المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 14 ص -77-
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الشفعة
قال الشيخ الإمام الأجل
الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد
بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء الشفعة
مإخوذة من الشفع الذي هو ضد الوتر لما فيه من
ضم عدد إلى عدد أو شيء إلى شيء ومنه شفاعة
النبي صلى الله عليه وسلم للمذنبين فإنه يضمهم
بها إلى العابدين وكذلك الشفيع بأخذه يضم
المأخوذ إلى ملكه فيسمى لذلك شفعة وزعم بعض
أصحابنا رحمهم الله أن القياس يأبى ثبوت حق
الشفعة لأنه يتملك على المشتري ملكا صحيحا له
بغير رضاه وذلك لا يجوز فإنه من نوع الأكل
بالباطل وتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" ولأنه بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه على وجه يلحق الضرر بالمشتري في
إبطال ملكه عليه وليس لأحد أن يدفع الضرر عن
نفسه بالإضرار بغيره ولكنا نقول تركنا هذا
القياس بالأخبار المشهورة في الباب.
والأصح أن نقول الشفعة أصل في الشرع فلا يجوز
أن يقال أنه مستحسن من القياس بل هو ثابت وقد
دلت على ثبوته الأحاديث المشهورة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله
عليهم من ذلك ما روى أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال:
"الشفعة في كل شيء عقارا وربع" ومن ذلك ما بدأ محمد بن الحسن الكتاب به ورواه عن المسور بن مخرمة
عن رافع بن خديج أن سعد بن مالك رضي الله عنه
عرض بيتا له على جار له فقال خذه بأربعمائة
أما أني قد أعطيت به ثمانمائة ولكني أعطيكه
بأربعمائة لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول:
"الجار أحق بصقبه" وفيه دليل
على أن من أراد بيع ملكه فإنه ينبغي له أن
يعرضه على جاره لمراعاة حق المجاورة قال صلى
الله عليه وسلم:
"ما زال جبريل
يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"
ولأنه أقرب إلى حسن العشرة والتحرز عن الخصومة
والمنازعة فلهذا فعله سعد رضي الله عنه وحط
عنه نصف الثمن لتحقيق هذا المعنى وقيل لإتمام
الإحسان وإن تمام الإحسان أن يحط الشطر لما
روى أن الحسن بن علي رضي الله عنه كان له دين
على إنسان فطالب غريمه فقال أحسن إلي يا ابن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وهبت لك
النصف فقيل له النصف كثير فقال وأين ذهب قوله
تعالى:
{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:195] سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
"من تمام الإحسان أن يحط الشطر" فأما قوله صلى الله عليه وسلم:
"الجار أحق بسقبه" فقد روي هذا الحديث بالسين والمراد القرب وبالصاد والمراد الأخذ
والانتزاع يعني لما
ج / 14 ص -78-
جعله
الشرع أحق بالأخذ بعد البيع فهو أحق بالعرض
عليه قبل البيع أيضا وهو دليل لنا على أن
الشفعة تستحق بالجوار فإنه ذكر اسما مشتقا من
معنى والحكم متى علق باسم مشتق فذلك المعنى هو
الموجب للحكم خصوصا إذا كان مؤثرا فيه كما في
قوله تعالى
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}[النور:2] وقوله تعالى
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}[المائدة:38] وهذا المعنى مؤثر لأن الأخذ بالشفعة لدفع الضرر فإن
الضرر مدفوع لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"
وذلك يتحقق بالمجاورة يعني الضرر البادي إلى
سوء المجاورة على الدوام من حيث إبعاد النار
وإعلاء الجدار وإثارة الغبار ومنع ضوء النهار
والشافعي يقول المراد بالجار الشريك فقد يطلق
اسم الجار على الشريك قال الأعشى:
أيا جارتي بيني فإنك طالق
كذاك أمور الناس عاد وطارقه
والمراد زوجته وهي
شريكته في الفراش ولكنا نقول في هذا ترك
الحقيقة إلى المجاز من غير دليل ثم الزوجة
تسمى جارة لأنها مجاورة في الفراش تتصرف عنه
لا لأنها تشاركه وفي الحديث ما يدل على بطلان
هذا التأويل وأن سعدا رضي الله عنه عرض بيتا
له على جار له وروى الحديث فذلك دليل على أن
جميع البيت كان له وإنه فهم من الحديث الجار
دون الشريك حين استعمل الحديث فيه.
وعن الحسن في الشفعة لليتيم قال وصيه بمنزلة
أبيه إن شاء أخذوا الغائب على شفعته وفيه دليل
أن الشفعة تثبت للصغير وأن وليه يقوم مقامه في
الأخذ له لأنه أخذ بطريق التجارة وفيه دفع
الضرر عن اليتامى وتوفير المنفعة عليهم ولهذا
المقصود أقام الشرع وليه مقامه وفيه دليل أن
الشفعة تثبت للغائب لأن السبب المثبت لحقه
قائم مع غيبته ولا تأثير للغيبة في إبطال حق
تقرر سببه فإذا حضر وعلم به كان على شفعته لأن
الحق بعد ما يثبت لا يسقط إلا بإسقاطه والرضا
بسقوطه صريحا أو دلالة وبترك الطلب عند الجهل
به والغيبة لا يتحقق هذا المعنى لانعدام تمكنه
عن الطلب
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال:
"الخليط أحق من الشفيع والشفيع أحق من غيره" والخليط هو الشريك في نفس المبيع والشفيع هو الشريك في حقوق المبيع
كالشرب والطريق وقيل على عكس ذلك فقد روى بعض
الرواة أن الشريك أحق من الخليط والخليط أحق
من الشفيع فالشريك يكون في نفس المبيع والخليط
يكون في حقوق المبيع سمى خليطا لاختلاط بينهما
فيما يتأتى به الانتفاع مع تميز الملك
والشفيع هو الجار وفيه دليل أن حق الشفعة على
مراتب وأن البعض مقدم على البعض بقوة سببه
وهذا إنما يتأتي على مذهبنا فأما الشافعي فلا
يوجب الشفعة إلا للشريك فلا يتأتى هذا الترتيب
على مذهبه والحديث يدل عليه وعن عبد الملك بن
مروان عن عطاء عن جابر رضي الله عنهم عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الجار أحق بصقبه ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" وهذا من
أقوى ما يستدل به فإنه لا شبهة في صحة هذا
الحديث لأن عبد
ج / 14 ص -79-
الملك
بن مروان كان من أهل الحديث وعطاء بن أبي رباح
إمام مطلق في الحديث وجابر رضي الله عنه من
كبار الصحابة رضوان الله عليهم فلا طعن في
إسناد هذا الحديث ولا وجه بحمل الحديث على
الشريك فإنه إذا حمل على الشريك كان هذا لغوا
وإنما يكون مفيدا إذا كان المراد جارا هو شريك
في الطريق.
قال كان شيخنا الإمام يقول العجب منهم يزعمون
أنهم من أصحاب الحديث ثم يتركون العمل بمثل
هذا الحديث مع شهرته فلا يبقى بعد هذا الحديث
لهذا اللقب معنى سوى أنهم يتركون العمل بمثل
هذا الحديث فلأجله سموا أصحاب الحديث لا
لعلمهم بالحديث.
وعن الشعبي قال من بيعت شفعته وهو حاضر فلم
يطلب فلا شفعة له وبه نأخذ لأن سكوته عن الطلب
بعد علمه وتمكنه من الطلب دليل الرضا منه
بمجاورة الجار الحادث فيلتحق بالجار القديم
باعتبار رضاه وذلك يبطل شفعته ضرورة وعليه دل
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الشفعة
لمن واثبها" أي لم يقعد
عن طلبها وقال صلى الله عليه وسلم:
"الشفعة
كحل العقال" فكنى بهذا
عن سرعة سقوطها وعن شريح قال الشريك أحق من
الخليط والخليط أحق من الجار والجار أحق من
غيره وهو الصحيح علي التفسير الذي قلنا أن
الشريك في نفس المبيع والخليط في حقوق المبيع
وعن عمرو بن الشريد عن أبيه لشريد بن سويد رضي
الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"الجار أحق
بشفعته ما كان" والشريد
هذا ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بعض أسفاره ثم روى عنه أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنشدني من أشعار الجاهلية فكلما
أنشدت شيئا قال صلى الله عليه وسلم "إيه" حتى
أنشدت مائة بيت. وأهل الحديث يرون حديثه هذا في الشفعة أن النبي صلى الله عليه
وسلم سئل عن أرض بيعت ليس لأحد فيها شركة ولا
قسم إلا الجوار فقال صلى الله عليه وسلم:
"الجار أحق
بشفعته ما كان" فهذا يدل
على أن المراد حقيقته لأنه نفي الشركة في
السؤال وأثبت الجوار فقال صلى الله عليه وسلم:
"ما كان"
وله معنيان.
أحدهما: أن المراد من كان فإن
ما تذكر بمعنى من قال الله تعالى
{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}[الشمس:5] فهو دليل على أن الشفعة للذكر والأنثى والحر والمملوك
والصغير والكبير والمسلم والذمي.
والثاني: أن المراد بقوله ما
كان أي ما كان أي يحتمل القسمة أو لا يحتمل
القسمة فيكون دليلا لنا على الشافعي حيث يقول
لا تثبت الشفعة إلا فيما يحتمل القسمة وبظاهره
يستدل من أوجب الشفعة في بعض المنقولات كالسفن
ونحوها وهو قول أصحاب الظواهر ولكن ما روينا
من قوله صلى الله عليه وسلم "الشفعة في كل ربع
أو عقار" تبين أن المراد بقوله ما كان العقار
دون المنقول.
وعن شريح أنه قضى للنصراني بالشفعة وكتب في
ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأجازها
وبهذا نأخذ دون ما رواه بعد هذا عن شريح أنه
قال لا شفعة ليهودي ولا لنصراني ولا لمجوسي
وبقوله الثاني كان يأخذ ابن أبي ليلى فيقول
الأخذ بالشفعة رفق
ج / 14 ص -80-
شرعي
فلا يثبت لمن هو منكر لهذه الشريعة ولكنا نأخذ
بما قضي به شريح فقد تأيد ذلك بإمضاء عمر رضي
الله عنه ثم أهل الذمة التزموا أحكام الإسلام
فيما يرجع إلى المعاملات والأخذ بالشفعة من
المعاملات وهو مشروع لدفع الضرر والضرر مدفوع
عنهم كما هو مدفوع عن المسلمين وعن الحسن رضي
الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالشفعة والجوار وفي بعض الروايات
بالجوار وهو دليل لنا على استحقاق الشفعة بسبب
الجوار فأما معنى اللفظ الآخر أن الجار كان
منازعا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم له
بالجوار وبالشفعة فهو دليل على أن الجوار
يستحق به الشفعة حتى سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيه الخصومة فقضي به وبالشفعة وعن
الحسن قال إذا اقتسم القوم الأرضين ورفعوا
سربا بينهم فهم شفعاء وبه نأخذ فنقول الشركة
في السرب تستحق به الشفعة لأنها شركة في حقوق
المبيع فيثبت باعتباره حق الشفعة كالشركة في
نفس المبيع لأن الحاجة إلى دفع الضرر البادي
لسوء المجاورة يتحقق في الموضعين جميعا.
وعن شريح قال الشفعة بالأبواب فأقرب الأبواب
إلى الدار أحق بالشفعة ولسنا نأخذ بهذا وإنما
الشفعة عندنا للجار الملاصق فأما الجار
المحاذي فلا شفعة له بالمجاورة سواء كان أقرب
بابا أو أبعد وإنما يعتبر قرب الباب في
التقديم في الشفعة على ما روى أن رجلا جاء إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارين فإلى أيهما أبر قال صلى الله عليه وسلم: "إلى أقربهما منك
بابا"
وهذا لأن إطلاعه وإطلاع أولاده على ما يدخل
منزله من النعمة أكثر فهو بالهدية أحق وهذا
تأويل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقول في الهدايا:
"ابدءوا بجارنا اليهودي" فأما في الشفعة فالمعتبر هو القرب واتصال أحد الملكين بالآخر وذلك
في الجار الملاصق دون الجار المحاذي فإن بين
الملكين طريقا نافذا.
وذكر عن علي وابن عباس رضي الله عنهما قالا لا
شفعة إلا لشريك لم يقاسم وهذا قول أهل المدينة
وليس يأخذ به أهل الكوفة إلا أنه قد رجع إليه
ابن أبي ليلى فإنه كان في الابتداء يقضي
بالشفعة للجار حتى كتب إليه أبو العباس المهدي
يأمره بأن لا يقضي بالشفعة إلا لشريك لم يقاسم
فأخذ بذلك لأنه كان عاملا له ونحن أخذنا بقول
عمر رضي الله عنه فقد أثبت الشفعة للجارحين
قال لبني عذرة أنتم شفعاؤنا في أموال اليهود
في حديث طويل وأخذنا بالآثار المشهورة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم فإن الحديث متى صح
عنه كان حجة على كل صحابي رضوان الله عليهم.
والحاصل أن الشفعة عندنا على مراتب يقدم
الشريك فيها في نفس المبيع ثم الشريك في حقوق
المبيع بعده ثم الجار الملاصق بعدهما وعن ابن
أبي ليلى والشافعي لا تجب الشفعة إلا للشريك
في نفس المبيع لحديث أبي هريرة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما
لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا
شفعة وحديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
"الشفعة فيما لم يقسم" وإدخال الألف واللام في الكلام
ج / 14 ص -81-
للمعهود فإن لم يكن فللجنس وليس هنا معهود
ينصرف إليه فكان للجنس فيقتضي أن جنس الشفعة
فيما لم يقسم وفي رواية إنما الشفعة فيما لم
يقسم وإنما لتقرير المذكور ونفيه عما عداه قال
الله تعالى
{إِنَّمَا
اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}
[النساء: من الآية171] فهو تنصيص على نفي
الشفعة بعد القسمة والمعنى فيه أن هذا تملك
المال بغير رضا المتملك عليه فيختص به الشريك
دون الجار كالمتملك بالاستيلاد وملك أحد
الجارين متميز عن ملك الآخر فلا يستحق أحدهما
ملك الآخر بالشفعة كالجار المقابل وهذا لأن حق
الأخذ بالشفعة لدفع ضرر مؤنة القسمة لأنه لو
لم يأخذ طالبه المشتري بالقسمة فيلحقه بسببه
مؤنة القسمة فالشرع مكنه من الأخذ بالشفعة
ليدفع به ضرر مؤنة القسمة فيما لا طريق له
لدفع ذلك إلا بأن يخرج عن ملكه بالأخذ
بالاستيفاء والملك فيه وهذا لا يوجد في حق
الجار ولهذا لا يوجب الشفعة فيما لا يحتمل
القسمة لأنه لا يدفع بالأخذ مؤنة القسمة عن
نفسه. ولهذا لا يوجب الشفعة في المنقولات
أيضا لأنه متمكن من دفع مؤنة القسمة هناك ببيع
نصيبه والبيع والشراء في المنقول معتاد في كل
وقت فأما العقار فيتخذ لاستيفاء الملك فيه
وليبقى ميراثا بالعاقبة فهو يحتاج إلى الأخذ
بالشفعة لدفع ضرر مؤنة المقاسمة عن نفسه.
وحجتنا في ذلك ما روينا من الإخبار ولا
يعارضها ما رووا ففيها بيان أن للشريك شفعة
ونحن نقول به وتخصيص الشيء بالذكر عندنا لا
يدل على أن الحكم فيما عداه بخلافه ثم المراد
بالشفعة بسبب الشركة فيما لم يقسم والمراد
بيان أن مع الشريك الذي لم يقاسم لا مزاحمة
لأحد في الشفعة الشفعة بل هو مقدم وبه نقول
واللفظ المذكور في حديث أبي هريرة رضي الله
عنه:
"فإذا
وقعت الحدود وصرفت الطرق" دليلنا أنه
علق نفي الشفعة بالأمرين جميعا فذلك دليل على
أنه إذا وقعت الحدود ولم تصرف الطرق بأن كان
الطريق واحدا أن تجب الشفعة وعندكم لا تجب ثم
معنى هذا اللفظ فلا شفعة بوقوع الحدود وصرف
الطرق وكان الموضع موضع إشكال لأن في القسمة
معنى المبادلة فربما يشكل أنه هل يستحق بها
الشفعة فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
لا يستحق الشفعة بالقسمة والمعنى فيه أنه متصل
بالملك اتصال تأبيد وقرار فيثبت له حق الأخذ
بالشفعة كالشريك.
وتحقيق هذا الكلام أن استحقاق الشفعة
بالمجاورة دون الشركة فإن الشركة تتحقق في
المنقولات ثم لا تجب الشفعة إلا في العقار فلا
بد من معنى يظهر به الفرق بينهما وليس ذلك إلا
أن الشركة في العقار تفضي إلى المجاورة لأنهما
إذا اقتسما كانا جارين والشركة في المنقولات
لا تفضي إلى المجاورة لأنهما إذا اقتسما لا
يبقى بينهما مجاورة في الملك فإذا كان باعتبار
الشركة التي تفضي إلى المجاورة يستحق الشفعة
فتحقيقه المجاورة أولى وهذا لأن المقصود دفع
ضرر المتأذى بسوء المجاورة على الدوام ولهذا
لا يثبت لجار السكني كالمستأجر أو المستعير
لأن جواره ليس بمستدام ولهذا لا يثبت في
المنقول وضرر التأذي بسوء المجاورة على الدوام
باتصال أحد الملكين بالآخر على وجه لا يتأتى
الفصل فيه والناس
ج / 14 ص -82-
يتفاوتون في المجاورة حتى يرغب في مجاورة بعض
الناس لحسن خلقه وعن جوار البعض لسوء خلقه
فلمكان أنه يتأذى بالجار الحادث يثبت له حق
الأخذ بالشفعة لا لدفع ضرر مؤنة المقاسمة فإن
ذلك لا يحتاج إليه في المنقولات.
ولا شفعة فيما إذا باع أحد الشركاء نصيبه وهنا
بالأخذ تزداد مؤنة المقاسمة على الباقين وإنما
يندفع عنهم سوء مجاورة المشتري ولهذا لا تثبت
للجار المقابل لأن سوء المجاورة لا يتحقق إذا
لم يكن ملك أحدهما متصلا بملك الآخر ولا شركة
بينهما في حقوق الملك على أنا نقول حق الأخذ
بالشفعة له ليترفق به من حيث توسع الملك
والمرافق وهذا في الجار الملاصق يتحقق لا مكان
جعل إحدى الدارين من مرافق الدار الأخرى أولا
يتحقق ذلك في الجار المقابل لعدم إمكان جعل
إحدى الدارين من مرافق الدار الأخرى بطريق
نافذ بينهما حتى إذا كانتا في سكة غير نافذة
تثبت الشفعة للكل لا مكان جعل بعضها من مرافق
البعض بأن تجعل الدور كلها دارا واحدة ولكن مع
هذا الشريك مقدم عندنا لأن سبب الاستحقاق
القرب والاتصال وذلك في حقه أقوى لوجود
الاتصال بكل جزء من المبيع بجزء من ملكه ثم
بعده للشريك في الطريق لزيادة الاتصال في حقه
على الجار وقوة السبب توجب الترجيح ولأن
الشريك يدفع بالأخذ ضرر سوء المجاورة ومؤنة
المقاسمة عن نفسه وقد بيننا أن الحاجة إلى دفع
ضرر مؤنة المقاسمة لا يصلح علة للاستحقاق
فتكون علة للترجيح لأن الترجيح أبدا بما لا
يكون علة الاستحقاق ألا ترى أن الأخ لأب وأم
مع الأخ لأب إذا اجتمعا يترجح الأخ لأب وأم في
العصوبة بسبب قرابة الأم والعصوبة لا تستحق
بقرابة الأم ثم الترجيح يقع بها فهذا مثله.
وتفسير ما قلنا في منزل مشترك بين اثنين في
دار هي في سكة غير نافذة إذا باع أحد الشريكين
نصيبه من المنزل فالشريك في المنزل أحق
بالشفعة فإذا سلم فالشركاء في الدار أحق
بالشفعة من الشركاء في السكة لأنهم أميز قربا
للشركة بينهم في صحن الدار فإن سلموا فأهل
السكة أحق بالشفعة في الشركة في الطريق فإن
سلموا فالجار الملاصق وهذا الذي على ظهر هذا
المنزل وباب داره في سكة أخرى وقد روى عن أبي
يوسف أن مع وجود الشريك لا شفعة لأحد سواء سلم
أو استوفى لأنهم محجوبون لحق الشريك وقد ثبت
حقه سواء استوفي أو سلم ولكن في ظاهر الرواية
الشريك مقدم وقد ثبت حق الجار مع الشريك لتقرر
السبب في حقه إلا أن حق الشريك كان مقدما فإذا
سلم كان للجار أن يستوفي كحق غرماء الصحة مع
غرماء المرض في التركة فإنه إذا استحق أسقط
حقهم بالإبراء كانت التركة لغرماء المرض
بديونهم لأن سبب استحقاقهم ثابت ولهذا قلنا
ينبغي للجار أن يطلب الشفعة إذا علم بالبيع مع
الشريك تمكن من أخذه فإن لم يطلب بعد علمه حتى
يسلم الشريك فلا حق له بعد ذلك وإن كان فناء
منفرج من الطريق الأعظم راجعا عن الطريق أو
زقاق أو درب غير نافذ فيه دور فبيعت دار منها
فأصحاب الدور شفعاء جميعا لأنهم شركاء في
الفناء والطريق، فإن سلم
ج / 14 ص -83-
هؤلاء
الشفعة فالجار الملاصق أحق منهم بالشفعة وقد
قال بعض أصحابنا فناء الدار مملوك لصاحب الدار
والأصح أنه حقه وليس بمملوك له لأن ملكه في
الدار والدار ما أدير عليه الحائط والفناء اسم
لصحن وراء ذلك يكون معدا لإيقاف الدواب وكسر
الحطب وغير ذلك فإن كان ذلك في سكة غير نافذة
فهو حق أصحاب السكة بمنزلة الطريق الخاصة لهم
أو ملك مشترك بينهم وفي هذه الشركة الجار
الملاصق والمقابل سواء ولهذا كانت الشفعة
عندنا على عدد الرءوس دون مقادير الأنصباء
والدور.
وقال الشافعي على مقدار النصب وبيانه في دار
بين ثلاثة نفر لأحدهم نصفها ولآخر ثلثها ولآخر
سدسها باع صاحب النصف نصيبه وطلب الآخر أن
الشفعة قضى بالشفعة في المبيع بينهما نصفين
عندنا وعند الشافعي رحمه الله أثلاثا بقدر
ملكيهما وإن باع صاحب السدس ملكه وطلب الآخران
الشفعة قضى بينهما أخماسا عنده وإن باع صاحب
الثلث نصيبه قضي به بين الآخرين أرباعا عنده
بقدر ملكيهما وعندنا يقضى به نصفين فكذلك على
أصلنا إذا بيعت دار ولها جاران أحدهما جار من
ثلاث جوانب والآخر من جانب آخر واحد وطلبا
الشفعة فهي بينهما نصفين فالشافعي رحمه الله
استدل بحديث عمر رضي الله عنه لما أجلى يهود
من وادي القرى قال لبني عذرة أنتم شفعاؤنا في
أموال اليهود الحديث إلى أن جعل الوادي بين
بني عذرة وبين الإمارة نصفين فقد اعتبر
مقدارالنصيب ولم يقسم بين المسلمين وبين بني
عذرة وإن هذا رفق من مرافق الملك فيكون على
قدر الملك كالربح أو ثمرة تستحق بالملك فيكون
على قدر الملك كالأولاد والألبان والأثمار في
الأشجار المشتركة يوضحه المنفعة أن التي تستحق
بسبب الملك يعتبر بالغرم الذي يلحق المالك
بسبب الملك وذلك بقدر الملك فإذا كان الحائط
مشتركا بين اثنين أو ثلاثا وأشهد عليهما فيه
فسقط وأصاب مالا أو نفسا كان الضمان عليهما
أثلاثا بقدر الملك فهذا مثله وهذا على أصله
مستقيم فإن حق الشفعة عنده لدفع ضرر مؤنة
المقاسمة وحاجة صاحب الكثير إلى ذلك أكثر من
حاجة صاحب القليل لأن مؤنة القسمة عنده على
الشركاء بقدر الملك فكذلك ما شرع لدفع هذه
المؤنة.
وجه قولنا أنهما استويا في سبب الاستحقاق
فيستويان في الاستحقاق وبيان ذلك أن سبب
استحقاق الشفعة إما الجوار أو الشركة وقد
استويا في أصل ذلك فإن صاحب القليل شريك كصاحب
الكثير وجار الاتصال ملكه بالمبيع كصاحب
الكثير ثم تحقيق هذا الكلام أن علة الاستحقاق
أصل الملك لا قدر الملك ألا ترى أن صاحب
الكثير لو باع نصيبه كان لصاحب القليل أن يأخذ
الكل بالشفعة كما لو باع صاحب القليل نصيبه
كان لصاحب الكثير أن يأخذ جميع المبيع فملك كل
جزء علة تامة لاستحقاق المبيع بالشفعة فإذا
اجتمع في حق صاحب الكثير علل وفي حق صاحب
القليل علة واحدة والمساواة لا تتحقق بين
العلة الواحدة والعلل ألا ترى أن أحد المدعيين
لو أقام شاهدين وأقام الآخر عشرة من الشهداء
تثبت المعارضة والمشاركة بينهما وكذلك لو أن
رجلا جرح رجلا جراحة واحدة وجرحه آخر
ج / 14 ص -84-
جراحات
فمات من ذلك استويا في حكم ذلك القتل وهذا لأن
الترجيح بقوة العلة لا بكثرة العلة وعند ظهور
العلة الترجيح المرجوح مدفوع بالراجح وهنا لا
يبطل حق صاحب القليل أصلا فعرفنا أنه لا ترجيح
في جانبه من حيث قوة العلة وكثرة العلة لا
توجب الترجيح لأن ما يصلح بانفراده علة لا
يصلح مرجحا وملك كل جزء بانفراده علة فمن هذا
الطريق تتحقق المساواة بينهما بخلاف الغرماء
في التركة فإن حق كل واحد منهم في دينه في ذمة
المديون ألا ترى أن عند الانفراد لا يستحق من
التركة إلا قدر دينه فإذا ظهر التفاوت بينهما
في مقدار الدين وعليه يترتب استحقاق التركة
قلنا كل واحد منهم يستحق بقدر دينه وكذلك
الربح فإنه إنما يحصل بقدر المال ألا ترى أن
عند الانفراد يحصل الربح لكل واحد منهما بقدر
ماله؟.
وكذلك الولد واللبن والثمار فإنها متولدة من
العين فإنما تتولد بقدر الملك والشافعي رحمه
الله غلط في اعتبار حكم العلة بالمتولد من
العلة وقسمة الحكم على أجزاء العلة فأما
الحائط المائل إذا مات من وقع عليه الحائط فإن
جرحه الحائط فالضمان عليهما نصفين لاستوائهما
في العلة وإن مات بنقل الحائط فالضمان عليهما
أثلاثا لأن التساوي بينهما في العلة لم يوجد
فإن نقل نصيب صاحب القليل لا يكون كنقل نصيب
صاحب الكثير ولا يدخل على شيء مما ذكرنا
الفارس مع الراجل في الغنيمة لأن تفصيل الفارس
بفرسه حكم عرف شرعا بخلاف القياس مع أن الفرس
بانفراده لا يكون علة للاستحقاق فيصلح مرجحا
في استحقاق بعض الغنيمة وهنا ملك كل جزء علة
كاملة لاستحقاق الجميع فلا تصلح مرجحة.
ولا شفعة إلا في الأرضين والدور لأنها عرفت
شرعا وقد نص الشرع على الشفعة في العقار خاصة
لقوله صلى الله عليه وسلم:
"الشفعة في كل عقار أو ربع"
والصغير كالكبير في استحقاق الشفعة إلا على
قول ابن أبي ليلى فإنه كان يقول لا شفعة
للصغير لأن وجوبها لدفع التأذي بسوء المجاورة
وذلك من الكبير دون الصغير ولأن الصغير في
الجوار تبع فهو في معنى المعير والمستأجر
ولكنا نقول سبب الاستحقاق متحقق في حق الصغير
وهو الشركة أو الجوار من حيث اتصال حق ملكه
بالمبيع على وجه التأبيد فيكون مساويا للكبير
في الاستحقاق به أيضا ثم هو محتاج إلى الأخذ
لدفع الضرر في الآتي عن نفسه وإن لم يكن
محتاجا إلى ذلك في الحال وبمثل هذه الحاجة جاز
للمولى تزويج الصغير والصغيرة فكذلك يثبت له
حق الشفعة ثم يقوم بالطلب من يقوم مقامه شرعا
في استيفاء حقوقه وهو أبوه ثم وصى أبيه ثم جده
أبو أبيه ثم وصى الجد ثم وصي نصبه القاضي فإن
لم يكن له أحد من هؤلاء فهو على شفعته إذا
أدرك لأن الحق قد ثبت له ولا يتمكن من
استيفائه قبل الإدراك لأن الاستيفاء يبنى على
طلب ملزم ولا يكون طلبه ملزما قبل الإدراك
فتركه الطلب قبل الإدراك لعدم تمكنه من ذلك لا
يكون مسقطا حقه كالبائع إذا ترك الطلب لأنه لم
يعلم به والغائب على شفعته إذا علم لهذا
المعنى فإنه لا يتمكن من الطلب ما لم يعلم به
وترك الطلب إنما يكون دليلا على الرضا أو
التسليم بعد التمكن منه لا قبله والذكر
والأنثى والحر والمملوك والمسلم والكافر في حق
ج / 14 ص -85-
الشفعة
سواء لأنه من المعاملات وإنما ينبني الاستحقاق
على سبب متصور في حق هؤلاء وثبوت الحكم بثبوت
سببه.
وإذا اشترى الرجل دارا وقبضها ونقد الثمن
واختلف الشفيع والمشتري في الثمن فالقول قول
المشتري مع يمينه لأن الشفيع يتملك الدار على
المشتري كما أن المشتري يتملكها على البائع
ولو كان الاختلاف بين البائع والمشتري في
الثمن كان القول قول البائع كما قال صلى الله
عليه وسلم:
"إذا اختلف المتبايعان فالقول ما يقوله
البائع" فكذلك المشتري مع الشفيع ولأن الشفيع يدعي على المشتري وجوب تسليم
الدار إليه عند إحضار الألف والمشتري منكر
لذلك فالقول قوله مع يمينه وأيهما أقام البينة
قبلت بينته لأنه يؤيد دعواه بالحجة وليس في
معارضة حجته سوى مجرد الدعوى من الآخر والدعوى
لا تعارض الحجة ثم الشفيع إن أقام البينة فقد
أثبت ما ادعى من وجوب تسليم الدار إليه عند
أداء الألف والمشتري إن أقام البينة فقد أثبت
زيادة في الثمن ببينته وإن أقاما جميعا البينة
فالبينة بينة الشفيع في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله وقال أبو يوسف البينة بينة
المشتري لأنه يثبت زيادة في الثمن ببينته
والشفيع ينفي تلك الزيادة والمثبت للزيادة من
البينتين أولى بالعمل بها كما لو اختلف البائع
والمشتري في مقدار الثمن وأقاما البينة كانت
بينة البائع أولى بالقبول لما فيها من إثبات
الزيادة وكذلك لو اختلف البائع والمشتري
والشفيع فقال البائع ثلاثة آلاف وقال المشتري
ألفان وقال الشفيع ألف وأقاموا البينة كانت
بينة البائع أولى بالقبول وكذلك الوكيل
بالشراء مع الموكل إذا اختلفا في مقدار الثمن
وأقاما البينة كانت البينة بينة الوكيل لأنها
تثبت الزيادة.
وأظهر من هذا كله المشتري من العدو مع المولى
القديم إذا اختلفا في ثمن العبد المأسور
وأقاما البينة كانت البينة بينة المشتري من
العدو لما فيها من إثبات الزيادة ولأبي حنيفة
طريقتان إحداهما حكاها محمد عنه والأخرى حكاها
أبو يوسف فالتي حكاها محمد أن المشتري صدر منه
إقرار أن أحدهما له والآخر عليه فكان للشفيع
أن يأخذ بما عليه كما لو أقر عند القاضي
بالأمرين جميعا وبيان ذلك أن الشفيع أثبت
ببينته إقرار المشتري بالشراء بألف وهذا عليه
والمشتري أثبت ببينته إقراره بالشراء بالغين
وهذا له وبه فارق البائع مع المشتري لأن هناك
كل واحد منهما صدر منه إقرار أن أحدهما ما
أثبته ببينة وهو له والآخر ما أثبته صاحبه وهو
عليه فاستويا من هذا الوجه فلهذا صرنا إلى
الترجيح بالزيادة والأولى أن نقرر هذا الكلام
من وجه آخر فنقول لا تنافي بين البينتين في حق
الشفيع ألا ترى أنه لو اشترى مرتين مرة بألف
ومرة بألفين كان للشفيع أن يأخذ بأيهما شاء
فعرفنا أنه لا تنافي بينهما في حقه.
والاشتغال بالترجيح عند تعذر العمل بهما أولى
فأما مع إمكان العمل بالبينتين فلا معنى
للمصير إلى الترجيح فيجعل في حق الشفيع كان
الشراءين جميعا ثابتان فله أن يأخذ بأيهما شاء
وهو نظير المولى مع العبد إذا اختلفا فقال
المولى قلت لك إذا أديت إلى ألفين فأنت
ج / 14 ص -86-
حر
وقال العبد قلت لي إذا أديت إلى ألفا فأنت حر
وأقاما البينة فإن البينة بينة العبد بهذا
الطريق وهو أنه لا منافاة بينهما في حقه فيجعل
كان الكلامين صدرا من المولى ويعتق العبد
بأداء أي المالين شاء بخلاف البائع مع المشتري
إذا اختلفا لأن هناك العمل بالبينتين غير ممكن
فالعقد الثاني في حقهما ناسخ للأول فلهذا صرنا
إلى الترجيح بالزيادة وكذلك إن اختلفوا جميعا
لأنه ما دام الاختلاف قائما بين البائع
والمشتري فلا معتبر باختلاف الشفيع وأما
الوكيل مع الموكلي إذا اختلفا فقد روى ابن
سماعة عن محمد أن البينة بينة الموكل لأن
الوكيل صدر منه إقرار إن كما بينا في ظاهر
الرواية فالوكيل مع الموكل كالبائع مع المشتري
ولهذا يجري التحالف بينهما عند الاختلاف في
الثمن وقد بينا العذر فيما إذا كان الاختلاف
بين البائع والمشتري فأما المولى القديم مع
المشتري من العدو إذا اختلفا فقد نص في السير
الكبير على أن البينة بينة المولى القديم ولم
يذكر فيه قول أبي يوسف لما بينهما من الوحشة
حين نص السير ولئن سلمنا فهناك العمل
بالبينتين غير ممكن في حق المولى القديم لأن
الشراء الثاني ناسخ للأول فصرنا إلى الترجيح
بالزيادة لهذا والطريقة التي حكاها أبو يوسف
إن بينة الشفيع ملزمة وبينة المشتري غير ملزمة
والبينتان للإلزام فالملزم من البينتين يترجح
كما في بينة العبد مع بينة المولى في مسألة
التعليق.
وبيان هذا أنه إذا قبلت بينة الشفيع وجب على
المشتري تسليم الدار إليه بألف شاء أو أبى
وإذا قبلت بينة المشتري لا يجب على الشفيع شيء
ولكنه يتخير بين أن يأخذ أو يترك وبه فارق
بينة البائع والمشتري لأن كل واحدة من
البينتين هناك ملزمة وكذلك بينة الوكيل مع
الموكل كل واحدة منهما ملزمة فلهذا صرنا إلى
الترجيح بالزيادة وفي مسألة المشتري مع العبد
من العدو ويقول على هذه الطريقة البينة بينة
المولى القديم لأنها ملزمة وبينة المشتري غير
ملزمة وإذا أخذ الشفيع الدار من المشتري
فعهدته وضمان ماله على المشتري لأنه يتملك
الدار عليه ويدفع الثمن إليه فهو في حقه
بمنزلة البائع مع المشتري.
فإن قيل حق الشفيع مقدم على حق المشتري شرعا
فينبغي أن يجعل أخذ الشفيع من يده بمنزلة
الاستحقاق عليه لأنه يأخذ بحق مقدم على حقه.
قلنا نعم حقه مقدم ولكن ثبوت حقه بالسبب الذي
يثبت به حق المشتري وهو الشراء إذ بأخذه لا
يبطل ذلك السبب بخلاف الاستحقاق بدعوى الملك
فإذا بقي السبب وتأكد بقبض المشتري لم يمكن أن
يجعل الشفيع متملكا على البائع لأنه لا ملك له
ولا يد حتى قضي له بالشفعة فلا بد أن يجعل
متملكا على المشتري مستحقا عليه يده فلهذا
كانت عهدته على المشتري كما لو اشتراها ابتداء
منه.
وإن أخذها من البائع ودفع الثمن إليه فعهدته
وضمان ماله على البائع عندنا وقال ابن أبي
ليلى عهدته على البائع في الوجهين جميعا لأن
الشفيع لما تقدم على المشتري قام مقامه ثم
عهدة المشتري على البائع فكذلك عهده الشفيع
وللشافعي قولان في أحد القولين: ليس
ج / 14 ص -87-
للشفيع
أن يأخذ من البائع ولكن البائع يسلمه إلى
المشتري وعهدته عليه لأنه يتملك على المشتري
بعوض والمبيع قبل القبض عنده لا يحتمل التملك
على المشتري بعوض عقارا كان أو منقولا وعلى
القول الآخر يأخذ من يد البائع وعهدته على
المشتري وإليه يدفع الثمن وهو رواية عن أبي
يوسف لأن حق الشفعة يثبت بالشراء فكان من حقوق
الشراء وما يكون من حقوق الشيء لا يكون ناسخا
له وكيف يكون أخذ الشفيع ناسخا للبيع وهو مبطل
حقه كما لو ظهر بطلان البيع من الأصل وإذا نفى
الشراء كان الشفيع متملكا على المشتري فعهدته
عليه كما لو أخذ من يده وعن أبي يوسف قال إن
كان المشتري نقد البائع الثمن فالشفيع يدفع
الثمن إلى المشتري وعهدته عليه لأن البائع لا
يتمكن من استيفاء الثمن مرتين وإن لم يكن
المشتري نقد البائع الثمن فالشفيع يدفع الثمن
إلى البائع ويسقط حق البائع من الثمن قبل
المشتري وعهدة الشفيع على البائع فأما وجه
ظاهر الرواية فهو أن حق الشفيع ثبت بالبيع قبل
ملك المشتري ويده ألا ترى أنه لو قال كنت بعت
هذه الدار من فلان وقال فلان ما اشتريت كان
للشفيع أن يأخذ بالشفعة لثبوت البيع بإقرار
البائع وإن لم يثبت ملك المشتري لإنكاره فإذا
ثبت تمكنه من الأخذ قبل ملك المشتري فقبل قبضه
أولى وإذا أخذ بالشفعة فات بأخذه الشفعة القبض
المستحق بالعقد في حق المشتري وذلك يوجب
انفساخ البيع كما لو هلك المبيع قبل القبض
وهذا لأن يد الشفيع لا يمكن جعلها نائبة عن يد
المشتري لتقدم حقه على حق المشتري بخلاف ما
إذا باعها المشتري من غيره لأن يد الثاني هناك
يمكن جعلها نائبة عن يد الأول فلا يفوت قبض
المشتري الأول معنى ثم أن حضر الشفيع والدار
في يد المشتري فهو الخصم للشفيع يأخذه من يده
ولا يشترط حضرة البائع لأن حكم العقد في حق
البائع قد انتهى بالتسليم إلى المشتري وصار هو
كأجنبي آخر فالشفيع بعد ذلك يستحق على المشتري
ملكه ويده وكان هو الخصم.
