المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 15 ص -3-         بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب القسمة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء: القسمة من الحقوق اللازمة في المحل المحتمل لها عند طلب بعض الشركاء وجوازها بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: الآية28] والسنة: ما اشتهر من قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بين الصحابة رضوان الله عليهم وقسمة المواريث وغير ذلك والناس يعاملون من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وإنما تجب بعد طلب بعض الشركاء لأن كل واحد من الشريكين قبل القسمة منتفع بنصيب صاحبه فالطالب للقسمة يسأل القاضي أي يخصه بالانتفاع بنصيبه ويمنع الغير من الانتفاع بملكه فيجب على القاضي إجابته إلى ذلك وفي القسمة شيئان المعادلة في المنفعة وتمييز نصيب أحدهما من نصيب الآخر وهي تتنوع نوعين:
أحدهما تمييز محض وهو القسمة في المكيلات والموزونات ولهذا ينفرد بعض الشركاء حتى أن المكيل والموزون من جنس واحد إذا كان مشتركا بين اثنين وأحدهما غائب كان للحاضر أن يتناول من ذلك من مقدار نصيبه وبعد ما اقتسما نصيب كل واحد منهما عين ما كان مملوكا له قبل القسمة ولهذا يبيعه مرابحة على نصف الثمن.
ونوع هو تمييز فيه معنى المبادلة كالقسمة فيما يتفاوت من الثياب والحيوانات فإنما يتميز عند اتحاد الجنس وتقارب المنفعة ولهذا يجبر القاضي عليها عند طلب بعض الشركاء وفيها معنى المبادلة على معنى أن ما يصيب كل واحد منهما مما يصفه كان مملوكا له ونصفه عوض عما أخذه صاحبه من نصيبه ولهذا لا ينفرد به أحد الشريكين ولا يبيع أحدهما نصيبه مرابحة.
إذا عرفنا هذا فنقول: بدأ الكتاب بحديث يسير بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قسم جبريل على ستة وثلاثين سهما جمع ثمانية عشر للمسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم وثمانية عشر سهما فيها أرزاق أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونوائبه.
واعلم أن خيبر كانت ستة حصون الشق والنطاة والكيبة والسلاليم والغموس والوطيخة إلا أن الأموال والمزارع كانت في ثلاثة حصون منها والنسق والنطاة والكيبة وقد افتتح بعض الحصون منها عنوة وقهرا وبعضها صلحا على ما روي أن كنانة من أبي

 

ج / 15 ص -4-         الحقيق مع قومه صالح على النزول وذلك معروف في المغازي فما افتتح منها كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصا فإنهم إنما خرجوا لما وقع في قلوبهم من الرعب.
وقد خص الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالنصرة بإلقاء الرعب في قلوب أعدائه قال صلى الله عليه وسلم: "
نصرت بالرعب مسيرة شهر". وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله: {وَمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: الآية6] إلى قوله:{وَلَكِنَّ الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: من الآية6] فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحصة مع الخمس في الشطر وقسم الشطر بين الغانمين وقد فسر ذلك محمد بن إسحاق والكلبي على ما ذكر بعد هذا عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر على ثمانية عشر سهما جميعا وكانت الرجال ألفا وأربعمائة والخيل مائتي فرس وكان على كل مائة رجل فكان علي رضي الله عنه على مائة وكان عبيد السها على مائة وكان عاصم بن عدي رضي الله عنه على مائة وكان القاسم في النسق والنطاة وكانت النسق ثلاثة عشر سهما والنطاة خمسة أسهم وكانت الكتيبة فيها خمس الله وطعام أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطاياه وكان أول سهم خرج من النسق سهم عاصم رضي الله عنه وفيه سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث إلى آخره.
فهذا الحديث: يبين معنى الحديث الأول ففي الحديث الأول ذكر الشطرين وأن أصل القسمة كانت على ستة وثلاثين سهما وفي الحديث الآخر ذكر مقدار ما قسم بين الغانمين أنه قسم على ثمانية عشر سهما وفيه دليل على أن للإمام في المغانم قسمين قسمة على العرفاء وأصحاب الرايات وقسمة أخرى على الرؤوس الذين هم تحت كل راية وإنما يفعل ذلك لأن اعتبار المعادلة بهذا الطريق أيسر فإنه لو قسم ابتداء على الرؤوس ربما يتعذر عليه اعتبار المعادلة ثم لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم نفسه سهما ولكن كان سهمه مع سهم بن عاصم بن عدي رضي الله عنه فقيل أنه تواضع بذلك وقيل إنما فعل ذلك لأنه ما كان يساوي اسمه اسم في المزاحمه عند خروج القرعة ولهذا خرج سهم عاصم بن عدي رضي الله عنه أولا لأن فيه سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أولى مما يقوله بعض مشايخنا أن العرافة مذمومة في الجملة فيتحرز من ذلك فإن في الجهاد وقسمة الغنائم العرافة غير مذمومة ألا ترى أنه اختار لذلك الكبار من الصحابة كعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم؟
ثم بظاهر الحديث استدل أبو يوسف ومحمد في أن سهم الفرس ضعف سهم الرجل لأنه قال وكانت الرجال ألفا وأربعمائة والخيل أربعمائة فرس فعرفنا أنه كان لكل مائة من الرجال سهم وعرفنا أنه كان لكل مائة من الرجال سهم ولكل مائة من الخيل سهمان ولكن أبو حنيفة يقول المراد بالرجال الرجالة قال الله تعالى:
{ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: من الآية27] والمراد بالخيل الفرسان يقال عارت الخيل قال الله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الاسراء: من الآية64] أي بفرسانك ورجالتك فهذا يتبين أن الرجال كانوا ألفا وستمائة وأنه أعطى

 

ج / 15 ص -5-         الفارس سهمين والراجل سهما وفيه دليل أنه لا بأس باستعمال القرعة في القسمة فقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في قسمة الغنيمة مع نهيه صلوات الله عليه عن القمار فدل أن استعماله ليس من القمار.
وذكر عن مسروق رحمه الله أنه لم يأخذ عن القضاء رزقا ففيه دليل أنه من ابتلي بالقضاء وكان صاحب يسار فالأولى له أن يحتسب ولا يأخذ كفايته من مال بيت المال وإن كان لو أخذ جاز له وبيانه بما روي عن عمر رضي الله عنه فيه قال ما أحب أن يأخذ قاضي المسلمين أجرا ولا الذي على الغنائم ولا الذي على المقاسم ولم يرد به حقيقة الأجر فالاستئجار على القضاء لا يجوز ولا يستوجب الأجر على القضاء وإن شرط ولكن مراده الكفالة التي يأخذها القاضي من بيت المال فالمستحب له عند الاستغناء أن لا يأخذ ذلك قال الله تعالى:
{وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: من الآية6] وقد بينا الكلام في هذا الفصل فيما أمليناه من شرح أدب القاضي والذي على الغنائم يحفظها والذي على المقاسم من وجد كالقاضي لأنه عامل للمسلمين ولكنه ليس بمنزلة القاضي في الحكم حتى يجوز استئجاره على ذلك إن لم يكن له فيه نصيب وتأويل الحديث إذا كان له نصيب في ذلك فاستئجار أحد الشركاء على العمل في المال المشترك لا يجوز كما لا يجوز استئجار القاضي على القضاء ذكر عن يحيى بن جزار أن عبد الله بن يحيى كان يقسم لعلي رضي الله عنه الدور والأرضين ويأخذ على ذلك الأجر وقد بينا فوائد هذا الحديث في أدب القاضي وجواز الاستئجار لعمل القسمة بخلاف عمل القضاء.
وعن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليا رضي الله عنه إلى اليمن فأتى بركاز فأخذ منه الخمس وترك أربعة أخماسه للواجد وأتاه ثلاثة يدعون غلاما كل واحد يقول ابني فأقرع بينهم وقضى بالغلام للذي خرجت قرعته وجعل عليه الدية لصاحبيه قال الراوي فقلت لعامر هل رفع عنه بحصته قال لا أدري.
أما حكم الخمس في الركاز فقد بيناه في كتاب الزكاة وأما حكم القرعة فالشافعي رحمه الله يستدل بظاهر هذا الحديث في المصر على القرعة في دعوى النسب عند الاشتباه ولسنا نأخذ بذلك أن فعله هذا كان بعد حرمة القمار أم قبله وأنه عرض ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضي به أو لم يرض عليه ثم لعل القضاء له بحجة أقامها وكان استعماله القرعة ليطيب القلوب وإنما رجحه في القضاء لترجيح في حجته من يد أو غيره وقوله فقضى للذي خرجت قرعته مذكور على سبيل التعريف لا لأن الاستحقاق كان بالقرعة كما يقال قضى القاضي لصاحب الطيلسان وما ذكر في آخره من أنه جعل عليه الدية لصاحبيه مشكل لا يتضح فالحي الحر لا يتقوم بالدية وإن كان هذا الغلام مملوكا لهم أو من جارية مشتركة بينهم فإقرار كل واحد منهم أنه ابنه يوجب حرية نصيبه ويسقط حقه في التضمين وكذلك ما أشكل على السائل حيث قال هل رفع عنه بحصته فإن الدية اسم يجمع بدل

 

ج / 15 ص -6-         النفس وقد كان في ذلك حصة الذي قرع فلا بد من أن يرفع عنه بحصته في الموضع الذي يجب كأحد الشركاء في العبد إذا قبله إلا أن عامر لم يحارف ألم يرد ما سمع فقال لا أدري فكأنه لم يتكلف لذلك لعلمه أن هذا ليس بحكم مأخوذ به فبهذا يتبين ضعف هذا الحديث في استعمال القرعة في النسب.
وعن إسماعيل بن إبراهيم قال: خاصمت أخي إلى الشعبي في دار صغيرة أريد قسمتها ويأبى ذلك فقال الشعبي رضي الله عنه لو كانت مثل هذه فخط بيده مقدار آجرة قسمتها بينكم فقال وخطها على أربع قطع وفيه دليل على أن القاضي يقسم المشترك عند طلب بعض الشركاء وإن أبى ذلك بعضهم لأن الذي طلب القسمة متظلم من صاحبه أنه يشفع بملكه ولا ينصفه في الانتفاع والذي يتعنت وإنما يبني القاضي قضاءه على التماس المتظلم الطالب للإنصاف دون المتعنت ولهذا لا تجب القسمة فيما لا يحتملها عند طلب بعض الشركاء لأن الطالب هنا متعنة فإنه قبل القسمة ينتفع بنصيبه وبالقسمة تنقطع عنه المنفعة وأما قول الشعبي في مقدار آجرة خطها على الأرض قسمتها بينكم على وجه التمثيل دون التحقيق للمبالغة في دار الذي يأتي القسمة منهما فيما يحتمل لأن مقدار الآجرة يحتمل القسمة وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم "
من بنى مسجدا لله كمفحص قطاه بنى الله له بيتا في الجنة" والمسجد لا يكون كمفحص القطاة وإنما قال ذلك للمبالغة في بيان الميل.
وقال أبو حنيفة: رحمه الله أجرة القسام إذا استأجره الشركاء للقسمة بينهم على عدد الرؤوس لا على مقدار الإنصباء وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله على مقدار الإنصباء ويستوي في ذلك قاسم القاضي وغيره وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وجه قولهم أن هذه مؤنة تلحق الشركاء بسبب الملك فيكون بينهم على وجه النفقة على قدر الملك كالنفقة وأجرة الكيال والوزان إن استأجروه ليفعل ذلك فيما هو مشترك بينهم وهذا لأن المقصود هنا بالقسمة أن يتوصل كل واحد منهم إلى الانتفاع بنصيبه ومنفعة نصيب صاحب الكبير أكبر من منفعة نصيب صاحب القليل أو لأن الغرم مقابل بالغنم ثم الغنم بين الشركاء على قدر الملك يعني الثمار والأولاد فكذلك الغرم عليهم بقدر الملك ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن عمله لهم سواء وإنما يستحق الأجر بذلك فيكون الأجر عليهم بالتسوية كما إذا استوت الإنصباء.
وبيان الوصف أن القسام لا يستحق الأجر بالمساحة ومد الإطناب والمشي على الحدود فإنه لو استعان في ذلك بأرباب الملك استوجب كمال الأجر إذا قسم بنفسه فعرفنا أنه لا يستوجب الأجر بالقسمة وهي تمييز نصيب كل واحد منهم ولا تفاوت بينهم في ذلك فكما يتميز نصيب صاحب الكبير بعمله عن نصيب صاحب القليل يتميز نصيب صاحب القليل عن نصيب صاحب الكبير وربما يكون عمله في نصيب صاحب القليل أكبر والحساب لا يدق إذا استوت الانصباء وإنما يدق عند تفاوت الانصباء وتزداد دقته بقلة بعض الانصباء فلعل تمييز

 

ج / 15 ص -7-         نصيب صاحب القليل أسوأ من تمييز نصيب الكبير ولكن لا يعتبر ذلك لأن التمييز حصل بعمل واحد وهما في ذلك العمل سواء بخلاف الزوائد فإنها تتولد من الملك فإنما تتولد بقدر الملك وبخلاف النفقة فإنها لإبقاء الملك وحاجة الكبير إلى ذلك أكثر من حاجة صاحب القليل ولا معنى لما قال أن منفعة صاحب الكثير هنا أكثر لأن ذلك لكثرة نصيبه لا للعمل الذي استوجب الأجر به فأما أجر الكيال والوزان فقد قال بعض مشايخنا هو على الخلاف فإن المكيل والموزون يقسم بذلك والكيال والوزان بمنزلة القسام والأصح أن أبا حنيفة رضي الله عنه يفرق بينهما فنقول هنا إنما لا يستوجب الأجر بعمله في الكيل والوزن ألا ترى أنه لو استعان في ذلك بالشركاء لم يستوجب الأجر وعمله في ذلك بالشركاء لم يستوجب الأجر وعمله في ذلك لصاحب الكثير أكثر فكل عاقل يعرف أن كيل مائة قفيز يكون أكثر من كيل عشرة أقفزة فلهذا كانت الأجرة عليهما بقدر الملك بخلاف القسام فذكر أن الأولى أن يجعل لقاسم الأرضين رزقا من بيت المال حتى لا يأخذ من الناس شيئا وإن لم يجعل رزقا له فقسم بالأجر فهو جائز لأن القسمة ليست كعمل القضاء فالقضاء فرض هو عبادة والقاضي في ذلك نائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقسمة ليست من ذلك في شيء ولكنها تتصل بالقضاء لأن تمام انقطاع المنازعة يكون بالقسمة فمن هذا الوجه القسام نائب عن القاضي فالأولى أن يجعل كفايته في مال بيت المال ومن حيث إن عمله ليس من القضاء في شيء يجوز له أخذ الأجر على ذلك والقسام بمنزلة الكاتب للقاضي في ذلك وقد قررنا هذا في أدب القاضي.
وكذلك ما ذكر بعده من حديث شريح رحمه الله وما لي لا أرتزق استوفي منهم وأوفيهم أصبر لهم نفسي في المجلس وأعدل بينهم في القضاء فقد بينا أن شريحا رحمه الله كان يأخذ كفايته من بيت المال على ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يرزقه مائة درهم على القضاء فزاده علي رضي الله عنه وذلك لكثرة عياله حتى جعل له في كل شهر خمسمائة درهم ولعل عاتبه بعض أصدقائه على أخذ الأجر وقال له احتسب فقال شريح في جوابه ما قال ومراده أني فرغت نفسي عن أشغالي لعمل المسلمين فآخذ كفايتي من مال المسلمين وكأنه بهذا الكلام أشار إلى الاستدلال بما جعل الله تعالى من النصيب في الصدقات للعامين عليها فإنهم لما فرغوا أنفسهم لعمل الفقراء استحقوا الكفاية في مال الفقراء.
وذكر عن محمد بن إسحاق والكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر أقرع بين نسائه قالت عائشة رضي الله عنها فاصابتني القرعة في السفرة التي أصابني فيها ما أصابني تريد به حديث الإفك واعلم بأن المرأة لا حق لها في القسم عند سفر الزوج فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يسافر بواحدة منهن وأن يسافر بمن شاء منهن من غير قرعة ولكنه كان يقرع بينهن تطييبا لقلوبهن فاستعمال القرعة في مثل هذا الموضع جائز عند العلماء أجمع رحمهم الله وبهذا الحديث قلنا إذا تزوج أربع نسوة فله أن يقرع بينهن لابدائه بالقسم لأن له أن يبدأ بمن شاء منهن فيقرع بينهن تطييبا لقلوبهن ونفيا لتهمة الميل عن نفسه.

 

ج / 15 ص -8-         وإنما أورد الحديث للحكم المذكور بعده أنه لا بأس للقسام أن يستعجل القرعة في القسمة بين الشركاء قاسم القاضي وغيره في ذلك سواء وهو استحسان وفي القياس هذا لا يستقيم لأنه في معنى القمار فإنه تعليق الاستحقاق بخروج القرعة والقمار حرام ولهذا لم يجوز علماؤنا استعمال القرعة في دعوى النسب ودعوى الملك وتعيين العتق ثم هذا في معنى الاستقسام بالإزلام الذي كان بعبادة أهل الجاهلية وقد حرم الله تعالى ذلك ونص على ذلك أنه رجس وفسق ولكنا تركنا بالسنة والتعامل الظاهر فيه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ثم هذا ليس في معنى القمار ففي القمار أصل الاستحقاق يتعلق بما يستعمل فيه وفي هذا الموضع أصل الاستحقاق بكل واحد منهم لا يتعلق بخروج القرعة ثم القاسم لو قال عدلت أنا في القسمة فخذ أنت هذا الجانب وأنت هذا الجانب كان مستقيما إلا أنه ربما يتهم في ذلك فيستعمل القرعة لتطييب قلوب الشركاء ونفي تهمة الميل عن نفسه وذلك جائز ألا ترى أن يونس عليه السلام في مثل هذا استعمل هذا القرعة مع أصحاب السفينة كما قال صلى الله عليه وسلم ل الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] وهذا لأنه علم أنه هو المقصود ولكن لو ألقى نفسه في الماء ربما ينسب إلى مالا يليق بالأنبياء عليهم السلام فاستعمل القرعة لذلك وكذلك زكريا عليه السلام استعمل القرعة مع الأحبار في ضم مريم عليها السلام إلى نفسه وقد كان علم أنه أحق بها منهم لأن خالتها كانت تحته ولكن استعمل القرعة تطييبا لقلوبهم. قال الله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: من الآية44]
ثم إن كان القاضي هو الذي يقسم بالقرعة أو نائبه فليس لبعض الشركاء أن يأتي ذلك بعد خروج بعض السهام كما لا يلتفت إلى إباء بعض الشركاء قبل خروج القرعة وإن كان القاسم يقسم بينهم بالتراضي فرجع بعضهم بعد خروج بعض السهام كان له ذلك إلا إذا خرجت السهام كلها إلا واحدا لأن التمييز هنا يعتمد التراضي بينهم فلكل واحد منهم أن يرجع قبل أن يتم وبخروج بعض السهام لا يتم فكان هذا كالرجوع عن الإيجاب قبل قول المشتري فأما إذا خرج جميع السهام إلا واحدا فقد تمت القسمة لأن نصيب ذلك الواحد تعين خرج أو لم يخرج فلا يملك بعضهم الرجوع بعد تمام القسمة.
دار بين ورثة اقتسموها وفضلوا بعضا على بعض بفضل قيمة البناء على بعض بفضل قيمة البناء والموضع فهو جائز لأنه يعتبر في القسمة المعادلة في المالية والمنفعة ولا يتأتى ذلك في المساواة في الزرع والبناء يكون في جانب دون جانب وبعض العرصة تكون أفضل قيمة من البعض وأكثر منفعة فإن مقدم الدار يرغب فيه ما لا يرغب في مؤخره وفي اعتبار هذه المعادلة لا بد من تفضيل البعض على البعض في المساحة وإن اقتسموا الأرض مساحة والبناء والقيمة قيمة بقيمة عدل فهو جائز عند التراضي لا يشكل وكذلك إذا قضى القاضي به لأن المعادلة في الأرض باعتبار المساحة تتسر وقد يتعذر ذلك في البناء لما بين الأبنية من التفاوت العظيم في القيمة فقسمة البناء بالتقديم تكون أعدل وإذا جاز قسمة الكل باعتبار القيمة فقسمة البعض كذلك وإن كان

 

ج / 15 ص -9-         البناء حين اقتسموا الأرض غير معروف القسمة فهذا في القياس لا يكون لأن البناء والأرض تتناولهما قسمة واحدة وإذا لم تعرف قيمة البناء فقد تعذر تصحيح القسمة في البناء للجهالة فلا تصح القسمة في الأرض أيضا كما هو الأصل في العقد الواحد إذا فسد في بعض المعقود عليه فسد في الكل ولكنا استحسنا وجوزنا هذا لمعنيين:
أحدهما: أنهم ميزوا البناء عن الأرض في هذه القسمة حين خالفوا بينهما في طريق القسمة فاعتبروا في الأرض المعادلة في المساحة وفي البناء المعادلة في القيمة فصار بمنزلة أرضين يقسم كل واحدة منهما قسمة على حدة وفي
ذلك تصح القسمة في أحديهما قبل ظهور المساحة في الأخرى فكذلك هنا تجوز القسمة في الأرض قبل أن يظهر قيمة البناء.
والثاني:أن حكم القسمة في الأرض لا يتم بالمساحة ولكن يتوقف تمام القسمة فيها على معرفة قيمة البناء وقسمتها بالقيمة لا تتم القسمة إلا بعد ظهور المعادلة في الكل ومعرفة كل واحد من الشركاء نصيبه وإنما يعتبر حال تمام العقد وإذا كان يتم في المعلوم لم تضرهم الجهالة في الابتداء كما لو اشترى أحد الثياب الثلاثة على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء ويسمى لكل واحد ثمنا.
وإذا كانت الدار ميراثا بين قوم حضور كبار تصادقوا عند القاضي عليها وأرادوا القسمة بها فإن فعلوا ذلك عن تراضي منهم لم يمنعهم القاضي من ذلك لأن هذا تصرف منهم فيما بقي في أيديهم بطريق مشروع ولو تصرفوا في ذلك ببيع أو هبة لم يمنعوا منه فكذلك بالقسمة وإن سألوا القاضي أن يقسمها بينهم فإن أبا حنيفة قال القاضي لا يقسم العقار بينهم بإقرارهم حتى تقوم البينة على أصل الميراث وقال أبو يوسف ومحمد يقسمها بينهم ويشهد أنه قسمها بإقرارهم وقضى بذلك عليهم دون غيرهم لأن اليد فيها لهم ومن في يده شيء فقوله مقبول فيه ما لم يحضر خصم ينازعه في ذلك وليس هنا خصم ينازعهم فلا حاجة لهم إلى إقامة البينة لإثبات ملكهم فيها وإذا كان الملك ثابتا لهم بقولهم إنما سألوا القاضي أن يقسم بينهم ملكهم فعليه أن يجيبهم إلى ذلك كما لو زعموا أن الدار مملوكة لهم ولم يذكروا ميراثا ولا غيره وسألوه أن يقسمها بينهم قسمهم القاضي بطلبهم وأشهدوا أنه قضى بذلك عليهم دون غيرهم نظرا منه لغائب عسى يحضر فيدعي لنفسه فيها حقا فكذلك هنا والدليل عليه أنه لو كانت في أيديهم عروض أو منقول سوى العقار فأقروا أنها ميراث بينهم وطلبوا قسمتها قسمها القاضي بإقرارهم وأشهد على أنه قسمها بإقرارهم لاعتبار يدهم فكذلك في العقار لأن اليد تثبت على العقار كما تثبت على المنقول وكذلك لو كان في أيديهم دار فأقروا أنها دارهم اشتروها من فلان الغائب وسألوا القاضي قسمتها أجابهم القاضي إلى ذلك بهذا الطريق فكذلك في الميراث إذ لا فرق بينهما لأنهم في الموضعين أقروا بأصل الملك لغيرهم ثم أخبروا بانتقال الملك إليهم بسبب محتمل مشروع فإذا جاز له أن يعتمد القسمة على قولهم فكذلك في الشراء وكذلك في الميراث ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان: أحدهما

 

ج / 15 ص -10-       على قولهم في أن قضاء القاضي هنا يتناول الميت ويصير هو مقضيا عليه بقسمة القاضي وقولهم ليس بحجة عليه فلا بد لهم من إقامة البينة ليثبت بها حجة القضاء على الميت وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن التركة قبل القسمة مبقاة على ملك الميت بدليل أن حقه يثبت في الزوائد التي تحدث حتى يقضي منه ديونه وينفذ وصاياه وبالقسمة ينقطع حق الميت عن التركة حتى لا يثبت حقه فيما يحدث بعد ذلك من الزوائد فكان فيه قضاء على الميت يقطع حقه.
والثاني: أن القاضي يثبت له الولاية على الميت في تركته فيما يرجع إلى النظر وينفذ تصرفه إليه إذا كان فيه نظر للميت فبم يخبرون القاضي بثبوت ولايته على الميت ليلزم الميت قضاؤه فيما يرجع إلى النظر وذلك أمر وراء ما في أيديهم فلا يكون قولهم في ذلك حجة فيكلفهم إقامة البينة على ذلك وتقبل هذه البينة من غير خصم لأنها تقوم لإثبات ولاية النظر للقاضي في حق من هو عاجز عن النظر لنفسه وهذا بخلاف ما إذا اقتسموا بأنفسهم لأن فعلهم لا يلزم الميت شيئا وبخلاف العروض لأن معنى النظر للميت هناك في القسمة من وجهين:
أحدهما: أن العروض يخشى عليها النوى والتلف وفي القسمة تحصين وحفظا لها فأما العقار محصنة بنفسها لا يخشى عليها التلف ففي القسمة قضاء على الميت يقطع حقه عنها.
والثاني: أن في العروض ما يأخذه كل واحد منهم بعد القسمة يصير مضمونا عليه بالقبض في حق غيرهم ففي جعل ذلك مضمونا عليهم معنى النظر للميت وذلك لا يوجد في العقار فإنها لا تصير مضمونة على من أثبت يده فيها عند أبي حنيفة رحمه الله وهذا بخلاف ما زعموا أنها مملوكة لهم لأن القضاء بالقسمة هناك لا يقتصر عليهم ولا يتعدى إلى غيرهم إذ لم يثبت فيها أصل الملك لغيرهم.
فأما في الشراء فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير الأصول أن القاضي لا يقسمها بينهم وسوى بين الشراء والميراث ولكن على هذا الطريق نسلم كما هو ظاهر الرواية فنقول قضاؤه بالقسمة في المشتري لا يتضمن قطع حق البائع لأن بعد البيع والتسليم لا يبقى المبيع على حكم ملك البائع بخلاف الميراث ولأنه لا يثبت للقاضي الولاية على الغائب بالتصرف في أمواله فهم ما أخبروا القاضي بثبوت ولايته على البائع الغائب بخلاف الميراث على ما قررنا والطريق الآخر لأبي حنيفة أنه لا يتمكن من القضاء بالقسمة حتى يقضي بموت المورث ويتعلق بموته أحكام غير مقصودة على ما في أيديهم من وقوع التفريق بينه وبين زوجته وعتق أمهات أولاده ومدبراته وحلول آجاله وقولهم ليس بحجة في شيء من ذلك فلا يشتغل القاضي بالقسمة حتى تقوم البينة عنده على الموت وأصل الميراث بخلاف العروض فالقسمة فيها للتحصين لا لتحصيل الملك ألا ترى أن القسمة في العروض تجري

 

