلاف جميع
ما تقدم فالمالية هنا تختلف باختلاف مقدار
الدقيق في الحنطة والدهن في السمسم والجوز
ونحو ذلك نوضحه أن اللحم في الحيوان وإن كان
موجودا حقيقة فهو كالمعدوم حكما حتى لو أخذ
بضعة من لحم الحيوان لا يباح تناولها عرفنا أن
مقصود اللحم حاصل بالذبح حكما فلا يعتبر قبله
وعلى هذا الحرف نقول في مسألة الصوف واللبن
الجواب قولهم جميعا فإنه مال موجود قبل الفصل
ألا ترى أنه مفصل من الحيوان فيجوز الانتفاع
به وهذا لأنه لا حياة في الصوف واللبن فكان
الحال فيهما قبل الذبح وبعد الذبح سواء وعلى
الطريق الأول هو على الخلاف كما ذكره الطحاوي
لأن مالية الشاة لا تعرف بما على ظهرها من
الصوف ولا بما في ضرعها من اللبن كما لا تعرف
مالية الحيوان بمقدار اللحم فإن باع لحم شاة
بالبقر والإبل جاز عندنا وعلى قول زفر
والشافعي رحمهما الله لا يجوز بيع اللحم
بالحيوان أصلا لحديث سعيد بن المسيب رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع
اللحم بالحيوان وروى أن جزورا نحر على عهد أبي
بكر رضي الله تعالى عنه فجاء رجل بعناق وقال
اعطوني بهذا العناق قطعة من هذا اللحم فقال
أبو بكر رضي الله عنه هذا لا يصلح ولكنا نقول
هما جنسان مختلفان فيجوز بيع أحدهما بالآخر
كيف ما كان يدا بيد كما يجوز بيع الشاة بالبقر
والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم وإذا
اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون
يدا بيد والمراد بالنهي عن بيع الحيوان إذا
كان أحدهما نسيئة فقد ذكر ذلك في بعض الروايات
وبه نقول فإن السلم في كل واحد منهما لا يجوز
عند أبي حنيفة وتأويل حديث أبي بكر رضي الله
عنه أن ذلك البعير كان من إبل الصدقة فكره أبو
بكر رضي الله عنه بيع لحمه لأنه إنما نحر
ليتصدق به على الفقراء فلهذا قال لا يصلح وإذا
أسلم الرجل حنطة في شعير وزيت كان باطلا في
قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى يجوز في حصة الزيت لأن الفساد
ج / 12 ص -156-
بوجود العلة المفسدة وذلك في الشعير خاصة فإن
صحة الكيل لما جمع البدلين حرم النساء وفي حصة
الزيت لم يوجد ذلك فإن إسلام المكيل في
الموزون صحيح وثبوت الحكم بحسب العلة وليس من
ضرورة فساد العقد في أحدهما فساد العقد في
الآخر كما لو باع عبدا ومدبرا وكما لو باع
عبدين فهلك أحدهما قبل القبض لا يفسد العقد في
الآخر وأبو حنيفة يقول العلة المفسدة للعقد
وجدت في الكل أما في حصة الشعير فظاهر وفي حصة
الزيت فقد جعل قبول العقد في الشعير شرطا في
قبول العقد في الزيت لأن من جمع بين الشيئين
في العقد الواحد فإنه يكون شارطا عليه قبول
العقد في كل واحد منهما ولهذا لو قبل العقد في
أحدهما دون الآخر لا يجوز وهذا شرط فاسد
والسلم يفسد بالشرط الفاسد يوضحه أن فساد
العقد في الشعير لاشتراط الأجل واشتراط الأجل
في العقد والعقد واحد فإذا تمكن فيه الشرط
الفاسد فسد العقد كله بخلاف بيع القن والمدبر
فالعقد في المدبر ليس بفاسد ولهذا لو أجاز
القاضي بيعه جاز ولكنه غير نافذ لحق المدبر
وذلك لمعنى فيه لا في العقد فلهذا لا يتعدى
إلى الآخر وكذلك لو هلك أحد العبدين فالمفسد
فوت القبض وذلك لمعنى في الهالك لا في العقد
ونظائر هذه المسألة تذكر في باب البيوع الفاسد
إن شاء الله تعالى وكذلك إن أسلم فوهبه في
فوهية ومروية لأن الجنس يحرم النساء كالكيل
وبهذا يتبين أن الطريق ما قلنا دون ما يقوله
بعض مشايخنا رحمهم الله لأبي حنيفة إذا كان
الفساد قويا مجمعا عليه ويمكن في البعض تعدي
إلى ما بقي فإن فساد العقد بسبب الجنسية غير
مجمع عليه وقد سوى بين الفصلين فعرفنا أن
الطريق ما قلنا قال: ولا بأس بأن يسلم الفلوس
فيما يوزن" لأن الفلوس عددية متقاربة فيجوز
إسلامها في كل مكيل أو موزون إلا الصفر خاصة
فإنه لا يجوز إسلام الفلوس فيه للجنسية
فالفلوس صفر فإن قيل إذا كانت الفلوس صفرا
والصفر موزون فينبغي أن لا يجوز إسلام الفلوس
في الموزونات قلت الصفر موزون في العرف لا
بالنص ولا عرف فيه في الفلوس الرائجة ألا ترى
أنها لا تتفاوت في المالية بتفاوت الوزن وكذلك
لو أسلم سيفا في شيء مما يوزن كان جائزا لأن
السيف خرج من أن يكون موزونا عادة إلا في
الحديد فإنه لا يجوز إسلام السيف في الحديد
للمجانسة وكذلك كل إناء خرج بالصنعة من الوزن
فلا بأس بأن يسلمه في الموزونات إلا في نوعه
ولا بأس بأن يبيع إناء مصوغا بأناء مصوغ من
نوعه يدا بيد وإن كان أكثر منه في الوزن إذا
كان ذلك الإناء لا يباع وزنا لأنه عددي متفاوت
كالثياب وهذا بخلاف أواني الفضة والذهب فإنه
يجرى فيها ربا الفضل وإن كانت لا تباع وزنا في
العادة لأن صفة الوزن في الذهب والفضة منصوص
عليها فلا يتغير ذلك بالصنعة ولا يخرج من أن
يكون موزونا بالعادة والعادة لا تعارض النص
فأما في الحديد والشبه وما أشبه ذلك صفة الوزن
ثابتة في العرف فيخرج من أن يكون موزونا
بالصنعة وبالعرف وبتعارف الناس بيع المصوغ منه
عددا فأما بيع فلس بغير عينه بفلسين بغير
أعيانهما لا يجوز لأن الفلوس الرائجة أمثال
متساوية قطعا لاصطلاح الناس على سقوط قيمة
الجودة فيها ليكون أحد الفلسين فضلا خاليا عن
العوض
ج / 12 ص -157-
مشروطا في البيع وذلك هو الربا بعينه وإن باع
فلسا بعينه بفلس بغير أعيانهما لم يجز أيضا
لأنه لو أجاز أمسك الفلس المعين وطالبه بفلسين
آخر أو أسلم إليه الفلس المعين ثم قبض ذلك منه
بعينه مع فلس آخر لاستحقاقه فلسين في ذمته
فيكون الفلس الآخر فضلا خاليا عن العوض وكذلك
لو باع فلسين بأعيانهما بفلس بغير عينه لا
يجوز لأنه لو جاز بقبض المشترى الفلسين ثم دفع
إليه أحدهما فكان ما استوجب في ذمته فيبقى
الآخر له بغير عوض فأما إذا باع فلسا بعينه
بفسلين بأعيانهما يجوز في قول أبي يوسف وهو
قول أبي حنيفة رحمهما الله ولا يجوز في قول
محمد رضي الله عنه وهذا ينبني على أن الفلوس
لا تتعين بالتعيين ما دامت رائجة عند محمد
وعلى قولهما تتعين بالتعين إذا قوبلت بجنسها
حتى لو هلك أحدهما قبل القبض بطل العقد عندهما
ومحمد رحمه الله يقول الفلوس الرائجة ثمن
والأثمان لا تتعين في العقود بالتعيين
كالدراهم والدنانير ألا ترى أنها لو قوبلت
بخلاف جنسها لم تتعين حتى لو اشترى بفلوس
معينة شيئا فهلكت قبل التسليم لا يبطل العقد
ولو اشترى بها جاز فكذلك إذا قوبلت بجنسها لأن
ما يتعين بالتعيين فالجنس وغير الجنس فيه سواء
كالمكيلات والموزونات وما لا تتعين فالجنس
وغير الجنس فيه سواء كالذهب والفضة وهما
يقولان الفلوس عددي والعددي يتعين بالتعيين
فيجوز بيع الواحد منه بالمثنى كما لو باع جوزة
بجوزتين بأعيانهما وتحقيقه أن صفة الثمنية في
الفلوس ليست بصفة لازمة ولا هو ثابت بأصل
الخلقة بل بعارض اصطلاح الناس والعاقد إن قصد
تصحيح العقد ولا وجه لتصحيح العقد إلا بأن
تتعين الفلوس وتخرج من أن تكون رائجة ثمنا في
حقهما فيجعل كأنهما أعرضا عن ذلك الاصطلاح
والدليل على أن معنى الثمنية في الفلوس
بالاصطلاح أنه يصلح ثمن الخسيس من الأشياء دون
النفيس وأنه يروج بعض الأشياء دون البعض ويروج
في بعض المواضع دون البعض بخلاف الذهب والفضة
فإن قيل تحت هذا الكلام فساد فإنه إذا خرج في
حقهما من أن يكون ثمنا كان هذا بيع قطعة صفر
بقطعتين من صفر وذلك لا يجوز قلنا الاصطلاح في
الفلوس على صفة الثمنية والعدد فيهما في هذه
المبايعة إعراضا عن اعتبار صفة الثمنية فيها
وما أعرض عن اعتبار صفة العدد فيها وليس من
ضرورة خروجها من أن تكون ثمنا في حقهما خروجها
من أن تكون عددية كالجوز والبيض فهو عددي وليس
بثمن فهذا باتفاقهما يصير بهذه الصفة.
قال: ولا بأس بأن يشتري شقة
خز بشقة خز هي أكثر منها وزنا لأنها لا توزن
وإنما تذرع كسائر الثياب وبيع ما ليس بمكيل أو
موزون بجنسه يدا بيد يجوز كيف ما كان.
قال: ولا بأس بالتمر بالرطب
مثلا بمثل وإن كان الرطب ينقص إذا جف وهذه
مسائل:
أحدها: بيع الرطب بالرطب كيلا
بكيل جائز عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه لا
يجوز وكذلك الباقلا وعلل في كتابه فقال لأن
بين الباقلتين فضاء ومتسعا معناه أنه لا يعتدل
في الدخول في الكيل حتى لا ينضم بعضه إلى بعض
بل يتجافي ويتفاوت مقدار التجافي فيه فلا يكون
الكيل فيه معيارا شرعيا والمخلص عن الربا يكون
بالتساوي في المعيار الشرعي وقاس بيع الحنطة
المقلية بغير المقلية فإن المقلية لا تعتدل في
الدخول في الكيل لانتفاخ يحدث فيها
ج / 12 ص -158-
بالقلي أو صخور فإنها إذا قليت رطبة انتفخت
وإذا قليت يابسة ضمرت. وحجتنا في ذلك قوله صلى
الله عليه وسلم
"التمر
بالتمر كيل بكيل" والتمر اسم
للثمرة الخارجة من النخل من حين ينعقد عليها
صورتها إلى أن تدرك فكان الرطب تمرا والدليل
عليه قول القائل:
وما العيش إلا نومة وشرق
وتمر على رؤس النخيل وماء
والمراد الرطب والمعنى فيه أن الرطب أمثال
متساوية بدليل ثبوت حكم الربا فيها وقد بينا
أن حكم الربا لا يثبت في المال ما لم يصر
أمثالا متساوية وإنما صارت أمثالا متساوية
بصفة الكيل فكان الكيل فيها عيارا شرعيا
والأصل أنه يراعى وجود المساواة بين المثلين
على الوجه الذي صار مال الربا كما في الحنطة
وغيرها وبه فارق المقلوة فإن الحنطة لا تخلق
كذلك بل تكون في الأصل غير مقلوة وتصير مال
الربا بتلك الصفة فتراعى تلك المماثلة وبعد
القلي لا تعرف تلك المماثلة وإن تساويا في
الكيل فلهذا لا يجوز بيع المقلية بغير المقلية
ولا بالمقلية فإن قيل هذا فاسد فقد جوز تم بيع
الحنطة الرطبة بالحنطة الرطبة كيلا بكيل
والرطوبة صفة حادثة بصنع العباد كالقلي.
قلنا: الحنطة في الأصل تخلق
رطبة ويكون مال الربا على هذه الصفة فإذا بلت
بالماء عادت إلى تلك الصفة فإذا وجدت المماثلة
على الوجه الذي صارت مال الربا جاز العقد وهي
لا تخلق في الأصل مقلوة حتى يكون هذا إعادة
إلى تلك الصفة فيها فأما بيع الرطب بالتمر
كيلا بكيل يجوز في قول أبي حنيفة ولا يجوز في
قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهما الله
لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب
بالتمر فقال صلى الله عليه وسلم
"أينقص إذا جف؟"
قالوا نعم فقال عليه الصلاة والسلام
"فلا إذا" وفي حديث
ابن عمر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام
نهي عن بيع الرطب بالتمر كيلا وعن بيع العنب
بالزبيب كيلا ثم في قوله عليه السلام
"أينقص
إذا جف؟" إشارة إلى أنه يشترط لجواز العقد المماثلة في أعدل الأحوال وهو ما
بعد الجفاف ولا يعرف ذلك بالمساواة في الكيل
في الحال فهذا الحديث دليل الشافعي رضي الله
عنه أيضا في المسألة الأولى من هذا الوجه
واعتبار المماثلة في أعدل الأحوال صحيح كما في
بيع الحنطة بالدقيق فإنه لا يجوز لتفاوت
بينهما بعد الطحن ولأن العقد جمع بين البدلين
أحدهما على هيئة الإدخار والآخر ليس على هيئة
الإدخار ولا يتماثلان عند التساوي في الصفة
فلا يجوز بيع المقلية بغير المقلية وهذا بخلاف
الجودة والرداءة فالرداءة من نوع العيب
والرطوبة في الرطب ليس بعيب فإن العيب ما يخلو
عنه أصل الفطرة السليمة فأما ما لا يخلو عن
أصل الفطرة السليمة لا يكون عيبا كالصغير في
الآدمي وانعدام العقل بسببه وهذا بخلاف الحديث
مع العتق وكل واحد من البدلين هناك على هيئة
الادخار ثم الحديث إذا عتق لا يظهر فيه
التفاوت إلا شيء يسير لا يمكن التحرز عنه وذلك
عفو كالتراب في الحنطة ودخل أبو حنيفة بغداد
فسئل عن هذه المسألة وكانوا أشد يدا عليه
لمخالفته الخبر فقال الرطب لا يخلو إما أن
يكون تمرا أو ليس بتمر فإن كان تمرا جاز العقد
عليه لقوله صلى الله عليه وسلم:
ج / 12 ص -159-
"التمر بالتمر" وإن لم يكن تمرا جاز لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" فأورد عليه حديث سعد رضي الله تعالى عنه فقال مدار هذا الحديث على
زيد بن أبي عياش وزيد بن أبي عياش لا يقبل
حديثه واستحسن منه أهل الحديث هذا الطعن حتى
قال ابن المبارك كيف يقال أبو حنيفة لا يعرف
الحديث وهو يقول زيد بن أبي عياش ممن لا يقبل
حديثه وهذا الكلام في المناظرة يحسن لدفع شغب
الخصم ولكن الحجة لا تتم بهذا لجواز أن يكون
هنا قسما ثالثا كما في المقلية بغير المقلية
ولكن الحجة لأبي حنيفة الاستدلال بقوله صلى
الله عليه وسلم:
"التمر بالتمر مثل بمثل يد بيد كيل بكيل" وقد بينا أن التمر اسم للثمرة الخارجة من النخيل حين تنعقد صورتها
إلى أن تدرك وما يتردد عليها من الأوصاف
باعتبار الأحوال لا يوجب تبدل اسم العين
كالآدمي يكون صبيا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا
فإذا ثبت أن الكل تمر يراعى وجود المماثلة
حالة العقد على الصفة التي دخلت في العقد لأن
اعتبار المماثلة سبب المقابلة وذلك يكون عند
العقد وما كان اعتبار المساواة إلا نظير
الأجود فكما لا يعتبر التفاوت في ذلك فكذلك في
هذا وقد تحققت المساواة بينهما في الكيل في
الحال لأن الرطوبة التي في الرطب مقصودة وهي
شاغلة للكيل فلا يظهر التفاوت إلا بعد ذهابها
بالجفاف فلا يتبين به أن التفاوت كان موجودا
وقت العقد بخلاف الحنطة بالدقيق فإن بالطحن
تتفرق الأجزاء ولا يفوت جزء شاغل للكيل فتبين
بالتفاوت بينهما بعد الطحن أنهما لم يكونا
متساويين عند العقد وكذا المقلية بغير المقلية
فإن بالقلي لا يفوت جزء شاغل للكيل إنما تنعدم
اللطافة التي كانت بها الحنطة منبتة ولما ظهر
التفاوت بعد القلي عرفنا أن هذا التفاوت كان
موجودا عند العقد ثم صاحب الشرع أسقط اعتبار
التفاوت في الجودة بقوله صلى الله عليه وسلم:
"جيدها ورديئها سواء" واعتبر التفاوت بين النقد والنسيئة حتى شرط اليد باليد وصفة الجودة
لا تكون حادثة يصنع العباد والنقاوة بين النقد
والنسيئة حادث بصنع العباد وهو اشتراط الأجل
فصار هذا أصلا أن كل تفاوت ينبني على صنع
العباد فذلك مفسد للعقد وفي المقلوة بغير
المقلوة والحنطة بالدقيق بهذه الصفة وكل تفاوت
ينبني على ما هو ثابت بأصل الخلقة من غير صنع
العباد فهو ساقط الإعتبار والتفاوت بين الرطب
والتمر بهذه الصفة فلا يكون معتبرا كالتفاوت
بين الجيد والردئ.