وإن كانت الدار في يد البائع فلا بد من حضرة
البائع والمشتري جميعا لخصومة الشفيع في الأخذ
لأن الملك للمشتري واليد للبائع والشفيع يريد
استحقاقهما جميعا فيشترط حضورهما لذلك ولأنه
لا بد من حضور البائع لأن الدار في يده
والشفيع لا يأخذ بالشفعة من غير من في يده
واحدة من يد البائع موجب انفساخ العقد بين
البائع والمشتري وذلك لا يتم إلا بمحضر من
المشتري فيشترط حضورهما لذلك وإذا أخذ الشفيع
من المشتري الدار بالشفعة وأراد أن يكتب عليه
كتب عليه نحو ما ذكره في الكتاب والمقصود من
الكتاب التوثق والاحتياط فالسبيل أن يكتب على
أحوط الوجوه ولهذا قال يكتب على إقراره كتابا
أنه كان اشتراها وإن هذا كان شفيعها فطلب
أخذها بالشفعة فسلمها إليه لشفعته فيها وقبض
منه الثمن ودفع إليه الدار وضمن له الدرك
وأشهد عليه الشهود ويأخذ أيضا من المشتري كتاب
الشراء الذي عنده فذلك أحوط له فإن أبى أن
يعطيه فله ذلك لأن القابض ملكه ثم الاحتياط
للشفيع أن يشهد على شهادة الشهود فيه حتى أذا
جحد البائع البيع يتمكن هو من إثبات حقه
ج / 14 ص -88-
بالحجة
وإن أخذ الدار من البائع كتب أيضا عليه نحو
ذلك وزاد فيه وقد سلم فلان بن فلان المشتري
جميع ما في هذا الكتاب وأجازه وأقر أنه لا حق
له في هذه الدار ولا في ثمنها وإن شاء كتب
الكتاب عليهما بتسليم الدار بالشفعة إليه وقبض
البائع الثمن برضاهما وضمان البائع الدرك لأنه
في الأخذ من يد البائع يحتاج إلى حضرتهما وكل
واحد منهما يصير مقتضيا عليه من وجه فأما أن
يكتب الكتاب عليهما أو على البائع ويذكر فيه
تسليم المشتري أيضا ليكون ذلك أحوط للشفيع.
وإذا اشترى دارا بألف درهم إلى سنة وطلبها
الشفيع إلى ذلك الأجل لم يكن له ذلك عندنا
وقال زفر والشافعي له ذلك لأن الأجل صفة الدين
يقال دين مؤجل ودين حال وللشفيع حق الأخذ
بالثمن الذي يملك به المشتري بصفته كما لو
اشتراه بألف زيوف ولكنا نقول الأجل مدة يلحقه
بالشرط بالعقد شرطا فلا يثبت في حق الشفيع
كالخيار وهذا لأن تأثير الأجل في تأخير
المطالبة وبه تبين أنه ليس بصفة للمال لأن
الثمن للبائع والأجل حق للمشتري على البائع
فكيف يكون صفة للثمن ثم الناس يتفاوتون في
ملاة الذمة فبرضا البائع يكون ماله في ذمة
المشتري لا يكون رضا منه بكونه في ذمة الشفيع
ولأن الشفيع يتملك بمثل ما يتملك به المشتري
من المال فلا يثبت الأجل في حقه من غير ذكر
كالمولى فإن من اشترى شيئا بثمن مؤجل ثم ولاه
غيره لا يثبت الأجل في حق المولى بدون الذكر
إذا ثبت هذا فنقول الشفيع بالخيار إن شاء
أخذها بالثمن حالا وإن شاء انتظر حلول الأجل
فإذا حل أخذها بالثمن حالا وإذا اختار
الانتظار فعليه أن يطلب الشفعة في الحال حتى
إذا لم يطلب لم يكن له أن يأخذها بعد حلول
الأجل في قول أبي حنيفة ومحمد وذكر ابن أبي
مالك أن أبا يوسف كان يقول هكذا أولا ثم رجع
فقال له أن يأخذها.
وجه ظاهر الرواية أن حقه في الشفعة قد ثبت
بدليل أنه لو أخذه بثمن حال كان له ذلك
والسكوت عن الطلب بعد ثبوت حقه يبطل شفعته
ووجه قول أبي يوسف الآخر أن الطلب غير مقصود
لعينه بل للآخذ وهو في الحال لا يتمكن من
الأخذ على الوجه الذي يطلبه لأنه إنما يريد
الأخذ بعد حلول الأجل أو بثمن مؤجل في الحال
ولا يتمكن من ذلك فلا فائدة في طلبه في الحال
وسكوته لأنه لم ير فيه فائدة لا لإعراضه عن
الأخذ وإن اختار أخذها من يد المشتري ودفع
إليه الثمن في الحال كان الثمن للبائع على
المشتري إلى أجله لتقرر العقد بينهما وإذا كان
للدار شفيعان فسلم أحدهما لم يكن للآخر إلا أن
يأخذها كلها أو يدعها لأن مزاحمة المسلم قد
زالت فكأنه لم يكن الشفيع في حقه إلا واحدا.
وليس للشفيع أن يأخذ البعض دون البعض لما في
الأخذ من تفريق الصفقة والإضرار بالمشتري في
تبعيض الملك عليه والشفيع بالأخذ يدفع الضرر
عن نفسه فلا يتمكن من الأخذ على وجه يكون فيه
إلحاق الضرر بغيره ثم حق كل واحد من الشفيعين
ثابت في جميع المبيع لتكامل العلة في حق كل
واحد منهما إلا أنهما إذا طلبا قضى القاضي لكل
واحد منهما بالنصف للمزاحمة ونفى الضيق
ج / 14 ص -89-
في
المحل فإذا سلم أحدهما قبل القضاء بقي حق
الآخر في الكل كما لو قتل رجلين عمدا فعفا عنه
ولى أحدهما كان للآخر أن يقتص منه لهذا
المعنى.
وإذا كان البائع اثنين في صفقة واحدة والمشتري
واحدا لم يكن للشفيع أن يأخذ بعضها دون بعض
وإن كان البائع واحدا والمشتري اثنين فله أن
يأخذ حصة أحدهما دون الآخر لأنه يأخذ ملك
المشتري بالشفعة فإن كان المشتري واحدا لو
تمكن من أخذ البعض تضرر به المشتري من حيث أنه
يتبعض عليه الملك وإذا كان المشتري اثنين
فإنما ملك كل واحد منهما النصف وليس في أخذ
الشفيع نصيب أحدهما إضرارا بالآخر يوضحه إن
أخذه لدفع ضرر الجار الحادث وبأخذ البعض عند
اتحاد المشتري لا يندفع ضرر مجاورته فعرفنا
أنه لم يقصد إلا الإضرار به وإن كان المشتري
اثنين فقد يكون أحدهما ممن ينتفع بجواره
والآخر ممن يتضرر بجواره فهو يقصد دفع ضرر جار
السوء بأخذ نصيب أحدهما.
وروى الحسن عن أبي حنيفة قال إذا كان البائع
اثنين فأراد الشفيع الأخذ قبل قبض المشتري فله
أن يأخذ نصيب أحد البائعين لأنه بالأخذ يتملك
على البائع ولهذا كانت عهدته على البائع
والملك في حق البائعين متفرق وبعد القبض إنما
يتملك على المشتري والملك في حقه مجتمع وإن
كان البائع واحدا والمشتري اثنين فقبل القبض
ليس له أن يأخذ نصيب أحد المشتريين لاجتماع
الملك في حق البائع وبعد القبض له ذلك ولكن
هذا قوله الأول فأما قوله الآخر كما ذكر في
الكتاب فإن المعتبر جانب المشتري قبل القبض
وبعد القبض ويستوى إن كان اشتراه لنفسه أو
لغيره فسره هشام عن محمد إن الواحد إذا اشترى
دار الرجلين فليس للشفيع أن يأخذ نصيب أحد
الأمرين ولو اشترى رجلان لواحد كان للشفيع أن
يأخذ بالشفعة النصف لأن المشتري اثنان والعاقد
لغيره في باب الشراء بمنزلة العاقد لنفسه في
أحكام العقد.
وإن كان البائع اثنين والمشتري واحدا فطلب
نصيب أحدالبائعين لم تبطل بذلك شفعته وله أن
يأخذها كله مقسومة كانت أو غير مقسومة لأنه ما
أعرض عن الطلب ولكنه أظهر الطلب والرغبة ثم
اشتغل بتقسيم لم يجعل الشرع له ذلك فيبطل
تقسيمه ويبقى حقه في جميع الدار يأخذه إن شاء
ولو أخبر الشفيع أن المشتري فلان فقال قد سلمت
له فإذا المشتري غيره فهو على شفعته لما بينا
أن الناس يتفاوتون في المجاورة فرضاه بمجاورة
إنسان لا يكون رضا منه بمجاورة غيره وهذا
التقيد منه مفيد كانه قال إن كان المشتري
فلانا فقد سلمت الشفعة فإذا تبين أن المشتري
غيره فهو على حقه وإن تبين أنه اشتراه فلان
وآخر معه صح تسليمه في نصيب فلان وهو على
شفعته في نصيب الآخر لأنه رضي بمجاورة أحدهما
فلا يكون ذلك منه رضا بمجاورة الآخر والبعض
معتبر بالكل.
ولو أخبر أن الثمن بألف درهم فسلم الشفعة فإن
كان أكثر من ألف فتسليمه صحيح وإن كان أقل فله
الشفعة عندنا وقال ابن أبي ليلى لا شفعة له في
الوجهين لأنه أسقط حقه بعد ما وجبت له الشفعة
ورضي بمجاورة هذا المشتري فلا يكون له أن يأتي
ذلك بعد الرضا به.
ج / 14 ص -90-
ولكنا
نقول: إنما أسقط حقه بشرط أن يكون الثمن ألف
درهم لأنه بنى تسليمه على ما أخبر به والخطاب
السابق كالمعاد فيما بنى عليه من الجواب فكأنه
قال سلمت إن كان الثمن ألفا وإنما أقدم على
هذا التسليم لغلاء الثمن أو لأنه لم يكن
متمكنا من تحصيل الألف ولا يزول هذا المعنى
إذا كان الثمن أكثر من ألف بل يزداد فأما إذا
كان الثمن أقل من الألف فقد انعدم المعنى الذي
كان لأجله رضي بالتسليم فيكون على حقه وهذا
لأن الأخذ بالشفعة شراء وقد يرغب المرء في
شراء شيء عند قلة الثمن ولا يرغب فيه عند كثرة
الثمن ولو سلم الشفعة قبل الشراء كان ذلك
باطلا لأن وجوب حقه بالشراء والإسقاط قبل وجود
سبب الوجود يكون لغوا كالإبراء عن الثمن قبل
البيع.
ولو أخبر أن الثمن شيء مما يكال أو يوزن فسلم
الشفعة فإذا الثمن من صنف آخر أقل مما يسمى له
أو أكثر فهو على شفعته لأن الإنسان قد يتيسر
عليه جنس دون جنس وكان هذا التقييد مفيدا في
حقه فكأنه قال سلمت إن كان الثمن كرا من شعيرا
فإذا ظهر أن الثمن كر من حنطة فهو على حقه لو
أخبر أن الثمن عبد أو ثوب أو دابة ثم ظهر أنه
كان مكيلا أو موزونا فهو شفعته لأن ما له مثل
من جنسه الشفيع يأخذ بمثل ما اشتراه المشتري
وفيما لا مثل له يأخذ بقيمته دراهم وقد يتيسر
عليه تحصيل جنس من المكيل والموزون ويتعذر
عليه تحصيل الدراهم فكان هذا التقييد مفيدا في
حقه.
ولو أخبر أن الثمن ألف درهم فسلم ثم تبين له
أن الثمن مائة دينار قيمتها ألف درهم أو أقل
أو أكثر فعندنا هو على شفعته إن كان قيمتها
أقل من الألف وإلا فتسليمه صحيح وعلى قول زفر
هو على شفعته على كل حال لأن الدراهم
والدنانير جنسان ولهذا حل التفاضل بينهما
فكأنه قال سلمت إن كان الثمن ألف درهم فإذا
تبين أن الثمن دنانير فهو على شفعته كما في
المكيلات والموزونات ولكنا نقول الدراهم
والدنانير جنسان صورة ولكنهما جنس واحد في
المعنى والمقصود هو المالية والثمنية ومبادلة
أحد النقدين بالآخر يتيسر في العادة فلا يتقيد
رضاه بالصورة وإنما يتقيد بالمعنى وهو مقدار
المالية فيكون تسليمه صحيحا إذا كانت مالية
الثمن أقل مما أخبر به وهذا لأن من لا يرغب في
شراء الشيء بألف درهم لا يرغب في شرائه أيضا
بمائة دينار قيمتها ألف درهم ومالا يكون مقيدا
من التقييد لا يعتبر.
ولو قيل له اشتراها بعبد أو ثياب قيمة ألف
درهم فسلم فإذا الثمن دراهم أو دنانير فهو على
شفعته لأن هذا التقييد مفيد في حقه لأنه وإن
كان يأخذها بالقيمة فقد يصير مغبونا في ذلك
لأن تقويم الشيء بالظن يكون قائما أقدم على
التسليم لهذا وينعدم هذا المعنى إذا كان الثمن
دراهم ولو قيل له أنه اشتراها بعبد قيمته ألف
درهم فسلم الشفعة فإذا قيمة العبد أكثر من ذلك
فلا شفعة له وإن كانت قيمته أقل من ألف درهم
فله الشفعة لأن الثمن إذا كان مما لا مثل له
من جنسه فإنما يأخذ الشفيع بقيمته فكان هذا في
حقه بمنزلة البيع بتلك القيمة فإذا كان لثمن
أقل مما أخبر به لم يكن هو راضيا بسقوط حقه.
ج / 14 ص -91-
وإذا
كانت الدار بين ثلاثة رجال إلا موضع بئر أو
طريق فيها فباع الشريك في الجميع نصيبه من
جميع الدار فالشريك الذي له في جميع الدار
نصيب أحق من الآخر الذي له في بعض الدار نصيب
لأن شركته أعم وقد بينا أن من يكون أقوى سببا
فهو مقدم في الاستحقاق ولأن الموضع الذي هو
مشترك بين البائع وبينه لاحق للثالث فيه وهو
موضع البئر أو الطريق لابد أن يكون هو أحق في
ذلك الموضع بالأخذ بالشفعة وذلك في حكم شيء
واحد فإذا صار أحدهم أحق بالتبعيض كان أحق
بالجميع وإن اختلفا البائع والمشتري والشفيع
في الثمن قبل نقد الثمن والدار مقبوضة أو غير
مقبوضة فالقول قول البائع في الثمن ويثبت حكم
التحالف بين البائع والمشتري بالنص وللشفيع أن
يأخذ بما قال البائع إن شاء لأن الشرع لما جعل
القول قول البائع ظهر مقدار الثمن في حقه
بخبره وإنما لم يظهر في إلزام المشتري وليس في
جانب الشفيع إلزام بل هو مخير فيأخذه بما قال
البائع إن شاء وإن كانت الدار في يد المشتري
فقال البائع بعتها بألف درهم واستوفيت الثمن
وقال المشتري اشتريتها بألفين فللشفيع أن يأخذ
بألف درهم ولو قال البائع بعتها إياه واستوفيت
الثمن وهو ألف درهم وقال المشتري اشتريتها
بألفين ونقدته الثمن لم يأخذها الشفيع إلا
بألفين لأن حكم البيع في حق البائع ينتهي
بوصول الثمن إليه فإذا بدا فأقر بجميع قبض
الثمن قبل أن يبين مقداره فقد انتهى حكم العقد
في حقه وصار هو كأجنبي آخر فلا قول له بعد ذلك
في بيان مقدار الثمن وبقي الاختلاف بين الشفيع
والمشتري فيكون القول قول المشتري فأما إذا
بدا ببيان مقدار الثمن قبل أن يقر بقبضه فقد
ظهر أن الثمن ذلك القدر بخبره لأن الشرع جعل
القول قوله ما لم يصل إليه الثمن وثبت للشفيع
حق الأخذ بذلك الثمن فلا يبطل ذلك عليه بإقرار
البائع بقبض الثمن بعد ذلك وهو نظير ما لو قال
الوصي استوفيت جميع ما للميت على غريمه فلان
وهو ألف درهم وقال الغريم بل كان علي ألف درهم
وقد أوفيتك جميع ذلك فالوصي ضامن للألفين ولا
شيء له على الغريم ولو قال استوفيت من الغريم
ألف درهم وهو جميع مال الميت عليه فقال فلان
كان على ألفا درهم وقد أوفيتك الكل فللوصي أن
يرجع عليه بألف أخرى والفرق ما بينا.
وفرع أبو يوسف رحمه الله في الأمالي على هذا
فقال: لو كانت الدار في يد البائع فقال بعتها
إياه بألف درهم واستوفيت الثمن وأخذها الشفيع
من يده بألف فالمشتري على حجته فيما بينه وبين
البائع يرجع عليه بألفين إن أثبت أن الثمن
ألفا درهم وهو صحيح لأن البيع انفسخ فيما بين
البائع والمشتري فيرجع بما أوفاه من الثمن ولو
قال البائع بعتها بألفين ولم أنقد إلا ألف
درهم ولم يأخذها المشتري ولا الشفيع إلا
بألفين لأن القول في إثبات مقدار الثمن قول
البائع ما لم يصل إليه كمال الثمن وإذا كان
البيع بألف درهم فحط البائع عن المشتري
تسعمائة فللشفيع أن يأخذها بمائة درهم عندنا
وعند الشافعي لا يأخذها إلا بالألف وأصل
المسألة في كتاب البيوع إن الزيادة والحط في
بعض الثمن يثبت على سبيل
ج / 14 ص -92-
الالتحاق بأصل العقد عندنا وعند الشافعي هو
بمنزلة الهبة المبتدأة فإذا كان عندنا الحط
يلتحق بأصل العقد فالمحطوط خرج من أن يكون
ثمنا وإنما ثمن الدار ما بقي فيأخذه الشفيع
بذلك.
ولو كان الشفيع أخذها بألف ثم حط البائع عن
المشتري تسعمائة فإنه ينحط ذلك القدر عن
الشفيع أيضا حتى يرجع بذلك القدر على المشتري
لأنه ظهر منه أنه أخذ منه فوق حقه وعلى هذا
قالوا لو أخبر أن الثمن ألف درهم فسلم الشفعة
ثم حط البائع عن المشتري مائة فهو على شفعته
لأن المحطوط خرج من أن يكون ثمنا فهو بمنزلة
ما لو تبين أن الثمن كان أقل من ألف ولو وهب
البائع الثمن كله للمشتري قبل قبضه أو بعده لم
يحط المشتري عن الشفيع شيئا لأن هبة جميع
الثمن لا تلتحق بأصل العقد فإن التحاق الحط
بأصل العقد ليدفع العين ويعتبر صفة العقد فيه
ليصير عدلا بعد أن كان رابحا أو خاسرا وهذا لا
يتحقق في هبة جميع الثمن لأن الإنسان لا يصير
مغبونا بجميع الثمن فعرفنا أنه مبتدأ يوضحه إن
حط جميع الثمن لو التحق بأصل العقد فإما أن
يصير العقد هبة ولا شفعة للشفيع في الهبة أو
يصير بيعا بغير ثمن فيكون فاسدا ولا شفعة في
البيع الفاسد فعرفنا أنه لا يمكن إلحاق الجميع
بأصل العقد في حق الشفيع بخلاف حط البعض فإن
زاد البائع المشتري في الثمن زيادة بعد العقد
أخذ الشفيع الدار بالثمن الأول لأنه قد استحق
أخذها بالثمن الأول قبل الزيادة والمشتري لا
يملك إبطال الحق الثابت له فلا يملك غيره
أيضا.
يوضحه أن بهذه الزيادة يلزم نفسه شيئا للبائع
ويلزم الشفيع مثل ذلك وله الولاية على نفسه
دون الشفيع فيعمل التزامه في حقه ولا يعمل في
حق الشفيع ألا ترى أنه لو جد بيعا مع البائع
بأكثر من الثمن الأول صح ذلك في حقه وكان
للشفيع أن يأخذ بالثمن الأول فقد فرق بين
الزيادة والحط في حق الشفيع وسوى بينهما في
بيع المرابحة غير مستحق على المشتري فليس في
التزامه الزيادة في حكم بيع المرابحة إبطال حق
مستحق عليه بخلاف الشفعة ولو باعها المشتري من
آخر بثمن أكثر من الثمن الأول كان للشفيع
الخيار لأن كل واحد من العقدين سبب تام لثبوت
حق الآخذ له بالشفعة فإن اختار الأخذ بالشراء
الثاني يأخذها من يد المشتري الثاني ولا يشترط
حضرة المشتري الأول وإن اختار الأخذ بالثمن
الأول بحكم الشراء الأول كان ذلك له لأن
المشتري الأول لا يمكن من إبطال حق الشفيع
بتصرفه وإذا أخذها بالشراء الأول دفع الثمن
إلى المشتري الأول وعهدته عليه ويرجع المشتري
الثاني على المشتري الأول وإنما أوفاه من
الثمن لأن البيع الثاني قد انفسخ فإن الشفيع
أخذها بحق مقدم على البيع الثاني ولم يشترط
حضرة المشتري الأول إذا أراد أخذها بالثمن
الأول في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف
لا يشترط وكذلك لو كان المشتري وهبها من إنسان
ثم حضر الشفيع فلا خصومة بينه وبين الموهوب له
في قول أبي حنيفة ومحمد حتى يحضر المشتري وعند
أبي يوسف هو خصم لأنه يدعي حقه في العين
ج / 14 ص -93-
الذي
يزعم ذو اليد أنه ملكه فيكون هو خصما له في
ذلك كما إذا ادعى ملك العين لنفسه وهما
يقولان: الشفيع لا يدعي حقا على الموهوب له
ولا في ملكه وإنما يدعي حقه على المشتري الأول
في ملكه فما لم يعد ملكه لا يتبين محل حقه
وإنما يعود ملكه إذا انفسخ العقد الثاني وفسخ
العقد عليه لا يجوز إلا بحضرته وتمام بيان هذه
المسألة في المأذون.
وكذلك لو تصرف المشتري في الدار تصرفا آخر بأن
رهنها أو تزوج عليها فللشفيع أن يبطل ذلك كله
ويأخذها بالشفعة الأولى وليس لأحد من هؤلاء
على الشفيع شيء من الثمن إنما الثمن للمشتري
الأول ولا يأخذ الشفيع الدار حتى ينقد الثمن
كما لا يأخذ المشتري الدار من البائع حتى
ينقده ثمنها ثم قد يبطل الرهن والهبة
بالاستحقاق وترجع المرأة على الزوج بقيمة
الدار لأن المسمى من الصداق قد استحق فإذا
اشترى الرجل شقصا من دار فقاسم شريكه بحكم أو
بغير حكم ثم حضر الشفيع كان له أن يأخذ ما
أصاب المشتري بالقسمة أو يتركه وليس له فسخ
القسمة لأن القسمة من تتمة القبض فالمقصود من
القبض الحياز وتمام الحيازة تكون بالقسمة وليس
للشفيع أن ينقض قبل المشتري فكذلك لا يكون له
أن ينقض قسمته ولأنه لو نقض القسمة احتاج إلى
إعادتها في الحال لأن البائع مطالب بالقسمة
ولا يشتغل بنقض شيء يحتاج إلى إعادته في
الحال.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه قال:
هذا إذا قسم بأمر القاضي فإن كانت القسمة
بينهما بالتراضي فللشفيع أن ينقض تلك القسمة
لأن في القسمة بالتراضي معنى المبادلة فهي
كتصرف آخر من المشتري فللشفيع أن ينقضه وقد
يفيده هذا النقض فربما يقع نصيبه في القسمة
الثانية فيما يجاوز ملكه فأما إذا كان القاضي
هو الذي قسم فليس في هذه القسمة معنى المبادلة
ولكنه تعين المبيع بقضاء القاضي وهو ما سلمه
إلى المشتري فيأخذ الشفيع ذلك من يده إن شاء
وإن شاء ترك وإذا قضي القاضي للشفيع بالشفعة
بثمن مسمى فهي لازمة لا يتخلص منها إلا برضا
المشتري أو يحدث في الدار عيب لأن بقضاء
القاضي ثبت الملك للشفيع بالثمن المسمى ويؤكد
فيكون حاله مع المشتري بمنزلة حال المشتري مع
البائع وبعد البيع ليس للمشتري أن يتخلص منها
إلا بالأقالة برضاء البائع أو بعيب يجده في
الدار فكذلك حال الشفيع فإن كانت في يد البائع
فقضي القاضي بها عليه ثم سأل البائع أن يقيله
فأقاله جازت الإقالة وهي للبائع وقد بريء منها
الشفيع والمشتري أما المشتري فلان البيع انفسخ
بينه وبين البائع حين قضى القاضي بها للشفيع
على البائع وأما الشفيع فلانه قام مقام
المشترى بعد ما قضى القاضي له بها بذلك البيع
وإقالة المشتري مع البائع كانت تصح قبل أخذ
الشفيع فكذلك إقالة الشفيع مع البائع توضيحه
أن الشفيع لما تقدم على المشتري في ثبوت الملك
له بالعقد الذي باشره المشتري صار المشتري في
معنى الوكيل له وإقالة الموكل مع البائع صحيحة
فكذلك إقالة الشفيع مع البائع وكذلك لو كانت
في يدي المشتري فقضى بها عليه ثم ردها الشفيع
على البائع فهو جائز والشفيع والمشتري بريان
منه في قول أبي حنيفة.
ج / 14 ص -94-
أما
على الطريق الثاني قد بينا أن الشفيع كالموكل
وإقالة الموكل مع البائع صحيحة في حق براءة
المشتري فكذلك إقالة الشفيع مع البائع وإن كان
أخذها من يد المشتري وأما على الطريق الأول
ففيه بعض الإشكال لأن أخذ الشفيع من يد
المشتري بمنزلة عقد مبتدإ فيما بينهما ولهذا
كانت عهدته على المشتري فينبغي أن لا تجوز
إقالة الشفيع مع البائع في حق براءة المشتري
حتى قال بعض مشايخنا هذه الإقالة بينهما في
حكم البيع المبتدإ فيجوز في قول أبي حنيفة رضي
الله عنه هذه الإقالة بينهما في حكم البيع
المبتدإ فيجوز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
الآخر وفي قول محمد وأبي يوسف الأول لا يجوز
بناء على اختلافهم في بيع العقار قبل القبض
وبتلك المسألة استشهد في الكتاب وقد بيناها في
كتاب البيوع.
ومنهم من يقول بل إقالة الشفيع مع البائع
صحيحة في حق الكل لأن عند اتفاقهم على هذه
الإقالة يتبعض حق المشتري ويصير كان الشفيع
أخذها من يد البائع ولأن حق الشفيع يثبت سابقا
على ملك المشتري عنده فإذا قضي القاضي بحقه
فملكه لا ينبني على ملك المشتري بل هو يقوم
مقام المشتري في الإقالة مع البائع وملك
الإقالة بملك المبيع لا بالعقد ألا نرى أن
الوارث يملك الإقالة بعد موت المورث لأنه
يخلفه في ملكه فإذا قام الشفيع مقام المشتري
في الملك بقضاء القاضي ملك الإقالة مع البائع
غير أن للمشتري لا يخرجها من يده حتى يرد عليه
البائع الثمن كما لو كان هو الذي أقاله بنفسه
وهذا لأنه بعد ما انفسخ عقده يكون حاله في
الحبس كحال البائع عند العقد وقد كان للبائع
أن يحبس المبيع حتى يستوفي الثمن فكذلك
المشتري بعد الفسخ حتى يرد عليه الثمن.
وإذا اشترى دارا لرجل غائب فللشفيع أن يأخذها
منه بالشفعة لأنها في يده وهو نائب عن الموكل
فيها ثم العاقد لغيره فيما هو من حقوق العقد
بمنزلة العاقد لنفسه وكذلك إن كان البائع
وكيلا لغائب فهو بمنزلة العاقد لنفسه فللشفيع
أن يأخذ الدار منه بالشفعة إذا كانت في يده
وكذلك إن كان البائع وصيا للميت لأن الورثة
إذا كانوا كبارا كلهم وليس على الميت دين ولم
يوص بشيء تباع فيه الدار حتى ينقد ذلك لم يجز
بيع الوصي لأن الملك للورثة وهم متمكنون من
النظر بأنفسهم وإن كان فيهم صبي صغير جاز بيع
الوصي في جميع الدار وكذلك إن كان عليه دين أو
أوصى بوصية من ثمن الدار وهو وهو استحسان ذهب
إليه أبو حنيفة وفي القياس لا يجوز بيعه إلا
في نصيب الصغير خاصة أو بقدر الدين والوصية
اعتبارا للبعض بالكل ولكن استحسن أبو حنيفة
فقال الولاية بالوصاية لا تتجزى فإذا ثبت في
بعض الدار ثبت في كلها وفي بيع الكل منفعة
لجميع الورثة فالجمل يشتري بما لا يشتري به
الأشقاص وإذا بلغ الشفيع شراء نصف الدار فسلم
الشفعة ثم علم أنه اشترى جميعها كان له الشفعة
لأن سلم النصف وكان حقه في أخذ الكل والكل غير
النصف فلا يكون إسقاط النصف إسقاطا للكل ولو
أخبر بيع الكل فسلم ثم علم أنه إنما اشترى
النصف فلا شفعة له لأن من ضرورة تسليم الكل
تسليم النصف الذي هو حقه يوضح الفرق أن
الأشقاص لا يرغب فيها كما يرغب
ج / 14 ص -95-
في
الجمل وإنما سلم حين أخبر بشراء النصف لأنه لم
يرغب فيه مع عيب الشركة فهو على حقه إذا تبين
له أنه لم يكن معيبا فأما إذا سلم ولم يرغب في
الأخذ بدون عيب الشركة فأولى أن لا يكون راغبا
فيه مع عيب الشركة.
وذكر عن أبي يوسف على ضد هذا فقال إذا أجبر
بشراء النصف فسلم ثم علم أنه اشترى الجميع فلا
شفعة له وإذا أخبر بشراء الجميع ثم علم أنه
اشترى النصف فله الشفعة لأنه قد يتمكن من
تحصيل ثمن النصف ولا يتمكن من تحصيل ثمن
الجميع وقد يكون له حاجة إلى النصف ليتم به
مرافق ملكه ولا يحتاج إلى الجميع.
وإذا اشترى الرجل دارا فعلم الشفيع وقال قد
سلمتها أو سلمت نصف الشفعة كان مسلما لجميعها
أما إذا سلم الكل فلأنه أسقط الحق بعد الوجوب
وأما إذا سلم النصف فلأن حق الشفعة لا يتجزى
ثبوتا واستيفاء فلا يتجزى إسقاطا أيضا وما لا
يتجزى فذكر بعضه كذكر كله كما لو طلق نصف
امرأته وعن أبي يوسف أن تسليم النصف لا يصح
لأنه لا حق له في أخذ النصف وإنما يعتبر
إسقاطه فيما له حق الاستيفاء فيه ولأن هذا منه
إظهارا لرغبة فيما يحتاج إليه من الدار وهو
النصف وإنما يسقط شفعته باعراضه عن الطلب لا
باظهار الرغبة فيه ولكن هذه الرواية فيما إذا
كان طلب أولا ثم سلم النصف أما إذا قال كما
سمع سلمت نصف الشفعة فلا شك أنه تسقط شفعته
كما لو سكت عن الطلب.
وإذا اشترى الرجل دارا فغرق بناؤها أو احترق
وبقيت الأرض لم يكن للشفيع أن يأخذها إلا
بجميع الثمن ولو أحرق البناء بيده فللشفيع أن
يأخذ الأرض بحصتها من الثمن إذا قسم الثمن على
قيمة الأرض وقيمة البناء وقت العقد وللشافعي
في الفصلين جميعا قولان في أحد القولين لا
يأخذ إلا بجميع الثمن وفي القول الآخر يأخذ
الأرض بحصتها في الوجهين وأصل المسألة في
البيوع فإن المذهب عندنا أن الثمن بمقابلة
الأصل دون الأوصاف حتى أن فوات الوصف في يد
البائع من غير صنع أحد لا يسقط شيئا من الثمن
وعند الشافعي يسقط في أحد القولين فكذلك فوات
الوصف في يد المشتري من غير صنع أحد لا يمنعه
من البيع مرابحة على جميع الثمن عندنا وعند
الشافعي يمنعه من ذلك ثم البناء وصف وبيع
ولهذا دخل في بيع الأرض من غير ذكر وهذا لأن
قوام البناء بالأرض كقيام الوصف بالموصوف فإذا
فات البناء من غير صنع أحد فقد فاته ما هو بيع
فلا يسقط شيء من الثمن فإذا فوته المشتري فقد
صار مقصودا يتناوله فلا بد من أن يكون بعض
الثمن بمقابلته كما لو فوت البائع طرف المبيع
قبل التسليم فيسقط حقه من الثمن عن الشفيع قال
ألا ترى أنه لو احترق منها جذع أوباب أو وهي
منها حائط كان له أن يبيعها مرابحة فكذلك
للشفيع أن يأخذها بجميع الثمن إن شاء.
وإن هدم البناء بيده ثم جاء الشفيع قسم الثمن
على قيمة الأرض وقيمة البناء يوم وقع الشراء
فيأخذ الأرض بحصتها من الثمن ولا حق له في
البناء لأنه قد زايل الأرض وهو في
ج / 14 ص -96-
نفسه
منقول لا يستحق بالشفعة وإنما كان ثبوت حقه
فيه لاتصاله بالأرض فإذا زال ذلك لم يكن له في
البناء حق ولو انهدم البناء بنفسه فإنه يقسم
الثمن على قيمة الأرض يوم وقع العقد وقيمة
النقص لأن الانهدام لم يكن بصنع المشتري
فالمعتبر هو الاحتباس عنده والمحتبس هو النقص
لأنه زايل البناء بخلاف الأول فهناك المشتري
هو الذي قسم البناء فلهذا قسمنا الثمن على
قيمة الأرض وقيمة البناء يوم وقع الشراء حتى
لو كانت الدار تساوي ألفا والثمن ألف وقيمة
النقص مائة وقيمة الأرض خمسمائة وقيمة التأليف
أربعمائة ففي الانهدام يسقط عنه قيمة النقص
وفي الهدم يأخذ بحصة الأرض لا غير وذلك
خمسمائة وكذلك إن كان المشتري قد استهلك
البناء وكذلك لو استهلكه أجنبي فأخذ المشتري
قيمته فأن سلامة بدل البناء للمشتري بمنزلة
سلامة البناء له أن لو هدم بيده ولم يذكر ما
إذا نوى القيمة على الذي هدم البناء.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الشفيع يأخذ الدار
بجميع الثمن إن شاء كما لو احترق البناء من
غير صنع أحد فإن خرج بعد ذلك ما على الذي هدم
البناء من القيمة رجع الشفيع على المشتري بحصة
البناء من الثمن فإن اختلفا في قيمته فالقول
قول المشتري لأن الشفيع يدعي عليه حقا بملك
الأرض بثلث الثمن والمشتري ينكر ذلك ويزعم أن
له حق التملك بنصف الثمن والقول في مثل هذا
قول المشتري مع يمينه كما لو اختلفا في مقدار
الثمن فإن أقاما البينة فعلى قول أبي يوسف
البينة بينة المشتري لإثبات الزيادة في قيمة
البناء كما هو مذهبه فيما إذا اختلفا في مقدار
الثمن وعلى الطريقة التي حكاها أبو يوسف عن
أبي حنيفة هناك البينة بينة الشفيع هنا لأنها
ملزمة دون بينة المشتري وعلى الطريقة التي
حكاها محمد هناك البينة بينة المشتري وهو قول
محمد لأن هناك إنما جعلنا البينة بينة الشفيع
باعتبار أن المشتري صدر منه إقرار إن ولا يوجد
ذلك المعنى هنا فبقي الاختلاف بينهما في قيمة
البناء وفي بينة المشتري إثبات الزيادة فكانت
أولى كذلك وإن اختلفا في قيمة الأرض يوم وقع
الشراء نظر إلى قيمته اليوم فيقسم الثمن
عليهما لأن الظاهر شاهد لمن يوافق قوله القيمة
في الحال ولأن تمييز الصادق من الكاذب بالرجوع
إلى قيمته في الحال ممكن فيستدل بقيمتها في
الحال على قيمتها فيما مضى.
وإذا اشترى دارا فوهب بناءها لرجل أو باعها
منه أو تزوج عليها وهدم لم يكن للشفيع على
البناء سبيل لأنه زايل الأرض وهو في نفسه
منقول فلا يستحق بالشفعة ولكن يأخذ الأرض
بحصتها من الثمن لأن هدم البناء كان بتسليط من
المشتري فهو كما لو هدم بنفسه وإن كان لم يهدم
فله أن يبطل تصرف المشتري ويأخذ الدار كلها
بجميع الثمن لأن حقه في البناء ما دام متصلا
بالأرض ثابت وللشفيع حق نقض تصرفات المشتري
ألا ترى أنه لو تصرف في الأصل والهبة كان
للشفيع أن ينقض ذلك ويأخذ بالشفعة فكذلك إذا
تصرف في البناء ولأنه يأخذ الكل بالشفعة بحق
تقدم ثبوت تصرف المشتري فهو بمنزلة الاستحقاق
في إبطال تصرف
ج / 14 ص -97-
المشتري فيه وإذا سلم الشفيع الشفعة للمشتري
وهو لا يعلم بالشراء فهو تسليم وإن صدقه
المشتري أنه لم يعلم لأنه صرح بإسقاط حقه بعد
الوجوب وعلمه بحقه ليس بشرط في صحة الإسقاط
باللفظ الموضوع له كالأبراء عن الدين وإيقاع
الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص وهذا بخلاف
ما إذا ساومه وهو لا يعلم أنه اشتراه لأن
المساومة غير موضوعة لإسقاط الشفعة وإنما تسقط
الشفعة بها لما فيها من دليل الرضا من الشفيع
ولا يتحقق ذلك إذا لم يعلم الشفيع به.
وإذا اتخذ المشتري الدار مسجدا ثم حضر الشفيع
كان له أن ينقض المسجد ويأخذ الدار بالشفعة
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه ليس له ذلك وهو
مذهب الحسن ووجهه أن المسجد يتحرر عن حقوق
العباد فيكون بمنزلة إعتاق العبد وحق الشفيع
لا يكون أقوى من حق المرتهن في المرهون ثم حق
المرتهن لا يمنع حق الراهن فكذلك حق الشفيع لا
يمنع صحة جعل الدار مسجدا ووجه ظاهر الرواية
أن للشفيع في هذه البقعة حقا مقدما على حق
المشتري وذلك يمنع صحة جعله مسجدا لأن المسجد
يكون لله تعالى خالصا ألا ترى أنه لو جعل جزأ
شائعا من داره مسجدا أو جعل وسط داره مسجدا لم
يجز ذلك لأنه لم يصر خالصا لله تعالى فكذلك ما
فيه حق الشفعة إذا جعله مسجدا وهذا لأنه في
معنى مسجد الضرار لأنه قصد الإضرار بالشفيع من
حيث إبطال حقه فإذا لم يصح ذلك كان للشفيع أن
يأخذ الدار بالشفعة ويرفع المشتري بناءه
المحدث.