ج / 15 ص -11-       بين المودعين للحفظ فلا يتضمن القضاء بموته فأما في العقار القسمة لتحصيل الملك ولا يكون ذلك إلا بعد القضاء بموته وعلى هذا الطريق يأخذ في مسألة الشراء برواية النوادر لأنه لا يتمكن من القضاء بالقسمة حتى يقضي بالبيع وزوال ملك البائع وقولهم ليس بحجة عليه ولئن سلمنا فنقول الحكم المتعلق بالبيع هناك مقصود على ما في أيديهم فيستقيم أن يجعل ذلك نائبا في حقهم بإقرارهم بخلاف الميراث.
وإذا كان في الورثة صغير أو كبير غائب والدار في أيدي الكبار الحضور فكذلك الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله لا يقسمها القاضي بينهم حتى تقوم البينة على أصول المواريث لأنها لما لم يقسم في الفصل الأول مع أن الورثة كلهم كبار حضور ففي هذا الفصل أولى أن لا يقسم لأن في قسمته قضاء على الغائب والصغير بقولهم وعلى قول أبي يوسف ومحمد يقسمها بينهم ويعزل حق الغائب والصغير ويشهد أنه قسمها بإقرار الحضور الكبار وأن الغائب والصغير على حجتهما كما في الفصل الأول لأن الدار كلها في يد الكبار الحضور وليس في هذه القسمة قضاء على الصغير والغائب بإخراج شيء من يدهما بل فيها نظر لهما بظهور نصيبهما مما في يد الغير فإنه بالقسمة يعزل نصيب الغائب والصغير وكان هذا محض نظر في حق الغائب والصغير وللقاضي هذه الولاية.
وإن كان شيء من العقار في يد الصغير أو الغائب لم أقسمها بإقرار الحضور حتى تقوم البينة على أصل الميراث لأن في هذه القسمة قضاء على الغائب والصغير بإخراج شيء مما كان في يده عن يده وكذلك إن كان الكبير أودع ما كان في يده منها رجلا حين غاب لأن المودع أمين فلا يكون خصما في ذلك ولا يجوز للقاضي أن يقضي على الغائب بحضور أمينه فلهذا لا يقسم حتى تقوم البينة فإذا قامت البينة قبلها القاضي لأنها تقوم لإثبات ولاية القاضي في تركة الميت ولأن الورثة يخلفون الميت في الميراث فينتصبون خصما عنه وينصب بعضهم خصما عن بعض فقل ما تخلو تركة عن هذا فإن الورثة يكثرون وقل ما يحضرون فلو لم يقبل القاضي البينة ولم يقسمها لمكان غائب أو صغير أدى إلى الضرر والضرر مدفوع.
وكذلك إذا حضر القاضي اثنان من الورثة والعقار في أيديهما وأقاما البينة على أصل الميراث فإن القاضي يقسمها بينهم ويوكل بنصيب الغائب والصغير من يحفظه لأنه يجعل أحد الحاضرين خصما عن الميت وعن الصغير والغائب والآخر خصما عن نفسه فيتمكن من قبول هذه البينة والعمل بها بحضور مدع ومدعى عليه وإذا كان الحاضر واحدا لم يقسمها القاضي ولم يقبل منه البينة لأنه ليس معه خصم فإن الحاضر لو كان خصما عن نفسه فليس هنا خصما عن الميت وعن الغائب وإن كان هذا الحاضر خصما عنهما فليس هنا من يخاصم عن نفسه ليقيم البينة عليه بذلك بخلاف ما إذا كان الحاضر اثنين من الورثة والثاني أن الحاضر إذا كان واحدا فهو غير متظلم في طلب القسمة ولا طالب للإنصاف إذ ليس معه من ينتفع بملكه حتى

 

ج / 15 ص -12-       يقول للقاضي: أقسمها بيننا لكيلا ينتفع بملكي غيري فإذا حضر اثنان فكل واحد منهما يطلب القسمة ليسأل القاضي أن يمنع صاحبه من الانتفاع بنصيبه وذلك مستقيم وإن كان فيهم خصم صغير جعل له القاضي وصيا لأن للقاضي ولاية النظر للصبي في نصيب الوصي ووصي الصغير قائم مقام الصغير فكأنه بالغ حاضر فتقبل البينة حينئذ ويأمر بالقسمة باعتبار أنه يجعل أحدهما مدعيا والآخر مدعى عليه وأحدهما خصما عن نفسه والآخر عن الميت والغائب.
وإن كان العقار شراء بينهم ومنهم غائب لم أقسمها بينهم وإن أقاموا البينة على الشراء حتى يحضر الغائب لأن في الميراث إنما قسمها عند حضور جماعة منهم لتعذر اشتراط حضورهم عند القسمة بطريق العادة وهذا لا يوجد في الشراء فقد كانوا حاضرين عند الشراء فتيسر اشتراط حضورهم عند القسمة أيضا ولأن الحاضر من المسيرين لا ينتصب خصما عن الغائب لأن النائب بالشراء لكل واحد منهم ملك جديد بسبب باشره في نصيبه ولا يجوز القضاء على الغائب بالبينة إذا لم يكن عنه خصم حاضر فأما في الميراث لا يثبت للورثة ملك متجدد بسبب حادث وإنما ينسب إليهم ما كان من الملك للمورث بطريق الخلافة ولهذا يثبت لهم حق الرد بالعيب على بائع المورث ويصح إقالتهم معه فيستقيم أن يجعل بعضهم خصما عن البعض في ذلك لاتحاد السبب في حقهم وهو الخلافة عن الميت.
وإذا كانت الدار ميراثا وفيها وصية بالثلث وبعض الورثة غائب وبعضهم شاهد فأراد الموصى له بالثلث القسمة وأقام البينة على المواريث والوصية فإن الدار تقسم على ذلك لأن من حضر من الورثة ينتصب خصما عن الميت. وعن سائر الورثة فتقبل بينة الموصى له بذلك عليهم وإذا قبلت بينته قسمت الدار بينهم على ذلك.
ولو أن بيتا في دار بين رجلين أراد أحدهما قسمته وامتنع الآخر وهو صغير لا ينتفع واحد منهما بنصيبه إذا قسم لم يقسمه القاضي بينهما لأن الطالب للقسمة بينهما متعنت فإن قبل القسمة يتمكن كل واحد منهما من الانتفاع بنصيبه وبالقسمة يفوت ذلك فالطالب منهما إنما يقصد التعنت والإضرار بشريكه فلا يجيبه القاضي إلى ذلك وكذلك لا يقسم الحائط والحمام بين رجلين لأن في قسمته ضررا والمقصود بالقسمة اتصال منفعة الملك إلى كل واحد من الشركاء وفي الحائط والحمام تفوت المنفعة بالقسمة لأن كل واحد منهما لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة كما كان ينتفع قبل القسمة فلا يقسمه القاضي بينهم لأنه لا يشتغل لما لا يفيد ولا بما فيه إضرار ولو اقتسموا بينهم بالتراضي لم يمنعهم من ذلك لأنهم لو أقدموا على إتلاف الملك لم يمنعهم من ذلك في الحكم فكذلك إذا تراضوا القسمة فيما بينهم فإن كانت دار بين رجلين ولأحدهما فيها بعض قليل لا ينتفع به إذا قسم فأراد صاحب الكثير القسمة قسمها بينهم وإن أبى ذلك صاحب القليل عندنا وقال بن أبي ليلى رحمه الله لا يقسمها وكذلك إن كان سائر الشركاء لا ينتفعون بانصبائهم إلا هذا الواحد الطالب للقسمة فإنه يقسمها بينهم وإن كان الطالب صاحب القليل لم يقسمها إذا كان هو لا ينتفع بنصيبه بعد

 

ج / 15 ص -13-       القسمة وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله لا يقسمها عند إباء بعضهم إلا إذا كان كل واحد منهم ينتفع بنصيبه بعد القسمة لأن المقصود بالقسمة تحصيل المنفعة لا تفويتها والمعتبر في القسمة المعادلة بين الشركاء في المنفعة فإذا كان بعضهم لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة فهذه قسمة تقع على ضرر والقاضي لا يجبر الشركاء على مثله كما لو كان الطالب من لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة ولنا أن الطالب للقسمة يطلب الإنصاف من القاضي ولا يتعنت لأنه يطلب منه أن يخصه بالانتفاع بملكه ويمنع غيره من الانتفاع بملكه وهذا منه طلب للأصناف فعلى القاضي أن يجيبه إلى ذلك بخلاف ما إذا كان الطالب للقسمة من لا ينتفع بنصيبه لأنه متعنت في طلب القسمة والقاضي يجيب المتعنت بالرد.
يوضحه أن بعد القسمة وإن تعذر على صاحب القليل الانتفاع بنصيبه فذلك لقلة نصيبه لا لمعنى من جهة صاحب الأكبر وذلك لا يعتبر في حق صاحب الكبير فيصير هذا في حقه وما إذا كان كل واحد منهما ينتفع بنصيبه بعد القسمة سواء والحاكم في المختصر قال إذا كان الضرر على أحدهما دون الآخر قسمتها أيهما طلب القسمة وهذا غير صحيح والصحيح أنه إنما يقسم إذا طلب ذلك صاحب الكبير خاصة ومنهم من صحح ما ذكره الحاكم رحمه الله وقال صاحب القليل رضي بالضرر حين طلب القسمة وصاحب الكبير منتفع بالقسمة فيقسمه القاضي بينهم لهذا ولكن الأول أصح لأن رضاه بالتزام الضرر لا يلزم القاضي شيئا وإنما الملزم طلبه الإنصاف من القاضي واتصاله إلى منفعة ملكه وذلك لا يوجد عند طلب صاحب القليل.
ألا ترى أن كل واحد منهما إذا كان بحيث لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة وطلبا جميعا القسمة من القاضي لم يقسمها القاضي بينهما فكذلك إذا كان الطالب من لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة والرجال والنساء والحر والمملوك وأهل الإسلام وأهل الذمة في القسمة سواء لأنها من حقوق الملك والمقصود التوصل بها إلى منفعة الملك وهم في ذلك سواء.
وإذا اقتسم الرجلان دارا ورفعا بينهما طريقا فهو جائز لأنهما قسما بعض المشترك وبقيا شركتهما في البعض وهو موضع الطريق فيجوز ذلك اعتبارا للبعض بالكل ولأن المقصود بالقسمة أن ينتفع كل واحد منهما بنصيبه وإنما يتم ذلك إذا رفعا طريقا بينهما وما يرجع إلى تتميم المقصود بالقسمة لا يكون مانعا صحتها وإن كان نصيب أحدهما أكثر من نصيب الآخر ينبغي أن يبين ذلك في كتاب القسمة ويذكر كيف الطريق بينهما لأنه بقي في موضع الطريق ما كان لهما من الشركة في جميع الدار وقد كانت شركتهما فيها على التفاوت فإنما يحصل التوثق أن يبين ذلك في كتاب القسمة لأنهما إذا لم يبينا ذلك فربما يدعي صاحب الأقل المساواة بينهما في رقبة الطريق ويحتج على ذلك بأنه مساو في استعماله بالتطرق فيه وإنما يكتب الكتاب بينهما للتوثق فينبغي أن يكتب على وجه يحصل به معنى التوثق لهما.
وإذا كانت الدار بين رجلين وفيها صفة فيها بيت وباب البيت في الصفة ومسيل ماء ظهر

 

ج / 15 ص -14-       البيت على ظهر الصفة فاقتسما فأصاب الصفة أحدهما وقطعه من الساحة ولم يذكر طريقا ولا مسيل ماء وصاحب البيت يقدر أن يفتح بابه فيما أصابه من الساحة ويسيل ماءه في ذلك فأراد أن يمر في الصفة على حاله ويسيل ماءه على ما كان فليس له ذلك سواء اشترط كل واحد منهما أن له ما أصابه بكل حق له أو لم يشترط ذلك والقسمة في هذا بخلاف البيع فإنه لو باع البيت وذكر في البيع الحقوق والمرافق دخل الطريق ومسيل الماء وإن لم يذكر الحقوق والفرق أن المقصود بالبيع إيجاب الملك وقصد المشتري أن يتمكن من الانتفاع وذلك يتم بالطريق والمسيل لا أن ذلك خارج من المحدود فلا يدخل في البيع بمطلق التسمية للبيت إلا بذكر الحقوق والمرافق. فالمقصود بالقسمة تمييز أحد الملكين من الآخر وأن يختص كل واحد منهما بالانتفاع بنصيبه على وجه لا يشاركه الآخر فيه وإنما يتم هذا المقصود إذا لم يدخل الطريق والمسيل لتمييز نصيب أحدهما عن الآخر من كل وجه فلهذا لا يدخل مع ذكر الحقوق والمرافق.
توضيح الفرق أن المقصود بالبيع الاسترباح وذلك باعتبار المالية والمالية تختلف بدخول الطريق والمسيل في البيع فعند ذكر الحقوق والمرافق عرفنا أنهما قصدا ذلك فأما في القسمة المقصود التميز دون الاسترباح فبذكر الحقوق والمرافق لا يتبين أنهما لم يقصدا التمييز في أن لا يبقى لأحدهما في نصيب الآخر طريق ميسل ماء ولو لم يكن له مفتتح للطريق ولا مسيل ماء فإنه ذكر في كتاب القسمة أن لكل واحد منهما ما أصابه بكل حق له جازت القسمة وكان طريقه في الصفة ومسيل مائة على طريق سطحه كما كان قبل القسمة وإن لم يذكر الحقوق والمرافق فالقسمة فاسدة بخلاف البيع فإنه يكون صحيحا وإن لم يذكر الحقوق والمرافق لأن المقصود بالبيع ملك العين وهذا المقصود يتم للمشتري وإن كان يتعذر عليه الانتفاع لعدم الطريق والمسيل له كمن اشترى مهرا صغيرا أو أرضا سبخة فإنه يجوز وإن كان لا ينتفع بالمشتري وهذا لأنه ترك النظر لنفسه حين لم يذكر الحقوق والمرافق ليدخل الطريق والمسيل فلا يشتغل بالنظر له فأما في القسمة المقصودة اتصال كل واحد منهما إلى الانتفاع بنصيبه فإذا لم يكن له مفتتحا إلى الطريق ولا مسيل ماء فهذه قسمة وقعت على ضرر فلا يجوز إلا أن يذكر الحقوق والمرافق فيستدل بذلك على أنهما قصد إدخال الطريق والمسيل لتصحيح القسمة لعلمها أن القسمة لا تصح بدونهما في هذا الموضع بخلاف ما سبق توضيحه أن المعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة وإذا لم يكن له طريقا ولا مسيل ماء لا يحصل معنى المعادلة في المنفعة فلا تصح القسمة كما لو استأجر مهرا صغيرا أو أرضا سبخة للزراعة لم يجز لفوات ما هو المقصود وهو المنفعة.
فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن يدخل الطريق والمسيل وإن لم يذكر الحقوق والمرافق لتصحيح القسمة كما إذا استأجر أرضا دخل الشرب والطريق وإن لم يذكر الحقوق والمرافق لتحصيل المنفعة.

 

ج / 15 ص -15-       قلنا: هناك موضع الشرب والطريق ليس مما تتناوله الإجارة ولكن يتوصل به إلى الانتفاع بالمستأجر والأجير إنما يستوجب الأجرة إذا تمكن المستأجر من الانتفاع ففي إدخال الشرب توفير المنفعة عليهما وأما هنا موضع الطريق والمسيل داخل في القسمة وموجب القسمة اختصاص كل واحد منهما بما هو نصيبه فلو أثبتنا لأحدهما حقا في نصيب الآخر تضرر به الآخر ولا يجوز إلحاق الضرر به بدون رضاه وإنما دليل الرضا اشتراطه الحقوق والمرافق. فلهذا لا يدخل الطريق والمسيل بدون ذكره الحقوق المرافق.
ولو رفعا طريقا بينهما وكان على الطريق ظلة وكان طريق أحدهما على تلك الظلة وهو يستطيع أن يتخذ طريقا آخر فأراد صاحبه أن يمنعه من المرور على ظهر الظلة لم يكن له ذلك لأن أصل الطريق مشترك بينهما وكما أن أسفله ممر لهما فكذلك أعلاه فهو لا يريد بهذا أن يحدث لنفسه حقا في نصيب شريكه وإنما يريد أن يستوفي حقه فلا يمنع من ذلك بخلاف ما تقدم فهناك إنما يريد اتخاذ طريق ومسيل لنفسه في ملك خص به صاحبه وليس له ذلك.
وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: في العلو الذي لا سفل له وفي السفل الذي لا علو له يحسب في القسمة ذراع من السفل بذراعين من العلو وقال أبو يوسف رحمه الله يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف ثم ينظر كم جملة ذرع كل واحد منهما فيطرح من ذلك النصف وقال محمد رحمه الله يقسم ذلك على القيمة قيمة العلو أو قيمة السفل وقيل إن أبا حنيفة رحمه الله أجاب بناء على ما شاهد من عادة أهل الكوفة في اختيار السفل على العلو وأبو يوسف رحمه الله أجاب بناء على ما شاهده من عادة أهل بغداد في التسوية بين العلو والسفل في منفعة السكنى ومحمد شاهد اختلاف العادات في البلدان فقال إنما يقسم على القيمة وقيل بل هو بناء على أصل آخر وهو أن عند محمد رحمه الله وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لصاحب السفل منفعتان منفعة السكنى ومنفعة البناء فإنه لو أراد أن يحفر في سفله سردابا لم يكن لصاحب العلو منعه من ذلك فلصاحب العلو منفعة واحدة وهي منفعه السكنى فإنه لو أراد أن يبني على علوه علوا آخر كان لصاحب السفل منعة من ذلك والمعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة فلهذا جعل بمقابلة ذراع من السفل ذراعين من العلو.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: لصاحب العلو أن يبني على علوه إذا كان ذلك لا يضر بالسفل كما أن لصاحب السفل أن يحفر سردابا في السفل إذا كان لا يضر بصاحب العلو فاستويا في المنفعة فيحصل ذراع من السفل بذراع من العلو وحجته لإثبات هذا الأصل أن صاحب العلو يبني على ملكه كما أن صاحب السفل يتصرف في ملكه واتصال العلو بالسفل كاتصال بيتين متجاورين فلكل واحد منهما أن يتصرف في ملكه على وجه لا يلتحق الضرر لصاحبه وأبو حنيفة رحمه الله يقول صاحب السفل بحفر السرداب يتصرف في الأرض وهي خالص ملكه وصاحب العلو يحمل ما يبنى على حائط السفل أيضا وهو مملوك لصاحب

 

ج / 15 ص -16-       السفل وزيادة البناء تصير بحائط صاحب السفل لا محالة ويتبين ذلك في الثاني إن كان لا يتبين في الحال ولا يكون له أن يفعل ذلك بدون رضاء صاحب السفل ومحمد في هذا الفصل وافق أبا يوسف ولكن في القسمة يقول تعتبر القيمة لأن العلو والسفل بناء والمعادلة في قسمة البناء تتيسر ولأن في بعض البلدان تكون قيمة العلو أكثر من قيمة السفل وهو كذلك بمكة وبمصر وفي بعض البلدان قيمة السفل أكثر من قيمة العلو كما هو بالكوفة قيل في كل موضع تكثر النداوة في الأرض يختار العلو عن السفل وفي كل موضع يشتد البرد ويكثر الريح يختار السفل على العلو وربما يختلف ذلك أيضا باختلاف الأوقات فلا يمكن اعتبار المعادلة إلا بالقيمة فاستحسن القسمة في العلو والسفل باعتبار القيمة ثم تفسير المسألة في فصلين:
أحدهما: أن يكون بينهما سفل علوه لغيرهما وعلو سفله لغيرهما فأراد القسمة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يجعل بمقابلة كل ذراع ذراع.
والثاني: أن يكون المشترك بين الشركاء بيتا لسفله علو وسفل لا علو له بأن كان العلو لغيرهم وعلو لا سفل له فعند أبي حنيفة رحمه الله يجعل بإزاء مائة ذراع من العلو الذي لا سفل له ثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثا من البيت الكامل وبأزاء مائة ذراع من السفل الذي لا علو له ستة وستين ذراعا وثلثي ذراعا من البيت الكامل لأن العلو عنده مثل نصف السفل كما في الفصل الأول.
وعند أبي يوسف رحمه الله يجعل بأزاء خمسين ذراعا من البيت الكامل مائة ذراع من السفل الذي لا علو له ومائة ذراع من العلو الذي لا سفل له لأن السفل والعلو عنده سواء فخمسون ذراعا من البيت الكامل بمنزلة مائة ذراع خمسون منها سفل وخمسون منها علو ومحمد رحمه الله في ذلك كله يعتبر المعادلة بالقيمة وعليه الفتوى.
وإذا كانت الدور بين قوم فأراد أحدهم أن يجمع نصيبه منها في دار واحدة وأتى ذلك بعضهم قسم القاضي كل دار بينهم على حدة ولم يضم بعض انصبائهم إلى بعض إلا أن يصطلحوا على ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الرأي في ذلك إلى القاضي وينبغي أن ينظر في ذلك فإن كانت انصباء أحدهم إذا جمعت في دار كان أعدل للقسمة جمع ذلك لأن المعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة والمالية والمقصود دفع الضرر وإذا قسم كل دار على حدة ربما يتضرر كل واحد منهم لتفرق نصيبه وإذا قسم الكل قسمة واحدة يجتمع نصيب كل واحد منهم في دار وينتفع بذلك والقاضي نصب ناظرا فيمضي قضاءه على وجه يرى النظر فيه كما يمضي قضاءه في المجتهدات على ما يؤدي إليه اجتهاده ولأن الدور في حكم جنس واحد لاتحاد المقصود بها وهو السكنى والجنس الواحد يقسم بين الشركاء قسمة واحدة كالغنم والثياب الهروية إلا أنها تتفاوت منفعة السكنى باختلاف البلدان وباختلاف المحال فمن هذا الوجه نسبه البلدان الأجناس المختلفة فعند تعارض الأدلة الرأي للقاضي فيرجح بعضها بطريق النظر.

 

ج / 15 ص -17-       وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الدور أجناس مختلفة بدليل أنها لا تثبت صداقا بمطلق التسمية حتى إذا تزوج امرأة على دار فهو بمنزلة ما لو تزوجها على ثوب وكذلك لو وكل وكيلا بشراء دار لم يصح التوكيل وبعد إعلام الجنس جهالة الوصف لا نمنع صحة الوكالة فعرفنا أنها أجناس مختلفة والأجناس المختلفة لا تقسم قسمة واحدة إلا باصطلاح الشركاء على ذلك وهذا لأن في الأجناس المختلفة معنى المعاوضة يغلب على معنى التمييز والمعاوضة تعتمد التراضي وفي الجنس الواحد معنى التمييز يغلب وذلك داخل تحت ولاية القاضي ففي الدور معنى المعاوضة يغلب لأن قبل القسمة يتيقن بأن نصيب كل واحد منهم في أمكنة متفرقة فإذا جمعها في مكان واحد يكون ذلك بطريق المعاوضة وإذا قسم كل ذراع على حدة فمعنى التمييز فيه يغلب لأن نصيب كل واحد منهم يكون في أمكنة متفرقة بعد القسمة كما كان قبلها ثم المقصود بالقسمة تمكين كل واحد منهم من الانتفاع بملكه فلا بد من اعتبار المعادلة في المنفعة.
والتفاوت في المنفعة في الدور تفاوت عظيم فإنما يختلف باختلاف البلدان وباختلاف المحال وباختلاف الجيران وبالقرب من الماء وبالبعد عنه وبالقرب من الربط والبعد عنه والظاهر أنه يتعذر عليه اعتبار المعادلة في المنفعة إذا قسمها قسمة واحدة وأن قسمة كل دار على حدة أعدل ثم هي ثلاثة فصول عنده الدور والبيوت والمنازل فالدور سواء كانت متفرقة أو متلازقة لا يقسم عنده قسمة واحدة إلا برضاء الشركاء والبيوت تقسم قسمة واحدة سواء كانت متفرقة أو مجتمعة في مكان واحد لأنها تتفاوت في منفعة السكنى فالبيت اسم لمسقف واحد له دهليز فلا يتفاوت في المنفعة عادة ألا ترى أنها تؤجر بأجر واحد في كل محلة فتقسم قسمة واحدة والمنازل إن كانت مجتمعة في دار واحدة متلازقة بعضها ببعض تقسم قسمة واحدة وإن كانت متفرقة تقسم كل منزلة على حدة سواء كانت في محال أو في دار واحدة بعضها في أقصاها وبعضها في أدناها لأن المنزل فوق البيت ودون الدار فالمنازل تتفاوت في منفعة معنى السكنى ولكن التفاوت فيها دون التفاوت في الدور فهي تشبه البيوت من وجه والدور من وجه فلشبهها بالبيوت قلنا إذا كانت متلازقة تقسم قسمة واحدة لأن التفاوت فيها تقل في مكان واحد ولشبهها بالدور قلنا إذا كانت في أمكنة متفرقة لا تقسم قسمة وهما في الفصول كلها يقولان ينظر القاضي إلى أعدل الوجوه فتمضي القسمة على ذلك.
ولو اختلفوا في قيمة البناء فقال بعضهم يجعل البناء بذرع من الأرض وقال بعضهم يجعلها على الدراهم والصحيح أن القاضي يجعلها على الذرع إذا تيسر عليه ذلك لأن الدراهم ليست من الميراث والثابت لقاضي ولاية قسمة الميراث بينهم فإذا جعل على ذلك الذرع كان ذلك تصرفا في محل ولايته وإذا جعل ذلك على الدراهم كان ذلك تصرفا منه وراء محل ولايته وربما لا يقدر كل أحد على تحصيل الدراهم وأدائها فليس للقاضي أن يكلفه ذلك توضيحه أنه إذا جعل ذلك على الدراهم فالذي وقع البناء في نصيبه الدرهم دين عليه وربما

 

ج / 15 ص -18-       ينوي ذلك عليه وإن كان يخرج فنفس القسمة يتعجل نصيب من وقع البناء في نصيبه ويتأخر نصيب الآخر إلى خروج الدين منه فتنعدم المعادلة بذلك وإذا جعل ذلك على الذرع يتعجل وصول نصيب كل واحد منهم إليه ويتم القسمة ولا حق لبعضهم على بعض فهذا أولى الوجهين وإذا تعذر عليه اعتبار المعادلة على الذرع فله أن يقسم على الدراهم عندنا.
وقال مالك رحمه الله: ليس له ذلك إلا أن يصطلحوا عليه أو تكون الدراهم يسيرة لأن في القسمة على الدراهم محض المعاوضة وهو بيع نصيب أحدهما من البناء بما يوجب له من الدراهم على صاحبه وليس للقاضي ولاية المعاوضة إلا عند تراضي الخصمين عليه إلا أن اليسير من الدراهم ربما يتحقق فيه الحاجة والضرورة فيتعدى إليه حكم ولايته للحاجة وأصحابنا رحمهم الله يقولون هذه الحاجة تتحقق في الكثير كما تتحقق في القليل لأن قيمة نصيب أحدهما من البناء ربما يكون أضعاف جميع قيمة الأرض فتتعذر عليه القسمة بطريق مقابلة قيمة البناء بالذرع من الأرض أو يقع جميع الساحة لأحدهما فلا يتمكن صاحب البيت من الانتفاع بالبناء بدون الأرض وإذا كلف نقل البناء تنقطع المنفعة عنه فلهذا قلنا عند الضرورة يجوز له أن يجعل القسمة في البناء على الدراهم وهذا لأن ولاية القسمة تثبت له فلا يتعدى فيتعدى ولايته إلى ما لا يتأتى له القسمة إلا به كالجد مع موصي الأب يصح منه تسمية الصداق في النكاح وإن كان التصرف في المال إلى الوصي دون الجد وكذلك الأخ ليس له ولاية التصرف في المال ثم له ولاية التسمية في الصداق باعتبار ثبوت الولاية في التزويج.
ولو اختلفوا في الطريق فقال بعضهم يرفع طريقا بيننا وقال بعضهم لا يرفع نظر فيه الحاكم فإن كان يستقيم لكل واحد منهم طريقا يفتحه في نصيبه قسمه بينهم بغير طريق يرفع كما بين عنهم وإن كان لا يستقيم رفع طريقا بينهم لأن المقصود بالقسمة توفير المنفعة على كل واحد منهم ثم موضع الطريق مشترك بينهم كغيره فإذا كان يستقيم لكل واحد منهم طريق يفتحه في نصيبه فالذي يقول لا يرفع طريقا بطلب القسمة في جميع المشترك وذلك ممكن مع اعتبار المعادلة في المنفعة فيجيبه القاضي إلى ما التمس وإذا كان لا يستقيم ذلك ففي قسمة موضع الطريق قطع المنفعة عنهم وذلك ضد ما هو المقصود بالقسمة والقائل لا يرفع طريقا في هذا الموضع متعنت توضيحه أنه لو كان المشترك بينهم موضع الطريق فقط فطلب بعضهم قسمته وفيه ضرر على كل واحد منهم لم يجبه القاضي إلى ذلك وإن كان فيه منفعة للطالب أجابه القاضي إلى ذلك فكذلك إذا كان المشترك موضع الطريق وغيره.
ولو اختلفوا في سعة الطريق وضيقه جعل الطريق بينهم على عرض باب الدار وطوله على أدنى ما يكفيهم لأن باب الدار متفق عليه والمختلف فيه يرد إلى المتفق عليه ثم لا فائدة في جعل الطريق أعرض من باب الدار لأنه ما لم يدخل الحمل من باب الدار لا يحمله في ذلك الطريق وإذا جعل الطريق أضيق من باب الدار يتضرر به الشركاء ومقصود كل واحد

 