قال: وبيع العنب بالزبيب كبيع
الرطب بالتمر فأما بيع الحنطة المبلولة
باليابسة أو الرطبة باليابسة يجوز في قول أبي
حنيفة وفي قول محمد لا يجوز وذكر في نسخ أبي
حفص قول أبي يوسف كقول أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى وهو قوله الآخر فأما قوله الأول كقول
محمد فأبو حنيفة مر على أصله وهو اعتبار
المساواة في الكيل عند العقد ومحمد مر على
أصله وهو اعتبار المماثلة في أعدل الأحوال كما
أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حديث سعد رضي الله تعالى عنه وذلك لا يوجد في
الحنطة الرطبة والمبلولة بعد الجفوف وأبو يوسف
يقول القياس ما قاله أبو حنيفة ولكن تركت
القياس في الرطب بالتمر للحديث والمخصوص من
القياس بالأثر لا يلحق به إلا ما كان في معناه
من كل وجه والحنطة الرطبة ليست في معنى الرطب
من كل وجه
ج / 12 ص -160-
فالرطوبة في الرطب مقصودة وفي الحنطة غير
مقصودة بل هو عيب فلهذا أخذت فيه بالقياس وأبو
حنيفة يقول تأويل الحديث إن صح أن النبي صلى
الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر نسيئة
وقد نقل ذلك في بعض الروايات وفائدة قوله صلى
الله عليه وسلم
"أينقص إذا جف؟"
أن الرطب إذا جف ينقص إلا أن يحل الأجل فلا
يكون هذا التصرف مفيدا وكان السائل وصيا ليتيم
فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك
التصرف منفعة لليتيم باعتبار النقصان عند
الجفوف فمنع الوصي منه على طريق الاشفاق لا
على وجه بيان فساد العقد فأما الحنطة المبلولة
بالمبلولة تجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى لما قلنا ولا يجوز عند محمد
وكذلك الزبيب المنقع بالمنقع والتمر المنقع
بالمنقع ومحمد يفرق بين هذه الفصول وبين بيع
الرطب بالرطب فيقول هناك التفاوت يظهر بعد
خروج البدلين عن الاسم الذي عقد به العقد فلا
يكون ذلك تفاوتا في المعقود عليه وهذه الفصول
تظهر التفاوت بعد الجفوف مع بقاء البدلين على
الاسم الذي عقد به العقد فبهذا الحرف يتضح
مذهبه في هذه الفصول ثم ذكر بيع الحنطة
المقلية بغير المقلية وقد بينا الحكم فيه وأهل
الأدب طعنوا عليه في هذا اللفظ فقالوا إنما
يقال حنطة مقلوة فأما المقلية المبعضة يقال
قلاه يقلية إذا أبغضه، ولكنا نقول محمد كان
فصيحا في اللغة إلا أنه رأى استعمال العوام
هذا اللفظ في الحنطة ومقصوده بيان الأحكام لهم
فاستعمل فيه اللغة التي هي معروفة عندهم وما
كان يخفي عليه هذا الفرق ولا يجوز الحنطة
بالسويق متساويا ولا متفاضلا إلا أن تكون
الحنطة أكثر ومع السويق فضة أو ذهب فيكون ما
معه بفضل الحنطة" لأن الصحة مقصود المتعاقدين
ومتى أمكن تحصيل مقصودهما بطريق جائز شرعا
يحمل مطلق كلامهما عليه ويجعل كأنهما صرحا
بذلك كما لو باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره
يجوز البيع وينصرف تسمية النصف مطلقا إلى
نصيبه خاصة وكذا لو قال لرجل أوصيت لك بثلثي
يجوز ويحمل على إيجاب ثلث المال لأنه عرف أنه
مقصوده فهذا مثله والأصل فيه قوله تعالى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ}
[الزمر: 17- 18] وقال النبي صلى الله عليه
وسلم:
"لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير
محملاً" ولو أسلم
ثوبا فوهيا في ثوب مروي ويجعل من المسلم إليه
فضل دراهم أو متاع جاز لأن ما بخص الدراهم أو
المتاع من الثوب الفوهي يكون مبيعا وما يخص
الثوب الهروي منه يكون رأس المال وإسلام
الفوهي في المروي جائز وكذلك لو أعطاه ثوبا في
حنطة وشعير فجعل بعضه عاجلا وبعضه إلى أجل فهو
جائز لأن ما يخص العاجل منه إن كان بعينه فهو
متقابضة وإن كان بغير عينه وكان موصوفا فهو
ثمن وما يخص الأجل فهو بيع الثوب بثمن مؤجل
وهذا لأن الثوب مبيع والمكيل إذا كان بعينه
يكون مبيعا وإذا كان بغير عينه وما يقابله
مبيع فهو ثمن والبيع بثمن مؤجل صحيح إذا كان
معلوم الوصف ولو أعطاه ثوبا فوهيا في ثوب فوهي
بنسيئة فهو مردود لأنه لا وجه لتصحيحه بيعا
مقابضة فإن أحد البدلين ليس بمعين ولا وجه
لتصحيحه سلما لأن البدلين من جنس واحد ولا وجه
لتصحيحه قرضا فإن استقراض الثوب لا يجوز فإن
زاد فيه درهماً مع
ج / 12 ص -161-
الثوب الذي عجل أو زاده الآخر مع ثوبه درهما
عاجلا كان ذلك كله أو آجلا كان ذلك فاسدا لأن
الزيادة بيع يقصد بها إخراج العين من العقد
وإدخال الرخص فيه وقد تعذر تصحيح الأصل هنا
فلا يمكن تصحيح البيع لأن ثبوت البيع بثبوت
الأصل وإذا أثبتنا الحكم في البيع بدون الأصل
لم يكن بيعا وكذا لو كانت الزيادة دنانير أو
ثوبا يهوديا أو كر حنطة أو غير ذلك لأنه بيع
للأصل حين أوجبه باسم الزيادة عينا كان أو
دينا وإن أسلم طعاما في شيء مما يوزن وزاد مع
ذلك دراهم أو دنانير أو ثوبا عاجلا فهو جائز
لأن العقد في الأصل المؤاجلة بمقابلة بعضه
يكون دينا بدين وإن كانت الزيادة صحيحة هنا
فيثبت حكمه في الزيادة أيضا وإن جعله مؤجلا لم
يجز لأن المسلم فيه دين فالزيادة من الذي عليه
السلم دراهم أو دنانير أو ثوبا أو شيئا مما
يوزن عاجلا فهو جائز وإن جعله مؤجلا فهو جائز
أيضا إذا كان معلوما في نفسه لأن رأس المال
عين فلا يخص المسلم فيه من رأس المال يكون عقد
السلم فيه صحيحا وما يخص الزيادة يكون بيعا
بثمن إلى أجل معلوم وذلك جائز أيضا فأما إذا
أسلم عشرة دراهم في كر حنطة ثم إن المسلم إليه
زاد كرا آخر أو نصف كر لا تجوز الزيادة لأنه
لا يمكن جعل الزيادة ثمنا وجعل الدراهم مبيعا
فلا بد من أن يجعل زيادة في المسلم فيه
والزيادة في المسلم فيه من المسلم إليه على
سبيل الالتحاق بأصل العقد لا يجوز لأن عقد
السلم جوز بخلاف القياس لحاجة الناس إليه ولا
حاجة له إلى الزيادة بل حاجته إلى زيادة رأس
المال فلا جرم الزيادة في رأس المال على سبيل
الالتحاق بأصل العقد جائزة في المجلس.
قال: وإن أسلم طعاما في ثياب
مختلفة أو في أشياء من الوزنيات مختلفة ولم
يسم رأس مال كل صنف منها فهو فاسد في قول أبي
حنيفة رحمه الله بناء على أصله في اشتراط
إعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد على
قدره وقد سبق بيانه ولا بأس بأن يشتري الرجل
الشاة الحية بالشاة المذبوحة يدا بيد لأنه بيع
عددي فوري فالشاة الحية لا توزن ولا خير فيه
نسيئة لأن النسيئة إن كانت في الشاة الحية فهو
سلم في الحيوان وإن كانت في البدل الآخر فهو
سلم في اللحم ولو كانتا شاتين مذبوحتين قد
سلختا اشتراهما رجل بشاة مذبوحة لم تسلخ كان
ذلك جائزا أيضا لأن المثل من لحم الشاة
بمقابلته من الشاتين والباقي من لحم الشاتين
بإزاء الجلد والسقط فيجوز ذلك ويحمل مطلق
كلامهما عليه لتحصيل مقصودهما ولو كانت الشاة
ليس معها جلد كان ذلك فاسدا لأن العقد اشتمل
على اللحم فقط من الجانبين واللحم موزون فإذا
وجدت الجنسية والوزن حرم التفاضل.
قال: ولا بأس بكر حنطة وكر
شعير بثلاثة أكرار حنطة وكر شعير يدا بيد
فتكون حنطة هذا بشعير هذا وشعير هذا بحنطة هذا
عندنا استحسانا والقياس أن لا يجوز وهو قول
زفر والشافعي رحمهما الله وكذلك لو باع مد
عجوة وزبيب بمدي عجوة وزبيب أو باع ديناراً
ودرهماً بدرهمين ودينارين فأما إذا باع درهماً
جيدا ودرهماً زيفا بدرهمين جيدين يجوز عند
أصحابنا رحمهم الله وعند الشافعي لا يجوز
وكذلك لو باع دينارا نيسابوريا أو ديناراً
هروياً
ج / 12 ص -162-
بدينارين نسابوريين أو هرويين وهذا بناء على
الأصل الذي تقدم فإن عند الشافعي رحمه الله
للجودة قيمة في الأموال الربوية عند المقابلة
بجنسها فإنما ينقسم الدرهمان الجيدان على
الجيد والزيف باعتبار القيمة فيصيب الجيد أكثر
من وزنه والزيف أقل من وزنة وذلك ربا وعندنا
لا قيمة للجودة في الأموال الربوية عند
المقابلة بجنسها فالمقابلة باعتبار الأجزاء
ويجوز العقد لوجود المساواة في الوزن عملا
بقوله صلى الله عليه وسلم
"الذهب بالذهب
مثل بمثل والفضة بالفضة مثل بمثل يد بيد"
وبقوله صلى الله عليه وسلم
"جيدها ورديئها سواء" وأما
الكلام في الفصل الثاني فوجه القياس فيه أن
العقد متى اشتمل على أعواض من أجناس مختلفة
ينقسم البعض على البعض باعتبار القيمة كما لو
باع عبدا أو ثوبا بجارية وحمار وهذا لأن
الانقسام يكون على وجه يعتدل فيه النظر من
الجانبين حال بقاء العقد وحال انفساخه في
البعض يعارض وإنما يكون ذلك في الانقسام
باعتبار القيمة وأما في صرف الجنس إلى خلاف
الجنس يتضرر أحدهما عند انفساخ العقد في البعض
بعارض والدليل عليه أنه لو باع قفيز تمر
بقفيزي تمر لا يجوز ولا يجعل التمر من كل جانب
بمقابلة القوى من الجانب الآخر ولو باع منا من
لحم بنوى لحم لا يجوز ولا يجعل اللحم من كل
جانب بمقابلة العظم من الجانب الآخر حتى يجوز
ولو اشترى عبدا بألف درهم نسيئة ثم باعه من
البائع مع عبد آخر بألف وخمسمائة لا يجوز
العقد فيما اشتراه لأنه اشترى ما باع بأقل مما
باع وتصحيح العقد هنا يمكن بأن يجعل بمقابلة
العبد الأول من الثمن الثاني مثل الثمن الأول
والباقي بإزاء الآخر ومع ذلك اعتبر الانقسام
بالقيمة فهذا مثله يدل عليه أن في الأموال
الربوية يصرف الجنس إلى الجنس لا إلى خلاف
الجنس فإنه إذا باع ثوبا وعشرة بثوب وعشرة
بشرط قبض الدراهم في المجلس لأنه يجعل صرفا في
حق الدراهم ووجه الاستحسان الاستدلال بقوله
صلى الله عليه وسلم:
"فإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد"
وقد اشتمل العقد هنا على نوعين مختلفين فينبغي أن يجوز العقد كيف
شاء المتعاقدان والمعنى فيه ما بينا أن تحصيل
مقصود المتعاقدين ممكن بطريق شرعي وهو صرف
الجنس إلى خلاف الجنس فيجب المصير إليه ويجعل
ذلك كالمصرح به وهذا لأن الانقسام في سائر
المعاوضات باعتبار القيمة ليس بمقتضى العقد بل
للمعاوضة والمساواة إذا ليس صرف البعض أولى من
البعض فيصير الانقسام والتوزيع باعتبار القيمة
للمعاوضة وذلك غير موجود هنا لأنه لو صرف
الجنس إلى الجنس فسد العقد ولو صرف الجنس إلى
خلاف الجنس صح العقد ولا معاوضة بين الجائز
والفاسد فالجائز مشروع بأصله ووصفه والفاسد
مشروع بأصله حرام بوصفه فإذا لم تتحقق
المعاوضة على وجه المساواة لا يصار إلى
الانقسام باعتبار القيمة ولكن يترجح ما هو
مشروع من كل وجه عل ما هو مشروع من وجه دون
وجه بخلاف النوى مع التمر فالتمر والنوى كله
مكيل من جنس واحد ولو صرح بصرف التمر إلى
النوى لم يجز العقد وكذلك العظم مع اللحم لأنه
مركب فيه خلقة كالنوى في التمر فإذا كان عند
التصحيح لا يصح العقد فعند الاطلاق لا
ج / 12 ص -163-
يحمل عليه أيضا فأما مسألة العبدين قلنا: فصل
المعاوضة يتحقق هناك لأن جهات الجواز تكثر
فإنه إن جعل بمقابلته مثل الثمن الأول يجوز
وكذلك إن جعل بمقابلته أكثر من الثمن الأول
فلكثرة جهات الجواز يتحقق معنى المعاوضة ويجب
المصير إلى الانقسام باعتبار القيمة وهنا لا
وجه للجواز إلا واحد وهو صرف الجنس إلى خلاف
الجنس يوضحه أن شرط الجواز هناك أن لا يكون
الثمن الثاني أقل من الثمن الأول فكأنهما ولو
صرحا بهذا لم يصر مقدار الثمن معلوما فلا يجوز
العقد فإن قيل المعاوضة هنا تتحقق أيضا فإنه
إذا جعل الدراهم بمقابلة الدينارين يجوز وإن
جعل نصف درهم والنصف الباقي بمقابلة الدينار
ونصف ونصف دينار بمقابلة نصف الدينار والباقي
بمقابلة درهم ونصف يجوز أيضاً.