ولو اشترى دارا فهدم بناءها ثم بنى فأعظم
المنفعة فإن الشفيع يأخذها بالشفعة ويقسم
الثمن على قيمة الأرض والبناء الذي كان فيها
يوم اشترى وتسقط حصة البناء لأن المشتري هو
الذي هدم البناء وينقض المشتري بناءه المحدث
عندنا وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن
الشفيع لا ينقض بناء المشتري ولكنه يأخذ
بالثمن وقيمة البناء مبنيا إن شاء وهو قول
الشافعي وجه قولهما أن المشتري بنى في ملك
صحيح له فلا ينقض بناؤه لحق الغير كالموهوب له
إذا بنى في الأرض الموهوبة وتأثير هذا الكلام
أنه محق في أصل البناء فيستحق قرار البناء إذ
ليس في إبقاء بنائه إبطال حق الشفيع فإنه
يتمكن من أخذه مبنيا بالشفعة ولو نقضنا بناءه
تضرر المشتري بإبطال ملكه ولو لم ينقض لا
يتضرر الشفيع بإبطال حقه وإن لزم الشفيع زيادة
ثمن قيمة فبمقابلته يدخل في ملكه ما يعد له
والضرر ببدل أهون من الضرر الذي يلحقه بغير
بدل فكان مراعاة جانب المشتري أولى ألا ترى
أنه لو زرع الأرض لم يكن للشفيع أن يقلع زرعه
لهذا والبناء تبع للأرض بمنزلة الصبغ في الثوب
ومن صبغ ثوب إنسان فأراد صاحب الثوب أن يأخذ
ثوبه كان عليه أن يعطي الصباغ ما زاد الصبغ
فيه وهذا بخلاف سائر تصرفات المشتري لأن في
إبقائها إبطال حق الشفيع فلذلك يمكن من نقضها.
وحجتنا في ذلك أنه بنى في بقعة غيره أحق بها
منه من غير تسليط من له الحق فينتقض عليه
بناؤه كالراهن إذا بنى في المرهون وبيان الوصف
أن حق الشفيع في هذه البقعة حق قوي
ج / 14 ص -98-
متأكد
وهو متقدم على حق المشتري وتصرف المشتري فيما
يرجع إلى الإضرار بالشفيع يكون باطلا لمراعات
حق الشفيع ويجعل ذلك لتصرفه في غير ملكه ألا
ترى أن تصرفه بالبيع والهبة ينقض هذا المعنى
فكذلك بناؤه وفي البناء هو مضر بالشفيع من حيث
إنه يلزمه زيادة في الثمن لم يرض هو بالتزامها
وهو مبطل للحق الثابت له يعني حق الأخذ بأصل
الثمن فلا ينفذ ذلك منه كما لا ينفذ سائر
التصرفات وهذا بخلاف المشتري شراء فاسدا إذا
بنى لأنه بنى هناك بتسليط من له الحق ثم حق
البائع في الاسترداد ضعيف لا يبقى بعد البناء
ألا ترى أنه لا يبقى بعد تصرف آخر من المشتري
بخلاف حق الشفيع وكذلك حق الواهب ضعيف لا يبقى
بعد تصرف الموهوب له بخلاف حق الشفيع
والاشتغال بالترجيح لدفع أعظم الضررين بالأهون
إنما يكون بعد المساواة في أصل الحق ولا
مساواة فحق الشفيع مقدم على حق المشتري ثم
البناء الذي يدخل في ملك الشفيع ربما لا يكون
موافقا له فيحتاج إلى مؤنة ذلك لرفع البناء ثم
يبني على الوجه الذي يوافقه وفي الزرع قياس
واستحسان في القياس بقلع زرعه وفي الاستحسان
لا يقلع لأن لإدراكه نهاية معلومة وليس في
الانتظار كثير ضرر على المشتري بخلاف الغراس
والبناء وأصله في المستعير يقلع بناؤه وغرسه
لحق المعير ولا يقلع زرعه استحسانا.
وإذا اشترى دارا فغرق نصفها فصار مثل الفرات
يجري فيه الماء ولا يستطاع رد ذلك عنها
فللشفيع أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن إن شاء
لأن حقه ثابت في الكل وقد تمكن من أخذ البعض
فيأخذه بحصته من الثمن اعتبارا للبعض بالكل
والشافعي في كتابه يدعي المناقضة علينا في هذا
الفصل ويقول إنهم زعموا أنه إذا احترق البناء
لم يسقط شيء من الثمن عن الشفيع وإذا غرق بعض
الأرض سقط حصته من الثمن فكأنهم اعتبروا فعل
الماء دون النار وإنما قال ذلك لقلة الفقه
والتأمل فإن البناء وصف وتبع وليس بمقابلة
الوصف شيء من الثمن إذا فات من غير صنع أحد
فأما بعض الأرض ليس يتبع للأرض فلا بد من
إسقاط حصة ما أغرق من الثمن عن الشفيع أو تأخر
ذلك إلى أن يتمكن من أخذه والانتفاع به فإن
قال المشتري ذهب منها الثلث وقال الشفيع ذهب
النصف فالقول قول المشتري ويأخذها الشفيع
بثلثي الثمن إن شاء فإن أقاما البينة فهذا
ومسألة قيمة البناء سواء في التخريج على ما
بينا.
وكذلك لو استحق رجل بعضها وسلم الشفعة وطلبها
الجار بالشفعة أخذ ما بقي بحصته من الثمن
والقول قول المشتري في مقدار المستحق من
الباقي لأن الشفيع يدعي حق التملك عليه في
الباقي بثمن ينكره المشتري ولا شفعة في الشراء
الفاسد لأن وجوب الشفعة تعتمد انقطاع حق
البائع وعند فساد البيع حق البائع لم ينقطع
ولأن في إثبات حق الأخذ للشفيع تقرير للبيع
الفاسد وهو معصية والتقرير على المعصية معصية
فإن سلمها المشتري للشفيع بالثمن الذي أخذها
به وسماه له جاز ذلك لأن التسليم بالشفعة سمى
بغير قضاء في حكم البيع
ج / 14 ص -99-
المبتدا ولو باعه المشتري ابتداء جاز بيعه
وكان عليه قيمة الدار فكذلك إذا سلمها للشفيع
ألا ترى أنه لو ورث دارا فسلمها للشفيع بألف
درهم كان ذلك بيعا منه ولو اشترى بيعا منقولا
فطلب الشفيع بالشفعة فسلم كان ذلك بيعا مبتدأ
فهذا مثله.
وإذا مات الشفيع بعد البيع قبل أن يأخذ
بالشفعة لم يكن لوارثه حق الأخذ بالشفعة عندنا
وعند الشافعي: له ذلك والكلام في هذه المسألة
نظير الكلام في خيار الشرط وقد بيناه في
البيوع فإن عنده كما تورث الإملاك فكذلك تورث
الحقوق اللازمة ما يعتاض عنها بالمال وما لا
يعتاض في ذلك سواء بطريق أن الوارث يقوم مقام
المورث وإن حاجة الوارث كحاجة المورث ونحن
نقول مجرد الرأي والمشيئة لا يتصور فيه الإرث
لأنه لا يبقى بعد موته ليخلفه الوارث فيه
والثابت له بالشفعة مجرد المشيئة بين أن يأخذ
أو يترك ثم السبب الذي به كان يأخذ بالشفعة
تزول بموته وهو ملكه وقيام السبب إلى وقت
الأخذ شرط لثبوت حق الأخذ له ألا ترى أنه لو
أزاله باختياره بأن باع ملكه قبل أن يأخذ
البعض المشفوع لم يكن له أن يأخذ بالشفعة
فكذلك إذا زال بموته والثابت للوارث جوازا أو
شركة حادثة بعد البيع فلا يستحق به الشفعة
وهذا لأن استحقاق الشفعة بسبب ينبني على صفة
الملكية ولهذا لايثبت حق الأخذ بالشفعة لجار
السكنى وصفة الملكية تتجدد للوارث بانتقال ملك
المورث إليه فلا يجوز أن يستحق الشفعة بهذا
السبب ولو كان بيع الدار بعد موته كان له فيها
الشفعة لأن الملك انتقل بالموت إلى الوارث
بسبب الاستحقاق وهو الجوار عند بيع الدار كان
للوارث والمعتبر قيام السبب عند البيع لا
قبله.
وإذا مات المشتري والشفيع حى فله الشفعة لأن
المستحق باق وبموت المستحق عليه لم يتغير سبب
الاستحقاق ولم يبع في دينه ووصيته لأن حق
الشفيع مقدم على حقه فيكون مقدما على حق من
ثبت حقه من جهته أيضا وهو الغريم والموصي له
فإن باعها القاضي أو الوصي في دين الميت
فللشفيع أن يبطل البيع ويأخذها بالشفعة كما لو
باعها المشتري في حياته ولا يقال بيع القاضي
حكم منه فكيف ينقضه الشفيع لأن القاضي إنما
باعها إما لجهله بحق الشفيع أو بناء على أنه
ربما لا يطلب الشفعة فإذا طلبها كان بيعه
باطلا ولأن هذا منه قضاء بخلاف الإجماع فقد
أجمعوا على أن للشفيع حق نقض تصرف المشتري
وإنما يبيعه القاضي في دين المشتري ووصيته
بطريق النيابة عنه وكذلك لو أوصى فيه بوصية
أخذها الشفيع وبطلت الوصية لأنه لو تبرع بها
في حياته بالهبة كان للشفيع أن يبطل ذلك كله
فكذلك إذا تبرع بها بعد موته بالوصية وإذا علم
الشفيع بالبيع فلم يطلب مكانه فلا شفعة له وفي
هذا اللفظ إشارة إلى أن طلب الشفعة يتوقت
بمجلس علم الشفيع به وهو اختيار الكرخي.
وذكر ابن رستم في نوادره عن محمد أنه إذا سكت
عن الطلب بعد ما علم بالبيع يبطل شفعته وعلى
هذا عامة مشايخنا إلا أن هشاما ذكر في نوادره
إنه إذا سكت هنيهة ثم طلب فهو على شفعته ما لم
يتطاول سكوته وكذلك قال كما إن سمع سبحان الله
أو قال: الله أكبر أو
ج / 14 ص -100-
قال خلصني الله من فلان ثم طلب الشفعة فهو على
شفعته وكذلك إذا قال بكم باعها أو متى باعها
أو متى اشتراها بهذا القدر من الكلام لا تبطل
شفعته وهو على حقه إذا طلب وقال ابن أبي ليلى
إن طالت إلى ثلاثة أيام فله الشفعة وقال سفيان
له مهلة يوم من حين سمع وقال شريك هو على
شفعته ما لم يبطلها صريحا أو دلالة بمنزلة
سائر الحقوق المستحقة له وابن أبي ليلى كان
يقول يحتاج الشفيع إلى النظر والتأمل حتى يعلم
أنه ينتفع بجوار هذا الجار فلا يطلب الشفعة أو
يتضرر به بطلت الشفعة ومثل هذا لا يوقف عليه
إلا بالتأمل فيه مدة فيجعل له من المدة ثلاثة
أيام بمنزلة خيار الشرط فلهذا قدرها سفيان
بيوم.
واستدل علماؤنا في ذلك بقوله صلى الله عليه
وسلم:
"الشفعة لمن وثبها" وفي رواية
"الشفعة كنشطة العقال إن أخذ بها ثبتت وإلا
ذهبت" ولأنه إذا سكت عن الطلب فذلك منه دليل الرضا بمجاورة الجار الحادث
ودليل الرضا كصريح الرضا ولو لم يجعل هذا منه
دليل الرضا تضرر به المشتري فإنه يسكت حتى
يتصرف المشتري فيه ثم يبطل تصرفه عليه وفيه من
الضرر ما لا يخفى إلا أن الكرخي جعل له المجلس
في ذلك لحاجته إلى الرأي والتأمل فهو كالمخيرة
لها الخيار ما دامت في مجلسها ولأن الشرع أوجب
له حق التملك ببدل ولو أوجب البائع له ذلك
بإيجاب البيع كان له خيار القبول ما دام في
مجلسه فهذا مثله ولفظة الطلب لم يذكرها في
الكتب والظاهر أنه بأي لفظ طلب فهو صحيح منه
كسائر الحقوق إلا أنه روى عن أبي يوسف أنه
يذكر في طلبه البيع والسبب الذي يطلب به
الشفعة من جوار أو شركة فإن طلبها فأبى
المشتري أن يدفعها إليه وخاصمه وأشهد الشفيع
شهودا على طلبه الشفعة كان على شفعته لأنه
أظهر بطلبه رغبته في الأخذ لدفع الضرر عن نفسه
فإذا علم بالبيع وهو بمحضر من المشتري فالجواب
واضح وكذلك إن كان بمحضر من الشهود ينبغي له
أن يشهدهم على طلبه ثم يتوجه إلى من في يده
الدار أو إلى موضع الدار فيشهد على الطلب أيضا
على ما نبينه إن شاء الله تعالى وكذلك لو لم
يكن بحضرته أحد حين سمع ينبغي له أن يطلب
الشفعة فالطلب صحيح من غير إشهاد والإشهاد
لمخافة الجحود فينبغي له أن يطلب حتى إذا حلفه
المشتري أمكنه أن يحلف أنه طلبها كما سمع ثم
يأتي إلى موضع الشهود فيشهدهم على الطلب ويسمى
هذا طلب المواثبة ثم يأتي إلى من في يده الدار
فيشهد على الطلب عنده أيضا ويسمى هذا طلب
التقرير وهو على حقه بعد هذا وإن طالت الخصومة
بينهما وإن أثبت ذلك في ديوان القاضي فهو أبلغ
في العذر فإن شغله شيء أو عرض له سفر بعد
إشهاده على طلب التقرير فهو على شفعته وهذا
قول أبي حنيفة وهو القياس لأن حقه قد تقرر
بالطلب فلا يسقط بعد ذلك إلا بإسقاطه صريحا أو
دلالة.
وعن محمد أنه إذا ترك ذلك شهرا بطلت شفعته
استحسانا لأنه لو لم يسقط حقه تضرر به المشتري
فإنه يتعذر عليه التصرف مخافة أن ينقض الشفيع
تصرفه والضرر مدفوع وإنما قدر ذلك بالشهر لأن
الشهر في حكم الأجل وما دونه عاجل بدليل مسألة
اليمين لتقصير حقه عاجلا
ج / 14 ص -101-
فقضاؤه فيما دون الشهر بر في يمينه وعن أبي
يوسف إذا ترك الخصومة في مجلس من مجالس القاضي
تبطل شفعته حتى إن كان القاضي يجلس في كل
ثلاثة أيام فإذا مضى مجلس من مجالسه ولم يخاصم
الشفيع فيه اختيارا بطلت شفعته وإن سلم الشفعة
على مال فالتسليم جائز ويرد المال على صاحبه
لأنه أسقط حقه مختارا ورضي بجواره ولكنه طمع
في غير مطمع وهو المال فإنه لا يستحق المال
إلا بمقابلة ملك له وحق الشفعة ليس بملك له
فلا يستوجب بمقابلة إسقاطه المال وتسليم
الشفعة لا تتعلق بالشرط فالشرط الفاسد وهو
المال فيه لا يمنع صحة التسليم أيضا وكذلك لو
باع شفعته بمال لأن البيع تمليك مال بمال وحق
الشفعة لا يحتمل التمليك فيصير كلامه عبارة عن
الإسقاط مجازا كبيع الزوج زوجته من نفسها وفي
الكتاب لا بل لا قيمة للشفعة على كل حال ولا
يجوز أن يؤخذ عنها مال بمنزلة الكفالة بالنفس
وقد بيناه في شرح كتاب الكفالة أنه لو أبرأ
الكفيل بالنفس على مال لا يجب المال وفي براءة
الكفيل هناك روايتان وإنما استشهد بالكفالة
لبيان أنه لا يستحق العوض عن الحق الذي ليس
بملك متقوم وهذا بخلاف الاعتياض عن ملك النكاح
في زوجته بالخلع وعن القصاص بالصلح وعن إسقاط
الرق بالعتق فذلك كله ملك متقرر له في المحل
شرعا وكما يجوز أن يلتزم العوض ليثبت الملك له
يجوز أن يأخذ العوض ليبطل ملكه فأما الشفيع
ليس يتملك على المشتري شيئا قبل الأخذ فتسلمه
الشفعة ترك التعرض منه للمالك في ملكه وليس
فيه إبطال ملك ثابت فلا يستحق بمقابلته عوضا
عليه ثم هذا على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يسلم على مال مسمى
والثاني: أن يصالح المشتري
على أن يأخذ منه نصف الدار بنصف الثمن فهذا
صحيح ويكون مسقطا لحقه فيما زاد على النصف
لأنه أخذ بعض حقه بما يخصه من البدل وذلك جائز
اعتبارا للبعض بالكل.
والثالث :لو صالحه على بيت
بعينه من الدار بحصته من الثمن فهذا الصلح
باطل لأن حصة البيت من الثمن غير معلومة وهو
على شفعته لأنه ما رضى بإسقاط حقه وإنما أظهر
الرغبة في أخذ مقدار ما يحتاج إليه من الدار
فكان على شفعته في جميع الدار.
ولو قضى القاضي للشفيع بالدار لشفعته ثم مات
قبل نقد الثمن وقبض الدار فالبيع لازم لورثته
لأن الشفيع يملكها ببدل بقضاء القاضي فكان
حكمه كحكم ما لو اشترى بنفسه وفي هذا إشارة
إلى أن القاضي يقضي له بشفعة قبل أن يحضر
الثمن وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف فأما محمد
لا يقضي له بالشفعة حتى يحضر الثمن لأن تمكنه
من الأخذ إذا أدى الثمن فلا يقضي القاضي له
بالملك قبل ذلك دفعا للضرر عن المشتري ولكنا
نقول ما لم يجب الثمن عاجلا لا يطالب بإحضاره
ووجوب الثمن عليه بقضاء القاضي له بالدار
فالقاضي يقضي له بحقه قبل إحضار الثمن ويجعل
المشتري أحق بإمساكها إلى أن يستوفي الثمن
فيدفع الدار إليه كما هو الحكم فيما بين
البائع والمشتري.
ج / 14 ص -102-
وإذا اشترى دارا والشفيع غائب فعلم بالشراء
فله من الأجل بعد العلم على قدر المسير ومعنى
هذا أنه كما علم بالبيع ينبغي له أن يطلب
الشفعة ويشهد على الطلب والغيبة لا تمنع صحة
الإشهاد على الطلب كما لا يمنع ثبوت حقه ثم
بعد الإشهاد حاله كحال الحاضر فكما أن هناك
عليه أن يتوجه إلى من في يده الدار من غير
تأخير ليطلب عنده فهنا عليه أن يتوجه أو يبعث
نائبا عنه من غير تأخير ولكن لبعد المسافة
يحتاج إلى مهلة هنا فلهذا جعل له الأخذ بقدر
المشتري وكما يتمكن من استيفاء حقه بنفسه
يتمكن من ذلك بنائبه وربما لا يتمكن من أن
يتوجه بنفسه لعذر له في ذلك فيكون له أن يبعث
من يطلب فإذا مضى ذلك الأجل قبل أن يطلب أو
يبعث من يطلب فلا شفعة له فإن قدم فطلب فتغيب
المشتري عنه أو خرج من البلد فأشهد على طلب
الشفعة فهو على شفعته وإن طالت مدة ذلك لأنه
أتى بما كان مستحقا عليه في طلب التقرير إذ
ليس في وسعه أن يتبع المشتري فربما لا يظفر به
أو يلحقه ضرر عظيم فيه فإذا ظهر المشتري ببلد
ليس فيه الدار فليس على الشفيع أن يطلبه في
غير البلد الذي فيه الدار لأنه لا فائدة في
اتباعه فإنه لا يتمكن من الأخذ إلا في البلد
الذي فيه الدار فإذا حضر هذا البلد فقد أتى
بما كان يحق عليه ثم المشتري قصد أن يلحقه
زيادة ضرر حين هرب منه فرد عليه قصده ويكون
الشفيع على حقه إذا رجع المشتري وإذا اشترى من
امرأة فأراد أن يشهد عليها فلم يجد من يعرفها
إلا من لهم الشفعة فإن شهادتهم لا تجوز عليها
إن أنكرت ذلك بعد أن يطلبوا الشفعة وإن سلموا
الشفعة جازت شهادتهم عليها لأن في إثبات البيع
عليها إثبات حقهم ما لم يسلموا الشفعة وكانوا
خصما في ذلك والخصم في الحادثة لا يكون شاهدا
فيها.
وإذا اشترى دارا والقاضي شفيعها أو ابنه أو
أبوه أو زوجته فإن قضاءه لا يجوز لأحد من
هؤلاء لأن ولاية القضاء فوق ولاية الشهادة
فإذا لم تجز شهادته لنفسه أو لأحد من هؤلاء
فكذلك قضاؤه وإذا قضي القاضي للشفيع بالشفعة
فسأله المشتري أن يردها عليه على أن يزيده في
الثمن كذا ففعل ذلك فردها عليه فإن ذلك رد لا
يكون له الزيادة لأن هذا بمنزلة الإقالة ومن
أصل أبي حنيفة أن الإقالة فسخ بالثمن الأول
وما سمى فيها من زيادة أو جنس آخر من الثمن
فهو باطل لأن الإقالة لا تتعلق بالجائز من
الشروط وهو تسمية الثمن فالفاسد من الشرط في
الثمن لا يبطله وعلى قول محمد الإقالة فسخ إذا
كان بالثمن الأول أو أقل منه فإن كان بأكثر من
الثمن الأول أو بجنس آخر سوى الثمن الأول فهو
بيع مبتدأ إذا أمكن وإذا تعذر الإمكان كان
فسخا بالثمن الأول ولا إمكان ها هنا بجعل
الإقالة بيعا مبتدأ مع تسميتها زيادة في الثمن
لأن الشفيع لم يقبض الدار بعد ومن أصل محمد أن
بيع المبيع قبل القبض لا يجوز من البائع ولا
من غيره العقار والمنقول في ذلك سواء وكذلك في
قول أبي يوسف الأول فأما على قول الآخر بيع
العقار قبل القبض جائز ومن أصله أن الإقالة
بمنزلة البيع المبتدأ إذا أمكن وهنا يمكن جعله
بيعا مبتدأ وإن لم يكن قبض فلهذا كان له
الزيادة عند أبي يوسف،
ج / 14 ص -103-
والذي يقول في الكتاب إذا كان قد قبض قبل
المناقضة بناء على قوله الأول فأما على قوله
الآخر لا يعتبر بهذا الشرط وكذلك لو طلب إليه
المشتري أن يسلمه للبائع على أن يرد عليه من
الثمن شيئا مسمى لأنه إقالة وقد بينا أن إقالة
الشفيع كما تجوز مع المشتري تجوز مع البائع
لأنه قام مقام المشتري بعد ما قضى القاضي له
بالشفعة والله تعالى أعلم بالصواب.
باب الشهادة في الشفعة
قال رحمه الله: ولا تجوز
شهادة الشفيعين بالبيع على البائع الجاحد إن
طلبا الشفعة لأنهما يشهدان لأنفسهما فبثبوت
البيع ثبت حقهما في الشفعة وإن سلماها جازت
شهادتهما للمشتري لانتفاء التهمة عن شهادتهما
بعد تسليم الشفيع فإنهما يثبتان سبب الملك
للمشتري ولا شفعة لهما في ذلك بعد ما سلما
الشفعة وإن جحد المشتري الشراء والدعاه البائع
لم تجز شهادتهما أيضا إن طلبا الشفعة لأنهما
يثبتان لأنفسهما حق الأخذ على المشتري وإلزام
العهدة إياه إذا أخذا من يده فلا تقبل
شهادتهما غير أنهما يأخذانها بإقرار البائع
لأن إقراره بالبيع موجب حق الشفعة للشفيع وإن
جحده المشتري كما لو قال كنت بعت هذه الدار من
فلان وجحد المشتري وحلف كان للشفيع أن يأخذها
بالشفعة ولو شهد ابنا الشفيع أو أبوه أو
إمرإته بذلك كانت الشهادة باطلة لأنه يثبت
بشهادته الحق للشفيع وهو متهم في حقه بالولادة
أو الزوجية فيكون كالمتهم في حق نفسه وإن شهد
ولد الشفيع ووالده على الشفيع بالتسليم جازت
شهادتهما لانتفاء التهمة فإنهما أسقطا حق
الشفيع بهذه الشهادة ولا يتهم الإنسان
بالإضرار بولده أو والده والقصد إسقاط حقه.
وكذلك شهادة المولى على مكاتبه وعبده المأذون
بالتسليم جائزة لانتفاء التهمة من وجه كشهادته
على نفسه وشهادة المرء على نفسه من أصدق
الشهادات وإن شهد المولى على البيع والعبد
والمكاتب يطلبان الشفعة لم تجز شهادته لأن كسب
العبد لمولاه وله في كسب مكاتبه حق الملك
فشهادته بما يوجب الشفعة لعبده أو مكاتبه
بمنزلة شهادته لنفسه فكذلك شهادة ولد المولى
ووالده لما فيها من الحق للولي.
وإذا كانت الدار لثلاثة نفر فشهد اثنان منهم
أنهم جميعا باعوها من فلان وادعى ذلك فلان
وجحد الشريك لم تجز شهادتهم على الشريك لأنهما
بهذه الشهادة يثبتان صفة اللزوم في بيعهما فإن
للمشتري حق الفسخ إذا لم يثبت البيع في نصيب
الثالث لأنهما يشهدان على فعل باشراه فإنهم
باشروا البيع صفقة واحدة وهم في ذلك كشخص واحد
والإنسان فيما يباشر يكون خصما لا شاهدا
وللشفيع أن يأخذ ثلثي الدار بالشفعة لأن البيع
في نصيبهما ثبت بإقرارهما وإن أنكر المشتري
الشراء وأقر به الشركاء جميعا فشهادتهم أيضا
باطلة لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم ويثبتون
الثمن لهم في ذمة المشتري وللشفيع أن يأخذ
الدار كلها بالشفعة لثبوت البيع في جميعها عند
إقرارهم بذلك ولا شفعة للوكيل فيما باع لأن
البائع لغيره في حكم العقد كالبائع لنفسه ولا
شفعة للبائع فإن أخذه بالشفعة يكون سعيا في
نقض ما قد تم
ج / 14 ص -104-
به وهو الملك واليد للمشتري ومن سعى في نقض ما
قد تم به يبطل سعيه ولأنه لو ثبت له حق الشفعة
امتنع من تسليمها إلى المشتري بعد ما التزم
ذلك بالعقد يكون حق الشفيع مقدما وكذلك لا
شفعة لمن بيع له وهو الموكل لأن تمام البيع به
فإنه لولا توكيله ما جاز البيع فإن شهد الآمر
بالبيع مع أجنبي أن المشتري ردها على البائع
بالشفعة لم تجز شهادة الآمر في ذلك لكونه
متهما في شهادته فالمشتري قبل هذا إذا وجد بها
عيبا ردها على الوكيل وكان ذلك ردا على الموكل
ويمتنع ذلك إذا قبلت شهادته على أنه ردها على
البائع بالشفعة فيكون في هذا تبعيد الخصومة
عنه لأن البائع لما لم يكن له الشفعة فيردها
عليه كابتداء البيع منه وشهادة الآمر بالبيع
على المشتري أنه باعها من غيره لا تقبل فأما
الوكيل بالشراء له أن يأخذ ما اشترى بالشفعة
لأن شراءه لغيره كشرائه لنفسه وشراؤه لنفسه لا
يكون إبطالا للشفعة حتى إن أحد الشفعاء إذا
اشترى الدار فهو على شفعته فيها يظهر ذلك عند
مزاحمة الآخرين فكذلك شراؤه لغيره وهذا لأن
الشفعة إنما تبطل بإظهار الشفيع الرغبة عن
الدار لا بإظهار الرغبة فيها والشراء إظهار
الرغبة في المشتري فلا يكون إبطالا للشفعة
ولأن البائع يلتزم العهدة بالبيع فلو أخذ
بالشفعة كان مبطلا ما التزم به من العهدة
والمشتري يلتزم الثمن بالشراء وهو بالأخذ
بالشفعة يقرر ما التزم بالشراء.
ولو شهد ابنا الشفيع أنه قد سلم الشفعة لم تجز
شهادتهما لأنهما يشهدان لأبيهما بتقرر الملك
واليد فيها.
وإذا باع الرجل دارا وله عبد تاجر هو شفيعها
فإن كان عليه دين فله الشفعة وإن لم يكن عليه
دين فلا شفعة له لأن ماله لمولاه إذا لم يكن
عليه دين وكما أن البائع لا يأخذ ما باع
بالشفعة فكذلك عبده لا يأخذ وإذا كان عليه دين
فالغرماء أحق بكسبه وللغرماء حق الأخذ بالشفعة
في هذه الدار فكذلك للعبد أن يأخذ بالشفعة
يوضحه أن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء
وشراءالعبد من مولاه إذا لم يكن عليه دين باطل
بخلاف ما إذا كان عليه دين فكذلك حكم الأخذ
بالشفعة وعلى هذا لو باع العبد ومولاه شفيعها
فإن لم يكن عليه دين فلا شفعة للمولى لأن بيع
العبد وقع له وإن كان عليه دين فله الشفعة لأن
بيعه كان لغرمائه والمولى من كسب عبده المديون
كسائر الأجانب فإن شهد إبنا المولى على العبد
أنه سلم الدار للمولى بالشفعة فشهادتهما باطلة
لأنهما يشهدان لأبيهما بالملك واليد في الدار.
قال وكذلك لو شهدا عليه بتسليم الشفعة في
الوجه الأول والدار في يد المولى البائع لأن
للعبد حق الأخذ بالشفعة من يده فهما يشهدان
بما يسقط حقه عن أبيهما فكانا متهمين في ذلك
وإذا باع المولى داره ومكاتبه شفيعها فله
الشفعة لأنه لا حق للمكاتب في ملك مولاه وهو
في البيع الذي باشره مولاه كأجنبي آخر وإن شهد
أبنا المولى أن المكاتب سلم الشفعة للمشتري
فشهادتهما باطلة لأنهما لو شهدا عليه بتسليم
الشفعة حين كانت الدار في يد المولى لم تكن
شهادتهما مقبولة فكذلك إذا شهدا به بعد ما
سلمها إلى المشتري وقيل تأويل هذه
ج / 14 ص -105-
المسألة أن الدار في يد البائع بعد فشهدا على
المكاتب بأنه سلم الشفعة للمشتري ليسقط حقه به
في الأخذ من أبيهما فأما إذا كانت الدار في يد
المشتري فالشهادة تقبل لخلوها عن التهمة فقد
خرج أبوهما من خصومة الشفيع بتسليمها إلى
المشتري وإن كان البائع المكاتب ومولاه شفيعها
والدار في يد البائع كان له الشفعة لأنه من
كسب مكاتبه أبعد منه من كسب العبد المديون وقد
بينا هناك أنه يستحقها بالشفعة فهنا أولى فإن
شهد ابنا المولى أنه سلم الشفعة للمشتري جازت
شهادتهما لأنهما يشهدان على أبيهما بإسقاط
حقه.
فإن قيل: الدار في يد المكاتب فهما يشهدان في
المعنى لمكاتب أبيهما وشهادتهما لمكاتب أبيهما
وعبد أبيهما لا تقبل.
قلنا: نعم ولكن هذا إذا لم يكن المشهود عليه
الأب فأما إذا كان المشهود عليه الأب فلا
تتمكن التهمة في شهادتهما ألا ترى أن شهادتهما
لمكاتب أبيهما بدين على أبيهما تقبل وعلى
الأجنبي لا تقبل وهذا لأنهما يؤثران مكاتب
أبيهما على الأجنبي لا على أبيهما.
وإذا باع الرجل دارا فشهد ابنا البائع أن
الشفيع سلم الشفعة للمشتري فشهادتهما باطلة
لأن أباهما خصم فيه ما دامت الدار في يده
وللشفيع أن يأخذها منه ويلزمه العهدة فهما
يشهدان لأبيهما وإن كان المشتري قد قبض الدار
فخاصمه الشفيع ثم شهد الابنان بذلك جازت
شهادتهما لأن الأب خرج من هذه الخصومة
بتسليمها إلى المشتري فهما يشهدان للمولى على
الشفيع.
فإن قيل: أليس أن البائع لو يشهد على الشفيع
بذلك بعد ما سلمها إلى المشتري لم تقبل شهادته
كما قبل التسليم فكذلك ابنا البائع.
قلنا: امتناع قبول شهادته يكون خصما فيه ومن
كان خصما في حادثة مرة لا تقبل شهادته فيها
وإن خرج من الخصومة فأما امتناع قبول شهادة
إلابنين لمنفعة أبيهما في المشهود به وذلك قبل
أن يسلمها إلى المشتري فأما بعد التسليم فلا
منفعة لأبيهما فقبلت شهادتهما بذلك وكذلك
العبد والمكاتب إذا باعا دارا وقبضها المشتري
ثم شهد ابنا المولى على الشفيع بالتسليم فهو
جائز لأن الأب لو كان هو البائع كانت شهادتهما
مقبولة فإذا كان العبد والمكاتب هو البائع
أولى أن تقبل الشهادة وبهذه المسألة يتضح ما
بينا من التأويل في المسألة الأولى.
وإذا شهد رجلان للبائع والمشتري على الشفيع
أنه قد سلم الشفعة وشهد رجلان للشفيع أن
البائع والمشتري سلما الدار قضيت بها للذي هي
في يده وهذا بمنزلة رجلين اختصما في دار كل
واحد منهما يدعي أنه اشتراها من صاحبه بألف
درهم ونقد الثمن فأني أقضي بها للذي هي في يده
وهذه مسألة التهاتر وقد بينا في كتاب الدعوى
أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف تتهاتر البينتان
وعند محمد يقضي بالبينتين بحسب الإمكان فمن
أصحابنا من يقول مسألة الشفعة على الخلاف أيضا
وإن لم ينص عليه لأن كل واحد منهما يثبت بينة
الملك لنفسه على صاحبه بسبب يصرح به شهوده.
ج / 14 ص -106-
قال الشيخ الإمام: والأصح عندي أن جواب مسألة
الشفعة قولهم جميعا وإن هذا ليس نظير مسألة
التهاتر فإن هناك محمد يقضي بالبينتين بتاريخ
بينة بين الشراءين واليد دليل ذلك التاريخ ولا
يتأتى مثل ذلك هنا وأبو حنيفة وأبو يوسف
يقولان بالتهاتر لأن كل واحد منهما يثبت إقرار
صاحبه بالملك له وكل بائع مقر بوقوع الملك
للمشتري وذلك لا يوجد هنا فالشفيع بتسليم
الشفعة لا يصير مقرى بالملك للبائع ولا
للمشتري ولكن وجه هذه المسألة أن تسليم
المشتري الدار بالشفعة للشفيع يحتمل الفسخ
وتسليم الشفيع الشفعة لا يحتمل الفسخ بحال
فإنه بعد ما سلم الشفعة لا يعود حقه وإن اتفقا
عليه والبينتان متى تعارضتا وأحداهما تحتمل
الفسخ والأخرى لا تحتمل الفسخ كما لا يحتمل
الفسخ يترجح كما لو أقام البينة على أنه اشترى
هذا العبد من مولاه وأقام العبد البينة إن
مولاه أعتقه يوضحه إنما يجعل كأن الأمرين كانا
فإن كان الشفيع سلم الشفعة أولا ثم سلمها
المشتري له فما لم يخرجه من يده لا يتم
التسليم وبعد الإخراج يكون هذا بمنزلة البيع
المبتدإ فيقضي بها للشفيع إذا كانت في يديه
وإن كان المشتري سلمها إلى الشفيع أولا وقبضها
الشفيع ثم سلم شفعته فتسليمه باطل لأن استيفاء
حقه قد تم فلهذا قضى بالدار لذي اليد.
وإن كان المشتري قد قبض الدار فشهد ابنا
البائع أن المشتري قد سلمها للشفيع وهي في يدي
المشتري وشهدا أجنبيان ان الشفيع قد سلمها
للمشتري فإني أسلمها للمشتري واختيار شهادة
الشهود على تسليم الشفعة لوجهين:
أحدهما: ما بينا أن تسليم
الشفعة لا يحتمل الفسخ بخلاف تسليم الدار إلى
الشفيع.
والثاني: إن بنى البائع
يتهمان في شهادتهما بتبعيد الخصومة والعهدة عن
أبيهما لأن المشتري يخاصم أباهما في عيب يجده
بالدار قبل أن يسلمها إلى الشفيع ولا يخاصمه
في ذلك بعد ما سلمها بالشفعة إلى الشفيع فلهذا
لا تقبل شهادة ابني البائع هنا.
وإذا سلم الشفيع الشفعة ثم وجد المشتري بالدار
عيبا بعد ما قبضها فردها بغير قضاء قاض أو قال
البائع البيع في الدار بغير عيب كان للشفيع أن
يأخذها بالشفعة قبل القبض وبعده عندنا.
وقال زفر: ليس له أن يأخذها لأنه سلمها ولم
يتجدد حقه بما أخذنا من السبب لأن وجوب الشفعة
يختص بمعاوضة مال بمال ابتداء والرد بالعيب
والإقالة فسخ للعقد وليس بمعاوضة مبتدأة ولا
يجوز أن يقال يجعل ذلك كبيع مبتدأ لأن التصرف
إنما يصح على قصد المتصرف وهما قصدا الفسخ لا
العقد ولكنا نقول الإقالة والرد بالعيب بغير
قضاء القاضي بمنزلة البيع المبتدأ في حق
غيرهما لأنه تم بتراضيهما في محلين كل واحد
منهما مال متقوم ولا صورة للمعاوضة إلا هذا
غير أنهما سمياه فسخا ولهما الولاية على
أنفسهما فكان فسخا في حقهما ولا ولاية لهما
على غيرهما فكان بمنزلة ابتداء المعاوضة في حق
غيرهما فيتجدد به حق الشفيع وإن كان ردها
بالعيب بقضاء قاض لم يكن للشفيع فيها شفعة لأن
قضاء القاضي
ج / 14 ص -107-
بالرد فسخ وليس بعقد فإن للقاضي ولاية فسخ
العقد الذي جرى بينهما لا إنشاء العقد وكذلك
إن لم يكن قبضها المشترى حتى ردها بالعيب
بقضاء أو بغير قضاء فلا شفعة فيها لأن الرد
قبل القبض فسخ من كل وجه ألا ترى أن الراد
ينفرد به من غير أن يحتاج إلى رضاء أو قضاء
القاضي فهو نظير الرد بخيار الرؤية أو خيار
الشرط.
والحرف الذي تدور عليه هذه المسائل أنه متى
عاد بالرد إلى قديم ملك البائع لا يتجدد
للشفيع الشفعة لأن حقه لم يكن ثابتا في قديم
ملكه وإذا لم يعد إلى قديم ملكه كان هذا في
معنى ملك حدث له بسبب مبتدأ فيتجدد به حق
الشفيع والرد بعد القبض بالعيب أو بالإقالة
بهذه الصفة حتى لو كان موهوبا لا يرجع فيه
الواهب ولو كان مشترى شراء فاسدا لا يسترده
البائع بخلاف الرد بخيار الشرط والرؤية قبل
القبض أو بعده بقضاء القاضي.
وإذا كان لرجل على رجل دين يقربه أو يجحده
فصالحه من ذلك على دار أو اشترى منه دارا
وقبضها فللشفيع فيها الشفعة أما في الشراء
فلأنه صار مقرى بالدين حين أقدم على الشراء به
وفي الصلح المذهب عندنا أن الصلح على الإنكار
مبني على زعم المدعى في حقه وفي زعمه أنه ملك
الدار بعوض هو مال فللشفيع أن يأخذها بالشفعة
بناء على زعم المدعى فأن أختلف هو والشفيع في
مبلغ ذلك الدين وحبسه فهو بمنزلة اختلاف
المشتري والشفيع في الثمن وقد بينا ذلك ولا
يلتفت إلى قول الذي كان عليه الحق لأنه صار
قابضا لما عليه بدينه وقد بينا أن البائع بعد
ما قبض الثمن لا قول له في بيان المقدار.