ج / 15 ص -19-       منهم أن يحمل إلى مسكنه في ذلك الطريق ما يدخله في باب الدار فلهذا يجعل الطريق بينهم على عرض الدار وطوله.
وإذا وقع الحائط لأحد القسمين وعليه جذوع للآخر ووقعت القسمة على أن يكون هكذا أو لم يذكرا ذلك في القسمة فإنه يترك على حاله لأنه وجد كذلك عند تمام القسمة ويجوز أن يكون ملك الحائط لأحدهما وللآخر عليه حق وضع الجذوع فيترك على حاله إلا أن يشترط قلع الجذوع عنه فحينئذ يجب الوفاء به للحديث الشرط أملك وكذلك لو كان أزج وقع على حائط على هذه الصفة أو درجة وكذلك أسطوانة وقع عليها جذوع وكذلك روشن وقع على صاحب العلو مشرف على نصيب الآخر فأراد صاحب السفل أن يقطع الروشن ليس له ذلك إلا أن يشترط قطعة لأن حق قرار هذه الأشياء تجوز أن تكون مستحقا لإنسان في حائط غيره فإذا تمت القسمة بينهما على هذه الصفة يجب تركها كذلك ألا ترى أنه لو أصاب أحدهما ثبت علو والآخر السفل لم يكن لصاحب السفل أن يهدم العلو؟.
فأما إذا وقعت الساحة لأحدهما وللآخر أطراف جذوع شاخصة فيها فأراد صاحب الساحة قطع تلك الجذوع فإن كانت أطراف الجذوع بحيث يمكن البناء عليها فليس له أن يقطع ذلك لأن هذا لجواز أن يكون قراره مستحقا لإنسان في ساحة غيره وإن كان بحيث لا يمكن البناء عليها فلصاحب الساحة أن يجبره على قطع ذلك أو تفريغ هواء الساحة عنه بما يقدر عليه لأن ذلك لا يجوز أن يكون حقا مستحقا له في ملك الغير إذ هو لا ينتفع به من حيث البناء عليه ولو وقعت شجرة في نصيب أحدهما وأغصانها متدلية إلى نصيب الآخر فقد ذكرني رستم عن محمد رحمه الله أن له أن يجبره على قطع تلك الأغصان وهذا مما لا يستحق إقراره في ملك الغير بسبب من الأسباب وذكرني سماعة عن محمد رحمه الله أنه يترك كذلك لأنه بالقسمة استحق الشجرة بأغصانها فترك الأغصان على ما كانت عليه عند تمام القسمة بمنزلة الأزج والدرجة.
وإذا أصاب رجلا مقصورة من الدار وأصاب من الآخر منزل طريق علو هذا المنزل في هذه المقصورة ولم يذكروا ذلك عند القسمة فلا طريق له في المقصورة لأنه يقدر على أن يجعل طريقه في حقه من غير ضرر والقسمة لتمييز نصيب أحدهما من نصيب الآخر وتمام التمييز إذا لم يبق لأحدهما حق في نصيب الآخر فإذا أمكن ذلك من غير ضرر يجب إمضاء القسمة عليه وإذا أصاب أحدهما قسمة ساحة في القسمة فأراد أن يبني فيها ويرفع بناء وأراد الآخر منعه وقال إنك تسد علي الريح والشمس فله أن يرفع بناء ما بدا له لأن الساحة ملكه والساحة حق خالص له وللإنسان أن يتصرف في ملك نفسه بما يبدوا له وليس للجار أن يمنعه عن ذلك وله أن يتخذ فيها حماما أو تنورا أو مخرجا لأنه يتصرف في خالص ملكه أرأيت لو أراد أن يجعل فيها رحا أو حدادا أو قصارا كان للآخر أن يمنعه من ذلك والحاصل أن من تصرف في خالص ملكه لم يمنع منه في الحكم وإن كان يؤدي إلى إلحاق الضرر بالغير ألا ترى أن من أتجر في حانوته نوع تجارة لم يمنع من ذلك وإن كانت تكسد بسببه

 

ج / 15 ص -20-       تجارة؟ وأن أصحاب الحوانيت يتأذون بغبار سنابك الدواب المارة وأن يتأذى المارة بدخان نيرانهم التي يوقدونها في حوانيتهم ثم ليس للبعض منع البعض من ذلك وللإنسان أن يسقي أرضه وليس لجاره أن يمنعه من ذلك مخافة أن يقل ماء بئره فعرفنا أن المالك مطلق التصرف فيما هو خالص حقه وإن كف عما يؤذي جاره كان أحسن له قال صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل عليه السلام يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" والتحرز عن سوء المجاورة مستحق دينا ولكنه لا يجبر على ذلك في الحكم.
والحيلة للجار أن يتصرف في ملك على وجه يدفع به ضرورة عن نفسه ويحول بينه وبين مقصوده على ما حكي أن رجلا جاء إلى أبي حنيفة رضي الله عنه فقال أن جاري اتخذ مجمدة بجنب حائطي فقال اتخذ أنت أتونا بجنب الحائط ليذيب هو ما يجمع من الجمد وعلى هذا قال في الكتاب لو فتح صاحب البناء في علو بنائه بابا أو كوة فتأذى بذلك صاحب الساحة فليس له أن يمنعه من ذلك لأن اتخاذ الباب والكوة يرفع نقص الحائط ولو رفع جميع البناء لم يكن للآخر أن يمنعه منه فلهذا أولى ولكنه يبنى في ملكه ما يستره إن شاء وليس لصاحب الكوة أن يمنعه عن ذلك وكذلك هذا الحكم في الدارين والجارين.
ولو اتخذ رجل بئرا في ملكه كرياسا أو بالوعة أو بئر ماء فنز منها حائط جاره وطلب تحويل ذلك لم يجبر على تحويله لأن تصرفه في خالص ملكه وإن سقط الحائط من ذلك لم يلزمه ضمانه لأنه غير متعدي في هذا السبب والمسبب إذا كان غير متعدي في تسببه فهو غير ضامن لما تلف به كما لو سقط إنسان في بئره هذا.
وإذا قسم رجلان دارا فأخذ أحدهما حيزا والآخر حيزا فوقع لأحدهما حائط للظاهر منه على آجرتين وأسه على أربع وقد دخل في نصيب صاحبه من ذلك آجرة فقال صاحب الحائط أنا آخذ من نصيبك ما دخل فيه من أس حائطي لم يكن له ذلك وإنما له ما ظهر من الحائط على وجه الأرض لأنه بالقسمة استحق الحائط والحائط اسم للبناء المرتفع من وجه الأرض فأما الآس الذي ليس عليه بناء مرتفع عن وجه الأرض فهو أرض لا حائط والأرض واقع في قسم الآخر فلو استحقه صاحب الحائط إنما يستحقه حريما لحائطه وليس للحائط حريم وإذا قسم الشريكان دارا أو دارين بينهما لم يكن للجار في ذلك شفعة لأن كل واحد منهما شريك لصاحبه والشريك مقدم على الجار ألا ترى أن أحدهما لو باع نصيبه من صاحبه لم يكن للجار فيه الشفعة ثم في دار واحدة معنى التمييز في القسمة تغلب على معنى المعاوضة والشفعة تختص بمعاوضة مال بمال.
وإذا اقتسم الرجلان دارا ورفعا طريقا بينهما ثم أراد قسمة الطريق بعد ذلك فإن كانت قسمته تستقيم بغير ضرر قسمته بينهما وإن كانت لا تستقيم ولا يكون لأحدهما طريق لم أقسمه ثم لأن في القسمة هنا معنى الضرر والمقصود بالقسمة توفير المنفعة على كل واحد منهما لا تفويتها وإذا اصطلح الرجلان في القسمة على أن أخذ أحدهما دارا والآخر منزلا في

 

ج / 15 ص -21-       دار أخرى أو على أن أخذ أحدهما دارا والآخر نصف دار أخرى أو على أن أجر كل واحد منهما سهاما معلومة من دار على حدة أو على أن أخذ أحدهما دارا والآخر عبدا أو ما أشبهه ذلك من الاصطلاح في الأجناس المختلفة فذلك جائز لأن هذه معاوضة تجري بينهما بالتراضي ولا ربا في شيء مما تناوله تصرفه ولو اصطلحا في دار واحدة على أن يأخذ أحدهما الأرض كلها والآخر البناء كله فهو جائز للتراضي فإن الأرض والبناء كل واحد منهما مال متقوم مبادلة نصيب أحدهما من الأرض بنصيب الآخر من البناء صحيح فإن شرط على أن يكون البناء له ينقضه وتكون الأرض للآخر فهو جائز وإن اشترط أن لا يقلع بناءه فهذا فاسد لأن صاحب الأرض لا يتوصل بهذه القسمة إلى الانتفاع بالأرض ولأن هذا في معنى بيع شرط فيه إعارة أو إجارة فإن صاحب البناء لما شرط ترك البناء في أرض الآخر فإن كان بمقابلة هذا الترك شيء من العوض فهو إجارة فاسدة شرطت في بيع وإن لم يكن بمقابلتها شيء من العوض فهو إعارة مشروطة في البيع.
وإذا كانت الدار في طريق ليس بنافذ لها فيه باب فاقتسمها أهلها على أن يفتح كل إنسان منهم في ذلك الزقاق لنفسه فهو جائز وليس لأهل الزقاق منعهم من ذلك لأن كل واحد منهم يفتح الباب برفع بعض الحائط ولو رفعوا جميع الحائط لم يكن لأهل الزقاق منعهم عن ذلك ولأن لكل واحد منهم يفتح الباب برفع بعض الحائط ولو رفعوا جميع الحائط لم يكن لأهل الزقاق منعهم عن ذلك ولأن لكل واحد من الشركاء حق المرور في هذا الطريق إلى أن يتوصل إلى ملكه وكل واحد منهم يفتح الباب يريد أن يستوفي حق نفسه ولا يريد الزيادة على ذلك ولو كانت مقصورة بين ورثة بابها في دار مشتركة ليس لأهل المقصورة فيها إلا طريقهم فاقتسموا المقصورة على أن يفتح كل واحد منهم بابا من نصيبه في الدار العظمى لم يكن لهم ذلك لأن لهم طريقا واحدا في موضع معلوم من عرصة الدار فهم يريدون هذه الزيادة في ذلك بأن يجعلوا جميع صحن الدار ممرا فيكون لأهل الدار منعهم من ذلك ومن أصحابنا من يقول لا يمنعون من فتح الباب لأن ذلك رفع بعض الحائط والحائط خالص حقهم وإنما يمنعون من التطرق في غير الموضع المعروف طريقا لهم في صحن الدار ولكن في ظاهر الجواب قال يمنعون من فتح الأبواب لأنهم إذا تمكنوا من ذلك فربما يدعي كل واحد منهم بعد تقادم الزمان لهم طريقا خاصا في صحن الدار ويستدل على ذلك بالباب المركب وقد يعتمد ذلك بعض القضاة فيفصل الحكم به فلهذا منعوا من فتح الأبواب ولأهل الدار أن يبنوا ما بدا لهم في صحن الدار بعد أن يتركوا لهم طريقا واحدا بقدر عرض باب الدار العظمى لأن ذلك القدر من حقهم متفق فيرد عليه ما وراء ذلك الموضع وما سوى ذلك من صحن الدار فهو ملك خاص لأهل الدار فلهم أن يبنوا فيها ما أحبوا ويفتح أهل المقصورة ما بدا لهم من الأبواب في ذلك الموضع لأنهم بفتح هذه الأبواب لا يبنون لأنفسهم زيادة على مقدار حقهم.

 

ج / 15 ص -22-       وإن كان لأهل هذه المقصورة دارا أخرى إلى جنب هذه المقصورة فوقعت هذه الدار في قسم رجل منهم فأراد أن يفتح بابا في هذا الطريق المرفوع بينهم فليس له ذلك لأنه لا طريق لهذه الدار فيها فساكنها يريد إثبات طريق لنفسه في طريق مشترك الشركة فيها خاصة والطريق الخاص بمنزلة الملك فكما لا يمكن من إحداث طريق لنفسه في ملك الغير فكذلك في الطريق الخاص وإن اشترى الذي أصابته المقصورة هذه الدار فأراد أن يجعل طريقها في مقصورته ثم يمر في ذلك الطريق المشترك فله إذا كان الدار والمقصورة واحدا لأن الكل في حكم منزل واحد.
وإن كان ساكن المقصورة غير ساكن الدار لم يكن له ذلك لأنهما منزلان وكما أنه ليس لساكن الدار أن يتطرق في هذا الطريق من داره فكذلك لا يكون له أن يتطرق فيه من المقصورة لأن لصاحب المقصورة أن يرضى بتطرقه فما هو خالص ملكه وهو المقصورة ولا يعتبر رضاه بذلك في ملك الغير وهو الطريق وفرق بين هذا وبين الشرب فإن من له أرض بجنب نهر شربها من ذلك النهر إذا اشترى بجنب أرضه أرضا أخرى وأراد أن يسقي الأرض الأخرى من هذا النهر بإجراء الماء في أرضه لم يكن له ذلك وفي الطريق له ذلك إذا كان ساكن الدار والمقصورة واحدا لأن هناك يستوفي من الماء فوق حقه فإن حقه في هذا النهر مقدار ما يسقي به أرضه فإذا سقى به أرضين فهو يستوفي أكثر من حقه فيمنع من ذلك وفي الطريق هو الذي يتطرق سواء دخل المقصورة فقط أو يحول من المقصورة إلى الدار فلهذا لا يمنع من ذلك إذا كان ساكن الدار والمقصورة واحدا.
وإذا اقتسم الرجلان دارا فأخذ أحدهما طائفة وفي نصيب الآخر ظلة على الطريق وكنيف شارع فالقسمة في هذا كالبيع وقد بينا في كتاب الشفعة أن كنيف الشارع يدخل في بيع الدار سواء ذكر الحقوق والمرافق أو لم يذكر والظلة عند أبي حنيفة لا يدخل إلا بذكر الحقوق والمرافق وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يدخل إذا كان مفتحها في الدار سواء ذكر الحقوق والمرافق أو لم يذكر فكذلك في القسمة فإن هدم أهل الطريق تلك الظلة لم تنتقض القسمة لأنه إنما استحق البناء بالقسمة أما الأرض من طريق المسلمين وإنما يستحق بالقسمة ما كان مشتركا بينهم قبل القسمة والمشترك البناء دون الأرض ولا يرجع على شريكه بشيء لأنهما كانا يعلمان أن الظلة على الطريق فإن لهم منها نفس البناء لا حق القرار وذلك سالم له.
وإذا اقتسما دارا فلما وقعت الحدود بينهما إذا أحدهما لا طريق له ولا يقدر على طريق فالقسمة مردودة لأنها وقعت على الضرر والمقصود تحصين كل واحد منهما بالانتفاع بملكه لا قطع ملك المنفعة عنه وقد تبين أن في هذه القسمة قطع منفعة الملك عن أحدهما فكانت مردودة وإن كان له حائط يقدر على أن يفتح بابا يمر فيه رجل ولا تمر فيه الحمولة فالقسمة جائزة لتمكنه من الانتفاع بنصيبه بالتطرق إليه من هذا الجانب فالأصل في الطريق

 

ج / 15 ص -23-       مرور الناس فيه فأما مرور الحمولة فيه لا يكون إلا نادرا ويتعذر ذلك لا يمتنع عليه استيفاء ما هو المقصود وإن كانت بحيث لا يمر فيه رجل فليس هذا بطريق ولا تجوز القسمة لما فيها من قطع منفعة الملك عن أحدهما وإن كان اقتسما على أن لا طريق لفلان وهو يعلم أنه لا طريق له فهو جائز بتراضيهما لأنه رضي بذلك لنفسه وإنما لم تصح القسمة لدفع الضرر عنه فإذا رضي بالتزام الضرر سقط اعتبار ذلك الضرر.
وإذا اقتسما دارا على أن يستوفي أحدهما من الآخر دارا له بألف درهم فالقسمة على هذا الشرط باطلة لأن فيها معنى البيع واشتراط هذا في البيع مبطل له لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة وكذلك كل قسمة على شرط هبة أو صدقة فهي فاسدة كالبيع وكذلك كل شراء على شرط قسمته فهو باطل لأن اشتراط القسمة في الشراء كاشتراط الشراء في القسمة وإذا كانت القسمة على أن يزيد شيئا معروفا فهو جائز لأنه لو شرط في البيع زيادة في الثمن مقدار مسمى أو زيادة في المبيع شيئا بعينه جاز ذلك فكذلك في القسمة والله أعلم.

باب قسمة الدور بالدراهم يريدها
 
قال رحمه الله أحدهما: وإذا كانت الدار بين رجلين فاقتسماها على أن يرد أحدهما على الآخر دراهم مسماة فهو جائز لأن في حصة الدراهم المشروطة العقد بيع وقد تراضيا عليه وجواز البيع يعتمد المراضات وقد بينا أن الشريكين عند القسمة يحتاجان إلى ذلك عادة إلا أن القاضي لا يفعله إلا عند الضرورة فأما إذا تراضيا على القسمة فذلك مستقيم منهما ثم كل ما يصلح أن يكون عوضا مستحقا بالبيع يجوز اشتراطه في هذه القسمة عند تراضيهما عليه فالنقود حالة كانت أو مؤجلة والمكيل والموزون معينا أو موصوفا مؤجلا أو حالا يجوز استحقاقه عوضا في البيع فكذلك في القسمة فإن كان لشيء من ذلك حمل ومؤنة فلا بد من بيان مكان الإيفاء فيه عند أبي حنيفة رحمه الله كما في السلم والإجارة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إن بينا للتسليم مكانا جاز ذلك وإن لم يبينا جازت القسمة ويتعين للتسليم موضع الدار وكان ينبغي في القياس أن يتعين موضع العقد كما في السلم عندهما ولكنهما استحسنا فقالا تمام القسمة يكون عند الدار وإنما يجب عند تمام القسمة فيتعين موضع الوجوب فيه للتسليم كما في الإجارة عندهما يتعين موضع الدار لا موضع العقد لأن وجوب الآخر باستيفاء المنفعة وذلك عند الدار يكون وإن كانت الزيادة شيئا من الحيوان بعينه فهو جائز وإن كان بغير عينه لم يجز موصوفا كان أو غير موصوف مؤجلا كان أو حالا لأن الحيوان لا يستحق في الذمة عوضا عما هو مال وإن كان بعينه وشرط أن لا يسلمه إلى شهر فهو فاسد لأنه شرط الأجل في العين وذلك مفسد للبيع لكونه غير منتفع به بل فيه ضرر على المتملك للعين بالعقد من غير منفعة للآخر فيه فكذلك في القسمة. ولو كانت الزيادة ثيابا موصوفة إلى أجل معلوم فهو جائز وإن لم رب له أجلا لم يجز كما في البيع وهذا لأن الثياب تثبت في الذمة سلما ولا تثبت في الذمة قرضا والسلم لا

 

ج / 15 ص -24-       يكون إلا مؤجلا والقرض لا يكون إلا حالا فعرفنا بذلك أنها تثبت في الذمة مؤجلا ثبوتا صحيحا ولا تثبت حالا.
وإذا كان ميراث بين رجلين في دار وميراث في دار أخرى فاصطلحا على أن لأحدهما ما في هذه الدار وللآخر ما في تلك الدار وزاد مع ذلك دراهم مسماة فإن كانا سميا سهاما كم هي سهم من كل دار جاز لأن ما يستحقه كل واحد منهما بالقسمة والبيع معلوم له وإن لم يسميا ذلك لم يجز لجهالة ما يستحقه كل واحد منهما وهذه جهالة تفضي إلى تمكن المنازعة بينهما في الثاني وإن سميا مكان السهام أذرعا مسماة مكسرة جاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ولم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله وأصل الخلاف فيما ذكرنا في البيوع إذا باع ذراعا في عشرة أذرع من هذه الدار فالقسمة نظير البيع في ذلك.
داران بين ثلاثة نفر اقتسموها على أن يأخذ أحدهما إحدى الدارين والثاني الدار الأخرى على أن يرد الذي أخذ الدار الكبرى على الذي لم يأخذ شيئا دراهم مسماة فهو جائز لأنه اشترى نصيب الشريك الثالث بما أعطاه من الدراهم ولو اشترى نصيب الشريكين جميعا بالدراهم جاز فكذا إذا اشترى نصيب أحدهما ثم قاسم الشريك الآخر على قدر ملكها في الدارين وذلك مستقيم أيضا فقد بينا أن الدور تقسم قسمة واحدة بالتراضي وكذلك إن أخذ الدار الكبرى اثنان منهم وأخذ الثالث الدار الصغرى وإذا كانت دارا واحدة بينهم وأخذها اثنان منهم كل واحد منهما طائفة معلومة على أن يرد على الثالث دراهم معلومة فهو جائز لأنهما اشتريا نصيبه بما نفذا له من الدراهم وكذلك إن اشترطوا على أحدهما ثلثي الدراهم لفضل في منزله فذلك جائز لأنه يكون مشتريا ثلثي نصيب الثالث وصاحبه الثلث وكذلك دار بين شريكين اقتسماها نصفين على أن يرد أحدهما على الآخر عبدا بعينه على أن زاده الآخر مائة درهم فهو جائز لأن بعض العبد عوض عن المائة الدراهم وبعضه عوض عما أخذ مالك العبد من نصيب صاحبه بالقسمة من الدار وذلك مستقيم وكذلك لو اقتسماها على أن يأخذ أحدهما البناء وأخذ آخر الخراب على أن يرد صاحب البناء على الآخر دراهم مسماة فذلك جائز لأن بعض ما أخذ من البناء عوض مستحق له بالقسمة وبعضه مبيع له بما نقد من الدراهم كذلك لو أخذ أحدهما السفل والآخر العلو واشترط أحدهما على صاحبه دراهم مسماة لأن السفل مع العلو كالبيتين المتجاورين يجوز بيع كل واحد منهما فكذلك يجوز اشتراط فضل الدراهم على أحدهما في قسمة العلو والسفل شرط ذلك على صاحب العلو أو على صاحب السفل والله أعلم.

باب قسمة الدور بتفضيل بعضها على البعض بغير دراهم
قال رحمه الله: وإذا كانت الدار بين رجلين فاقتسماها فأخذ أحدهما مقدمهما وهو الثلث والآخر أخذ مؤخرها وهو الثلثان جاز ذلك لأن المعتبر في القسمة المعادلة في المالية والمنفعة والظاهر أن ذلك لا يتأتى مع اعتبار المساواة في المساحة ومالية مقدم الدار فوق

 

ج / 15 ص -25-       مالية مؤخرها لكثرة الرغبة في المقدم دون المؤخر وتتفاوت المنفعة بحسب ذلك فالقسمة لا تخلو في العادة عن التفاوت في المساحة ولا يعد ذلك ضررا وإنما الضرر بالتفاوت في المنفعة والمالية ففي ذلك تعتبر المعادلة بينهما فإن كانت الدار بينهما أثلاثا فأخذ صاحب الثلث نصيبه ما بقي من الدار وهو أكثر من حقه فهو جائز بمنزلة البيع لوجود التراضي منهما وقد بينا أن المال الذي لا يجري فيه الربا يعتبر لجواز المبايعة فيه المراضاة فكذلك إن كان الذي وقع في قسم الآخر ليست له غلة فهو جائز لأنه رضي به لغرض له وهو غير متهم في النظر لنفسه فيه ولو اشتراه بمال عظيم جاز شراؤه فكذلك إذا اختار أحدهما أخذه في القسمة بقسمه.
وإذا اقتسما دارا بينهما على أن لكل واحد منهما طائفة من الدار على أن رفعا طريقا بينهما ولأحدهما ثلثه وللآخر ثلثاه فهذا جائز وإن كانت الدار في الأصل بينهما نصفين لأن رقبة الطريق ملك لهما محل للمعاوضة فقد شرط أحدهما لنفسه بعض نصيب صاحبه من الطريق عوضا عن بعض ما سلم إليه من نصيبه في المنزل الذي أخذه صاحبه بالقسمة وذلك جائز وإن أخذهما طائفة منهما يكون قدر الثلث وأخذ الآخر طائفة تكون قدر النصف ورفعا طريقا بينهما يكون مقدار السدس فهو جائز لأنهما نفيا شركتهما في موضع الطريق وقسما ما وراء ذلك على الاخماس فأخذ أحدهما ثلثة أخماسه والآخر خمسه ولو قسما الكل بينهما بهذه الصفة جاز فكذلك إذا اقتسما البعض وبقيا شركتهما في البعض ليكون ذلك طريقا لهما ولو اشترطا أن يكون الطريق بينهما على قدر مساحة ما في أيديهما فهو جائز لأنهما لو قسما الكل على هذه المساحة جاز فكذلك إذا اشترطا أن يتركاه مشتركا للطريق بينهما على قدر هذه المساحة وكذلك إن شرطا أن يكون الطريق لصاحب الأقل ويكون للآخر ممرة فيه فهو جائز لأن عين الطريق مملوك لهما فقد حصل أحدهما نصيبه من عين الطريق لصاحبه عوضا عن بعض ما أخذه من نصيب صاحبه بالقسمة ولكن بقي لنفسه حق الممر في ذلك جائز بالشرط كمن باع طريقا مملوكا له من غيره على أن يكون له حق الممر فإن ذلك جائز بمثله بيع السفل على أن يكون حق القرار العلو له عليه وإن لم يشترطا شيئا من ذلك فالطريق بينهما على قدر ما ورثا لأنهما نفيا شركتهما في قدر الطريق فيبقى في هذا الجزء عين ما كان لهما من الشركة في الكل.
 وإذا كانت دار بين رجلين وبينهما شقص من دار أخرى فاقتسماها على أن يأخذ أحدهما الدار والآخر الشقص ولم يسميا سهام الشقص لم يجز ذلك للجهالة فإن أقرا أنهما كان يعرفان كم هو يوم اقتسما فهو جائز لأن عين التسمية في العقد غير مقصودة بل المقصود إعلام المتعاقدين بها وقد تصادقا على أنه كان معلوما لهما وإن عرف ذلك أحدهما وجهله الآخر فالقسمة مردودة وقد بينا في كتاب الشفعة أنه إذا اشترى نصيب فلان من الدار فإن كان المشتري يعلم كم نصيبه جاز البيع وإن كان البائع يعلم ذلك دون المشتري لم يجز في

 

ج / 15 ص -26-       قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويجوز في قول أبي يوسف الآخر رحمه الله وينبغي أن يكون الجواب في القسمة على ذلك التفصيل أيضا وقيل بل هذا الجواب صحيح في القسمة وهو قولهم جميعا لأن المعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة والمالية ولا يصير ذلك معلوما لكل واحد منهما إلا إذا كان الشقص معلوما لكل واحد منهما فلهذا قلنا إذا جهل أحدهما ذلك فالقسمة مردودة فأما البيع عقد معانية يقصد للاسترباح والمشتري هو الذي يقبض البيع فيشترط أن يكون مقداره معلوما له فأما حق البائع في الثمن معلوم فلتحقيق هذا المعنى يظهر الفرق وإذا اقتسم الرجلان دارا على أن أخذ أحدهما الثلث من مؤخرها بجميع حقه وأخذ الثلثين من مقدمها بحقه فهو جائز وإن كان فيه غبن لأنهما تراضيا عليه والقسمة نظير البيع فلا يمتنع جوازها بسبب الغبن عند تمام التراضي من المتعاقدين عليه وما لم تقع الحدود بينهما والتراضي بعد القسمة فلكل واحد منهما أن يرجع كما في البيع قبل تمام العقد بالإيجاب والقبول لكل واحد منهما أن يرجع فكذلك في القسمة وتمام القسمة بوقوع الحدود بينهما.
وإذا كانت أقرحة الأرض متفرقة بين رجلين فهي كالدور عند أبي حنيفة رحمه الله يقسم كل قراح بينهما على حدة إلا إذا تراضيا على أن يقسما الكل قسمة واحدة وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ينظر القاضي في ذلك فيقسمها بينهم على أعدل الوجهين كما هو مذهبهما في الدور وهذا لأن الأراضي المتفرقة تتفاوت فيما هو المقصود منهما في العلة والصلاحية للرطبة والكرم وغير ذلك بمنزلة تفاوت الدور المتفرقة تتفاوت فيما هو المقصود منها أو أكبر من ذلك فكما أن هناك لتعذر المعادلة في المنفعة قال أبو حنيفة رحمه الله تقسم كل دار على حدة فكذلك الجواب في الأقرحة.
 وإذا كانت القرية ميراثا بين قوم اقتسموها فأصاب أحدهم قراح وغلات في قراح وأصاب الآخر قرحا كرم فهو جائز لأن هذا النوع من القسمة يعتمد الرضا وما أصاب كل واحد منهما غير مال متقوم يجوز بيعه فيجوز استحقاقه بالقسمة أيضا وإذا أصاب بعضهم بستان وكرم وبيوت وكتبوا في القسمة بكل حق هو لها أو لم يكتبوا ذلك فله ما فيها من الشجر والبناء ولا يدخل في ذلك الثمر والزرع وقد بينا هذا في كتاب الشفعة في البيع فهو كذلك في القسمة وإن كتبوا بكل قليل وكثير هو فيها أو منها دخل ذلك في القسمة وفي كتاب المزارعة قال لا يدخل الزرع والثمر بهذا اللفظ ولكن قال هناك بكل قليل وكثير هو فيها ومنها من حقوقها فيما ذكر في آخره يتبين أن المراد إدخال الطريق والشرب دون الزرع والثمر وهناك أطلق بكل قليل وكثير هو فيها أو منها والثمر والزرع من هذه الجملة فعند إطلاق اللفظ تدخل في القسمة ومن جعل المسألة على روايتين فقد بينا وجه الروايتين في كتاب الشفعة.
 وإذا اقتسم نفر بينهم أرضا على أن لا طريق لهم ولا شرب ورضوا بذلك فهو جائز