قلنا: نعم ولكن هذا بطريق صرف
الجنس إلى خلاف الجنس ونحن ادعينا أنه لا وجه
للجواز هنا إلا هذا الطريق فكيف ما يشتغل به
لا يخرج به الطريق من أن يكون عينا وإذا اشترى
ثوبا وعشرة بثوب وعشرة.
قلنا: هناك العقد صحيح من غير
أن يصرف الجنس إلى خلاف الجنس فإن القبض في
مجلس شرط بقاء العقد صحيحا لا شرط الانعقاد
صحيحا ونحن إنما صححنا هذا التصحيح العقد لا
للبقاء صحيحا فلا يلزم.
قال: وإن اشترى قفيز حنطة
بنصف قفيز هو أجود منه فلا خير فيه لأنه لا
قيمة للجودة فنصف القفيز بمقابلة نصف قفيز
والنصف الآخر خال عن العوض وبهذه المسألة
يتبين أن أدنى ما يكون مال الربا من الحنطة
نصف قفيز لما بينا أنها إنما تصير مال الربا
لكونها مكيلا والمكيل ما يعرف مقداره بالكيل
وذلك يوجد في نصف قفيز ولا يوجد فيما دونه ولا
بأس بأن يشتري الكفرى بما يناسب من التمر يدا
بيد لأن الكفرى ليس بتمر ولا يكال أيضا ولا
خير فيه إذا كان الكفرى نسيئة لأنه مجهول فيه
الصغير والكبير وهو عددي متفاوت فإن آحاده
تتفاوت في المالية.
قال: ولا خير في التمر بالبسر
اثنان بواحد وإن كان البسر لم يحمر ولم يصفر
لأن البسر تمر على ما بينا أن التمر اسم لتمرة
خارجة من النخل من حين تنعقد صورتها إلى أن
تدرك فأما في الكفرى قبل انعقاد صورة التمر
فلا يكون تمرا وكذلك في كل صنف من صنوف التمر
فلا خير في بعضه ببعض إلا مثلا بمثل يدا بيد
ولا خير في أن يبتاع حنطة مجازفة بحنطة مجازفة
وكذلك كل مكيل أو موزون لأن المساواة في القدر
شرط لجواز العقد إذا صارت الأموال أمثالا
متساوية وعند البيع مجازفة لا تظهر المساواة
في القدر فلا يجوز العقد.
قال: فإن تبايع صبرة بصبرة
مجازفة ثم كلنا بعد ذلك فكانتا متساويين لم
يجز العقد عندنا وقال زفر يجوز لأن ما هو شرط
الجواز وهي
ج / 12 ص -164-
المماثلة قد تبين أنه كان موجودا وإن لم يكن
معلوما للمتعاقدين فجاز العقد كما لو زوجت
امرأة نفسها من رجل وهناك شاهدان يسمعان
كلامهما والمتعاقدان لا يعلمان ذلك كان النكاح
جائزاً. وحجتنا في ذلك أن المعتبر لجواز العقد
العلم بالمساواة عند العقد لأنه إذا لم يعلم
ذلك كان الفضل معدوما موهوما وما هو موهوم
الوجود يجعل كالمتحقق فيما بني أمره على
الاحتياط كما في العقوبات التي تندرئ بالشبهات
ولأن باب الربا مبنى على الاحتياط فالفضل
الموهوم فيه كالمتحقق وكذلك لو باع الحنطة
بالحنطة وزنا بوزن لا يجوز لأن الحنطة مكليلة
فشرط الجواز فيها المماثلة الكيل وبالمساواة
في الوزن لا تعلم المماثلة في الكليل وهذا
بخلاف ما لو أسلم في الحنطة وزنا فإنه يجوز
على ما ذكره الطحاوي لأن في المسلم فيه لا
تعتبر المماثلة وإنما يعتبر الإعلام على وجه
لا يبقى بينهما منازعة في التسليم وذلك يحصل
بذكر الوزن كما يحصل بذكر الكيل وبهذه المسألة
يتبين الجواب عن الإشكال الذي ذكرنا في مسألة
علة الربا على من علل في مسألة بيع الحفنة
بالحفنتين إنه إنما جاز لأن للجودة من الحفنة
فيما عند مقابلتها بجنسها لأن سقوط قيمة
الجودة باعتبار كون المال من ذوات الأمثال
والمماثلة بالمعيار ولا معيار للحفنة بخلاف
القفيز فزد على هذا الكلام مسألة الغصب وهو أن
يقال لا قيمة للجودة من الحفنة أيضا حتى إذا
غصب حفنة من حنطة وذهبت جوتها عنده فاستردها
صاحبها لم يكن له أن يضمن الغاصب النقصان لأنا
نقول لا قيمة للجودة منها لأنها موزونة لا
لأنها مكيلة وكما أن اعتبار بالكيل يسقط قيمة
الجودة فكذلك باعتبار الوزن إلا أن الشرع أسقط
اعتبار الوزن في الحنطة في حكم الربا حيث نص
على المماثلة فيه كيلا بقوله صلى الله عليه
وسلم:
"الحنطة بالحنطة كيل بكيل" فلذا جوزنا بيع الحفنة بالحفنتين ولم يجعل للجودة من الحفنة قيمة
في الغصب لأنها موزونة كما جوزنا السلم في
الحنطة بذكر الوزن.
قال: ولا خير في شراء التمر
على رؤس النخل بالتمر كيلا أو مجازفة عندنا.
وقال الشافعي يجوز شراء التمر على رؤس النخل
بتمر مجذوذ على الأرض خرصا فيما دون خمسة أوسق
ولا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق وله في مقدار
خمسة أوسق قولان وحجته في ذلك حديث أبي هريرة
رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم:
"نهي عن المزابنة ورخص في العرايا" وهي أن تباع بخرصها فيما دون خمسة أوسق والدليل على أن المراد
بالعراية التي رخص فيها رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما قلنا قول زيد بن ثابت رضي الله
تعالى عنه فإنه لما سئل ما عرايا كم هذه قال
إن الرطب ليأتينا ولم يكن في أيدينا بعد
نبتاعه به وعندنا فضالات من التمر فرخص لنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبتاع بخرصها
تمرا فنأكل مع اليابس الرطب ولأن ما على رؤوس
النخل لا يتأتى فيها الكيل فأقام الشرع الخرص
فيها مقام الكيل للحاجة تيسيرا بخلاف ما إذا
كانا موضوعين على الأرض وهذه الحاجة في القليل
دون الكثير والتفاوت مع الخرص ينعدم أو يقل في
القليل ويكثر في الكثير والفرق بين التفاوت
الكثير واليسير في التبرع أصل حتى أن الزيادة
تدخل في الكيلين يجعل عفوا بخلاف ما زاد على
ذلك وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "التمر
ج / 12 ص -165-
بالتمر كيل بكيل" وما على
رؤوس النخل تمر فلا يجوز بيعه بالتمر إلا كيلا
بكيل وهذا الحديث عام متفق على قبوله فيترجح
على الخاص المختلف في قبوله والعمل به ونهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة
والمزابنة فالمحاقلة بيع الحنطة في سنبلها
بحنطة والمزابنة بيع التمر على رؤوس النخل
بالتمر خرصا وأما العرية التي فيها الرخصة
بقوله ورخص في العرايا هي العطية دون البيع
قال صلى الله عليه وسلم للخراصين
"حققوا في الخرص"
فإن في المال العرية والوصية والمخروص له لا
يستحق التخفيف بسبب البيع بل بسبب العطا وقال
القائل شاعر الأنصار.
ليست بسيبها ولا رحبيه
ولكن عرايا في السنين الحوائج
والافتخار بالعطاء دون البيع وتفسير العرية أن
يهب الرجل ثمر نخله من بستانه لرجل ثم يشق على
المعرى دخول المعرى له في بستانه كل يوم لكون
أهله في البستان ولا يرضي من نفسه خلف الوعد
والرجوع في الهبة فيعطيه مكان ذلك تمرا محدودا
بالخرص ليدفع الضرر عن نفسه ولا يكون مخلفا
للوعد وهذا عندنا جائز لأن الموهوب لم يصر
ملكا للموهوب له ما دام متصلا بملك الواهب فما
يعطيه من التمر لا يكون عوضا عنه بل هبة
مبتدأة وإنما سمى ذلك بيعا مجازا لأنه في
الصورة عوض يعطيه للتحرز عن خلف الوعد واتفق
أن ذلك كان فيما دون خمسة أوسق فظن الراوي أن
الرخصة مقصورة على هذا فنقل كما وقع عنده
والقياس معنى في المسألة لأنه باع مكيلا بمكيل
من جنسه فلا يجوز لطريق الخرص كما لو كانا
موضوعين على الأرض أو كانا على رؤس النخيل
وكما في سائر المكيلات من الحنطة والشعير فإنه
لو باع الشعير المتحصل بشعير مثله بطريق الخرص
لم يجز وكذلك الحنطة والشافعي لا يجوز ذلك في
الحنطة لمعنيين:
أحدهما: أن شراء الحنطة في
سنبلها بالدراهم عنده لا يجوز لأنه شراء ما لم
يره بخلاف الشعير فإنه ظاهر مرئي.
والثاني: أنه بيع مطعوم
بمطعوم من جنسه لم يعرف التساوى بينهما في
المعيار الشرعي.
قال: ولا بأس بشراء فضل
الحنطة بحنطة مجازفة أو كيلا بعد أن يكون
بعينه لأن الفضل ليس بمكيل ولا موزون إنما هو
علف الدواب بمنزلة الحشيش ثم بيع الزرع النابت
قبل أن يصير منتفعا به لا يجوز سواء باعه
بالنقد أو بغيره لأن البيع يختص بعين مال
متقوم والزرع في أول ما يبدو قبل أن يصير
منتفعا به لا يكون مالا متقوما أما بعد ما صار
منتفعا به بحيث يعمل فيه المناجل ومشافر
الدواب يجوز بيعه لأنه مال متقوم منتفع به فإن
باعه بشرط القطع أو مطلقا جاز لأن مقتضي مطلق
البيع تسليم المعقود عليه عقبه فهو وشرط القطع
سواء وإن باعه بشرط الترك في أرضه حتى يدرك
فلا خير فيه لأنه إن كان بمقابلة منفعة الترك
بعض البدل فهو إجارة مشروطة في البيع وإن لم
يكن بمقابلتها شيء من البدل فهو إعارة مشروطة
في العقد وكل واحد منهما مفسد للعقد وإن
اشتراه مطلقاً، ثم تركه إلى وقت الإدراك فإن
كان الترك بإذن البائع فالفضل طيب للمشتري
لأنه تبرع عليه بمنافع أرضه وإن كان الترك
بغير إذن البائع فعليه
ج / 12 ص -166-
أن يتصدق بالفضل لأنه حصل له بكسب خبيث فإنه
غاصب للأرض والزيادة إنما حصلت بقوة الأرض
فكان بمنزلة من غصب أرضا وزرعها فعليه أن
يتصدق بالفضل
قال: وإن استأجر الأرض مدة
معلومة بأجر معلوم ليترك الفضل فيها فذلك جائز
لأن استئجار الأرض صحيح إذا كان المستأجر
يتمكن من استيفاء منفعتها والتمكن هنا موجود
لاشتغالها بزرعه بمعنى أنه وصلت منفعة الأرض
إلى زرعه فصار كأن زرعه استوفى منفعة الأرض
وإن استأجرها إلى وقت الإدراك فهو فاسد لجهالة
المعقود عليه وقد يتقدم الإدراك إذا تعجل الحر
وقد يتأخر إذا طال البرد ويلزمه أجر المثل
لأنه استوفى في المنفعة بحكم عقد فاسد ولا
يجاوز به ما سمى لانعدام المقوم في الزيادة ثم
يرفع من الغلة ما غرم فيه ويتصدق بالفضل لأنه
حصل بحكم عقد فاسد فتمكن فيه نوع خبيث.
قال: ولا بأس بأن يبتاع زرع
الحنطة بعد ما أدرك بغير الحنطة عندنا وعند
الشافعي لا يجوز في أحد القولين لأنه اشترى ما
لم يره وبيانه يأتي في موضعه إن شاء الله
تعالى .قال:
وإذا كان الشيء مما يكال أو يوزن بين رجلين
وهما نوعان فاقتسماه مجازفة فأخذ أحدهما أحد
النوعين والآخر النوع الأخر بغير كيل وأخذ كل
واحد منهما نصف نوع مجازفة فهو جائز إذا
اصطلحا عليه لأنهما جنسان مختلفان والمعاوضة
عند اختلاف الجنس يدا بيد يجوز كيف ما كان وكل
واحد منهما يأخذ نصف النوع الذي أخذه بتقديم
ملكه والنصف الآخر عوضا عما تركه لصاحبه من
نصيبه في النوع الآخر وبيع الحنطة بالشعير
مجازفة يجوز.
قال: ولا يجوز شراء اللبن في
الضرع كيلا ولا مجازفة بدراهم أو غير ذلك لنهى
النبي صلى الله عليه وسلم:
"عن
الغرر" والغرر ما يكون مستور العاقبة ولا يدري أن ما في الضرع ريح أو دم أو
لبن ولأن البيع يختص بعين
مال متقوم بنفسه واللبن في الضرع بمنزلة الصفة
في الحيوان ولا يكون مالا متقوما بنفسه قبل
الحلب وأوصاف الحيوان لا تقبل البيع كاليد
والرجل ولأن اللبن يزداد ساعة فساعة وتلك
الزيادة لا يتناولها البيع واختلاط المبيع بما
ليس بمبيع من ملك البائع على وجه يتعذر تمييزه
مبطل للبيع ثم تتمكن المنازعة بينهما في
التسليم لأن المشترى يستعصى في الحلب والبائع
يطالبه بترك داعية اللبن وكذلك بيع أولادها في
بطونها لا يجوز لمعنى الغرور وانعدام المالية
والتقوم فيه مقصودا قبل الانفصال وعجز البائع
عن تسليمه واستدل بنهي رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
"عن بيع حبل الحبلة" منهم من يروي بالكسر الحبلة فيتناول بيع الحمل ومنهم من يروى
بالنصب الحبلة فيكون المراد بيع ما يحمل هذا
الحمل بأن ولدت الناقة ثم حبلت ولدها فالمراد
بيع حمل ولدها وقد كانوا في الجاهلية يعتادون
ذلك فأبطل ذلك كله رسول الله صلى الله عليه
وسلم بنهيه عن بيع المضامين والملاقيح وعن بيع
حبل الحبلة قيل المضامين ما تتضمنه الأصلاب
والملاقيح ما تتضمنه الأرحام وقيل على عكس هذا
المضامين ما تضمه الأرحام والملاقيح ما تضمه
الأصلاب وكذلك شراء أصوافها على ظهورها لأن
الصوف قبل الجزاز وصف للحيوان وليس بمال متقوم
في نفسه ولأن المنازعة بينما يتمكن في التسليم
فإن
ج / 12 ص -167-
المشتري يستعصى في الجزاز والبائع يمنعه من
ذلك وعن أبي يوسف رحمه الله أنه جوز ذلك لأن
الصوف عين مال ظاهر وقاسه ببيع قوائم الخلاف
وذلك جائز والفرق بينهما على ظاهر الرواية أن
النمو في أغصان الشجرة يكون من رأسها لا من
أصلها فلا يختلط ملك البائع بملك المشتري وأما
النمو في الصوف يكون من أصله وذلك يتبين فيما
إذا حصب الصوف على ظهر الشاة ثم تركه حتى نما
فالمحصوب يكون على رأسه لا في أصله فيختلط ملك
البائع بملك المشتري مع أن ما يكون متصلا
بحيوان فهو وصف محض بخلاف ما يكون متصلا
بالشجرة فهو عين مال مقصود من وجه فيجوز بيعه
لذلك.