وإذا أقر الرجل أنه اشترى دارا بألف درهم
فأخذها الشفيع بذلك ثم ادعي البائع أن الثمن
الفان وأقام البينة فإنه يؤخذ ببينته لأنه
يثبت بها حقه ويرجع الشفيع على المشتري بألف
أخرى لأن الشفيع إنما يأخذها بالألف الذي سلمت
به للمشتري وقد تبين أنها سلمت له بألفين ولا
معتبر بإقرار المشتري أن الثمن كان ألف درهم
لأنه صار مكذبا في اقراره بقضاء القاضي فيسقط
اعتبار اقراره كمن أقر بعين لإنسان واشتراه
منه ثم استحق من يده ما أثبته يرجع على البائع
بالثمن وكذلك لو ادعى البائع أنه باعها إياه
بمائتي دينار أو عرض بعينه قيمته أكثر من ألف
درهم وأقام البينة فإنه يقضي له بذلك على
المشتري ويسلم الدار للشفيع بذلك فيحسب له
المشتري بقدر ما قبض منه ويرجع بالفضل عليه
وإن كان قيمته أقل من ألف رجع الشفيع على
المشتري بالفضل على قيمة العرض لأن الواجب
للمشتري على الشفيع قيمة العرض الذي وقع
الشراء به وقد تبين أنه أخذ منه أكثر من ذلك
فيلزمه رد الفضل.
وإذا اختلف البائع والمشتري في ثمن الدار
تحالفا ويبدأ باليمين على المشتري وقد بينا
هذا في البيوع فأيهما نكل عن اليمين وجب البيع
بذلك الثمن ويأخذها الشفيع به وإن اختلفا تراد
البيع وأخذها الشفيع بما قال البائع إن شاء
لأنهما اتفقا على صحة البيع بينهما وثبوت حق
الأخذ للشفيع فلا يبطل ذلك بفسخ البيع بينهما
بالتحالف ألا ترى أن المشتري بعد التحالف لو
صدق البائع كان أحق بالدار بما ادعاه البائع
من الثمن فكذلك الشفيع إذا صدق البائع وإن
ج / 14 ص -108-
أقاما جميعا البينة كانت البينة بينة البائع
ويأخذها الشفيع به وقد بينا فرق أبي حنيفة
ومحمد بين هذا وبين ما إذا كان الاختلاف بين
المشتري والشفيع وكذلك لو ما ادعى البائع أن
الثمن كانت هذه الدار فقال المشتري بل
اشتريتها بهذا العرض وأقاما البينة فبينة
البائع أولى بالقبول لأنه يثبت به حق نفسه فإن
كان الشفيع شفيعا للدارين جميعا أخذ كل واحدة
منهما بقيمة الأخرى لأن المعاوضة في الدارين
تثبت بقضاء القاضي فهو كالثابت بالمعاينة ولو
كان لكل واحد منهما شفع أخذها بقيمة الأخرى
فكذلك إذا اتخذ شفيعهما.
وإن كان للدار شفيعان فشهد شاهدان أن إحداهما
قد سلم الشفعة ولا يدريان أيهما هو فشهادتهما
باطلة لأن المشهود عليه مجهول ولا يتمكن
القاضي من القضاء على المجهول ولأنهما ضيعا
شهادتهما فإنهما عند التحمل إنما تحملا
الشهادة على معلوم فإذا لم يعرفاه كان ذلك
منهما تضييعا للشهادة وإن كان أحد الشفيعين
غائبا كان للحاضر أن يأخذ جميع الدار لأن حق
كل واحد منهما ثابت في جميع الدار ولأن حق
الحاضر قد تأكد بالطلب ولا ندري أن الغائب
يطلب حقه أو لا يطلب فلا يجوز أن يتأخر حق
الحاضر بغيبة الآخر ولا يتمكن من أخذ البعض
لما فيه من الأضرار بالمشتري من حيث تبعيض
الملك عليه فقلنا بأنه يأخذ أو يدع وإذا أراد
أن يأخذ النصف ورضي المشتري بذلك فله ذلك لأن
المانع حق المشتري وإن قال المشتري لا أعطيك
إلا النصف كان له أن يأخذ الكل لما بينا أن
حقه ثابت في جميع الدار وأكثر ما في الباب أن
الغائب قد سلم له شفعته فللحاضر أن يأخذ الكل.
وإذا كفل للمشتري كفيل بالدرك فأخذ الشفيع
الدار منه بالشفعة ونوى الثمن عليه لم يكن
للمشتري على كفيل الدرك سبيل لأن المشتري ما
لحقه فيها درك فالدرك هو الاستحقاق بحق متقدم
على البيع وذلك لا يوجد عند أخذ الشفيع
بالشفعة وإن لحق الشفيع درك لم يكن له على
الذي كفل للمشتري بالدرك سبيل لأنه ضمن
للمشتري الدرك والشفيع غير المشتري والضامن
لإنسان شيئا لا يكون ضامنا لغيره والدليل على
أن الأخذ بالشفعة ليس بدرك أن المشتري لو كان
بنى فيها فنقض الشفيع بناءه لم يكن له أن يرجع
على البائع بقيمة البناء بخلاف ما إذا استحقها
مستحق.
وإذا كفل رجلان للمشتري بالدرك ثم شهدا عليه
بتسليم الدار إلى الشفيع بالشفعة فشهادتهما
باطلة لأن الكفيل بالدرك بمنزلة البائع وقد
بينا أن شهادة البائع بذلك غير مقبولة ولا
شهادة إبنيه فكذلك شهادة الكفيلين بالدرك
وشهادة ابنيهما وهذا لأنهما ينقلان العهدة عن
أنفسهما بهذه الشهادة وكذلك أن شهدا أن الشفيع
سلم الشفعة فهما بمنزلة البائعين في ذلك لا
تقبل شهادتهما لأن صحة الشراء وتمام الملك
للمشتري كان بقبولهما ضمان الدرك فهما بهذه
الشهادة يقران ما يصح بهما وإذا أشهد الشفيع
شهودا أنه يأخذها بالشفعة ولم يجئ إلى المشتري
ولا البائع ولا إلى الدار ولم يطلبها فلا شفعة
له لأنه ترك الطلب المقرر لحقه بعد ما تمكن
منه ولو ترك طلب المواثبة بعد ما تمكن منه سقط
حقه فهنا أولى فإن شهد على
ج / 14 ص -109-
الطلب قبلهما ولم يسم له الثمن فهو بالخيار
إذا علم للثمن ليكشف الحال له عند ذلك ولأن
بمجرد الطلب لا يتم الأخذ وهو على خياره ما لم
يتم أخذه بالشفعة.
وإذا شهد البائعان على المشتري أن الشفيع قد
طلب الشفعة حين علم بالشراء والشفيع مقر أنه
علم به منذ أيام وقال المشتري ما طلب الشفعة
فشهادة البائعين باطلة وكذلك شهادة أولادهما
كما لو شهدا على المشتري بتسليم الدار إلى
الشفيع وهذا لأنهما يقرران حق الشفيع في الأخذ
وفيه تنفيذ العهدة والخصومة عنهما وإن قال
الشفيع لم أعلم بالشراء إلا الساعة فالقول
قوله مع يمينه لأن علمه بالشراء حادث فعلى من
ادعى تاريخا سابقا فيه أن يثبته بالبينة وهو
منكر للتاريخ فالقول قوله مع يمينه فإن شهد
البائعان أنه علم منذ أيام فشهادتهما باطلة إن
كانت الدار في أيديهما أو في يد المشتري لأن
هذا في المعنى شهادة على الشفيع بتسليم الشفعة
وقد بينا أن البائع لا يكون شاهدا في هذا أما
لأنه خصم فيه أو لأنه كان خصما فيه في وقت.
وإذا كان الشفعاء ثلاثة فشهد اثنان منهم على
أحدهم إنه قد سلم الشفعة فإن قال قد سلمناها
معه فشهادتهما جائزة لخلوها عن التهمة فيها
وإن قال نحن نطلب فشهادتهما باطلة لأنهما
متهمان فيها وإنما يدفعان بشهادتهما مزاحمة
الثالث معهما وإن قالا قد سلمناها معه ولابن
أحدهما شفعة أو لابنه أو لمكاتبه أو لزوجته
فشهادتهما باطلة لأنه متهم في حق هؤلاء كما في
حق نفسه وكما لا تقبل شهادته إذا زال بها
المزاحمة عن نفسه فكذلك لا تقبل إذا زال
المزاحمة عن مكاتبه أو ابنه لأنه يجر إليهما
بشهادته منفعة والله أعلم
باب الشفعة بالعروض
قال رحمه الله: وإذا اشترى دارا بعبد بعينه
فللشفيع أن يأخذها بالشفعة بقيمة العبد عندنا
وقال أهل المدينة يأخذها بقيمة الدار لأن
المبيع مضمون بنفسه أو بما يقابله من المسمى
وقد تعذر هنا إيجاب المسمى في حق الشفيع لأنه
لا مثل له من جنسه فوجب المصير إلى الضمان
الأصلي وهو قيمة نفسه ولأن دفع الضرر من
الجانبين واجب وإنما يندفع الضرر عن المشتري
بوصول قيمة ملكه إليه وملكه عند الأخذ رقبة
الدار وحجتنا في ذلك أن الشفيع يتملك بمثل ما
يملك به المشتري والمثل أما أن يكون من حيث
الصورة أو في معنى المالية فإذا كان الثمن مما
له مثل من جنسه يأخذه بمثله صورة وإن كان مما
لا مثل له من جنسه يأخذه بمثله في صفة المالية
وهو القيمة كالغاصب عند تعذر رد العين برد
المثل فيما له مثل والقيمة فيما لا مثل له
توضيحه أنه إن أخذها من المشتري فقد صار
متقدما عليه في تملكها بهذا السبب وفي معنى
التلف على المشتري ما غرم فإنما يأخذها بما
غرم من الثمن وإن أخذها من البائع فقد صار
متلفا حقه فيما استوجب قبل المشتري من الثمن
ولو أتلف ذلك حقيقة ضمن المثل فيما له مثل
والقيمة فيما لا مثل له فكذلك هنا فإن مات
العبد قبل أن يقبضه البائع انتقض الشراء لفوات
القبض المستحق بالعقد فإن العبد معقود عليه
وقد
ج / 14 ص -110-
هلك قبل التسليم وللشفيع أن يأخذها بقيمة
العبد عندنا وقال زفر ليس له أن يأخذها
بالشفعة لأن العقد انتقض من الأصل بهلاك العبد
قبل التسليم فيكون بمنزلة ما لو انتقض من
استحقاقه وهذا لأنه لو كان العقد فاسدا في
الابتداء لم يجب فيها للشفيع الشفعة فكذلك إذا
فسد بهلاك المعقود عليه قبل التسليم ولأن
المقصود بالأخذ دفع ضرر الجار الحادث وقد
اندفع ضرره حين بطل البيع وحجتنا في ذلك أن
بدل الدار في حق الشفيع قيمة العبد وهو قادر
على أخذها به بعد هلاك العبد كما قبله وليس في
هلاك العبد إلا انفساخ البيع بين البائع
والمشتري وذلك لا يمنع بقاء حق الشفيع على ما
بينا أنه يتمكن من أخذها من البائع وأن يضمن
ذلك فسخ البيع بينه وبين المشتري وهذا لأن
البيع مثبت حق الشفيع وبقاؤه ليس بشرط لبقاء
حق الشفيع ألا ترى أنهما لو تقابلا لا يبطل به
حق الشفيع وهذا بخلاف الاستحقاق فإنه يتبين به
أن أصل البيع لم يكن صحيحا وأن حقه لم يثبت
وكذلك إذا تبين فساد البيع من أصله فأما ها
هنا بهلاك العبد لا يتبين أن حق الشفيع لم يكن
ثابتا ولا يتعذر عليه الأخذ بما هو البدل في
حقه وكذلك أن أبطل البائع البيع بعيب وجده
بالعبد وإن لم يكن شيء من ذلك وأخذ الشفيع
الدار من البائع أخذها بقيمة العبد والعبد
لصاحبه لا سبيل للبائع عليه لأن العقد قد
انفسخ بين البائع والمشتري بأخذ الشفيع من يد
البائع فيبقى العبد على ملكه لأن خروجه عن
ملكه كان بحكم البيع ولأن بدل الدار وهو قيمة
العبد قد سلم للبائع من جهة الشفيع فلا يبطل
حقه في بدل آخر فإنه لا يستوجب بدلين عن ملك
واحد.
وإن أخذها من المشتري بقيمة العبد بقضاء أو
بغير قضاء ثم مات العبد قبل القبض أو دخله عيب
فإن القيمة للبائع وعلى قول زفر ان كان أخذها
بقضاء القاضي فالدار ترد على البائع وقيمة
العبد على الشفيع وإن كان أخذها بغير قضاء
فعلى المشتري قيمة الدار للبائع لأن بموت
العبد قبل القبض انفسخ العقد بين البائع
والمشتري فبقيت الدار في يد المشتري بحكم عقد
فاسد وقد تعذر عليه رد عينها حين أخرجها من
ملكه باختياره فيلزمه قيمتها كالمشتراة شراء
فاسدا ولكنا نقول لما مات العبد قبل القبض وجب
على المشتري رد الدار على البائع وقد تعذر
ردها فيجب رد مثلها ومثلها بحكم العقد قيمة
العبد يوضحه أن حق البائع بالعقد كان في العبد
أو في قيمته بدليل أن الشفيع يأخذها من البائع
بقيمته وقد قدر المشتري على تسليم القيمة التي
هي حقه عند أخذ الشفيع فلا يلزمه شيء آخر وهذا
لأن دفع الضرر عن المشتري واجب وربما تكون
الدار قيمتها عشرة آلاف وقيمة العبد ألف فإنما
سلم للمشتري مقدار الألف درهم فإذا لزمه
للبائع عشرة آلاف كان عليه في ذلك من الضرر ما
لا يخفى وتسليمها بالشفعة إلى الشفيع لا يكون
بمنزلة البيع منه ألا ترى أنه فعل بدون القاضي
غير ما يأمر به القاضي لو رفع الأمر إليه فكما
لا يجعل بيعا مبتدأ إذا أخذ ما كان واجبا له
من الشفعة بقضاء القاضي فكذلك إذا أخذ بغير
قضاء.
ولو استحق العبد بطلت الشفعة لأن بالاستحقاق
يتبين بطلان البيع من الأصل ويأخذ
ج / 14 ص -111-
البائع الدار من الشفيع إن كان المشتري دفعها
إليه بقضاء قاض وإن كان دفعها بغير قضاء قاض
فقضاء قاض بقيمة العبد وسماها وقبضها الشفيع
فهذا بمنزلة البيع فيما بينهما وهي جائزة
للشفيع بتلك القيمة لأن بدل المستحق يملك
بالقبض وتصرف المشتري فيه باعتبار ملكه نافذ
وقد بينا أن في الموضع الذي لا تكون الشفعة
واجبة يجعل التسليم بغير قضاء بمنزلة المبيع
المبتدأ بخلاف ما تقدم فقد كانت الشفعة هناك
واجبة حين أخذها الشفيع فلهذا جعلنا القضاء
وغير القضاء هناك سواء وفرقنا بينهما هنا ثم
على المشتري للبائع قيمة الدار لأنه لما استحق
العبد وجب عليه رد ما قبض من الدار وقد تعذر
ردها باخراجه إياها عن ملكه باختياره فيلزمه
قيمتها وكذلك لو كان المشتري باع الدار ووهبها
وقبضها الموهوب له أو تزوج عليها ثم استحق
العبد ضمن قيمة الدار لأنه كان مالكا للدار
حين التصرف فنفذ تصرفه ثم لزمه رد عينها حين
استحق العبد وقد تعذر عليه ذلك فيلزمه رد
قيمتها.
وإذا اشترى دارا بعرض بعينه وتقابضا فاختلف
الشفيع والمشتري في قيمة العرض فإن كان قائما
بعينه يقوم في الحال فيتبين بقيمته في الحال
قيمته عند العقد وإن كان هالكا فالقول فيها
قول المشتري لأنهما اختلفا في مقدار ما يلزم
الشفيع من الثمن وإن أقاما البينة فعلى طريقة
أبي يوسف عن أبي حنيفة البينة بينة الشفيع
لأنها ملزمة وبينة المشتري غير ملزمة وعلى
قياس طريقة محمد عن أبي حنيفة البينة بينة
المشتري في هذه المسألة وهو قول أبي يوسف
ومحمد لأن ما صدر من المشتري ها هنا اقراران
وهذا نظير ما إذا اختلفا في قيمة البناء الذي
أحرقه المشتري وإن اشتراها بشيء مما يكال أو
يوزن أخذها الشفيع بمثله من جنسه لأن الشفيع
يأخذ بمثل الثمن الأول وللمكيل والموزون مثل
من جنسه كما في ضمان الاتلاف وإن اشترى دارا
بعبد ثم وجد بالعبد عيبا فرده أخذها الشفيع
بقيمة العبد صحيحا لأن العبد دخل في العقد
بصفة السلامة وإنما يقوم في حق الشفيع على
الوجه الذي صار مستحقا بالعقد ولو اشترى عبدا
بدار فهذا وشراء الدار بالعبد سواء لأن كل
واحد منهما معقود عليه فلا فرق بين أن يضيف
العقد إلى العبد أو إلى الدار.
وإذا اشترى بناء دار على أن يعلقه فلا شفعة
فيه من قبل أنه لم يشتر معه الأرض والبناء
بدون الأرض منقولا ولا يستحق المنقول بالشفعة
وهذا لأن حق الشفيع يثبت لدفع الضرر البادي
بسوء المجاورة على الدوام وذلك لا يتحقق في
شراء البناء بدون الأرض فإن اتصال أحد الملكين
بالآخر لا يكون اتصال تأييد وقرار والدليل
عليه أنه إنما يستحق بالشفعة ما يستحق به
الشفعة وبملك البناء بدون الأرض لا يستحق
بالشفعة فأما من له بناء على أرض موقوفة إذا
بيعت دار بحبسه لا يستحق الشفعة فكذلك لا
يستحق البناء بالشفعة إلا تبعا للأرض وكذلك لو
اشترى نصيب البائع من البناء وهو النصف فلا
شفعة في هذا والبيع فيه فاسد لأنه يريد أن
ينقضه والشريك يتضرر به فإن قسمته لا تتأتى ما
لم ينقض الكل وفيه من الضرر على الشريك ما لا
يخفي وكذلك لو كان البناء كله لإنسان فباع
نصفه لأنه لا يقدر على
ج / 14 ص -112-
التسليم إلا بضرر يلحقه فيما ليس بمبيع وذلك
مفسد للبيع كما لو باع جذعا في سقف.
وإذا أراد أن يشتري دارا بخادم فخاف عليها
الشفيع وقيمة الخادم ألف درهم فباع الخادم
بألفين من رب الدار ثم اشترى الدار بالألفين
لم يأخذها الشفيع إلا بالألفين لأن المشتري
يملك الدار بألفين فبذلك يأخذها الشفيع إن شاء
وهذا نوع حيلة لتقليل رغبة الشفيع في الأخذ
لسبب كثرة الثمن ومن ذلك أن يشتري الدار
بالفين ثم يعطيه بها خمسين دينارا أو يعطيه
ألف درهم وثوبا لا يساوي الألف فلا يتمكن
الشفيع من أخذها إلا بالفين وقل ما يرغب في
ذلك إذا كان ثمنها ألف درهم ومن هذا النوع
يحتال لتقليل رغبه الجار بإن تباع عشر الدار
أولا بتسعة أعشار الثمن ثم تسعة أعشارها بعشر
الثمن فلا يرغب الجار في أخذ العشر لكثرة
الثمن ولا حق له فيما بقي لأن المشتري صار
شريكا والشريك مقدم على الجار ومن الحيلة
لابطال حقه أن يتصدق البائع بقطعة من الدار
صغيرة وطريقها إلى باب الدار عليه فيسلمها
إليه ثم يشتري منه بقية الدار فلا شفعة للجار
لأن المشتري شريك في الطريق وهو مقدم على
الجار أو يهب منه قدر ذراع من الجانب الذي هو
متصل بملك الجار ثم يبيع ما بقى منه فلا يجب
للجار شفعة لأن ملكه لا يلازق المبيع أو يوكل
الشفيع ببيعها فإذا باعها لم يكن له فيها شفعة
أو يبيعها بشرط الخيار ثلاثة أيام للشفيع فلا
شفعة له قبل أسقاط الخيار وإذا سقط الخيار
بطلت شفعته أو يبيعها بشرط أن يضمن الشفيع
الدرك فإذا ضمن بطلت شفعته أو يقول المشتري
للشفيع أنا أبيعها منك بأقل من هذا الثمن فإذا
رضى بذلك وساومه بطلت شفعته والاشتغال بهذه
الحيل لا بطال حق الشفيع لا بأس به أما قبل
وجوب الشفعة فلا إشكال فيه وكذلك بعد الوجوب
إذا لم يكن قصد المشتري الإضرار به وإنما كان
قصده الدفع عن ملك نفسه وقيل هذا قول أبي يوسف
فأما عند محمد يكره ذلك على قياس اختلافهم في
الاحتيال لاسقاط الإبراء وللمنع من وجوب
الزكاة وقد بينا ذلك في البيوع والزكاة.
وإن اشترى دارا بعبد فاستحقه مستحق وأجاز
الشراء كان للشفيع الشفعة لأن الإجازة في
الانتهاء كالأذن في الابتداء ولو وجد العبد
حرا فلا شفعة فيها لأن البيع كان باطلا والحر
ليس بمال متقوم والبيع مبادلة مال بمال
فانعدام المالية في أحد البدلين يمنع انعقاد
العقد.
وإذا اشترى دارا بدار ولكل واحدة منهما شفيع
فلكل شفيع أن يأخذ الدار بقيمة الآخرى لأنه لا
مثل للدار من جنسها فيكون الواجب على كل شفيع
بمقابلة ما يأخذ قيمة الدار الأخرى فإن كان
أحد الرجلين شفيعا أيضا يعني أحد المشتريين
أخذ الشفيع نصف الدار بنصف القيمة لأن إقدامه
على الشراء لا يسقط شفعته بل ذلك منه بمنزلة
الأخذ بالشفعة فلا يكون للشفيع الآخر أن يأخذ
منه إلا مقدار حصته وإذا اشترى بيتا من دار
علوه لآخر وطريق البيت الذي اشترى في دار أخرى
فإنما الشفعة للذي في داره الطريق لأنه شريك
في البقعة بالطريق والشريك مقدم على الجار
وصاحب العلو إنما له الشفعة بالجوار فإن سلم
صاحب
ج / 14 ص -113-
الدار فحينئذ لصاحب العلو الشفعة بالجوار وعن
أبي يوسف في الأمالي إن هذا استحسان وفي
القياس لا شفعة لصاحب العلو وكذلك إذا بيع
العلو فلا شفعة لصاحب السفل في القياس ولا
لصاحب علو آخر بجنبه لأن العلو بناء وقد بينا
أن بالبناء لا يستحق بالشفعة إذا لم يكن معه
أرض والأرض وسقف السفل كله لصاحب السفل ووجه
الاستحسان أن لصاحب العلو حق قرار البناء وبه
يستحق اتصال أحد الملكين بالآخر على وجه
التأييد والقرار فكانا بمنزلة جارين بخلاف ملك
البناء على الأراضي الموقوفة فإن الاتصال هناك
غير متأيد ألا ترى أن عند انقضاء مدة الإجارة
يؤمر برفع البناء وهنا ليس لصاحب السفل أن
يكلف صاحب العلو رفع البناء بحال واتصال أحد
الملكين بالآخر بهذه الصفة يثبت للشفيع الشفعة
والله أعلم.
باب الشفعة في الأرضين والأنهار
قال رحمه الله: والشريك
في الأرض أحق بالشفعة من الشريك في الشرب كما
أن الشريك في نفس المنزل أحق بالشفعة من
الشريك في الطريق لقول علي وابن عباس رضي الله
عنهما لا منفعة إلا لشريك لم يقاسم يعني عند
وجوده لا شفعة إلا له ثم الشرب من حقوق المبيع
كالطريق وقد جاء الحديث في استحقاق الشفعة
بالشريك في الطريق قال صلى الله عليه وسلم
"إذا كان طريقهما واحدا" فكذلك يستحق بالشركة
في الشرب والشريك في الشرب أحق بالشفعة من
الجار كالشريك في الطريق قال والشركاء في
النهر الصغير كل من له شرب أحق من الجار
الملاصق وإن كان نهرا كبيرا تجرى فيه السفن
فالجار أحق لأن هؤلاء ليسوا شركاء في الشرب
معنى هذا القول أن الشركة في الشرب بمنزلة
الشركة في الطريق ففي النهر الصغير الشركة
خاصة بمنزلة سكة غير نافذة وفي النهر الكبير
الشركة عامة بمنزلة الطريق النافذ لا يستحق
الشفعة باعتباره والمروي عن أبي يوسف في حد
النهر الصغير أن يستقي منه قراحين أو ثلاثة
فإن جاوز ذلك فهو النهر الكبير والمذهب عند
أبي حنيفة ومحمد أن النهر الكبير بمنزلة
الدجلة والفرات تجري فيه السفن وكل ماء يجري
فيه السفن من الأنهار في معنى ذلك وما لا يجري
فيه السفن فهو في حكم النهر الصغير حتى روى
ابن سماعة عن محمد أن الشركاء في النهر وإن
كانوا مائة أو أكثر فإن كان بحيث لا تجري فيه
السفن يستحق الشفعة باعتباره ومنهم من يقدر
بعدد الأربعين أو بعدد الخمسين ولا معنى
للمصير فيه إلى التقدير من حيث العدد لأن
المقادير بالرأي لا تستدرك وليس في ذلك نص
فالمعتبر ما قلنا أن يكون بحيث تجري فيه
السفن.
وإذا زرع المشتري الأرض ثم جاء الشفيع فله أن
يأخذها بالشفعة ويقلع الزرع في القياس لأنه
زرع في أرض غيره فهو أحق بها منه فهو كالغاصب
إذا زرع الأرض المغصوبة ولأن المشتري كما لا
يتمكن من إبطال حق الشفيع لا يتمكن من تأخير
حقه لأن التأخير من وجه إبطال وفي الاستحسان
لا يأخذها بالشفعة حتى يحصد الزرع ثم يأخذها
لأن المشتري زرع في ملك نفسه وما كان يتيقن
بأن الشفيع يطلب الشفعة قبل ادراك زرعه فلا
يكون متعديا
ج / 14 ص -114-
فيما صنع بخلاف الغاصب ولأن لا دراك الزرع
نهاية معلومة فلو انتظر ذلك لم يبطل حق الشفيع
وأن تأخر قليلا وإذا قلع زرع المشتري تضرر
بإبطال ملكه وماليته وضرر التأخير دون ضرر
الإبطال فإن كان غرس فيها كرما أو شجرا أو
رطبة فله أن يقلع ذلك ويأخذ الأرض لأنه ليس
لفراغ الأرض منها نهاية معلومة وقد بينا في
البناء نظيره يوضحه إنه قد يتأخر حق الشفيع
لدفع الضرر عن المشتري حتى إذا طلب الشفعة
تأخر التسليم إليه إلى احضار الثمن فيجوز أن
يتأخر أيضا للدفع عن المشتري في زرعه ولكن لا
يجوز إبطال حق الشفيع لدفع الضرر عن المشتري
وفي التأخير لا إلى غاية معلومة إبطال.
وإذا اشترى نخلا ليقطعه فلا شفعة فيه وكذلك
إذا اشتراه مطلقا لأن الأرض لا تدخل في هذا
الشراء والنخل بدون الأرض كالبناء لا يستحق
بالشفعة فإن اشتراها بأصولها ومواضعها من
الأرض ففيها الشفعة لأنها تابعة للأرض في هذا
الحال وكذلك أن اشترى زرعا أو رطبة ليجزها لم
يكن في ذلك شفعة وإن اشتراها مع الأرض وجبت
الشفعة في الكل استحسانا وفي القياس لا شفعة
في الزرع لانه ليس من حقوق الأرض وتوابعها
ولهذا لا يدخل في البيع إلا بالذكر فهو
كالمتاع الموضوع في الأرض لا يستحق بالشفعة
وإن اشترى مع الأرض ووجه الاستحسان أن الزرع
متصل بالأرض ما لم يحصد وما كان من المنقول
متصلا بالعقار يستحق بالشفعة تبعا كالأبواب
والشرب المركبة يوضحه أن الشفيع يقدم على
المشتري شرعا وقبل الحصاد يمكنه أخذ الكل من
الوجه الذي أوجبه العقد للمشتري بخلاف ما إذا
لم يحصد حتى حصد الزرع لأنه لا يمكنه أخذ
الزرع بعد الحصاد على الوجه الذي أوجبه العقد
للمشتري فلو أخذه كان أخذا للمنقول بالشفعة
مقصودا وذلك ممتنع.
وإذا اشترى أرضا فيها نخل ليس فيها ثمر فاثمرت
في يده فأكلها سنين ثم جاء الشفيع فله أن
يأخذها بالشفعة بجميع الثمن أن شاء وكان أبو
يوسف يقول أولا يحط من الثمن حصة ما أكل
المشتري من الثمر لأن حال المشتري مع الشفيع
كحال البائع مع المشتري قبل التسليم إليه ولو
أكل البائع الثمار الحادثة بعد العقد يحط عن
المشتري حصتها من الثمن كما يحط حصة الثمرة
الموجودة عند العقد فكذلك في حق الشفيع يوضحه
أن تناول الثمار الحادثة تمنع المشتري من
بيعها مرابحة حتى يبين وهي في ذلك كالثمار
الموجودة فكذلك في حق الشفيع فأما وجه ظاهر
الرواية وهو الذي رجع إليه أبو يوسف أن
المشتري يملك الأرض والنخل بجميع الثمن
والشفيع إنما يأخذها بمثل ما يملك به المشتري
وهذا لأن الحادث من الثمار بعد القبض لاحصة له
من الثمن فإنه لم يكن موجودا عند العقد ولا
عند القبض وانقسام الثمن يكون باعتبارها ولو
كانت قائمة في يد المشتري بعد الجذاذ لا يثبت
حق الشفيع فيها فتناوله إياها لا يحل لها حصة
من الثمن أيضا بخلاف بيع المرابحة فالمتولد من
العين هناك لو كان قائما في يد المشتري كان
يضمه إلى الأصل ويبيع الكل مرابحة فإذا تناول
ذلك لم يكن له أن يبيعه مرابحة من غير بيان
إلا أن يكون أنفق عليه مثل ما أكل وقد بينا
هذا في
ج / 14 ص -115-
البيوع وهذا بخلاف الثمار الموجودة عند العقد
إذا أخذها المشتري فللثمار الموجودة حصة من
الثمن ولا حق للشفيع فيها بعد الجذاذ فيطرح عن
الشفيع حصتها من الثمن ألا ترى أن الثمار
الموجودة عند العقد لو بلغت عنده من غير صنع
أحد سقط عن المشتري حصتها من الثمن بخلاف
الثمار الحادثة فكذلك في حق الشفيع وإن
حضرالشفيع قبل أن يجذها المشتري أخذها مع
الأشجار بجميع الثمن استحسانا وهذا والزرع
سواء وبعد الجذاذ هنا والحصاد في الزرع عند
أبي يوسف يقسم الثمن على قيمة الأرض وعلى قيمة
الثمار والزرع وقت العقد لأن انقسام الثمن
عليهما بالعقد فتعتبر القيمة عند ذلك وعند
محمد تقوم الأرض مزروعة وغير مزروعة والأشجار
مثمرة وغير مثمرة فربما لا يكون للزرع والثمر
في ذلك الوقت قيمة إلا شيئا يسيرا فلو اعتبرنا
قيمته محصودا تضرر به الشفيع فلدفع الضرر قال
اقسم الثمن على قيمة الأرض مزروعة وغير مزروعة
فما يخص قيمتها غير مزروعة فهو حصة الأرض
يأخذها الشفيع بذلك.
وإذا اشترى أرضا فيها شجر صغار فكبرت فاثمرت
أو كان فيها زرع فأدرك فللشفيع أن يأخذ جميع
ذلك بالثمن لأن حقه ثبت فيها بطريق الاتصال
بالأرض والشجر بيع ما بقى الاتصال وإذا اشترى
بيتا ورحا ماء فيه ونهرها ومتاعها فللشفيع
الشفعة في ذلك كله إلا ما كان من متاعها ليس
بمركب في البناء لأن ما كان مركبا متصل بالأرض
فهو بمنزلة البناء فيستحق بالشفعة تبعا ألا
ترى أن الحمام يباع ويأخذه الشفيع بقدر الحمام
لأنه في البناء فكذلك الرحا واستحقاق الشفعة
في الحمام والرحا قولنا فأما عند الشافعي ما
لا يحتمل القسمة لا يستحق الشفعة لأن من أصله
أن الأخذ بالشفعة لدفع ضرر مؤنة المقاسمة وذلك
لا يتحقق فيما لا يحتمل القسمة وعندنا لدفع
ضرر البادي بسوء المجاورة على الدوام وذلك
فيما لا يحتمل القسمة موجود لاتصال أحد
الملكين بالآخر على وجه التأييد والقرار
وحجتنا في ذلك ما روينا من حديث جابر رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الشفعة
في كل شيء ربع أو حائط" ولأن الحمام لو كان
مهدوما فباع أحد الشريكين نصيبه كان للشريك
الشفعة وما يستحق بالشفعة مهدوما يستحق
بالشفعة مثبتا كالشقص من الدار وبهذا يتبين أن
مؤنة المقاسمة أن كانت لا تلحقه في الحال فقد
تلحقه في الثاني وهو ما بعد الانهدام إذا طلب
أحدهما قسمة الأرض بينهما ولو اشترى أجمة فيها
قصب وسمك يؤخذ بغير صيد أخذ الإجمة والقصب
بالشفعة ولم يأخذ السمك لأن القصب متصل بالأرض
فأما السمك فلا اتصال له بالأرض بل هو كالمتاع
الموضوع في الدار والأرض فلا يستحق بالشفعة.
وإذا اشترى عينا أو نهرا أو بئرا بأصلها
فللشفيع فيها الشفعة لاتصال ملكه بالمبيع على
وجه التأييد وكذلك أن كانت عين قير أو نفط أو
موضع ملح أخذ جميع ذلك بالشفعة لوجود الاتصال
معنى فإنه يبيع من ذلك الموضع بمنزلة ما يتولد
منه بخلاف السمك إلا أن يكون المشتري قد حمل
ذلك من موضعه فلا يأخذ ما حمل منه بمنزلة
الزرع والتمر بعد الحصاد
ج / 14 ص -116-
والجذاذ وإن اشترى شربا من نهر بغير أرض ولا
أصل من نهر فلا شفعة فيه لأن بيع الشرب فاسد
فإنه من حقوق المبيع بمنزلة الأوصاف فلا يفرد
بالبيع ثم هو مجهول في نفسه غير مقدور التسليم
لأن البائع لا يدري أيجري الماء أم لا وليس في
وسعه إجراؤه.
قال وكان شيخنا الإمام يحكي عن أستاذه أنه كان
يفتي بجواز بيع الشرب بدون الأرض ويقول فيه
عرف ظاهر في ديارنا بنسف فإنهم يبيعون الماء
فللعرف الظاهر كان يفتي بجوازه ولكن العرف
إنما يعتبر فيما لا نص بخلافه والنهي عن بيع
الغرر نص بخلاف هذا العرف فلا يعتبر وإذا
اشترى الرجل أرضا فله ما فيها من نخل أو شجر
لأنها بمنزلة البناء متصله بالأرض للقرار وليس
له ما فيها من زرع أو ثمر لأن الاتصال فيها
ليس للتأييد والقرار بل للإدراك فهو اتصال
يعرض الفصل فيكون بمعنى المتاع الموضوع فيها
لا تدخل في البيع إلا بالذكر والأصل فيه قوله
صلى الله عليه وسلم:
"من اشترى أرضا فيها نخل فالثمر للبائع إلا أن يشترط المبتاع" ولو اشترى
الأرض بكل قليل أو كثير هو فيها أو منها فله
الثمر والزرع وفي غير هذا الموضع يقول لا يدخل
الثمر والزرع بهذا اللفظ وتأويل ما قال هناك
إذا اشتراها بكل قليل أو كثير هو فيها أو منها
بحقوقها فعند هذا التقييد لا تدخل الثمرة
والزرع لأنهما ليسا من حقوقها وتأويل ما ذكر
هنا أنه لم يقيد بقوله من حقوقها وعند الاطلاق
يتناول لفظ الثمر والزرع لأنهما من القليل
والكثير الذي هو فيها أو منها لاتصاله في
الحال والامتعة الموضوعة تدخل بهذا اللفظ أيضا
أن كان قال أو منها لأنها من القليل أو الكثير
الذي فيها وإن كان قال ومنها لم تدخل لأنها
ليست من الأرض وأما ما لا يدخل في البيع
كالزوجة والولد للبائع إذا كان فيها في القياس
يدخل ويفسد البيع وفي الاستحسان لا يدخل
لعلمنا أنهما لم يقصدا ذلك وإذا اشتراها بكل
حق هو لها بمرافقها لم يدخل فيها الثمر الزرع
لأنهما ليسا من حقوق الأرض ومرافقها فإنما
يطلق هذا اللفظ على مابه يتأتى الانتفاع
بالأرض كالشرب والطريق الخاص في ملك إنسان
فذلك الذي يدخل في الشراء عند ذكر هذا اللفظ
والثمر والزرع ليسا من هذا في شيء فلا يدخل
بذكر الحقوق والمرافق.
وإذا اشترى دارا فله البناء سواء اشترط كل حق
هولها أو لم يشترط وهذه ثلاثة فصول الدار
والمنزل والبيت فإذا عقد العقد باسم الدار
يدخل فيه العلو والسفل والكنيف والشارع وإن لم
يقل بكل حق هو له لأن الدار هو اسم لما أدير
عليه الحائط والعلو والسفل مما أدير عليه
الحائط ولا يدخل الطريق الخاص في ملك إنسان
إلا أن يقول بكل حق هولها لأن الطريق خارج مما
أدير عليه الحائط ويكون من حقوق الدار
فالانتفاع بالدار يتأتى به فإنما يدخل عند ذكر
الحقوق والمرافق فأما الظلة التي على ظهر
الطريق عليها منزل إلى الدار لا يدخل عند أبي
حنيفة إلا أن يشترط الحقوق والمرافق فحينئذ
تدخل إذا كان مفتحها إلى الدار وعند أبي يوسف
ومحمد تدخل إذا كان مفتحها إلى الدار وإن لم
يشترط الحقوق والمرافق لأنها من بناء الدار
بمنزلة العلو والكنيف والشارع وأبو حنيفة يقول
هي خارجة مما
ج / 14 ص -117-
أدير عليه الحائط ولكنها من مرافق الدار إذا
كان مفتحها إلى الدار فإنما تدخل بذكر الحقوق
والمرافق والطريق الخاص وهذا لأن أحد جانبي
الظلة على حائط الجار المحاذي والجانب الآخر
على بناء الدار وكانت من جملة الدار من وجه
دون وجه فلا تدخل عند اطلاق اسم الدار بخلاف
كنيف الشارع فإنه متصل ببناء الدار لا اتصال
له بشيء آخر فيكون داخلا فيما أدير عليه
الحائط من البناء.