 

ج / 15 ص -27-       لوجود التراضي منهم على التزام الضرر إلا أنهم قالوا القاضي لا يشتغل بهذه القسمة وإن تراضوا عليه لأن القاضي لا يشتغل بما لا يفيد ولكن إن فعلوا ذلك لم يمنعهم من ذلك كما لو طلبوا من القاضي قسمة الحمام بينهم لا يفعل ذلك وإن فعل بتراضيهم لم يمنعهم من ذلك وإن كانت أرض بين قوم لهم نخل في غير أرضهم فاقتسموا على أن يأخذ اثنان منهم الأرض وأخذ الثالث النخيل بأصولها فهذا جائز لأن النخلة بمنزلة الحائط منها ولو شرط لأحدهم في القسمة حائطا ينصبه جاز فكذلك النخلة وإن شرطوا أن لفلان هذه القطعة وهذه النخلة وهو في غير تلك القطعة وللآخر قطعة وللثالث القطعة التي فيها تلك النخلة فأراد أن يقطع النخلة فليس له ذلك والنخلة لصاحبها بأصلها لما بينا أن النخلة كالحائط وتسمية الحائط في القسمة يستحقه بأصله فكذلك تسمية النخلة وهذا لأنها نخلة ما لم تقطع فأما بعد القطع هو جذع فمن ضرورة استحقاق النخلة استحقاق أصلها وكذلك على هذا لو أقر لإنسان بنخلة استحقها بأصلها وذكر في النوادر في البيع اختلافا بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله قال عند أبي يوسف رحمه الله يستحقها بأصلها وعند محمد رحمه الله لا يستحق بأصلها إلا بالذكر فقيل الجواب في الإقرار كالجواب في البيع على الخلاف فأبو يوسف رحمه الله يسوي بين القسمة والبيع ومحمد رحمه الله يفرق بينهما فنقول في القسمة بعض نصيب أحدهما باعتبار أصله ملكه وأصل ملكه فيها نخلة وإنما تكون نخلة قبل القطع فمن ضرورة استحقاقه البعض بأصله استحقاق جميع النخلة بأصلها وكذلك في الإقرار فهو إخبار بملك النخلة له وإنما تكون نخلة بأصلها فأما البيع إيجاب ملك مبتدأ فلا يستحق به إلا المسمى فيه والنخلة اسم لما ارتفع من الأرض لا الأرض فلا يجوز أن يثبت له الملك ابتداء في شيء من الأرض بتسمية النخلة في البيع فلهذا يشترط فيه ذكر الأصل فإن قطعها فله أن يغرس مكانها ما بدا له لأنه قد استحق له ذلك من الأرض فكما كان له أن يبقى الأولى فيها قبل القطع فكذلك له أن يغرس مكانها أخرى فإن أراد أن يمر إليها فمنعه صاحب الأرض فالقسمة فاسدة لأنها وقعت على الضرر فلا طريق له إلى نخلته وقد بينا أن القسمة متى وقعت على ضرر فهي فاسدة وأن الطريق الخاص لا يدخل إلا بذكر الحقوق والمرافق فإن كانوا ذكروا في القسمة بكل حق هو لها فالقسمة جائزة وله الطريق إلى نخلته لأنه نص على شرط الحقوق والمرافق ولا يقصد بهذا اللفظ إلا شرط الطريق فكأنه شرط الطريق إلى نخلته أيضا.
وإذا كانت قرية وأرض ورحا ماء بين نفر فاقتسموها فأصاب رجل الرحاء وأصاب الآخر أقرحة معلومة وأصاب الآخر بيوت وأقرحة فاقتسموها بكل حق هو لها فأراد صاحب النهر أن يمر إلى نهره في أرض قسمة فمنعه ذلك ليس له أن يمنعه وله الطريق إلى نهره إذا كان نهره في وسط أرض هذا ولا يخلص إليه إلا بذلك لأنه لا يتمكن من الانتفاع بنهره ما لم يخلص إليه ولا طريق له إلى ذلك إلا في أرض قسيمه وقد اشترط في القسمة

 

ج / 15 ص -28-       كل حق هو لها فعرفنا أنه إنما شرط ذلك لأجل هذا الطريق والطريق بالشرط يصير مستحقا له في نصيب قسيمه.
وإن كان النهر منعرجا مع حد الأرض له طريق إليه في غير الأرض لم يكن له أن يمر في أرض هذا لأن القسمة لتمييز ملك أحدهما من ملك الآخر وتمام ذلك بأن لا يبقى لأحدهما حق في نصيب الآخر وإتمام القسمة في هذا الفصل ممكن بهذه الصفة فلا يستحق الطريق بذكر الحقوق والمرافق وفي الأول لا يمكن إتمام القسمة بينهما بهذه الصفة فيجعل الطريق مستحقا له بذكر الحقوق وقد تقدم بيان هذا الفرق في البيت والصفة وإن كان في وسط أرض هذا ولم يشترطوا المرافق والطريق ولا كل حق هو لها ولا كل قليل وكثير هو فيها أو منها فلا طريق له في أرض هذا لما بينا أنه لا يستحق في نصيب قسيمه حقا من غير لفظ يدل عليه في القسمة والقسمة فاسدة لأنها وقعت على ضرر إلا أن يقدر على أن يمر في بطن النهر بأن انكشف الماء عن موضع من النهر فإن قدر على هذا فالقسمة جائزة وطريقه في بطن النهر ليمكنه من الانتفاع بنصيبه بهذه الصفة وطريقه لا في بطن النهر زيادة منفعة له ولم يشترط ذلك لنفسه فلا يستحقه ولا تبطل القسمة لأجله مع تمكنه من الانتفاع بنصيبه لأن حرمانه هذه الزيادة بتركه النظر لنفسه عند القسمة.
 وإن كان للنهر مسناة من جانبيه يكون طريقه عليها فهو جائز وطريقه عليها دون أرض صاحبه وإن ذكر الحقوق في القسمة لتمكنه من الانتفاع بالنهر بالتطرق على مسناته وإن لم يذكروا المسناة في القسمة فاختلف صاحب النهر والأرض فيها فهي لصاحب النهر لملتقى طينه وطريقه في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقال أبو حنيفة رحمه الله هو لصاحب الأرض وهذا بناء على مسألة كتاب الشرب أن عند أبي حنيفة رحمه الله لا حريم للنهر وعندهما للنهر حريم من جانبيه مثل عرض بطن النهر فإذا كان عندهما للنهر حريم كان اشتراط النهر لأحدهما في القسمة اشتراطا لحريمه له فهو أولى به وعند أبي حنيفة رحمه الله لا حريم للنهر وقد جعلا في القسمة النهر حدا لملك صاحبه والمسناة من جنس الأرض يصلح لما يصلح له الأرض من الغرس والزراعة ولا يصلح لما يصلح له من إجراء الماء فيه فيكون صاحب الأرض أولى به وإن لم يكن للنهر طريق إلا في أرض لقسيمه واشترطوا عليه أن لا طريق له في هذه الأرض فهو جائز ولا طريق له إذا علم يومئذ أنه لا طريق له لأن فساد القسمة لدفع الضرر عنه وقد رضي هو بالتزام الضرر والشرط أملك وكذلك النخلة والشجرة نصبت إحداهما في أرض الآخر واشترطا أن لا طريق له في أرض صاحبه فهو والنهر سواء ولو كان نهر يصب في أجمه كان لصاحبه ذلك المصب على حاله لأنه محتاج إليه مستعجل له وقد وقعت القسمة على هذه الصفة فيترك على ذلك لما بينا في جذوع لأحدهما على حائط الآخر فالمصب يجوز أن يكون مستحقا لصاحب النهر في ملك الغير كالجذوع.
وإذا كان نهر لرجل يمر في ملك رجل آخر فاختلفا في مسناة على النهر فهي لرب

 

ج / 15 ص -29-       الأرض في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما المسناة لصاحب النهر وهذا بناء على مسألة حريم النهر وعلى سبيل الابتداء هما يقولان لصاحب النهر في المسناة يد من حيث الاستعمال فأنه بالمسناة من الجانبين يجري ماؤه في النهر مستويا والاستعمال يد وعند المنازعة القول قول ذي اليد ولأبي حنيفة أن الظاهر يشهد لرب الأرض لأن المسناة من جنس الأرض يصلح لما يصلح له الأرض وملك الآخر في النهر وهو العمق الذي يجري فيه الماء وما وراء ذلك يكون لصاحب الأرض باعتبار الظاهر حيث يثبت للآخر استحقاقه بالحجة إلا أنه ليس له أن يهدمها فإن ذلك يضر بالنهر لأن الماء يفيض عدم المسناة فهو مملوك لصاحب الأرض ولصاحب النهر فيه حق استمساك الماء به فلا يهدمها لحقه كحائط لإنسان عليه جذوع لآخر ليس لصاحب النهر أن يهدمه ولكن لصاحب الأرض أن يغرس على المسناة ما بدا له لأنه يتصرف في ملكه وليس فيه إبطال حق صاحب النهر فهو بمنزلة حائط سفله لرجل وعلوه لآخر ولصاحب العلو أن يحدث على علوه ما بدا له ما لم يضر بالسفل.
وإذا كانت القرية والأرض بين قوم اقتسموا الأرض مساحة على أن من أصابه شجر أو بيوت في أرضه فهي عليه بقيمتها دراهم فهو جائز وهذا استحسان بمنزلة رجلين يقتسمان دارا على أن لكل واحد منهما ما أصابه من البناء بالقيمة فهو جائز وإن لم يسميا ذلك استحسانا وقد بيناه قال ألا ترى أنه لو كانت دار بين رجلين فيها ساحة وبناء لهما ولآخر فاقتسماها على أن أخذ أحدهما الساحة وأخذ الآخر موضع البناء على أن البناء بينهم على حاله ثم أراد الذي أصابه الساحة أن يأخذ نصيبه من البناء لم يكن له ذلك لأن فيه ضررا على صاحبه ولكن له قيمة حقه من ذلك أجبره عليه فإذا كنت أجبره على أخذ القيمة بغير شرط فهي إذا كان بشرط أجوز وإن لم يسميا ذلك ومعنى هذا أن البناء وصف للساحة وتبع لها فإذا استويا في ملك البيع وتفرد أحدهما بملك الأصل كان لصاحب الأصل أن يتملك على شريكه من الوصف بالقيمة ألا ترى أن صبغ الغير لو اتصل بثوب الغير كان لصاحب الثوب أن يتملك الصبغ على صاحبه بالقيمة باعتبار أنه وصف لملكه وهذا بخلاف ما إذا كان البناء كله لإنسان في ساحة الغير لأن هناك صاحب البناء يتمكن من رفع بنائه من غير إضرار بصاحب الساحة فلا يكون لصاحب الساحة حق تملك البناء عليه بغير رضاه وأما إذا كان البناء مشتركا فهو لا يتمكن من رفع نصيبه من البناء بدون الإضرار بصاحب الساحة لأنه ما لم يرفع جميع البناء لا يمكن قسمته بينهما فلهذا كان لصاحب الأصل أن يرفع الضرر عن نفسه ويتملك نصيبه عليه بضمان القيمة.
توضيحه أن البناء تبع من وجه حتى يدخل في بيع الأصل من غير ذكر كالصبغ في الثوب وهو أصل من وجه حتى يجوز بيعه على الانفراد فيوفر حظه على الشبهين فلشبهه بما هو أصل لا يكون لصاحب الأرض أن يتملك على صاحب البناء جميع البناء بغير رضاه ولشبهه بالبيع يكون له عليه أن يتملك نصيبه من البناء إذا كان مشتركا بينهما وإن اشترطوا

 

ج / 15 ص -30-       ذلك بدنانير فالدنانير كالدراهم في أنها لا تستحق إلا ثمنا في الذمة وكذلك إن اشترطوا مكيلا أو موزونا موصوفا في الذمة فذلك ثمن بمقابلة العين والبناء عين فاشتراط المكيل والموزون في الذمة بمقابلة البناء بمنزلة اشتراط الثمن فهو كاشتراط الدراهم والدنانير وإن شرطوا شيئا من ذلك بعينه أو من غير ذلك من العروض والحيوان فذلك باطل لأنه مبيع يرد عليه العقد مقصودا فجهالته عند العقد تكون مبطلة للعقد وهذا لأن الثمن معقود به ألا ترى أن قيامه في ملك المشتري عند العقد ليس بشرط لصحة العقد فكذلك ترك تسمية المقدار فيه عند ابتداء القسمة لا يمنع جواز القسمة إذا كان معلوم المقدار عند تمام القسمة فأما العين يكون معقودا عليه ويشترط وجوده في ملك العاقد وقدرته على تسليمه عند العقد فكذلك يشترط أن يكون معلوما بالتسمية عند العقد أو بالإشارة إلى عينه وهذا لأنه إذا لم يكن معلوما فهو يكون مشتريا للعين بقيمته وذلك لا يجوز وفي الثمن هنا يقتسمان المشترك بعضه بالمساحة وبعضه بالقيمة وذلك جائز والفضة والذهب التبر والأواني المصوغة في هذا بمنزلة المكيل والموزون بعينه وهذا دليل على أنه يتعين التبر وأنه يستحق مبيعا وقد تقدم الكلام فيه في كتاب الشركة والصرف.
ولو أقامت الورثة البينة على المواريث وسألوا القاضي قسمته وعلى الميت دين وصاحب الدين غائب لم يقسم شيئا من أجناس التركة لأن الدين مقدم على الميراث والقسمة ليتوصل كل واحد من الشركاء إلى الانتفاع بنفسه وذلك للورثة بعد قضاء الدين قال الله تعالى
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النساء: من الآية11} فلا يشتغل القاضي بالقسمة قبل قضاء الدين كما لا يشتغل به في حياة المورث فإن كان الدين أقل من التركة فسألوه أن يوقف منها قدر الدين ويقسم الباقي فعل ذلك استحسانا وفي القياس لا يفعل لأن الدين شاغل لكل جزء من أجزاء التركة حتى لو هلك جميع التركة إلا مقدار الدين كان ذلك لصاحب الدين وهذا القياس قول أبي حنيفة الأول ولكنه استحسن وقال قل ما تخلو التركة عن دين يسير ويقبح أن يوقف عشرة آلاف درهم بدين عشرة دراهم فالأحسن أن ينظر الفريقين جميعا فيقف من التركة قدر الدين لحق الغرماء ويقسم ما زاد على ذلك بين الورثة مراعاة لحقهم وفيه نظر للميت أيضا من حيث إن وارثه يقوم بحفظ ما يصيبه من ذلك ويكون ذلك مضمونا عليه ما لم يصل إلى صاحب الدين حقه ولا يأخذ كفيلا بشيء من ذلك أرأيت لو لم يجد الوارث من يكفل عنه أو لم يجد الغريم من يكفل عنه أيسع القاضي إمساك حقه وهو يعرف أنه حقه وإنما يطلب الكفيل بشيء لم يلحقه بعد ولكنه يخاف ذلك وعسى لا يلحقه شيء وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وفي الجامع الصغير قال هذا شيء احتاطه القضاة وهو جور أي مائل عن طريق القصد فقد بينا المسألة في كتاب الدعوى.
وإن لم يعلم القاضي بالدين سألهم هل هي دين أم لا فإن قالوا لا فالقول قولهم ويقسم المال بينهم لتمسكهم بالأصل وهو فراغ ذمة الميت عن الدين ولأن المال في أيديهم

 

ج / 15 ص -31-       فقد زعموا أنه خالص حقهم فيقبل فيه قولهم ما لم يحضر خصم ينازعهم فإن ظهر دين بعد ذلك نقض القسمة بينهم لأنه لو كان الدين معلوما لم يشتغل بالقسمة فكذلك إذا ظهر بعد القسمة لأنه تبين أن القسمة كانت قبل أوانها فإن أوان القسمة بعد قضاء الدين وكذلك لو قسم قبل أن يسألهم عن الدين إلا أن يقضوا الدين الذي ظهر قبل أن تنقض القسمة فحينئذ لا ينقضها لارتفاع الموجب لنقضها كما لا ينقض سائر تصرفات الوارث إذا قضى الدين من موضع آخر وكذلك لو لحق وارث آخر لم يعرفه الشهود ولم يشهدوا عليه لأن القسمة تنتقض في كلها لأنه تبين أنها وقعت بغير محضر من بعض الشركاء ولو لم تنقض القسمة تضرر به هذا الوارث لأنه يحتاج إلى أن يستوفي مما وصل إلى كل واحد منهم مقدار نصيبه فيتفرق نصيبه في مواضع فلهذا تنتقض القسمة ويستقبل بينهم.
وإن أقر أحدهم لرجل بدين وجحد ذلك بعضهم قسمت التركة بينهم على المواريث لأن الدين المانع من ذلك لا يظهر في حق الجاحدين ثم يؤمر المقر بقضاء الدين من نصيبه إذا كان في نصيبه وفاء بذلك عندنا وعند الشافعي رحمه الله يقضي من نصيبه بقدر حصته وقد بينا المسألة في الإقرار ولو قسم القاضي التركة بينهم ثم أقام رجل البينة أن الميت أوصى له بألف درهم وهي تخرج من ثلثه فالقسمة تبطل لأن الوصية بالمال المرسل إذا كان يخرج من الثلث يستحق سابقا على الميراث كالدين فظهور هذه الوصية بعد القسمة كظهور الدين فإن غرم الوارث هذه الألف من مالهم مضت القسمة لوصول حق الموصى له بكماله إليه كما لو قضوا الدين وكذلك لو قضى ذلك واحد منهم على أن لا يرجع عليهم بشيء وهو سواء في الدين والوصية وإن أراد أن يرجع عليهم لم تجز القسمة لأن قيام حقه في التركة كقيام حق صاحب الدين والموصى له قبل أن يقضيه في المنع من القسمة إلا أن يقضوه بالحصص فإن فعلوا ذلك قبل نقض القسمة فالقسمة مافية ولو كان صاحب الوصية أقام البينة على أنه أوصى له بالثلث أبطلت القسمة لأن الموصي له بالثلث شريك الورثة في التركة حتى تزداد حصته بزيادة التركة وتنقص بنقصان التركة فثبوت وصيته بالبينة كظهور وارث آخر لم يكن معلوما وقت القسمة فتنتقض القسمة لحقه.
وإذا كانت القرية وأرضها بين رجلين بالشراء فمات أحد وترك نصيبه ميراثا فأقام ورثته البينة على الميراث وعلى الأصل وشريك أبيهم غائب لم يقسم حتى يحضر الغائب لأن حضور ورثة الميت لو كان حيا وقد بينا في الشركة في المشتراة أن غيبة بعض الشركاء يمنع القاضي من القسمة وإن قامت البينة على الشراء فهذا مثله ولو حضر الغائب وغاب بعض الورثة قسمتها بينهم لأن من حضر من الورثة قائم مقام الميت وحضوره كحضور الميت لو كان حيا ولأن بعض الورثة في التركة خصم عن البعض وحضور بعضهم كحضور جماعة أما وارث الميت لا يكون خصما عن شريكه المشتري معه فلهذا لا يشتغل بالقسمة عند غيبة الشريك.

 

ج / 15 ص -32-       ولو كان الأصل بين رجلين ميراثا من أبيهما فمات أحدهما وترك نصيبه ميراثا بين ورثته فحضروا وغاب عنهم وأقاموا البينة على أصول ميراث الجد قسمتها بينهم ويعزل نصيب عمهم وكذلك لو كان عمهم حاضرا وغاب بعض بني أخيه لأن الأصل ميراث هنا وفي الميراث بعض الورثة يكون خصما عن البعض فيجعل حضور بعضهم كحضور جماعتهم للقسمة عند إقامة البينة ويعزل نصيب كل غائب من ذلك كما لو كانت الشركة بالميراث بينهم من رجل واحد.
 وإذا اقتسم القوم القرية وهي ميراث بينهم بغير قضاء قاض وفيهم صغير ليس له وصي أو غائب ليس له وكيل لم تجز القسمة لأنه لا ولاية لهم على الغائب والصغير والظاهر أن نظرهم لأنفسهم في هذه القسمة فوق نظرهم للغائب والصغير بخلاف القاضي إذا قسم بينهم فله ولاية النظر على الصبي والغائب والظاهر أنه ينظر له شفقة لحق الدين بعجزه عن النظر لنفسه وكذلك لو اقتسموها بأمر صاحب الشرط أو عامل غير القاضي كالعامل على الرستاق أو الطسوج على الخراج أو على المعونة لأنه لا ولاية لهؤلاء على الغائب والصغير فوجود أمرهم كعدمه وكذلك لو رضوا بحكم بعض الفقهاء فسمع من بينهم على الأصل والميراث ثم قسمها بينهم بالعدل وفيهم صغير لا وصي له أو غائب لا وكيل له لم تجز لأن الحكم لا ولاية له على الغائب والصبي فإنه صار حكما بتراضي الخصوم فيقتصر ولايته على من وجد منه الرضا بحكمه فإن أجاز الغائب أو كبر الصبي فأجاز فهو جائز لأن هذا العقد مجيزا حال وقوعه ألا ترى أن القاضي لو أجاز جاز وهو نظير ما لو باع إنسان مال الصبي فكبر الصبي وأجاز ذلك وإن مات الغائب أو الصغير فأجاز وارثه لم يجز في القياس وهو قول محمد رحمه الله لأن الملك حادث للورثة فلا تعمل إجازة الوارث كما لو باع إنسان ماله وأجاز وارثه بعد موته البيع لم يجز ذلك لهذا المعنى وفي الاستحسان يجوز وهو قولهما لأن الوارث يخلف المورث فأجازته بعد موته كإجازة المورث في حياته وحرف الاستحسان وبه يتضح الفرق بين هذا وبين سائر التصرفات أن الحاجة إلى القسمة قائمة بعد موت المورث كما كان في حياته فلو نقضت تلك القسمة احتيج إلى إعادتها في الحال بتلك الصفة وإنما تكون إعادتها برضى الوارث فلا فائدة في نقضها مع وجود الإجازة منه لتعاد برضاه بخلاف البيع فإنا لو نقضنا ذلك البيع عند الموت لا تقع الحاجة إلى إعادته فالبيع لا يكون مستحقا في كل عين لا محالة فلهذا لا يعمل إجازة الوارث فيه بعد تعين جهة البطلان فيه بموت المورث والله أعلم.

باب قسمة الحيوان والعروض
قال رحمه الله: وإذا كانت الغنم بين قوم ميراثا أو شراء فأراد بعضهم قسمتها وكره ذلك بعضهم وقامت البينة على الأصل فإن القاضي يقسمها بينهم لأن اعتبار المعادلة في المنفعة والمالية عند اتحاد جنس الحيوان ممكن للتقارب في المقصود فيغلب معنى التمييز في هذه

 

ج / 15 ص -33-       القسمة على معنى المعاوضة وبمعنى التمييز يثبت للقاضي ولاية إجبار بعض الشركاء عليه وكذلك كل صنف من الحيوان أو غيره من الثياب أو ما يكال أو يوزن فعند اتحاد الجنس يجبر القاضي على القسمة عند طلب بعض الشركاء إلا في الرقيق فإن أبا حنيفة رحمه الله يقول لا يقسم الرقيق بينهم إذا كره ذلك بعضهم وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يقسم ذلك بينهم بطلب بعضهم لأن الرقيق جنس واحد إذا كانوا ذكورا أو إناثا ومراعاة المعادلة في المنفعة ممكن لتقارب المقصود فيقسمها بينهم عند طلب بعضهم كما في سائر الحيوانات ألا ترى أن الرقيق كسائر الحيوانات في سائر العقود من حيث أنها تثبت في الذمة مهرا ولا تثبت سلما فكذلك في القسمة يجعل الرقيق كسائر الحيوانات والدليل عليه أن الرقيق يقسم في الغنيمة كسائر الأموال فكذلك في القسمة بين الشركاء وأبو حنيفة رحمه الله يقول التفاوت في الرقيق أظهر منه في الأجناس المختلفة فإن الأجناس المختلفة قد تتفاوت في المالية والرقيق يتفاوت تفاوتا فاحشا ثم قسمة الجبر لا تجري في الأجناس المختلفة فكذلك في الرقيق وهذا لأن المعتبر المعادلة في المالية والمنفعة وذلك يتفاوت في الآدمي باعتبار معاني باطلة لا يوقف عليها حقيقة كالدهن والكتابة وقد يرى الإنسان من نفسه ما ليس فيه حقيقة أو أكثر مما هو فيه فيتعذر اعتبار المعادلة في المالية وبترجح معنى المعاوضة في هذه القسمة على معنى التمييز فلا يجوز إلا بالتراضي.
والدليل على الفرق بين الرقيق وسائر الحيوانات أن الذكور والإناث في سائر الحيوانات جنس واحد وفي الرقيق هما جنسان حتى إذا اشترى شخصا على أنه عبد فإذا هي جارية لم يجز الشراء بخلاف سائر الحيوانات وما كان ذلك إلا باعتبار معنى التفاوت وهذا بخلاف قسمة الغنيمة فإنها تجري في الأجناس المختلفة وكان المعنى فيه أن حق الغانمين في معنى المالية دون العين حتى كان للإمام بيع المغانم وقسمة الثمن فإنما يعتبر اتصال مقدار من المالية إلى كل واحد منهم فأما في الشركة الملك حق الشركاء في العين والمالية فللإمام حق التمييز بالقسمة على طريق المعادلة وليس له ولاية المعاوضة فإذا كان يتعذر اعتبار المعادلة هنا بطريق التمييز لا يثبت للقاضي ولاية الإجبار على القسمة إلا أن يكون مع الرقيق شيء آخر من غنم أو ثياب أو متاع فحينئذ يقسم ذلك كله وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول تأويل هذه المسألة أنه يقسم ذلك برضاء الشركاء فأما مع كراهة بعضهم القاضي لا يقسم لأنه إذا كان عند اتحاد الجنس في الرقيق لا يقسم قسمة الجبر عند أبي حنيفة رحمه الله فعند اختلاف الجنس أولى والأظهر أن قسمة الجبر هنا تجري عند أبي حنيفة رحمه الله باعتبار أن الجنس الآخر الذي هو مع الرقيق يجعل أصلا في القسمة وحكم القسمة جبرا يثبت فيه فيثبت في الرقيق أيضا تبعا وقد يثبت حكم العقد في الشيء تبعا وإن كان لا يجوز إثباته فيه مقصودا كالشرب والطريق في البيع والمنقولات في الوقت وكأنه استحسن ذلك لأنه قل ما تخلو تركة يحتاج فيها إلى قسمة القاضي عن الرقيق وإذا كان مع الرقيق شيء آخر فباعتبار

 

ج / 15 ص -34-       المعادلة في المالية يتيسر بخلاف ما إذا كان الكل رقيقا فعند مقابلة الرقيق بالرقيق يعظم الغبن والتفاوت وعند مقابلة الرقيق بمال آخر يقل التفاوت.
وإن كان الذي بين الشركاء ثوب زطي وثوب هروي وبساط ووسادة لم يقسمه إلا برضاهم لأن في الأجناس المختلفة القسمة تكون بطريق المعاوضة فإن كل واحد من الشريكين يتملك على شريكه نصيبه من الجنس الذي يأخذ عوضا عما يملكه من نصيب نفسه من الجنس الآخر وفي المعاوضات لا بد من التراضي فإن كان في الميراث بينهم رقيق وثياب وغنم ودور وضياع فاقتسموها بينهم وأخذ كل واحد منهم صنفا جاز ذلك لوجود التراضي منهم على إنشاء المعاوضة وإن رفعوا إلى القاضي قسم كل صنف بينهم على حدة ولا يضيف بعضها إلى بعض لأن للقاضي ولاية التمييز بالقسمة وإنما يغلب معنى التمييز إذا قسم كل واحد من صنف على حدة ولأن القاضي يعتبر المعادلة في كل ما يتهيأ له اعتباره وقسمة كل صنف على حدة أقرب إلى المعادلة فأما اتفاقهم على القسمة يعتمد التراضي دون المعادلة وإذا تمت بتراضيهم بعد ذلك كيف وقعت القسمة.
وإذا كانت الغنم بين رجلين فقسماها نصفين ثم أقرعا فأصاب هذا طائفة وهذا طائفة ثم ندم أحدهما وأراد الرجوع فليس له ذلك لأن القسمة قد تمت بخروج السهام وكذلك لو رضيا برجل قسمها ولم يألوا أن يعدل في ذلك ثم أقرع بينهما فهو جائز عليهما لأن فعله بتراضيهما كفعلهما وإن تساهموا عليها قبل أن يقسموها فأيهم خرج سهمه عدوا له الأول فالأول فهذا يجوز لأنه مجهول لا يعرف ما يصيب كل واحد منهم بالقسمة وفي القسمة معنى البيع فالجهالة التي تفضي إلى المنازعة تفسدها كما تفسد البيع.
وإن كان في الميراث إبل وبقر وغنم فجعلوا الإبل قسما والغنم قسما والبقر قسما ثم تساهموا عليها وأقرعوا على أن من أصابه الإبل رد كذا درهما على صاحبيه نصفين فهو جائز لأن القسمة لا تتم بينهم إلا بخروج القرعة وعند ذلك من وجب عليه الدراهم ومن وجب له معلوم بخلاف الأول فهناك عند خروج القرعة ما يأخذه كل واحد ممن خرجت القرعة باسمه مجهول فيما يتفاوت فإن ندم أحدهم بعد ما وقعت السهام لم يستطع نقض ذلك لأن القسمة تمت بالتراضي فإن رجع عن ذلك قبل أن يقع السهام فله ذلك لأن القسمة لم تتم بعد ونفوذ هذه القسمة باعتبار المراضات فيعمل الرجوع من كل واحد منهم قبل تمامها كما في البيع يصح الرجوع بعد الإيجاب قبل القبول وكذلك إن وقع سهم وبقي سهمان فرجع عن ذلك جاز رجوعه وإن وقعت السهام كلها إلا سهم واحد لم يكن لبعضهم أن يرجع بعد ذلك لأن القسمة قد تمت فبخروج سائر السهام يتعين ما يصيب السهم الباقي خرج أو لم يخرج.
وإن كان الثوب بين رجلين فأراد أحدهما قسمته لم يقسم لأن في قسمته ضررا فإنه يحتاج إلى قطع الثوب بينهما وفي قطعه إتلاف جزء منه فلا يفعله القاضي مع كراهة بعض الشركاء فإن رضيا بذلك جميعا قسمه بينهما لوجود الرضا منهما بالتزام هذا الضرر وقد قال

 

ج / 15 ص -35-       بعض مشايخنا القاضي لا يفعل ذلك وإن تراضيا عليه ولكن إن اقتسما فيما بينهما لم يمنعهما من ذلك لأن في هذه القسمة إتلاف جزء والقاضي بقضائه يحصل ولا يتلف وقد تقدم نظيره فيما لا يحتمل القسمة كالحمام وغيره فإن اقتسماه فشقاه طولا أو عوضا بتراض منهما فهو جائز وليس لواحد منهما أن يرجع بعد تمام القسمة.
 وإن كانت الثياب بين قوم إن اقتسموها لم يصب كل واحد منهم ثوب تام فإن القاضي لا يقسمها بينهم لأنها تحتاج إلى القطع وفيه إتلاف جزء وإن تراضوا بينهم على شيء جاز ذلك ولو كانت ثلاثة أثواب بين رجلين فأراد أحدهما قسمتها وأبى الآخر فإني أنظر في ذلك إن كانت قسمتها تستقيم من غير قطع بأن تكون قيمة ثوبين مثل قيمة الثالث فإن القاضي يقسمها بينهما فيعطي أحدهما ثوبين والآخر ثوبا وإن كان لا يستقيم لم أقسمها بينهم إلا أن تراضوا فيما بينهم على شيء هكذا قال في الكتاب والأصح أن يقال إن استوت القيمة وكان نصيب كل واحد منهما ثوب ونصف فإنه يقسم الثوبين بينهما ويدع الثالث مشتركا وكذلك إن استقام أن يجعل أحد القسمين ثوبا وثلثي الآخر والقسم الآخر ثوبا وثلث الآخر أو أحد القسمين ثوبا وربعا والآخر ثوبا وثلاثة أرباع فإنه يقسم بينهم ويترك الثوب الثالث مشتركا لأنه تيسير عليه التمييز في بعض المشترك ولو تيسر ذلك في الكل كان يقسم الكل عند طلب بعض الشركاء فكذلك إذا تيسر ذلك في البعض والله أعلم بالصواب.