قال: وكل شيء اشتراه من
الثمار على رأس الشجر بصنف من غيره يدا بيد
فلا بأس به وشراء الثمار قبل أن تصير منتفعا
بها لا يجوز لأنه إذا كان بحيث لا يصلح لتناول
بنى آدم أو علف الدواب فهو ليس بمال متقوم فإن
صار منتفعا به ولكن لم يبد صلاحه بعد بأن كان
لا يأمن العاهة والفساد عليه فاشتراه بشرط
القطع يجوز وإن اشتراه بشرط الترك لا يجوز،
وإن اشتراه مطلقا يجوز عندنا لأن مطلق العقد
يقتضي تسليم المعقود عليه في الحال فهو وشرط
القطع سواء. وعند الشافعي لا يجوز هذا العقد
لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار
"حتى يبدو صلاحها" أو قال
"حتى يزهي"
أو قال
"حتى تؤمن العاهة" وتأويله عندنا في البيع بشرط الترك بدليل قوله أرأيت لو أذهب الله
تعالى الثمرة بما يستحل أحدكم مال أخيه المسلم
وإنما يتوهم هذا إذا اشترى بشرط الترك إلى أن
يبدو صلاحها أما إذا اشتراها بعد ما بدا
صلاحها إلا أنها لم تدرك بعد شرط القطع يجوز
وكذلك مطلقا ويؤمر بأن يقطعها في الحال بمقتضي
مطلق العقد وعند الشافعي رحمه الله يتركها إلى
وقت الإدراك لأنه هو المتعارف بين الناس ولو
اشتراها بشرط الترك فالعقد فاسد عندنا جائز
عند الشافعي رحمه الله لأنه متعارف بين الناس
ومن الشرائط في العقود ما يجوز العرف كما إذا
اشترى نعلا وشراكين بشرط أن يحذوها البائع
ولكنا نقول إن كان بمقابلة منفعة الترك شيء من
البدل فهذه إجارة مشروطة في البيع وإن لم يكن
فهي إعارة مشروطة في البيع وقد ورد الشرع
بالنهى عن ذلك حيث نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
"عن صفقتين في صفقة وعن بيع وشرط وعن بيع
وسلف" وكل عرف ورد النص بخلافه فهو غير معتبر ثم أن الثمار على رؤس
الأشجار تزداد وهذه الزيادة تحدث من ملك
البائع بعد البيع فكأنه ضم المعدوم إلى
الموجود واشتراهما فكان باطلا وفصل النعل
مستحسن من القياس ولا يتمكن في ذلك الشرط شراء
المعدوم فأما إذا تناهى عظم الثمار وصار بحيث
لا يزداد ذلك ولكن لم ينضج فإن اشتراه بشرط
القطع أو مطلقا يجوز وإن اشتراه بشرط الترك
ففي القياس العقد فاسد وهو قول أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله لما قلنا وجوز محمد العقد في
هذا الفصل استحسانا لأنه شرط متعارف ومدة
الترك يسيرة وقد يتحمل اليسير فيما لا يتحمل
فيه الكثير مع أنه لا يؤخذ للزيادة من ملك
البائع بعد هذا ولكن الشمس تنضجه بتقدير الله
ويأخذ اللون من القمر بتقدير الله والطعم من
الكواكب بتقدير الله فلم يبق فيه إلا
ج / 12 ص -168-
عمل الشمس والقمر والكواكب فلهذا قال محمد
أستحسن أن أجوزه بخلاف ما قبل أن يتناهى عظمه
فإن اشتراه مطلق ثم تركه إلى وقت الإدراك فهو
على قياس ما قدمنا من التفصيل في الفصل إلا في
فصلين:
أحدهما: أن هناك لو استأجر
الأرض مدة معلومة يجوز وهنا لو استأجر الأشجار
مدة معلومة لا يجوز بحال لأن استئجار الأرض
بالدراهم صحيح واستئجار الأشجار لا يجوز بحال.
والثاني: أن هناك لو استأجر
الأرض إلى وقت الإدراك يلزمه أجر المثل ولا
يطيب له الفضل وهنا لا يلزمه شيء من الأجر
ويطيب له الفضل لأن استئجار الأشجار لا يجوز
له بحال فلا ينعقد العقد عليهما فاسدا أيضا
وبدون انعقاد العقد لا يجب الأجر وإذا صار
العقد لغوا بقي مجرد الإذن والترك متى كان
بإذن البائع فالفضل يطيب له ولم يذكر فصلا آخر
في الكتاب وهو ما إذا صار بعض الثمار منتفعا
به ولم يخرج البعض بعد أو لم يصر منتفعا به
ولم يخرج البعض أو لم يصر منتفعا به كالتين
ونحوه فاشترى الكل فظاهر المذهب أن هذا العقد
لا يجوز عندنا خلافا لمالك فإنه يقول وجود صفة
المالية والتقوم في شيء مما هو المقصود يجعل
كوجوده في الكل للحاجة إلى ذلك كما أن في باب
الإجارة يجعل وجود جزء من المنفعة كوجود الكل
في حق جواز العقد أو يجعل ما خرج أصلا وما لم
يخرج منه جعل تبعا له في حق جواز العقد لتعامل
الناس ولكنا نقول جمع في العقد بين المعدوم
والموجود والمعدوم لا يقبل البيع وحصة الموجود
من البدل غير معلوم فلا يجوز العقد وجعل
المعدوم حقيقة موجودا حكما للضرورة وذلك فيما
لا يقبل العقد بعد الوجود حقيقة فأما الثمار
تقبل العقد بعد الوجود قال رضي الله عنه وكان
شيخنا الإمام شمس الأئمة يفتي بجواز هذا البيع
في الثمار والباذنجان والبطيخ وغير ذلك وهكذا
حكى عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل
قال أجعل الموجود أصلا في العقد وما يحدث بعد
ذلك تبعا قال أستحسن فيه لتعامل الناس فإنهم
تعاملوا بيع ثمار الكرم بهذه الصفة ولهم في
ذلك عادة ظاهرة وفي نزع الناس عن عادتهم حرج
بين.
قال: وقد رأيت رواية في هذا
عن محمد وهو في بيع الورد على الأشجار فإن
الورد مثلا حق ثم جوز البيع في الكل مطلقا
بهذا الطريق قال الشيخ الإمام ولكن الأول عندي
أصح لأن المصير إلى هذا الطريق عند تحقق
الضرورة ولا ضرورة في الباذنجان والبطيخ فإنه
يمكنه أن يبيع أصولها حتى يكون ما يحدث من ملك
المشتري له وفي الثمار كذلك فإنه يمكنه أن
يشتري الموجود المنتفع به ببعض الثمن ثم يؤخر
العقد فيما بقى إلى أن يصير منتفعا به أو
يشتري الموجود بجميع الثمن ويحل للبائع أن
ينتفع بما يحدث فيحصل مقصودهما بهذا الطريق.
قال: وإن اشترى طعاما بطعام
مثله فعجله له وترك الذي اشترى ولم يقبض حتى
افترقا
ج / 12 ص -169-
فلا بأس به عندنا وقال الشافعي يبطل البيع
والتقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام من
جنسه أو من خلاف جنسه ليس بشرط عندنا وقال
الشافعي هو شرط عندي واستدلوا بقوله صلى الله
عليه وسلم في الأشياء الأربعة يدا بيد والمراد
به القبض ألا ترى أن هذا اللفظ في الذهب
والفضة أفاد شرط القبض ثم قال في آخر الحديث:
"وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" وهذا ينصرف إلى جميع ما سبق ثم فهم منه في بيع الذهب والفضة شرط
القبض في المجلس فكذلك في الأشياء الأربعة
ولأن العقد جمع بين بدلين لو قوبل كل واحد
منهما بجنسه عينا يحرم التفاضل بينهما فيشترط
القبض فيه في المجلس كبيع الذهب والفضة وهذا
لأن بالاتفاق يحرم النساء هنا مع اختلاف الجنس
وليس ذلك للتفاوت في المالية لأن حقيقة
التفاضل عند اختلاف الجنس يجوز فعرفنا أن حرمة
النساء لوجوب القبض في المجلس ولنا في المسألة
طريقان:
أحدهما: أن القبض حكم للعقد
فلا يشترط اقترانه بالعقد كالملك فإنه يجوز أن
يتأخر عن حالة العقد بخيار شرط أو نحوه وهذا
لأن حكم الشيء يعقبه ولا يقترن به وإنما يقترن
بالشيء شرطه والقبض في كل بيع إنما يستحق
بالعقد فيكون حكم العقد لا شرطه وساعات المجلس
إنما تجعل كحالة العقد فيما هو شرط العقد فأما
في الحكم مجلس العقد وما بعده سواء وهذا بخلاف
الصرف فالقبض الذي هو حكم العقد لا يشترط هناك
عندنا وإنما يشترط التعيين لأن التعين شرط
العقد بدليل نهى النبي صلى الله عليه وسلم:
"عن الكالئ بالكالئ" والنقود لا تتعين في العقود فكان اشتراط القبض للتعيين وليس أحد
البدلين في الصرف بأولى من الآخر بهذا شرطنا
القبض فيهما للتعين وفي باب السلم شرطنا القبض
في رأس المال للتعيين حتى لا يكون دينا بدين
ولكن ما يقابله وهو السلم فيه مؤجل فلا يشترط
التعيين فيه بمقتضى العقد ثم قد يرد عقد الصرف
والسلم على ما يتعين بالتعيين إلا أنه يشق على
كل تاجر معرفة ما يتعين ومعرفة ما لا يتعين
فأقام الشرع اسم الصرف والسلم مقام عدم
التعيين في البدلين تيسيرا على الناس.
والطريقة الثانية: ما علل في
الكتاب وقال لأنه حاضر ليس له أجل ومعنى هذا
أن الحرمة باعتبار فضل في المالية حقيقة أو
حكما باشتراط الأجل وذلك لا يوجد هنا فالتجار
لا يفصلون في المالية بين المقبوض في المجلس
وبين غير المقبوض بعد أن يكون حالا وإذا لم
يتمكن فضل خالي عن المقابلة كان العقد جائزا
كما في بيع العبيد والدواب بجنسه أو بغير جنسه
وأما الصرف والسلم فقد اختصا باسم شرعا
واختصاصهما باسم لاختصاصهما بحكم يقتضيه ذلك
الاسم وهو صرف ما في يد كل واحد منهما إلى يد
صاحبه بالقبض في المجلس ولهذا شرطنا ذلك مع
اختلاف الجنس والسلم أخذ عاجل بآجل فشرطنا
التعجيل في أحد البدلين بمقتضي الاسم وقد يؤخذ
حكم العقد من اسمه كالكفالة والحوالة والنكاح
فأما هذا البيع كسائر البيوع في الاسم وكل
واحد من العوضين فيه يتعين بالتعيين فيكون حكم
العقد فيه استحقاق التسليم لا وجوب القبض في
المجلس كما في سائر البيوع وقد بينا في أول
الكتاب
ج / 12 ص -170-
أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم يدا بيد
أي عين بعين لأن التعيين بالإشارة باليد كما
أن القبض يكون باليد فيصلح ذكر اليد كناية
عنهما ولكن لو كان مراده القبض لقال من يد إلى
يد فلما قال يدا بيد عرفنا أنه بمنزلة قوله
عين بعين وأما بيع العبد بالعبدين والثوب
بالثوبين فجائز بدون القبض في المجلس لأنهما
يفترقان عن عين بعين وكذلك بيع العبد والثوب
بالنقد لأنهما يفترقان عن عين بدين وذلك جائز
ولو شرط فيه أجل يوم في العين كان فاسدا لأن
العين لا تقبل الأجل فالمقصود بالأجل أن يحصل
في المدة فيسلمه وذلك في العين لا يتحقق ولأنه
منفعة في اشتراط الأجل في العين لا يدا بيد لا
يسقط فيه بالتعرف بعد أن كان مملوكا لغيره
بالعقد لأن الأجل لا يمنع الملك ولكن فيه ضرر
على المشترى من حيث قصور يده عن العين إلى مضى
الأجل وجواز الشرط في العقد الانتفاع به لا
لضرر بغيره.
قال: وإذا اشترى طعاما بطعام
مثله واشترط أحدهما على صاحبه أن يوفيه طعامه
في منزله لم يجز لأن شرط المساواة عند اتحاد
الجنس ثابت بالنص وبهذا الشرط متمكن في أحد
الجانبين فضل وهو منفعة الحمل إلى منزله
ليوفيه فيه فتنعدم به المساواة وإن كان اشتراه
بغير جنسه بأن اشتراه خارجا من المصر وشرط أن
يوفيه في منزله في المصر فالعقد فاسد أيضا لأن
وجوب التسليم بالعقد في الموضع الذي فيه
المعقود عليه فالمشترى يملك بنفس العقد وهو
عين فإذا اشترط لنفسه منفعة الحمل على البائع
فسد به العقد كما لو شرط أن يطحنه وإن كان
اشتراه في المصر وشرط أن يحمله إلى منزله
فالعقد فاسد فإن شرط أن يوفيه في منزله ففي
القياس العقد فاسد وهو قول محمد وفي الاستحسان
هو جائز وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله تعالى.
وجه القياس ما بينا أن بنفس العقد صار المبيع
مملوكا للمشتري في الموضع الذي فيه المعقود
عليه ففي اشتراط تسليمه في مكان آخر شرطه
منفعة لا يقبضه العقد فإن كان بمقابلتها شيء
من البدل فهي إجارة مشروطة في البيع وإلا فهي
إعارة مشروطة في البيع وذلك مفسد للبيع كما لو
اشتراها خارج المصر أو كان الشرط بلفظ الحمل
وإنما استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف للعرف فإن
الإنسان يشتري الحطب في المصر ولا يكتري دابة
أخرى لتحمله إلى منزله ولكن البائع هو الذي
يتكلف لذلك وما كان متعارفا وليس في عينه نص
يبطله فالقول بجوازه واجب لما في النزع عن
العادة من حرج بين ومثل هذه العادة لا توجد
خارج المصر بل إذا اشترى الحنطة أو الحطب خارج
المصر فالمشتري هو الذي يتكلف الحمل ذلك يوضحه
أن نواحي المصر كناحية واحدة حتى أن قيمة ما
له حمل ومؤنة لا يختلف في نواحي المصر بخلاف
المصر مع القرية فقيمتها في المصر أكثر من
قيمتها خارج المصر وما كان ذلك إلا لأن
المشترى هو الذي يتكلف بالنقل ثم هذا
الاستحسان عند بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى
في لفظ الحمل والإيفاء سواء وقالوا لا فرق
خصوصا في لسان الفارسية بين أن يقول يسارنجاته
من أو بيادنخانه من أو يردادبخانه من والأصح
هو الفرق من قبل أن الايفاء من مقتضيات العقد
ج / 12 ص -171-
فالعقد يوجب إيفاء المعقود عليه لا محالة فكان
شرط الإيفاء ملائما لمقتضي العقد فأما الحمل
ليس من مقتضيات العقد ألا ترى أن العقد قد
يخلو عنه بأن يسلمه إلى المشتري في ذلك المكان
وشرط الحمل لا يلائم مقتضى العقد فلهذا أخذنا
فيه بالقياس.