وإن كان اشترى بيتا وعليه علو لم يدخل العلو
في البيت سواء ذكر الحقوق والمرافق أو لم يذكر
ما لم ينص على العلو لأن البيت اسم لما يبات
فيه والعلو في هذا كالسفل وكان نظير بيتين
أحدهما بجنب الآخر وهذا لأن الشيء لا يكون من
حقوق مثله فإما إذا اشترى منزلا لم يكن له
علوه إلا أن يقول بكل حق هو له أو بمرافقه
فيدخل العلو فيه لأن العلو من حقوق المنزل
فيدخل عند ذكر الحقوق والبيت اسم لمسقف واحد
له دهليز والمنزل اسم لما يشتمل على بيوت وصحن
مسقف ومطبخ ليسكنها الرجل بعياله والدار اسم
لما يشتمل على بيوت ومنازل وصحن غير مسقف فكان
المنزل فوق البيت ودون الدار فلكونه فوق البيت
قلنا يدخل العلو عند ذكر الحقوق والمرافق
ولكونه دون الدار قلنا لا يدخل العلو فيه إذا
لم يذكر الحقوق والمرافق ومشتري المنزل من
الدار وإن ذكر الحقوق والمرافق لاحق له في
الدار إلا الطريق ومسيل الماء فإن ذلك من حقوق
المنزل فأما المخرج والمربط والمطبخ وبئر
الماء فلا حق له فيها إلا أن يسمى شيئا من ذلك
لأن ذلك من حقوق الدار ومرافقها ليس من حقوق
المنزل فالانتفاع بالمنزل يتأتى بدونه بخلاف
الطريق والمسيل وفي شراء الدار إذا كان لها
طريقان أحدهما في السكة والآخر في دار فإن
اشترط الحقوق والمرافق استحق ذلك كله وإن لم
يشترط لم يستحق الطريق الذي في الدار الأخرى
لأن ذلك خارج مما أدير عليه الحائط والقرية
مثل الدار وإن كان في الدار أو في القرية باب
موضوع أو خشب أو آجر أو جص لم يدخل ذلك في
البيع بذكر الحقوق والمرافق وإن اشترط كل قليل
وكثير هو فيها أو منها أو اشترط كل حق هو لها
لأن الانتفاع يتأتى بدون هذه الأشياء وهي
بمنزلة متاع موضوع فيها.
وإذا اشترى الرجل أرضا فاستأجرها الشفيع منه
أو أخذها مزارعة أو كان فيها نخيل فأخذها
معاملة بعد علمه بالشراء أو ساوم بها فقد بطلت
شفعته لأن إقدامه على هذه التصرفات دليل الرضا
بتقرر ملك المشتري فيها ودليل الرضا كصريح
الرضا والاستيام دليل ابطال حق الشفعة لأنه
طلب التملك منه بسبب يباشره باختياره ابتداء
وذلك يتضمن تقرره على مباشرة هذا السبب فيكون
اسقاطا للشفعة دلالة.
وإذا اشترى نخلا ليقطعه ثم اشترى بعد ذلك
الأرض وترك النخيل فيها فلا شفعة للشفيع في
النخيل لأنها كانت مقصودة بالعقد وهي من
النقليات لا تستحق بالشفعة وكذلك لو اشترى
الثمرة ليجذها والبناء ليهدمه ثم اشترى الأرض
لم يكن للشفيع الشفعة إلا في الأرض
ج / 14 ص -118-
خاصة لأن استحقاق البناء بالشفعة لمعنى
التبعية للأرض وذلك لا يتحقق إذا ملكه بسبب
غير السبب الذي ملك الأرض به.
وإذا اشترى قرية فيها بيوت ونخيل وأشجار ثم
باع المشتري شجرها ونخلها ليقطع ثم جاء الشفيع
وقد قطع بعضها فله أن يأخذ الأرض وما لم يقطع
من الشجر بحصته من الثمن وليس له أن يأخذ ما
قطع من ذلك وللشافعي قول أن حق الشفيع متى كان
ثابتا في البناء والشجر فله أن يأخذ ذلك بعد
القطع والهدم اعتبارا للحق بالملك فكما لا
يبطل ملك المالك بالقطع فكذلك حق الشفيع ولكنا
نقول ثبوت حقه في الآخذ كان لمعنى الاتصال
بالأرض فإذا زال ذلك قبل الأخذ لا يكون له فيه
حق الأخذ كما لو زال جوازه ولكن يطرح حصته من
الثمن عن الشفيع لأنه صار مقصودا بالحبس
والتناول فيكون له حصته من الثمن يطرح عن
الشفيع.
وإذا اشترى الرجل نهرا بأصله ولرجل أرض في
أعلاه إلى جنبه ولآخر أرض في أسفله إلى جنبه
فلهما جميعا الشفعة في جميع النهر من أعلاه
إلى أسفله لأن ملك كل واحد منهما متصل بالمبيع
اتصال تأييد وقرار فلكل واحد منهما الشفعة
بالجوار وكذلك القناة والعين والبئر فهي من
العقارات يستحق فيها الشفعة بالجوار وكذلك
القناة يكون مفتحها في أرض ويظهر ماؤها في أرض
أخرى فجيرانها من مفتحها إلى مصبها شركاء في
الشفعة لاتصال ملك كل واحد منهما بالمبيع
وبالاتصال في جانب واحد يتحقق الجوار وصاحب
النصيب في النهر أولى بالشفعة ممن يجري النهر
في أرضه لأنه جار باتصال أرضه بالنهر والشريك
في المبيع مقدم على الجار.
وإذا كان نهر أعلاه لرجل وأسفله لآخر ومجراه
في أرض رجل آخر فاشترى رجل نصيب صاحب أعلا
النهر فطلب صاحب النهر وصاحب الأرض وصاحب أسفل
النهر الشفعة فالشفعة لهم جميعا بالجوار لأنهم
أستووا في سبب الاستحقاق فملك كل واحد منهم
متصل بالمبيع إلا أن اتصال صاحب الأسفل بمقدار
عرض النهر واتصال صاحب الأرض بمقدار طول النهر
من أرضه ولو عبرة بزيادة الجوار كما لا عبرة
بزيادة الشركة وليس لصاحب مسيل الماء حق لمسيل
الماء يعني أن صاحب أسفل النهر له في المبيع
حق سيل الماء فما لم يسل الماء في أعلا النهر
لا ينتهي إليه ولكن لا يصير به شريكا لرقبة
النهر ولا في حقوقه وإنما يترجح على الجار
الشريك في نفس المبيع أو في حقوقه وكذلك لو
اشترى رجل نصيب صاحب أسفل النهر فالشفعة لصاحب
الأعلا بالجوار لاتصال ملكه بالمبيع وكذلك لو
كانت قناة مفتحها بين رجلين إلى ما كان معلوم
وأسفل منذلك لأحدهما فباع صاحب الأسفل ذلك
الأسفل فالشريك والجيران فيه سواء لأن بالشركة
في أعلا القناة لا يكون شريكا في المبيع فإن
المبيع أسفل القناة وذلك كان ملكا خالصا
للبائع فلهذا كان شريكه في أعلا القناة
والجيران في الشفعة سواء.
ج / 14 ص -119-
وإذا كان نهر لرجل فطلب إليه رجل ليكري منه
النهر إلى أرضه ثم بيع النهر الأول ومجراه في
أرض رجل آخر فصاحب الأرض أولى بالشفعة لأن
الآخر مستعير ولا حق للمستعير في الشفعة إذ لا
ملك له متصل بالمبيع على وجه التأييد والقرار
وإذا كان نهر لرجل في أرض لرجل عليه رحى ماء
في بيت فباع صاحب النهر النهر أو الرحاء
والبيت فطلب صاحب الأرض الشفعة في ذلك كله فله
الشفعة لاتصال ملكه بالمبيع وإن كان بين أرضه
وبين موضع الرحاء أرض لرجل آخر وكان جانب
النهر الآخر لرجل آخر فطلبا الشفعة فلهما أن
يأخذ ذلك بالشفعة لأنهما سواء في الجوار من
النهر وإن كان بعضهم أقرب إلى الرحاء لأن
الرحاء لا تستقيم إلا بالنهر فهو الآن شيء
واحد ألا ترى أن موضع الرحاء لو كان أرضا لها
في ذلك النهر شرب فبيعت كان الشركاء في الشرب
سواء في الشفعة ولا يكون أقربهم إليها أولى
بالشفعة وهذا إشارة إلى أن باعتبار ملك الرحاء
تثبت الشركة في الشرب لأن الانتفاع بالرحاء لا
يتأتى إلا بالماء كما لا يتأتى في الانتفاع
بالأرض إلا بالماء.
وإذا كان نهر لرجل خالصا له عليه أرض ولآخر
عليه أراضي ولا شرب لهم فيه فباع رب الأرض
النهر خاصة فهم شركاء في الشفعة فيه لايصال
ملكهم بالمبيع وإن باع الأرض خاصة دون النهر
فالملازق للأرض أولاهم بالشفعة لأنه لا شركة
بينهم في النهر والمبيع الأرض وهم جيران
المبيع يعني من يلازق أرضه الأرض المبيعة
فالشفعة للجار الملازق خاصة وإن باع النهر
والأرض جميعا كانوا شفعاء في النهر لاتصال ملك
كل واحد منهم بالنهر وكان الذي هو ملازق الأرض
أولاهم بالشفعة في الأرض لاتصال ملكه بالأرض
بمنزلة طريق في دار لرجل فباع الطريق والطريق
خالص له فجار الطريق أولى به من جار الأرض دون
الطريق وهذان بمنزلة دارين ليميز أحدهما عن
الآخر لأن جوار هذا غير جوار هذا ولو كان
شريكا في الطريق أخذ شفعته من الدار لأن
الشريك مقدم على الجار فكذلك أن كان شريكا في
النهر أخذ بحصته من الأرض وكان أحق بهما جميعا
من جيران الأرض والطريق والنهر سواء في كل شيء
وقد بينا ذلك في أول الباب والله أعلم.
باب الشفعة في الهبة
قال رحمه الله: أعلم بأن الموهوب لا يستحق
الشفعة إلا على قول ابن أبي ليلى فإنه يقول
يستحق بالشفعة إذا كان مما لا يقسم ويأخذه
الشفيع بقيمة نفسه إن لم يعوض الموهوب له
الواهب وإن عوضه فبقيمة العوض وكذلك إذا عوض
الغير من هبته شقصا من غير شرط وفي استحقاقه
بالشفعة خلاف على ما بينا هو يقول ثبوت حق
الشفعة لحاجته إلى دفع ضرر البادي بسوء مجاورة
الجار الحادث وذلك لا يختلف باختلاف سبب الملك
فتجب له الشفعة متى تجدد الملك للجار الحادث
بأي سبب كان من هبة أو صدقة أو وصية إلا
الميراث فالملك لا يتجدد به وإنما يبقي الوارث
ما كان ثابتا للمورث ثم يدفع الضرر عن نفسه
بالأخذ على وجه لا يلحق الضرر بالمتملك فإن
كان المتملك دفع بمقابلته عوضا فعليه قيمة
ج / 14 ص -120-
ذلك العوض وإن لم يدفع بمقابلته عوضا فعليه
قيمة ما يأخذ لأن الضرر بذلك يندفع عنه ولكنا
نقول حق الشفعة إنما يثبت له إذا تمكن من
الأخذ بمثل السبب الذي به يملك المتملك فأما
إذا عجز عن ذلك لا يثبت له حق الشفعة كالميراث
وفي الهبة لا يقدر على أن يأخذ بمثل ذلك السبب
لأن الموهوب له يملكه بطريق التبرع وإنما
يأخذها الشفيع بطريق المعاوضة فيكون هذا إن
شاء سبب آخر وبحق الشفعة لا تثبت هذه الولاية
يوضحه أن الشرع قدم الشفيع على المشتري في حكم
السبب الذي باشره وذلك يتأتى في المعاوضات ولا
يتأتى في التبرع لأن الملك الذي يثبت للشفيع
لا يكون حكم التبرع ولأن الشفيع في المعاوضة
كان أحق بالعرض عليه قبل البيع فإذا لم يفعل
ذلك البائع جعله الشرع أحق بالأخذ ليندفع
الضرر عنه وهذا لا يوجد في التبرع فإن من أراد
أن يهب ملكه من إنسان فليس عليه أن يعرض بيعه
أولا على جاره ولا أن يهبه من جاره فلهذا لا
يستحق الشفعة بهذا السبب فإن وهب لرجل دارا
على أن يهبه الآخر ألف درهم شرطا فلا شفعة
للشفيع فيه ما لم يتقابضا وبعض التقابض يجب
للشفيع فيه الشفعة وعلى قول زفر تجب الشفعة
قبل التقابض وهو بناء على ما بينا في كتاب
الهبة إن الهبة بشرط العوض عنده بيع ابتداء
وانتهاء وعندنا ابتداء وهو بمنزلة البيع إذا
اتصل به القبض من الجانبين.
فأما الوصية على هذا الشرط إذا قبل الموصي له
ثم مات الموصي فهو بيع لازم له وإن لم يقبض
لأن الملك في الوصية بعد القبول يحصل بالموت
ألا ترى أنه لو كان بغير شرط العوض يملك قبل
القبض فكذلك إذا كان بشرط العوض فهو على وجهين
إن قال قد أوصيت بداري بيعا لفلان بألف درهم
ومات الموصي فقال الموصي له قد قبلت فللشفيع
الشفعة وإن قال أوصيت له بأن يوهب له على عوض
ألف درهم فهذا وما لو باشر الهبة بنفسه بشرط
العوض سواء في الحكم.
وإن وهب نصيبا من دار مسمى بشرط العوض وتقابضا
لم يجز ولم يكن فيه الشفعة عندنا لأنه بر
ابتداء والشيوع فيما يحتمل القسمة يمنع صحته
وتأثير الشيوع كتأثير عدم القبض فيه وكذلك إن
كان الشيوع في العوض فيما يقسم وإن وهب دار
الرجل على ان ابراءه من دين له عليه ولم يسمه
وقبض كان للشفيع فيها الشفعة لأن المديون قابض
للدين بدينه فبقبض الدار تتم المعاوضة بينهما
فيجب للشفيع فيها الشفعه والقول في مقدار
العوض قول الذي عوض لأن الشفيع يملك الدار
عليه وقد بينا أن القول في مقدار الثمن قوله
وكذلك لو وهبها بشرط الإبراء مما يدعي في هذه
الدار الآخرى وقبضها فهو مثل ذلك في الاستحقاق
بالشفعة لأن التملك فيها تم بجهة المعاوضة.
وإذا وهب الرجل دار ابنه الصغير لرجل على عوض
مثل قيمتها وتقابضا فهو جائز وللشفيع فيها
الشفعة في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد
وفي قول أبي يوسف الآخر لا يجوز ولا شفعة فيها
وكذلك الوصي والعبد والمأذون والمكاتب
والمضارب في
ج / 14 ص -121-
قول أبي يوسف الأول كل من يملك البيع يملك
الهبة بشرط العوض إذا لم يكن فيه محاباة وهو
قول محمد وفي قوله الآخر كل من لا تجوز هبته
بغير عوض لا تجوز هبته بشرط العوض وجه قوله
الأول أن هذا تمليك مال بمال يعادله شرطا فيصح
من الأب والوصي كما لو كان بلفظ البيع أو بلفظ
التمليك وتحقيقه أن حق الصبي في المال لا في
اللفظ وتصرف الأب والوصي مقيد شرعا بالأحسن
والإصلح لليتيم وذلك في أن يتوفر عليه المالية
لا في لفظ المعاوضة ألا ترى أن البيع منهما
لما لم يجز بالتعاطي من غير لفظ فإذا أسقط
اعتبار اللفظ قلنا توفير المالية عليه في
الهبة بشرط العوض كما في البيع بل أظهر لأن في
الهبة بشرط العوض لا يزول المال عن ملكه ما لم
يصل العوض إلى يد ثانية وبالبيع تزول العين عن
ملكه قبل وصول العوض إليه وبهذا التحقيق يظهر
أن الهبة بشرط العوض من الأب والوصي بمنزلة
الكتابة وهما يملكان الكتابة في غير الصبي
بخلاف العتق على مال فالملك هنا يزول بنفس
القبول والبدل في ذمة مفلسه لا يدري أيصل إليه
أم لا بمنزلة التأدي.
وجه قوله الآخر أن الهبة عقد تبرع وليس للأب
والوصي ولاية التبرع في مال اليتيم فباشتراط
العوض لا تثبت له هذه الولاية كالعتق فإنه لو
اعتق عبده بمال هو أضعاف قيمته وتبرع إنسان
بادائه لم يجز وبه يبطل ما اعتبر محمد من
توفير المالية عليه وتحقيق هذا الكلام أنه لما
لم يكن من أهل التبرع وهذا العقد عقد تبرع
باعتبار أصله فهو عقد صدر من غير أهله وكما
يلغوا السبب إذا حصل في غير محله فكذلك إذا
صدر من غير أهله وحكم المعاوضة ينبني على صحة
السبب عند اتصال القبض به من الجانبين فإذا لم
يصح أصل السبب لما قلنا لا ينقلب بالتقابض
بيعا صحيحا ألا ترى أنه لو حصل ذلك في مشاع
يحتمل القسمة لا يصير بيعا صحيحا بالتقابض
فكذلك إذا حصل ممن لا يمكن الهبة بغير عوض لا
يصير بيعا صحيحا بالتقابض فلا تجب فيه الشفعة
والله أعلم.
باب الخيار في الشفعة
قال رحمه الله وإذا كان المشتري شرط الخيار
لنفسه ثلاثا في الشراء فللشفيع الشفعة أما عند
أبي يوسف ومحمد لأنه صار مالكا للدار وعندهما
خيار الشرط كخيار الرؤية والعيب للمشتري فلا
يمنع وجوب الشفعة وعند أبي حنيفة المشتري أن
لم يملك الدار بشرط الخيار فقد خرجت الدار من
ملك البائع وانقطع حقه عنها لكون البيع باقي
في جانبه ووجوب الشفعة تعتمد انقطاع حق البائع
لا ثبوت الملك للمشتري حتى إذا أقر بالبيع
وأنكر المشتري يجب للشفيع فيه الشفعة ولأن
المشتري صار أحق بالتصرف فيها فباعتباره يتحقق
الضرر المحوج للشفيع إلى الدفع عن نفسه.
وإذا اشترى المرتد دارا فللشفيع فيها الشفعة
أن قبل على الردة أو أسلم في قول أبي يوسف
ومحمد لأن الشراء من المرتد صحيح عندهما وعند
أبي حنيفة لأن البيع قد تم في جانب البائع
وصار المشتري أحق بها لو أسلم فكان للشفيع حق
الشفعة وهو بمنزلة خيار
ج / 14 ص -122-
ثابت للمشتري ولو كان المشتري بالخيار أبدا لم
يكن للشفيع فيها الشفعة لأن البيع فاسد وفي
البيع الفاسد حق البائع في الاسترداد ثابت وما
لم ينقطع حق البائع في الاسترداد لا يجب
للشفيع الشفعة فإن أبطل المشتري خياره وأوجب
البيع قبل مضي الأيام الثلاثة وجبت الشفعة
لزوال المفسد قبل تقرره وكذلك عندهما بعد مضي
الأيام الثلاثة لأن العقد عندهما ينقلب صحيحا
متى أسقط خياره وهذا إذا شرط الخيار أبدا فإن
كان شرط الخيار شهرا فعندهما هذا البيع صحيح
لازم وللشفيع حق الأخذ بالشفعة وقد بينا
المسألة في البيوع وإن كان الخيار ثلاثة
فأخذها الشفيع من البائع في الثلاثة فقد وجب
البيع وليس للشفيع من الخيار ما كان للمشتري
لأن خيار الشرط كاسمه لا يثبت إلا لمن شرط له
والشرط كان للمشتري دون الشفيع.
وإذا كان الخيار للبائع فلا شفعة فيها حتى
يوجب البيع لأن خيار البائع يمنع خروج المبيع
من ملكه وبقاء حق البائع يمنع ثبوت حق الشفيع
فبقاء ملكه أولى فإن بيعت دار إلى جنبها
فللبائع فيها الشفعة دون المشتري لأن الملك في
الدار المبيعة عندهما في هذا البيع للبائع
وإذا أخذها بالشفعة فهذا نقض منه للبيع لأنه
قرر ملكه وجواره حين أخذ المبيعة بالشفعة
باعتباره فاقدام البائع على ما يقرر ملكه في
مدة الخيار يكون نقضا للبيع وهذا لأنه لو لم
يجعل ناقضا لكان إذا أجاز البيع فيها ملكها
المشتري من وقت العقد حتى يستحق بزوائدها
المتصلة والمنفصلة فتبين أنه أخذها بالشفعة من
غير حق له وإن كان الخيار للمشتري فبيعت دار
بجنب هذه الدار كان له فيها الشفعة لأنه صار
أحق بها مع خياره وذلك يكفي لثبوت حق الشفعة
له كالمأذون والمكاتب إذا بيعت دار بجنب داره
وكان البلخي يدعي بهذا الفصل المناقضة على أبي
حنيفة فيقول أنه إذا كان من أصله أنه لا يملك
المبيع في مدة خياره واستحقاق الشفعة باعتبار
الملك ولهذا لا يستحق المستأجر والمستعير فكيف
تثبت للمشتري الشفعة في هذه الدار ولكن عذره
ما بينا فإذا أخذها بالشفعة كان هذا منه أجازة
للبيع بوجود دليل الرضا لتقرر ملكه فيها وهذا
يؤيد كلام البلخي فإنه لو لم يكن الملك معتبرا
في استحقاق الشفعة لما صار مخيرا للبيع بأخذها
بالشفعة ولكنا نقول لو لم يسقط خياره بذلك لما
كان إذا فسخ البيع انعدم السبب في حقه من
الأصل فتبين أنه أخذها بالشفعة من غير حق له
فللتحرز عن ذلك جعلناه مخيرا للبيع فإذا جاء
الشفيع وأخذ منه الدار الأولى بالشفعة لم يكن
له على الثانية سبيل لأنه إنما يتملكها الآن
فلا يصير بها جارا للدار الآخرى من وقت العقد
إلا أن يكون له دار إلى جنبها والدار الثانية
سالمة للمشتري لأن أخذ الشفيع من يده لا ينفي
ملكه من الأصل ولهذا كانت عهدة الشفيع عليه
فلا يتبين به انعدام السبب في حقه من الأصل
حين أخذ بالشفعة.
وإذا اشترى دارا بعبد واشترط الخيار ثلاثا
لمشتري الدار فللشفيع فيها الشفعة فإن أخذها
من يد مشتريها فقد وجب البيع له لأنه عجز عن
ردها وذلك موجب له البيع فيها فإن
ج / 14 ص -123-
سلم المشتري البيع وأبطل خياره سلم العبد
للبائع فإن أبى أن يسلم البيع أخذ عبده ودفع
قيمة العبد الذي أخذها من الشفيع إلى البائع
ولا يكون أخذ الشفيع الدار بالشفعة اختيارا من
المشتري للبيع واسقاطا لخياره في العبد بخلاف
ما إذا باعها المشتري فذلك اختيار منه لأن
البيع تصرف ببينته واختياره فيكون دليل الرضا
به وأسقاط خياره فأما أخذ الشفيع من يده يكون
بغير رضاه واختياره وإنما يأخذها الشفيع بحق
يثبت له قبل قبض المشتري ألا ترى أنه كان له
حق الأخذ من البائع فلا يكون ذلك اختيارا من
المشتري وهذا بخلاف ما لو حدث بها عيب عنده أو
عرفت لأن تعذر الرد عليه في هذه المواضع بسبب
حادث بعد قبضه فيجعل ذلك بمنزلة اختياره فأما
عند أخذ الشفيع تعذر الرد عليه بحق كان سابقا
على قبضه فلهذا لا يجعل ذلك اختيارا منه ويبقي
هو في العبد على خياره فإذا فسخ العقد في
العبد يجعل هذا بمنزلة ما لو انفسخ العقد فيه
بالهلاك في يده قبل القبض فعليه أن يدفع إلى
البائع القيمة المقبوضة من الشفيع لأنها هي
التي سلمت له بسبب يده على الدار فيردها على
البائع كما يرد الدار لو كانت في يده.
ولو كانت الدار في يد البائع كان للشفيع أن
يأخذها منه بقيمة العبد ويسلم العبد للمشتري
لانتقاض البيع بينهما حين أخذها الشفيع من يد
البائع ولو كانت الدار في يد المشتري فهلك
العبد في يد البائع انتقض البيع ورد المشتري
الدار وللشفيع أن يأخذها بقيمة العوض لما بينا
أن حق الشفعة ثبت له بقيمة العوض وهو قادر على
أداء ذلك بعد هلاك العوض في يد مشتري الدار
ولو كان الخيار لبائع الدار فيها أو في العبد
لم يكن للشفيع فيها شفعة حتى يوجب البيع لأن
أحد المتعاقدين إذا شرط الخيار لنفسه في أحد
العوضين فذلك منه شرط للخيار في العوض الآخر
وإن كان الخيار أربعة أيام فالبيع فاسد في قول
أبي حنيفة ولا شفعة في ذلك إلا أن يسقط خياره
قبل مضي ثلاثة أيام وعند أبي يوسف ومحمد البيع
جائز ولكن بخيار البائع لا تجب الشفعة حتى
يسقط خياره أو يسقط ذلك بمضي المدة فحينئذ يجب
للشفيع فيه الشفعة والله أعلم بالصواب.
باب ما لا تجب فيه الشفعة من النكاح وغيره
قال رحمه الله: قال قد
بينا في النكاح أن المهور لا تستحق بالشفعة
عندنا وتستحق عند الشافعي والحاصل عندنا أن
الشفعة تختص بمقابلة مال بمال مطلقا لأن
الشفيع لا يتمكن من الأخذ إلا بمثل السبب الذي
يملك به الجار الحادث وأخذه لا يكون إلا
مبادلة مال بمال مطلقا وعلى هذا الأصل لا شفعة
في المجعول بدلا في الخلع والصلح في القصاص في
نفس أو عضو لأن الشفيع لا يتمكن من الأخذ بمثل
ذلك السبب ولا يمكن إقامته مقام المتملك في
حكم ذلك السبب فهو نظير الموهوب لا يستحق
بالشفعة وكذلك لو استأجر إبلا بدار لأن الأجرة
غير مملوكة بإزاء مال مطلقا لأن الشفعة ليست
بمال في الحقيقة وإنما يجعل لها حكم المالية
في جواز العقد عليها للحاجة.
ج / 14 ص -124-
ثم قد بينا في كتاب النكاح ما إذا تزوج امرأة
على دار على أن ردت عليها ألفا وذكرنا إن عند
أبي يوسف ومحمد تجب الشفعة في حصة الألف
بمنزلة ما لو أفرد كل واحد من العقدين وعند
أبي حنيفة لا تجب الشفعة في شيء لأن البيع هنا
بيع للنكاح وإذا تعذر إيجاب الشفعة فيما هو
الأصل لا يوجب فيما هو بيع ولو تزوج امرأة
بغير مهر ثم فرض لها داره مهرا أو صالحها على
أن يجعلها مهرا لها أو أعطاها إياها مهرا لم
يكن فيها شفعة لأن هذا منه تعيين لمهر المثل
ومهر المثل مملوك لها بمقابلة ما ليس بمال فلا
يستحق بالشفعة ولأن أكثر ما فيه أن يجعل
المفروض بعد العقد كالمسمى في العقد وهذا
بخلاف ما لو باعها بمهر مثلها دارا لأن البيع
اسم خاص لمبادلة مال بمال ففي لفظ البيع دليل
على أنه ملكها الدار عوضا عن مهر المثل وكذلك
أن صالحها من مهرها على الدار أو مما وجب لها
من المهر علي الدار فللشفيع فيها الشفعة لأن
في لفظهما ما يدل على أنهما لم يقصدا تعيين
مهر المثل بالدار فإنه ملكها ذلك عوضا عن
المهر الذي استوجب عليه والذي استوجب عليه من
المهر مال فكان مبادلة مال بمال وكذلك لو
تزوجها على مهر مسمى فباعها به هذه الدار
أخذها الشفيع بالشفعة وكذلك لو فرض القاضي لها
مهرا ثم اشترى به الدار أخذها الشفيع بالشفعة
بخلاف ما لو أعطاها الدار مهرا فإن هناك لو
طلقها قبل الدخول وجب عليها أن ترد الدار
وتطالبه بالمتعة وهنا لو طلقها قبل الدخول لم
يلزمها رد شيء من الدار على الزوج وإنما لزمها
من الدار ما فرض القاضي مهرا لها يحسب من ذلك
مقدار المتعة ويعطيه الفضل على ذلك وفي المسمى
في العقد يعطيه نصف المسمى.
وإذا صالح من دم عمد على دار على أن يرد عليه
صاحب الدم ألف درهم فلا شفعة في الدار في قول
أبي حنيفة لأن الأصل فيه الصلح وما يقابل من
دم العمد بالدار لا يستحق بالشفعة فكذلك ما
يتبعه وعند أبي يوسف ومحمد يأخذ منها جزءا من
إحدى عشر جزء بألف درهم لأن الدار تقسم على
الألف وعلى دم العمد وقيمة الدية ألا ترى أنه
إذا تعذر استيفاء القود يجب المصير إلى الدية
والدية عشرة آلاف فإذا جعلت كل ألف جزءا كانت
حصة الدم من الدار عشرة أجزاء من إحدى عشر
جزءا وحصة الألف جزء من احدى عشر جزءا فيأخذ
الشفيع ذلك بالشفعة وكذلك الصلح من شجاج العمد
التي فيها القود وإن صالحه من موضحتين أحداهما
عمد والآخرى خطأ على دار فلا شفعة فيها في قول
أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد يأخذ الشفيع
نصفها بخمسمائة لأن موجب موضحة الخطأ خمسمائة
درهم وموجب العمد القود فإذا صالح عنهما على
دار كان نصفها بدلا عن القود ونصفها بدلا عن
الخمسمائة وأبو حنيفة يقول المقصود بهذا الصلح
القود لأن المال لا يعارض النفس ألا ترى أن
موجب موضحة العمد وهو القود على صاحب الدار
خاصة وإن موجب الخطأ عليه وعلى عواقله وإذا لم
تجب الشفعة فيما هو الأصل لا تجب في البيع
أيضا أما لأنه صار شريكا بما هو الأصل أو
قياسا على المضارب إذا باع دارا من مال
المضاربة ورب المال
ج / 14 ص -125-
شفيعها بدار له وفي المال ربح فإنه لا يأخذ
بالشفعة نصيب المضارب من الربح لأن الشفعة لم
تجب له فيما هو الأصل باعتبار أن البيع كان له
فلا تجب الشفعة في البيع أيضا.
وإن صالح من كفالة بنفس رجل على دار فلا شفعة
فيها لأن هذا الصلح باطل فإنه بإسقاط حقه عن
الكفالة بالنفس لا يملك الكفيل شيئا فلا يستحق
عليه عوضا وإن كان هذا الصلح صحيحا لم يجب
فيها الشفعة لأن الدار ملكت بإزاء ما ليس بمال
فالكفالة بالنفس ليست بمال وسواء كانت الكفالة
بنفس رجل في قصاص واحد أو مال ففي حكم الشفعة
وبطلان الصلح في الكل سواء ولو صالحه من المال
الذي يطلب به فإن قال على أن يبرأ فلان من
المال كله فهو جائز وللشفيع فيها الشفعة لأن
صلح الأجنبي عن الدين على ملكه صحيح كصلح
المديون ولو كان المديون هو الذي صالح على ذلك
جاز الصلح ووجب للشفيع فيها الشفعة فكذلك إذا
فعله أجنبي هو كفيل بالنفس وإن قال أقبضتكها
عنه فالصلح باطل لأنه ملكه الدار بمقدار
قيمتها من الدين فقضاء الدين بالدار يكون بهذه
الصفة وذلك مجهول لأنه يعلم أنه جميع الدين أو
بعضه فكان الصلح فاسدا ولا شفعة في العوض في
الصلح الفاسد كما لا شفعة في البيع الفاسد.
وإذا زوج الرجل ابنته وهي صغيرة على دار
فطلبها الشفيع بالشفعة فسلمها الأب له بثمن
مسمى معلوم بمهر مثلها أو بقيمة الدار فهذا
بيع وللشفيع فيها الشفعة لأن الصداق لا يستحق
بالشفعة والتسليم فيه إلى الشفيع سمحا بغير
قضاء بمنزلة الشفيع المبتدأ وللأب ولاية البيع
في دار ابنته الصغيرة وهو بيع صحيح لأن الثمن
فيه مسمى معلوم وكذلك لو كانت الابنة كبيرة
فسلمت فهو بيع وللشفيع فيها الشفعة ولا شفعة
في البيع الفاسد أن قبضها المشتري أو لم
يقبضها أما قبل القبض فلبقاء ملك البائع فيها
وأما بعد القبض فلبقاء حقه في استردادها ووجوب
الشفعة بغير انقطاع حق البائع عن الدار فإن
كان قد قبضها فبيعت دار إلى جنبها فللمشتري أن
يأخذها بالشفعة لأنه ملكها بالقبض فهو جار
للدار المبيعة حين بيعت بملك هذه الدار وقيام
حق البائع في الاسترداد لا يمنع وجوب هذه
الشفعة لها كقيام حق المرتهن في الدار
المرهونة لا يمنع وجوب الشفعة للراهن إذا بيعت
دار بجنبها فإن لم يأخذها حتى رد هذه الدار
بطلت شفعته في تلك الدار لأنه زال جواره قبل
أن يأخذها بالشفعة وقيام السبب له إلى وقت
الأخذ بالشفعة شرط للقضاء له بالأخذ ولا شفعة
للبائع فيها لأنه لم يكن جارا حين بيعت هذه
الدار وهو بمنزلة مالو باع الشفيع داره التي
يطلب بها الشفعة قبل أن يخاصم بالشفعة فإنه لا
يستحق المبيعة بالشفعة لأنه زال جواره ولا
المشتري منه لأن جواره حادث بعد ملكه الدار.
وإذا اشترى دارا شراءا فاسدا وقبضها وبناها
فللبائع قيمتها وينقطع حقه في الاسترداد عند
أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا ينقطع حقه
في الاسترداد ولكن يهدم بناء المشتري فيرد
الدار على البائع لأنه بنى في بقعة غيره أحق
بتملكها منه فينقض بناءه للرد على صاحب الحق
كالمشتري إذا بنى في الشقص المشفوع وهذا لأن
البناء بيع لحق الثابت في
ج / 14 ص -126-
الأصل بصفة التأكيد لا يبطل بمعنى في البيع ثم
حق البائع في الاسترداد أقوى من حق الشفيع ألا
ترى أنه لا يبطل بالسكوت ولايسقط بإسقاط
البائع وإن ذلك مستحق له وعليه شرعا ثم بناء
المشتري في ملكه ينقض لحق الشفيع مع ضعفه فلأن
ينقض بحق البائع في الاسترداد كان أولى أرأيت
لو هدم المشتري بناءه ألم يكن للبائع أن
يسترده وهذا لاوجه لمنعه فالمشتري إذا وجد بها
عيبا بعد ما رفع بناءه كان له أن يردها بالعيب
فلأن يردها بفساد البيع كان أولى وهذا بخلاف
حق الواهب في الرجوع فهو حق ضعيف فيسقط بمعنى
في البيع كما يسقط بحدوث الزيادة المتصلة
وبموت أحدهما وأبو حنيفة يقول بنى في ملك نفسه
بتسليط من له الحق فلا ينقض بناؤه لحقه
كالموهوب له يبني في الدار الموهوبة وبيان
الوصف أن الحق في الاسترداد للبائع فهو الذي
سلط المشتري على هذا البناء بإيجاب الملك له
فيها والبيع وإن فسد شرعا فالتسليط من البائع
بقي معتبرا في حقه والدليل عليه أن سائر
تصرفات المشتري من البيع والهبة والصدقة لا
تنقض لحق البائع في الاسترداد وما كان ذلك إلا
باعتبار تسليطه إياه على ذلك وبه فارق الشفيع
فإنه لم يوجد منه تسليط المشتري على التصرف
ولهذا ينقض سائر تصرفات المشتري لحق الشفيع
فكذلك ينقض بناؤه.
وإذا عرفنا هذا فنقول عندهما لا يجب للشفيع
فيها الشفعة لبقاء حق البائع في الاسترداد
وعند أبي حنيفة يجب للشفيع فيها الشفعة لأن حق
البائع في الاسترداد قد انقطع فيأخذها الشفيع
بقيمتها وينقض بناء المشتري لحق الشفيع وهما
بهذا الحرف يستدلان على أبي حنيفة فيقولان
لإقرار لهذا البناء بالاتفاق بل رفعه مستحق
أما لحق البائع أو لحق الشفيع وأبو حنيفة يقول
لهذا البناء قرار في حق البائع فإنه حصل
بتسليطه فينقطع به حق البائع في الاسترداد
ولكن لاقرار له في حق الشفيع فيكون له أن
ينقضه للأخذ بالشفعة وهو بمنزلة تصرف آخر من
المشتري فيها كالبيع والهبة والصدقة فإنه يقطع
حق البائع في الاسترداد ثم ينقض ذلك التصرف
لحق الشفيع يقول فإن باعها المشتري بيعا صحيحا
فللشفيع الخيار أن شاء أخذها بالبيع الثاني
بالثمن المسمى وإن شاء أبطل البيع الثاني
وأخذها بالبيع الأول بالقيمة لاجتماع سببين
فيها لثبوت حق الأخذ له فيأخذ بأي السببين شاء
وهما يفرقان بين هذا وبين البناء ويقولان تصرف
المشتري هنا حصل في غير ما هو مملوك له بالعقد
الفاسد وفي البناء حقه في البيع لأن البناء
بيع للأصل وفي هذا القول اشكال فالشفيع إذا
نقض البيع الثاني فقد صار ذلك كان لم يكن وقيل
البيع الثاني يرد على البائع الأول ولا شفعة
فيها فكذا بعد ما انتقض البيع الثاني من الأصل
ولكنا الجواب عنه أن البيع الثاني من الأصل
الثاني صحيح مزيل لملك المشتري وإنما ينقض لحق
الشفيع فما يكون من مقتضيات حق الشفيع لا يصلح
أن يكون مبطلا حقه في الأخذ بالشفعة.
و إن اشتراها شراءا فاسدا ولم يقبضها حتى بيعت
دار إلى جنبها فللبائع أن يأخذ هذه الدار
بالشفعة لأن الأول في ملكه بعد فيكون جارا
بملكه الدار الأخرى فإن سلمها إلى
ج / 14 ص -127-
المشتري بطلت شفعته لأنه أزال جواره باختياره
قبل الأخذ بالشفعة ولا شفعة فيها للمشتري لأن
جواره محدث بعد بيع تلك الدار وإن اشتراها
بخمر أو خنزير والمتعاقدان مسلمان أو أحدهما
وشفيعها نصراني فلا شفعة فيه لأن البيع فاسد
والخمر والخنزير ليسا بمال متقوم في حق المسلم
منهما وفي البيع الفاسد لا تجب الشفعة لمسلم
ولا كافر.
وإن اشتراها كافر من كافر وشفيعها مسلم فالبيع
صحيح لأن الخمر والخنزير في حقهم مال متقوم
كالبعير والشاة في حق المسلمين فإن كان شفيعها
نصراني أخذها بمثل الخمر المشترى بها أو بقيمة
الخنزير لأن الخمر من ذوات الأمثال فيأخذها
الشفيع بمثل ما يملك به المشتري صورة ومعنى
وفي الخنزير يأخذها بقيمته ولو كان الشفيع
مسلما أخذها بقيمة الخمر والخنزير لأن المسلم
عاجز عن تمليك الخمر قصدا فعليه قيمتها وهو
معتبر بالاستهلاك فإن خمر النصراني عند
الاستهلاك مضمون على النصراني بالمثل وعلى
المسلم بالقيمة فكذلك في حق الشفيع وطريق
معرفة القيمة والرجوع فيها إلى من أسلم من أهل
الذمة أو من تاب من فسقة المسلمين فإن وقع
الاختلاف في ذلك فالقول قول المشتري بمنزلة ما
إذا اختلف الشفيع والمشتري في مقدار الثمن.