باب الخيار في القسمة
قال رحمه الله: وإذا اقتسما الشريكان عقارا أو حيوانا أو متاعا ولم ير أحدهما قسمه الذي وقع له ثم رآه فهو بالخيار إن شاء رد القسمة وإن شاء أمضاها واعلم بأن هذه المسائل في قسمة يتفقان عليها دون ما يفعله القاضي فله ولاية إجبار الشركاء عند طلب بعضهم فلا معنى لإثبات خيار الرؤية فأما فيما لا يتفقان عليه القسمة تعتمد التراضي كالبيع فكما أن في البيع الرضا لا يتم إلا برؤية العين الذي يدخل في ملكه فكذلك في القسمة والمكيل والموزون والذهب التبر وأوان الذهب والفضة والجواهر في ذلك كله سواء وإذا كانت ألفا درهم بين رجلين كل ألف في كيس فاقتسما على أن أخذ أحدهما كيسا والآخر أخذ الكيس الآخر وقد رأى أحدهما المال كله ولم يره الآخر فالقسمة جائزة على الذي رآه وعلى الذي لم يره ولا خيار لواحد منهما في ذلك على قياس البيع فإن عدم الرؤية في الثمن لا يثبت الخيار للبائع فكذلك في القسمة والمعنى أن الدراهم والدنانير أثمان محضة ولا مقصود في عينها إنما المقصود الثمنية وبمعرفة المقدار يصير المقصود معلوما على وجه لا يتفاوت ضم الرضا به قبل الرؤية بخلاف سائر الأعيان إلا أن يكون قسم الذي لم ير المال شرهما فيكون له الخيار لأنه إنما رضي بقسمه على أن يكون في الصفة مثل ما أخذه صاحبه فإذا كان دون ذلك لم يتم رضاه فيخير في ذلك كما لو رأى عند الشراء جزءا من المكيل أو الموزون ثم كان ما بقي شرا مما رأى فإنه يثبت له الخيار.

 

ج / 15 ص -36-       فإذا اقتسم الرجلان دارا وقد رأى كل واحد منهما ظاهر الدار وظاهر المنزل الذي أصابه ولم يرجو فيه فلا خيار لهما إلا على قول زفر رحمه الله وقد بينا المسألة في البيوع أن برؤية الظاهر من حيطان الدار المشتراة يسقط خيار الرؤية عندنا ولا يسقط عند زفر رحمه الله ما لم يدخلها فكذلك القسمة وكذلك إن اقتسما بستانا وكرما فأصاب أحدهما البستان والآخر الكرم ولم ير واحد منهما الذي أصابه ولا رأى جوفه ولا نخله ولا شجرة ولكنه رأى الحائط من ظاهره فلا خيار لواحد منهما ورؤية الظاهر مثل رؤية الباطن وبه يتبين أن قول من يقول جوابه في الدار بناء على دور الكوفة فإنها لا تتفاوت إلا في السعة والضيق ضعيف جدا ففي البستان المقصود يتفاوت بتفاوت الأشجار والنخيل ولم يشترط رؤية شيء من ذلك عرفنا أن المعنى فيه أن ما يتعذر الاستقصاء برؤية كل جزء منه مقام رؤية الجميع في إسقاط خيار الرؤية وكذلك في الثياب المطوية يجعل رؤية جزء من ظاهر كل ثوب كرؤية الجميع في إسقاط الخيار واشتراط الخيار في القسمة جائز فهو في البيع لأنها في اعتبار تمام الرضا كالبيع وفي احتمال الفسخ كذلك والخيار بعدم تمام الرضا فإنما يشترط الفسخ أو لئلا يثبت صفة اللزوم مع بقاء الخيار في جانب من شرط الخيار لنفسه فإن مضت الثلاثة ثم ادعى أحدهما الرد بالخيار في الثلاثة وادعى الآخر الإجازة فالقول قول مدعي الإجازة لأن مضي المدة قبل ظهور الفسخ متمم للعقد فمن يدعي الإجازة يتمسك بما يشهد له الظاهر به وإن أقاما البينة فالبينة بينة من يدعي الرد لأن بينته تثبت الفسخ وهو المحتاج إلى الإثبات دون صاحبه وسكنى الدار التي وقعت في سهم صاحب الخيار رضا منه بها وإبطال للخيار وقد بينا اختلاف الروايات في هذه المسألة في البيوع وأن مراده حيث يقول ذلك رضا منه إذا تحول إليها وسكنها بعد القسمة وحيث يقول لا يكون رضا إذا كان ساكنا فيها فاستدام السكنى وكذلك إن بنى أو هدم فيها شيئا لو جصصها أو طين فيها حائطا أو ذرع الأرض أو سقاها أو قطف الثمرة أو غرس الشجر أو لقح النخل أو كسح الكرم فهو كله رضا لأنه تصرف لا يفعل عادة إلا في الملك ومباشرته دليل الرضا بملكه في ذلك المحل ودليل الرضا كصريح الرضا في سقوط الخيار به.
 ويجوز قسمة الأب على الصغير والمعتوه في كل شيء ما لم يكن عليهما فيه غبن فاحش لأن له ولاية البيع عليهما ما لم يكن فيه غبن فاحش ويجعل رضاه في ذلك كرضاهما أن لو كانا من أهل الرضا فكذلك في القسمة وكذلك وصي الأب في ذلك قائم مقام الأب بعد موته فكذلك الجد أب الأب إذا لم يكن وصيا ويجوز قسمة وصي الأم إذا لم يكن أحد من هؤلاء فيما سوى العقار من تركة الأم لأنه قائم مقام الأم في ذلك وتصرفها في ملك ولدها الصغير بالبيع صحيح فيما سوى العقار فكذلك تصرف وصيها بعدها وهذا لأن لها ولاية الحفظ والبيع والقسمة فيما سوى العقار فيه معنى الحفظ ولا يوجد ذلك في العقار وكذلك وصي الأخ والعم وبن العم في ميراثه منهم ولا يجوز فيه قسمته في ميراثه من

 

ج / 15 ص -37-       غيرهم لأن الوصي قائم مقام الموصي فيثبت له ولاية الحفظ عليه فيما ورث منه ولأن في حفظ ذلك منفعة للموصي فإنه إذا ظهر عليه دين يباع ذلك في دينه وليس له ولاية الحفظ فيما ورث من غيره كما لم يكن للموصي فيه ولاية وهذا ليس في حفظه معنى النظر للموصي إنما فيه معنى النظر لليتيم ولا ولاية لوصي العم وبن العم على اليتيم وهذا بخلاف وصي الأب فقد كان للأب ولاية على الصغير في جميع ذلك ووصيه بعده يقوم مقامه.
وإذا كان له أب أو وصي أو جد لم تجز قسمة وصي هؤلاء فيما سوى العقار في تركتهم عليه لأن الأب قائم مقامه أن لو كان حاضرا بالغا وعند ذلك لا يكون لوصي هؤلاء عليه ولاية القسمة في شيء من ذلك فكذلك إذا كان له أب يقوم مقامه وهذا لأن نظر الأب له يكون عن شفقة وافرة وولاية كاملة كنظره لنفسه ولا حاجة مع وجوده إلى اعتبار نظر وصي العم له بخلاف حال عدم الأب والوصي.
ويجوز قسمة وصي الأب على الابن الكبير الغائب فيما سوى العقار لأنه قائم مقام الأب فيما يرجع إلى حفظ تركته والقسمة فيما سوى العقار ترجع إلى حفظ التركة ولا تجوز قسمة الأم والعم والأخ والزوج على امرأته الصغيرة والكبير الغائب وإن لم يكن لأحد منهم أب ولا وصي أب لأنه لا ولاية لأحد من هؤلاء على الصغير فلا ينفذ تصرفه من حيث القسمة والبيع عليه وقد بينا أنه إنما ينفذ عليه من قسمة هؤلاء فيما يرجع إلى الحفظ من تركة الموصي خاصة دون غيره فأما في سائر أموال الصغير هم ووصيهم كالأجانب ولا يجوز قسمة الكافر والمملوك والمكاتب على ابنه الحر الصغير المسلم لأنه لا ولاية له عليه فالكفر والرق يخرجه من الأهلية للولاية على المسلم ولا تجوز قسمة الملتقط على اللقيط وإن كان يعوله لأنه لا ولاية له عليه في التصرف في ماله بيعا وشراء فالقسمة مثله.
والوصي الذي يقيمه القاضي في أمر اليتيم بمنزلة وصي الأب إذا جعله وصيا في كل شيء لأن له ولاية كاملة على الصغير تعم المال والنفس جميعا كولاية الأب فوصيه أيضا كوصي الأب وإن جعله وصيا في النفقة خاصة أو في حفظ شيء عنده لم تجز قسمته لأن نصيب القاضي إياه وصيا قضاء منه والقضاء يقبل التخصيص وهذا بخلاف ما إذا جعله الأب وصيا في شيء خاص لأن إيصاء الأب إليه إثبات الولاية بعد موته والولاية لا تحتمل التجزي والمعنى في الفرق أن قسم القاضي يتصرف مع بقاء رأي القاضي فلا حاجة إلى إثبات ولايته من غير ما أمر القاضي به لتمكن القاضي من النظر في ذلك بنفسه له فيكون من هذا الوجه نصيب القيم بمنزلة الوكيل فأما وصي الأب إنما يتصرف بعد موت الأب وزوال تمكنه من النظر لنفسه فالحاجة تمس إلى تعميم ولايته فيما يحتاج الصبي إلى من ينظر فيه له ومن وجد من الشركاء بنصيبه عيبا بعد تمام القسمة كان له أن يرده بالعيب وينقض القسمة إن كان شيئا واحدا أو كان مكيلا أو موزونا كما ينقض البيع بالرد بالعيب وسواء كانت القسمة.

 

ج / 15 ص -38-       باصطلاحهما أو بحكم الحاكم لأن الحاكم إنما يميز نصيب كل واحد منهما فيما أعطاه على أنه سليم من العيب فيثبت لكل واحد منهما استحقاق السلامة عن العيب سواء كانت القسمة بالتراضي أو بقضاء القاضي فبوجود العيب يفوت ما كان مستحقا له فيتخير لذلك.
 قال: وإن كان الذي أصابه عدد من الغنم أو الثياب رد الذي به العيب خاصة بعد القبض كما هو في البيع فإنه لو اشترى شاتين وقبضهما ثم وجد بأحديهما عيبا رد المعيب خاصة فهذا مثله ويكون المردود بينه وبين أصحابه لانتقاض القسمة فيه بالرد ويرجع في جميع ما أصابهم بقدر ذلك لأن عند الرد بالعيب يكون رجوعه بعوض المردود والعوض حصته هنا مما أصابهم فيرجع عليهم بقدر ذلك كما يرجع في البيع بالثمن إذا رد المبيع بالعيب وإن أصابه دار أو خادم فسكن الدار بعد ما رأى العيب أو استخدم الجارية لم يكن هذا رضا بالعيب استحسانا وفي القياس هو رضا لأنه تصرف لا يفعله الإنسان إلا في ملكه عادة فإقدامه عليه دليل الرضا بتقرير ملكه وهو كالعرض على البيع أو زراعة الأرض أو طحن الطعام أو قطع الثوب بعد العلم بالعيب ولكنه استحسن فقال الاستخدام والسكنى قد يفعله الإنسان في ملك الغير عادة بإذن المالك وبغير إذن المالك فلا يكون ذلك دليل الرضا ولأنه يفعل ذلك على سبيل الاختيار لينظر أن هذا العيب هل يمكن نقصانا في مقصوده أو لا فلا يجعل ذلك دليل الرضا منه وقيل جوابه هنا في السكنى بناء على إحدى الروايتين في السكنى مدة خيار الشرط إذ لا فرق بين الفصلين ومنهم من فرق فقال حقه هنا في المطالبة بالجزء الفائت وفي إسقاط حقه إضرار به ومجرد السكنى منه لا يكون رضا بالتزام الضرر فأما في خيار الشرط حقه في الفسخ فقط وفي جعل السكنى بمنزلة الرضا إسقاط لحقه في الفسخ ولكن ليس في ذلك كثير ضرر ألا ترى أنه إذا تعذر رده بخيار الشرط لا يرجع بشيء وإن تعذر رده بالعيب رجع بحصته من الثمن؟
 وإذا ركب الدابة أو لبس الثوب أو سقى الزرع فهذا رضاء بالعيب لأنه تصرف لا يفعله الإنسان إلا في ملكه عادة وإن لبس الثوب لينظر إلى قده أو قال قدره فهذا رضاء بالعيب وليس برضا في الخيار لأنه إنما يشترط الخيار لهذا حتى ينظر أنه صالح له أم لا ولا يعرف ذلك إلا باللبس فلهذا لا يجعل ذلك دليل الرضا منه بسقوط الخيار وفي العيب ثبوت الخيار له لفوات صفة السلامة وتمكن النقصان في المالية ولا تأثير للبس في معرفة ذلك فكأن لبسه الثوب بعد العلم بالعيب دليل الرضا بملكه.
 وإذا باع ما أصابه بالقسمة من الدار ولا يعلم بالعيب فرد المشتري عليه بذلك العيب فإن قبله بغير قضاء القاضي فليس له أن ينقض القسمة لأن هذا بمنزلة الإقالة والإقالة في حق شريكه كالشراء المبتدأ وإن قبله بقضاء قاض فله أن ينقض القسمة والبينة في ذلك وإباء اليمين سواء لأنه فسخ لبيعه من الأصل فعاد من الحكم ما كان قبله وإن كان المشتري هدم من الدار شيئا قبل أن يعلم بالعيب لم يكن له أن يردها ولكن يرجع على البائع بنقصان

 

ج / 15 ص -39-       العيب ولا يرجع البائع على شريكه بشيء لأنه تعذر الرد عليه باعتبار إخراجه نصيبه من ملكه وفي نظيره في البيع اختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله موضع بيانه كتاب الصلح فينبغي أن يكون الجواب في القسمة كذلك وإن كان الشريك هو الذي هدم شيئا منه ولم يبعه ثم وجد به عيبا رجع بنقصان العيب في أنصباء شركائه إلا أن يرضوا بنقض القسمة ورده بعينه مهدوما لأنه تعذر الرد لدفع الضرر عنهم فإذا رضوا بذلك رد عليهم وإذا أبوا أن يرضوا به فكما يجب النظر لهم يجب النظر لمن وقع في سهمه فلهذا يثبت له حق الرجوع بنقصان العيب على شركائه في أنصبائهم والله أعلم.

باب الاستحقاق في القسمة
 قال رحمه الله: وإذا كانت الدار بين رجلين نصفين فاقتسماها فأخذ أحدهما الثلث من مقدمها وقيمته ستمائة وأخذ الآخر الثلثين من مؤخرها وقيمته ستمائة وهي ميراث بينهما أو شراء ثم استحق نصف ما في يدي صاحب المقدم فإن أبا حنيفة رحمه الله قال في هذا يرجع صاحب المقدم على صاحب المؤخر بربع ما في يده وقيمة ذلك مائة وخمسون درهما إن شاء وإن شاء نقص القيمة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يرد ما في يده ويبطل القسمة فيكون ما بقي في أيديهما بينهما نصفين وفي رواية أبي حفص رحمه الله ذكر محمد مع أبي حنيفة وهو الأصح فقد ذكر بن سماعة أنه كتب إلى محمد يسأله عن قوله في هذه المسألة فكتب إليه أن قوله كقول أبي حنيفة رحمه الله وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن استحقاق نصف ما في يد صاحب المقدم شائعا ظهر لهما شريك ثالث في الدار والدار المشتركة بين ثلاثة نفر إذا اقتسمها اثنان منهم لا تصح القسمة كما لو استحق المستحق ربع الدار شائعا يوضحه أن استحقاقه الدار وإن كان من نصيب صاحب المقدم خاصة فذلك يؤدي إلى الشيوع في الكل لأنه إذا أخذ المستحق نصف ما في يد صاحب المقدم رجع بحصته ذلك فيما في يد صاحب المؤخر فيكون ذلك بمنزلة ما لو كان المستحق جزءا شائعا في الكل وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن القسمة في معنى البيع واستحقاق بعض المبيع لا يبطل البيع فيما بقي ولكن يثبت الخيار للمشتري بين نقض البيع في الباقي وبين الرجوع بعوض المستحق كما لو اشترى نصف داره فاستحق ذلك النصف فكذلك في القسمة ولئن كان بطريق التمييز فهو أبعد عن الانتقاض فيما بقي باستحقاق بعضه وهذا لأن ما تبين بالاستحقاق لا يمنع ابتداء القسمة فإنه لو كان مؤخر الدار بين شريكين ولهما شريك ثالث في نصف المقدم بنصفه فاقتسما على أن أخذ أحدهما نصيبهما من النصف المقدم مع ربع النصف المؤخر وأخذ الآخر ما بقي كان ذلك جائزا وما لا يمنع ابتداء القسمة لا يمنع بقاءها بطريق الأولى بخلاف ما إذا كان المستحق جزءا شائعا في جميع الدار لأن استحقاق ذلك لو كان ظاهرا لم تجز القسمة بينهما ابتداء فكذلك لا يبقى.
 وبهذا تبين أن هذا بمنزلة ما لو استحق من المقدم بيت بعينه فكما أن هناك لا تبطل.

 

 

ج / 15 ص -40-       القسمة فيما بقي فكذلك هنا وإنما يرجع صاحب المقدم على شريكه بربع ما في يده إذا اختار إمضاء القسمة لأنه لو استحق جميع المقدم رجع على شريكه بنصف ما في يده فإذا كان المستحق نصفه يرجع عليه بنصف نصف ما في يده يوضحه أن جميع قيمة الدار ألف ومائتي درهم وباستحقاق نصف المقدم يتبين أن المشترك بينهما تسعمائة فحق كل واحد منهما في أربعمائة وخمسين والذي بقي في يد صاحب المقدم يساوي ثلاثمائة وما في يد صاحب المؤخر يساوي ستمائة فيرجع عليه بربع ما في يده وقيمته مائة وخمسون حتى يسلم لكل واحد منهما ما يساوي أربعمائة وخمسين فلو كان صاحب المقدم باع نصف ما في يده واستحق النصف الباقي فإنه يرجع في قول أبي حنيفة رحمه الله على صاحبه بربع ما في يده إن كان الذي باع بألف درهم أو بعشرة دراهم وعند أبي يوسف رحمه الله يرجع فيما في يد صاحبه من الدار فيكون بينهما نصفين ويضمن نصف قيمة ما باع لصاحبه وفي قول محمد رحمه الله اضطراب كما بينا وهذا بناء على الفصل الأول عند أبي يوسف رحمه الله يتبين بالاستحقاق أن القسمة كانت فاسدة والمقبوض بالقسمة الفاسدة ينفذ البيع فيه كالمقبوض بالشراء الفاسد ويكون مضمونا بالقيمة فلهذا يضمن نصف قيمة ما باع لشريكه وما في يد صاحب المؤخر بينهما نصفان وعند أبي حنيفة رحمه الله القسمة كانت صحيحة فيما بقي وكان له الخيار في بعض القسمة فبالبيع سقط خياره ويتعين حقه في الرجوع بعوض المستحق وذلك ربع ما في يد صاحب المؤخر كما بينا.
 وكذلك أرض بين رجلين نصفان وهي مائة جريب فاقتسما على أن أخذ أحدهما بحقه عشرة أجربة تساوي ألف درهم ثم باع كل واحد منهما الذي أصابه بأقل من قيمته أو أكثر ثم استحق جريب من العشرة الأجربة فرد المشتري ما بقي منهما على البائع ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله يرجع على صاحب التسعين جريبا بخمسين درهما وفي قول أبي يوسف رحمه الله تكون التسعة الأجربة بينهما نصفين ويضمن صاحب التسعين جريبا خمسمائة درهم لصاحبه لأن عند أبي يوسف رحمه الله يتبين فساد القسمة باستحقاق مقدار جريب من العشرة شائعا وبيع صاحب العشرة الأجربة قد انفسخ من الأصل يرد الباقي عليه بعيب التبعيض وكأنه لم يبع ذلك فهي بينهما نصفين وصاحب التسعين جريبا قد باع ما قبضه بقسمة فاسدة فينفذ بيعه ويضمن نصف قيمته لصاحبه بقدر حصته وذلك خمسمائة درهم وعند أبي حنيفة رحمه الله القسمة كانت صحيحة وتبين بالاستحقاق أن المشترك بينهما ما يساوي ألفا وتسعمائة لكل واحد منهما تسعمائة وخمسون والسالم للذي أخذ عشرة أجربة تسعمائة ولصاحبه ألف فيرجع على صاحبه بخمسين درهما لأنه قد باع ما في يده وإذا رجع بذلك سلم لكل واحد منهما تسعمائة وخمسون.
 وإذا كانت مائة شاة بين رجلين فاقتسماها على أن أخذ أحدهما أربعين منها ما تساوي خمسمائة وأخذ الآخر منها ستين تساوي خمسمائة فاستحقت شاة من الأربعين تساوي.

 

ج / 15 ص -41-       عشرة دراهم فإنه يرجع بخمسة دراهم في الستين شاة عندهم جميعا وأبو يوسف رحمه الله يفرق بين هذا وبين ما سبق باعتبار أن المستحق شاة بعينها فلا يوجب ذلك نقض القسمة فيما بقي وتبين أن المشترك بينهما تسعمائة وتسعون درهما والذي سلم لأخذ الأربعين ما يساوي أربعمائة وتسعين ولصاحب الستين ما يساوي خمسمائة فيرجع عليه بمقدار الخمسة لتكون حصة كل واحد منهما ما يساوي أربعمائة وخمسة وتسعين وإنما يرجع بذلك في الستين شاة لأنها باقية في يده فيضرب هو في الستين بخمسة دراهم وصاحبه بأربعمائة وخمسة وتسعين فالسبيل أن يجعل كل خمسة بينهما فيكون الستين سهما على مائة سهم للمستحق عليه سهم ولصاحب الكثير تسعة وتسعون سهما منها وفي ظاهر الرواية ليس للمستحق عليه أن ينقض القسمة فيما بقي كما لو اشترى عددا من الغنم فاستحق واحد منها بعد القبض وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن ينقض القسمة فيما بقى وهكذا في البيع ليفرق الصفقة عليه فالعقد في المستحق يبطل من الأصل فلا فرق بينهما بعد القبض وقبله.
 وإذا كان كر حنطة بين رجلين نصفين عشرة أقفزة منها طعام جيد على حدة وثلاثون قفيزا رديء على حدة فأراد أحدهما أن يأخذ العشرة بحقه ويأخذ شريكه الثلثين بحقه لم يصح ذلك لأن في هذه القسمة معنى البيع ومبادلة الحنطة بجنسها متفاضلا ربا فإن رد الذي أخذ الثلاثين قفيزا ثوبا بعينه على صاحبه واقتسما على ذلك جاز بناء على أصلنا أن الفصل يجعل بمقابلة الثوب احتيالا لتصحيح العقد وإن استحق من الثلاثين عشرة مخاتيم فإنه يرجع عليه بنصف الثوب.
 وفي زيادات الزيادات قال في هذه المسألة يرجع بثلث الثوب وسدس الطعام الجيد وقيل ما ذكر ثمة جواب القياس وما ذكر في كتاب القسمة جواب الاستحسان وجه القياس أنه لو استحق جميع الطعام الرديء يرجع على صاحبه بجميع الثوب ونصف الطعام الجيد والعشرة ثلث الثلاثين فعند استحقاق العشرة يرجع بثلث ذلك اعتبارا للبعض بالكل وبيان المعنى فيه أن عشرة من الثلاثين أخذها باعتبار ملكه وعشرة بالمقاسمة بمقابلة العشرة التي أخذها صاحبه وعشرة عوضا عن الثوب والعشرة المستحقة شائعة في الكل ثلثها فيما أخذ بقديم ملكه فلا يرجع فيه على أحد بشيء والثلث مما أخذه عوضا عن الثوب فيرجع بعوضه وهو ثلث الثوب والثلث مما أخذه بالمقاسمة فيرجع بما يقابله من الطعام الجيد بقدر حصته وذلك قفيز وثلثا قفيز لأن العشرة كلها لو استحقت رجع عليه بخمسة أقفزة فإذا استحق الثلث رجع عليه بثلث الخمسة وثلثها قفيز وثلث قفيز سدس الطعام الجيد ووجه الاستحسان أن المستحق إنما يجعل شائعا في الكل إذا استوت الجهالة فأما إذا تفاوتت فلا كما إذا باع ثوبا وقلبا وزنه عشرة دراهم بعشرين درهما وتقابضا ثم استحقت عشرة من العشرين فإن المستحق يجعل من ثمن الثوب خاصة لأنه لو جعل بعضه من ثمن القلب بطل العقد في القلب

 