قال: وإن اشترى شعيرا بصوف
متفاضلا فلا بأس به لأنهما جنسان لاختلاف
الاسم والهيئة والمقصود وأصلهما وإن كان نوعا
واحدا ولكن باختلاف هذه المعاني يختلف الجنس
مع اتحاد الأصل كالثياب المتخذة من القطن
وكذلك القطن بالكتان والمشاقة بالكتان لا بأس
به متفاضلا لأنهما جنسان مختلفان إلا في رواية
عن أبي يوسف قال المشاقة والكتان جنس واحد فلا
يجوز بيع أحدهما بالآخر إلا وزنا بوزن بمنزلة
أنواع التمر والحديد والنحاس كذلك جنسان لا
بأس ببيع أحدهما بالآخر متفاضلا ولا خير في أن
يسلم هذا في شيء من الموزونات لأن الكل موزون
بثمن وكذلك الأواني المتخذة من الصفر والنحاس
إذا كان يباع وزنا لا يجوز إسلامهما في
الموزونات أما أواني الذهب والفضة فيجوز
إسلامهما في الموزونات من الزعفران والسكر
وغيرهما كما يجوز إسلام الدراهم في هذه
الأشياء لأن صفة الثمينة لها ثابتة بأصل
الخلقة فلا تتغير بالصفة وعند زفر لا يجوز
لأنه موزون مثمن حتى يتعين بالعقد في التعيين
فهذا كالمتخذ من الصفر والحديد وإذا كان شرط
السلم طعاما وسطا فأعطاه أجود أو أردأ فرضى به
جاز لأنه إن أعطاه أجود فقد أحسن في قضاء
الدين وإن أعطاه أردأ فقد أحسن الآخر إلى
أسيره حين رضي منه به وأبرأه من صفة الجودة
حين تجوز بدون حقه فجاز ذلك وذكر الطحاوي أنه
لو أسلم إليه دراهم في حنطة فقبضها رب السلم
فوجد بها عيبا وقد تعيب عنده فإن رضي المسلم
إليه أن يقبلها مع العيب الحادث رد المقبوض
وطالبه رب السلم بحقه وإن أبى أن يرضى لم يرجع
رب السلم عليه بشيء في قول أبي حنيفة لأن
الفائت وصف ولا قيمة للصفة في الأموال الربوية
منفردة عن الأصل وعند محمد رجع بحصة نقصان
العيب من رأس المال لأن بقدر ما يرجع يخرج من
أن يكون رأس المال بمنزلة ما لو حط بعضه فلا
يؤدي إلى الربا إذا رجع بحصة العيب بهذا
الطريق وقال أبو يوسف إن أبي المسلم إليه أن
يقبل المعيب غرم رب السلم طعاما قبل المقبوض
ورجع بحقه وهو مستقيم على أصله في رد المثل
عند تعذر رد العين لصاحب الدين إذا وجد
المقبوض زيوفا وقد هلك في يده وفي اختلاف زفر
ويعقوب رحمهما الله.
قال: لو قال لآخر اشتريت منك
كر حنطة وسط إلى أجل كذا بهذه العشرة دراهم
على أن تؤديها إلي في مكان كذا فهو سلم جائز
عندنا وقال زفر لا يجوز لأنه بيع ما ليس عند
الإنسان وهو منهي عنه شرعا وإنما الرخصة في
السلم خاصة فإذا ذكر لفظ السلم جاز بطريق
الرخصة وإلا فهو فاسد ولا كنا نقول قد أتينا
بمعنى السلم وذكر شرائطه والعبرة للمعنى دون
الألفاظ ألا ترى أنه لو قال ملكتك هذه العين
بعشرة دراهم وقبل الآخر كان بيعا وإن لم يذكرا
لفظ البيع وهذا على أصل زفر أظهر فإنه يجعل
الهبة بشرط العوض بيعا ابتداءً. ثم ختم الباب
ج / 12 ص -172-
بفصل من فصول التحالف وهو ما إذا اشترى عبدين
وقبضهما وهلك أحدهما عنده ثم اختلفا في الثمن
فعلى قول أبي حنيفة القول قول المشتري ولا
يتحالفان لا في القائم ولا في الهالك إلا أن
يشاء البائع أن يأخذ الحي ولا يأخذ من ثمن
الميت شيئا وعند أبي يوسف القول قول المشتري
في حصة الهالك ويتحالفان ويترادان في الحي
وعند محمد يتحالفان ويترادان القائم وقيمة
الهالك وهذا بناء على ما إذا اختلفا في الثمن
بعد هلاك السلعة فإن عند أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله هلاك السلعة يمنع جريان التحالف
بينهما وعند محمد لا يمنع وبيان هذا الفصل
يأتي في بابه إن شاء الله فلما كان من أصل
محمد أن هلاك جميع السلعة لا يمنع جريان
التحالف فكذلك هلاك البعض ثم بعد التحالف فسخ
العقد في القائم منهما على العين ممكن فرد
العين وفي الهالك رد العين متعذر فيقوم رد
القيمة مقام رد العين كما لو كان الكل هالكا
عنده والقول في قيمة الهالك قول المشتري مع
يمينه لإنكاره الزيادة بمنزلة الغاصب مع
المغصوب منه إذا اختلفا في قيمة المغصوب وعند
أبي يوسف لو كانا قائمين فسخ العقد فيما
بينهما بالتحالف ولو كانا هالكين لم يجز
التحالف بينهما فإذا مات أحدهما يعتبر كل واحد
منهما في نفسه كما في الفسخ بسبب الرد بالعيب
ثم تفسير قوله أن المشتري يحلف بالله ما
اشتراهما بألفين ثم يحلف البائع بالله ما
باعهما بألف كما يدعيه المشتري ولا يفضل
أحدهما عن الآخر في اليمين لأنه إذا فضل
أحدهما عن الآخر في التحالف يفوت مقصود اليمين
فكل واحد منهما يكون بارا في يمينه وإن كان
الحال كما يدعيه خصمه فلهذا يجمع بينهما في
التحالف فإذا تحالفا ترد العين منهما ثم يحلف
المشترى في حصة الهالك بالله ما عليه من ثمنه
إلا خمسمائة إذا كانت قيمتها سواء وإن اختلفا
في قيمة الهالك فينبغي أن يكون القول في قيمته
قول البائع مع يمينه وإن اختلفا في قيمة الحي
لتوزيع الثمن عليهما تحكم قيمته في الحال فإن
كانت مثل ما يقوله البائع أو أقل فالقول قول
البائع مع يمينه وإن كانت مثل ما يقوله
المشتري أو أكثر منه فالقول قول المشتري مع
يمينه وإن كانت فيما بين ذلك يحلف كل واحد
منهما على دعوى صاحبه فإذا حلفا اعتبرت قيمته
في الحال لتوزيع الثمن عليهما وأما بيان قول
أبي حنيفة فإنه يقول الصفقة صفقة واحدة
والمقصود بالتحالف هو الفسخ فإذا تعذر ذلك
بهلاك بعض المعقود عليه يجعل بمنزلة ما لو
تعذر بهلاك الكل ألا ترى أنهما لو كانا قائمين
لم يستقم ثبوت حكم التحالف والفسخ في أحدهما
دون الآخر فكذلك بعد هلاك أحدهما بخلاف الرد
بالعيب لأن العيب مما لا يمنع تمام الصفقة
فإذا هلك أحدهما في يده ووجد بالآخر عيبا فرده
يكون هذا تفريقا للصفقة قبل التمام وذلك لم
يجز بخلاف ما نحن فيه فإن جهالة الثمن تمنع
تمام الصفقة فلو قلنا فإنه يجوز رده يكون
القول في الثمن قول المشترى إلا أن شاء البائع
أن يأخذ الحي ولا يأخذ من ثمن الهالك شيئا
فحينئذ يصير الهالك كأن لم يتناوله العقد
وكأنه ما اشترى إلا القائم ثم عند ذلك يحلف
المشتري بالله ما اشتراهما بألفين ثم يحلف
البائع بالله ما باعهما بألف لأن من اشترى
شيئين بألفين ثم حلف ما اشترى أحدهما بألف كان
صادقاً
ج / 12 ص -173-
وكذلك من باع شيئين بألف ثم حلف ما باع أحدهما
بخمسمائة كان صادقا فلهذا يجمع بينهما في
التحالف فإذا تحالفا رد العين ولا شيء للبائع
على المشتري في الهالك من ثمن ولا قيمة" لأنه
قد أبرأه من ذلك حين رضي بأن يأخذ الحي فقط
والله أعلم.
باب الوكالة في السلم
قال: وإذا وكل الرجل الرجل أن
يسلم له عشرة دراهم في كر حنطة فأسلمها الوكيل
بشروط السلم ودفع الدراهم من عنده فهو جائز
لأن السلم عقد تمليك الآمر بمباشرته بنفسه
فيجوز منه توكيل غيره به كبيع العين لأن
الوكيل يقوم مقام الموكل في تحصيل مقصوده وهذا
عقد يملك المأمور مباشرته لنفسه فيصح منه
مباشرته لغيره بأمره كالبيع لأن العاقد باشر
العقد بأهليته وولايته الأصلية سواء باشر
لنفسه أو لغيره والأصل فيه قوله تعالى:
{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ
إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف:19] ومن دفع إلى آخر دراهم ليشتري بها شيئا فإن المدفوع
إليه يكون وكيلا من جهة الدافع وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى حكيم بن حزام
أو إلى عروة البارقي رضي الله عنهما دينارا
ليشتري له به أضحية فدل أن التوكيل جائز في
البيع فكذلك في السلم لأن السلم نوع بيع على
ما عرف وكذلك الناس تعاملوا من لدن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا التوكيل في
البيع والسلم جميعا فإذا عرفنا هذا فنقول
الوكيل في السلم كالعاقد لنفسه في حقوق العقد
حتى تتوجه عليه المطالبة بتسليم رأس المال دون
الموكل وكذلك حق قبض المسلم فيه عند حلول
الأجل يكون للوكيل دون الموكل وهذا عندنا وعند
الشافعي رحمه الله ذلك للموكل كله وعليه وأصل
المسألة في البيع فإن حقوق العقد في البيع
والشراء تتعلق بالوكيل عندنا وعند الشافعي
رحمه الله بالموكل.
قال: لأن الوكيل سفير ومعبر
عنه بمنزلة الرسول فإذا عقد العقد خرج من
الوسط وصار في الحكم كأن الموكل عقده بنفسه
ألا ترى أن ما هو حكم العقد وهو الملك يثبت
للموكل دون الوكيل فكذلك في سائر أحكامه وشبه
هذا بالوكيل بالنكاح فإنه لا يتوجه عليه
المطالبة بالصداق ولا يكون له حق قبض المعقود
عليه بل ذلك كله للموكل والجامع بينهما أن كل
واحد منهما عقد معاوضة فتتعلق أحكامه بمن قصد
تحصيله لنفسه دون من عبر عنه ولنا أن العاقد
هو الوكيل وسبب تعلق حقوق العقد بالمرء
مباشرته العقد وثبوت الحكم باعتبار السبب فإذا
كان هو العاقد حقيقة وحكما تتعلق حقوق العقد
به كما لو باشر العقد لنفسه وهذا لأن ولايته
مباشرة العقد باعتبار أهليته وباعتبار كون ما
هو ركن العقد وهو الكلام من خالص حقه وذلك لا
يختلف بمباشرته لنفسه أو لغيره ونفوذه شرعا
باعتبار ولايته الأصلية لا أن يثبت له بأمر
الموكل إياه ولاية لم تكن ثابتة من قبل هذا
لبيان أنه عاقد حقيقة وشرعا ومن حيث الحكم
فلأنه مستغن عن إضافة العقد إلى الموكل ولو
كان معبرا عنه لم يستغن عن ذكره عند العقد
فثبت أنه عاقد حكما مباشر للعقد بخلاف الرسول
فإنه عبارة عن مبلغ الأمر إلى من أرسل إليه
ولا يستغنى عن الإضافة إليه وكذلك الوكيل
بالنكاح فإنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى
ج / 12 ص -174-
الموكل حتى لو قال تزوجتك كان النكاح له دون
الموكل فأما حكم العقد وهو الملك ففيه طريقان:
أحدهما: أنه يثبت للوكيل ثم
ينتقل منه إلى الموكل من ساعته كما اتفقا عليه
بالتوكيل السابق ومباشرته السبب تستدعي ثبوت
الحكم إلا أنه يستقر له فيثبت أولا له ثم
ينتقل منه إلى غيره ولهذا لو كان قريبه لا
يعتق عليه ولو كانت زوجته لا يفسد النكاح لأن
ذلك يستدعى ملكا مستقرا ولا يثبت ذلك للوكيل
وعلى الطريق الآخر وهو الأصح لسبب انعقد حكمه
موجبا للوكيل إلا أن الموكل قام مقامه في ثبوت
الملك له بالتوكيل السابق فيثبت للموكل على
وجه الخلافة عن الوكيل كالعبد يقبل الهبة
والصدقة ويصطاد فيقع الملك فيه لمولاه على وجه
الخلافة وإذا ثبت أن الوكيل كالعاقد لنفسه كان
هو المطالب بتسليم رأس المال فإذا نقده من
عنده رجع بمثله على الأمر لأنه نقد مال نفسه
في عقد حصل مقصود ذلك العقد للآمر فأمره إياه
بالعقد يكون أمرا بأداء رأس المال من عنده على
أن يرجع عليه بمثله وكذلك الوكيل هو الذي يقبض
الطعام إذا حل الأجل بمنزلة العاقد لنفسه
والغنم بمقابلة الغرم فإذا كان هو المطالب
بتسليم رأس المال كان حق قبض الطعام إليه
أيضاً فإذا قبضه كان له حبسه حتى يستوفي
الدراهم من الموكل عندنا خلافا لزفر كذلك
الوكيل بالشراء إذا نقد الثمن من مال نفسه
وقبض السلعة كان له أن يحبسه أما إذا هلك في
يده قبل أن يحبسه فإنما يهلك من مال الموكل
وللوكيل أن يرجع عليه بما أدى من الدراهم لأنه
في أصل القبض عامل له حتى يتعين به ملك الموكل
في السلم ويتم ملكه به في المشترى فيكون هلاكه
في يد الوكيل كهلاكه في يد الموكل فإن لم يهلك
وأراد الوكيل حبسه بالثمن فله ذلك عندنا وقال
زفر ليس له ذلك لأن الموكل صار قابضا بقبض
الوكيل بدليل أن هلاكه في يد الوكيل كهلاكه في
يد الموكل فكأنه قبض حقيقة ثم دفعه إلى الوكيل
وهذا لمعنيين:
أحدهما: أن المقبوض أمانة في
يد الوكيل والثمن دين له على صاحبه وليس
للأمين أن يحبس الأمانة بدينه على صاحبها.
والثاني: أن الوكيل لما قبضه
مع علمه أن الموكل يصير به قابضا فقد رضي بقبض
الموكل فكان بمنزلة ما لو سلمه إليه ثم أراد
أن يسترده منه أو بمنزلة بائع سلم السلعة إلى
المشترى ثم أراد أن يستردها للحبس بالثمن ولنا
أن الموكل ملك المشترى بعقد باشره الوكيل ببدل
استوجبه الوكيل عليه حالا وإلا فكان له أن
يحبس العين به كالبائع مع المشترى وهذا لأن
الوكيل مع الموكل بمنزلة البائع مع المشترى
إما لأن الموكل يتلقي الملك فيه من الوكيل
بعوض ولهذا لو اختلف الوكيل والموكل في الثمن
تحالفا ولو وجد به الموكل عيبا رده على الوكيل
قوله بأن الموكل صار قابضا بقبض الوكيل ففيه
طريقان:
أحدهما: أن قبض الوكيل متردد
لجواز أن يكون لضم مقصود الوكيل ويجوز أن يكون
لأحياء حق نفسه وإنما يتبين أحدهما عن الآخر
بحبسه فكان الأمر فيه موهوما في الابتداء إن
لم
ج / 12 ص -175-
يحبسه عنه عرفنا أنه كان عاملا للموكل وإن
حبسه عنه عرفنا أنه كان عاملا لنفسه وإن
الموكل لم يصر قابضا بقبضه.