وإذا اشترى أرضا شراءا فاسدا فزرعها وغرس فيها
الشجر فنقضها ذلك ثم جاء الشفيع والبائع
فللشفيع أن يأخذها بقيمتها في قياس قول أبي
حنيفة لأن الغرس كالبناء فكما لا ينقض بناء
المشتري لحق البائع عنده فكذلك لا تقلع أشجاره
وإذا انقطع حق البائع في الاسترداد وجب للشفيع
فيها الشفعة بقيمتها إلا أنه يطرح عنه من ذلك
بقدر ما نقض الأرض من عمل المشتري لأنه في
معنى المتلف لجزء منها وقد بينا أن لما يتلفه
المشتري حصة من الثمن في حق الشفيع يطرح عنه
بقدره كالبناء إذا أحرقه وعند أبي يوسف ومحمد
يقلع الشجر كما يهدم البناء ويرد على البائع
ولا شفعة فيها وكذلك أن اتخذها مسجدا ثم خاصمه
البائع فيها فله القيمة في قياس قول أبي حنيفة
لأن تصرف المشتري بتسليط البائع فلا ينقض لحقه
وعندهما يرد على البائع كما لو بنى فيها
المشتري بناء آخر وذكر هلال في كتاب الوقف أن
حق البائع في القيمة عندهم جميعا لأن المسجد
يتحرر عن حق العباد ويصير خالصا لله تعالى فهو
نظير العتق في العبد الذي اشتراه شراءا فاسدا
ثم هذا تصرف من المشتري في عين ما يملكه
بالعقد الفاسد ولو تصرف فيه بنقل الملك إلى
غيره لم ينقض تصرفه لحق البائع في الاسترداد
فإذا تصرف فيه بإبطال الملك أولى فإن باع
نصفها بيعا صحيحا يرد النصف الثاني على البائع
اعتبارا للبعض بالكل ويأخذ الشفيع النصف الآخر
بالثمن الآخر هكذا قال والصحيح أنه يتخير بين
أن يأخذ النصف بنصف القيمة بحكم البيع الأول
لما انقطع حق البائع في الاسترداد فيه وبين أن
يأخذه بالبيع الثاني بالثمن المسمى اعتبارا
للبعض بالكل وإذا أخذه بالثمن الآخر يصدق
المشتري بفضل نصف الثمن على نصف القيمة فإنه
إنما يغرم للبائع نصف القيمة فالفضل حصل له
بكسب خبيث فيؤمر بالتصدق به والله أعلم.
ج / 14 ص -128-
باب الشفعة في المريض
قال رحمه الله: مريض باع
دارا بألفى درهم وقيمتها ثلاثة الآف درهم ولا
مال له غيرها ثم مات وابنة شفيع الدار فلا
شفعة للابن فيها لأنه لو باعها من أبيه بهذا
الثمن لم يجز وقد بينا أن الشفيع يتقدم على
المشتري شرعا في ثبوت الملك له بالسبب الذي
يملك به المشتري وقد تعذر ذلك في هذا الموضع
يوضحه أما أن يأخذها بالفين كما أخذها المشتري
فيكون ذلك وصية من المريض لوارثه خصوصا إذا
أخذها من يد البائع ولا وصية لوارث أو يأخذها
بثلاثة آلاف وذلك لا يستقيم لما فيه من إثبات
ثمن في حق الشفيع ليس ذلك بثابت في حق المشتري
فإذا تعذر الوجهان قلنا لا شفعة له أصلا وذكر
في كتاب الوصايا أن على قولهما له أن يأخذها
بقيمتها إن شاء والأصح ما ذكرنا هنا فإنه نص
في الجامع على أنه قولهم جميعا ولو كان الابن
هو المشتري للدار من أبيه وأجنبي شفيعها فإن
كان اشتراها بمثل القيمة فلا شفعة للشفيع فيها
في قول أبي حنيفة وفي قولهما للشفيع فيها
الشفعة وهذا بناء على أن بيع المريض من وارثه
بمثل قيمته لا يجوز في قول أبي حنيفة ويجوز في
قولهما لأنه ليس في تصرفه إبطال حق الورثة عن
شيء مما تعلق حقهم به وهو المالية والوارث
والأجنبي في مثل هذا التصرف سواء كما لو أعانه
ببدنه.
يوضحه أنه ممنوع من الوصية للوارث كما أنه
ممنوع من الوصية بما زاد على الثلث للأجنبي ثم
البيع بمثل القيمة من المريض صحيح في حق
الأجنبي في جميع ماله ولا يكون ذلك وصية بشيء
فكذلك مع الوارث يوضحه أنه إذا كان عليه دين
مستغرق فباع بعض ماله من آخر بمثل قيمته يجوز
وهو ممنوع في هذه الحال من الوصية بشيء من
ماله ثم لم يجعل بيعه بمثل قيمته وصية منه
فكذلك في حق الوارث وأبو حنيفة يقول آثر بعض
ورثته بعين من أعيان ماله بقوله وهو محجور عن
ذلك لحق سائر الورثة كما لو أوصى بأن يعطي أحد
ورثته هذه الدار بنصيبه من الميراث وهذا لأن
حق الورثة يتعلق بالعين فيما بينهم كما يتعلق
بالمالية وعلى هذا لو أراد بعضهم أن يجعل شيئا
لنفسه بنصيبه من الميراث لا يملك ذلك إلا برضا
سائر الورثة فكما أنه لو قصد ايثار البعض بشيء
من ماله رد عليه قصده فكذلك إذا قصد إيثاره
بالعين وهذا لأن للناس في الأعيان أغراضا فقد
يفتخر الإنسان بخطه إياه فوق ما يفتخر بكثرة
ماله وإنما نفي الشرع وصية المريض لبعض الورثة
دفعا للغضاضة عن سائر الورثة وذلك المعنى
يتحقق هنا فلهذا يمتنع بيعه منه بمثل قيمته
وبأكثر بخلاف الأجنبي فإنه غير ممنوع من
التصرف مع الأجنبي فيما يرجع إلى العين وإنما
يمنع من أبطال حق الورثة عن ثلثي ماله وليس في
البيع بمثل القيمة من الأجنبي إبطال حق الورثة
عن شيء من ماله.
والدليل على الفرق إن إقرار المريض للأجنبي
بالدين أو بالعين وإقراره باستيفاء الدين منه
صحيح في حق الورثة وشيء من ذلك لا يصح مع
الوارث ويجعل وصية منه فكذلك البيع بمثل
القيمة وهذا بخلاف بيعه من الأجنبي إذا كان
عليه دين مستغرق لأن المنع لحق الغرماء
ج / 14 ص -129-
وحقهم في ديونهم لا في عين مال المريض ألا ترى
أن للوارث أن يستخلص العين لنفسه بقضاء الدين
من مال آخر فإذا لم يكن في البيع بمثل القيمة
إبطال حقهم عن شيء مما تعلق به حقهم كان صحيحا
بخلاف ما نحن فيه والدليل على الفرق أنه لو
كان باع عينا في صحته من أجنبي ثم أقر
باستيفاء الثمن منه في مرضه صح إقراره في حق
الغرماء وبمثله لو باعه من دار به لم يصح
إقراره باستيفاء الثمن منه في مرضه في حق سائر
الورثة والفرق ما ذكرنا إذا عرفنا هذا فنقول
عند أبي حنيفة لا شفعة للشفيع لأن البيع فاسد
وعند أبي يوسف ومحمد لما صح البيع كان للشفيع
أن يأخذها بالشفعة ولو كان باعها من ابنه
بألفى درهم وقيمتها ثلاثة آلاف فلا أشكال عند
أبي حنيفة أن البيع فاسد ولا شفعة للشفيع
وعندهما للشفيع أن يأخذها بثلاثة آلاف درهم أن
شاء في رواية كتاب الشفعة لأن الشفيع قائم
مقام المشتري وقد كان للابن أن يزيل المحاباة
ويأخذها بثلاثة آلاف إن شاء فكذلك للشفيع أن
يأخذها بذلك وذكر في موضع آخر أن الشفيع لا
يأخذها بالشفعة هنا لأن عندهما بيع المريض من
وارثه إنما يجوز باعتبار أنه لاوصية في تصرفه
وفي البيع بالمحاباة وصية ألا ترى أنه لو حصل
مع أجنبي آخر كان معتبرا من الثلث ولا وصية
لوارث فكان البيع فاسدا ولا شفعة في البيع
الفاسد وبأن كان المشتري يتمكن من آزالة
المفسد فذلك لا يوجب الشفعة للشفيع كما لو
اشتراها بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد.
وقد روى عن أبي يوسف أن للشفيع أن يأخذها
بالقيمة لأنه يتقدم على المشتري شرعا فيجعل
كأن البيع من المريض كان منه بهذا الثمن
والأصح ما ذهب إليه أبو حنيفة فإن نفس البيع
وصية ألا ترى أنه لو أوصى بأن تباع داره من
فلان بمثل قيمتها يجب تنفيذ الوصية بعد موته
إذا طلب الموصي له وإن الموصى له بالبيع يزاحم
سائر أصحاب الوصايا فإذا ثبت أن نفس البيع
وصية وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الوصية للوارث قلنا لا يجوز منه البيع أصلا.
وإذا اشترى المريض دارا بألفى درهم وقيمتها
ألف درهم وله سوى ذلك ألف درهم ثم مات فالبيع
جائز وللشفيع فيها الشفعة لأنه إنما حاباه
بقدر الثلث وذلك صحيح منه في حق الأجنبي فيجب
للشفيع فيها الشفعة ولو كان باع دارا بقيمتها
أو أكثر ووارثه شفيعها فلا شفعة له في قول أبي
حنيفة لأن بيعه من الوارث لا يجوز عند أبي
حنيفة وكذلك بيعه من الأجنبي لا يكون مثبتا حق
الأخذ بالشفعة للوارث وعند أبي يوسف ومحمد
للوارث أن يأخذها بالشفعة لأنه لو باعها منه
بذلك الثمن جاز البيع فكذلك إذا باعها من
أجنبي آخر والوارث شفيعها لأن الشفيع يتقدم
على المشتري في تملكها بالسبب الذي باشره
المشتري إذا أخذها بالشفعة.
وإن باعها بألفين وقيمتها ثلاثة آلاف درهم
وشفيعها أجنبي فله أن يأخذها بالفين لأن
المحاباة بقدر الثلث وذلك صحيح منه في حق
الأجنبي فإن قيل كيف يأخذها الشفيع بالفين
والوصية كانت منه للمشتري دون الشفيع ومن أوصى
لإنسان بشيء من ماله لا يجوز تنفيذ الوصية
لغير من أوصى له به قلنا هو كذلك في وصية
مقصودة فالوصية هنا لم تكن
ج / 14 ص -130-
مقصودة وإنما كانت في ضمن البيع ألا ترى أنها
لا تبقى بعد ما بطل البيع وفي حق البيع الشفيع
صار مقدما على المشتري شرعا فكذلك فيما هو من
متضمنات البيع ولما أوجب البيع له بما سمى من
الثمن مع علمه أن الشفيع يتمكن من الأخذ بمثل
ما اشترى به المشتري فكأنه أوجب الوصية
بالمحاباة للمشتري أن سلم الشفيع له وللشفيع
أن يأخذها بالشفعة.
وإن كان للدار شفيعان أحدهما وارث فلا شفعة
للوارث لأنه لو لم يكن لها شفيع سواه لم
يستحقها بالشفعة في هذا البيع فإذا كان معه
شفيع آخر أولي أن لا يستحقها وإذا انعدمت
مزاحمته كان للأجنبي أن يأخذ الكل بالشفعة
بمنزلة ما لو سلم أحد الشفيعين شفعته وإن
باعها بألف درهم وهي تساوي ألفين وليس له مال
غيرها قيل للمشتري أن شئت فخذها بثلثي الألفين
وإن شئت فدع لأنه حاباه بنصف ماله ولا يمكن
تنفيذ المحاباة إلا في مقدار الثلث والمشتري
يتمكن من آزالة المانع بأن يلتزم إلى تمام
ثلثي الألفين إلا أنه يتخير في ذلك لأنه يلزمه
زيادة في الثمن لم يرض بالتزامها فإن شاء فسخ
البيع لاجله ولا شيء له لأن الوصية كانت في
ضمن البيع وقد بطل البيع وإن شاء التزم ذلك
فيسلم له الوصية بقدر الثلث كما لو كان
اشتراها في الابتداء بثلثى الألفين وأي ذلك
فعل كان للشفيع فيها الشفعة أما عند إمضاء
البيع فلا أشكال وأما عند الرد فلان البيع كان
صحيحا موجبا للشفعة حتى إذا ظهر للميت مال آخر
فالبيع سالم للمشتري وباعتبار صحة البيع وجبت
الشفعة للشفيع ثم الرد من المشتري يعمل في
إبطال حقه لا في إبطال حق الشفيع كما لو
تفاسخا البيع ولكن الشفيع يأخذها بثلثى
الألفين لأنها ما كانت تسلم للمشتري إلا بهذا
القدر من الثمن فكذلك الشفيع.
وإن باعها بالفين إلى أجل وقيمتها ثلاثة آلاف
فالأجل باطل لأن المحاباة بالقدر استغرقت ثلث
المال فلا يمكن تنفيذ الوصية بالأجل في شيء
ولكن يتخير المشتري بين أن يفسخ البيع أو يؤدي
الألفين حالة ليصل إلى الورثة كمال حقهم وأي
ذلك فعل فللشفيع أن يأخذها بالشفعة لأنه قائم
مقام المشتري في حكم هذا البيع كما في الفصل
الأول وهذا أظهر من ذلك فالأجل في الثمن لا
يثبت في حق الشفيع وقد بينا أن خيار المشتري
لا يمنع وجوب الشفعة للشفيع.
وإن باعها بثلاثة آلاف إلى سنة وقيمتها ألفان
قيل للمشتري أن شئت فعجل ألفين وأن شئت فدع في
قول أبي يوسف وهو قياس قول أبي حنيفة وقال
محمد أن شاء عجل ثلثى قيمتها ويكون الباقي
عليه إلى أجل وإن شاء تركه وقد تقدم بيان نظير
هذه المسألة في كتاب العتاق وذكرنا أن من أصل
محمد أن تأجيل المريض صحيح مطلقا فيما له أن
لا يتملكه أصلا كما في الصداق وبدل الصلح عن
القصاص وعند أبي يوسف جميع المسمى مملوك بإزاء
مال تعلق به حق الورثة فلا يصح تأجيله فيه إلا
بقدر الثلث لأن التأجيل بمنزلة الإسقاط من حيث
إن الحيلولة تقع بين الورثة وبين المال في
الحال بسبب الأجل ولهذا لو رجع شهود التأجيل
ضمنوا كما تضمن شهود الأبراء فعلى ذلك الأصل
تنبني هذه المسألة وقد قررنا هذا
ج / 14 ص -131-
الكلام فيما أمليناه من شرح الجامع في هذه
المسألة بعينها وأما الشفيع فالأجل لا يثبت في
حقه ولكنه بالخيار إن شاء عجل المال كله وأخذ
الدار كله وإن شاء كف حتى يحل المال وقد بينا
هذا في الصحيح ببيع داره بثمن مؤجل أن الأجل
لا يثبت في حق الشفيع فهو مثله في حق المريض.
وإذا باع المريض دارا أو حابى فيها ثم برأ من
مرضه والشفيع وارثه فإن لم يكن علم بالبيع حتى
الأن فله أن يأخذها بالشفعة لأن المرض إذا
تعقبه برأ فهو بمنزلة حال الصحة وإن كان قد
علم بالبيع وقد بطلت الشفعة حتى بريء من مرضه
فلا شفعة له لأن السبب الموجب للشفعة له البيع
وقد سكت عن الطلب بعد ما علم بالسبب فتبطل
شفعته به وإن لم يكن متمكنا من الأخذ عند ذلك
كالجار إذا سكت عن الطلب بعد علمه بالبيع
لمكان الشريك ثم سلم الشريك لم يكن له أن يأخذ
بالشفعة فهذا مثله والله أعلم بالصواب.
باب تسليم الشفعة
قال رحمه الله: وإذا سلم الشفيع الشفعة بعد
وقوع البيع والمشتري حاضر أو غائب فتسليمه
جائز لأنه أسقط الحق الواجب له والإسقاط يتم
بالمسقط وأنه تصرف منه على نفسه ولا يتعدى
تصرفه إلى محل هو حق غيره ولهذا لا يشترط
القبول فيه من غيره وكذلك أن ساوم الشفيع
المشتري بالدار لأنه ساومه بها ليشتريها منه
ابتداءا وذلك دليل الرضا بتقرر ملكه فيها
وكذلك لو سأله أن يوليها إياه لأن حاجته إلى
ذلك بعد سقوط حقه في الأخذ بالشفعة فالتماسه
دليل أسقاط شفعته ودليل الإسقاط كصريحه وكذلك
أن قال المشتري للشفيع أنفقت عليها كذا في
بنائها وإني أوليكها بذلك وبالثمن فقال نعم
فهو تسليم منه لأن قوله نعم في موضع الجواب
فيصير ما تقدم من الخطاب كالمعاد فيه ومعناه
ولنى بذلك.
وإذا وكل وكيلا بطلب الشفعة فسلم الوكيل
الشفعة أو أقر بأن موكله قد سلم الشفعة فنقول
أما عند أبي حنيفة يصح ذلك منه في مجلس القضاء
ولا يصح في غير مجلس القضاء وكان أبو يوسف
يقول أولا لا يصح ذلك منه في مجلس القضاء وفي
غير مجلس القضاء وهو قول زفر ثم رجع فقال
إقراره على الموكل بالتسليم صحيح في مجلس
القضاء ومحمد يقول في إقراره على الموكل
بالتسليم بقول أبي حنيفة وقال يجوز تسليم
الشفعة في مجلس القضاء ولا يجوز في غير مجلس
القضاء ذكر قوله هذا في كتاب الوكالة ولا يحفظ
جواب أبي يوسف الآخر فيما إذا أسلم الوكيل
الشفعة وقيل ذلك صحيح منه كما يصح إقراره على
الموكل بالتسليم.
وأصل المسألة في كتاب الوكالة فإن الوكيل
بالخصومة إذا أقر على موكله في القياس لا يجوز
إقراره وهو قول زفر وأبي يوسف وفي الاستحسان
يجوز إقراره في مجلس القاضي وهو قول أبي حنيفة
ومحمد وفي قول أبي يوسف الآخر إقراره صحيح في
غير مجلس القاضي وفي مجلس القاضي كإقرار
الموكل فالوكيل بطلب الشفعة وكيل الخصومة فإذا
أقر
ج / 14 ص -132-
على موكله بالتسليم كان على هذا الخلاف فإما
إذا سلم بنفسه فمن أصل أبي حنيفة وأبي يوسف أن
من ملك طلب الشفعة والخصومة فيها يصح تسليمة
إلا أن الوكيل قائم مقام الموكل في الخصومة
ومجلس الخصومة مجلس القاضي فيصح تسليمه في
مجلس القاضي عند أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف
الوكيل قائم مقام الموكل فيصح منه التسليم في
مجلس القاضي وغير مجلس القاضي وعند محمد وزفر
لا يصح منه التسليم أصلا لأن ذلك ضد ما فوض
إليه فإنه أمر باستيفاء الحق لا بإسقاطه الحق.
وأصل هذه المسألة في الأب والوصي إذا سلما
شفعة الصبي جاز ذلك عند أبي حنيفة وأبي يوسف
وليس للصبي أن يطالب بحقه بعد البلوغ لأنهما
قاما مقامه في استيفاء حقه والإسقاط ضد
الاستيفاء فلا يثبت لهما الولاية في الاسقاط
كالإبراء عن الدين والعفو عن القصاص الواجب له
وهذا لأن تصرفهما مقيد بالنظر وليس في إسقاط
حق الصبي معنى النظر له ولأن حق الأخذ بالشفعة
يثبت شرعا لدفع الضر فيهما بالإسقاط كأنهما
يلزمانه الضرر وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا
تسليم الشفعة ترك الشراء والاب والوصي كما
يجوز منهما الشراء على الصبي يجوز ترك الشراء
ألا ترى أنه لو أوجب صاحب الدار البيع فيها من
الصغير فرده الأب والوصي صح ذلك منهما وبيان
الوصف أن الشفيع بالأخذ يتملك العين بالثمن
وهذا هو الشراء وتأثيره أن في تسليم الشفعة
يبقى أحد العوضين على ملك الصبي وهو الثمن فإن
كان فيه إسقاط حقه فهو إسقاط بعوض يعد له فلا
يعد ذلك ضررا كبيع ماله بخلاف الإبراء عن
الدين وإسقاط القود يوضحه أنه لو أخذها
بالشفعة ثم باعها من هذا الرجل بعينه جاز ذلك
فكذلك إذا سلمها إليه بل أولى لأنه إذا أخذها
ثم باعها منه تتوجه العهدة فيها على الصغير
وفي التسليم لا تتوجه عليه العهدة وإذا ثبت
هذا قلنا سكوت من يملك التسليم عن الطلب
بمنزلة التسليم فإذا سكت الأب والوصي عن طلب
الشفعة من الأجنبي فذلك مبطل لحق الصبي في قول
أبي حنيفة وأبي يوسف بمنزلة تسليمها وفي قول
محمد وزفر لا يبطل حق الصبي.
ولو اشترى الأب للصبي دارا وهو شفيعها فله أن
يأخذها بالشفعة عندنا وقال زفر ليس له ذلك وهو
بناء على شراء الأب مال الصبي لنفسه وإن كان
مكان الأب وصيا لم يملك أخذها لنفسه بالشفعة
لأن ذلك بمنزلة الشراء منه والوصي لا يشتري
مال اليتيم لنفسه بمثل القيمة ولو اشترى الأب
لنفسه دارا والصبي شفيعها فليس للصبي إذا بلغ
أن يأخذها بالشفعة لأن الأب متمكن من الأخذ
فسكوته يكون مبطلا شفعة الصبي بخلاف ما إذا
باع الأب دارا والصبي شفيعها لأن البائع لا
يملك الأخذ بالشفعة والسكوت عن الطلب ممن يملك
الأخذ يكون مبطلا للشفعة فأما ممن لا يملك
الأخذ لا يكون مبطلا.
ولو كان المشتري اشترى الدار بأكثر من قيمتها
بما لا يتغابن الناس في مثله والصبي شفيعها
فسلم الأب ذلك من أصحابنا من قال يصح التسليم
هنا عند محمد وزفر لما فيه من
ج / 14 ص -133-
النظر للصبي والأصح أنه لا يصح التسليم عندهم
جميعا لأنه لا يملك الأخذ لكثرة الثمن وسكوته
عن الطلب وتسليمه إنما يصح إذا كان مالكا
للأخذ فيبقى الصبي على حقه إذا بلغ وتسليم أحد
المتعاوضين شفعة صاحبه في دار له خاصة من
ميراث جائز لأن الأخذ بالشفعة شراء
والمتعاوضان في ذلك كشخص واحد لأن كل واحد
منهما في ذلك قائم مقام صاحبه فيصح تسليمة ألا
ترى أنه لو أخذ بالشفعة كانت الدار بينهما
وكان الثمن عليهما فكما يجعل أخذ أحدهما في
الحكم كأحدهما فكذلك التسليم.
ولو كان المضارب هو الشفيع بدار من المضاربة
فيها ربح وليس في يده من مال المضاربة غيرها
فسلم المضارب الشفعة كان لرب المال أن يأخذها
لنفسه وإن سلم رب المال كان للمضارب أن يأخذها
لنفسه لأن المضارب لا يأخذها بالشفعة للمضاربة
فإنه يكون ذلك استدانة على المضاربة والمضارب
لا يملك ذلك فيبقى حق كل واحد منهما في الأخذ
لنفسه بحكم الجوار لأن المضارب شريك في دار
المضاربة إذا كان فيها ربح وإذا بيعت دار بجنب
الدار المشتركة فلكل واحد من الشريكين فيها
الشفعة وتسليم أحدهما يصح في حق نفسه دون حق
شريكه.
ولو باع المضارب دارا من المضاربة ورب المال
شفيعها فلا شفعة له لأن المضارب في بيعها عامل
لرب المال ألا ترى أنه لو لحقه في ذلك عهدة
رجع على رب المال ولا شفعة لمن وقع البيع له
وكذلك لو باعها رب المال وهي من المضاربة وفي
يد المضارب دار أخرى من المضاربة وهو شفيعها
لم يكن له فيها شفعة لأنه لو أخذها أخذها لرب
المال فإن الأصل في مال المضاربة حق رب المال
ورب المال بائع لا يملك الأخذ بالشفعة فكذلك
لا يأخذ غيره له بالشفعة.
ولو باع المضارب دارا من غير المضاربة كان لرب
المال أن يأخذها بالشفعة بدار من المضاربة
وتكون له خاصة دون المضارب لأن المضارب في بيع
داره من غير المضاربة عامل لنفسه لا لرب المال
فهو في ذلك كأجنبي آخر وباعتبار دار المضاربة
رب المال جار للدار فله أن يأخذها بالشفعة
والأخذ بمنزلة الشراء ولو اشتراها كانت له
خاصة دون المضاربة ولو باع رب المال دارا له
خاصة والمضارب شفيعها بدار من المضاربة فإن
كان فيها ربح فله أن يأخذها لنفسه لأنه جار
باعتبار شركته في الربح وهو في الأخذ لنفسه
غير عامل لرب المال فيكون في ذلك كأجنبي آخر
وإن لم يكن فيها ربح لم يأخذها لأنه لو أخذها
أخذها للمضاربة ففي مال المضاربة حق رب المال
هو الأصل ورب المال هو البائع فكما لا يثبت
للبائع حق الاخذ بالشفعة فكذلك لا يأخذ الغير
له.
وإذا باع المفاوض دارا له خاصة من ميراث
وشريكه شفيعها بدار له خاص من ميراث فلا شفعة
له فيها لأنه لو أخذها كانت بينهما بمنزلة ما
لو اشتراها وإذا كان بائعها شريكه لو ثبت
لواحدمنهما فيها شفعة كانت ثابتة للبائع
لأنهما فيما يأخذان بالشفعة كشخص واحد وإذا
ج / 14 ص -134-
وجبت الشفعة للعبد المأذون فسلمها فهو جائز أن
كان عليه دين أو لم يكن عليه دين لأن هذا بدل
الشراء وهو من صنيع التجار ثم هو إسقاط حق
بعوض يعدله فإن الثمن يبقى كسبا له وإن سلمها
مولاه جاز أن لم يكن عليه دين لأن العبد لو
أخذها تصير مملوكة للمولى وهو من هذا الوجه
كالنائب عنه فيصح التسليم من المولى كما يصح
من الموكل وإن كان عليه دين لم يجز تسليم
المولى عليه لأن العبد في الأخذ عامل لغرمائه
للمولى والمولى من كسب عبده المديون كسائر
الأجانب ألا ترى أنه بعد الأخذ لو باعها
المولى جاز بيعه إذا لم يكن عليه دين ولم يجز
بيعه إذا كان على العبد دين فكذلك تسليمه.
وتسليم المكاتب شفعته جائز لأنه منفك الحجر
عنه فيما هو من صنيع التجار وقد بينا أن تسليم
الشفعة من صنيع التجار كالأخذ بالشفعة وتسليم
المرتد شفعته جائز أيضا وذكر في بعض نسخ الأصل
إذا مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب
فهو باطل في قياس قول أبي حنيفة وهذا لا معنى
له لأن الشفعة لا تورث فلا يقوم وارثه مقامه
في الآخذ بالشفعة وبهذا الطريق يقول لا يتوقف
فيه تسليم الشفعة بخلاف سائر التصرفات لأنه لا
فائدة في هذا التوقف أن أسلم فتسليمه صحيح وإن
مات فالشفعة لا تورث إلا أن يكون موضوع هذا
فيما إذا كان اشترى المرتد دارا فطلبها الشفيع
بالشفعة فسلمها إليه فهذا يتوقف منه عند أبي
حنيفة بمنزلة بيعه.
وإذا اشترى دارا بعبد وسلم الشفيع الشفعة ثم
رأى صاحب الدار العبد فلم يرضه ورده وأخذ داره
وقد كان دفعها أو لم يدفعها فلا شفعة للشفيع
في ذلك لأن الرد بخيار الرؤية فسخ من الأصل
ولهذا ينفرد به الراد من غير قضاء ولا رضاء
والشفعة تجب بالعقود لا بالفسوخ وما كان وجب
له بالعقد فقد أسقطه ولو اشترى دارا لم يرها
ثم بيعت دار بجنبها فأخذها بالشفعة لم يسقط به
خيار رؤيته في الدار المشتراة بخلاف خيار
الشرط لأنه أخذه إياها بالشفعة بمنزلة التصريح
بإسقاط خياره والتصريح بإسقاط خيار الشرط صحيح
من المشتري وبإسقاط خيار الرؤية باطل قبل أن
يراها فكذلك إذا أخذ دار بالشفعة بيعت بجنبها.
وإذا اشترى المضارب دارين بمال المضاربة وهو
ألف درهم تساوي كل واحد منهما ألف درهم فبيعت
دار إلى جنب أحدهما فلا شفعة للضارب فيها
فالشفعة لرب المال لأن كل واحدة منهما مشغولة
برأس المال والمضارب شريك في الربح ولا ربح في
واحدة منهما فلا يأخذها المضارب بالشفعة وهذا
لأن الدور لا تقسم قسمة واحدة لما فيها من
التفاوت في المنفعة فتعتبر كل واحدة منهما على
الإنفراد ألا ترى أنه لو كان مكان الدارين
عبدين لم ينفذ عتق المضارب في واحد منهما ولو
كان في إحديهما ربح كان له الشفعة مع رب المال
لأنه شريك فيها بحصته من الربح.
وإذا سلم الشفيع الشفعة على أن يعطى نصف الدار
بنصف الثمن فهو جائز على ما اشترط لأنه أسقط
بعض حقه واستوفى البعض وذلك صحيح عند تراضيهما
اعتبارا للبعض
ج / 14 ص -135-
بالكل وإن اشترط بيتا بعينه لنفسه فهذا باطل
لجهالة حصة البيت من الثمن ويأخذ الدار كلها
أو يدع لأنه بما صنع غير مسلم شفعته بل هو
مظهر رغبته فيما يحتاج إليه منها فيكون على
شفعته فيها وإذا شهد شاهدان على تسليم الشفعة
واختلفا في الوقت والمكان فالشهادة جائزة لأن
تسليم الشفعة قول يعاد ويكرر فاختلاف الشاهدين
في المكان والزمان لا يوجب اختلافا بينهما في
المشهود به وإذا سلم الشفعة في منزل وهو شريك
في الطريق على أن يأخذ نصف المنزل بنصف الثمن
فذلك جائز لما بينا أنه أسقط بعض حقه واستوفى
البعض وذلك جائز بتراضيهما وللجار أن يأخذ
النصف الآخر بالشفعة لأن حق الجار كان ثابتا
في جميع المنزل إلا أن الشريك في الطريق كان
مقدما عليه ففيما أسقط الشريك حقه زال المانع
فللجار أن يأخذه كما لو سلم في جميع المنزل.
وإذا اشترى الرجل دارا فسلم الشفيع الشفعة ثم
أقر المشتري أن البيع كان يلجئة لم يكن للشفيع
في ذلك شفعة لأن هذا إقرار منه بفساد البيع
الأول من الأصل بخلاف الأقالة فإنه يتضمن معنى
المبادلة ابتداء وباعتباره تجب الشفعة ألا ترى
أنه لو فسخ البيع من الأصل بخيار الرؤية أو
الشرط لم يتجدد به حق الشفيع بعد ما سلم
الشفعة فإذا أقر بفساد البيع من الأصل أولى
وإذا سلم الشفيع الشفعة في هبة بعوض بعد
التقابض ثم أقر البائع والمشتري أنها كانت
بيعا بذلك العوض لم يكن للشفيع فيها الشفعة
لأن الهبة بشرط العوض بعد التقابض بمنزلة
البيع في حق الشفعة فكان التسليم صحيحا من
الشفيع سواء أقر في البيع أنه كان هبة بعوض أو
في الهبة بشرط العوض أنه كان بيعا وإن سلمها
في هبة بغير عوض ثم تصادقا أنها كانت بشرط عوض
أو كانت بيعا فللشفيع أن يأخذها بالشفعة لأنه
لم يوجد منه الرضا بسقوط حقه ولكنه ترك الطلب
أو سلم بناء على أن الشفعة لم تجب له فإذا ظهر
أنها كانت واجبة له فهو على حقه في الشفعة.
وإذا وهب الرجل دارا على عوض بألف درهم فقبض
أحد العوضين دون الآخر ثم سلم الشفيع الشفعة
فهو باطل حتى إذا قبض العوض الآخر كان له أن
يأخذ الدار بالشفعة لأنه أسقط حقه قبل الوجوب
فالهبة بشرط العوض إنما تصير كالبيع بعد
التقابض وتسليم الشفعة قبل تقرر سبب الوجوب
باطل كما لو سلمها قبل البيع.
وإذا وهب الرجل لرجلين دارا على عوض ألف درهم
وتقابضوا فذلك باطل في قول أبي حنيفة جائز في
قولهما لأن الشيوع في الهبة بشرط العوض كهو في
الهبة بغير عوض وقد بينا هذا الخلاف في الهبة
من رجلين بغير عوض في كتاب الهبة فكذلك في
الهبة بشرط العوض ولو وهب رجلان من رجل دارا
على ألف درهم وقبضا منه الألف مقسومة بينهما
وسلما إليه الدار جاز ذلك وللشفيع فيها الشفعة
لانعدام الشيوع في الدار فالملك فيها واحد
وانعدام الشيوع في الألف حين قبض كل واحد
منهما نصيبه مقسوما ولو كانت الألف غير مقسومة
لم يجز في قول أبي حنيفة لأن الشيوع فيما
يحتمل القسمة يمنع صحة التعويض كما يمنع صحة
الهبة والألف محتمل للقسمة.
ج / 14 ص -136-
وإذا اشترى الرجل دارين صفقة واحدة وشفيعهما
واحد فأراد أخذ إحديهما دون الأخرى فليس له
ذلك وكذلك لو كانت أرضين أو قرية وأرضها أو
قريتين وأرضيهما وهو شفيع ذلك كله بأرض واحدة
أو بأرضين أو بدار واحدة أو بدور فانما له أن
يأخذ ذلك كله أو يدع وقال زفر له أن يأخذ
أحديهما دون الآخرى والدور المتلازقة وغير
المتلازقة في مصر واحد أو مصرين في ذلك سواء
بعد أن يكون ذلك صفقة واحدة فزفر يقول يثبت له
حق الأخذ في كل واحدة منهما وليس في أخذ
إحديهما ضرر على المشتري لأن إحديهما تنفصل عن
الآخرى فهو كما لو كان العقد في كل واحدة
منهما صفقة علي حدة ولكنا نقول المشترى ملكهما
صفقة واحدة وفي أخذ احديهما تفريق الصفقة عليه
وكما لا يملك المشتري في حق البائع تفريق
الصفقة بقبول العقد في إحديهما دون الآخرى
فكذلك لا يملك الشفيع ذلك في حق المشتري بخلاف
ما إذا كان العقد في صفقتين وهذا لأن الإنسان
قد يشتري دارين ورغبته ومنفعته في إحديهما
فإذا أخذ الشفيع تلك دون الآخرى تضرر المشتري
باختيار الشفيع والشفيع لا يملك الحاق الضرر
بالمشتري فيما يأخذ بالشفعة ولم يذكر في
الكتاب أنه إذا كان شفيعا لإحديهما دون الأخرى
فكان أبو حنيفة أولا يقول في هذه المسألة له
أن يأخذهما جميعا أو يدع لأن الشفعة تثبت له
في إحديهما ولو أخذها وحدها تفرقت الصفقة على
المشتري فيثبت حقه في الآخرى حكما لدفع الضرر
عن المشتري ثم رجع فقال لا يأخذ واحدة منهما
لأنه لا يمكن إثبات الشفعة له في إحديهما بدون
السبب وفي الآخرى لما فيه من تفريق الصفقة على
المشتري ثم رجع فقال يأخذ الذي هو شفيعها خاصة
وهو قول أبي يوسف ومحمد بمنزلة ما لو اشترى
عبدا ودارا صفقة واحدة كان للشفيع أن يأخذ
الدار بالشفعة دون العبد وهذا لأن تفرق الصفقة
هنا لم يكن باختيار الشفيع بل هو بمعنى حكمي
وهو أنه لم يتمكن من إحديهما لانعدام السبب في
إحديهما بخلاف ما إذا كان شفيعا لهما جميعا
والله أعلم بالصواب.
باب شفعة أهل البغى
قال رحمه الله: الباغي والعادل في استحقاق
الشفعة وتسليمها سواء لأن أهل البغي مسلمون
وهم من جملة أهل دار الإسلام وقد بينا أن لأهل
الذمة الشفعة في دار الإسلام وأنهم في ذلك
كالمسلمين فأهل البغي في ذلك أولى إلا أن
العادل في عسكر أهل العدل والباغي في عسكر أهل
البغي فكان بمنزلة الغائب إن علم فلم يبعث
وكيلا بطلت شفعة وإن لم يعلم حتى اصطلحوا فهو
على شفعته إذا علم وإذا كان الشفيع في غير
المصر الذي فيه الدار المبيعة فجاء إلى هذا
المصر فطلب الشفعة وأشهد عليها ولم يقصد البلد
الذي فيه البائع والمشتري فهو على شفعته لأنه
أتى بما يحق عليه وهو عاجز عن اتباعهما مع أنه
لا فائدة له في ذلك لأنه إنما يتمكن من الأخذ
في الموضع الذي فيه المبيع وكذلك إن قصد المصر
الذي فيه البائع والمشتري فطلب الشفعة وأشهد
ولم يقصد المصر الذي فيه الدار فهو على شفعته.
وحاصل الكلام أنه بعد طلب المواثبة عليه أن
يأتي بطلب التقرير وذلك بالإشهاد عند
ج / 14 ص -137-
الدار وعند المشتري أو البائع إن كانت الدار
في يده وإن كان قد سلمها فقد خرج البائع من
الوسط ثم عند اختلاف الأمصار والقرى عليه أن
يأتي أقرب الثلاثة منهم فيشهد فإن ترك الأقرب
وجاء إلى الأبعد بطلت شفعته كما لو ترك الطلب
بعد العلم بالبيع حتى قام عن مجلسه وإذا كانوا
في مصر واحد فإن ترك الأقرب وأتى الأبعد فأشهد
عنده ففي القياس كذلك تبطل شفعته لأن القليل
من الإعراض والكثير في الحكم سواء وفي
الاستحسان لا تبطل شفعته لأن المصر في حكم
مكان واحد ولهذا لو شرط في السلم التسليم في
المصر يكفي وإذا اتخذ المكان حكما فلا معتبر
بالأقرب والأبعد في ذلك.
وإذا اشترى رجل من أهل البغي دارا من رجل في
عسكره والشفيع في عسكر أهل العدل لا يستطيع أن
يدخل في عسكر البغي فلم يطلب بعد العلم
بالشراء أو لم يبعث وكيلا فلا شفعة له لأنه
كان متمكنا من أن يبعث وكيلا فإن كان لا يقدر
على أن يبعث الوكيل أو على أن يدخل فله الشفعة
لأنه ما ترك الطلب بعد التمكن منه فهو بمنزلة
ترك الطلب قبل أن يعلم بالبيع ألا ترى أنهم لو
كانوا في غير عسكر ولا حزب غير أن الشفيع في
بلد آخر وبينهما قوم محاربون فلم يقدم وهو
يقدر على أن يبعث وكيلا يأخذ الشفعة أبطلت
شفعته أرأيت لو كان بينهما نهر مخوف أو أرض
مسبعة كنت أجعله على شفعته وقد ترك الطلب بعد
ما تمكن من ذلك بنفسه أو بوكيل يبعثه في هذا
كله تبطل شفعته بالإعراض عن الطلب والله أعلم
بالصواب.