ج / 15 ص -42-       بقدره ولو جعل من ثمن الثوب لم يبطل العقد في شيء من القلب فيجعل ذلك من ثمن الثوب لإبقاء العقد صحيحا حين لم تثبت المساواة فهناك كذلك لأن المقصود بالقسمة التمييز والمعاوضة فيها بيع ولا مساواة بين المقصود والبيع فلا يجعل شيء من المستحق مما أخذه بالمقاسمة لإبقاء معنى التمييز بحسب الأمكان ولو جعل شيء من المستحق بمقابلة العشرة التي أخذها بالقسمة تنتقض القسمة فيحتاج إلى إعادتها ثانية فلا يجعل شيء بمقابلة كيلا ينتقض وإذا جعلنا المستحق ما وراء العشرة المقسومة يكون النصف من العشرة المشتراة والنصف العشرة الموزونة لم يرجع به على أحد وما أخذ من العشرة المأخوذة على وجه الشراء رجع بحصته من الثمن وثمنه نصف الثوب فلهذا يرجع عليه بنصف الثوب ولكن يجعل المستحق نصف العشرين الذي أخذه بمقابلة الثوب وعشرة من تلك العشرين أخذها بقديم ملكه وعشرة عوضا عن الثوب فنصف المستحق مما كان بمقابلة الثوب فلهذا يرجع بنصف الثوب خاصة.
 وإذا كان كر حنطة وكر شعير بين رجلين فاقتسماه فأخذ أحدهما ثلاثين مختوما حنطة رديئة وعشرة مخاتيم شعيرا جيدة وأخذ الآخر عشرة مخاتيم حنطة جيدة وثلاثين مختوما شعيرا رديئا ثم استحق نصف الشعير الرديء فإنه يرجع عليه بربع عشرة مخاتيم حنطة وهذا غلط بين فإن العشرة المخاتيم حنطة جيدة في يد المستحق عليه فكيف يرجع بربعه والصحيح ما في النسخ العتيقة أنه يرجع بربع المخاتيم حنطة يعني بثلاثين مختوما حنطة رديئة التي أخذها صاحبه يرجع بربع ذلك وهو سبعة أقفزة ونصف وهو جواب الاستحسان وفي القياس على ما ذكره في زيادات الزيادات يرجع عليه بخمسة أقفزة حنطة رديئة وقفيزين ونصف شعير جيد وجه القياس أنه لو استحق جميع الشعير الرديء من يده رجع على صاحبه بثلث الحنطة الرديئة عشرة أقفزة ونصف الشعير الجيد خمسة أقفزة فإن استحق نصف الشعير الرديء يرجع بنصف كل واحد منهما وبيانه من حيث المعنى أنه أخذ الثلاثين قفيزا شعيرا رديئا عشرة بقديم ملكه وعشرة بالمقاسمة فقد أخذ صاحبه عشرة أقفزة شعيرا جيدا وعشرة بالمعاوضة وعوضه عشرة أقفزة من الحنطة الرديئة التي أخذها صاحبه من نصيبه فإذا استحق النصف كان ثلث المستحق مما أخذه بقديم ملكه فلا يرجع باعتباره على أحد بشيء وثلثه مما أخذه صاحبه بالمعاوضة فيرجع بعوضه على صاحبه وذلك خمسة أقفزة من الحنطة الرديئة وثلثه مما أخذه بالمقاسمة فيرجع على صاحبه بنصف ذلك قدر حصته من الشعير الجيد وذلك قفيزان ونصف ووجه الاستحسان ما بينا أن المستحق لا يجعل شيء منه من المأخوذ بالمقاسمة لإبقاء معنى التمييز وإنما يجعل نصفه من المأخوذ بقديم ملكه ونصفه من المأخوذ بالمعاوضة فيرجع بعوض ذلك على صاحبه وذلك سبعة أقفزة ونصف من الطعام الرديء وربع الثلاثين قفيزا يكون سبعة أقفزة ونصف فلهذا قال يرجع بربع المخاتيم حنطة.
 وإذا كانت الدار بين رجلين نصفين فاقتسماها وأخذ أحدهما النصف المقدم وقيمته

 

ج / 15 ص -43-       ستمائة وأخذ الآخر النصف المؤخر وقيمته أربعمائة على أن يرد عليه صاحب النصف المقدم مائة درهم ثم باع كل واحد منهما ما أصابه ثم استحق نصف النصف المقدم ورجع المشتري على بائعه بحصة ذلك من الثمن وأنفذ البيع في البقية فإن صاحب المقدم يرجع على صاحب المؤخر بمائة وخمسين درهما خمسون منها نصف المائة التي نقده ومائة منهما ربع قيمة النصف المؤخر لأنه لو استحق جميع المقدم رجع على شريكه بالمائة التي أعطاها وبقيمة نصف النصف المؤخر وذلك مائتا درهم فإذا استحق نصف ذلك يرجع بنصف الثلثمائة وذلك مائة وخمسون وهذا لأن في حصة المائة كان هو مشتريا وقد استحق نصف المبيع فيرجع بنصف الثمن وتبين أن المشترك بينهما ما يساوي سبعمائة وأن حق كل واحد منهما من ذلك ثلاثمائة وخمسون فصاحب المؤخر أخذ أربعمائة والسالم لصاحب المقدم ما يساوي مائتين وخمسين بالمقاسمة فيرجع على شريكه بربع ما أخذ وذلك مائة درهم فعند ذلك يصل إلى كل واحد منهما ما يساوي ثلاثمائة وخمسين كمال حقه ولو كان مكان المائة ثوب قائم بعينه رجع بنصف الثوب وبمائة درهم لأن المستحق مما أخذه عوضا عن الثوب نصفه فيرجع بعوضه وذلك نصف الثوب.
وإذا كانت أرض ودار بين رجلين فاقتسماهما فأخذ أحدهما الدار والآخر الأرض على أن يرد صاحب الأرض على صاحب الدار عبدا قيمته ألف درهم وقيمة الدار ألف درهم وقيمة الأرض ألفان وقبضه ثم أن صاحب الدار باع الدار فاستحق إنسان منها علو بيت يكون ذلك البيت والسفل عشر الدار فلما استحق العلو ذهب نصف العشر ورجع المشتري على البائع بحصة ذلك من الثمن وأمسك الباقي من الدار فإن صاحب الدار يرجع بستة عشر وأربع دوانق من قيمة الأرض على صاحب الأرض في قياس قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قياس قول أبي يوسف رحمه الله يرجع بذلك في رقبتها ويكون شريكا به في الأرض وقيل لا خلاف بينهم في الحقيقة وتأويل قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه لا ينتفع بذلك اليسير من الأرض فلهذا جعل له حق الرجوع بذلك القدر من القيمة حتى إذا رضي هو بالرجوع في رقبة الأرض بذلك القدر يكون له ذلك وإنما كان رجوعه بهذا المقدار لأن نصف الأرض بمقابلة العبد ونصفها أخذه بالمقاسمه مع الدار وقد كان قيمة الدار ألف درهم فلما استحق منها ما يساوي نصف العشر وذلك خمسون درهما تبين أن المشترك ما يساوي ألف درهم وتسعمائة وخمسين وأن حق كل واحد منهما فيما يساوي ألف وأربعمائة وخمسة وسبعين وقد أخذ صاحب الأرض ألفي درهم ألف بمقابلة ما أدى من العبد وألف بالمقاسمة وأخذ الآخر تسعمائة وخمسين فيرجع على صاحبه بستة عشر درهما وأربع دوانيق في الأرض حتى يكون السالم له بالمقاسمة تسعمائة وستة وستين وثلثان ولصاحبه مثل ذلك بالمقاسمة.
قال أبو عصمة: وفي هذا الجواب نظر بل ينبغي أن يكون رجوعه بما يساوي خمسة

 

ج / 15 ص -44-       وعشرين لأن نصيب كل واحد منهما ألف وأربعمائة وخمسة وسبعون كما بينا ولكنا نقول هذا بناء على الأصل الذي بينا لأبي حنيفة رحمه الله أن العلو مثل نصف السفل حتى قال في القسمة يحسب ذراع من السفل بذراعين من العلو فإذا استحق علو بيت يكون ذلك العلو مع السفل عشر الدار عرفنا أن المستحق ثلث العشر وذلك ثلاثة وثلاثون وثلث فإنما يرجع على شريكه بنصف ذلك وذلك ستة عشر وثلثان فيستقيم الجواب بناء على ذلك الأصل وإذا وقعت القسمة في دار واحدة أو أرض واحدة وبناء أحدهما في نصيبه ثم استحق ذلك الموضع من نصيبه فرد القسمة وأراد أن يرجع بقيمة بنائه على شريكه لم يكن له ذلك لأن الرجوع بقيمة البناء في الشراء لأجل الغرور ولا غرور في القسمة فإن الشريك مجبر على القسمة عند طلب شريكه فلا يصير عاد الشريك فيما يجبره القاضي عليه فلهذا لا يرجع شريكه عليه بقيمة البناء بمنزلة الشفيع إذا أخذ الدار بالشفعة وبنى فيها ثم استحقت ونقض بناءه لم يرجع على المشتري بقيمة البناء وقد بينا في آخر الشفعة نظيره في الجارية المأسورة.
ومن نظائره أيضا أحد الشريكين في الجارية إذا استولدها ثم استحقت وضمن قيمة الولد لم يرجع على شريكه بشيء من ذلك وكذلك إذا استولد جارية ابنه ثم استحقت وضمن قيمة الولد لم يرجع بذلك على الابن لانعدام معنى الغرور منه وهذا بخلاف الغاصب فإن المغصوب منه إذا ضمن قيمة الجارية ثم استولدها الغاصب ثم استحقت وضمن الغاصب قيمة الولد رجع به على المغصوب منه رواية عن أبي يوسف ولم يرو عن غيره خلافه لأن المغصوب منه في تضمين القيمة هناك مختار فإنه كان متمكنا من أن يصبر حتى تطهر الجارية فيتحقق الغرور من جهته حين ملكها من الغاصب بضمان القيمة ولو وقعت القسمة في دارين أو أرضين وأخذ كل واحد منهما أحدهما ثم استحقت إحداهما بعد ما بنى فيها صاحبها رجع على صاحبه بنصف قيمة البناء قيل هذا قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله أن قسمة الجبر لا تجري في الدور والأراضي بهذه الصفة وعلى قولهما تجري قسمة الجبر فيها فهذا والدار الواحدة عندهما سواء قال رحمه الله والأصح عندي أن هذا قولهم جميعا لأنهما ما أطلقا الجواب في قسمة الجبر في الدور ولكن قال إن رأى القاضي المصلحة في أن يقسمها قسمة واحدة فله ذلك وهما أقدما على القسمة قبل أن يرى القاضي المصلحة في ذلك فيكون هذا معاوضة بينهما عن اختيار منهما والغرور بمثله يثبت فيرجع على صاحبه بنصف قيمة البناء لأن نصف الموضع الذي بنى فيه أخذه بقديم ملكه ونصفه بالمعاوضة.
وكذلك إن اقتسما جاريتين فوطئ أحدهما الجارية التي أخذها فولدت له ثم استحقت وضمن قيمة الولد رجع على صاحبه بنصف قيمة الولد وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله لأن قسمة الجبر عنده لا تجري في الرقيق فتكون هذه معاوضة بينهما عن اختيار فأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله قسمة الجبر تجري في الرقيق فلا يتحقق معنى الغرور ولا

 

ج / 15 ص -45-       يرجع على صاحبه بشيء من قيمة الولد ويكون له نصف الجارية التي في يد شريكه لأن القسمة قد بطلت باستحقاق نصيب أحدهما فإن كان باعها ضمنه نصف قيمتها لأنها كانت مقبوضة بقسمة فاسدة فنفذ بيعه فيها ويضمن لصاحبه قيمة حصته منها وذلك النصف.
وكذلك إذا اقتسما منزلين متفرقين في دار واحدة فقد بينا أن المنازل المتفرقة في حكم القسمة كالدور المتفرقة فإن كان القاضي قسم الدور المختلفة بين الشركاء وجمع نصيب كل واحد منهم في دار على حدة وأجبرهم على ذلك فبنى أحدهم في الدار التي أصابته ثم استحقت وهدم بناؤه لم يرجع على شركائه بقيمة البناء لأن القاضي حين رأى جمعها في القسمة صارت كدار واحدة فإن معنى الغرور في الدار الواحدة إنما ينعدم باعتبار أن القاضي يجبر الشركاء على ذلك وقد تحقق ذلك هنا بما رآه القاضي فينعدم الغرور به فلهذا لا يرجع على شركائه بشيء من قيمة البناء.
وإذا اقتسما الرجلان دارين فأخذ أحدهما دارا والآخر دارا فبنى أحدهما في الدار التي أخذها وهدم وأنفق ثم استحق من الأخرى موضع جذع في حائط أو مسيل ماء أو طريق أو حائط بأصله أو بناء بيت فالذي استحق ذلك من يده بالخيار إن شاء نقض القسمة كلها وهدم ما أحدث هذا من البناء وضمنه قيمة ما هدم وإن شاء لم ينقض القسمة ولم يرجع بشيء ورضي بما في يده وقيل هذا الجواب قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله لا يكون له أن ينقض بناء شريكه على ما قال في الجامع الصغير المشتري شراء فاسدا إذا بنى في الدار المشتراة انقطع به حق البائع في الاسترداد عند أبي حنيفة رحمه الله وليس له أن ينتقض بناء المشتري وعندهما له أن ينقض بناءه فهنا إذا اختار نقض القسمة تبين أن صاحبه أخذ الدار بقسمة فاسدة فهي كالمأخوذة بالشراء الفاسد.
قال الحاكم رحمه الله: ويحتمل أن هذا الجواب على مذهبهم جميعا تخريجا على ما هو الصحيح عند أبي يوسف من مذهب أبي حنيفة رحمهما الله إذا بنى المشتري في الدار المشتراة شراء فاسدا فإنه ذكر في الجامع الصغير شكا في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أن الدار تترك للمشتري شراء فاسدا من أجل بنائه حيث قال فيما أعلم وقيل هذه من إحدى المسائل التي جرت فيها المحاورة بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وقوله لا يرجع بشيء يحتمل أن يكون جوابا في استحقاق موضع الجذع ومسيل الماء خاصة لأن لما سواهما حصة من الدرك فعند الاستحقاق لا بد أن يرجع بذلك أو بقيمته إن تعذر الرجوع بعينه لأجل البناء.
ولو أخذ أحدهما دارا وأخذ الآخر دارين قيمتهما سواء فاستحقت إحداهما لم يكن له أن ينقض القسمة وكانت له الدار الباقية ويرجع بربع الدار التي أخذ الآخر بمنزلة ما لو اشترى دارين وقبضهما فاستحقت إحداهما فلا خيار له في الأخرى وإنما يرجع بحصة المستحق من الثمن فهنا أيضا لا خيار له في الباقية فيرجع بعوض المستحق وذلك ربع الدار المستحق

 

ج / 15 ص -46-       وذلك ربع الدار التي أخذها الآخر لأن الدارين كلاهما لو استحقتا رجع عليه بنصف الدار التي في يده فإذا استحقت إحداهما وقيمتهما سواء رجع بنصف النصف وهو الربع كما قررنا والله أعلم.
 

 باب ما لا يقسم
قال رحمه الله: ولا يقسم الحمام والحائط وما أشبه ذلك بين الشركاء لما فيها من الضرر والمقصود بالقسمة توفير المنفعة فإذا أدى إلى الضرر وقطع المنفعة عن كل واحد منهما على الوجه الذي كان قبل القسمة لم يجبر القاضي عليه فإن رضوا به جميعا قسمه لوجود التراضي منهم بالتزام الضرر ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا في الحمام فكل واحد منهما ينتفع بنصيبه بجهة أخرى بأن يجعله بيتا وربما كان ذلك مقصود كل واحد منهم فأما في الحائط إن رضوا بالقسمة لينتفع كل واحد منهم من غير هدم فكذلك الجواب وإن رضوا بالهدم وقسمة الأسهم لم يباشر القاضي ذلك لما فيه من إتلاف الملك ولكن إن فعلوا ذلك فيما بينهم لم يمنعهم من ذلك وفي البيت الصغير لا يقسمه القاضي بينهم إذا كره ذلك بعضهم ولأن نصيب كل واحد منهم بعد القسمة ما ينتفع به إلا أن تتفاوت انصباؤهم وكان صاحب الكبير ينتفع بنصيبه بعد القسمة وهو الطالب للقسمة فحينئذ يقسمه القاضي لأنه متظلم يطلب من القاضي أن يمنع الغير من الانتفاع بملكه.
 ولو كان بناء بين رجلين في أرض رجل قد بنيا بإذنه ثم أراد قسمة البناء وصاحب الأرض غائب فلهما ذلك بالتراضي وإن امتنع أحدهما لم يجبر عليه لأن كل واحد منهما بعد القسمة لا يتمكن من إبقاء نصيبه من البناء والانتفاع به فالأرض لغيرهما بطريق العارية أو الإجارة في أيديهما وكل جزء منه كذلك بينهما ولكل واحد منهما أن يمنع صاحبه من الاختصاص بالانتفاع بما هو مستعار له أو مستأجر فكان لكل واحد منهما أن يكلف صاحبه رفع البناء لو صحت القسمة وفيه ضرر عليهما فلا يفعل القاضي ذلك إذا أتى أحدهما وإن كان أراد هدم البناء ففي هذه القسمة إتلاف الملك وقد بينا أن القاضي لا يفعل ذلك ولكن إن أرادا فعله لم يمنعهما عن ذلك وإن أخرجهما صاحب الأرض هدماه لأن صاحب الأرض له عارية في أيديهما وللمعير في العارية حق الاسترداد متى شاء فيكلفهما هدم البناء ثم النقض يحتمل القسمة بينهما فيفعله القاضي عند طلب بعض الشركاء.
 وإذا كان طريق بين قوم إن اقتسموه لم يكن لبعضهم طريق ولا منفذ فأراد بعضهم قسمته لم أقسمه لما في القسمة من الضرر على بعض الشركاء بقطع منفعة ملكه عنه ويستوي إن كره صاحب الكثير أو صاحب القليل لأنه كان لكل واحد منهما حق التطرق إلى ملكه في هذا الطريق قبل القسمة وصاحب القليل من ذلك مستو بصاحب الكثير وفي القسمة تفويت هذا الحق عليه بخلاف البيت فهناك الانتفاع بعين البيت وصاحب الكثير فيه غير مستو بصاحب القليل وانقطاع المنفعة عنه لقلة نصيبه لا لأجل القسمة فلهذا قسم القاضي هناك

 

ج / 15 ص -47-       بطلب صاحب الكثير وهنا لا يقسم إذا كان في قسمته ضرر على بعضهم دون بعض في صغر أو أنه لا يجد طريقا إلا أن يتراضوا جميعا وإن كان يكون لكل واحد منهم طريق نافذ قسمته إذا طلب ذلك أحدهم لأنه ليس في القسمة تفويت المنفعة على بعضهم بل فيها تخصيص كل واحد منهم بالانتفاع في ملكه ورقبة الطريق مشتركة بينهم بمنزلة الأرض فتقسيمها بطلب بعضهم.
وإن كان طريق بين رجلين إن اقتسماه لم يكن لواحد منهما فيه ممر وكل واحد منهما يقدر أن يفتح في منزله بابا ويجعل طريقه من وجه آخر فأراد أحدهما قسمته وأبى الآخر قسمته بينهما لأنه لا ضرر على واحد منهما في القسمة فكل واحد منهما يتمكن من التطرق إلى ملكه من جانب آخر ولا فرق في حقه بين التطرق من هذا الجانب وبينه من الجانب الآخر وإذا كان مسيل ماء بين الرجلين أراد أحدهما قسمة ذلك وأبى الآخر فإن كان فيه موضع يسيل فيه ماؤه سوى هذا قسمته وإن لم يكن له موضع إلا بضرر لم أقسمه وهذا والطريق سواء فالمقصود هنا الانتفاع بتسييل الماء وهناك بالتطرق ولا فرق في حق كل واحد منهما بين أن يسيل ماؤه من هذا الجانب أو من جانب آخر إذا كان يتيسر له ذلك من غير ضرر وإنما شرط هذه الزيادة لأن التصويب قد يكون من جانب ولا يمكن جعل ذلك في جانب آخر بلا ضرر وإن كانت أرض صغيرة بين قوم إن اقتسموها لم يصب كل واحد منهم شيء ينتفع به فأراد بعضهم قسمتها لم أقسمها وهو وما تقدم من البيت الصغير سواء.
وإن كانت حانوت في السوق يبيعان فيه أو يعملان بأيديهما سواء فأراد أحدهما قسمته فإني أنظر في ذلك فإن كان يصيب كل واحد منهما موضع يعمل فيه قسمته بينهما وإن كان لم يصبه ذلك لم أقسمه بينهما لمعنى الضرر وإن كان الزرع بين ورثة في أرض لغيرهم فأرادوا قسمة الزرع فإن كان قد أدرك لم أقسمه بينهم حتى يحصد بالتراضي ولا بغير التراضي لأن الحنطة مال الربا فلا يجوز قسمته مجازفة إلا بكيل ولا يمكن قسمته بالكيل قبل الحصاد وإن كان بقلا لم أقسمه لما في ذلك من الضرر على كل واحد منهم فإنه لا يتمكن بعد القسمة من ترك نصيبه بغير رضاء أصحابه لأن موضعه من الأرض عارية لهم جميعا إلا أن يشترطوا في البقل أنه يجز كل واحد منهم ما أصابه فإذا اقتسموها على هذا بتراضيهم أجزته لما بينا أن في هذه القسمة إتلاف جزء فلا يباشره القاضي ولا يمنع الشركاء منه إن تراضوا عليه.
ولو كانت أرض بين رجلين فأرادا أن يقتسما زرعها دون الأرض لم يجز ذلك إن اشترطا تركه في الأرض إلى وقت الإدراك وإن اشترطا جز ذلك واجتمعا عليه أجزته والقسمة في هذا كالبيع فكما لا يجوز شراء الزرع قبل الإدراك بشرط الترك ويجوز بشرط القطع فكذلك القسمة وكذلك طلع في نخل بين قوم إن اقتسموا الطلع على أن يتركوا على النخل لم يجز وإن اقتسموه على أن يقطع كل واحد منهم ما أصابه أجزت ذلك بمنزلة

 

ج / 15 ص -48-       الشراء. فإن استأذن رجل منهم أصحابه بعد القسمة في ترك ما أصابه فاذنوا له فأدرك وبلغ طاب له الفضل وإن تركه بغير رضاهم يصدق بالفضل بمنزلة المشتري للثمار على رؤوس النخيل قبل الإدراك إن ترك بإذن البائع طاب الفضل وكل شيء يحتاج في قسمته إلى كسر أو قطع لم أقسمه بينهم لما في ذلك من إتلاف الجزء إلا أن يرضى جميع الشركاء فإن رضوا قسمته فالمراد أني لا أمنعهم من أن يفعلوا ذلك بالتراضي فأما أن يباشر القاضي ذلك فلا.
وإن أوصى بصوف على ظهر غنمه لرجلين فأراد قسمته قبل الجز لم أقسمه وكذلك اللبن في الضرع لأن ذلك مال الربا فإنه موزون أو مكيل فلا يمكن قسمته إلا بوزن أو كيل وذلك بعد الحلب والجز فأما الولد في البطن فلا يجوز شركته بين الشركاء بحال لمضي الضرر والجهالة ولأن المقصود بالقسمة الحيازة وذلك فيما في البطن لا يتصور لأن كل واحد منهما لا يتمكن من إثبات اليد على نصيبه قبل الانفصال وكذلك لو قسما ذلك بينهما بالتراضي لم يجز وإن كانت قوصرة تمر بينهما أو دن خل فأراد أحدهما قسمته لأن هذا مما يتأتى فيه الكيل والوزن والقسمة فيه تمييز محض لكل واحد من الشريكين أن ينفرد به فكذلك يفعله القاضي عند طلب بعض الشركاء وإن كانت خشبة أو باب أو رحاء أو دابة بين رجلين فأراد أحدهما قسمتها لم تقسم لأنها لا تحتمل القسمة من غير ضرر وكذلك اللؤلؤة والياقوتة لا يمكن قسمتها إلا بضرر ويقسم اللؤلؤ واليواقيت بين الشريكين إذا أراد ذلك أحدهما لأن التعديل في المنفعة والمالية ممكن إذا كانت بأعيانها.
وإن كانت جنة بين رجلين فأراد أحدهما قسمتها وأبى الآخر فإن كان في قطعها ضرر على واحد منهما لم أقسمها وإن لم يكن في ذلك ضرر قسمتها وقطعتها بمنزلة الثوب الواحد وإن كان حبا كثيرا قسمته بينهما لأنه لا حاجة إلى القطع هنا في القسمة وهو نظير الثياب إذا كانت من نوع واحد وتقسم نقرة الفضة والذهب وما أشبه ذلك مما ليس بمصوغ من الحديد والصفر والنحاس لأنه لا ضرر في قطع ذلك على واحد منهما وكذلك علو بين رجلين نصيب كل واحد منهما ما ينتفع به والسفل لغيرهما أو سفل بينهما والعلو لغيرهما فكذلك كله يقسم إذا طلب بعض الشركاء لأن العلو والسفل كل واحد منهما مسكن وفي القسمة توفير المنفعة على كل واحد منهما.
وإذا كان بين رجلين بئرا وعين أو قناة أو نهر لا أرض مع ذلك بينهما فأراد أحدهما قسمة ذلك وأبى الآخر فإني لا أقسم ذلك بينهما لأنه غير محتمل للقسمة وفيه ضرر على كل واحد منهما فإن كان مع ذلك أرض ليس لها شرب إلا من ذلك قسمت الأرض بينهما وتركت القناة والبئر والنهر على حالها لكل واحد منهما شربه منها وإن كان كل واحد منهما يقدر على أن يجعل لأرضه شربا من مكان آخر أو كانت أرضين وأنهار متفرقة أو آبار قسمت ذلك كله فيما بينهم لأنه لا ضرر على واحد منهم في هذه القسمة أو قسمة النهر والعين هنا تبع لقسمة الأراضي فهو بمنزلة البيع فالشرب يدخل في بيع الأرض تبعا وإن كان البيع لا

 

ج / 15 ص -49-       يجوز فيه مقصودا فكذلك في القسمة وقال أبو حنيفة رحمه الله لا أجبر واحدا منهما على البيع في شيء مما سميناه في هذا الكتاب وإن طلب ذلك شريكه وكان مالك رحمه الله يقول إذا كان المشترك بحيث لا يحتمل القسمة بين الشريكين فإن القاضي يجبر أحدهما على بيع نصيبه إذا طلب الآخر ذلك أو يبيع ذلك بنفسه ويقسم الثمن بينهما لأنه لا طريق لتوفير المنفعة على كل واحد منهما إلا هذا وإذا ثبت له ولاية الإجبار على القسمة لتوفير المنفعة على كل واحد منهما فكذلك يثبت له ولاية الإجبار على البيع في كل موضع تتعذر القسمة ولا يقال كل واحد منهما يقدر على بيع نصيبه وحده لأنه يتضرر بذلك فالأشقاص لا تشترى إلا بثمن وكس فينبغي أن تثبت له ولاية الإجبار على البيع لدفع الضرر وحجتنا في ذلك أن في الإجبار على البيع معنى الحجر على الحد وذلك غير جائز عندنا ثم كل واحد منهما متمكن من بيع نصيبه وحده فلا حاجة إلى إجبار الشريك على ذلك لنفوذ تصرفه في نصيبه تبعا قوله بأن لا يشتري منه إلا بوكس قلنا أنه لا يملك نصيبه إلا مشتركا ويتوفر عليه نصيبه مشتركا إنما يحصل له زيادة على ذلك فلا حق له في الزيادة توضيحه أن ولاية الإجبار لمعنى الإحراز وتحصيل الملك كما في القسمة وفي الإجبار هنا إزالة الملك وللناس في أعيان الملك أغراض ألا ترى أنه ليس لواحد منهما أن يجبر صاحبه على بيع نصيبه منه فلأن لا يكون له أن يجبره على بيع نصيبه من غيره كان أولى والله أعلم بالصواب.
 