والثاني: أن هذا قبض لا يمكن
التحرز عنه لأن الوكيل لا يتوصل إلى الحبس ما
لم يقبض ولا يمكنه أن يقبض على وجه لا يصير
الموكل به قابضا وما لا يمكن التحرز عنه فهو
عفو فلا يسقط به حقه في الحبس لأن سقوط حقه
باعتبار رضاه بتسليمه ولا يتحقق منه الرضا
فيما لا طريق له إلا التحرز عنه فإذا حبسه
الوكيل وهلك في يده فعلى قول زفر هو غاصب
فعليه ضمان مثله وفي قول أبي يوسف يهلك في يده
هلاك الرهن مضمونا بالأقل من قيمته ومن الثمن
وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يهلك
هلاك المبيع مضمونا بالثمن قل أو كثر وهذا
الخلاف ذكره في كتاب الوكالة فأبو يوسف يقول
إنما كان مضمونا عليه بالحبس بحقه بعد أن لا
يكون مضمونا فيكون في معنى المرهون بخلاف
المبيع فإنه مضمون بنفس العقد حبسه أو لم
يحبسه يوضحه أنه يحبسه ليستوفي ما أدى عنه من
الدين والحبس للاستيفاء حكم الرهن ولأن بهلاكه
لا ينفسخ أصل البيع بخلاف المبيع إذا هلك في
يد البائع وسقوط الثمن هناك لانفساخ البيع
وهما يقولان الوكيل مع الموكل كالبائع مع
المشتري بدليل ما بينا فكما أن المبيع إذا هلك
في يد البائع سقط الثمن قل أو كثر فكذلك هنا
ولا نقول العقد لا ينفسخ هنا بل انفسخ فيما
بين الموكل والوكيل وإن لم ينفسخ في حق البائع
وهو كما لو وجد الموكل بالمشترى عيبا فرده
ورضي به الوكيل فإنه يلزم الوكيل وينفسخ العقد
فيما بينه وبين الموكل والدليل على أن هذا ليس
نظير الرهن أن هذا الحبس ثبت في النصف الشائع
فيما يحتمل القسمة والحبس بحكم الرهن لا يثبت
في الجزء الشائع فيما يحتمل القسمة وإنما يثبت
ذلك بحكم البيع فعرفنا أنه كالمبيع.
قال: وإن كان الوكيل دفع رأس
المال من مال الموكل وأخذ بالسلم كفيلا أو
رهنا فهو جائز لأن موجب الرهن بثبوت يد
الاستيفاء والوكيل يملك الاستيفاء حقيقة فيملك
أخذ الرهن به والكفالة للتوثيق والوكيل هو
المطالب بالمسلم فيه فكان له أن يتوثق بأخذ
الكفيل به لأنه ملك المطالبة فملك التوثق
بالمطالبة.
قال: فإن حل السلم فأخره
الوكيل مدة معلومة فهو جائز في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله ويضمن طعام السلم للموكل
وعلى قول أبي يوسف لا يصح تأخيره وكذلك إن
أبرأ المسلم إليه عن طعام السلم وأصل هذا أن
طعام السلم أصل يقبل الإبراء قبل القبض وأصل
هذا فيما إذا عقد لنفسه ثم أبرأه عن طعام
السلم صح ابراؤه في ظاهر الرواية وروى الحسن
عن أبي حنيفة أنه لا يصح ما لم يقبل المسلم
إليه فإذا قبل كان فسخا لعقد السلم لأن المسلم
فيه مبيع وتمليك المبيع من البائع قبل القبض
لا يجوز ما لم يقبل فإذا قبل انفسخ العقد
كالمشتري إذا وهب المبيع من البائع قبل القبض
ووجه ظاهر الرواية أن المسلم فيه دين لا
ج / 12 ص -176-
يستحق قبضه في المجلس فيصح الإبراء عنه كالثمن
في البيع بخلاف بدل الصرف أو رأس مال السلم
فإن قبضه في المجلس مستحق وهذا لأن استحقاق
القبض في المجلس للتعيين الذي هو شرط العقد
والإبراء مفوت لذلك وأما الدين الذي لا يستحق
قبضه في المجلس فتعيينه ليس شرطا لجواز إسقاط
القبض فيه بالإبراء يوضحه أن المسلم فيه من
حيث أنه دين يجب بالعقد كان بمنزلة الثمن ومن
حيث إن العقد يضاف إليه ويورد عليه كان بمنزلة
المبيع فتوفر حظه عليهما فنقول لشبهة بالبيع
لا يجوز الاستبدال به قبل القبض ولشبهه بالثمن
يجوز إسقاط القبض فيه بالإبراء إذا ثبت هذا
فيما إذا كان عقد السلم فنقول لنفسه فكذلك
الجواب إذا كان وكيلا يصح ابراؤه ويضمن مثله
للموكل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
ولا يصح ابراؤه في قول أبي يوسف وكذلك الخلاف
في المتاركة إذا تارك الوكيل السلم مع المسلم
إليه وكذلك الخلاف في الوكيل بالبيع إذا أبرأ
المشتري عن الثمن أو وهب له أو أجله فيه صح
ذلك وضمنه للموكل في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله وقال أبو يوسف لا يصح شيء من ذلك
أستحسن ذلك وأدع القياس فيه قال محمد بن مقاتل
وهذا عجب من أبي يوسف يقول أستحسن والقياس ما
قاله لأن الثمن والمسلم فيه ملك الموكل فإنه
بدل ملكه وإنما يملك البدل بملك الأصل ألا ترى
أن بقبضه يتعين ملك الموكل وإنما يتعين بالقبض
ملك من كان مالكا قبله فالوكيل تصرف في ملك
الغير بخلاف ما أمره به فلا ينفذ تصرفه كما لو
قبضه فوهبه منه ودليل أن تصرفه بخلاف ما أمره
به فلا ينفذ تصرفه كما لو قبضه فوهبه منه
ودليل أن تصرفه ما أمره به أن الوكيل ضامن
عندكم ولا يضمن إلا بالخلاف والدليل على أنه
ملك الموكل أن الموكل لو كان هو الذي أبرأه
عنه صح ولو قبضه جاز قبضه وكذلك لو اشترى به
شيئا أو صالح منه على عين بالثمن صح ولو كان
للمشترى على الموكل دين فاشترى من الوكيل شيئا
حتى وجب للموكل على المشتري دين أيضا يصير
قصاصا بدينه فبه يتبين أن الثمن الذي يجب بعقد
الوكيل ملك الموكل وأن الزكاة في هذا المال
تجب على الموكل فعرفنا أن الملك له وجه قول
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن الوكيل تصرف
في خالص حقه فينفذ تصرفه كما لو كان عاقدا
لنفسه وبيان الوصف في التأجيل ظاهر لأنه يؤخر
المطالبة ولا يسقط أصل الثمن والمطالبة حق
الوكيل حتى ينفرد به على وجه لا يملك أحد عزله
عنه وليس لأحد أن يطالب إلا بأمره وكذلك
الإبراء فإنه إسقاط حق القبض والقبض خالص حقه
لأنه حكم العقد وهو في حكم العقد بمنزلة
العاقد لنفسه بدليل أنه لا يعزله أحد عنه وأن
المشترى لا يجبر على التسليم إلا إليه وإنما
يخلفه الموكل في ملك المال بمقابلة ملكه
والمال هو المقبوض دون الدين والدين ليس بمال
حتى أن من حلف أن لا مال له وله ديون على
الناس لا يحنث فعرفنا أن القبض خالص حقه فيصح
إسقاطه بالإبراء ثم يتعدى هذا التصرف إلى
إبطال حق الموكل في المال باعتبار المال لأنه
لو قبض كان المقبوض ملكه وقد فات ذلك بإسقاطه
فيكون ضامنا له كالراهن إذا أعتق المرهون ينفذ
تصرفه لمصادفة حقه ويضمن قيمة المالية للمرتهن
لأنه تلفه بتصرفه ملك المالية وكذلك أحد
الشريكين إذا أعتق وهو موسر أو هو مسقط للقبض
على
ج / 12 ص -177-
وجه يتضمن تمليك الدين ممن عليه فمن حيث إنه
إسقاط صح منه وبرئ المشترى ومن حيث إنه تمليك
الثمن الذي هو حق الموكل من المشترى صار ضامنا
له كالوكيل بالشراء إذا رضي بالعيب وإلى
الموكل أن يرضي به فإن رضي الوكيل يعتبر
بانقطاع منازعته مع البائع غير معتبر في إلزام
الموكل فيختص هو بضررة وهذا لأن الإسقاط أصل
في الإبراء ومعنى التمليك بيع ولهذا صح بدون
القبول وإن كان يرتد بالرد وأما قبض الثمن
فالمقبوض عين ملك الموكل فهبته بعد ذلك تصرف
في حق الغير وأما فصل المقاصة فهو على ثلاثة
أوجه إن كان دين المشترى على الوكيل وهو مثل
الثمن يصير قصاصا بدينه عند أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى ويضمن للموكل مثله وإن كان
دين المشترى على الموكل يصير قصاصا بالاتفاق
لأن باعتبار المال الحق للموكل ولهذا لو أسلم
إليه المشترى جاز قبضه فيصير قصاصا بدينه عند
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويضمن الموكل
مثله وإن كان دين المشتري على الموكل يصير
قصاصا بالاتفاق لأن باعتبار المال الحق للموكل
فيصير قصاصا بدينه وإن كان الدين له على كل
واحد منهما صار قصاصا بدين الوكيل لأنه لو جعل
قصاصا بدين الوكيل كان ضامنا للموكل مثله ثم
يحتاج إلى قضاء دينه به وإذا جعل قصاصا بدين
الموكل لم يضمن أحد شيئا فرجحنا هذا الجانب
لهذا والأب والوصي يصح إبراؤهما وتأجيلهما
فيما وجب للصبي بعقدهما عند أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى وكانا ضامنين له فأما فيما
وجب لا بعقدهما لا يصح لأنهما ثابتان أمرا
بالتصرف في ماله على وجه الأحسن وذلك لا يحصل
بالإبراء.
قال: والتأجيل والمتاركة من
الوكيل بالثمن صحيح في حق المسلم إليه بخلاف
الوكيل بالشراء فإن إقالته لا تصح لأن هناك
عين المشترى مملوك للموكل فالإقالة تصرف منه
في محل هو حق الغير وهنا المسلم فيه دين
والثابت به حق القبض ما دام في الذمة وهو حق
الوكيل وإن احتال بالمسلم فيه على ملي أو غير
ملي جاز عليه خاصة ويضمن للأم طعامه لأنه تصرف
في خالص حقه بالتحويل من محل إلى محل فهو على
الخلاف الذي بينا في الإبراء ويستوفى في حكم
الضمان أن يكون المحتال عليه أعلا أو أسفل
بخلاف الأب والوصى فإنهما لو قبلا الحوالة على
من هو أعلى لم يضمنا شيئا لأنه تصرف منهما في
حق الصبي على وجه الأحسن وهما يملكان المبادلة
في حقه بصفة النظر فإذا بادلا ذمة بذمة على
وجه النظر لم يضمنا والوكيل لا يملك مثله في
حق الموكل فلهذا ضمنه.
قال: وإن اقتضى الطعام أدون
من شرطه فهو جائز لأنه أبرأه عن صفة الجودة
ولو أبرأه عن أصله جاز وضمن للموكل مثل طعامه
عندهما فكذلك إذا رضي بدون حقه وإذا عقد
الوكيل السلم ثم أمر الموكل بأداء رأس المال
وذهب الوكيل بطل السلم لأن وجوب قبض رأس المال
قبل الافتراق من حقوق العقد فيتعلق بالعاقد
وهو الوكيل والموكل فيه كأجنبي آخر فلا معتبر
ببقائه في المجلس بعد ذهاب العاقد ولا بذهابه
إذا بقي المتعاقدان في المجلس فإذا وكله أن
يسلم له عشرة دراهم في كر حنطة فأسلمها في
قفيز حنطة فهو جائز على الوكيل دون
ج / 12 ص -178-
الموكل لأنه وكيل بالشراء فالمسلم فيه مبيع
ورب السلم مشترى والوكيل بالشراء لا يملك
الشراء في حق الموكل بالغبن الفاحش لما فيه من
التهمة أنه باشر التصرف لنفسه ثم لما علم
بالغبن أراد أن يلزمه الموكل فإذا نفذ العقد
عليه ضمن للموكل كل دراهمه لأنه قضى بدراهمه
دين نفسه فإن أسلمها في حنطة يكون نقصانها عن
رأس المال مما يتغابن الناس في مثله جاز على
الموكل لأن هنا العذر لا يستطاع الامتناع عنه
إلا بحرج فكان عفوا في تصرفه لغيره شراء كان
أو بيعاً.
قال: وإذا وكله أن يسلم له
عشرة دراهم في طعام فالطعام الدقيق والحنطة
عندنا استحسانا وفي القياس هذا التوكيل باطل"
لأن اسم الطعام حقيقة لكل مطعوم بدليل ما لو
حلف أن لا يأكل طعاما وما لو أوصى للإنسان
بطعامه والمطعومات أجناس مختلفة وجهالة الجنس
تمنع صحة الوكالة ولكنه استحسن فقال السلم بيع
والطعام إذا أطلق عند ذكر البيع والشراء يراد
به الحنطة ودقيقها فإن سوق الطعام الموضع الذي
يباع فيه الحنطة ودقيقها وبائع الطعام من يبع
الحنطة ودقيقها دون من يبيع الفواكه وهذا لأن
الشراء لا يتم إلا بالبائع فكل ما يسمى بائعه
بائع الطعام يصير هو به مشتريا للطعام بخلاف
الأكل فإنه يتم بالآكل والوصية تتم بالموصى
فاعتبرنا فيهما حقيقة الاسم قالوا وهذا إذا
كانت الدراهم كثيرة فأما إذا كانت قليلة فإنما
ينصرف إلى الخبز فأما الدقيق ففيه روايتان وفي
رواية هو بمنزلة الحنطة لأنه يذكر كما تذكر
الحنطة وفي رواية هو بمنزلة الخبز وهذا القياس
والاستحسان ثابت في الوكيل بالشراء وإذا ثبت
أن اسم الطعام يتناول الحنطة ودقيقها فالتوكيل
صحيح لأنه إن كثرت الدراهم عرفنا أن مراده
الحنطة فإذا قلت عرفنا أن مراده الدقيق
والمعلوم دلالة كالمعلوم نصا فنقول إذا وكله
بأن يسلم له دراهم في طعام فأسلم في شعير أو
غيره فهو مخالف وللموكل أن يضمن الوكيل دراهمه
لأن عقده نفذ على نفسه ثم قضي بدراهم الآمر
دين نفسه وإن شاء الآمر أخذها من المسلم إليه
لأن المقبوض من الدراهم عين ملكه فهو أحق به
فإن أخذها من المسلم إليه يبطل السلم فيما
بينه وبين الوكيل وإن كان قد فارقه لأن رأس
المال استحق انتقض القبض فيه من الأصل وإن لم
يكن فارقه حتى أعطاه مثلها كان السلم صحيحا
بينهما لأن المقبوض لما استحق فكأنه لم يقبض
إلى آخر المجلس وعقد السلم ما تعلق بعين تلك
الدراهم بل تعلق بمثلها في ذمته وإن أخذها من
الوكيل يبقى عقد السلم بينهما صحيحا لأنه يملك
رأس المال بالضمان وإذا وكله بأن يأخذه دراهم
في طعام مسمى فأخذها الوكيل ثم دفعها إلى
الموكل فالطعام على الوكيل وللوكيل على الموكل
دراهم قرض لأن أصل التوكيل باطل فإن المسلم
إليه أمره ببيع الطعام في ذمته ولو أمره أن
يبيع عين ماله على أن يكون الثمن للآمر كان
باطلا فكذلك إذا أمره أن يبيع طعاما في ذمته
وهذا لأنه إنما يعتبر أمره فيما لا يملك
المأمور بدون أمره وهو في قبول السلم في
الطعام مستغنى عن أمر الغير وقبول السلم من
صنيع المفاليس فالتوكيل به باطل كالتكدى
فالحاصل أن التوكيل من المسلم إليه بقبول عقد
السلم باطل والتوكيل من رب السلم
ج / 12 ص -179-
بإعطاء الدراهم في طعام السلم جائز وإذا بطل
التوكيل كان الوكيل عاقدا لنفسه فيجب الطعام
في ذمته ورأس المال مملوك له فإذا سلمه إلى
الآمر على وجه التمليك منه كان قرضاً له عليه.