باب الوكالة في الشفعة
قال رحمه الله: ويجوز للشفيع أن يوكل بطلب
الشفعة والخصومة فيها وكيلا كما يجوز أن يوكل
بطلب سائر حقوقه فقد يحتاج إلى التوكيل في ذلك
لقلة هدايته في الخصومات أو لكثرة اشتغاله ولا
يقبل من وكيله البينة على الوكالة إلا وخصمه
معه لأنه يقيم البينة ليقضي له بالوكالة ولا
يقضي بينة قامت لا على خصم حاضر وإذا أقر
المشتري بشراء الدار وهي في يده وجبت الشفعة
للشفيع فيها وخصمه الوكيل ولا أقبل من المشتري
بينة أنه اشتراها من صاحبها إذا كان صاحبها
غائبا لأن القضاء عليه بالشفعة بإقراره لا
يكون قضاء على الغائب بالبيع فإن من في يده
عين إذا أقر بحق فيه لغيره قضى عليه بإقراره
والوكيل الذي حضر ليس بخصم عن صاحب الدار
فالقضاء على الغائب بالبينة لا يجوز إلا بمحضر
من الخصم حتى إذا أجرت الدار فأنكر ذلك أبطلت
البيع والشفعة وردت الدار عليه لتصادقهم على
أن أصل الملك كان له بعد أن يحلف بالله ما
باعه إلا أن تقوم عليه بينة بمحضر منه وهذه
البينة مقبولة من الشفيع والمشتري جميعا لأن
المشتري يثبت عقده بالبينة والشفيع يثبت حقه
في الشفعة وإذا طلب وكيل الشفيع له الشفعة
فقال المشتري أريد يمين الشفيع ما سلم لي فإنه
يقضي عليه بالدار بهذا ويقال له انطلق فاطلب
يمين الأمر وعن أبي يوسف قال لا يقضي بها حتى
يحضر الشفيع ويحلف وهذه ثلاثة فصول.
أحدها: ما بينا.
ج / 14 ص -138-
والثاني:
وكيل صاحب الدين إذا طالب المديون بإيفاء
الدين وقال المديون أريد يمين الموكل ماأبرأني
فأنه يقضي عليه بالمال ويقال له انطلق فاطلب
يمين الطالب.
والثالث: وكيل المشتري إذا
أراد الرد بالعيب فقال البائع أريد يمين
الموكل ما رضى بالعيب فله ذلك ولا يرد حتى
يحضر المشتري فيحلف.
فأبو يوسف يجعل مسألة الشفعة نظير مسألة العيب
لأن في فصل الشفعة قضاء بالملك والعقد فإن
الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء كما أن الرد
بالعيب قضاء بفسخ العقد وإعادة المبيع إلى ملك
البائع وفي ظاهر الرواية سوى بين الشفعة وقضاء
الدين لأن بالتسليم سقط الحق بعد الوجوب ولا
ينعدم السبب كما في الإبراء عن الدين بخلاف
الرد بالعيب فهناك ينعدم السبب المثبت لحق
الرد وهو حق المشتري في المطالبة بتسليم الجزء
الفائت يوضح الفرق أن هناك لو فسخ العقد نفذ
قضاؤه بالفسخ لقيام السبب وهو العيب فيتضرر به
البائع ضرر لا يمكنه دفعه عن نفسه لأنه لا
يطالب المشتري باليمين بعد ذلك لخلوه عن
الفائدة فإنه وإن نكل لا يعود العقد وفي مسألة
قضاء الدين لو أمر المديون بقضاء الدين لا
يتضرر بذلك ضررا إبطال حقه في اليمين بل هو
على حقه من استحلاف الطالب ومتى نكل رد عليه
المال وكذلك في مسألة الشفعة فالمشتري لا
يتضرر بالقضاء بالشفعة من حيث إبطال حقه في
اليمين بل هو على حقه في استحلاف الشفيع وإذا
نكل رد عليه الدار فلهذا لا يتأخر القضاء
بالشفعة لأجل يمين الموكل.
وإذا قضي القاضي للوكيل بالشفعة فأبى المشتري
أن يكتب له كتابا كتب القاضي بقضائه كتابا
وأشهد عليه الشهود كما أنه يقضي له بالشفعة
وإن كان المشتري ممتنعا من التسليم والانقياد
له فكذلك يكتب له حجة بقضائه ويشهد على ذلك
نظرا له وإذا كان في سائر الخصومات يعطي
القاضي المقضى له سجلا إذا التمس ذلك ليكون
حجة له فكذلك في القضاء بالشفعة يعطيه ذلك
وإذا أقر المشتري بالشراء وقال ليس لفلان فيها
شفعة سألت الوكيل البينة عن الحق الذي وجبت له
بالشفعة من شركة أو جوار لأنه لا يتوصل إلى
إثبات حق الموكل إلا بإثبات سببه فإذا أقامها
قضيت له بالشفعة وذلك بأن يقيم البينة على أن
الدار التي إلى جنب الدار المبيعة ملك لموكله
فلان فإذا أقام البينة أن الدار التي إلى جنب
الدار المبيعة في يد موكله لم أقبل ذلك منه
لأن الملك لا يثبت له فيها بهذه البينة
فالأيدي تتنوع ولو علم القاضي أنها في يده لم
يقض له بالشفعة بذلك فكذلك إذا أثبت اليد
بالبينة وأصل هذه المسألة إن المشتري أنكر كون
الدار التي في يد الشفيع ملكا له ففي ظاهر
الرواية لا يقضي القاضي للشفيع بالشفعة حتى
يثبت ملكه بالبينة وعن أبي يوسف أن القول قول
الشفيع في ذلك فيقضي له بالشفعة وهو قول زفر
لأن طريق معرفة الملك اليد ولهذا تجوز الشهادة
بالملك لذي اليد باعتبار يده وكما أن القاضي
لا يقضي إلا بعلم فالشاهد لا يجوز أن يشهد إلا
بعلم ثم باعتبار ظاهر اليد يجوز للشاهد أن
يشهد بالملك فكذلك يجوز للقاضي أن يقضي
ج / 14 ص -139-
بالملك لذي اليد وبقضائه بهذا يظهر استحقاق
الشفعة وإذا كان يقضي لذي اليد بالملك إذا حلف
مع وجود خضم ينازعه فيها ويدعيها لنفسه فلأن
يجوز له القضاء بذلك في موضع ليس هناك خصم
يدعيها لنفسه أولى وجه ظاهر الرواية أن الملك
باعتبار اليد يثبت من حيث الظاهر والظاهر حجة
لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق على الغير ولهذا
جعلنا اليد حجة للمدعي عليه ليدفع بها استحقاق
المدعي وحجة في حق الشاهد ليدفع بها استحقاق
من ينازعه وحاجة ذي اليد هنا إلى إثبات
الاستحقاق فيما في يد الغير والظاهر لا يكفي
لذلك فلا بد من أن يثبت الملك بالبينة وهو
نظير ما لو طعن المشهود عليه في الشاهد أنه
عبد يحتاج إلى إقامة البينة على الحرية لأن
ثبوت حريته باعتبار الظاهر فلا يصلح للإلزام
وإذا وجد قتيل في دار إنسان فأنكر على عاقلته
كون الدار له يحتاج إلى إثبات الملك بالبينة
ليقضي بالدية على عاقلته فهذا نظيره.
قال: ولا أقبل في ذلك شهادة ابني الوكيل
وأبويه وزوجته ولا شهادة ابني الموكل وأبويه
وزوجته ولا شهادة المولى إذا كان الوكيل
والموكل عبدا له أو مكاتبا لأنهم متهمون في
ذلك فإنهم يشهدون لحق الموكل ويثبتون حق الأخذ
للوكيل فلهذا لا تقبل في ذلك شهادة الفريقين
وإن أقام البينة أن لفلان نصيبا من الدار ولم
يبين كم هو لم أقض له بالشفعة لأن القاضي لا
يتمكن من القضاء بالمجهول فالنصيب المشهود به
مجهول وما لم يقض له بالملك في الدار أو في
بعضها لا يتمكن من القضاء بالشفعة.
فإن قال المشتري حلف الوكيل ما يعلم أن صاحبه
سلم الشفعة فلا يمين عليه لأن التسليم مدعي
على الموكل ولو استحلف الوكيل في ذلك كان
بطريق النيابة ولا نيابة في الإيمان وكذلك لو
قال حلفه ما سلم هو لأن تسليمه عند غير القاضي
باطل فلا معنى للاستحلاف في دعوى تسليم باطل
ولو شهد رجلان على الوكيل أنه سلم عند غير
القاضي ثم عزل قبل أن يقضي عليه لم يجز ذلك
لانهم شهدوا بتسليم باطل فإن تسليم الوكيل
الشفعة عند محمد باطل وعند أبي حنيفة لا في
مجلس القضاء باطل وما يختص بمجلس القضاء إذا
عزل القاضي قبل أن يقضي به فهو باطل وهو ما لو
وجد في غير مجلس القاضي في الحكم سواء كرجوع
الشاهد عن الشهادة فإنه كما لا يصح في غير
مجلس القاضي فكذلك لا يصح إذا وجد في مجلس
القاضي وعزل قبل أن يقضي به.
ولو أقر هذا الوكيل في مجلس هذا القاضي أنه
سلم عند فلان القاضي ثم عزل أو أنه سلم عند
غير القاضي جاز ذلك عليه بمنزلة الرجوع عن
الشهادة في قول أبي حنيفة ومحمد لأن هذا يجعل
بمنزلة ابتداء التسليم منه فإن كان من أقر
بشيء يملك إنشاءه يجعل كالمنشئ لذلك ومراده من
ذكر قول محمد مسألة الرجوع لا مسألة تسليم
الشفعة فقد بينا أن عند محمد تسليم الوكيل
باطل وإذا شهد ابنا الوكيل أو ابنا الموكل أن
الوكيل قد سلم الشفعة أجزت شهادتهما لأنهما
يشهدان على أبيهما ولا يجوز شهادته ابنى
الموكل على الوكالة ولا
ج / 14 ص -140-
شهادة ابني الوكيل لأن ابني الوكيل يثبتان صدق
أبيهما في دعوى الوكالة ويثبتان له حق الأخذ
بالشفعة وابني الموكل ينصبان نائبا عن أبيهما
ليأخذ الدار بالشفعة وليس للوكيل بطلب شفعة في
دار أن يخاصم في غيرها لأن الوكالة تنفذ
بالتقييد وقد بينا قيد الوكالة بالدار التي
عينها وهو يثبت الوكيل فيه مناب نفسه وقد يرضى
الإنسان بكون الغير نائبا عنه في بعض الخصومات
دون البعض ولو وكله بالخصومة في كل شفعة تكون
له كان ذلك جائزا لأنه عمم التوكيل والوكالة
تقبل التعميم وله أن يخاصم في كل شفعة تحدث له
كما يخاصم في كل شفعة واجبة له لعموم الوكالة
بمنزلة التوكيل بقبض غلاته ولا يخاصم بدين ولا
حق سوى الشفعة لتقييد الوكالة بالشفعة إلا في
تثبيت الوكيل الحق الذي يطلب به الشفعة لأنه
لا يتوكل إلى الخصومة بالشفعة إلا بذلك فتتعدى
الوكالة إليه ضرورة.
وإذا وكل رجل رجلا يأخذ له دارا بالشفعة ولم
يعلم الثمن فأخذها الوكيل بثمن كثير لا يتغابن
الناس فيه بقضاء قاض أو بغير قضاء قاض فهو
للموكل أما إعلام الثمن ليس بشرط في صحة
التوكيل بالشراء مع أن ذلك لا بد منه في
الشراء فلأن لا يشترط ذلك في التوكيل بالأخذ
بالشفعة وهو ليس بشرط في الأخذ بالشفعة أولى
ثم الشفيع إنما يأخذ بالثمن الذي يملك المشتري
الدار به فالتوكيل بالأخذ بمنزلة التنصيص على
ذلك والوكيل ممتثل سواء كان بقضاء أو بغير
قضاء قل الثمن أو كثر يوضحه أن الوكيل بالشراء
إذا اشترى بأكثر من قيمته إنما لا ينفذ شراؤه
على الموكل لتمكن التهمة فمن الجائز أنه اشترى
لنفسه فلما علم بغلاء الثمن أراد أن يلزم
الأمر وهذا المعنى لا يوجد في حق الوكيل
بالأخذ بالشفعة لأنه لا يملك أن يأخذها لنفسه.
وإذا وكل رجل غير الشفيع أن يأخذ الدار له
بالشفعة فأظهر الشفيع ذلك فليس له أن يأخذها
لنفسه وإذا وكل رجل غير الشفيع طلبه لغيره
تسليم منه للشفعة كإنما يطلب البيع من الموكل
ولو طلب البيع لنفسه كان به مسلما لشفعته فإذا
طلبها لغيره أولى ولما كان إظهاره بذلك بمنزلة
التسليم للشفعة استوى فيه أن يكون المشتري
حاضرا أو غير حاضر فإن أسر ذلك حتى أخذها ثم
علم بذلك فإن كان المشتري سلمها إليه بغير حكم
فهو جائز وهي للأمر لأنه ظهر أنه كان مسلما
شفعته ولكن تسليم المشتري إليه سمحا بغير قضاء
بمنزلة البيع المبتدأ فكأنه اشتراها للأمر بعد
ما سلم الشفعة وإن كان القاضي قضى بها فإنها
ترد على المشتري الأول لأنه لما ظهر أنه كان
مسلما شفعته تبين أن القاضي قضي على المشتري
الأول بغير سبب فيكون قضاؤه باطلا فيرد الدار
عليه.
وإذا كان للدار شفيعان فوكل رجلا واحدا يأخذها
لهما فسلم شفعة أحدهما عند القاضي وأخذها كلها
للآخر فهو جائز لأن كل واحد منهما أقامه مقام
نفسه فتسلمه شفعة أحدهما عند القاضي كتسليم
الموكل وبعد ما سقط حق أحدهما يبقى حق الآخر
في جميع الدار فإذا أخذها الوكيل له جاز وإن
قال عند القاضي قد سلمت شفعة أحدهما ولم يبين
أيهما هو. أو
ج / 14 ص -141-
قال إنما أطلب شفعة الآخر لم يكن له ذلك حتى
يبين أيهما سلم نصيبه ولأيهما يأخذ أما تسليمه
شفعة أحدهما له صحيح لأن تسليم الشفعة إسقاط
مبني على التوسع فالجهالة المحصورة في مثله لا
تمنع الصحة ولكنه لا يتمكن من أخذها للمجهول
منهما لأن بالأخذ ثبت الملك للموكل والقضاء
بالملك للمجهول لا يجوز فلهذا لا بد للوكيل من
أن يبين لأيهما يأخذ.
وإذا وكل الشفيع المشتري بالأخذ بالشفعة لم
يكن له وكيلا في ذلك لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة
الشراء والإنسان لا يكون وكيلا عن غيره في
الشراء من نفسه لما فيه من تضاد أحكام الأحكام
ولو وكل البائع بالأخذ بالشفعة جاز ذلك في
القياس لأن البائع بتسليم الدار إلى المشتري
قد خرج من هذه الخصومة والتحق بأجنبي آخر وفي
الاستحسان لا يجوز ذلك لأن البائع لا يأخذ
الشفعة لنفسه ومن لا يملك شراء شيء لنفسه لا
يملك ذلك لغيره وهذا لأنه توكيل في بعض ما قد
تم به وهو البيع.
وإذا وكل الذمي المسلم بطلب الشفعة لم تقبل
شهادة أهل الذمة على الوكيل المسلم بتسليم
الشفعة لأنهم يشهدون على المسلم بقول منه وهو
منكر لذلك وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة على
المسلم وإن كان الذمي هو الوكيل وقد أجاز
الشفيع ما صنع الوكيل قبلت شهادتهما وأبطلت
الشفعة لأن الوكيل لو أقر بذلك جاز إقراره فإن
الموكل أجاز صنعه على العموم مطلقا فكذلك إذا
شهد عليه بذلك أهل الذمة لأن شهادتهم على
الذمي في إثبات كلامه حجة.
وإذا وكل رجل رجلا بطلب شفعة له فأخذها ثم جاء
مدعي يدعي في الدار شيئا فالوكيل ليس بخصم له
لأن الوكالة قد انتهت بالأخذ بالشفعة فبقيت
الدار في يده أمانة والأمين لا يكون خصما
للمدعي ولو وجد بالدار عيبا كان له أن يردها
به ولا ينظر في ذلك إلى غيبة الذي وكله لأن
الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء وما دام المبيع
في يد الوكيل بالشراء فهو في حكم الرد بالعيب
كالمشتري لنفسه وإذا قال قد وكلتك بطلب الشفعة
بكذا درهما وأخذه فإن كان الشراء وقع بذلك أو
بأقل فهو وكيل وإن كان بأكثر فليس بوكيل لأن
الأخذ بالشفعة يكون بالثمن الذي وقع الشراء به
والوكيل بشراء عين بعشرة يملك الشراء بأقل من
عشرة ولا يملك الشراء بأكثر بعشرة للموكل فإذا
كان الثمن أكثر مما سمى فقد وكله بما لا يقدر
عليه وعلى الوكيل القيام به فيصح التوكيل
وكذلك إن قال وكلتك بطلبها إن كان فلان
اشتراها لأن هذا مقيد فالإنسان قد يتمكن من
الخصومة مع شخص ولا يتمكن من الخصومة مع غيره
وقد يرغب الشفيع في الأخذ إذا كان المشتري
إنسانا بعينه ولا يرغب إذا كان المشتري غيره
فلهذا اعتبرنا تقييده.
وإذا كانت الشفعة لورثة منهم الصغير والكبير
والحمل الذي لم يولد بعد فهم في الشفعة سواء
لأن الجنين من أهل الملك بالإرث فباعتبار
الملك يتحقق سبب استحقاق الشفعة
ج / 14 ص -142-
من جوار أو شركة وإذا وضعت الحبلى حملها وقد
ثبت نسبه من الميت شاركتهم في الشفعة وإن كان
الوضع بعد البيع لأكثر من ستة أشهر لأنا لما
حكمنا بثبوت نسبه من الميت فقد حكمنا بالإرث
له وبكونه موجودا عند البيع فهو بمنزلة ما لو
كان بعض الشركاء في الدار غائبا أخذ الحاضر
الدار المبيعة ثم حضر الغائب فله أن يأخذ حصته
في ذلك.
وإن اشترى دارا بجارية وتقابضا ثم ولدت
الجارية لأقل من ستة أشهر بعد الشراء وادعاه
البائع أبطلت البيع والشفعة وإن كتب قد وصيت
بها قبل ذلك لأن حصول العلوق من ملك بائعها
يثبت له حق استحقاق النسب وذلك ينزل منزلة
البينة في إبطال ما يحتمل النقض والقضاء
بالشفعة يحتمل النقض كنفس البيع ثم بدعوى
النسب يتبين أن البيع كان فاسدا من الأصل لأنه
باعها بأم الولد وبالبيع الفاسد لا يستحق
الشفعة وقد بينا في الاستحقاق نظيره فكذلك إذا
أثبت الولد لأمته.
وإذا وكل الرجل رجلا بطلب كل دين له بالخصومة
فيه فله أن يتقاضى ما كان له من دين وما حدث
له بعد ذلك لأن مطلق التوكيل ينصرف إلى
المتعارف وفي العرف يراد جميع ذلك ألا ترى أنه
لو وكله بتقاضي كل علة له أو يبتعها دخل فيه
ما يحدث وكذلك لو وكله بالخصومة في كل ميراث
له وإذا وكله بماله ولم يرد على هذا ففي
القياس التوكيل باطل لأن ما وكله به مجهول
جهالة مستديمة له والوكيل يعجز عن تحصيل مقصود
الموكل في ذلك وفي الاستحسان هذا توكيل بالحفظ
لأن هذا القدر متيقن به لأن المال محفوظ عند
كل مالك فإذا أطلق المال عند ذكر التوكيل
علمنا أن مراده الحفظ فيما وراء ذلك من
الخصومة والبيع وتقاضي الدين شك بلا بينة وإن
قال تقاضى ديني أو أرسله يتقاضاه أو وكله فهو
سواء لأن التوكيل بالتقاضي معبر عن موكله ولا
يلحقه في ذلك عهدة كالرسول وله أن يتقاضاه ولا
يشتري به شيئا ولا يوكل بقبضه أحدا من غير
عياله لأنه تصرف فيه سواء أمره به وله أن يوكل
به عبده أو ابنه أو أجيره الذي هو في عياله
بمنزلة ما لو قبض بنفسه ثم دفع إلى أحد من
هؤلاء وهذا لأنه أمين فيما يقبض كالمودع في
الوديعة.
وإذا وكله بتقاضي دين له على رجل بعينه وسمى
له ما عليه لم يكن له أن يطالبه بما يحدث له
عليه لأنه قيد التوكيل بما سمى له وهو تقييد
مقيد فقد يأتمن الإنسان غيره على القليل من
ماله دون الكثير وإذا وكله بتسليم شفعة له
فجاء الوكيل وقد عرف بناء الدار أو احترق نخل
الأرض فأخذ بجميع الثمن فلم يرض به الموكل فهو
جائز على الموكل لا يستطيع رده لأنه ممتثل
أمره فإنه لا يتمكن من الأخذ بعد ما احترق
البناء إلا بجميع الثمن فيكون فعله في الأخذ
كفعل الموكل ولأنه غير متهم في هذا إذ لا
يتمكن من أخذها لنفسه بالشفعة وبه يستدل أبو
حنيفة في الوكيل بشراء شيء بعينه إذا اشتراه
بأكثر من قيمته وكذلك لو جعله حرا أو وصيا في
الخصومة في حياته وطلب الشفعة فهذه عبارات عن
الوكالة والمعتبر المعنى دون العبارة فله أن
يقبضها وينفذ الثمن ويرجع به على الموكل.
ج / 14 ص -143-
وإذا وكل رجلين بالشفعة فلأحدهما أن يخاصم
بمنزلة الوكيلين بالخصومة لأنهما لو حضرا مجلس
القاضي لم يتكلم إلا أحدهما فإنهما لو تكلما
جميعا لم يفهم القاضي كلامهما ولا يأخذ أحدهما
دون الآخر بمنزلة الوكيلين بالشراء وإذا سلم
أحدهما الشفعة عند القاضي جاز على الموكل لأن
صحة التسليم من الوكيلين بطريق أنه من الخصومة
معنى ولهذا اختص بمجلس القاضي وكل واحد منهما
وكيل تام في الخصومة كأنه ليس معه غيره وإذا
وكله بغيره بطلب الشفعة لم يكن له أن يوكل
غيره إلا أن يكون الأمر أجاز له ما صنع بمنزلة
ما لو وكله بالشراء وإن كان قال له ذلك
فالتوكيل من صنعه فإن وكل وكيلا وقال له مثل
ذلك لم يكن للوكيل الثاني أن يوكل غيره لأن
الموكل أجاز صنع الوكيل الأول ولم يجز صنع
الوكيل الثاني وهذا اللفظ يعتبر في تصحيح
التوكيل من الوكيل الأول لأن ذلك من صنعه ولا
يعتبر في تنفيذ إجازة الأول ما صنع الوكيل
الثاني على الأمر لأن ذلك وراء إجازة ما صنع
الوكيل الأول والحاصل أن الإنسان في حق الغير
لا يسوي غيره بنفسه ولهذا لا يوكل عند إطلاق
التوكيل فلو جوزنا من الأول إجازته ما صنع
الثاني كان مسويا له بنفسه في حق الغير وذلك
لا يجوز.
وإذا طلب المشتري من الوكيل أن يكف عنه شهرا
أو سنة على أنه على خصومته وعلى شفعته ففعل
الوكيل ذلك لم تبطل به شفعة صاحبه لأنه لو طلب
هذا من الموكل فأجابه إليه لم تبطل به شفعته
وهذا لأن التأخير إنما جعله محمد مبطلا للشفعة
لدفع الضرر عن المشتري وينعدم ذلك عند التماس
المشتري بطلبه وإن مات الوكيل قبل الأجل ولم
يعلم صاحبه بموته فهو على شفعته فإذا مضى
الأجل وعلم بموته فلم يطلب أو يبعث وكيلا آخر
يطلب له فلا شفعة له كما كان الحكم في
الابتداء قبل أن يبعث هذا الوكيل ومقدار المدة
له في ذلك مقدار المشتري من حيث هو على سير
الناس لأنه لا يتمكن من الطلب إلا بذلك وإنما
يلزمه الطلب بحسب الإمكان والله أعلم.
باب شفعة أهل الكفر
قال رحمه الله: وإذا
اشترى الكافر دارا بخمر أو خنزير وشفيعها كافر
أخذها بخمر بمثل تلك الخمر وبقيمة الخنزير لأن
الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم فالبيع بهما
صحيح بينهم ثم الشفيع يأخذ بمثل ما يملك به
المشتري صورة ومعنى فيما له مثل فالخمر بهذه
الصفة فهي مكيلة أو موزونة وبالمثل معنى فيما
لا مثل له من جنسه والخنزير من هذه الصفة فإنه
حيوان ليس من ذوات الأمثال فيأخذها بقيمته وإن
اشتراها بميتة أو دم فلا شفعة فيها لأنها ليست
بمال متقوم في حقهم فالشراء بها يكون باطلا
وبالعقد الباطل لا تجب الشفعة وإن اشتراها
بخمر وشفيعها مسلم وكافر فهما سواء في الشفعة
لأن الأخذ بالشفعة من المعاملات وهم في ذلك
يستوون بالمسلمين والمقصود دفع ضرر سوء
المجاورة وحاجة الذمي إلى ذلك كحاجة المسلم
فيأخذ الذمي نصفها بمثل نصف الخمر والمسلم
نصفها بنصف قيمة الخمر
ج / 14 ص -144-
اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأنه يعجز المسلم
عين تمليك عن الخمر وقدر الكافر على ذلك فإن
أسلم الشفيع الكافر قبل أن يأخذها لم تبطل
شفعته لأن الإسلام سبب لتأكد حقه لا لإبطاله
ولكن يأخذ بقيمة الخمر لأنه قد عجز عن تمليك
عين الخمر بعد إسلامه فيأخذ بالقيمة كما لو
كان مسلما عند العقد ألا ترى أن المسلم لو
اشترى دارا بكر من رطب فجاء الشفيع بعد ما
انقطع الرطب من أيدي الناس فإنه يأخذها بقيمة
الرطب بهذا المعنى؟.
وإذا أسلم أحد المتبايعين والخمر غير مقبوضة
والدار مقبوضة أو غير مقبوضة انتقض البيع
لفوات القبض المستحق بالعقد فالإسلام يمنع قبض
الخمر بحكم البيع كما يمنع العقد على الخمر
ولكن لا يبطل حق الشفيع في الشفعة لأن وجوب
الشفعة بأصل البيع وقد كان صحيحا وبقاؤه ليس
بشرط لبقاء حق الشفيع في الشفعة كما لو اشترى
دارا بعبد فمات العبد قبل التسليم في الخمر
بينه وبين الآخر بسبب إسلامه وذلك انتقض البيع
ولم يبطل به حق الشفيع فيأخذها الشفيع بقيمة
الخمر إن كان هو مسلما أو كان المأخوذ منه
مسلما لتعذر تمليك عين الخمر بينهما وإن كانا
كافرين أخذها بمثل تلك الخمر لأن من أسلم من
المتعاقدين قد تعذر القبض والتسليم في الخمر
بينه وبين الآخر بسبب إسلامه وذلك غير موجود
بين الشفيع والمأخوذ منه ولو كانا كافرين.
وإذا كان إسلام أحد المتعاقدين بعد قبض الخمر
قبل قبض الدار فالبيع بينهما يبقى صحيحا لأن
حكم العقد في الخمر ينتهي بالقبض والإسلام لا
يمنع قبض الدار فإذا اشترى الدار بيعة أو
كنيسة أو ثبت بان ثم حضر الشفيع فله أن يأخذها
بالشفعة لأن حقه مقدم على حق المشتري وهو
متمكن من بعض ما للمشتري وتصرفه ألا ترى أن
المسلم لو كان جعل الدار مسجدا ثم حضر الشفيع
كان له أن يأخذها بالشفعة فهذا أولى لأن اتخاذ
البيعة معصية ليس فيها معنى الطاعة ولو مات
المشتري فبيعت الدار في دينه ثم حضر الشفيع
كان له أن يأخذها بالبيع الأول ويبطل البيع
الثاني كما لو كان المشتري هو الذي باعها
بنفسه ولو كان المشتري للدار بالخمر ذميا
فأسلم وارثه بعد موته كان للشفيع أن يأخذها
بقيمة الخمر كما لو كان المشتري هو الذي أسلم
بنفسه.
وإذا اشترى الذمي من الذمي دارا بخمر وتقابضا
ثم صارت خلا وأسلم البائع والمشتري ثم استحق
نصف الدار فنقول إن كان المشتري هو الذي أسلم
ولم يسلم البائع أو أسلم البائع بعد إسلام
المشتري أو أسلما معا بقي النصف المستحق ويأخذ
المشتري نصف الخل فقط لأن بالاستحقاق ينتقض
العقد من الأصل وخمر المسلم لا يكون مضمونا
على الكافر فهو كما لو غصب من مسلم خمرا
فتخللت فإنه يأخذ الخل ولا شيء له غيره فأما
في النصف الذي لم يستحق المشتري بالخيار لبعض
الملك عليه فإن اختار فسخ العقد رجع بنصف الخل
لما بينا أن الخمر لا تكون مضمونة له على أحد
وهذا إذا كانت الخمر بعينها فإن كانت بغير
عينها فلا خيار له في النصف الباقي لأنه لو
ردها ردها بغير شيء ولا سبيل له
ج / 14 ص -145-
على الخل لأن العقد ما يتناول هذا بعينه وإنما
تناول خمرا في الذمة فعند الفسخ يعود حقه في
ذلك والخمر لا يجوز أن يكون دينا للمسلم على
آخر فأما إذا كان البائع هو الذي أسلم دون
المشتري أو أسلم البائع أولا ثم المشتري فكذلك
الجواب عند أبي يوسف فأما على ما رواه زفر
وعاقبه عن أبي حنيفة من الفرق بين إسلام
الطالب والمطلوب فنقول في النصف المستحق
بالخيار إن شاء أخذ نصف الخل وإن شاء ضمن
البائع نصف الخمر لأنه يتبين أن البيع في هذا
النصف كان باطلا والخمر تكون مضمونة للكافر
على المسلم وقد تغير المقبوض في يده حين تخللت
فإن شاء رضي بالتغير ويأخذ نصف الخل وإن شاء
ضمنه نصف قيمة الخمر وفي النصف الذي لم يستحق
يتخير لبعض الملك فإن فسخ العقد وكانت الخمر
بعينها تخير بين أن يأخذ بنصف الخل وبين أن
يرجع بنصف قيمة الخمر للتغير في ضمان البائع
وإن كان الخمر بغير عينها فإذا فسخ العقد رجع
بنصف قيمة الخمر لا غير لأن العقد ما يتناول
هذا العين وعند الفسخ إنما يرجع بما يتناوله
العقد فلهذا يرجع بنصف قيمة الخمر فإن كان
البائع قد استهلك الخل ففي المعين له أن يرجع
عليه بمثله لأن الخل من ذوات الأمثال وإن لم
يقدر على مثله فالرجوع بقيمته وهو على التخريج
الذي بينا.
وإذا باع الذمي كنيسة أو بيعة أو بيت نار
فالبيع جائز وللشفيع فيها الشفعة لأنهم أعدوا
هذه البقعة للمعصية فلا تزول عن ملكهم بذلك
وجواز البيع فيها كجوازه في دارهم بخلاف
المساجد في حق المسلمين فالمسجد يتجرد عن حقوق
العباد ويصير لله تعالى خالصا وهذا لأن صيرورة
البقعة لله تعالى يجعلها معدة لطاعة الله
تعالى فيها لا للشرك والمعصية.
قال: وصاحب الطريق أولى بالشفعة من صاحب مسيل
الماء لأن عين الطريق مملوك لصاحبه وصاحب
الطريق شريك في حقوق المبيع فأما صاحب المسيل
له حق سيل الماء في ملك الغير ولا شيء له من
ملك ذلك الموضع والشفعة لا تستحق بمثله كجار
السكنى وصاحب المسيل باعتبار ملكه جار لا تصار
ملكه بالدار المبيعة والشريك في حقوق المبيع
مقدم على الجار وكذلك صاحب العلو والسفل إذا
لم يكن طريقه في الدار فكل واحد منهما جار
لصاحبه بمنزلة بيتين متجاورين على الأرض وقد
تقدم بيان الكلام في استحقاق العلو بالشفعة
وصاحب الجذع في حائط من حيطان الدار أو
الهوادي بمنزلة الدار لأنه في معنى المستعير
بوضع الهوادي على ملك الغير فلا تستحق الشفعة
باعتباره وقد بينا الفرق بينه وبين الشريك في
أصل الحائط فإن الشريك في أصل الحائط شركته في
نفس المبيع فهو أولى من الشريك في الطريق لأن
شركته في حقوق المبيع.
وإذا اشترى مسلم من مسلم أرض عشر ولها شفعاء
ثلاثة مسلم وذمي وثعلبي فأخذوها جميعا بالشفعة
فعلى المسلم العشر في حصته ويضاعف على الثعلبي
العشر ويؤخذ من الذمي الخراج في حصته عند أبي
حنيفة بمنزلة ما لو اشترى كل واحد منهم مقدار
نصيبه ابتداء وهذا على ما بينا على ما تقدم
بيانه في كتاب الزكاة أن الذمي إذا اشترى أرض
عشر
ج / 14 ص -146-
فإنها تصير خراجية عند أبي حنيفة ولكن هذا إذا
انقطع حق المسلمين عنها حتى لو كان البيع
فاسدا أو كان شفيعها مسلما فأخذها بالشفعة فهي
عشرية كما كانت فأما إذا انقطع حق المسلم عنها
فإنها تكون خراجية وفي الكتاب يقول سواء وضع
عليها الخراج أو لم يوضع حتى إذا وجد بها عيبا
ليس له أن يردها وفي غير هذا الموضع ذكر أنه
إن وضع عليها الخراج فليس له أن يردها بالعيب
لأن الخراج في الأرض عيب وإنما يتقرر فيها
بالوضع فإذا وضع فهذا عيب حدث فيها في يد كما
انقطع المشتري إذا لم يوضع عليها الخراج فله
أن يردها بالعيب وتكون عشرية كما كانت فأما في
هذه الرواية كما انقطع حق المسلم عنها صارت
خراجية لأن الأراضي في دار الإسلام إما أن
تكون عشرية أو خراجية وهي في ملك الكافر لا
تكون عشرية فتكون خراجية سواء وضع عليها
الخراج أو لم يوضع فليس له أن يردها ولكن يرجع
بنقصان العيب بخلاف ما إذا كان البيع فاسدا أو
كان لمسلم فيها شفعة لأنها بقيت عشرية لبقاء
حق المسلم فيها والحق كالملك في بعض الفصول.
وإذا اشترى الرجل أرضا أو دارا فوجد فيها
حائطا واهيا أو جذعا منكسرا أو نخلة منكسرة أو
عيبا ينقص الثمن فردها كان الشفيع على شفعته
لأن أصل البيع كان صحيحا واستحقاق الشفعة به
وقد بينا أن بقاء المبيع ليس بشرط لبقاء حق
الشفيع ألا ترى أن البيع قد ينفسخ بأخذ الشفيع
وهو ما إذا أخذوها من يد البائع وقال أبو يوسف
إذا اشترى الذمي أرض عشر فعليه العشر مضاعفا
وإن وجد بها عيبا ردها لأن التضعيف فيها ليس
بلازم ألا ترى أنه لو باعها من مسلم عادت إلى
عشر واحد بمنزلة الثعلبي يشتري سائمة فالتضعيف
لا يكون لازما فيها وإذا كان بالرد يعود إلى
عشر واحد كما كان لا يمتنع الرد بالعيب ولهذا
قال لو باعها من مسلم عادت إلى عشر واحد بخلاف
قول أبي حنيفة في الخراج فإن صفة الخراج في
الأرض تلزم على وجه لا يتبدل بتبدل المالك بعد
ذلك فإذا باع المرتد دارا فقتل أو مات أو لحق
بدار الحرب بطل البيع ولم يلزمه فيه الشفعة في
قول أبي حنيفة بخلاف ما إذا اشترى المرتد دارا
لأن توقف العقد عنده لحق المرتد فإذا كان
المرتد هو البائع فهذا في معنى بيع بشرط
الخيار للبائع فلا تجب به الشفعة وإذا كان
المرتد هو المشتري فهذا في معنى بيع بشرط
الخيار للمشتري فتجب الشفعة فيه للشفيع سواء
نقض البيع أو تم.
وإن أسلم المرتد البائع قبل أن يلحق بدار
الحرب جاز بيعه وللشفيع فيها الشفعة لأن البيع
تم وخياره سقط بإسلامه ولو كان إسلامه بعد ما
لحق بدار الحرب وبعد قسمة ماله لم يكن للشفيع
فيها شفعة لأن انتقاض البيع تأكد بقضاء القاضي
وعند أبي يوسف ومحمد بيعه جائز وللشفيع فيها
الشفعة أسلم أو لحق بدار الحرب.
وإذا اشترى المسلم دارا والمرتد شفيعها وقتل
في ردته أو مات أو لحق بدار الحرب فلا شفعة
فيها له ولا لورثته لأن لحاقه كموته والشفعة
لا تورث ولو كانت امرأة مرتدة وجبت لها الشفعة
فلحقت بدار الحرب بطلت شفعتها لأن لحاقها
كموتها من حيث أنه لا
ج / 14 ص -147-
تستحق نفسها بإلحاق حتى يسترق وإن كانت لا
تقبل وإن كانت المرتدة بائعة للدار فللشفيع
الشفعة لأن بيعها صحيح لازم أسلمت أو ماتت وإن
كان الشفيع مرتدا أو مرتدة فسلم الشفعة جاز
أما في المرتدة فظاهر ولا المرتد لا فائدة في
توقف تسليم الشفعة لأنه إن أسلم فتسليمه صحيح
وإن مات فالشفعة في تورث وإنما يوقف من
تصرفاته ما يكون في توقفه فائدة ولو لم يسلم
وطلب أخذ الدار بالشفعة لم يقض له القاضي بذلك
إلا أن يسلم لأن هذا منه إصرار على الردة إلا
أن يقضي له بالشفعة وليس للإمام أن يقره على
الردة في شيء من الأوقات ثم القضاء بالشفعة
لدفع الضرر عن الشفيع والمرتد يلحق به كل ضرر
فلا يشتغل القاضي بدفع الضرر عنه ما لم يسلم
فإن أبطل القاضي شفعته ثم أسلم فلا شفعة له
لأن الإبطال من القاضي صحيح على وجه الإضرار
به وحرمانه الرفق الشرعي فيكون ذلك لتسليمه
بنفسه أو أقوى منه وإن وقفه القاضي حتى ينظر
ثم أسلم فهو على شفعته لأن القاضي لم يبطل حقه
وإنما امتنع من القضاء له بها فإذا أسلم فهو
على حقه وهذا إذا كان طلب الشفعة حين علم
بالشراء فإن لم يكن طلب إلى أن أسلم فلا شفعة
له لتركه طلب المواثبة بعد علمه بالشراء ولو
لحق المرتد بدار الحرب ثم بيعت الدار قبل قسمة
الميراث ثم قسم ميراثه كان لورثته الشفعة لأن
الملك لهم في الميراث من حين لحق المرتد ولهذا
يعتبر قيام الوارث في ذلك الوقت حتى أن من مات
من ورثته بعد لحاقه يكون نصيبه ميراثا عنه ومن
أسلم من أولاده بعد لحاقه لم يكن له ميراث
فعرفنا أن الميراث له من حين لحق المرتد
والبيع وجد بعد ذلك فالشفعة فيها للوارث
بمنزلة التركة المستغرقة بالدين إذا بيعت دار
بجنب دار منها ثم سقط الدين كان للوارث فيها
الشفعة.