 باب قسمة الدار فيها طريق لغير أهلها
قال رحمه الله: ذكر عن عكرمة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"إذرعوا الطريق سبعة أذرع ثم ابنوا" وبظاهر هذا الحديث يأخذ بعض العلماء رحمهم الله فيقول عند المنازعة بين الشركاء في الطريق ينبغي أن يقدر الطريق سبعة أذرع ولسنا نأخذ بذلك لأن هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وقد ظهر عمل الناس فيه بخلافه فإنا نرى الطرق التي اتخذها الناس في الأمصار متفاوتة في الذرع ولو كان الحديث صحيحا لما اجتمع الناس على ترك العمل به لأن المقدار الثابت بالشرع لا يجوز لأحد أن يتجاوزه إلى ما هو أكثر منه أو أقل ثم يحمل الحديث على تأويل وهو أنه كان ذلك في حادثة بعينها وراء حاجة الشركاء إلى ذلك القدر من الطريق فأمرهم أن يتركوا ذلك القدر ويبنوا فيما وراء ذلك لبيان المصلحة لهم في ذلك لا لنصيب مقدار في الطريق شرعا.
 وإذا كانت الدار بين رجلين فأراد قسمتها وفيها طريق لغيرهما فأراد صاحب الطريق أن يمنعهما من القسمة ليس له ذلك ويترك الطريق عرضه عرض باب الدار الأعظم وطوله من باب الدار إلى باب الذي له الطريق ويقسم بقية الدار بين الرجلين على حقوقهما لأنه لا حق لصاحب الطريق في بقية الدار ويترك الطريق بينهما نصفين على ما كان عليه جميع الدار بينهما قبل القسمة فإن رقبة الطريق ملكهما ولم يباشر فيه قسمة فيبقى على ما كان بينهما قبل القسمة ولصاحب الطريق ممره في ذلك وإنما جعل الطريق بعرض باب الدار لأن ذلك

 

ج / 15 ص -50-       طريق متفق عليه فإليه يرد المتنازع فيه ولأنه لا فائدة له في الزيادة على ذلك لأنه إنما يحمل في هذا الطريق ما يدخله من باب الدار إلى باب داره فيكفيه لذلك طريق عرضه عرض باب الدار الأعظم وطوله إلى باب داره وليس لهم قسمة هذا الطريق إلا أن يتراضوا بينهم جميعا لأن حق التطرق فيه مستحق لصاحب الطريق فكما لا يكون لصاحبي الدار أن يفوتا ذلك عليه بالبناء فكذلك لا يكون لهما أن يفوتا ذلك عليه بالقسمة وإن باعوا هذه الدار وهذا الطريق برضا منهم جميعا اقتسموا الثمن يضرب فيه صاحب الأرض بثلث الطريق وصاحب الممر بالثلث لأن المقصود بالطريق المرور فيه وصاحب الممر في ذلك مساوي للشريكين في رقبة الطريق بحق مستحق له فساواهم أيضا في ثمن حصة الطريق وكان الكرخي رحمه الله يقول تأويل هذه المسألة إذا كان هو شريكا في أصل الطريق فأما إذا كان له حق الممر ولا شركة له في أصل الطريق فلا حصة له من أصل الثمن لأن الثمن بمقابلة العين دون المنفعة فيختص به مالك العين وقد كان لصاحب الممر حق في المنفعة دون العين فإن رضي بالبيع كان ذلك منه رضا بسقوط حقه فلا يكون له في الثمن شركة ألا ترى أن بيع الممر وحده بدون رقبة الطريق لا يجوز فتبين بهذا أن شيئا من الثمن لا يقابل ما هو حق صاحب الممر.
وقد روي عن محمد رحمه الله أنه قال: لصاحب الممر مقدار حقه من الثمن وبيان ذلك أن الطريق بين الشريكين إذا كان فيه حق الممر لآخر يكون قيمة ملكهما أنقص منه إذا لم يكن لغيرهما حق الممر فيه فقد رد ذلك النقصان حق صاحب الممر بقيمة الطريق مع ذلك النقصان بين الشريكين نصفين فيضرب كل واحد منهم في الثمن عند البيع بمقدار حقه والأصح ما ذكر في ظاهر الرواية لأنه لا مقصود في الطريق إلا الممر والمالية والتقوم باعتبار المقصود ولأجله يجوز البيع فإذا استووا في ذلك كان حق كل واحد منهم مستحقا على سبيل التأبيد ولا يتم البيع إلا برضاهم فلهذا قلنا بأنهم يستوون في الثمن.
وإن كان في الدار مسيل ماء لرجل فأراد أصحابها قسمتها لم يكن لصاحب المسيل منعهم من القسمة ولكن يتركون له مسيله وهذا والطريق سواء فيما بينا من المعنى وإن كان فيها طريق لرجل وطريق لآخر من ناحية أخرى فإنه يعزل طريق واحد عرضه عرض باب الدار إلى باب كل واحد منهما ويقسم ما بقي من الدار بين أهلها لأن مقصود كل واحد من صاحبي الطريق التطرق فيه إلى ملكه ويتوفر هذا المقصود على كل واحد منهما بطريق واحد من باب الدار عرضه باب الدار إلى الموضع الذي يفترق فيه طريق كل واحد منهما إلى باب داره فكل واحد منهما في المطالبة بطريق له خاص من باب الدار الأعظم يكون متعنتا فلا يلتفت إلى تعنته ولكن إلى الموضع الذي يفترق الطريق بهما يترك لهما طريقا واحدا ثم من ذلك الموضع لكل واحد منهما الطريق إلى باب داره وإن كان باب صاحب الدار أعظم من باب الدار الأعظم لم يكن له من عرض الطريق إلا بمقدار عرض باب الدار لأن مالا يدخل في باب الدار الأعظم لا يتمكن هو من حمله في هذا الطريق فإن كان أوسع من باب الدار

 

ج / 15 ص -51-       الأعظم وكذلك إن كانت صفة لرجل في دار رجل وطريقها إلى باب الدار لم يكن على أهل باب الدار أن يتركوا له من الطريق إلا قدر عرض باب الدار دون عرض باب الصفة.
ولو كان له منزل بطريقه في الدار فقسمت الدار وترك له الطريق فأراد أن يفتح من منزله إلى هذا الطريق بابين أو ثلاثة كان له ذلك لأن فتح الباب هدم بعض الحائط ولو أراد أن يرفع جميع الحائط لم يكن لأحد أن يمنعه من ذلك فكذا إذا أراد أن يفتح فيه بابين أو ثلاثة وهذا لأنه هو الذي يتطرق في هذا الطريق من أي باب دخل منه في منزله ولا يستحق ببابين إلا ما يستحقه بباب واحد فهو بهذا التصرف لم يزد على مقدار حقه فيما يستوفيه ولو كان هذا المنزل بين اثنين فقسماه بينهما وفتح كل واحد منهما بابا إلى الطريق كان لهما ذلك لأن لهما حق التطرق في هذا الطريق إلى منزلهما فلا فرق بين أن يتطرقا فيه من باب أو بابين وإن كان صاحب المنزل واحدا فاشترى دارا من وراء هذا المنزل وفتحها إليه واتخذ لها طريقا في هذا المنزل وفي هذا الطريق فإن كان ساكن الدار والمنزل واحدا فله أن يمر من الدار في المنزل وفي الطريق المرفوع بينهم لأن له حق التطرق في هذا الطريق إلى منزله وبعد ما دخل منزله فلا يمنعه أحد من أن يدخل داره لأنه ينتقل من ناحية من ملكه إلى ناحية أخرى ولأنه لا ضرر على أهل الطريق إذا كان ساكن الدار والمنزل واحدا وإن كان للدار ساكن آخر لم يكن له أن يمر في هذا الطريق لأنه ما كان لصاحب الدار حق التطرق في هذا الطريق فليس له أن يحدث لنفسه فيه حقا وصاحب الممر يريد أن يستوفي من ملك الغير أكثر من حقه وليس له ذلك بخلاف ما إذا كان صاحب المنزل والدار واحدا وقد بينا الفرق بين الطريق والشرب في هذا.
ولو اختصم أهل الطريق في الطريق وادعى كل واحد منهم أنه له فهو بينهم بالسوية إذا لم يعرف أصله لاستوائهم في اليد على الطريق والاستعمال له ولا يجعل على قدر ما في أيديهم من ذرع الدار والمنزل لأن حاجة صاحب المنزل الصغير إلى الطريق كحاجة صاحب الدار الكبيرة وهذا بخلاف الشرب فإن عند اختلاف الشركاء فيه يجعل الشرب بينهم على قدر أراضيهم لأن الحاجة هناك تختلف بكثرة الأراضي وقلتها فيجعل ذلك بينهم على قدر حاجتهم عند اشتباه الأمر لاعتبار الظاهر وهنا حاجتهم إلى التطرق في الطريق سواء فلهذا يجعل الطريق بينهم سواء وبهذا تبين ما أشرنا إليه في المسألة الأولى أن صاحب المنزل بإضافة الدار المشتراة إلى منزله لا يثبت لنفسه زيادة حق في الطريق ولو كان يعتبر في قسمة الطريق ذرع ملك كل واحد منهم عند الاشتباه لم يكن لصاحب المنزل أن يضيف الدار المشتراة إلى منزله وإن عرف أصل الطريق كيف كان بينهم جعلته بينهم على ذلك لأن ما اعتبرناه نوع من الظاهر فإنما يصار إليه إذا لم تعلم حقيقة الحال بخلافه فإن كانت دارا لرجل ولآخر فيها طريق ومات صاحب الدار واقتسم ورثته الدار بينهم ورفعوا الطريق لصاحب الطريق ولهم ثم باعوه فأرادوا قسمة ثمنه فلصاحب الطريق نصفه وللورثة نصفه لأن الورثة قائمون مقام

 

ج / 15 ص -52-       المورث ولو كان هو حيا فباعاه كان الثمن بينهما نصفين فبموته وكثرة ورثته لا يزداد نصيبه ولا ينقص نصيب صاحب الطريق وإن لم يعرف أن أصل الدار بينهم ميراث وجحدوا ذلك قسم ذلك على عدد رؤوسهم ورأس صاحب الطريق لأنهم مستوون في الحق في الطريق وقد بينا أن البناء على الظاهر واجب ما لم يعلم خلافه وكل واحد منهما في الظاهر أصل في نصيب نفسه فيعتبر هذا الظاهر في قسمة ثمن الطريق بينهم.
وإذا كان في يد رجل بيت من الدار وفي يد آخر بيتان وفي يد آخر منزل عظيم وكل واحد منهم يدعي جميع الدار فلكل واحد منهم ما في يده لأن الظاهر يشهد له فيما في يده وساحة الدار بينهم أثلاثا لاستوائهم في اليد عليها فإن كل واحد منهم مستعمل للساحة بكسر الحطب فيها وغير ذلك من وجوه الانتفاع بالساحات وإن مات أحدهم عن ورثة كان لورثته ثلث الساحة لأنهم قائمون مقامه في ذلك وإن اقتسموا دارا ورفعوا طريقا بينهم صغيرا أو عظيما أو مسيل ماء لذلك فهو جائز لأنه صلح جرى بينهم عن تراض وإذا اقتسم القوم دارا وفيها كنيف شارع على الطريق الأعظم أو ظلة فليس يحسب ذرع الظلة والكنيف في ذرع الدار لأن ما تحت ذلك طريق هو حق لجماعة المسلمين فكيف يذرع ذلك في قسمة الدار بينهم ألا ترى أن عند أبي حنيفة رحمه الله لكل واحد من المسلمين أن يخاصم في رفع ذلك البناء وعندهما رحمهما الله إذا كان فيه ضرر للمسلمين فكذلك فعرفنا أنه لا حق للشركاء فيه إلا في نقض البناء فيعتبر قيمة ذلك في القسمة بينهم فأما أن يذرع مع ذرع الدار فلا ولو كانت الظلة على طريق غير نافذ قد كان ذرعها يحسب في ذرع الدار لأن حق قرار الظلة على ذلك الطريق مستحق لهم مشترك فهو بمنزلة علو في الدار سفله لغيرهم وقد بينا الاختلاف في كيفية القسمة في العلو والسفل بالذرع بين الشركاء والله أعلم.

باب قسمة الدار للميت وعليه دين أو وصية
قال رحمه الله: وإذا اقتسم الورثة دارا لميت وعليه دين ردت القسمة قليلا كان الدين أو كثيرا أما إذا كان الدين مستغرقا للتركة فلان الورثة لا يملكون التركة ولا ينفذ تصرفهم فيها والقسمة تصرف بحكم الملك وأما إذا قل الدين فلأنه شاغل لكل جزء من التركة ولأن القسمة للإحراز ولا يسلم للوارث شيء من التركة إلا بعد قضاء الدين فهذه قسمة قبل أوانها فهو كقسمتهم في حياة الميت فإن كان للميت مال سوى ذلك بعته في الدين ونفذت القسمة لأن كل مال الميت محل لقضاء الدين والمانع للقسمة قيام حق الغريم فإذا وصل إليه حقه من محله زال المانع من نفوذ القسمة وكذلك إن لم يكن للميت مال سوى ذلك فأدى الورثة الدين من أموالهم على قدر مواريثهم أو إبراء الغريم الميت من الدين جازت القسمة لزوال المانع أما بوصول حقه إليه أو بسقوط دينه بالإبراء وكما أن سائر تصرفات الورثة في التركة تنفذ إذا وصل إلى الغريم حقه فكذلك القسمة وإذا كان فيه وصية بالثلث لم تجز قسمة الوصي والورثة على الموصى له الغائب بغير قضاء قاض لأن الموصى له بالثلث شريك الورثة

 

ج / 15 ص -53-       في عين التركة حتى لو أراد إيفاء حقه من محل آخر لم يملكوا ذلك فإن كان هو غائبا وليس عنده خصم حاضر لم تجز القسمة والوصي لا يكون خصما عن الموصى له لأنه قائم مقام الميت والملك الثابت للموصى له ملك متجدد والوصي إنما ينتصب خصما عمن يكون خلف الميت في الملك الذي كان ثابتا للميت فلهذا يجوز قسمة الوصي مع الموصى له على الورثة ولا تجوز قسمته مع الورثة على الموصى له وإنما تنظر القسمة بغير قضاء قاض لأن القاضي إذا كان هو الذي قسم بعد قضائه لمصادفته موضع الاجتهاد وثبوت الولاية له على الموصى له الغائب فيما يرجع إلى النظر له.
وإذا اقتسم الورثة دارا وفيهم وارث غائب وليس للميت وصي ولا للغائب وكيل ثم قدم الغائب فله أن يبطل القسمة وكذلك الصغير إذا كبر لأنه لا ولاية للحضور مع الورثة على الغائب والصغير خصوصا في تصرفهم مع أنفسهم والقسمة بهذه الصفة وما ينقل وما لا ينقل في ذلك سواء وإن كان شيء من ذلك ميراثا بين قوم ولا دين على الميت ولا وصية ثم مات بعض الورثة وترك عليه دينا أو أوصى بوصية أو كان له وارث غائب أو صغير ولا وصي له فاقتسم الورثة الدار بغير قضاء قاض فللغرماء أن يبطلوا القسمة وكذلك أهل الوصية والوارث الغائب والصغير لأن لهم شركة فيما اقتسموا من التركة إما في العين أو في المالية ولم يكن عنهم خصم حاضر ولأنهم قائمون مقام الميت الثاني في حصته ولو كان هو حيا غائبا لم تنفذ قسمتهم عليه إن لم يحضر عنه خصم فكذلك بعد موته.
وإذا اقتسم الورثة دارا بينهم وأشهدوا على أنفسهم بالقسمة ثم ادعت امرأة الميت مهرها وأقامت عليه البينة فلها أن تنقض القسمة ولا يكون قسمتها وإقرارها بالميراث خروجا من دينها لأن دين الوارث كدين أجنبي آخر وللورثة أن يقضوا الدين من مال آخر لهم فيستخلصوا التركة لأنفسهم فهي إنما وافقت معهم في القسمة على أن يقضوا مهرها من محل آخر فلا يكون ذلك منها إبراء للميت عن المهر ولا إقرارا بأنه لا دين لها ويكون لها أن تنقض القسمة لأن القسمة لا تنفذ إلا بشرط قضاء الدين وإجازة الغريم القسمة قبل أن يصل إليه الدين لا يكون معتبرا بل وجود ذلك كعدمه لأن تقديم قضاء الدين لحق الميت لا لحق الغريم خاصة فإذا لم يقضوا دينها كان لها أن تنقض القسمة وكذلك لو ادعى وارث آخر دينا على الميت فهو والمهر سواء ولو أن وارثا ادعى وصية لابن له صغير له الثلث وأقام البينة وقسموا الدار فإن هذه القسمة لا تبطل حق ابنه في الوصية لأن الأب لو أراد أن يرد هذه الوصية أو يبطل حق ابنه عنها بعد موت الموصي لا يملك ذلك فكذلك مساعد الورثة على القسمة لا يبطل حق ابنه في الوصية إلا أن الأب ليس له أن يطلب وصية ابنه ولا أن يبطل القسمة لأن القسمة تمت به ومن سعى في نقض ما قد تم ضل سعيه وإقدامه على القسمة معهم إقرار بأنه لا وصية لابنه لما بينا أن الموصى له بالثلث شريك الورثة في العين فالقسمة لا تصح بدون تميز حقه فيكون اقدامه على القسمة مع الورثة إقرارا بأنه لا وصية لابنه

 

ج / 15 ص -54-       بخلاف الدين فإن قضاء حق الغريم من محل آخر جائز ولا يصير هو بدعوى الدين بعد القسمة مناقضا أو ساعيا في نقض ما قد تم به ويصير بدعوى الوصية لابنه مناقضا في كلامه فلا تسمع دعواه وللابن إذا كبر أن يطلب حقه ويرد القسمة.
وإذا كانت الدار ميراثا بين قوم فاقتسموها على قدر ميراثهم من أبيهم ثم ادعى أحدهم أن أخا له من أبيه وأمه قد ورثاه معهم وأنه مات بعد ابنه فورثه هو وأراد ميراثه منه وقال إنما قسمتهم لي ميراث من أبي ولم يكتبوا في القسمة أنه لا حق لبعضهم فيما أصاب البعض وأقام البينة على ذلك لم تقبل بينته ولم تنقض القسمة لأنه لما ساعدهم على القسمة وقد أقر أن جميع الدار ميراث بينهم من الأب فيكون في دعواه أن بعض الدار لأخيه مناقضا وهو بهذا الكلام يسعى في نقض ما قد تم به لأن تمام القسمة كان برضاه وإن كانوا كتبوا في القسمة أنه لا حق لبعضهم فيما أصاب البعض فهو أبقى لدعواه ومراده من قوله ولم يكتبوا إزالة الإشكال وبيان التسوية في الفصلين في الجواب فكذلك لو أقام البينة أنه اشتراها من ابنه في حياته أو أنه وهبها له وقبضها منه أو أنها كانت لأمه ورثها منها لم تقبل بينته لأنه مناقض في كلامه شارع في نقض ما قد تم به.
وإذا كانت القرية ميراثا بين ثلاثة نفر من أبيهم فمات أحدهم وترك ابنا كبيرا فاقتسم هو وعماه القرية على ميراث الجد وقبض كل واحد منهم حصته ثم أن بن الابن أقام البينة على أن الجد أوصى له بالثلث لم تقبل بينته لأنه لما ساعدهم على القسمة فقد أقر أنه لا وصية له فيها فكان هو في دعوى الوصية بعد ذلك مناقضا ولو ادعى لنفسه دينا على ابنه وأقام البينة على هذا الدين كان له أن يبطل القسمة لما بينا أن مساعدته إياهم على القسمة لا تكون إقرارا على أنه لا دين على ابنه وإنما ساعدهم على القسمة ليتبين نصيب الابن فيستوفى دينه منه ألا ترى أن الدين لو كان لغيره فأجاز الغريم القسمة كان ذلك باطلا وكان له أن يبطل القسمة فكذلك الوارث إذا كان هو الغريم ومعنى هذا أنه لا معتبر بإجازة الغريم في القسمة لأن المانع من نفوذها قيام دينه وذلك لا يختلف بإجازته وعدم إجازته فلا يكون هو في دعوى الدين ساعيا في نقض ما قد تم به بخلاف ما إذا ادعى الشركة في العين بالوصية بالثلث فالقسمة هناك تتم برضاه كما لو كان الموصى له أجنبيا آخر فيكون هو في دعوى الوصية ساعيا في نقض ما قد تم به وإذا ادعى الوارث أنه كان اشترى نصيب أبيه منه في حياته بثمن مسمى ونقده الثمن وأقام البينة على ذلك فهو جائز ولا يبطل ذلك بالقسمة لأنه خصم في نصيبه سواء كان شراء أو ميراثا وقد تمت القسمة بحضرته ورضاه.
وإذا كانت الأرض ميراثا بين قوم فاقتسموها وتقابضوا ثم أن أحدهم اشترى من الآخر قسمه وقبضه ثم قامت البينة بدين على الأب فإن القسمة والشراء جميعا يبطلان وكذلك لو اشتراه غير وارث لأن القسمة والشراء كلاهما تصرف من الوارث في التركة فلا ينفذ مع قيام الدين وإذا ورث ثلاثة نفر عن أبيهم دارا فاقتسموها أثلاثا وتقابضوا ثم أن رجلا غريبا اشترى

 

ج / 15 ص -55-       من أحدهم قسمه وقبضه ثم جاء أحد الباقين فقال أنا لم أقسم فاشترى منه الثلث من جميع الدار ثم جاء الثالث فقال قد اقتسمناها وأقام البينة على ذلك وصدقه البائع الأول وكذبه الثاني وقال المشتري لا أدري أقسمتم أم لا فالقسمة جائزة لأنها تثبت بحجة أقامها من هو خصم والثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ثم القسمة بعد تمامها لا تبطل بجحود بعض الشركاء ويتبين أن الأول باع نصيب نفسه خاصة فكان بيعه صحيحا وأما الثاني إنما باع ثلث الدار شائعا ثلث ذلك من قسمه وثلثا ذلك من نصيب غيره وإنما ينفذ بيعه في نصيبه خاصة ويتخير المشتري فيه إن شاء أخذ ثلث قسمه بثلث الثمن وإن شاء ترك لتفرق الصفقة عليه ولا يقال ينبغي أن ينصرف بيعه إلى نصيبه خاصة لتصحيح عقده لأنه ملكه في منزل معين وهو إنما باع ثلث الدار شائعا فلا يمكن تنفيذ ذلك البيع في منزل معين بخلاف ما قبل القسمة فإنه إذا باع ثلث الدار فإنه ينصرف بيعه إلى نصيبه لأن نصيبه ثلث شائع في جميع الدار كما باعه.
ولو كان المشتري أقر في الشراء الأول بالقسمة وأقر في الشراء الآخر أنها لم تقسم والمسئلة على حالها كان القضاء بينهم على ما وصفته لأن في إثبات القسمة بينهم هم الخصماء ولا قول للمشتري في ذلك ولأن المشتري في كلامه الثاني مناقض وقول المناقض غير معتبر في حق غيره ولكنه معتبر في حقه حتى إذا رد البيع الثاني فإنه يرد عليه من نصيب الأول ثلثه لأنه أقر به له وكأنه جحده في الكلام الأول ولكن الإقرار بعد الجحود صحيح وإن أمضى البيع لزمه ثلثا الثمن بثلث نصيب الأول وثلث نصيب الثاني لأن زعمه معتبر في حقه فبقدر ما يسلم له بزعمه يلزمه ثلثه وقد سلم له بزعمه ثلثا ما اشتراه من الثاني ويرجع بثلث الثمن حصة نصيب الثالث لأن ذلك لم يسلم له ويبقى في يد البائع الثاني ثلثا قسمه الذي أصابه لأن المشتري منه ما سلم إليه ذلك القسم إلا الثلث.
وإذا أقر الرجل أن فلانا مات وترك هذه الأرض وهذه الدار ميراثا ثم ادعى بعد ذلك أنه أوصى له بالثلث فإني أقبل منه البينة على ذلك ولا يخرجه قوله هذا من وصيته وكذلك لو ادعى دينا قبله لأن محل الدين والوصية التركة وبعد الموت توصف التركة بأنها ميراث وإن كان فيها دين أو وصية على معنى أنه كان ملكا للميت إلى وقت موته وأنه ميراث لورثته إذا سقط الدين أو رد الموصى له فلا يكون هو في دعوى الدين والوصية مناقضا في كلامه بخلاف ما إذا ادعى شراء من الميت أو هبة أو صدقة فإنه لا يسمع دعواه ولا تقبل بينته على ذلك لأنه مناقض في كلامه فإن التركة اسم لما كان ملكا للمورث إلى وقت موته والمشتري منه في حياته لا يكون مملوكا عند موته وكذلك لو أقر أنها ميراث من غير أبيه فذلك غير مسموع منه للتناقض.
وإذا اقتسما القوم دارا ميراثا عن الميت والمرأة مقرة بذلك وأصابها الثمن وعزل لها على حدة ثم ادعت أنه أصدقها إياها وأنه اشتراها بصداقها فإنه لا يقبل ذلك منها لأنها لما

 

ج / 15 ص -56-       ساعدتهم على القسمة فقد أقرت أنها كانت للزوج عند موته وصار ميراثا فيما بينهم فهي مناقضة في هذه الدعوى بعد ذلك وكذلك إذا اقتسموا فأصاب كل إنسان طائفة بجميع ميراثه عن أبيه ثم ادعى أحدهم في قسم الآخر بناء أو نخلا زعم أنه هو الذي بناه أو غرسه وأقام البينة بذلك لم يقبل منه لأنه قد سبق منه الإقرار أن جميع ذلك ميراث لهم من الأب لأن هذا القسم صار ميراثا لأخيه من أبيه وذلك يمنعه من دعوى الملك لنفسه لا من جهة أبيه ولو اقتسموا دارا أو أرضا فيها زرع ونخيل حامل ولم يذكروا الحمل في القسمة وإنما أشهدوا بما أصاب كل واحد منهم بميراثه من أبيه فإن الزرع والثمار لا يدخلان في هذه القسمة حتى كان لكل واحد منهم أن يطلب نصيبه منها لأن القسمة في هذا كالبيع وقد بينا أن الثمار والزرع لا يدخلان في البيع إن لم يشترط بكل قليل وكثير هو منه أو فيه فكذلك لا يدخلان في القسمة.
ولو كانت للدار والأرض غلة من إجارة كانت أو من ثمن ثمرة دين على رجل لم يدخل ذلك في القسمة لأنه غير متصل بما جرت القسمة بينهم فيه وبقي ذلك بينهم على المواريث ولو شرطوا ذلك في قسم رجل كانت القسمة فاسدة لأن كل واحد منهم يصير مملكا نصيبه من ذلك الدين ممن شرط له بما يملك عليه من نصيبه من العين وتمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض لا يجوز ولو اقتسموا على أن ضمن أحدهم دينا على الميت مسمى كان هذا باطلا إذا كان في أصل القسمة لأن القسمة كالبيع ولو شرط على المشتري في البيع أن يضمن دينا على البائع كان باطلا فكذلك إذا شرط في القسمة وإن ضمنه بغير شرط في القسمة على أن لا يبيع الوارث الميت ولا ميراثه بشيء من ذلك وعلى أن يبرئ الغرماء الميت كان هذا جائزا إن رضي الغرماء بضمانه كما لو ضمنه أجنبي آخر بشرط براءة الميت ورضي الغرماء بذلك وهذا لأن المانع من القسمة قيام الدين على الميت وقد زال ذلك فإن أبى الغرماء أن يقبلوا ضمانه فلهم نقض القسمة لقيام دينهم على الميت وهو مانع من نفوذ القسمة وإن تراضوا بضمانه وأبرؤا الميت ثم نوى المال عليه رجعوا في مال الميت حيث كان لأنهم أبرءوه بشرط وهو أن يسلم لهم دينهم من جهة الضامن فإذا لم يسلم كانوا على حقهم في اتباع تركة الميت بمنزلة المحتال عليه إذا مات مفلسا فإن الدين يعود إلى ذمة المحيل والله أعلم بالصواب.