قال: وإذا دفع إليه عشرة
دراهم وأمره أن يسلمها في ثوب لم تصح الوكالة
حتى يتبين الجنس لأن الثياب أجناس مختلفة ومع
جهالة الجنس لا يقدر الوكيل على تحصيل مقصود
الموكل فيبطل التوكيل فإن الوكيل كان عاقدا
لنفسه وروي عن أبي يوسف أنه قال ينظر الوكيل
إلى لباس الموكل فإذا اشترى الوكيل من جنس
لباس الموكل يجوز ويلزم الموكل لأن الظاهر أن
الإنسان إنما يأمر غيره بشراء الثوب ليلبسه
فيعتبر بثيابه فإن سمى الموكل ثوبا يهوديا أو
غيره جاز لأن الجنس صار معلوما وإنما بقيت
الجهالة في الصفة ولا تأثير لجهالة الصفة في
القعود المبينة على التوسع والوكالة بهذه
الصفة فإن خالفه الوكيل فأسلم في غيره أو إلى
غير الأجل الذي سماه كان عاقدا لنفسه وللموكل
أن يضمنه دراهمه فإن ضمنه إياها جاز السلم وإن
ضمنها المسلم إليه بطل السلم لانتقاض قبضه في
رأس المال بعد الانتقاص من الأصل.
قال: وإذا دفع الوكيل الدراهم
سلمها على ما أمره به الآمر ولم يشهد على
المسلم إليه بالاستيفاء ثم جاء المسلم إليه
بدراهم زيوف يردها عليه فقال وجدتها فيها فهو
مصدق لأنه ينكر استيفاء حقه فالقول قوله مع
يمينه ويقضي له على الوكيل ببدله ويرجع به
الوكيل على الموكل لأنه في تصرفه عامل له
فيرجع عليه بما يلحقه بالعهدة وإن كان أشهد
عليه بالاستيفاء لم يصدق بعد ذلك على ادعائه
أنه زيف معناه إذا أقر المسلم إليه باستيفاء
الجياد أو باستيفاء حقه أو باستيفاء رأس المال
فهو مناقض بعد ذلك في دعواه أنه زيوف فلا يسمع
بعد ذلك منه ولا تقبل بينته عليه ولا يتوجه
اليمين على خصمه فأما إذا أقر باستيفاء
الدراهم فاسم الدراهم يتناول الزيوف والجياد
فلا يكون مناقضا في قوله وجدتها زيوفاً.
قال: وإذا وكله بأن يسلم له
عشرة دراهم من الدين الذي له عليه في حنطة
فأسلمها له فهو عاقد لنفسه حتى يقبض الطعام
فيرده إلى الآمر مكان دينه فحينئذ يسلم للآمر
إذا تراضيا عليه في قول أبي حنيفة وقال أبو
يوسف ومحمد رحمهما الله هو جائز على الآمر
وكذلك لو أمره أن يصرفها له بدنانير أو يشتري
له بها شيئا سماه وجه قولهما أن الدين في ذمة
المديون ملك صاحب الدين بدليل أن يطالبه
بالتسليم وينفرد باستيفاء جنسه من ماله ويشتري
منها شيئا فيجوز فإنما أضاف التوكيل إلى ملكه
وذلك صحيح كما لو كانت الدراهم وديعة له في
يده أو غصبا فوكله أن يشتري له بها والدليل
عليه أنه لو عين المسلم إليه بقوله أسلمها في
طعام إلى فلان أو عين البائع أو المبيع بقوله
اشترى لي بها عبد فلان فإنه يصح فكذلك إذا
أطلق لأن تسمية من يعامله الوكيل ليس بشرط
لصحة الوكالة يوضحه أنه لو قال تصدق بمالي
عليك على المساكين يجوز بمنزلة ما لو قال تصدق
به على فلان فكذلك إذا أمره بالشراء به ولأبي
حنيفة حرفان:
أحدهما: أنه أمره بصرف في
الدين إلى من يختاره المديون بنفسه وذلك باطل
كما لو
ج / 12 ص -180-
قال:
ادفع مالي عليك من الدين إلى من يثبت أو ألقه
في البحر كان صحيحا والمعنى في الفرق أن
المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه وهو في
تصرفه في ملك نفسه بالدفع إلى الغير لا يحتاج
إلى إذن الآمر فكان وجود أمره كعدمه فأما في
العين تصرفه في ملك الغير ولا يملك ذلك إلا
بإذن من له الحق وهذا بخلاف ما إذا عين المسلم
إليه أو البائع لأن من أمره بالصرف إليه هناك
معلوم فكان أمره معتبرا في توكيله ذلك الرجل
بالقبض له أولا ثم لنفسه وكذلك إذا عين المتاع
لأن بتعينه يتعين المالك فالإنسان في العادة
يشترى الشيء من مالكه وهنا لا يمكن اعتبار
أمره في توكيل القابض بقبضه لأنه توكيل
المجهول وذلك باطل وهذا بخلاف قوله تصدق بمالي
عليك لأن المتصدق يجعل المال لله تعالى ثم
يصرفه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله
تعالى فلا جهالة فيمن أمره أن يجعل ذلك له فهو
بمنزلة ما لو أمره بالدفع إلى آدمي عينه.
والثاني: أن بعقد السلم يجب
رأس المال على الوكيل ثم يجب له مثله على
الموكل فإما أن يكون هو مقرضا له في ذمته
ليقضي به دينا عليه وذلك لا يجوز أو أمره له
بأن يقبض من نفسه ثم يقضي به دينا عليه وذلك
لا يجوز يوضحه أن يقيم الوكيل مقام نفسه فيما
يأمره به من التصرف وهو بنفسه له أسلم الدين
الذي له على زيد إلى عمر وفي طعام لا يجوز
فكذلك إذا وكل المديون بأن يفعل له ذلك وبه
يظهر الفرق بين الدين والعين ولكن الاعتماد
على الحرف الأول.
قال: وإذا وكل الرجل الرجلين
أن يسلما له عشرة دراهم في طعام فأسلمها
أحدهما لم يجز" لأن عقد السلم يحتاج فيه إلى
الرأى والتدبير كبيع العين وهو إنما رضي برأي
المثنى ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى فإن
أسلماها ثم تارك أحدهما مع المسلم إليه السلم
لم يجز عندهم جميعا أما عند أبي يوسف لأن
الوكيل بالسلم لا يملك المشاركة ولو تاركا لم
يجز فكذلك إذا تارك أحدهما. وعند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله لأن الوكيلين لو عقدا
لأنفسهما ثم تارك أحدهما لم يجز بغير رضي
الآخر فإذا كان وكيلين أولى.
قال: وإذا عقد الوكيل السلم
ثم اقتضى الآمر الطعام فهو جائز استحساناً وفي
القياس لا يجوز لأن القبض من حكم العقد
والموكل منه كسائر الأجانب ألا ترى أن الإيفاء
لم يجب على المسلم إليه بطلبه فكذلك لا يبرأ
بالتسليم إليه وجه الاستحسان أن يقبض الوكيل
بتعين ملك الموكل فكان الموكل في هذا القبض
عاملا لنفسه في تعيين ملكه فهو يكفي الوكيل
مؤونة القبض والتسليم إليه ولا يلحق به ضرر في
تصرفه يوضحه أنا لو نقضنا قبضه احتجنا إلى
إعادته بعينه في الحال لأنه يرده على المسلم
إليه فيقبضه الوكيل منه ثم يسلمه إلى الموكل
وهذا اشتغال بما لا يفيد والقاضي لا يشتغل بما
لا يفيد ولا ينقص شيئا ليعيد وإن تارك السلم
إليه مع الموكل جاز لأنه قائم مقام العاقد في
ملك المعقود عليه فتصح منه المتاركة كما تصح
من وارث رب السلم بعد الموت وإن لم يتاركه
فأراد قبض الطعام منه فللمسلم إليه أن يمتنع
من
ج / 12 ص -181-
دفعه إليه لأن المطالبة بالتسليم تتوجه بالعقد
والموكل من العقد أجنبي فمطالبته لا تلزم
المسلم إليه الدفع إليه.
قال: وإذا دفع إلى رجل عشرة
دراهم ليسلمها في طعام فناول الوكيل رجلا
فبايعه فإن أضاف العقد إلى دراهم الأمر كان
العقد للآمر وإن أضافه إلى دراهم نفسه كان
عاقدا لنفسه" لأن الظاهر يدل على ذلك ولأن
فعله محمول على ما يحمل وفيما يعقد لنفسه لا
يحل له إضافة العقد إلى دراهم غيره وإن عقد
السلم بعشرة مطلقة ثم نواها للآمر فالعقد له
وإن لم تحضره نية فإن دفع دراهم نفسه فالعقد
له وإن دفع دراهم الآمر فهو للآمر في قول أبي
يوسف وقال محمد هو عاقد لنفسه ما لم ينو عند
العقد أنه للآمر وإن تكاذبا في النية فقال
الآمر نويته لي وقال المأمور نويته لنفسي
فالطعام للذي نقد دراهمه بالاتفاق فمحمد يقول
الأصل أن كل أحد يعمل لنفسه إلا أن يقترن
بعمله دليل يدل على أنه يعمل لغيره وذلك
بإضافة العقد إلى دراهم الغير أو النية للغير
فإذا انعدم ذلك كان عاملا لنفسه ولا يمكن أن
يجعل نقد الدراهم دليلا على ذلك لأن نقد
الدراهم لا يقترن بالعقد بل يكون بعده وبعد ما
أوقع العقد له لا يتحول إلى غيره وإن نقد
دراهم الغير وبه فارق التكاذب لأن النقد موجود
عند التكاذب فيمكن أن يجعل دليلا من حيث شهادة
الظاهر لأحدهما لأن الظاهر أنه فيما عقد لنفسه
لا ينقد دراهم الغير فإذا كان المنقود دراهم
الآمر فالظاهر يشهد له فكان القول قوله. يوضحه
أن بقبول الوكالة من الغير لا يحيل ولايته على
نفسه وقبل قبول الوكالة كان مطلق عقده لنفسه
فكذلك بعد قبول الوكالة لأن تلك الولاية باقية
بعد قبول الوكالة كما كانت قبله ولأن موجب
العقد وقوع الملك له في الطعام للعاقد إلا أنه
إذا نوى للموكل فالموكل يخلفه في ذلك الملك
والمصير إلى الخلف عند فوات ما هو الأصل وعند
إطلاق العقد ما هو الأصل ممكن الاعتبار فلا
يضاف إلى الخلف وأبو يوسف يقول العقد والنقد
كشيء واحد حكما لأن النقد وإن كان بعد العقد
صورة فهو كالمقترن بالعقد إذ لو لم يجعل كذلك
كان دينا بدين وذلك لا يجوز والدليل عليه أن
بعد ما نقد الدراهم لو أراد أن يستردها ليعطى
غيرها لم يملك كما لو اقترن التعيين بالعقد
بأن أضاف العقد إلى دراهم الآمر ثم أراد أن
يدفع غيرها ويجعل العقد لنفسه لم يملك ذلك
فإذا صار كشيء واحد فهو دليل ظاهر على من وقع
العقد له فيجب تحكمه كما في حالة التكاذب
يوضحه أنه بعد قبول الوكالة يعقد للموكل
بولايته الأصلية كما يعقد لنفسه ولهذا تعلق به
حقوق العقد في الوجهين فإذا استوى الجانبان
يصار إلى ترجيح أحدهما بالنقد كما يصار إليه
عند التكاذب وفرق أبو يوسف بين هذا وبين
المأمور بالحج عن الغير إذا أطلق النية عند
الإحرام فإنه يكون عاقدا لنفسه فإن الحج عبادة
والعبادات لا تتأدى إلا بالنية فكان مأمورا
بأن ينوي عن المحجوج عنه ولم يفعل فصار مخالفا
بترك ما هو الركن وأما في المعاملات فالنية
ليست بركن فلا يصير بترك النية عن الآمر
مخالفا فيبقي حكم عقده موقوفا على النقد قال:
وإن وكله بثوب يبيعه بدراهم فأسلمه في طعام
إلى أجل فهو عاقد لنفسه" لأنه خالف ما أمره به
نصا وإن
ج / 12 ص -182-
أمره ببيعه ولم يسم له الثمن فأسلمه في طعام
جاز على الآمر في قول أبي حنيفة ولم يجز في
قولهما وهذه فصول:
أحدها: أن الوكيل في البيع
مطلقا يبيع بالنقد والنسيئة عندنا وقال
الشافعي لا يبيع إلا بالنقد لأن مطلق التوكيل
بالبيع معتبر بمطلق إيجاب البيع ومطلق إيجاب
البيع ينصرف إلى الثمن الحال دون النسيئة
فكذلك مطلق التوكيل وهذا لأن الأجل شرط زائد
على ما يتم به العقد فلا يثبت الإذن فيه إلا
بالتنصيص ولكنا نقول أمره ببيع مطلق فلا يحوز
إثبات التقييد فيه من غير دليل والتقييد
بالثمن الحال بعدم صفة الإطلاق ولا دلالة عليه
في كلامه نصا ولا عرفا فالبيع بالنسيئة معتاد
بين التجار كالبيع بالنقد وربما يكون البيع
بالنسيئة أقرب إلى تحصيل مقصودهما وهو الربح
والدليل عليه أن المضارب والأب والوصى يملكون
البيع بالنسيئة وأما مطلق إيجاب البيع فإنما
يحمله على النقد لتعذر اعتبار الإطلاق فإن
البيع يستدعى صفة معينة في الثمن ألا ترى أنه
لو بعته منك بالنقد والنسيئة لا يجوز وفي
التوكيل لا يوجد مثل هذا فالتوكيل صحيح بدون
تعيين أحد الوصفين حتى لو قال بعته بالنقد أو
بالنسيئة يجوز ثم قيل على قول أبي حنيفة يجوز
بيعه بثمن مؤجل طالت المدة أو قصرت وعند أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز بأجل متعارف ولو
أجله مدة غير متعارفة في مثل تلك السلعة لا
يجوز بمنزلة البيع بالغبن الفاحش عندهما وعند
أبي يوسف قال: إن أمره بالبيع على وجه التجارة
فله أن يبيعه بالنسيئة أما إذا أمره بالبيع
لحاجته إلى النفقة أو إلى قضاء دينه فليس له
أن يبيعه بالنسيئة ولو باعه بغبن جاز عند أبي
حنيفة سواء كان الغبن يسيرا أو فاحشا وعندهما
لا يجوز بيعه بغبن فاحش لأن دليل العرف يفيد
مطلق التوكيل حتى يتقيد التوكيل بشراء الأضحية
بأيام النحر والتوكيل بشراء الفحم زمان الشتاء
والجمد بزمان الصيف فإنه إذا وكله أن يشتري له
جمدا في الشتاء يكون مشتريا لنفسه وإن كان
التوكيل مطلقا فصح ما ذكرنا والبيع بغبن فاحش
ليس بمتعارف فالظاهر إنما يستعين بغيره فيما
يعجز عن مباشرته بنفسه وهو لا يعجز عن بيع ما
يساوي مائة درهم بعشرة دراهم وقاسا بالوكيل
بالشراء فإن شراءه بالغبن الفاحش لا ينفذ على
الآمر كذلك الوكيل بالبيع لأن كل واحد منهما
أمر بما هو من صنيع التجار وكذلك الأب والوصي
لا يملكان بيع مال اليتيم بغبن فاحش لهذا
المعنى ولأن المحاباة الفاحشة كالهبة حتى إذا
حصلت من المريض تعتبر من الثلث والوكيل بالبيع
لا يملك الهبة وأبو حنيفة يقول أمره بمطلق
البيع وقد أتى به لأن البيع مبادلة مال بمال
شرطا وقد وجد ذلك فما من جزء من المبيع إلا
ويقابله جزء من الثمن ألا ترى أن المبيع لو
كان دارا يجب للشفيع الشفعة في جميعه وبه
يتبين أنه بيع وليس بهبة وبأن اعتبر من الثلث
في حق المريض هذا لا يدل على أنه ليس ببيع
مطلق وإن الوكيل لا يملكه كالبيع بغبن يسير
والدليل عليه أن من حلف لا يبيع فباع بغبن
فاحش يحنث ولا يحنث إلا بكمال الشرط فعرفنا