وإذا اشترى المرتد دارا من مسلم أو ذمي بخمر
فالبيع باطل ولا شفعة فيها لأن المرتد مجبر
على العود إلى الإسلام فهو في التصرف في الخمر
كالمسلم فإن نفوذ تصرف الكافر في الخمر
باعتبار البناء على اعتقاده والمرتد غير مقر
على ما اعتقده فلا ينفذ تصرفه فيها والحربي
المستأمن في وجوب الشفعة له وعليه في دار
الإسلام سواء بمنزلة الذمي لأنه من جملة
المعاملات وهو قد التزم حكم المعاملات مدة
مقامه في دارنا فيكون بمنزلة الذمي في ذلك فإن
اشترى المستأمن من دار الحرب أو لحق بدار
الحرب فالشفيع على شفعته متى لحقه بدار الحرب
لأن لحاقه بدار الحرب كموته وموت المشتري لا
يبطل شفعة الشفيع فإن كان وكل بالدار من
يحفظها ويقوم عليها فلا خصومة بينه وبين
الشفيع لأنه أمين فيها والأمين لا يكون خصما
لمن يدعي حقا في الأمانة كما لا يكون خصما لمن
يدعي رقبتها.
وإذا اشترى المسلم في دار الحرب دارا وشفيعها
مسلم بدار له ثم أسلم أهل الدار فلا شفعه
للشفيع لأن حق الشفعة من أحكام الإسلام وحكم
الإسلام لا يجري في دار الحرب ولأن المشتري
مستول عليها واستيلاؤه على ملك المسلم في دار
الحرب يزيل ملك المسلم فعلى حقه أولى أن يكون
مبطلا حق المسلم.
ج / 14 ص -148-
وإذا اشترى المسلم في دار الإسلام دارا
وشفيعها حربي مستأمن فلحق بدار الحرب بطلت
شفعته لأن لحوقه بدار الحرب كموته كمن هو من
أهل دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام
كالميت وبموته تبطل شفعته علم بالشراء أو لم
يعلم ولأن تباين الدارين يقطع العصمة ويبطل من
الحقوق المتأكدة ما هو أقوى من الشفعة كالنكاح
ثم المسلم المشتري مستول على الدار ولو استولى
على ملك الحربي بطل به ملكه فلأن يبطل به حقه
أولى.
وإذا اشترى الحربي المستأمن دارا وشفيعها حربي
مستأمن فلحقا جميعا بدار الحرب فلا شفعة
للشفيع فيها لأن لحاق الشفيع بدار الحرب كموته
فيما هو في دار الإسلام وإن كان المشتري مع
الشفيع في دار الحرب فإن كان الشفيع مسلما أو
ذميا فدخل دار الحرب فهو على شفعته إذا علم
لأن المسلم والذمي من أهل دار الإسلام فدخوله
دار الحرب غيبة منه وغيبة الشفيع لا تبطل
شفعته إذا لم يكن عالما بها فإن دخل وهو يعلم
فلم يطلب حتى غاب بطلت شفعته لتركه الطلب بعد
ما تمكن منه لا لدخوله دار الحرب وإذا بطلت
الشفعة ثم عرض له سفر إلى دار الحرب أو إلى
غيرها فهو على شفعته إذا كان على طلبه لأن حقه
قد تقرر بالطلب وقد بينا اختلاف الرواية في
هذا الفصل فإن كان المشتري أخره مدة معلومة
فهو على شفعته عندهم جميعا لأن عند محمد بمضي
شهر إنما تبطل شفعته لدفع الضرر عن المشتري
فإذا كان هو الذي أخره فقد رضي بهذا الضرر وإن
كان الشفيع حربيا مستأمنا فوكل بطلب الشفعة
ولحق بدار الحرب فلا شفعة له كما لو مات بعد
التوكيل بطلب الشفعة وإن كان الشفيع مسلما أو
ذميا فوكل مستأمنا من أهل الحرب ثم دخل الوكيل
دار الحرب بطلت وكالته والشفيع على شفعته لأن
لحاق الوكيل بدار الحرب كموته وموت الوكيل
يبطل الوكالة ولا يبطل شفعة الموكل فكذلك
لحاقه والله أعلم.
باب الشفعة في الصلح
قال رحمه الله: وإذا
ادعى الرجل في دار دعوى من ميراث أو غيره
فصالحه بعض أهل الدار على صلح على أن جعل ذلك
له خاصة فطلب بقية أهل الدار بالشفعة فإن كان
الصلح على إقرار فلهم الشفعة في ذلك لأن
المعطى في المال متملك في نصيب المدعي بما
أعطى من العوضين فهو كما لو تملكه بالشراء
فتجب عليه الشفعة فيه للشركاء وإن كان الصلح
على الإنكار فلا شفعة فيه لأن في زعم المعطي
للمال أنه رشاه ليدفع عنه أذاه ولم يتملك عليه
شيئا من الدار بهذا الصلح وفيما في يده ينبني
الحكم على زعمه وهو بالإقدام على الصلح لا
يصير مقرى بثبوت الملك للمدعي في المدعي ولو
صالحه بغير إقرار سئل المصالح بينة على دعوى
الذي صالحه فإن أقامها فالثابت بالبينة
كالثابت بالإقرار فيأخذ المعطي للمال نصيب
المدعي ويكون للشركاء أن يطلبوا بحصتهم من
الشفعة وهذا لأن المعطي للمال يقوم مقام
المدعي وقد كان المدعي متمكنا من إثبات نصيبه
بالبينة فالمعطي للمال يتمكن من ذلك أيضا ولو
صالحه على سكنى دار له أخرى سنين مسماه لم يكن
للشفيع في ذلك شفعة لأن المصالح
ج / 14 ص -149-
عليه منفعة والدار المملوكة عوضا عن المنفعة
بلفظ الشراء لا تستحق بالشفعة فبلفظ الصلح
أولى وهذا لما بينا أن الشفعة لا تجب إلا
بمعاوضة مال بمال مطلقا والمنفعة ليست بمال
مطلقا.
وإذا ادعى حقا في دار فصالحه منه على دار
فللشفيع فيها الشفعة لأن في زعم المدعي أنه
يملك هذه الدار عوضا عن ملكه في الدار الأخرى
بالصلح والصلح على الإنكار مبني على زعم
المدعي في حقه فللشفيع فيها الشفعة بقيمة حقه
في الدار الأخرى والقول فيه قول المصالح الذي
أخذ الدار بمنزلة ما إذا اختلف الشفيع
والمشتري في مقدار الثمن فإن القول في ذلك قول
المشتري ولو كان ادعي دينا أو وديعة أو خراجة
خطأ فصالحه على دار أو حائط من دار فللشفيع
فيها الشفعة باعتبار البناء على زعم المدعي
وإذا صالح من سكنى دار أوصى له بها أو من خدمة
عبد على بيت فلا شفعة فيه لأن أصل المدعي لم
يكن مالا فهو كما لو صالح عن القصاص على
البيت.
وإذا ادعى على رجل مالا فصالحه على أن يضع
جذوعه على حائط أو يكون له موضعها أبدا وسنين
معلومة ففي القياس هذا جائز لأن ما وقع عليه
الصلح معلوم عينا كان أو منفعة ولكن ترك هذا
القياس فقال الصلح باطل ولا شفعة للشفيع فيها
لأن المصالح عليه ليس برقبة الحائط ولا منفعة
معلومة فالضرر على الحائط يختلف باختلاف
الجذوع في الغلظ والدقة في مدة المنفعة لا
تستحق بالإجارة فإن استئجار الحائط مدة معلومة
أو أبدا لوضع الجذوع عليه لا يجوز فكذلك إذا
وقع الصلح عليه أرأيت لو صالحه على أن يضع
عليها هوادي أو على أن يضع جذعا له في حائط
أكان يكون فيه الشفعة لا شفعة في شيء من ذلك
وكذلك لو صالحه على أن يصرف مسيل مائه إلى دار
لم يكن لجار الدار أن يأخذ مسيل مائه بالشفعة
لأنه ما ملكه بالصلح شيئا من العين وإنما أثبت
له حق مسيل الماء في ملكه وذلك لا يستحق بعقد
مقصود ولهذا لا يجوز استئجاره فلا يكون للشفيع
فيها الشفعة.
وفي الكتاب أشار إلى حرف آخر قال ألا ترى أن
المسيل لا يحول عن حاله ولو أخذها الشفيع
بالشفعة لم يستفد به شيئا لأنه لا يستطيع أن
يسيل فيه ما أراده فإنه لا يسيل فيه إلا من
حيث وجب أول مرة وقد كان ينبغي في القياس أن
يأخذه بالشفعة ولكنا نقول تركنا القياس
وأبطلنا الصلح والشفعة لما قلنا.
ولو صالحه على طريق محدود معروف في دار كان
للجار الملاصق أن يأخذ ذلك بالشفعة وليس
الطريق فيها كمسيل الماء لأن عين الطريق تملك
فيكون شريكا بالطريق ولا يكون شريكا بوضع
الجذع في الحائط والهوادي ومسيل الماء والقياس
في الكل سواء وعلى معنى الاستحسان قد أوضحنا
الفرق بينهما.
وإذا ادعى الرجل على الرجل ألف درهم فصالحه
منها على دار بعد الإقرار أو الإنكار فسلم
الشفيع الشفعة ثم تصادقا على أنه لم يكن عليه
شيء فرد الدار عليه بحكم أو بغير حكم،
ج / 14 ص -150-
فلا شفعة فيها لأن ما وجب له من الشفعة بالصلح
قد أبطله بالتسليم والرد بهذا التصادق ليس
بعقد فلا تتجدد به الشفعة كما لو تصادقا على
أن البيع كان تلجئة بينهما أو رهنا بمال وقد
سلم الشفيع الشفعة وإن لم يكن الشفيع سلم
الشفعة فله أن يأخذها ولا يصدقان على إبطال
حقه إلا على قول زفر وهو رواية عن أبي يوسف
وأصله فيما لو تصادقا فإن البيع كان تلجئة أو
بخيار البائع ففسخ البيع وجه قول زفر أنهما
ينكران وجوب الشفعة للشفيع وإنما يستحق الشفيع
الشفعة عليهما فإذا أنكراه كان القول في ذلك
قولهما كما لو أنكر البيع ووجه ظاهر الرواية
أن السبب الموجب للشفعة قد ظهر وثبت حق الشفيع
باعتبار الظاهر على وجه لا يملكان إبطاله
فتصادقا عما يكون معتبرا في حقهما ولا يكون
معتبرا في إبطال حق الشفيع ولو كان باعه
بالمال المدعي دارا ثم تصادقا على أنه لم يكن
له عليه شيء لم يرد الدار على البائع ولكن
المشتري يضمن له الثمن لأن البيع لا يتعلق
بالدين المضاف إليه بل بمثله دينا في الذمة
بخلاف الصلح إلا أنه كان بيع المقاصة به فإذا
تصادقا على أن لا دين لم تقع المقاصة فبقي
الثمن للبائع على المشتري والشفيع على شفعته
إن لم يكن سلمها وهذا ظاهر لأن البيع لم يبطل
بهذا التصادق هنا وفي الأول بطل الصلح في
حقهما ثم كان الشفيع هناك على شفعته فهنا أولى
والله أعلم.
باب شفعة اللقيط
قال رحمه الله: وليس
للملتقط أن يطالب بشفعة واجبة للقيط لأن الأخذ
بالشفعة بمنزلة الشراء وليس له عليه ولاية
الشراء إلا أن يكون القاضي جعله قيما له في
البيع والشراء فيكون بمنزلة الوصي حينئذ في
طلب الشفعة لوكيل اليتيم وتسليمه وإن اشترى
الملتقط للقيط دارا بماله فللشفيع فيها الشفعة
لأن شراء الملتقط صحيح لنفسه وهو ضامن لما أدى
فيه من مال الملتقط فإن أدرك اللقيط فلا سبيل
له على الدار إلا أن يكون شفيعها بدار أخرى له
فيأخذها بالشفعة حينئذ فإن كان الملتقط اشترى
الدار بعين من أعيان مال اللقيط فلا شفعة
للشفيع فيها لفساد شرائه والإشهاد على الملتقط
في الحائط المائل للقيط باطل لأنه غير متمكن
من الهدم وإن أشهد على اللقيط بعد ما أدرك فلم
يهدمه حتى سقط وأصاب إنسانا فإن ذلك على بيت
المال لأن عاقلته بيت المال كما في جنايته
بيده وإن لم يسقط حتى أخذ الشفيع منه الدار
بالشفعة ثم سقط فلا ضمان على أحد لأن تمكنه من
الهدم قد زال ولم يوجد الإشهاد على الشفيع وإن
أخذ الشفيع نصف الدار بأن كان اللقيط معه
شفيعا في هذه الدار فحكم الإشهاد يبطل في
النصف دون النصف اعتبارا للجزء بالكل والله
أعلم.
باب الشفعة في البناء وغيره
قال رحمه الله وإذا اشترى الرجل دارا بألف
درهم ثم اختلف الشفيع والمشتري فقال المشتري
أحدثت فيها هذا البناء وكذبه الشفيع فالقول
قول المشتري لأنكاره الشراء في البناء
ج / 14 ص -151-
ولو أنكر الشراء في أصل الدار كان القول قوله
فكذلك في البناء وإن أقاما البينة فالبينة
بينة الشفيع لأنه ثبت حقه في البناء بسبب ثبوت
حقه فيها وهو الشراء ولأن الشفيع يثبت إقرار
المشتري بأنه اشترى البناء وذلك إكذاب منه
لشهوده وعلى هذا اختلافهما في شجر الأرض ولكن
إنما يقبل قول المشتري إذا كان محتملا حتى إذا
قال أحدثت فيها هذه الأشجار أمس لم يصدق على
ذلك لأن كل أحد يعلم أنه كاذب فيما يقول وكذلك
فيما أشبهه من البناء وغيره وإن قال اشتريتها
منذ عشر سنين وأحدثت فيها هذا فالقول قوله لأن
خبره محتمل وهو منكر لثبوت حق الشفيع فيما زعم
أنه أحدثه ولا قول للبائع في شيء من ذلك لأنه
بالتسليم خرج من الوسط والتحق بأجنبي آخر.
وإن قال المشتري اشتريت البناء بخمسمائة ثم
اشتريت الأرض بعد ذلك بخمسمائة أو قال الشفيع
اشتريتهما معا ففي القياس القول للمشتري
اشتريت البناء بخمسمائة ثم اشتريت الأرض بعد
ذلك بخمسمائة أو قال اشتريت الأرض بغير بناء
بخمسمائة ثم اشتريت البناء بعد ذلك فلا شفعة
لك في البناء وقال الشفيع اشتريتهما معا ففي
القياس القول قول المشتري لأنه ينكر ثبوت حق
الشفيع في البناء ألا ترى أنه لو قال وهب لي
البناء واشتريت الأرض كان القول في ذلك قوله
فكذلك هنا ولكنه استحسن فقال القول قول الشفيع
هنا لأن المشتري أقر بالسبب المثبت لحق الشفيع
في الأرض والبناء وهو الشراء ثم ادعى تفريق
الصفقة ليسقط به حقه في البناء وذلك حادث
يدعيه فلا يقبل قوله في ذلك ولكن القول قول
الشفيع لأنكاره ولا قول للبائع في شيء من ذلك
فأما في الهبة هو لم يقر بالسبب المثبت لحق
الشفيع فالسائل الشفيع يدعي ذلك وهو منكر
فالقول قوله ويأخذ الشفيع الأرض بغير بناء وإن
قال البائع لم أهب لك البناء فالقول قوله مع
يمينه ويأخذ بناءه وإن قال قد وهبته لك كانت
الهبة جائزة وكذلك لو قال اشتريت النصف ثم
النصف وقال الجار اشتريت الكل بعقد واحد
فالقول قول الشفيع استحسانا لما قلنا فإن
أقاما جميعا البينة فعلى قول أبي يوسف البينة
بينة المشتري لأنه هو المحتاج إليها لإثبات
تفريق الصفقة وإثبات شيء بخلاف الظاهر وعند
محمد البينة بينة الشفيع لأنه يثبت استحقاق
جميع الدار ولأنا نجعل كأن الأمرين كانا إذ لا
تنافى بينهما.
ولو اشترى النصف ثم النصف ثم اشترى الكل أو
على عكس ذلك كان للشفيع أن يأخذ الكل بالشفعة
فكذلك هنا وإن ادعى المشتري أنه اشترى جميع
ذلك معا وادعى الشفيع أنه اشتراه متفرقا
فالقول قول المشتري لإنكاره تفريق الصفقة
وإنكاره ما ادعى الشفيع من ثبوت حق الأخذ له
في النصف دون النصف فإن قال المشتري وهب لي
هذا البيت بطريقه إلى باب الدار وباعني ما بقي
من الدار بألف درهم وقال الشفيع بل اشتريت
الدار كلها بألف درهم فالقول قول المشتري في
البيت لإنكاره سبب ثبوت حق الشفيع فيه ويأخذ
الشفيع الدار كلها غير البيت وطريقها إن شاء
لأن المشتري أقر بوجود السبب الموجب لحق
الشفيع
ج / 14 ص -152-
فيما سوى البيت وادعى لنفسه حق التقدم عليه
بالشركة في الطريق فلا يثبت ما ادعاه بغير حجة
فلهذا كان للشفيع أن يأخذ ما سوى البيت وإن
جحد البائع هبة البيت فالقول قوله مع يمينه
وإن أقربها فالبيت للموهوب له ولكن لا يصدقان
على إبطال شفعة الشفيع في سائر الدار لأن
شركته في الطريق سابقا على الشراء لا يظهر
بقولهما حق الشفيع إلا أن تقوم البينة على
الهبة قبل الشراء فحينئذ الثابت بالبينة
كالثابت بإقرار الخصم فيصير هو أولى بالدار من
الجار.
ولو ادعى الشفيع أن المشتري هدم طائفة من بناء
الدار وكذبه المشتري فالقول قول المشتري لأن
الشفيع يدعي سببا مسقطا لبعض الثمن عنه بعد
أخذه الدار والمشتري منكر لذلك والبينة بينة
الشفيع لأنه يثبت ببينته سقوط بعض الثمن عنه.
رجل أقام البينة أنه اشترى هذه الدار من فلان
بألف درهم وأقام آخر البينة أنه اشترى منه هذا
البيت بطريقه بمائة درهم منذ شهر قضيت بالبيت
لصاحب الشهر لأن الشراء حادث وإنما يحال
بشرائه بحدوثه على أقرب الأوقات مالم يصرح
الشهود بسبق التاريخ وقد صرح به شهود صاحب
البيت فيقضي له بالبيت لتقدم عقده فيه ثم له
الشفعة فيما بقي من الدار لأن شركته في الطريق
تثبت قبل ثبوت شراء الآخر فيما بقي من الدار
فهو مقدم على الجار ولو لم يوقت شهود صاحب
البيت قضيت بالبيت بينهما نصفين لاستواء
الدعوى والحجة منهما في البيت وقضيت ببقية
الدار للذي أقام البينة على أنه اشترى كلها
لأنه أثبت شراءه بالبينة ولا مزاحم له في بقية
الدار ولا شفعة لواحد منهما قبل صاحبه لأنه لم
يثبت سبق شراء أحدهما وكلا الأمرين ظهرا ولا
يعرف تاريخ بينهما فيجعل كأنهما وقعا معا.
ولو كانت الداران متلازقتين فأقام رجل البينة
أنه اشترى أحدهما منذ شهر بألف درهم وأقام آخر
البينة أنه اشترى الآخر منذ شهرين قضيت له
بشراء هذه الدار منذ شهرين فمن وقت شهوده جعلت
له الشفعة في الدار الأخرى لأنه يثبت جواره
سابقا على بيع الدار الأخرى ولو لم يوقتا قضيت
لكل واحد منهما بداره ولم أقض بالشفعة له لأنه
لما لم يثبت تاريخ في الشرائين يجعل كأنهما
وقعا معا وكذلك لو كان أحدهما قبض الدار ولم
يقبض الآخر لأن القبض يصلح حجة لدفع الاستحقاق
إذا زاحمه غيره فيماهو في يده ولا يكون حجة
لإثبات الاستحقاق في الدار الأخرى ولو وقت
أحدهما ولم يوقت الآخر قضيت لصاحب الوقت
بالشفعة لأن شراء الآخر حادث فإنما يحال
بحدوثه إلى أقرب الأوقات وكذلك لو ادعى هبة
مقبوضة موقتة فالهبة مع القبض في إفادة الملك
كالشراء.
وإذا كان درب غير نافذ وفيه دور لقوم فباع رجل
من أرباب تلك الدور بيتا شارعا في السكة
العظمى ولا طريق له في الدار فلأصحاب الدرب أن
يأخذوا البيت بالشفعة لشركتهم في الطريق فإن
سلموها ثم باع المشتري البيت بعد ذلك فلا شفعة
لأهل الدرب فيه لأنه لا طريق للبيت في الدرب
فبالبيع الأول قد انقطعت شركة الطريق لصاحب
البيت مع أصحاب
ج / 14 ص -153-
الدرب وإنما الشفعة في البيت للجار الملاصق
وكذلك لو باع قطعة من الدار بغير طريق لها
فلهم الشفعة لقيام شركتهم في الطريق وقت البيع
فإن سلموها ثم باع المشتري فلا شفعة فيها إلا
لمن يجاورها لانقطاع الشركة في الطريق عند
البيع الثاني وإذا كان الدرب غير نافذ وفي
أقصاه مسجد خطبة وباب المسجد في الدرب وظهر
المسجد وجانبه الآخر إلى الطريق الأعظم فباع
رجل من أهل الدرب داره فلا شفعة لأهل الدرب
فيها إلا لمن يجاورها بالجوار لأن المسجد
بمنزلة الطريق النافذ ألا ترى أن موضع المسجد
ليس بمملوك لأهل الدرب وأن أهل الطريق الأعظم
لو أرادوا أن يكون لهذا المسجد باب إلى الطريق
الأعظم ليدخلوه للصلاة كان لهم ذلك إذا لم يضر
ذلك بأهل الدرب ولهم أن يدخلوا في ذلك الدرب
ليصلوا في المسجد ثم يخرجوا من جانب الطريق
الأعظم فعرفنا أنه بمنزلة الطريق الأعظم
النافذ فلا تستحق الشفعة إلا بالجوار وعلى هذا
حكم السكك التي في أقصاها الوادي المجتاز.
ولو كان حول المسجد دور يحول بينه وبين الطريق
الأعظم كان لأهل الدرب الشفعة بالشركة لأن
المسجد الآن ليس بطريق نافذ ألا ترى أنه لو
رفع بناء المسجد لم يصر الطريق نافذا بخلاف
الأول فإنه لو رفع بناء المسجد صار الدرب
طريقا نافذا إلى الطريق الأعظم وفي الموضعين
جميعا يجعل المسجد بمنزلة فناء ولو كان في
أقصى الدرب باب نافذ إلى السكة العظمى كان ذلك
طريقا نافذا وإن كان الفناء إلى دور قوم لم
تكن سكة نافذة ولو كان موضع المسجد دارا فيها
طريق إلى الدرب يخرج من باب آخر منها إلى
الطريق الأعظم فإن كان طريقا للناس ليس لأهل
الدرب أن يمنعوه فلا شفعة لأهل الدرب إلا
بالجواز وإن كان طريقا لأهل الدار خاصة فأهل
الدار شفعاء بالشركة في الطريق لأن الطريق
الذي لهم خاصة ملك لهم وأن أرادوا سده لم يكن
لأحد أن يمنعهم من ذلك وفي الأول الطريق
للعامة ولو أراد أهل الدرب سده منعوا من ذلك
فلهذا لا يستحقون الشفعة بالشركة في الطريق.
وإن كان درب غير نافذ ليس فيه مسجد فاشترى أهل
الدرب من رجل من أهله دارا وظهرها إلى الطريق
الأعظم فاتخذوها مسجدا وجعلوا بابه في الدرب
ولم يجعلوا له إلى الطريق الأعظم بابا أو
جعلوا ثم باع رجل من أهل الدرب داره فلأهل
الدرب الشفعة بالشركة في الطريق لأن قبل بناء
المسجد كان الطريق مملوكا لهم وكانت شركتهم
فيها شركة خاصة فباتخاذ المسجد لا ينتقض حقهم
وشركتهم في الطريق بخلاف مسجد الخطبة فذلك
الموضع لم يكن مملوكا لهم قط بل كان ذلك مصلى
لجماعة المسلمين فيمنع ذلك ثبوت الشركة الخاصة
لهم في الدرب وهذا لأن صاحب هذا الموضع قبل
بناء المسجد كان شريكا في الطريق شركة خاصة
فبناء المسجد لايغير ما كان من الحق في الطريق
لهذا الموضع بخلاف مسجد الخطبة وإذا اشترى
دارا هو شفيعها ولها شفيع آخر غائب ثم إن
المشتري تصدق ببيت منها وطريقه على رجل وسلمه
إليه ثم باعه ما بقي ثم قدم الشفيع الغائب
فطلب الشفعة فإنه تنتقض الصدقة والبيع الآخر
ويأخذ نصف جميع الدار بالبيع الأول لأن حق
ج / 14 ص -154-
الشفيع مقدم على حق المشتري فباعتبار حقه
يتمكن من نقض تصرف المشتري وحقه في النصف لأن
المشتري شفيع معه فإذا أخذ نصف جميع الدار
بالشفعة كان النصف الباقي للمشتري الأول
بمنزلة دار بين رجلين باع أحدهما منها موضعا
مقسوما أو وهب لم يجز ذلك لما في تصرفه من
الضرر على الشريك فإنه يحتاج إلى قسمتين وربما
يتفرق نصيبه في موضعين وإن لم يخاصم حين باع
ما بقي من الدار من المشتري الأول جاز بيعه في
نصيبه كما لو باعها صفقة واحدة يجوز البيع في
نصيبه وإن باع من غيره فالبيع الأول والثاني
باطل لدفع الضرر عن الشريك على ما بينا وشبه
هذا بما لو باع جذعا في حائط على أن يقلعه
ويسلمه فالبيع باطل لما على البائع من الضرر
في التسليم فإن سلمه للمشتري جاز البيع لزوال
المانع فكذلك البيع الأول في المشترك لم يجز
لدفع الضرر عن الشريك فإذا باع ما بقي من
المشتري الأول فقد زال ذلك المعنى.
وإذا كانت دارا لرجل إلى جنبها دار فتصدق
بالحائط الذي يلي دار جاره على رجل وسلمه إليه
ثم باعه ما بقي من الدار فلا شفعة فيها للجار
لأن ملكه غير متصل بالمبيع فالحائط الموهوب
حائل بين المبيع وبين ملك الجار ولو اشترى رجل
حائطا باصلة كان للشفيع فيه الشفعة لأن ملكه
متصل بالمبيع اتصال تأييد فموضع الحائط من
الأرض داخل في البيع.
وإذا كان منزل لرجل في دار إلى جنبه في تلك
الدار منزل آخر لرجل آخر وحائط المنزلين بين
الرجلين نصفان وفي الدار منازل سوى هذين
المنزلين وللمنازل كلها طريق في الدار إلى باب
الدار الأعظم والدار في درب غير نافذ وفي
الدرب دور آخر غير هذه الدار فباع رب أحد
المنزلين منزله فالشريك في الحائط أحق بالشفعة
في جميع المنزل لأن شركته أعم فهو شريك في نفس
المبيع لأن حصة البائع من الحائط دخل في البيع
وعن زفر أنه قال هو أحق بالشفعة في الحائط سوى
ذلك من المنزل هو وأهل الدار سواء وكذلك روى
عن أبي يوسف لأن شركته في موضع معين وليس
بشريك في جميع المبيع فإنما يترجح هو بالشركة
في ذلك الموضع خاصة ألا ترى أنه لو جمع في
البيع بين نصيبه من دار ودار أخرى كان شريكه
في تلك الدار أحق بالشفعة في تلك الدار خاصة
دون الأخرى وجه ظاهر الرواية أن الشركة في
الحائط أظهر من الشركة في الطريق وإذا كان
بالشركة في الطريق يتقدم الشريك على الجار
فبالشركة في الحائط أولى وهذا لأن الحائط من
مرافق جميع المنزل بخلاف الدارين المتفرقتين
فإن سلم هو الشفعة فالشركاء في الطريق الذي في
الدار أحق لشركة بينهم في الدار لأن نصيب
البائع من الصحن صار مبيعا ولا شركة لأهل
الدرب في صحن الدار فإن سلموا فالشركاء
الملاصقون في الطريق الذي قلنا أحق لوجود
الشركة بينهم في طريق خاص في درب غير نافذ فإن
أسلموا فالجيران الملازقون للدار إلى هذا
المنزل فيه شركاء في شفعة هذا المنزل والملاصق
منهم لهذا المنزل والملاصق لأقصى الدار سواء
لأن ملك كل
ج / 14 ص -155-
واحد منهم متصل بالمبيع فحصة البائع من صحن
الدار داخل في البيع فقيام الاتصال في طريق
واحد يكفي للجوار فلهذا أستووا في استحقاق
الشفعة.
وقال أبو حنيفة في السكة التي ليس لها منفذ
باع رجل منهم دارا فهم جميعا شفعاء فيها
للشركة بينهم في طريق خاص في الطريق فإن كان
زقاقا فيه عطف بدور فكذلك أيضا وإن كان العطف
مربعا فباع رجل فيه دارا فالشفعة لأصحاب العطف
دون أصحاب السكة لأن موضع العطف المربع لأصحاب
العطف خاصة دون أصحاب السكة وفي العطف المدور
حقهم جميعا في ذلك الصحن ثابت ولأن المربع من
العطف بمنزلة سكة في سكة ولو كانت سكة في سكة
فبيعت دار في السكة الأقصى فأصحاب تلك السكة
أحق بالشفعة من أصحاب السكة الأولى وإن بيعت
دار في السكة الأولى كانت الشفعة لأصحاب
السكتين جميعا للشركة الخاصة بينهم في طريق
السكة الأولى واختصاص أصحاب السكة الأولى
بالطريق في السكة الأقصى وإذا أقر البائع ببيع
داره من هذا الرجل وأنه قد قبض منه ثمنها أو
لم يقبض الثمن فللشفيع أن يأخذها بالشفعة من
البائع لإقراره بثبوت حق الشفيع وإن قال بعتها
منه وسلمتها إليه ثم أودعتها فللشفيع أن
يأخذها بالشفعة لأنه أقر بثبوت حق الشفيع فإن
كان خصما له ثم ادعى بعد ذلك ما يخرجه من
الخصومة وهو التسليم ثم الإيداع فلا يقبل قوله
فيما ادعى وللشفيع أن يأخذها وإن جحد المشتري
الشراء وإن كان أقر أنه باعها من رجل غائب
بألف درهم فلا خصومة بين الشفيع وبينه حتى
يحضر المشتري لأن الشفيع مصدق فيما أقر له به
والدار وإن كانت في يد البائع فهي مملوكة
للمشتري فلا يأخذها الشفيع إلا بمحضر منها.
رجل ادعى أنه باع من هذه الأرض خمسين جرينا من
رجل فلم يدع الشفيع الشفعة ثم خاصم فيها إلى
القاضي فأبطل شفعته لتركه الطلب ثم اختصم
البائع والمشتري في مقدار المبيع وقضى القاضي
بينهما بالبينة ثم ادعى الشفيع شفعته قال إن
وقع القضاء على ما كان بلغ الشفيع أو أقل منه
فلا شفعة له وإن وقع على أكثر منه فله الشفعة
لأن تسليمه الشفعة خمسين جرينا بالثمن الذي
بلغه تسليم فيما دون ذلك بطريق الأولى ولا
يكون تسليما في أكثر من ذلك فقد يرغب الإنسان
في الأخذ عند الكثرة بما لا يرغب فيه عند
القلة.
وإذا اشترى قوم أرضا فاقتسموها دورا وتركوا
منها سكة ممشى لهم وهي سكة ممدودة غير نافذة
فبيعت دار من أقصاها فهم جميعا شركاء في
شفعتها للشركة الخاصة بينهم في الطريق الذي
رفعوه بينهم ومن كانت داره أسفل من الدار
المبيعة أو أعلى في الشفعة هنا سواء لأن
شركتهم في الطريق من أول السكة إلى آخرها وليس
لبعضهم أن يمنع البعض من الانتفاع بشيء من
السكة فلهذا كانوا في الشفعة سواء وكذلك إن
كانوا ورثوا الدور عن آبائهم ولا يعرفون كيف
كان أصلها فهذا والأول سواء لأنهم شركاء في
الفناء وهو الطريق الذي في السكة فيستوون في
استحقاق الشفعة قال في الكتاب والشريك في
الفناء أحق من الجار فإن كان مراده فناء
مملوكا لهم ملكا خاصا فهو ظاهر وإن كان المراد
فناء غير مملوك
ج / 14 ص -156-
فمع ذلك هم أخص بالانتفاع بذلك الفناء ولهم أن
يمنعوا غيرهم من الانتفاع به فهو بمنزلة
الطريق الخاص بينهم في استحقاق الشفعة.
رجل باع دارا فرضي الشفيع ثم جاء يدعي أنه لم
يعلم أن حدها إلى موضع كذا أو ظن أنها أبعد أو
أقرب ويدعي شفعته حين علم فلا شفعة له علم أو
لم يعلم لأنه أسقط حقه بعد الوجوب وجهله بوجوب
حقه لا يمنع صحة تسليمه فجهله بمقدار حقه
أولى.
رجل أقام البينة أنه اشترى من رجل كل حق هو له
في هذه الدار فإن كان المشتري يعلم كم نصيب
البائع من الدار جاز البيع علم البائع أو لم
يعلم إلا في رواية عن أبي حنيفة قال ما لم
يعلما جميعا كم نصيب البائع لا يجوز البيع لأن
البيع مشروع للاسترباح وجهل البائع بمقدار
نصيبه ربما يفوت مقصوده من البيع كجهل المشتري
وفي ظاهر الرواية قال المشتري يتملك بالشراء
فلا بد من أن يعلم بمقدار ما يتملكه لأنه
يحتاج إلى القبض فإذا لم يكن معلوما له لا
يتمكن من القبض وأما البائع إنما يتملك الثمن
ويقبض بحكم العقد الثمن ومقداره معلوم له فلا
يضر جهله بمقدار نصيبه ألا ترى أن عدم الرؤية
من المشتري يثبت الخيار له ومن البائع لا يثبت
الخيار له وإن لم يعلم المشتري كم نصيب البائع
وعلم البائع ذلك أو لم يعلم فالبيع فاسد في
قول أبي حنيفة جائز في قول أبي يوسف والمشتري
بالخيار إذا علم وقول محمد مضطرب فيه ذكره في
بعض النسخ مع أبي يوسف وفي البعض مع أبي حنيفة
وجه قوله قول أبي يوسف إن انعقاد البيع يكون
المبيع مالا متقوما وهما يعلمان أن نصيب
البائع من الدار مال متقوم قل ذلك أو كثر
فيجوز البيع يوضحه أن قلة نصيبه وكثرته يؤثر
في الشفعة من حيث الشفعة والجهل بأوصاف المبيع
لا يمنع صحة البيع ولكن يثبت الخيار للمشتري
إذا علم به ويجب للشفيع فيه الشفعة وجه قول
أبي حنيفة أن هذه جهالة تفضى إلى تمكن
المنازعة بينهما أما في الحال إن احتاج
المشتري إلى قبض المبيع أو في ثاني الحال إن
تقايلا البيع أو رده بالعيب أو أخذه الشفيع.
والجهالة في المعقود عليه إذا كانت تفضى إلى
المنازعة تمنع صحة العقد كبيع شاة من القطيع
وإذا أخذ الشفيع الدار بالشفعة فله أن يردها
بخيار الرؤية وبخيار العيب على من أخذها منه
وإن كان المشتري قد رآها ويبرأ من عيوبها عند
الشراء لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء
والمشتري لم يكن نائبا عن الشفيع فرؤيته ورضاه
بالعيب لا تعتبر في حق الشفيع وإذا بنى الشفيع
في الدار ثم استحقت من مدة رجع الشفيع بالثمن
على من كانت عهدته عليه ولم يرجع بقيمة البناء
بخلاف المشتري إذا بنى ثم استحقت الدار ونقض
بناؤه فإنه يرجع بقيمة البناء على البائع لأن
المشتري مغرور فالبائع أوجب له العقد باختياره
وضمن له السلامة من عيب الاستحقاق فإذا ظهر
الاستحقاق كان له أن يرجع على البائع بحكم
الغرور فأما الشفيع لم يصر مغرورا من جهة أحد
لأنه أجبر المأخوذ منه على تسليم الدار إليه
فلا يصير مغرورا يوضح الفرق أن البائع بإيجاب
البيع مسلط للمشتري على البناء والمأخوذ منه
بالشفعة غير
ج / 14 ص -157-
مسلط للشفيع على شيء بل هو مجبر على تسليمها
إليه فلا يرجع بقيمة البناء عليه ولكنه يهدم
بناءه وينقله إلى حيث أحب.
ونظير هذا الفرق من اشترى جارية واستولدها ثم
استحقت فالمشتري يرجع بالثمن وبقيمة الولد على
البائع للغرور وبمثله الجارية المأسورة إذا
وقعت في سهم رجل فأخذها مولاها بالقيمة
واستولدها ثم أقام رجل البينة أنها جاريته
دبرها قبل أن تؤسر ردت عليه لأن المدبرة لا
تملك بالأحراز فيضمن الواطئ عقرها وقيمة الولد
لأنه وطئها بشبهة ثم يرجع على الذي وقع في
سهمه بالقيمة التي أعطاها إياها ولا يرجع
بالعقر ولا بقيمة الولد لأنه لم يصر مغرورا من
جهته فقد كان من وقعت في سهمه مجبرا على
تسليمها إليه بالقيمة والغرور ينعدم بهذا
ويعوض الذي كانت وقعت في سهمه قيمتها من بيت
المال لأن نصيبه من القسمة استحق فيثبت له حق
الرجوع على شركائه ويتعذر ذلك عليها لتصرفهم
فيعوض له من بيت المال لأنه لو تعذر قسمة شيء
بين الغانمين كالدرة النفيسة يجعل ذلك في بيت
المال فكذلك إذا لحقه غرم يجعل ذلك على بيت
المال لأن الغنم بمقابلة الغرم وإن لم يشهد
شهود المدعي بالتدبير لم يكن له على الجارية
سبيل لأن المشركين ملكوها بالأحراز وقد ملكها
من وقعت في سهمه ثم تسليمها بالقيمة إلى
المدعي بمنزلة البيع المبتدأ فكأنه اشتراها
واستولدها ثم حضر المأسور منه وفي هذا لا سبيل
له عليها بخلاف المدبرة فإنها لا تملك
بالأحراز لثبوت حق العتق لها بالتدبير والله
أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
تم الجزء الرابع عشر من كتاب المبسوط
ويليه الجزء الخامس عشر وأوله كتاب القسمة |