قال رحمه الله: وإذا اقتسم القوم أرضا ميراثا بينهم أو شراء وتقابضوا ثم ادعى أحدهم غلطا في القسمة فإنه لا يشتغل بإعادة القسمة بمجرد دعواه لأن القسمة بعد تمامها عقد لازم فمدعي الغلط يدعي لنفسه حق الفسخ بعد ما ظهر سبب لزوم العقد وقوله في ذلك غير مقبول كالمشتري إذا ادعى لنفسه خيارا بسبب العيب أو الشرط ولكن إن أقام البينة على ذلك فقد أثبت دعواه بالحجة فتعاد القسمة بينهم حتى يستوفي كل ذي حق حقه لأن المعتبر في القسمة

 

ج / 15 ص -57-       المعادلة وقد ثبت بالحجة أن المعادلة بينهم لم توجد كما لو ثبت المشتري العيب بالبينة وإن لم يكن له بينة وأراد أن يستحلفهم على الغلط فله ذلك لأنهم لو أقروا بذلك لزمهم فإذا أنكروا استحلفوا عليهم لرجاء النكول فمن حلف منهم لم يكن له عليه سبيل ومن نكل عن اليمين جمع نصيبه إلى نصيبه ثم يقسم ذلك بينهما على قدر نصيبهما لأن الناكل كالمقر وإقراره حجة عليه دون غيره ففيما في يده يجعل كان ما أقر به حق فيقسم بينهما على قدر نصيبهما وكذلك كل ما يقسم فهو على هذا لا يعاد ذرع شيء من ذلك ولا مساحته ولا كيله ولا وزنه إلا بحجة لأن الظاهر أن القسمة وقعت على سبيل المعادلة وإنه وصل إلى كل ذي حق حقه والبناء على الظاهر واجب ما لم يثبت خلافه.
وإذا اقتسم رجلان دارين وأخذ أحدهما دارا والآخر دارا ثم ادعى أحدهما غلطا وجاء بالبينة أن له كذا كذلك ذراعا في الدار التي في يد صاحبه وفصلا في قسمة فإنه يقضي له بذلك الذرع ولا تعاد القسمة وليس هذا كالدار الواحدة في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وأما في قول أبي حنيفة فالقسمة فاسدة والدار أن بينهما نصفان لأن الثابت بالبينة كالثابت باتفاق الخصمين ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله أن هذه القسمة بمنزلة البيع حتى لا تجوز إلا بالتراضي وبيع كذا كذا ذراعا من الدار التي في يد الغير لا يجوز في قول أبي حنيفة رحمه الله وقد بيناه في البيوع فكذلك إذا شرط ذلك لأحدهما في دار صاحبه في القسمة كانت القسمة فاسدة وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هذا بمنزلة البيع أيضا لما بينا أن قسمة الخبر في الدار إنما تجري عندهما إذا رأى القاضي المصلحة فيه فأما بدون ذلك فهو كالبيع ولكن من أصلهما أن بيع كذا كذا ذراعا من الدار جائز فكذلك اشتراط ذلك في القسمة لأحدهما لا يمنع صحة القسمة وبه فارق الدار الواحدة لأن معنى التمييز هناك يغلب على المعاوضة في القسمة ولهذا لا يجبر عليه بعض الشركاء عند طلب البعض فإذا شرط لأحدهما كذا كذا ذراعا في نصيب صاحبه لا يحصل التمييز بهذه القسمة بل الشرط والشيوع يبقى بذلك القدر فلا تصح القسمة بخلاف الدارين فمعنى المعاوضة هناك يغلب على ما بينا وتتحقق المعاوضة مع شرط كذا كذا ذراعا لأحدهما في دار صاحبه.
وإذا اقتسما أقرحة فأصاب أحدهما قراحان والآخر أربعة أقرحة ثم ادعى صاحب القراحين أحد الأقرحة التي في يد الآخر وأقام البينة أنه له فأصابه في قسمة فإنه يقضي له به لأنه أثبت الملك لنفسه في تلك العين بالقسمة وأثبت أنه لم يقبضه واستولى عليه شريكه بغير حق فيقضي له بذلك كما لو ثبت ذلك بإقرار صاحبه وكذلك هذا في الأثواب فإن لم يكن للمدعي بينة كان له أن يستحلف الذي في يده الثوب لأن ذا اليد مستحق له باعتبار يده ظاهرا ولكن لو أقر بما ادعى حق صاحبه أمر بتسليمه إليه فإذا أنكر استحلف على ذلك وإن أقام البينة على ثوب بعينه مما في يد صاحبه أنه أصابه في قسمة وجاء الآخر ببينة أنه أصابه في قسمة فالبينة بينة الذي ليس الثوب في يده لأن دعواهما في الثوب دعوى الملك وبينة

 

ج / 15 ص -58-       الخارج فيه تترجح على بينة ذي اليد لأنه هو المحتاج إلى إقامة البينة وهو المثبت على صاحبه لما يدعيه بالبينة وكذلك هذا الاختلاف في بيوت الدار.
وإن اقتسما مائة شاة فأصاب أحدهما خمس وخمسون شاة وأصاب الآخر خمس وأربعون شاة ثم ادعى صاحب الأوكس غلطا في التقويم لم تقبل بينته على ذلك وهذه المسألة في الحاصل على ثلاثة أوجه أحدها أن يدعي الغلط في التقويم وذلك غير مسموع منه وإن أقام البينة على ذلك لأنه شاع في نقض ما قد تم به والقيمة تعرف بالاجتهاد وذلك يختلف باختلاف المقومين واختلاف الأوقات والأمكنة ولأنه بهذه البينة لا يثبت شيئا في ذمة غيره إنما يثبت قيمة ما تناوله فعل القسمة وفعل القسمة لاقي العين دون القيمة وذلك يختلف باختلاف مقدار القيمة بخلاف الغصب فإن بينة المغصوب منه على مقدار قيمته تقبل لأنه يثبت ذلك دينا في ذمة الغاصب فالمغصوب مضمون بالقيمة دينا في ذمة الغاصب توضيحه أن القسمة في معنى البيع ومع بقاء عقد البيع لا تقبل البينة على قيمة المبيع من أحد المتعاقدين على صاحبه فكذلك في القسمة.
والثاني: أن تكون الدعوى في عدد ما أخذ كل واحد منهما بأن قال أحدهما لصاحبه أحدث إحدى وخمسين غلطا أو أحدث أنا تسعة وأربعين وقال الآخر ما أحدث أنا إلا خمسين فالقول قوله مع يمينه وعلى المدعي البينة لأن الاختلاف بينهما في مقدار المقبوض فالقول قول المنكر للزيادة وعلى من يدعي الزيادة فيما قبض صاحبه إثباته بالبينة ولأنه يدعي شاة مما في يد صاحبه أنها ملكه إصابته في القسمة وصاحبه ينكر ذلك فالقول قوله مع يمينه.
والثالث: إن قال أخطأنا في العدد وأصاب كل واحد منا خمسين خمسين وهذه الخمسين خطأ كان منا وقال الآخر قد اقتسمنا على هذا لك خمس وأربعون ولي خمس وخمسون وليس بينهما بينة والغنم قائمة بعينها تحالفا وتراد لأن القسمة في معنى البيع واختلاف المتبايعين في البيع حال قيام السلعة توجب التحالف والتراد فكذلك في القسمة لأنه عقد محتمل للفسخ بعد لزومه بالتراضي فيفسخ بالتحالف أيضا وإن أقام كل واحد منهما بينة على ذلك ردت بالقسمة لأن صاحب الخمس وأربعين هو المدعي وهو المثبت ببينته فيترجح كذلك بينته ويصير كأن خصمه صدقه فيما قال فتبطل القسمة ويستقبلانها على وجه المعادلة.
وإذا اقتسما دارا ولم يشهدا على القسمة حتى اختلفا فقال هذا أصابني هذه الناحية وهذا البيت فيها وقال الذي هي في يديه أصابني هذا كله تحالفا وترادا لأن الاختلاف بينهما في المعقود عليه في الحاصل وإن كانت لهما بينة على القسمة أنفذت بينتهما على ما شهد به الشهود كما لو اتفق الخصمان عليه وهذا لأن ما أصاب كل واحد منهما معلوم بحدة وقد تحقق التمييز بينهما بهذه القسمة بخلاف ما تقدم فهناك أبتت بينة صاحب الخمس وأربعين أنه بقي من حقه خمس شائعة فيما أخذه صاحبه فلهذا تبطل القسمة وإن اختلفا في الحد فيما بينهما فقال أحدهما هذا الحد لي قد

 

ج / 15 ص -59-       دخل في نصيب صاحبه وقال الآخر هذا الحد لي قد دخل في نصيب صاحبه فإن قامت لهما بينة أحدث بينة هذا وبينة هذا لأن كل واحد منهما ثبت الملك لنفسه في جزء مما في يد صاحبه بعينه واجتمع ذلك الجزء بينة الخارج وبينة ذي اليد فيترجح بينة الخارج وإن لم يقم لهما بينة أستحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وجعل لكل واحد منهما يدعي لنفسه جزءا معينا في يد صاحبه وإن أراد أحدهما أن يرد القسمة ردها بعد ما يتحالفان لما بينا أن الاختلاف بينهما في المعقود عليه وفي مقدار ما حصل لكل واحد منهما بالقسمة وذلك موجب للتحالف وبعد التحالف ترد القسمة إذا طلب ذلك أحدهما كما في البيع.
رجل مات وترك دارا وابنين فاقتسما الدار وأخذ كل واحد منهما النصف وأشهد على القسمة والقبض والوفاء ثم ادعى أحدهما بيتا في يد صاحبه لم يصدق على ذلك إلا أن يقربه صاحبه من قبل أن قد أشهد على الوفاء يعني إنه أقر باستيفاء كمال حقه فبعد ذلك هو مناقض فيما يدعيه في يد صاحبه فلا تقبل بينته على ذلك ولكن إن أقر به صاحبه فإقراره ملزم إياه والمناقض إذا صدقه خصمه فيما يدعي ثبت الاستحقاق له ولو لم يكن له أشهد بالوفاء ولم يسمع منه إقرار بالقسمة حتى قال اقتسمنا فأصابني في هذه الناحية وهذا البيت والناحية في يده والبيت في يد صاحبه وقال شريكه بل أصابني البيت وما في يدي كله فإني أسأل المدعي عن البيت أكان في يد صاحبه قبل القسمة فلم يدفعه إليه أو غصب منه بعد القسمة فإن قال كان في يدي بعد القسمة فغصبناه وأعرته أو أجرته لم أنقض القسمة لتصادقهما على شريكه بقبض كل واحد منهما جميع نصيبه وبقي دعواه أن البيت وصل إلى يد صاحبه من يده وصاحبه جاحد لذلك فالقول قوله مع يمينه وإن كان قال في يد صاحبي قبل القسمة فلم يسلمه إلى تحالفا ويراد أن الاختلاف بينهما في مقدار ما أصاب كل واحد منهما بالقسمة وقد بينا أن الاختلاف في المعقود عليه يوجب التحالف في القسمة فكذلك الاختلاف في الحد وعلى هذه القسمة في جميع أجناس الأموال يكون الجواب على التقسيم الذي قلنا إذا ادعى أحدهما شيئا في يد صاحبه.
ولو ادعى غلطا في الذرع فقال أصابني ألف وأصابك ألف فصار في يدك ألف ومائة وفي يدي تسعمائة وقال الآخر أصابك ألف وأصابني ألف فقبضتها ولم أزد فالقول قول الذي يدعي قبله الغلط مع يمينه لأن صاحبه يدعي عليه أنه قبض زيادة على حقه وهو منكر لذلك وإن قال أصابني ألف ومائة وأصابك ألف ومائة وقال الآخر أصابني ألف وأصابك ألف فقبضت أنت ألفا ومائة وقبضت تسعمائة تحالفا وتراضيا لأنهما تصادقا على أن المدعى عليه قبض ألف ومائة وإنما الاختلاف بينهما في مقدار نصيبه بالقسمة فالمدعي يقول نصيبك ألف والمدعى عليه يقول نصيبي ألف ومائة والاختلاف في المعقود عليه يوجب التحالف بينهما ولأن المدعي لم يقر بقبض المائة هنا والمدعى عليه يدعي ذلك فلا بد من استحلافه وقد توجهت اليمين على المدعى عليه لما بينا فلهذا تحالفا وترادا ولو

 

ج / 15 ص -60-       قال كنت قبضتها فقبضتها لم أنقض القسمة وأحلف المدعي قبله الفصل لأنهما تصادقا على انتهاء القسمة بقبض كل واحد منهما تمام نصيبه ثم ادعى أحدهما الغصب على صاحبه وهذا هو الحرف الذي تدور عليه هذه الفصول أن القسمة حيازة وتمامها بالقبض فإذا تصادقا على قبض كل واحد منهما تمام نصيبه بالقسمة لم يكن الاختلاف بينهما بعد ذلك اختلافا في المعقود عليه وإذا اختلفا في مقدار ما قبضه كل واحد منهما كان ذلك اختلافا في المعقود عليه فيثبت حكم التحالف بينهما.
ولو اقتسما مائة شاة فصار في يد أحدهما ستون وفي يد الآخر أربعون فقال الذي في يده الأربعون أصاب كل واحد منا خمسون وتقابضنا ثم غصبني عشرا بأعيانها وخلطتهما بغنمك فهي لا تعرف وجحد ذلك الآخر الغصب وقال بل أصابني ستون وأنت أربعون فالقول قوله مع يمينه لتصادقهما على أن كل واحد منهما قبض كمال حقه بالقسمة ثم ادعى أحدهما الغصب على صاحبه وأنكر صاحبه ذلك فالقول قوله مع يمينه فلو قال الأول أصابني خمسون فدفعت إلى أربعين وبقي في يدك عشرة لم تدفعها إلى وقال الآخر أصابني ستون وأصابك أربعون تحالفا وترادا لأن الاختلاف بينهما في مقدار ما أصاب كل واحد منهما ولو كان أشهد عليه بالوفاء قبل هذه المقالة كان القول قول الذي في يده ستون لإقرار صاحبه باستيفاء كمال حقه ولا يمين عليه لأن صاحبه مناقض في الدعوى بعد ذلك الإقرار وبالدعوى مع التناقض لا يستحق اليمين على الخصم فإن ادعى الغصب بعد القبض حلف المنكر عليه لأن دعوى الغصب منه دعوى صحيحة ولا تناقض فيها فيستوجب فيها اليمين على المنكر وإن لم يشهد بالوفاء فقال الذي في يده الأربعون كانت غنم والدي مائة شاة فأصابني خمسون وأصابك خمسون وتقابضنا ثم غصبني عشرا وهي هذه وقال الذي في يده الستون بل كانت غنم والدي مائة وعشرين فأصابني ستون وأنت ستون ولم أغصبك وقد تقابضنا فإن هذا قد أقر بفصل عشر من الغنم ليس فيها قسمة لأن الآخر إنما أقر بقسمة المائة وهو منكر للقسمة فما زاد على المائة وقد أقر ذو اليد أن هذه العشرة زيادة على المائة وادعى القسمة فيها ووصول مثلها إلى صاحبه وصاحبه منكر فالقول قوله مع يمينه وإذا حلف بقيت هذه العشرة في يده غير مقسومة فيردها ليقسم بينهما فإن لم يقر بفصل على مائة وقال كانت مائة فأصابني ستون وأنت أربعون فالقول قوله مع يمينه على الغصب الذي ادعاه صاحبه قبله من قبل أن شريكه قد أبرأه من خصه المائة ولم يبرأ من حصته من الفضل عليها فإن كانت قائمة بعينها اقتسماها نصفين وإلا أفسدت القسمة لجهالة العشرة التي لم تتناولها القسمة فالغنم تتفاوت وبجهالة ما لم تتناوله القسمة يصير ما تناولته القسمة مجهولا فالسبيل أن ترد الستون والأربعون وتستقبل القسمة فيما بينهما لفساد القسمة الأولى والله أعلم.
 

 باب قسمة الوصي على أهل الوصية والورثة
قال رحمه الله: وإذا كان في الميراث دين على الناس فأدخلوه في القسمة لم يجز لما

 

ج / 15 ص -61-       بينا أن من وقع الدين في نصيبه يكون متملكا على أصحابه نصيبهم من الدين بعوض وتمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض لا يجوز وكذلك لو اقتسموا الدين فأخذ كل واحد منهم من حقه فيها دينا على رجل خاصة لم يجز لأن كل واحد منهم مملك نصيبه مما في ذمة زيد من صاحبه لم يتملك عليه من نصيبه مما في ذمة عمر وإذا كان تمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز بعوض عين فلان لا يجوز بعوض دين أولى وكذلك إن كان الدين كله على رجل واحد فقسمتهم فيه قبل القبض باطلة لأن القسمة حيازة ولا يتحقق ذلك فيما في الذمة ولا تجوز قسمة وصي الأب بين الصغير لأن القسمة في معنى المعاوضة وليس للوصي ولاية بيع مال أحد القسمين من صاحبه لأنه لا ينفرد بالتصرف إلا عند منفعة ظاهرة لليتيم وفي هذا التصرف أن نقع أحدهما أضر بالآخر وإن كان معهم ورثة كبار فإن قسم نصيب الصغيرين معا جاز ذلك لأن المعاوضة في مال الصغيرين مع الوارث الكبير جائزة فكذلك قسمة نصيب الصغيرين معا مع الوارث الكبير.
قال في الأصل: وكذلك الأب ومراده هذا الفصل لا ما قبله فقسمة الأب مع ابنيه الصغيرين جائزة لأنه يملك بيع مال أحدهما من صاحبه بخلاف الوصي فيفرده بالتصرف ولا يتقيد بشرط منفعة ظاهرة للصبي ولا تجوز قسمة وصي الميت على الكبار وهم كارهون لأنه لا ولاية له عليهم في المعاوضة والتصرف في مالهم إذا كانوا حضورا فإن كان فيهم غائب فقاسم الوصي عليه لم يجز في العقار وجاز في غيره لأن القسمة في العروض من الحفظ وللوصي ولاية الحفظ في نصيب الكبير الغائب فكان له في نصيبه من القسمة ما يرجع إلى الحفظ فأما العقار فحصته بنفسها وليس في قسمتها معنى الحفظ بل هو مطلق التصرف ولا ولاية له في نصيب الكبير الغائب في مطلق التصرف.
وإن كان فيهم صغير وكبير غائب وكبير حاضر فعزل الوصي نصيب الكبير الغائب مع نصيب الصغير وقاسم الكبار الحضور فهو جائز في العقار وغيرها في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على الكبير الغائب في العقار وهذه تنبني على ما بيناه في كتاب الشفعة أن عند أبي حنيفة بثبوت ولايته في نصيب الصغير يملك بيع جميع التركة من العقار وغيره وعندهما لا يملك البيع إلا في نصيب الصغير فكذلك القسمة لأن فيها معنى البيع وكذلك الحكم في وصي الذمي لأنه في ملك التصرف كوصي المسلم فإن كان الوصي ذميا والميت ورثته مسلمين فإنه يخرج من الوصية لأن في الوصية نوع ولاية ولا ولاية للكافر على المسلم وإن قاسم على الصغير قبل أن يخرج جازت قسمته مثل قسمة الوصي المسلم لأن القسمة تصرف منه كسائر التصرفات والإنابة في التصرف بعد الموت كالإنابة في الحياة بالوكالة ولو وكل المسلم ذميا بالتصرف نفذ تصرفه عليه فكذلك إذا جعله وصيا في التصرف بعد موته قلنا ينفذ تصرفه بطريق النيابة ما لم يخرج من الوصاية

 

ج / 15 ص -62-       لاعتبار معنى الولاية وكذلك لو كان الوصي عبدا لغير الميت فهو وصي نافذ التصرف بطريق النيابة بمنزلة ما لو وكله في حياته حتى يخرجه القاضي من الولاية فالرقيق ليس من أهل أن تثبت له الولاية على غيره لأنه لا ولاية له على نفسه وإنما يتعدى إلى الغير عند وجود شرط التعدي ما كان للمرء من الولاية على نفسه.
ولا تجوز قسمة الكافر والمملوك على الولد الصغير الحر المسلم كما لا تجري عليه سائر تصرفاته لأنه لا ولاية له عليه وهو ليس بنائب عن الصغير في التصرف لينفذ بطريق النيابة ويجعل كتصرف المنوب عنه ولا يجوز قسمة الحربي المستأمن على بن صغير له ذمي لأن الذمي من أهل دارنا ولا ولاية للحربي على من هو من أهل دارنا ويجوز على بن له مثله لثبوت ولايته عليه قال الله تعالى
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[لأنفال: من الآية73] الآية ولا تجوز قسمة المرتد إذا قتل على ردته على ولد له صغير مثله مرتد لأنه لا ولاية له عليه ولأنه لا ولاية له على التصرف في ماله إذا قتل على ردته حتى تبطل قسمته لنفسه وسائر تصرفاته إذا قتل على الردة في قول أبي حنيفة رحمه الله ففي حق ولده الصغير أولى.
والمعتوه المغلوب بمنزلة الصغير في جميع ما وصفنا لأنه لا ولاية له على نفسه وهو محتاج إلى تصرف الولي له كالصغير وأما المبرسم والمغمى عليه والذي يجن ويفيق فلا تجوز عليه القسمة إلا برضاه أو وكالته في حال إفاقته لأن بهذه العوارض لا تزول ولايته عن نفسه فلا يصير موليا عليه وإذا كان يجوز تنفيذ التصرف له وعليه برأيه في حال إفاقته بطريق التوكيل فلا حاجة إلى إقامة رأي الولي مقام رأيه بخلاف الصغير والمعتوه فإنه لا يمكن تنفيذ التصرف له وعليه باعتبار رأيه في ذلك فأقمنا رأي الولي مقام رأيه لتحقق الحاجة وأهل الذمة في القسمة بمنزلة أهل الإسلام إلا في الخمر والخنزير يكون بينهم فأراد بعضهم قسمتها وأبى بعضهم فإني أجبرهم على القسمة كما أجبرهم على قسمة غيرها لأن الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم كالخل والغنم في حق المسلمين وإن اقتسموا فيما بينهم خمرا وفضل بعضهم بعضا في كيلها لم يجز الفضل في ذلك فيما بينهم لأنه مال الربا فإنه مكيل أو موزون وفي حكم الربا هم يستون بالمسلمين فهو مستثنى من عقد الذمة.
وإذا كان وصي الذمي مسلما كرهت له مقاسمة الخمر والخنزير ولكنه يوكل من يثق به من أهل الذمة فيقاسم الصغير ويبيع ذلك بعد القسمة لأن المسلم ممنوع من التصرف في الخمر والخنزير والقسمة نوع تصرف فينبغي أن يفوض ذلك إلى ذمي ولا يشكل جواز ذلك على أصل أبي حنيفة رحمه الله لأنه يجوز للمسلم أن يوكل الذمي بالتصرف له في الخمر والخنزير وكذلك على قولهما هنا لأن الوكيل نائب عن الصغير وحكم تصرفه يثبت للصغير ألا ترى أنه يرجع بما يلحقه من العهدة في مال الصغير والوصي فيما يأمر من ذلك كالقاضي وأمر القاضي الذمي بالبيع والقسمة في خمور يتامى أهل الذمة صحيح فكذلك أمر الوصي به وإن وكل الذمي المسلم بقسمة ميراث فيه خمر وخنزير لم يجز ذلك من المسلم كما لا

 

ج / 15 ص -63-       يجوز بيعه وشراؤه في الخمر والخنزير لأنه إنما يتصرف للغير بوكالته في مال يجوز له أن يتصرف فيه لنفسه لو كان مملوكا له وليس للمسلم الوكيل أن يوكل بقسمة ذلك غيره لأن الموكل لم يرض برأي غيره فيه فإن فوض ذلك إليه فوكل ذميا به جاز وإذا أسلم أحد الورثة فوكل ذميا بمقاسمة الخمر والخنزير مع سائر الورثة جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يجز في قولهما لأن في القسمة معنى البيع فهو كالمسلم يوكل الذمي ببيع الخمر والخنزير ولو أخذ نصيبه من الخمر فجعله خلا كان المسلم ضامنا لحصة شركائه من الخمر التي خللها لأن القسمة لم تصح عندهما كما لو باشر بنفسه فإنما قبض نصيب شركائه من الخمر بحكم عقد فاسد وقد خللها فيكون ضامنا لنصيبهم من القيمة ويكون الخل له وإذا كان في تركة الذمي خمرا وخنزير وغرماؤه مسلمون وليس له وصي فإن القاضي يوكل ببيع ذلك رجلا من أهل الذمة فيبيعه ويقضي به دين الميت لأن من يأمره القاضي يكون نائبا عن الميت ولهذا يرجع بما يلحقه من العهدة في مال الميت والميت كافر فيجوز بيع الذمي خمرة على سبيل النيابة عنه والغرماء إنما يقبضون الثمن بدينهم لا أن يكون بيع قيم القاضي واقعا لهم.
والمكاتب كالحر في القسمة لأنه من صنيع التجار وفيها معنى المعاوضة كالبيع وإن عجز بعد القسمة لم يكن لمولاه فسخها لأن القسمة تمت في حال قيام الكتابة فهو كبيع أو شراء أتمه المكاتب ومقاسمته مع مولاه جائزة لأنه في التصرف مع المولى بيعا أو شراء كأجنبي آخر فكذلك المقاسمة ولا تجوز مقاسمة المولى على المكاتب بغير رضاه سواء كان المكاتب حاضرا أو غائبا لأنه في حكم التصرف في كسبه كأجنبي آخر فإن فعل ذلك ثم عجز المكاتب وصار ذلك لمولاه لم تجز تلك القسمة كما لا ينفذ سائر تصرفاته بعجز المكاتب لأنه حين تصرف كان هو من كسب المكاتب كالأجنبي وإن وكل المكاتب بالقسمة وكيلا ثم عجز أو مات لم يجز لوكيله أن يقاسم بعد ذلك لأن الوكيل نائب عن الموكل وقد زالت ولاية الموكل بعجزه وبموته حتى لا ينفذ منه هذا التصرف بعد العجز لو باشره لنفسه فكذلك من وكيله وإن أعتق فهو على وكالته لأن ولايته بالعتق ازدادت قوة فتصرف الوكيل له بعد عتقه كتصرفه بنفسه وإن أوصى المكاتب عند موته إلى وصي فقاسم الوصي ورثة المكاتب الكبار لولده الصغير وقد ترك وفاء فإن قسمته في هذا جائزة على ما تجوز عليه قسمة وصي الحر لأنه يؤدي كتابته ويحكم بحريته حال حياته وكأنه أدى الكتابة بنفسه ثم مات فيكون وصيه في التصرف على ولده الصغير كوصي الحر وقال في الزيادات وصيه بمنزلة وصي الحر في حق الابن الكبير الغائب حتى يجوز قسمته فيما سوى العقار وما ذكر هناك أصح لأنه لا يثبت للمكاتب على ولده الصغير ولاية مطلقة وإن استندت حريته إلى حال حياته لأنه في تلك الحال مشغول بنفسه لا يمكنه أن ينظر إلى الولد فلا تثبت له الولاية وإنما تثبت الولاية المطلقة للوصي إذا كان للموصي ولاية مطلقة ألا ترى أن وصي الأخ والعم لا يثبت له من الولاية إلا قدر ما كان للموصي فهنا أيضا كان للموصي على ولده الصغير المولود

 

ج / 15 ص -64-       في الكتابة من الولاية ما يرجع إلى الحفظ ولا ولاية له عليه فوق ذلك فكذلك وصيه بعد موته وما زاد على هذا من البيان قد ذكرناه في إملاء شرح الزيادات.
وإن لم يترك وفاء فقاسم الوصي الولد الكبير للولد الصغير وقد سعوا في المكاتبة لم يجز لأنه لا ولاية له على الولد الصغير فإنه مكاتب للمولى إذا اختار المضي على الكتابة فإن أدوا المكاتبة قبل أن يردوا القسمة أجزت القسمة لأنهم لما أدوا الكتابة حكم بعتق المكاتب وكان وصيه كوصي الحر على هذه الرواية حتى يملك استئناف القسمة فكذلك تنفذ تلك القسمة منه لأنه لا فائدة في الاشتغال بنقض قسمة يحتاج إلى إعادتها والعبد التاجر بمنزلة الحر في القسمة لأنه من صنيع التجار وهو نظير البيع فإذا قاسم العبد التاجر عبدا تاجرا مثله وهما لرجل واحد جاز ذلك إن كان عليهما دين أو على أحدهما وإن لم يكن على واحد منهما دين فقسمتهما باطلة بمنزلة البيع والشراء وهذا لأن كسبهما لمالك واحد والقسمة في مال هو خالص لمالك واحد لا تتحقق ولأن مقاسمة كل واحد منهما مع عبد مولاه كمقاسمته مع مولاه ولو كانا مكاتبين لرجل واحد جازت قسمتهما لأن كل واحد من المكاتبين في كسبه بمنزلة الحر في التصرف ولا ملك للمولى في كسب واحد منهما فإن قاسم العبد التاجر مولاه دارا وعليه دين جازت القسمة وإن لم يكن عليه دين لم تجز القسمة لأن المولى من كسب عبده المديون بمنزلة الأجنبي في التصرف وإن تصرف العبد لغرمائه وكذلك لو كانت الدار بين العبد ورجل آخر فقاسم مولى العبد الشريك بغير رضاء العبد فإن لم يكن على العبد دين فهو جائز وإن كان عليه دين قليل أو كثير لم يجز إلا أن يسلمه العبد بمنزلة سائر تصرفات المولى في كسبه وإن قاسم العبد التاجر رجلا أجنبيا دارا بغير أمر مولاه وعليه دين أو لا دين عليه فهو جائز لأنه من نوع التجارة وقد استفاده بمطلق الإذن في التجارة ولا تجوز قسمة العبد المحجور عليه بغير أمر من المولى.
والحاصل أن القسمة تصرف كالبيع والشراء فإنما تصح ممن يملك البيع والشراء في ذلك المحل ولو كان عبد بين رجلين أذن له أحدهما في التجارة فاشترى هو ورجل آخر دارا جاز ذلك في حصة الذي أذن له لأن الإذن فك الحجر وقد ثبت ذلك في نصيب الذي أذن له فينفذ تصرفه باعتباره في حصته كما لو كاتب أحد الشريكين نصيبه من العبد وإن قاسم العبد شريكه فهو جائز كما لو باع نصيبه من شريكه أو من غيره جاز ذلك لثبوت حكم انفكاك الحجر في نصيب الإذن منه ولو كانت دار بينه وبين مولاه الذي لم يأذن له فقاسمها إياه جاز ذلك لأن نفوذ تصرفه مع الأجنبي بسبب انفكاك الحجر عنه في نصيب
الإذن والمولى الذي لم يأذن له من نصيب الإذن كالأجنبي وهو نظير ما لو كاتبه أحد الموليين على نصيبه بإذن شريكه فإنه تجوز قسمته وسائر تصرفاته باعتبار هذا الفك مع الأجنبي ومع المولى الآخر فكذلك بعد الإذن من أحدهما له في التجارة والله أعلم بالصواب.