أنه بيع مطلق
ج / 12 ص -183-
فيصير الوكيل به ممتثلا للآمر فإنا لو قيدنا
بالبيع بمثل القيمة أبطلنا حكم الإطلاق من
كلامه وذلك لا يجوز من غير دليل فأما العرف
الذي قال قلنا هذا مشترك فالإنسان قد يبيع
الشيء تبريا منه ولا يبالى عند ذلك بقلة الثمن
وكثرته وقد يبيعه لطلب الربح فعند ذلك لا
يبيعه بالغبن عادة وبالمشترك لا يبطل حكم
الإطلاق ثم البيع بالغبن متعارف فالمقصود من
البيع الربح وذلك لا يحصل إلا وأن يصير أحدهما
مغبونا والإنسان يرغب في شراء ما يساوي عشرة
بدرهم ولكن لا يجد ذلك فأما أن لا يكون
متعارفا فلائم العرف لا يعارض النص والإطلاق
ثابت بالنص فلا يبطل بالعرف كما في اليمين فإن
العرف كما يعتبر في الوكالة يعتبر في اليمين
وما ذكر من مسألة الأضحية وغيرها فهي مروية عن
أبي يوسف فأما عند أبي حنيفة يعتبر الإطلاق في
جميع ذلك ودليل التقييد التهمة في الموضع الذي
يثبت التقييد فيه ولهذا قال أبو حنيفة الوكيل
بالبيع لا يبيع من أبيه وابنه للتهمة ولا تهمة
في بيعه من الأجنبي بقليل القيمة لأن ما
يستوفى من الثمن يسلمه إلى الآمر قل أو كثر
وبه فارق الوكيل بالشراء فهناك التهمة متمكنة
فربما اشتراه لنفسه فلما علم بالغبن أراد أن
يلزمه الآمر ولأن الوكيل بالشراء كما يستوجب
الثمن في ذمة نفسه يوجب لنفسه مثله في ذمة
الآمر والإنسان متهم في حق نفسه فلا يملك أن
يلزم ذمة الآمر الثمن ما لم يدخل في ملكه
بازائه ما يعدله ولهذا لو قال اشتريت وقبضت
الثمن وهلك في يدي فهات الثمن فإنه لا يقبل
قوله بخلاف الوكيل بالبيع فإنه لو قال بعت
وقبضت الثمن وهلك عندي كان القول قوله ولأن
أمره بالشراء يلاقي ملك الغير وليس للإنسان
ولاية مطلقة في ملك الغير فلا يعتبر إطلاق
أمره فيه بخلاف البيع فإن أمره يلاقي ملك نفسه
وله في ملك نفسه ولاية مطلقة ولأن اعتبار
العموم والإطلاق في الوكيل بالشراء غير ممكن
لأنه لو اعتبر ذلك اشترى ذلك المتاع بجميع ما
يملكه الموكل وبما لا يملكه من المال ونحن
نعلم أنه لم يقصد ذلك فحملناه على أخص الخصوص
وهو الشراء بالنقد بالغبن اليسير وفي جانب
البيع اعتبار العموم والإطلاق ممكن لأنه لا
يتسلط به على شيء من ماله سوى المبيع الذي رضي
بزوال ملكه وهذا بخلاف الأب والوصي لأن
ولايتهما مقيدة بالأنظر والأصلح ولا يوجد في
البيع بالغبن الفاحش وعلى هذا الخلاف لو باعه
الوكيل بعرض يجوز عند أبي حنيفة لإطلاق الآمر
ولا يجوز عندهما لأن البيع بعرض شراء من وجه
فكل واحد منهما في بدل صاحبه مشترى وإنما أمره
بالبيع فلا يملك به ما هو متردد بين البيع
والشراء وأبو حنيفة يقول فعله فيما يتناوله
الآمر بيع من كل وجه لأنه يزيله عن ملكه بعرض
هو مال والبيع ليس إلا هذا ثم جانب البيع
يترجح على جانب الشراء في البيع ألا ترى أن
أحد المضاربين إذا اشترى بغير إذن صاحبه كان
مشتريا لنفسه ولو باع بغير إذن صاحبه شيئا من
مال المضاربة يتوقف على إجازة صاحبه فإن باعه
بعرض يتوقف أيضا فإن أجاز صاحبه كان تصرفه على
المضاربة فعرفنا أن جانب البيع يترجح فيه وعلى
هذا لو باعه الوكيل بمكيل أو موزون فعند أبي
حنيفة يجوز على الآمر وعندهما لا يجوز إلا أن
يبعه بالنقد إذا عرفنا هذا فنقول: إذا
ج / 12 ص -184-
أسلم الثوب في طعام إلى أجل فقد أزال الثوب عن
ملكه بالطعام وذلك جائز على الآمر عند أبي
حنيفة وعندهما لا يجوز لأنه لم يبعه بالنقد
والتوكيل انصرف إليه خاصة قال: وإذا وكله
بالسلم فأدخل الوكيل في العقد شرطا أفسده لم
يضمنه الوكيل لأنه لم يخالف وإنما يضمن الوكيل
بالخلاف لا بالإفساد وهذا لأنا لو ضمناه
بإفساد العقد تحرز الناس عن قبول الوكالات فكل
أحد لا يكون كأبي حنيفة في العلم بأحكام
والأسباب المقيدة للعقد قال: وأكره توكيل
الذمي يعقد له السلم وإن فعله يجوز لأن الذمي
لا يتحرز عن الربا وعن مباشرة العقد الفاسد
إما لجهله بذلك أو لاعتقاده أو قصده أن يوكل
المسلم الحرام فلهذا يكره له أن يأتمنه على
ذلك ويجوز له إن فعله لأن عقد السلم من
المعاملات وهم في ذلك يستوون بالمسلمين
قال: وليس للوكيل بالسلم أن يوكل غيره به لأن
هذا عقد يحتاج فيه إلى الرأى والتدبير والموكل
رضي برأيه دون رأى غيره بخلاف المضارب يوكل
بالسلم فيجوز لأن رب المال قد رضي برأيه
وبتوكيله حين فوض إليه الاسترباح عاما وذلك
بتجارة حاضرة وغائبة وإذا اشتغل بأحدهما بنفسه
فلا يجد بدا من أن يستعين فيه بالآخر بخلاف
الوكيل إلا أن يكون الآمر قال له ما صنعت فيه
من شيء فهو جائز فيجوز حينئذ لأنه أجاز صنيعه
عاما والتوكيل من صنعه فيدخل في عموم إجازته
ولا يجوز للمسلم عقد بيع ولا يسلم لنفسه على
الخمر ولا للكافر لأن الخمر ليس بمال متقوم في
حق المسلم وهو العاقد عليها سواء عقده على ذلك
لنفسه أو لكافر بخلاف المسلم يتوكل عن المجوسي
في أن يزوجه مجوسية فيجوز ذلك لأن الوكيل في
النكاح معبر لا يستغنى عن إضافة العقد إلى
الموكل فيعتبر جانب الموكل وفي البيع والسلم
هو عاقد لنفسه ليستغني عن الإضافة في العقد
إلى غيره فيعتبر جانبه.
قال: وإن وكل المسلم الذمي
بأن يشترى له خمراً أو يسلم له فيها ففعل ذلك
مع ذمي جاز على الآمر في قول أبي حنيفة وفي
قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو
مشترى لنفسه لأن المسلم لا يملك هذا العقد
لنفسه بنفسه فلا يصح توكيل غيره به كما لو وكل
المسلم مجوسيا بأن يزوجه مجوسية وهذا لأنه لو
نفد عقده على الآمر ملك المسلم الخمر بالعقد
ولا يجوز أن يملك المسلم الخمر بعقد التجارة
وهذا منهما نوع استحسان فكأنهما يقولان في
البيع والشراء طرفان طرف العقد وطرف الملك
فكما أن الكافر إذا وكل به المسلم لا يجوز
لاعتبار طرف العقد فكذلك المسلم إذا وكل
الكافر به لا يجوز لاعتبار طرف الملك بل أولى
لأن العقد سبب الملك والثابت به الملك في
المحل وهو المقصود فإذا وجبت مراعاة جانب
العقد فلأن تجب مراعاة جانب الملك أولى وأبو
حنيفة يقول الذي ولي الصفقة هو الوكيل والخمر
مال متقوم في حقه يملك أن يشتريها لنفسه فيملك
أن يشتريها لغيره وهذا لأن الممتنع ها هنا
بسبب الإسلام هو العقد على الخمر لا الملك
فالمسلم من أهل أن يملك الخمر ألا ترى أنه إذا
تخمر عصير المسلم يبقي مملوكا له وإذا مات
قريبة عن خمر يملكها بالإرث وهنا إن اعتبرنا
جانب العقد فالعاقد من أهله وهو في حقوق العقد
كالعاقد لنفسه
ج / 12 ص -185-
وإن اعتبرنا جانب الملك فللمسلم من أهل ملك
الخمر فيصح التوكيل ألا ترى أن في جانب العقد
إفساد التوكيل إذا كان الوكيل مسلما يعتبر
جانب العقد دون الملك فكذلك في جانب تصح
الوكالة وبه فارق النكاح فالوكيل في باب
النكاح سفير ومعبر فكان العاقد هو الموكل
وقوله بأن الموكل يملك الخمر بالعقد فليس كذلك
بل العقد يوجب الملك للعاقد ثم الموكل يخلفه
في ذلك على ما قررنا والمسلم من أهل أن يملك
الخمر بهذا الطريق كما إذا أذن لعبده الكافر
في التجارة فاشترى العبد خمرا فإن المولى
يملكها على سبيل الخلافة عنه وكذلك المكاتب
إذا كان كافرا واشترى خمرا ثم عجز فمولاه
المسلم يملكها بطريق الخلافة عنه وفرقهما أن
العبد والمكاتب يتصرفان لأنفسهما ولهذا لا
يرجعان على المولى بعهدة تصرفهما فلهذا
اعتبرنا حالهما فأما الوكيل فيتصرف للموكل حتى
يرجع عليه بما يلحقه من العهدة ويكون الموكل
في قرار العهدة عليه كأنه باشر التصرف بنفسه
فكذلك في عقد الوكيل له على الخمر فإذا تعذر
تنفيذ العقد على الآمر نفذ العقد على الوكيل.
قال: وإذا وكل الرجل الرجل بدراهم يسلمها له
في طعام فصرفها الوكيل بدراهم غيرها فقد خالف
في العقد فكان مباشرا العقد لنفسه ضامنا لما
صرفه من دراهم الآمر بعد ذلك وكذلك لو كان
المدفوع دينارا فصرفه بدراهم ثم أسلمها في
طعام فهو للوكيل لأنه خالف في العقد والبدل ثم
أسلم بدراهم نفسه في الطعام فكان الطعام له
وهو ضامن للدنانير قال: وإذا وكله رجلان أن
يسلم لهما في طعام واحد ولكن من غير خلط جاز
لأنه حصل مقصود كل واحد منهما بكماله فلا فرق
بين أن يفعل ذلك في عقدة أو عقدتين وإذا خلط
الدراهم ثم أسلمها في الطعام كان مخالفا ضامنا
لأن دراهم كل واحد منهما في يده أمانة فيصير
بالخلط ضامنا متملكا كما هو أصل أبي حنيفة ثم
أضاف عقد السلم إلى دراهم نفسه فكان الطعام له
بخلاف الأول فلم يوجد هناك خلط موجب للضمان
وإنما حصل الاختلاط في المسلم فيه حكما لاتحاد
العقد حكما وبمثله لا يصير الأمين ضامنا وإن
أسلم دراهم كل واحد منهما عن حدة إلى إلى رجل
واحد ثم اقتضى شيئا فادعى كل واحد منهما أي
الأمرين أنه من حقه فالقول قول المسلم إليه
لأنه هو الملك لما يوفي من الطعام فرجع في
بيان ما يتملك إليه فإن كان هو غائبا فالقول
قول الوكيل لأنه أحد المتعاقدين ولأن كل واحد
منهما إنما يتملك بعقد باشره الوكيل فعند
الاشتباه يرجع في البيان إليه فإذا قدم المسلم
إليه وكذب الوكيل فالقول قول المسلم إليه لأنه
هو الأصل في هذا البيان وسقط اعتبار الخلف عند
ظهور الأصل وإن أسلم الوكيل إلى نفسه فهو باطل
لأن الواحد في عقد التجارة لا يصلح أن يكون
مباشرا للعقد من الجانبين لما فيه من تضاد
الأحكام فإنه يكون مملكا متملكا مسلما متسلما
مخاصما متخاصما وذلك لا يجوز ولأنه متهم في حق
نفسه وقد بينا أن التهمة تخصص الأمر المطلق
وكذلك لو أسلم إلى شريك له مفاوض لأنهما بعقد
المفاوضة صار كشخص واحد في عقود التجارة فكل
واحد منهما مطالب بما يجب على صاحبه فهو وما
لو أسلم إلى نفسه سواء وكذلك إن أسلم إلى عبده
لأن كسب العبد لمولاه فهو متهم في ذلك.
ج / 12 ص -186-
وكذلك إلى مكاتبه لأن له حق الملك في كسب
المكاتب وينقلب ذلك صحيحا حقيقة ملك يعجزه فإن
أسلم إلى شريك له عنان جاز إذا لم يكن من
تجارتهما لأن كل واحد منهما من صاحبه كسائر
الأجانب فيما ليس من تجارتهما حتى تجوز شهادة
كل واحد منهما لصاحبه فيما ليس من تجارتهما
فإن أسلمها إلى ابنه أو إلى أحد أبويه أو
زوجته ممن لا تقبل شهادته له لم يجز عند أبي
حنيفة وهو جائز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله لأنه ليس لواحد منهما في مال صاحبه ملك
ولا حق ملك فكان بمنزلة ما لو أسلم إلى أخيه
فإنه يجوز وهذا بخلاف الشهادة لأن ذلك خبر
ممثل بين الصدق والكذب فلا يترجح جانب الصدق
فيها مع تمكن تهمة الميل وأبو حنيفة يقول مطلق
الوكالة تتقيد بالتهمة وكل واحد منهما متهم في
حق صاحبه بدليل أنه لا تقبل شهادته له فكان
إسلامه إليه كإسلامه إلى عبده ومكاتبه وهذا
لأن تصرف الوكيل إنما يكون في حق الغير
والظاهر من حال المرء إيثار ولده وزوجته على
الأجنبي وسوى هذا في المسألة كلام وخلاف في
معاملة الوكيل مع هؤلاء بمثل القيمة أو بالغبن
اليسير وقد أملينا تمام ذلك في كتاب الوكالة
وإذا وكل الوكيل بالسلم رجلا بقبض المسلم فيه
ممن عليه فقبضه بريء المسلم إليه منه لأن
الوكيل في حق القبض كالعاقد لنفسه حتى يختص
بالمطالبة به ولو كان عاقدا لنفسه كان قبض
وكيله في براءة المسلم كقبضه بنفسه فإن كان
الوكيل الثاني عبدا للوكيل الأول أو ابنه في
عياله أو أجير له فهو جائز على الآمر حتى لو
هلك في يده هلك من مال الآمر والمراد الأجير
الخاص الذي استأجره مشاهرة أو مسانهة لأن يد
هؤلاء في الحفظ كيده ألا ترى أنه لو قبض بنفسه
ثم سلم إلى واحد من هؤلاء ثم هلك لا يجب
الضمان على واحد وإن كان الوكيل الثاني أجنبيا
فالوكيل الأول ضامن للطعام إن ضاع في يد وكيله
لأن قبض وكيله كقبضه بنفسه ولو قبضه بنفسه ثم
دفعه إلى أجنبي كان ضامنا فكذلك هنا وإن لم
يذكر أن الوكيل الثاني هل يكون ضامنا في حق رب
المسلم فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه لا
يكون ضامنا بمنزلة مودع المودع وقد بينا
الخلاف فيه وفي الوديعة وإن وصل إلى الوكيل
الأول بريء هو ووكيله عن ضمانه كما لو قبض
الوكيل الأول بنفسه إذ لا فرق بين أن يصل إلى
يده من يد المسلم إليه أو من يد وكيله فلهذا
لا ضمان فيه على أحد فإذا أسلم الوكيل الدراهم
إلى امرأة جاز كذلك لو كان الموكل أو الوكيل
امرأة يجوز لأن هذا من باب المعاملات فيستوي
فيه الرجال والنساء والله تعالى أعلم.
تم الجزء الثاني عشر من كتاب المبسوط،
ويليه الجزء الثالث عشر
وأوله باب البيوع الفاسدة |